تفسير سورة الصافات

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الصافات
هذه السورة مكية، ومناسبة أولها لآخر يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى، وأنه هو منشئهم، وإذا تعلقت إرادته بشيء، كان ذكر تعالى وحدانيته، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجوداً وعدماً إلا بكون المريد واحداً، وتقدم الكلام على ذلك في قوله :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾

ﭑﭒ ﭔﭕ ﭗﭘ ﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆ ﰈﰉﰊﰋﰌ ﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﰿ ﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦ
سورة الصافات
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ٩٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)
وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
وَقالُوا يا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)
مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩)
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤)
طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩)
فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤)
قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
86
الزَّجْرُ: الدَّفْعُ عَنِ الشَّيْءِ بِتَسْلِيطٍ وَصِيَاحٍ. وَالزَّجْرَةُ: الصَّيْحَةُ، مِنْ قَوْلِكَ: زَجَرَ الرَّاعِي الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، إِذَا صَاحَ عَلَيْهِمَا فَرَجَعَتْ لِصَوْتِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
زَجْرَ أَبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا أَشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بِالْغَنَمِ
يُرِيدُ تَصْوِيتَهُ بِهَا. الثَّاقِبُ: الشَّدِيدُ النَّفَاذِ. اللَّازِبُ: اللَّازِمُ مَا جَاوَرَهُ وَاللَّاصِقُ بِهِ. اللَّذِيذُ:
الْمُسْتَطَابُ، يُقَالُ لَذَّ الشَّيْءُ يَلَذُّ، فَهُوَ لَذِيذٌ وَلَذَّ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ، كَطَلَبَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تَلَذُّ بِطَعْمِهِ وَتَخَالُ فِيهِ إِذَا نَبَّهَتْهَا بَعْدَ الْمَنَامِ
وَقَالَ:
وَلَذٍّ كَطَعْمِ الصَّرْخَدِيِّ تَرَكْتُهُ بِأَرْضِ الْعِدَا مِنْ خَشْيَةِ الْحَدَثَانِ
يُرِيدُ النَّوْمَ.
وَقَالَ:
بِحَدِيثِكَ اللَّذِّيِّ الَّذِي لَوْ كَلَّمْتَ أَسَدَ الْفَلَاةِ بِهِ أَتَيْنَ سِرَاعَا
الْغَوْلُ: اسْمٌ عَامٌّ فِي الْأَذَى، تَقُولُ: غَالَهُ كَذَا وَكَذَا، إِذَا ضَرَّهُ فِي خَفَاءٍ، وَمِنْهُ: الْغِيلَةُ فِي الْعَقْلِ، وَالْغِيلَةُ فِي الرِّضَاعِ، وَغَالَهُ الشَّيْءُ: أَهْلَكَهُ وَأَفْسَدَهُ، وَمِنْهُ: الْغُولُ الَّتِي فِي أَكَاذِيبِ الْعَرَبِ وَفِي أَمْثَالِهِمْ: الْغَضَبُ غُولُ الْحِلْمِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مَضَى أَوَّلُونَا نَاعِمِينَ بِعَيْشِهِمْ جَمِيعًا وَغَالَتْنِي بِمَكَّةَ غُولُ
أَيْ: عَاقَتْنِي عَوَائِقُ، وَقَالَ:
وَمَا زَالَتِ الْخَمْرُ تَغْتَالُنَا وَتَذْهَبُ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ
نَزَفَتِ الشَّارِبَ الْخَمْرُ وَأَنْزَفَ هُوَ: ذَهَبَ عَقْلُهُ مِنَ السُّكْرِ، فَهُوَ نَزِيفٌ وَمُنْزِفٌ، الثُّلَاثِيُّ مُتَعَدٍّ
88
وَالرُّبَاعِيُّ لَازِمٌ، نَحْوُ: كَبَيْتُ الرجل وأكب، وقشغت الريح السحاب، وقشع هو: أَيْ دَخَلَا فِي الْكَبِّ وَالْقَشْعِ. قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ:
لَعَمْرِي لَئِنْ أَنَزَفْتُمْ أَوْ صَحَوْتُمْ لَبِئْسَ النَّدَامَى كنتم آل أبجرا
وَنَزُفَ الشَّارِبُ، بِضَمِّ الزَّايِ، وَيُقَالُ: نُزِفَ الْمَطْعُونُ: ذَهَبَ دمه كله، مبينا لِلْمَفْعُولِ، وَنُزِحَتِ الرَّكِيَّةُ حَتَّى نَزْفَتُهَا: لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَاءٌ، وَيُقَالُ: أَنْزَفَ الرَّجُلُ بَعْدَ شَرَابِهِ، فَأَنْزَفَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ سَكِرَ وَنَفِدَ. الْبَيْضُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، الْوَاحِدُ بَيْضَةٌ، وَسُمِّي بِذَلِكَ لِبَيَاضِهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى بُيُوضٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا قَطَا الْحُزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا
الزَّقُّومُ: شَجَرَةٌ مَسْمُومَةٌ لَهَا لَبَنٌ، إِنْ مَسَّ جِسْمَ إِنْسَانٍ تَوَرَّمَ وَمَاتَ مِنْهُ فِي أَغْلَبِ الْأَمْرِ، تَنْبُتُ فِي الْبِلَادِ الْمُجْدِبَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِلصَّحْرَاءِ. وَالتَّزَقُّمُ: الْبَلْعُ عَلَى شِدَّةٍ وَجَهْدٍ. شَابَ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يَشُوبُهُ شَوْبًا: خَلَطَهُ وَمَزَجَهُ. رَاغَ يَرُوغُ: مَالَ فِي خُفْيَةٍ مِنْ رَوْغَةِ الثَّعْلَبِ. زَفَّ:
أَسْرَعَ، وَأَزَفَّ: دَخَلَ فِي الزَّفِيفِ، فَهَمْزَتُهُ بِهِ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، وَأَزَفَّهُ: حَمَلَهُ عَلَى الزَّفِيفِ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ الْفَرَزْدَقُ:
فجاء فربع الشَّوْلِ قَبْلَ إِفَالِهَا يَزِفُّ وَجَاءَتْ خَلْفَهُ وَهِيَ زُفَّفُ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ، إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ، لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِآخِرِ يس أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمَعَادَ وَقُدْرَتَهُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَأَنَّهُ هُوَ مُنْشِئُهُمْ، وَإِذَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِشَيْءٍ، كَانَ ذَكَرَ تَعَالَى وَحْدَانِيَّتَهُ، إِذْ لَا يَتِمُّ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وُجُودًا وَعَدَمًا إِلَّا بِكَوْنِ الْمُرِيدِ وَاحِدًا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «١».
وَأَقْسَمَ تَعَالَى بِأَشْيَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَقَالَ: وَالصَّافَّاتِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَمَسْرُوقٌ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ، تُصَفُّ فِي السَّمَاءِ فِي الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ صُفُوفًا وَقِيلَ: تَصِفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ وَاقِفَةً مُنْتَظِرَةً لِأَمْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَنْ يُصَفُّ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٢.
89
اللَّهِ، أَوْ فِي صَلَاةٍ وَطَاعَةٍ. وَقِيلَ: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٌ. وَالزَّاجِرَاتُ، قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ:
الْمَلَائِكَةُ تَزْجُرُ السَّحَابَ وَغَيْرَهَا مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ لِتَضَمُّنِهِ النَّوَاهِيَ الشَّرْعِيَّةَ وَقِيلَ: كُلُّ مَا زُجِرَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ. وَالتَّالِيَاتُ: الْقَارِئَاتُ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
الْمَلَائِكَةُ يَتْلُونَ ذِكْرَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَنُو آدَمَ يَتْلُونَ كَلَامَهُ الْمُنَزَّلَ وَتَسْبِيحَهُ وَتَكْبِيرَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَلَائِكَةُ يَتْلُونَ ذِكْرَهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ بِنُفُوسِ الْعُلَمَاءِ الْعُمَّالِ الصَّافَّاتِ أَقْدَامَهَا فِي التَّهَجُّدِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَصُفُوفِ الْجَمَاعَاتِ، فَالزَّاجِرَاتِ بِالْمَوْعِظَةِ وَالنَّصَائِحِ، فَالتَّالِيَاتِ آيَاتِ اللَّهِ، وَالدَّارِسَاتِ شَرَائِعَهِ أَوْ بِنُفُوسِ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّتِي تَصِفُّ الصُّفُوفَ، وَتَزْجُرُ الْخَيْلَ لِلْجِهَادِ، وَتَتْلُو الذِّكْرَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْغَلُهَا عَنْهُ تِلْكَ الشَّوَاغِلُ. انْتَهَى. وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْفَاءَ الْعَاطِفَةَ فِي الصَّافَّاتِ، إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَرَتُّبِ مَعَانِيهَا فِي الْوُجُودِ كَقَوْلِهِ:
يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصا بح، فَالْغَانِمِ، فَالْآيِبِ
أَيِ الَّذِي صَبُحَ فَغَنِمَ فَآبَ وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِهَا فِي التَّفَاوُتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَقَوْلِكَ:
خُذِ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ، وَاعْمَلِ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ وَإِمَّا عَلَى تَرْتِيبِ مَوْصُوفَاتِهَا فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِكَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ. فَإِمَّا هُنَا، فَإِنْ وَحَّدْتَ الْمَوْصُوفَ كَانَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الصَّافَّاتِ فِي التَّفَاضُلِ، فَإِذَا كَانَ الْمُوَحَّدُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَكُونُ الْفَضْلُ لِلصَّفِّ، ثُمَّ الزَّجْرِ، ثُمَّ التِّلَاوَةِ وَإِمَّا عَلَى الْعَكْسِ، وَإِنْ تَلِيَتِ الْمَوْصُوفَ، فَتُرَتَّبُ فِي الْفَضْلِ، فَتَكُونُ الصَّافَّاتُ ذَوَاتَ فَضْلٍ، وَالزَّاجِرَاتُ أَفْضَلَ، وَالتَّالِيَاتُ أَبْهَرَ فَضْلًا، أَوْ عَلَى الْعَكْسِ. انْتَهَى.
وَمَعْنَى الْعَكْسِ فِي الْمَكَانَيْنِ: أَنَّكَ تَرْتَقِي مِنْ أَفْضَلَ إِلَى فَاضِلٍ إِلَى مَفْضُولٍ أَوْ تَبْدَأُ بِالْأَدْنَى، ثُمَّ بِالْفَاضِلِ، ثُمَّ بِالْأَفْضَلِ. وَأَدْغَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وحمزة: التاءات الثلاث. وَالْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا تَضَمَّنَتْ وَحْدَانِيَّتَهُ تَعَالَى، أَيْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا الْمُتَفَكِّرُونَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ أَمْدَحُ، أَيْ هُوَ رَبٌّ.
وَذَكَرَ الْمَشَارِقَ لِأَنَّهَا مَطَالِعُ الْأَنْوَارِ، وَالْإِبْصَارُ بِهَا أَكْلَفُ، وَذِكْرُهَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْمَغَارِبِ، إِذْ ذَاكَ مَفْهُومٌ مِنَ الْمَشَارِقِ، وَالْمَشَارِقُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَشْرِقًا، وَكَذَلِكَ الْمَغَارِبُ. تُشْرِقُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَشْرِقٍ مِنْهَا وَتَغْرُبُ فِي مَغْرِبٍ، وَلَا تَطْلُعُ وَلَا تَغْرُبُ فِي وَاحِدٍ يَوْمَيْنِ. وَثَنَّيَ فِي رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «١»، بِاعْتِبَارِ مَشْرِقِيِّ الصَّيْفِ
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ١٧.
90
وَالشِّتَاءِ وَمَغْرِبَيْهِمَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَادَ تَعَالَى مَشَارِقَ الشَّمْسِ وَمَغَارِبَهَا، وَهِيَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ فِي السَّنَةِ، فِيمَا يَزْعُمُونَ، مِنْ أَطْوَلِ أَيَّامِ السَّنَةِ إِلَى أَقْصَرِهَا.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ بِتَزْيِينِ السَّمَاءِ بِالْكَوَاكِبِ، وَانْتِظَامِ التَّزْيِينِ أَنْ جَعَلَهَا حِفْظًا وَحِذْرًا مِنَ الشَّيْطَانِ. انْتَهَى. وَالزِّينَةُ مَصْدَرٌ كَالسَّنَةِ، وَاسْمٌ لِمَا يُزَانُ بِهِ الشَّيْءُ، كَاللِّيقَةِ اسْمٌ لِمَا يُلَاقِ بِهِ الدَّوَاةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بِالْإِضَافَةِ، فَاحْتَمَلَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، أَيْ بِأَنْ زَانَتِ السَّمَاءَ الْكَوَاكِبُ، وَمُضَافًا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ بِأَنْ زَيَّنَ اللَّهُ الْكَوَاكِبَ.
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَا يُزَانُ بِهِ، وَالْكَوَاكِبُ بَيَانٌ لِلزِّينَةِ، لِأَنَّ الزِّينَةَ مُبْهَمَةٌ فِي الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُزَانُ بِهِ، أَوْ مِمَّا زَيَّنَتِ الْكَوَاكِبُ مِنْ إِضَاءَتِهَا وَثُبُوتِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٌ:
بِخِلَافٍ عَنْهُ وَأَبُو زُرْعَةَ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ: بِزِينَةٍ مُنَوَّنًا، الْكَوَاكِبِ بِالْخَفْضِ بَدَلًا مِنْ زِينَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَمَسْرُوقٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِزِينَةٍ مُنَوَّنًا، الْكَوَاكِبَ نَصْبًا، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِزِينَةٍ مصدرا، والكواكب مفعول بِهِ، كَقَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً «١». وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْكَوَاكِبَ بَدَلًا مِنَ السَّمَاءِ، أَيْ زَيَّنَّا كَوَاكِبَ السَّمَاءِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِتَنْوِينِ زِينَةٍ، وَرَفْعِ الْكَوَاكِبِ عَلَى خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هُوَ الْكَوَاكِبُ، أَوْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ بِأَنْ زَيَّنَتِ الْكَوَاكِبُ. وَرَفْعُ الْفَاعِلِ بِالْمَصْدَرِ الْمُنَوَّنِ، زَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْمُوعٍ، وَأَجَازَ الْبَصْرِيُّونَ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ: بِضَوْءِ الْكَوَاكِبِ قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَشْكَالُهَا الْمُخْتَلِفَةُ، كَشَكْلِ الثُّرَيَّا، وَبَنَاتِ نَعْشٍ، وَالْجَوْزَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَطَالِعُهَا وَمَسَايِرُهَا. وَخَصَّ السَّماءَ الدُّنْيا بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهَا الَّتِي تُشَاهَدُ بِالْأَبْصَارِ وَالْحِفْظُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، إِنَّمَا هُوَ فِيهَا وَحْدَهَا. وَانْتَصَبَ وَحِفْظاً عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ، أَوْ عَلَى تَأْخِيرِ الْعَامِلِ، أَيْ وَلِحِفْظِهَا زَيَّنَاهَا بِالْكَوَاكِبِ، وَحَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْكَوَاكِبَ زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَحِفْظًا: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَنْقُولَةٌ، وَالْمَارِدُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي قَوْلِهِ: شَيْطاناً مَرِيداً «٢» فِي النِّسَاءِ، وَهُنَاكَ جَاءَ مَرِيداً، وَهُنَا مارِدٍ، مُرَاعَاةً لِلْفَوَاصِلِ.
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى: كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ مُبْتَدَأٌ اقْتِصَاصًا لِمَا عَلَيْهِ حَالُ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْتَمِعُوا أَوْ يَسَّمَّعُوا، وَهُمْ مَقْذُوفُونَ بالشهب مبعدون
(١) سورة البلد: ٩٠/ ١٤.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١١٧.
91
عَنْ ذَلِكَ، إِلَّا مَنْ أُمْهِلَ حَتَّى خَطِفَ الْخَطْفَةَ وَاسْتَرَقَ اسْتِرَاقَةً، فَعِنْدَهَا تُعَاجِلُهُ الْمَلَائِكَةُ بِاتِّبَاعِ الشِّهَابِ الثَّاقِبِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا يَسَّمَّعُونَ صِفَةً وَلَا اسْتِئْنَافًا جَوَابًا لِسَائِلٍ سَأَلَ لِمَ يُحْفَظُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ كَوْنُهُمْ لَا يَسَّمَّعُونَ، أَوِ الْجَوَابُ لَا مَعْنَى لِلْحِفْظِ مِنَ الشَّيَاطِينِ عَلَى تَقْدِيرِهِمَا، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى مَعَ الْوَصْفِ: وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ غَيْرِ سَامِعٍ أَوْ مُسَّمِّعٍ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ كَوْنِهِ جَوَابًا. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَصْلَ لِأَنْ لَا يَسَّمَّعُوا، فَحُذِفَتِ اللَّامُ وَإِنْ، فَارْتَفَعَ الْفِعْلُ، قَوْلٌ مُتَعَسِّفٌ يُصَانُ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَسَّمَّعُونَ: نَفَى سَمَاعَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا يَسَّمَّعُونَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ «١»، وَعَدَّاهُ بِإِلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِصْغَاءِ. وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: بِشَدِّ السِّينِ وَالْمِيمِ بِمَعْنَى لَا يَتَسَمَّعُونَ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّينِ، وَتَقْتَضِي نَفْيَ التَّسَمُّعِ. وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمْ يَتَسَمَّعُونَ حَتَّى الْآنَ، لَكِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا لَمْ يُفْلِتْ حَرَسًا وَشُهُبًا مِنْ وقت بعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الرَّجْمُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَحَقَّ، فَأَمَّا كَانَتْ ثَمَرَةُ التَّسَمُّعِ هُوَ السَّمْعَ، وَقَدِ انْتَفَى السَّمْعُ بِنَفْيِ التَّسَمُّعِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِانْتِفَاءِ ثمرته، وهو السمع. والْمَلَإِ الْأَعْلى يَعُمُّ الْمَلَائِكَةَ، وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ هُمُ الْمَلَأُ الْأَسْفَلُ لِأَنَّهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَشْرَافُ الْمَلَائِكَةِ، وَعَنْهُ كِتَابُهُمْ.
وَيُقْذَفُونَ: يُرْمَوْنَ وَيُرْجَمُونَ، مِنْ كُلِّ جانِبٍ: أَيْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ مِنْهَا، وَالْمَرْجُومُ بِهَا هِيَ الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ تَنْقُضُ، وَلَيْسَتْ بِالْكَوَاكِبِ الْجَارِيَةِ فِي السَّمَاءِ، لِأَنَّ تِلْكَ لَا تُرَى حَرَكَتُهَا، وَهَذِهِ الرَّاجِمَةُ تُرَى حَرَكَتُهَا لِقُرْبِهَا مِنَّا، قَالَهُ مَكِّيٌّ وَالنَّقَّاشُ. وَقَرَأَ مَحْبُوبٌ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو: وَيَقْذِفُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَدُحُورًا مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَطْرُودِينَ، أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ ويقذفون لِلطَّرْدِ، أَوْ مَصْدَرٌ لِيُقْذَفُونَ، لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنُ مَعْنَى الطَّرْدِ، أَيْ وَيُدْحَرُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا، وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ قَذْفًا. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ فِي وَيُقْذَفُونَ، وَإِمَّا فِي دُحُورًا.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ رِجَالِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: دَحُورًا، بِنَصْبِ الدَّالِ
، أَيْ قَذْفًا دَحُورًا، بِنَصْبِ الدَّالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، كَالْقَبُولِ وَالْوُلُوغِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ أَلْفَاظٌ ذُكِرَ أَنَّهَا مَحْصُورَةٌ. وَالْوَاصِبُ: الدَّائِمُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ، وَتَقَدَّمَ في سورة النحل.
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢١٢.
92
وَيُقَالُ: وَصَبَ الشَّيْءُ وُصُوبًا: دَامَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُوجِعُ، وَمِنْهُ الْوَصَبُ، كَأَنَّ الْمَعْنَى:
أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مَرْجُومُونَ، وَفِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَذَابُ الدَّائِمُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ رَجْمُهُمْ دَائِمًا، وَعَدَمُ بُلُوغِهِمْ مَا يَقْصِدُونَ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ.
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ: مَنْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَا يَسَّمَّعُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ لَا يَسْمَعُ الشَّيَاطِينُ إِلَّا الشَّيْطَانَ الَّذِي خَطِفَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
خَطِفَ ثُلَاثِيًا بِكَسْرِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مُشَدَّدَةً. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ:
وَيُقَالُ هِيَ لُغَةُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَتَمِيمِ بْنِ مُرَّةَ. وقرىء: خَطِّفَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ مُشَدَّدَةً، وَنَسَبَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ إِلَى الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعِيسَى، وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا التَّخْفِيفُ. وَأَصْلُهُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ اخْتَطَفَ، فَفِي الْأَوَّلِ لَمَّا سُكِّنَتْ لِلْإِدْغَامِ، وَالْخَاءُ سَاكِنَةٌ، كُسِرَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَذَهَبَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ وَكُسِرَتِ الطَّاءُ اتِّبَاعًا لِحَرَكَةِ الْخَاءِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خِطِفَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مُخَفَّفَةً، اتْبَعَ حَرَكَةَ الْخَاءِ لِحَرَكَةِ الطَّاءِ، كَمَا قَالُوا نِعِمْ. وقرىء: فَأَتْبَعَهُ، مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا. وَالثَّاقِبُ، قَالَ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ: هُوَ النَّافِذُ بِضَوْئِهِ وَشُعَاعِهِ الْمُنِيرِ.
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ، بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ، وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ، وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ، وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ، قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ، وَقالُوا يا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ، هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ.
الِاسْتِفْتَاءُ نَوْعٌ مِنَ السُّؤَالِ، وَالْهَمْزَةُ، وَإِنْ خَرَجَتْ إِلَى مَعْنَى التَّقْرِيرِ، فَهِيَ فِي الْأَصْلِ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ فَاسْتَخْبِرْهُمْ، وَالضَّمِيرُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي الْأَشَدِّ بْنِ كَلَدَةَ، وَكُنِّيَ بِذَلِكَ لِشِدَّةِ بَطْشِهِ وَقُوَّتِهِ. وَعَادَلَ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ فِي الْأَشُدِّيَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ خَلَقَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَرَضِينَ.
وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: أَمْ مَنْ عَدَدْنَا، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِمَنْ خَلَقْنَا، أَيْ مَنْ عَدَدْنَا مِنَ الصَّافَّاتِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ. وَغُلِّبَ الْعَاقِلُ عَلَى غَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ خَلَقْنا، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْفَاعِلِ فِي خَلَقْنا، وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الْخَلْقِ اكْتِفَاءً بِبَيَانِ مَا تَقَدَّمَهُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أم من خلقنا من غَرَائِبِ الْمَصْنُوعَاتِ وَعَجَائِبِهَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: أَمَنْ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ دُونَ أَمْ، جَعَلَهُ اسْتِفْهَامًا ثَانِيًا تَقْرِيرًا أَيْضًا، فَهُمَا جُمْلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ فِي التَّقْرِيرِ، وَمَنْ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ
93
تَقْدِيرُهُ أَشَدُّ. فَعَلَى أَمْ مَنْ هُوَ تَقْرِيرٌ وَاحِدٌ وَنَظِيرُهُ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «١». قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَشَدُّ خَلْقًا يَحْتَمِلُ أَقْوَى خَلْقًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: شَدِيدُ الْخَلْقِ، وَفِي خَلْقِهِ شِدَّةٌ، وَأَصْعَبُ خَلْقًا. وَأَشَدُّ خَلْقًا وَأَشَقُّهُ يَحْتَمِلُ أَقْوَى خَلْقًا مِنْ قَوْلِهِمْ: شَدِيدُ الْخَلْقِ، وَفِي خَلْقِهِ شِدَّةٌ، عَلَى مَعْنَى الرَّدِّ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالنَّشْأَةَ الْأُخْرَى. وَإِنَّ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ خَلْقُ هَذِهِ الْخَلَائِقِ الْعَظِيمَةِ، وَلَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهِ اخْتِرَاعُهَا، كَانَ خَلْقُ الشر عَلَيْهِ أَهْوَنَ. وَخَلْقُهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، إِمَّا شَهَادَةٌ عَلَيْهِمْ بِالضَّعْفِ وَالرَّخَاوَةِ، لِأَنَّ مَا يُصْنَعُ مِنَ الطِّينِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالصَّلَابَةِ وَالْقُوَّةِ أَوِ احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الطِّينَ اللَّازِبَ الَّذِي خُلِقُوا مِنْهُ تُرَابٌ. فَمِنْ أَيْنَ اسْتَنْكَرُوا أَنْ يُخْلَقُوا مِنْ تراب مثله؟ قالوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً، وَهَذَا الْمَعْنَى يُعَضِّدُهُ مَا يَتْلُوهُ مِنْ ذِكْرِ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ. وَقِيلَ: أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، كَقَوْلِهِ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً «٢»، وَقَوْلِهِ:
وكانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً «٣»، وَأَضَافَ: الْخَلْقَ مِنَ الطِّينِ إِلَيْهِمْ، وَالْمَخْلُوقُ مِنْهُ هُوَ أَبُوهُمْ آدَمُ، إِذْ كَانُوا نَسْلَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: خُلِقَ ابْنُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ وَمَاءٍ وَنَارٍ وَهَوَاءٍ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا خُلِطَ صَارَ طِينًا لَازِبًا يَلْزَمُ مَا جَاوَرَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اللَّازِبِ بِالْجَرِّ، أَيِ الْكَرِيمِ الْجَيِّدِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلْ عَجِبْتَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ، أَيْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْخَلَائِقِ الْعَظِيمَةِ، وَهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْكَ وَمِنْ تَعَجُّبِكَ، وَمِمَّا تُرِيهِمْ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ عَجِبْتَ مِنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ. أَوْ عَجِبْتَ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَعَمَاهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَأَنْ يَكُونُوا كافرين مع ما جئتهم بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ سَعْدَانَ، وَابْنُ مِقْسَمٍ:
بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيٍّ
، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، والنخعي، وابن وثاب، وطلحة، وَشَقِيقٍ، وَالْأَعْمَشِ. وَأَنْكَرَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَالَ: اللَّهُ لَا يَعْجَبُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانَ شُرَيْحٌ مُعْجَبًا بِعِلْمِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ مِنْهُ، يَعْنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعَجَبُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ رَوْعَةٌ تَعْتَرِي الْمُتَعَجِّبَ مِنَ الشَّيْءِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِسْنَادُ الْعَجَبِ إِلَى الله تعالى، وتؤول عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ مِنْ تَعْظِيمٍ أَوْ تَحْقِيرٍ حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ مُتَعَجِّبِينَ مِنْهُ. فَالْمَعْنَى: بَلْ عَجِبْتُ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ وَسُوءِ عَمَلِهِمْ، وَجَعَلْتُهَا لِلنَّاظِرِينَ فِيهَا وَفِيمَا اقْتَرَنَ فِيهَا مِنْ شَرْعِي وَهُدَايَ مُتَعَجَّبًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ بلغ من
(١) سورة النازعات: ٧٩/ ٢٧.
(٢) سورة ق: ٥٠/ ٣٦.
(٣) سورة فاطر: ٣٥/ ٤٤.
94
عَظِيمِ آيَاتِي وَكَثْرَةِ خَلَائِقِي أَنِّي عَجِبْتُ مِنْهَا، فَكَيْفَ بِعِبَادِي وَهَؤُلَاءِ، لِجَهْلِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، يَسْخَرُونَ مِنْ آيَاتِي؟ أَوْ عَجِبْتُ مِنْ أَنْ يُنْكِرُوا الْبَعْثَ مِمَّنْ هَذِهِ أَفْعَالُهُ، وَهُمْ يَسْخَرُونَ بِمَنْ يَصِفُ اللَّهَ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، قَالَ: وَيُجَرَّدُ الْعَجَبُ لِمَعْنَى الِاسْتِعْظَامِ، أَوْ يُخَيَّلُ الْعَجَبُ وَيُفْرَضُ. وَقِيلَ: هُوَ ضَمِيرُ الرَّسُولِ، أَيْ قُلْ بَلْ عَجِبْتُ. قَالَ مَكِّيٌّ، وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ:
وَهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْ نُبُوَّتِكَ وَالْحَقِّ الَّذِي عِنْدَكَ.
وَإِذا ذُكِّرُوا وَوُعِظُوا، لَا يَذْكُرُونَ، وَلَا يَتَّعِظُونَ. وَذَكَرَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ:
ذَكَرُوا، بِتَخْفِيفِ الْكَافِ.
رُوِيَ أَنَّ رُكَانَةَ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، لَقِيَهُ الرَّسُولُ فِي جَبَلٍ خَالٍ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ، وَكَانَ مِنْ أَقْوَى النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ: «يَا رُكَانَةُ، أَرَأَيْتَ إِنْ صَرَعْتُكَ أَتُؤْمِنُ بِي» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَرَعَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ دُعَاءِ شَجَرَةٍ وَإِقْبَالِهَا، فَلَمْ يُؤْمِنْ، وَجَاءَ إِلَى مَكَّةَ فَقَالَ: يَا بَنِي هَاشِمٍ، سَاحِرُوا بِصَاحِبِكُمْ أَهْلَ الْأَرْضِ، فَنَزَلَتْ فِيهِ
وَفِي نُظَرَائِهِ: وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: يَسْخَرُونَ، يَكُونُ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ. وَقِيلَ: فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ، أَيْ يَطْلُبُونَ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَسْخَرُونَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُبَالِغُونَ فِي السُّخْرِيَةِ، أَوْ يَسْتَدْعِي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَنْ يَسْخَرَ مِنْهَا.
وقرىء: يَسْتَسْحِرُونَ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَا قَالَ ركانة لأسحر الرَّسُولَ.
وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْخَارِقِ الْمُعْجِزِ.
وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي كَسْرِ مِيمِ مِتْنا وَضَمِّهَا. ومن قرأ: أَإِذا بِالِاسْتِفْهَامِ، فَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، أَيْ نُبْعَثُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوْ يُعَرَّى عَنِ الشَّرْطِ وَيَكُونُ ظَرْفًا مَحْضًا، وَيُقَدَّرُ الْعَامِلُ: أَنُبْعَثُ إِذَا مِتْنَا؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوَآباؤُنَا بِفَتْحِ الْوَاوِ فِي أَوَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةِ قَالُونَ: بِالسُّكُونِ، فَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ، وَمَنْ فتح فالواو حرف عَطْفٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَآباؤُنَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا، أَوْ عَلَى الضَّمِيرِ فِي مَبْعُوثُونَ. وَالَّذِي جَوَّزَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ الْفَصْلُ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: أَيُبْعَثُ أَيْضًا آبَاؤُنَا؟ عَلَى زِيَادَةِ الِاسْتِبْعَادِ، يَعْنُونَ أَنَّهُمْ أَقْدَمُ، فَبَعْثُهُمْ أَبْعَدُ وَأَبْطَلُ. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ خِلَافُهُ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَعَمْرٌو، فِيهِ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ على الضمير في لَمَبْعُوثُونَ إِلَى آخِرِهِ، فَلَا يَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى الضَّمِيرِ، لِأَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْجُمَلِ، لَا عَلَى الْمُفْرَدِ، لِأَنَّهُ إِذَا عُطِفَ عَلَى الْمُفْرَدِ كَانَ الْفِعْلُ عَامِلًا فِي الْمُفْرَدِ بِوَسَاطَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ
95
فِيمَا بَعْدَهَا مَا قَبْلَهَا. فَقَوْلُهُ: أَوَآباؤُنَا مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَبْعُوثُونَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. فَإِذَا قُلْتَ: أَقَامَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، فَعَمْرٌو مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاسْتِفْهَامُهُمْ تَضَمَّنَ إِنْكَارًا وَاسْتِبْعَادًا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بنعم.
وَأَنْتُمْ داخِرُونَ: أَيْ صَاغِرُونَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، الْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ نَعَمْ تُبْعَثُونَ، وَزَادَهُمْ فِي الْجَوَابِ أَنَّ بَعْثَهُمْ وَهُمْ مُلْتَبِسُونَ بِالصَّغَارِ وَالذُّلِّ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ:
نَعِمْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَعْثَةِ، فَإِنَّمَا بَعْثَتُهُمْ زَجْرَةٌ: أَيْ صَيْحَةٌ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ. لَمَّا كَانَتْ بَعْثَتُهُمْ نَاشِئَةً عَنِ الزَّجْرَةِ جُعِلَتْ إِيَّاهَا مَجَازًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ مُبْهَمَةٌ يُوَضِّحُهَا خَبَرُهَا. انْتَهَى. وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ هُوَ وَابْنُ مَالِكٍ أَنَّ الضَّمِيرَ يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ مَالِكٍ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا «١»، وَتَكَلَّمْنَا مَعَهُ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّمَا جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، وَتَقْدِيرُهُ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ، فَمَا هِيَ إِلَّا زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. انْتَهَى. وَكَثِيرًا مَا تُضَمَّنُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ قَبْلَ فَاءٍ إِذَا سَاغَ، تَقْدِيرُهُ: وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يُحْذَفُ الشَّرْطُ وَيَبْقَى جَوَابُهُ إِلَّا إِذَا انْجَزَمَ الْفِعْلُ فِي الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُمَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، إِمَّا ابْتِدَاءٌ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ.
ويَنْظُرُونَ: مِنَ النَّظَرِ، أَيْ فَإِذَا هُمْ بُصَرَاءُ يَنْظُرُونَ، أَوْ مِنَ الِانْتِظَارِ، أَيْ فَإِذَا هُمْ يَنْتَظِرُونَ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ وَمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَا وَيْلَنا مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْكُفَّارِ لِبَعْضٍ، إِلَى آخِرِ الْجُمْلَتَيْنِ، أَقَرُّوا بِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَأَنَّهُ يَوْمُ الْفَصْلِ، وَخَاطَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَوَقَفَ أَبُو حَاتِمٍ عَلَى قَوْلِهِ: يَا وَيْلَنا، وَجَعَلَ هَذَا يَوْمُ الدِّينِ إِلَى آخِرِهِ من قول الله لهم أَوِ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ مِنْ كَلَامِ الكفرة، وهذا يَوْمُ الْفَصْلِ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى يُقَالُ لَهُمْ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ. وَيَوْمُ الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ وَالْمُعَاوَضَةِ، وَيَوْمُ الْفَصْلِ: يَوْمُ الْفَرْقِ بَيْنَ فِرَقِ الْهُدَى وَفِرَقِ الضَّلَالِ. وَفِي الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ تَوْبِيخٌ لهم وتقريع.
شُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ، مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ، قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٣٧.
96
مُؤْمِنِينَ، وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ، فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ، فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ، فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ، بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ، إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ، وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
احْشُرُوا: خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ، أَوْ خِطَابُ الْمَلَائِكَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيِ اجْمَعُوا الظَّالِمِينَ وَنِسَاءَهُمُ الْكَافِرَاتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرَجَّحَهُ الرُّمَّانِيُّ. وأنواعهم وضرباؤهم، قَالَهُ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَوْ أَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْعُصَاةِ، وَأَهْلُ الزِّنَا مَعَ أَهْلِ الزِّنَا، وَأَهْلُ السَّرِقَةِ، أَوْ قُرَنَاؤُهُمُ الشَّيَاطِينُ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْحِجَازِيُّ: وَأَزْواجَهُمْ، مَرْفُوعًا عَطْفًا عَلَى ضَمِيرِ ظَلَمُوا، أَيْ وَظَلَمَ أَزْوَاجُهُمْ. فَاهْدُوهُمْ: أَيْ عَرِّفُوهُمْ وَقُودُوهُمْ إِلَى طَرِيقِ النَّارِ حَتَّى يَصْطَلُوهَا، وَالْجَحِيمُ طَبَقَةٌ مِنْ طَبَقَاتِ جَهَنَّمَ. وَقِفُوهُمْ، كَمَا قَالَ:
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «١»، وَهُوَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ، إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ. وَقَرَأَ عِيسَى:
أَنَّهُمْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يُسْأَلُونَ عَنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى طَرِيقِ الْهَزْءِ بِهِمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا: يُسْأَلُونَ عَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَعَنْ أَعْمَالِهِمْ، وَيُوقَفُونَ عَلَى قُبْحِهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ كَيْفَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ مَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ».
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى نَحْوِ مَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ، أي إنهم مسؤولون عَنِ امْتِنَاعِهِمْ عَنِ التَّنَاصُرِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ فِي الِامْتِنَاعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنِ التَّنَاصُرِ بعد ما كَانُوا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مُتَعَاضِدِينَ مُتَنَاصِرِينَ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ، جَوَابُ أَبِي جَهْلٍ حِينَ قَالَ فِي بَدْرٍ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «٢». وقرىء: لَا تَنَاصَرُونَ، بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ وَبِتَاءَيْنِ، وَبِإِدْغَامِ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى.
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ: أَيْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَخَذَلَهُ عَنْ عَجْزٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَسْلِمٌ غَيْرُ مُنْتَصِرٍ. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ جِنٌّ وَإِنْسٌ، وَتَسَاؤُلُهُمْ عَلَى مَعْنَى التَّقْرِيعِ وَالنَّدَمِ وَالسُّخْطِ. قَالُوا: أَيْ قَالَتِ الْإِنْسُ لِلْجِنِّ.
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَوْ ضَعَفَةُ الْإِنْسِ الْكَفَرَةُ لكبرائهم وقادتهم. والْيَمِينِ:
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٢٧.
(٢) سورة القمر: ٥٤/ ٤٤.
97
الْجَارِحَةُ، وَلَيْسَتْ مُرَادَةً هُنَا. فَقِيلَ: اسْتُعِيرَتْ لِجِهَةِ الْخَيْرِ، أَوْ لِلْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، أَوْ لِجِهَةِ الشَّهَوَاتِ، أَوْ لِجِهَةِ التَّمْوِيهِ وَالْإِغْوَاءِ وَإِظْهَارِ أَنَّهَا رُشْدٌ، أَوِ الْحَلِفِ. وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ وَجْهٌ.
فَأَمَّا اسْتِعَارَتُهَا لِجِهَةِ الْخَيْرِ، فَلِأَنَّ الْجَارِحَةَ أَشْرَفُ الْعُضْوَيْنِ وَأَيْمَنُهَا، وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ بِهَا حَتَّى فِي السَّانِحِ، وَيُصَافِحُونَ ويماسحون وَيُنَاوِلُونَ وَيُزَاوِلُونَ بِهَا أَكْثَرَ الْأُمُورِ، وَيُبَاشِرُونَ بِهَا أَفَاضِلَ الْأَشْيَاءِ، وَجُعِلَتْ لِكَاتِبِ الْحَسَنَاتِ، وَلِأَخْذِ الْمُؤْمِنِ كِتَابَهُ بِهَا، وَالشِّمَالُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهَا لِلْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، فَإِنَّهَا يَقَعُ بِهَا الْبَطْشُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ تُعَرُّونَنَا بِقُوَّتِكُمْ وَتَحْمِلُونَنَا عَلَى طَرِيقِ الضَّلَالِ. وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهَا لِجِهَةِ الشَّهَوَاتِ، فَلِأَنَّ جِهَةَ الْيَمِينِ هِيَ الْجِهَةُ الثَّقِيلَةُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَفِيهَا كَبِدُهُ، وَجِهَةُ شِمَالِهِ فِيهَا قَلْبُهُ وَمَكْرُهُ، وَهِيَ أَخَفُّ، وَالْمُنْهَزِمُ يَرْجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، إِذْ هُوَ أَخَفُّ شِقَّيْهِ. وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهَا لِجِهَةِ التَّمْوِيهِ وَالْإِغْوَاءِ، فَكَأَنَّهُمْ شَبَّهُوا أَقْوَالَ الْمُغْوِينَ بِالسَّوَانِحِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ مَحْمُودَةٌ، كَأَنَّ التَّمْوِيهَ فِي إِغْوَائِهِمْ أَظْهَرُ مَا يَحْمَدُونَهُ. وَأَمَّا الْحَلِفُ، فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ لَهُمْ وَيَأْتُونَهُمْ إِتْيَانَ الْمُقْسِمِينَ عَلَى حُسْنِ مَا يَتْبَعُونَهُمْ فِيهِ.
قالُوا، أَيِ الْمُخَاطَبُونَ، إِمَّا الْجِنُّ وَإِمَّا قَادَةُ الْكُفْرِ: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ:
أَيْ لَمْ نُقِرَّكُمْ عَلَى الْكُفْرِ، بَلْ أَنْتُمْ مِنْ ذَوَاتِكُمْ أَبَيْتُمُ الْإِيمَانَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَعْرَضْتُمْ مَعَ تَمَكُّنِكُمْ وَاخْتِبَارِكُمْ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا عَلَى الْكُفْرِ غَيْرَ مُلْجِئِينَ، وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ تَسَلُّطٍ نَسْلُبُكُمْ بِهِ تَمَكُّنَكُمْ واختباركم، بل كنتم قوما مُخْتَارِينَ الطُّغْيَانَ. انْتَهَى. وَلَفْظَةُ التَّمَكُّنِ وَالِاخْتِيَارِ أَلْفَاظُ الْمُعْتَزِلَةِ جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِمْ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا: أَيْ لَزِمَنَا قَوْلُ رَبِّنَا، أَيْ وَعِيدُهُ لَنَا بِالْعَذَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا لَذائِقُونَ، إخبار منهم أنهم ذائقون الْعَذَابِ جَمِيعَهُمْ، الرُّؤَسَاءَ، وَالْأَتْبَاعَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَزِمْنَا قَوْلَ رَبِّنَا: إِنَّا لَذائِقُونَ، يَعْنِي وَعِيدَ اللَّهِ بِأَنَّا ذَائِقُونَ لِعَذَابِهِ لَا مَحَالَةَ، لِعِلْمِهِ بِحَالِنَا وَاسْتِحْقَاقِنَا بِهَا الْعُقُوبَةَ. وَلَوْ حَكَى الْوَعِيدَ كَمَا هُوَ لَقَالَ: إِنَّكُمْ لَذَائِقُونَ، وَلَكِنَّهُ عَدَلَ بِهِ إِلَى لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّهُمْ مُتَكَلِّمُونَ بِذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
لَقَدْ زَعَمَتْ هَوَازِنُ قَلَّ مَالِي وَلَوْ حَكَى قَوْلَهَا لَقَالَ: قَلَّ مَالُكُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُحَلِّفِ لِلْحَالِفِ. لَأَخْرُجَنَّ، وَلْنَخْرُجَنَّ الْهَمْزَةُ لِحِكَايَةِ لَفْظِ الْحَالِفِ، وَالتَّاءُ لِإِقْبَالِ الْمُحَلِّفِ عَلَى الْحَلِفِ. انْتَهَى. فَأَغْوَيْناكُمْ:
دَعَوْنَاكُمْ إِلَى الْغَيِّ، فَكَانَتْ فِيكُمْ قَابِلِيَّةٌ لَهُ فَغَوَيْتُمْ. إِنَّا كُنَّا غاوِينَ: فَأَرَدْنَا أَنْ تُشَارِكُونَا
98
فِي الْغَيِّ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ: أَيْ يَوْمَ إِذْ تَسَاءَلُوا وَتَرَاجَعُوا فِي الْقَوْلِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا اشْتَرَكُوا فِي الْغَيِّ، اشْتَرَكُوا فِيمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ. إِنَّا كَذلِكَ: أَيْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ بِهَؤُلَاءِ نَفْعَلُ بِكُلِّ مُجْرِمٍ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى إِجْرَامِهِ عَذَابُهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَكْبَرِ إِجْرَامِهِمْ، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَاسْتِكْبَارُهُمْ عَنْ تَوْحِيدِهِ، وَإِفْرَادُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنْهُمْ مَا قَدَحُوا بِهِ فِي الرَّسُولِ، وَهُوَ نِسْبَتُهُ إِلَى الشِّعْرِ وَالْجُنُونِ، وأنهم ليسوا بتاركي آلِهَتِهِمْ لَهُ وَلِمَا جَاءَ بِهِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ إِنْكَارِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِنْكَارِ الرِّسَالَةِ. وَقَوْلُهُمْ: لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ:
تَخْلِيطٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَارْتِبَاكٌ فِي غَيِّهِمْ. فَإِنَّ الشَّاعِرَ هُوَ عِنْدَهُ مِنَ الْفَهْمِ وَالْحِذْقِ وَجَوْدَةِ الْإِدْرَاكِ مَا يَنْظِمُ بِهِ الْمَعَانِيَ الْغَرِيبَةَ وَيَصُوغُهَا فِي قَالَبِ الْأَلْفَاظِ الْبَدِيعَةِ، وَمَنْ كَانَ مَجْنُونًا لَا يَصِلُ إِلَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ أَضْرَبَ تَعَالَى عَنْ كَلَامِهِمْ، وَأَخْبَرَ بِأَنْ جَاءَ الْحَقُّ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ إِضْمِحْلَالٌ، فَلَيْسَ مَا جَاءَ بِهِ شِعْرًا، بَلْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَدَّقَ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ هُوَ وَهُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي دَعْوَى الْأُمَمِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَصَدَقَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، الْمُرْسَلُونَ بِالْوَاوِ رَفْعًا، أَيْ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ فِي التَّبْشِيرِ بِهِ وَفِي أَنَّهُ يَأْتِي آخِرَهُمْ. وقرأ الجمهور: لَذائِقُوا الْعَذابِ، بِحَذْفِ النُّونِ لِلْإِضَافَةِ وَأَبُو السَّمَّالِ، وَأَبَانٌ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ: بِحَذْفِهَا لِالْتِقَاءِ لَامِ التَّعْرِيفِ وَنَصْبِ الْعَذَابِ. كَمَا حَذَفَ بَعْضُهُمُ التَّنْوِينَ لِذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَحَدُ اللَّهُ، وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي السَّمَّالِ أَنَّهُ قَرَأَ: لَذَائِقٌ مُنَوَّنًا، الْعَذَابَ بِالنَّصْبِ، وَيُخَرَّجُ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ جَمْعٌ، وَإِلَّا لَمْ يَتَطَابَقِ الْمُفْرَدُ وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي إِنَّكُمْ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ وَلَا ذَاكِرُ اللَّهَ إِلَّا قليلا
وقرىء: لَذَائِقُونَ بِالنُّونِ، الْعَذَابَ بِالنَّصْبِ، وَمَا تَرَوْنَ إِلَّا جَزَاءً مِثْلَ عَمَلِكُمْ، إِذْ هُوَ ثَمَرَةُ عَمَلِكُمْ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ، يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ، وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ، قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ، قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ،
99
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ: اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. لَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ وَعَذَابِهِمْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَعِيمِهِمْ. والْمُخْلَصِينَ: صِفَةُ مَدْحٍ، لِأَنَّ كَوْنَهُمْ عِبَادَ اللَّهِ، يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونُوا مُخْلِصِينَ. وَوَصَفَ رِزْقٌ بِمَعْلُومٍ، أَيْ عِنْدَهُمْ. فَقَدْ قَرَّتْ عُيُونُهُمْ بِمَا يُسْتَدَرُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ، وَبِأَنَّ شَهَوَاتِهِمْ تَأْتِيهِمْ بِحَسْبِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْلُومٌ بِخَصَائِصٍ خُلِقَ عَلَيْهَا مِنْ طِيبِ طَعْمٍ وَرَائِحَةٍ وَلَذَّةٍ وَحُسْنِ مَنْظَرٍ. وَقِيلَ: مَعْلُومُ الْوَقْتِ كَقَوْلِهِ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «١». وَعَنْ قَتَادَةَ: الرِّزْقُ الْمَعْلُومُ: الْجَنَّةُ. وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يَأْبَاهُ. انْتَهَى. فَواكِهُ بَدَلٌ مِنْ رِزْقٌ، وَهِيَ مَا يَتَلَذَّذُ بِهِ وَلَا يَتَقَوَّتُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ، يَعْنِي أَنَّ رِزْقَهُمْ كُلَّهُ فَوَاكِهُ لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ حِفْظِ الصِّحَّةِ بِالْأَقْوَاتِ لِأَنَّهُمْ أجسام محكمة مخلوقة نلأبد، فَكُلُّ مَا يَأْكُلُونَهُ فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّلَذُّذِ. وَقَرَأَ ابْنُ مِقْسَمٍ: مُكَرَّمُونَ، بِفَتْحِ الْكَافِ مُشَدَّدِ الرَّاءِ.
ذَكَرَ أَوَّلًا الرِّزْقَ، وَهُوَ مَا يَتَلَذَّذُ بِهِ الْأَجْسَامُ. وَثَانِيًا الْإِكْرَامَ، وَهُوَ مَا يَتَلَذَّذُ بِهِ النُّفُوسُ، وَرِزْقٌ بِإِهَانَةِ تَنْكِيدٌ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَحَلَّ الَّذِي هُمْ فِيهِ، وَهُوَ جَنَّاتُ النَّعِيمِ. ثُمَّ أَشْرَفَ الْمَحَلِّ، وَهُوَ السُّرُرُ. ثُمَّ لَذَّةَ التَّآنُسِ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَابِلُ بَعْضًا، وَهُوَ أَتَمُّ السُّرُورِ وَآنَسُهُ. ثُمَّ الْمَشْرُوبَ، وَأَنَّهُمْ لَا يَتَنَاوَلُونَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بالكؤوس. ثُمَّ وَصَفَ مَا يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الطِّيبِ وَانْتِفَاءِ الْمَفَاسِدِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ اللَّذَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَخَتَمَ بِهَا كَمَا بَدَأَ بِاللَّذَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ مِنَ الرِّزْقِ، وَهِيَ أَبْلَغُ الْمَلَاذِ، وَهِيَ التَّآنُسُ بِالنِّسَاءِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى سُرُرٍ، بِضَمِّ الرَّاءِ وَأَبُو السمال: بفتحها، وهي لغة بَعْضِ تَمِيمٍ وَكَلْبٌ يَفْتَحُونَ مَا كَانَ جَمْعًا عَلَى فُعُلٍ مِنَ الْمُضَعَّفِ إِذَا كَانَ اسْمًا. وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي الصِّفَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَاسَهَا عَلَى الِاسْمِ فَفَتَحَ، فَيَقُولُ ذَلِكَ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ فِي الِاسْمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالِاسْمِ، وَهُوَ مَوْرِدُ السَّمَاعِ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ.
وَقِيلَ: التَّقَابُلُ لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى قَفَا بَعْضٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ فِي أَحْيَانٍ تُرْفَعُ عَنْهُمْ سُتُورٌ فَيَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ أَكْثَرَ أَحْيَانِهِمْ فِيهَا قُصُورُهُمْ».
ويُطافُ:
مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ، وَهُوَ الْمُثْبَتُ فِي آيَةٍ أخرى في قوله:
(١) سورة مريم: ١٩/ ٦٢.
100
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ «١»، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ «٢»، وَلَعَلَّهُمْ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ التَّكْلِيفِ.
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَالْكَأَسُ: مَا كَانَ مِنَ الزُّجَاجَةِ فِيهِ خَمْرٌ أَوْ نَحْوُهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ، وَلَا يُسَمَّى كَأْسًا إِلَّا وَفِيهِ ذَلِكَ. وَقَدْ سَمَّى الْخَمْرَ نَفْسَهَا كَأْسًا، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَحَلِّهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَخْفَشُ: كُلُّ كَأْسٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ خَمْرٌ. وَقِيلَ: الْكَأْسُ هَيْئَةٌ مَخْصُوصَةٌ فِي الْأَوَانِي، وَهُوَ كُلُّ مَا اتَّسَعَ فَمُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِقْبَضٌ، وَلَا يُرَاعَى كَوْنُهُ لِخَمْرٍ أَوْ لَا. مِنْ مَعِينٍ: أَيْ مِنْ شَرَابٍ مَعِينٍ، أَوْ مِنْ ثَمْدٍ مَعِينٍ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا يَجْرِي الماء. وبَيْضاءَ: صِفَةٌ لِلْكَأْسِ أَوْ لِلْخَمْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: خَمْرُ الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: صَفْرَاءَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُوَلِّدِينَ:
صَفْرَاءُ لَا تَنْزِلُ الْأَحْزَانُ سَاحَتَهَا لَوْ مَسَّهَا حجر مسته سراء
ولَذَّةٍ: صِفَةٌ بِالْمَصْدَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَوْ على حذف، أَيْ ذَاتِ لَذَّةٍ، أَوْ على تأنيث لذ بِمَعْنَى لَذِيذٍ. لَا فِيها غَوْلٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: هُوَ صُدَاعٌ فِي الرَّأْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: وَجَعٌ فِي الْبَطْنِ. انْتَهَى. وَالِاسْمُ يَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْفَسَادِ النَّاشِئَةَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَيَنْتَفِي جَمِيعُهَا مِنْ مَغَصٍ، وَصُدَاعٍ، وَخِمَارٍ، وَعَرْبَدَةٍ، وَلَغْوٍ، وَتَأْثِيمٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ السُّكْرُ أَعْظَمَ مَفَاسِدِهَا، أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ فَقَالَ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ هُنَا، وَفِي الْوَاقِعَةِ: وَبِذَهَابِ الْعَقْلِ، فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِهَا فِيهِمَا وَعَاصِمٌ:
بِفَتْحِهَا هُنَا وَكَسْرِهَا فِي الْوَاقِعَةِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَطَلْحَةُ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: قاصِراتُ الطَّرْفِ: قَصَرْنَ الطَّرْفَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، لَا يَمْتَدُّ طَرْفُهُنَّ إِلَى أَجْنَبِيٍّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عُرُباً «٣»، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْخَدِّ مِنْهَا لَأَثَّرَا
وَالْعَيْنُ: جَمْعُ عَيْنَاءَ، وَهِيَ الْوَاسِعَةُ الْعَيْنِ فِي جَمَالٍ. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ: شَبَّهَهُنَّ،
(١) سورة الإنسان: ٧٦/ ١٩. [.....]
(٢) سورة الطور: ٥٢/ ٢٤.
(٣) سورة الواقعة: ٥٦/ ٣٧.
101
قَالَ الْجُمْهُورُ: بِبَيْضِ النَّعَامِ الْمَكْنُونِ فِي عُشِّهِ، وَهُوَ الْأُدْحِيَّةُ وَلَوْنُهَا بَيَاضٌ بِهِ صُفْرَةٌ حَسَنَةٌ، وَبِهَا تُشَبَّهَ النِّسَاءُ فَقَالَ:
مُضِيئَاتُ الْخُدُودِ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ
كَبِكْرِ مغاناة الْبَيَاضَ بِصُفْرَةٍ غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ الْمُحَلَّلِ
وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: شَبَّهَ أَلْوَانَهُنَّ بِلَوْنِ قِشْرِ الْبَيْضَةِ الداخل، وهو غرقىء الْبَيْضَةِ، وَهُوَ الْمَكْنُونُ فِي كُنٍّ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: وَأَمَّا خَارِجُ قِشْرِ الْبَيْضَةِ فَلَيْسَ بِمَكْنُونٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْبِيضُ الْمَكْنُونُ: الْجَوْهَرُ الْمَصُونُ، وَاللَّفْظُ يَنْبُو عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ تشبيه عام جملة الْمَرْأَةِ بِجُمْلَةِ الْبَيْضَةِ، أَرَادَ بِذَلِكَ تَنَاسُبَ أَجْزَاءِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا نِسْبَتُهُ فِي الْجَوْدَةِ إِلَى نَوْعِهِ نِسْبَةُ الْآخَرِ مِنْ أَجْزَائِهَا إِلَى نَوْعِهِ فَنِسْبَةُ شَعْرِهَا إِلَى عَيْنِهَا مُسْتَوِيَةٌ، إِذْ هُمَا غَايَةٌ فِي نَوْعِهَا، وَالْبَيْضَةُ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ تَنَاسُبَ أَجْزَاءٍ، لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ حُسْنُهَا فِي النَّظَرِ وَاحِدٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الأدباء يتغزل:
تناسب الْأَعْضَاءُ فِيهِ فَلَا تَرَى بِهِنَّ اخْتِلَافًا بَلْ أَتَيْنَ عَلَى قَدْرِ
وَتَسَاؤُلُهُمْ فِي الْجَنَّةِ سُؤَالُ رَاحَةٍ وَتَنَعُّمٍ، يَتَذَاكَرُونَ نَعِيمَهُمْ وَحَالَ الدُّنْيَا والإيمان وثمرته.
وفَأَقْبَلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى يُطافُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى: يَشْرَبُونَ فَيَتَحَدَّثُونَ عَلَى الشَّرَابِ، كَعَادَةِ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلَّا أَحَادِيثُ الْكِرَامِ عَلَى الْمُدَامِ
وَجِيءَ بِهِ مَاضِيًا لِصِدْقِ الْإِخْبَارِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ بَعْضِهِمْ مَا حَكَى، يَتَذَكَّرُ بِذَلِكَ نِعَمَهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، حَيْثُ هَدَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَاعْتِقَادِ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهُوَ مِثَالٌ لِلتَّحَفُّظِ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ وَالْبُعْدِ مِنْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ هَذَا الْقَائِلُ وَقَرِينُهُ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُمَا اللَّذَانِ فِي قَوْلِهِ: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا «١». وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ إِنْسِيًّا وَجِنِّيًا مِنَ الشَّيَاطِينِ الْكَفَرَةِ. وَقَرَأَ الجمهور:
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢٨.
102
لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، بِتَخْفِيفِ الصَّادِ، مِنَ التَّصْدِيقِ وَفِرْقَةٌ: بِشَدِّهَا، مِنَ التصديق. قَالَ قُرَّةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ النَّهْرَانِيُّ: كَانَا شَرِيكَيْنِ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، يَعْبُدُ اللَّهَ أَحَدُهُمَا، وَيُقَصِّرُ فِي التِّجَارَةِ وَالنَّظَرِ وَالْآخَرُ كَانَ مُقْبِلًا عَلَى مَالِهِ، فَانْفَصَلَ مِنْ شَرِيكِهِ لِتَقْصِيرِهِ، فَكُلَّمَا اشْتَرَى دَارًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ بُسْتَانًا وَنَحْوَهُ، عَرَضَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَفَخَرَ عَلَيْهِ، فَيَتَصَدَّقُ الْمُؤْمِنُ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ لِيَشْتَرِيَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا فِي الآخرة ما قصه اللَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَاحْتَاجَ، فَاسْتَجْدَى بَعْضَ إِخْوَانِهِ، فَقَالَ: وَأَيْنَ مَالُكَ؟
فَقَالَ: تَصَدَّقْتُ بِهِ لِيُعَوِّضَنِي اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ خيرا منه، فقال: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ، أَوْ مِنَ الْمُتَصَدِّقِينَ لِطَلَبِ الثَّوَابِ؟ وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكَ شيئا.
أَإِنَّا لَمَدِينُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: لَمُجَازُونَ مُحَاسَبُونَ وَقِيلَ:
لَمَسُوسُونَ مَدْيُونُونَ. يُقَالُ: دَانَهُ: سَاسَهُ،
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «الْعَاقِلُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ».
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قالَ هَلْ أَنْتُمْ عَائِدٌ عَلَى قَائِلٍ فِي قَوْلِهِ: قالَ قائِلٌ. قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَقَالَ لِهَذَا الْقَائِلِ حَاضِرُوهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: إِنَّ قَرِينَكَ هَذَا فِي جَهَنَّمَ يُعَذَّبُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ. وَالْخِطَابُ فِي هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَأَنْ يَكُونَ لِرُفَقَائِهِ فِي الْجَنَّةِ الَّذِينَ كَانَ هُوَ وَإِيَّاهُمْ يَتَسَاءَلُونَ، أَوْ لِخِدْمَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. لَمَّا كَانَ قَرِينُهُ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، عَلِمَ أَنَّهُ فِي النَّارِ فَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إِلَى النَّارِ لِأُرِيَكُمْ ذَلِكَ الْقَرِينَ؟ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَحْتَاجُ الْكَلَامُ إِلَى حَذْفٍ، وَلَا لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: إِنَّ قَرِينَكَ فِي جَهَنَّمَ يُعَذَّبُ. قِيلَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ كِوًى يَنْظُرُ أَهْلُهَا مِنْهَا إِلَى أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: الْقَائِلُ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: بَلْ تُحِبُّونَ أَنْ تَطَّلِعُوا فَتَعْلَمُوا أَيْنَ مَنْزِلَتُكُمْ مِنْ مَنْزِلَةِ أَهْلِ النَّارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
مُطَّلِعُونَ، بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَفَتْحِ النُّونِ، وَاطَّلَعَ بِشَدِّ الطَّاءِ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ حُسَيْنٍ الْجُعْفِيِّ: مُطْلَعُونَ، بِإِسْكَانِ الطَّاءِ وَفَتْحِ النُّونِ، فَأُطْلِعَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج. وقرىء: فَأَطَّلِعُ، مُشَدَّدًا مُضَارِعًا مَنْصُوبًا على جواب الاستفهام. وقرىء: مُطْلِعُونَ، بِالتَّخْفِيفِ، فَأَطْلَعَ مُخَفَّفًا فِعْلًا مَاضِيًا، وَفَأَطْلِعُ مُخَفَّفًا مُضَارِعًا مَنْصُوبًا. وَقَرَأَ أَبُو البرهسم، وعمار بن أبي عمار فِيمَا ذَكَرَهُ خَلَفٌ عَنْ عَمَّارٍ:
مُطْلِعُونِ، بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ وَكَسْرِ النُّونِ، فَأُطْلِعَ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَدَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. لِجَمْعِهَا بَيْنَ نُونِ الْجَمْعِ وَيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَالْوَجْهُ مُطَّلِعِي، كَمَا قَالَ، أَوَ مُخْرِجِيَّ
103
هُمْ، وَوَجَّهَهَا أَبُو الْفَتْحِ عَلَى تَنْزِيلِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَنْزِلَةَ الْمُضَارِعِ، وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ عَلَى هَذَا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَمَا أَدْرِي وَظَنِّي كُلُّ ظَنٍّ أَمُسْلِمُنِي إِلَى قَوْمِي شَرَاحِي
قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ شَرَاحِيلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرِيدُ مُطَّلِعُونَ إِيَّايَ، فَوَضَعَ الْمُتَّصِلَ مَوْضِعَ الْمُنْفَصِلِ كَقَوْلِهِ:
هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ أَوْ شَبَّهَ اسْمَ الْفَاعِلِ فِي ذَلِكَ بِالْمُضَارِعِ لِتَآخٍ بَيْنَهُمَا، كَأَنَّهُ قَالَ: تَطَّلِعُونَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. انْتَهَى. وَالتَّخْرِيجُ الثَّانِي تَخْرِيخُ أَبِي الْفَتْحِ، وَتَخْرِيجُهُ الْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ، فَيَكُونُ الْمُتَّصِلُ وُضِعَ مَوْضِعَهُ، لَا يَجُوزُ هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارِبٌ إِيَّاهَا، وَلَا زَيْدٌ ضَارِبٌ إِيَّايَ، وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، فَالْأَوْلَى تَخْرِيجُ أَبِي الْفَتْحِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ:
أَمُسْلِمُنِي إِلَى قَوْمِي شَرَاحِي وَقَوْلُ الْآخَرِ:
فَهَلْ فَتًى مِنْ سَرَاةِ الْقَوْمِ يَحْمِلُنِي وَلَيْسَ حَامِلُنِي إِلَّا ابْنُ خمال
وَقَالَ الْآخَرُ:
وَلَيْسَ بِمُعْيِينِي فَهَذِهِ أَبْيَاتٌ ثَبَتَ التَّنْوِينُ فِيهَا مَعَ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، فَكَذَلِكَ ثَبَتَتْ نُونُ الْجَمْعِ معها إجزاء للنون مجرى التنوين، لا لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي السُّقُوطِ لِلْإِضَافَةِ. وَيُقَالُ: طَلَعَ عَلَيْنَا فُلَانٌ وَاطَّلَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَنْ قَرَأَ: فَأُطْلِعَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَضَمِيرُهُ الْقَائِلُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يسم فَاعِلُهُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْهَمْزَةِ، إِذْ يَقُولُ: طَلَعَ زَيْدٌ وَأَطْلَعَهُ غَيْرُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ:
طَلَعَ وَاطَّلَعَ، إِذَا بَدَا وَظَهَرَ وَاطَّلَعَ اطِّلَاعًا، إِذَا أَقْبَلَ وَجَاءَ مَبْنِيًّا، وَمَعْنَى ذَلِكَ: هَلْ أَنْتُمْ مُقْبِلُونَ؟ فَأُقْبِلَ. وَإِنْ أُقِيمَ الْمَصْدَرُ فِيهِ مُقَامَ الْفَاعِلِ بِتَقْدِيرِهِ فَاطَّلَعَ الِاطِّلَاعُ، أَوْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمَحْذُوفِ، أَيْ فاطلع به، لأنه اطَّلَعَ لَازِمٌ، كَمَا أَنَّ أَقْبَلَ كَذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَطَّلَعَ عُدِّيَ بِالْهَمْزَةِ مِنْ طَلَعَ اللَّازِمِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمَحْذُوفِ، أَيْ فَاطَّلَعَ بِهِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْفَاعِلِ. فَكَمَا أَنَّ
104
الْفَاعِلَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ دُونَ عَامِلِهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. لَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ مَمْدُودٌ أَوْ مَغْضُوبٌ، تُرِيدُ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ. وسَواءِ الْجَحِيمِ: وَسَطِهَا، تَقُولُ: تَعِبْتُ حَتَّى انْقَطَعَ سَوَائِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُمِّيَ سَوَاءً لِاسْتِوَاءِ الْمَسَافَةِ مِنْهُ إِلَى الْجَوَانِبِ، يَعْنِي سَوَاءَ الْجَحِيمِ.
وَقَالَ خَلِيلٌ الْعَصْرِيُّ: رَآهُ: تَبَدَّلَتْ حَالُهُ، فَلَوْلَا مَا عَرَّفَهُ اللَّهُ بِهِ لَمْ يَعْرِفْهُ، قَالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ: أَيْ لَتُهْلِكُنِي بِإِغْوَائِكَ. وَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، يُلْقَى بِهَا الْقَسَمُ وَتَاللَّهِ قَسَمٌ فِيهِ التَّعَجُّبُ مِنْ سَلَامَتِهِ مِنْهُ إِذَا كَانَ قَرِينُهُ قَارَبَ أَنْ يُرْدِيَهُ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي: وَهِيَ تَوْفِيقُهُ لِلْإِيمَانِ وَالْبُعْدِ مِنْ قَرِينِ السُّوءِ، لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ لِلْعَذَابِ، كَمَا أُحْضِرْتَهُ أَنْتَ. أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، قَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِمَائِتِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْقَائِلِ: يُسْمِعُ قَرِينَهُ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لَهُ، أَيْ لَسْنَا أَهْلَ الْجَنَّةِ بِمَيِّتِينَ، لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى كَانَتْ لَنَا فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّهُمْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ يَتَمَنَّوْنَ فِيهَا الْمَوْتَ.
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، كَحَالِ أَهْلِ النَّارِ، بَلْ نَحْنُ مُنَعَّمُونَ دَائِمًا. وَيَكُونُ فِي خِطَابِهِ ذَلِكَ مُنَكِّلًا لَهُ، مُقَرِّعًا مُحْزِنًا لَهُ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، مُعَلِّمًا لَهُ بِتَبَايُنِ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ بِحَالِهِ. كَمَا كَانَتَا تَتَبَايَنَانِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ جَزَاءٌ ظَهَرَ لَهُ خِلَافُهُ، يُعَذَّبُ بِكُفْرِهِ بِاللَّهِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مِنْ الْقَائِلِ لِرُفَقَائِهِ، لَمَّا رَأَى مَا نَزَلَ بِقَرِينِهِ، وَقَّفَهُمْ عَلَى نِعَمِهِ تَعَالَى فِي دَيْمُومَةِ خُلُودِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهِمْ فِيهَا. وَيَتَّصِلُ قَوْلُهُ:
إِنَّ هَذَا إِلَى قَوْلِهِ: الْعامِلُونَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا، لَا وَاضِحًا خِطَابًا لِرُفَقَائِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمَّ كَلَامُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَتُرْدِينِ، وَيَكُونَ أَفَما نَحْنُ إِلَى بِمُعَذَّبِينَ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ رُفَقَائِهِ، وَكَذَلِكَ إِنَّ هَذَا إِلَى الْعامِلُونَ: أَيْ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِمْ وَتَصْدِيقًا لَهُ وَخِطَابًا لِرَسُولِ اللَّهِ وَأُمَّتِهِ، وَيُقَوِّي هَذَا قَوْلُهُ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ، وَالْآخِرَةُ لَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ، وَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا عَلَى تَجَوُّزٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لِمِثْلِ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ الْعَامِلُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي عُطِفَ عَلَيْهِ الْفَاءُ مَحْذُوفٌ مَعْنَاهُ: أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ؟ أَيْ مُنَعَّمُونَ، فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وَلَا مُعَذَّبِينَ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَجَاءَ بَعْدَهَا حَرْفُ الْعَطْفِ بِضَمِيرِ مَا، يَصِحُّ بِهِ إِقْرَارُ الهمزة والحرف في محليهما اللَّذَيْنِ وَقَعَا فِيهِمَا، وَمَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي التَّقْدِيرِ، وَالْهَمْزَةَ بَعْدَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْهَمْزَةُ لَهَا صَدَرُ الْكَلَامِ قُدِّمَتْ، فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ. فَأَمَّا وَقَدْ رَجَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ.
105
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ، وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ، وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ.
لَمَّا انْقَضَتْ قِصَّةُ الْمُؤْمِنِ وَقَرِينُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالرِّزْقِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ فِيهَا لِأَهْلِهَا فَقَالَ: أَذَلِكَ الرزق خَيْرٌ نُزُلًا؟ والنزول مَا يُعَدُّ لِلْأَضْيَافِ، وَعَادَلَ بَيْنَ ذَلِكَ الرِّزْقِ وَبَيْنَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ.
فَلِاسْتِوَاءِ الرِّزْقِ الْمَعْلُومِ يَحْصُلُ بِهِ اللَّذَّةُ وَالسُّرُورُ، وَشَجَرَةُ الزَّقُّومِ يَحْصُلُ بِهَا الْأَلَمُ وَالْغَمُّ، فَلَا اشْتِرَاكَ بَيْنِهِمَا فِي الْخَيْرِيَّةِ. وَالْمُرَادُ تَقْرِيرُ قُرَيْشٍ وَالْكُفَّارٍ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَى شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا فَاسِدٌ. وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامًا حَقِيقَةً لَمْ يَجُزْ، إِذْ لَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ فِي شَجَرَةِ الزَّقُّومِ خَيْرًا حَتَّى يُعَادِلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ رِزْقِ الْجَنَّةِ. وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ، لَمَّا اخْتَارَ مَا أَدَّى إِلَى رِزْقِ الْجَنَّةِ، وَالْكَافِرَ اخْتَارَ مَا أَدَّى إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ، قِيلَ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِلْكَافِرِينَ وَتَوْقِيفًا عَلَى سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، قَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: أَبُو جَهْلٍ وَنُظَرَاؤُهُ، لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ لِلْكُفَّارِ، يُخْبِرُ مُحَمَّدٌ عَنِ النَّارِ أَنَّهَا تُنْبِتُ الْأَشْجَارَ، وَهِيَ تَأْكُلُهَا وَتُذْهِبُهَا، فَفَتَنُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ وَجُمْلَةَ أَتْبَاعِهِمْ. وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّمَا الزَّقُّومُ: التَّمْرُ بِالزُّبْدِ، وَنَحْنُ نَتَزَقَّمُهُ. وَقِيلَ: مَنْبَتُهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَأَغْصَانُهَا تَرْتَفِعُ إِلَى دَرَكَاتِهَا. وَاسْتُعِيرَ الطَّلْعُ، وَهِيَ النَّخْلَةُ، لِمَا تَحْمِلُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ، وَشَبَّهَ طَلْعَهَا بِثَمَرِ شَجَرَةٍ مَعْرُوفَةٍ يقال لثمرها رؤوس الشَّيَاطِينِ، وَهِيَ بِنَاحِيَةِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا الْأَسْتَنُ، وَذَكَرَهَا النَّابِغَةُ فِي قَوْلِهِ:
تُحِيدُ من أَسْتَنٍ سُودٍ أُسَافِلُهُ مَشْيَ الْإِمَاءِ الْغَوَادِي تَحْمِلُ الْحُزَمَا
وَهُوَ شَجَرٌ خَشِنٌ مُرٌّ مُنْكَرُ الصُّورَةِ، سَمَّتْ ثَمَرَهُ العرب بذلك تشبها برؤوس الشَّيَاطِينِ، ثُمَّ صَارَ أَصْلًا يُشَبَّهُ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا الصَّوْمُ، ذَكَرَهَا سَاعِدَةُ بْنُ حَوْبَةَ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ:
106
مُوَكَّلٌ بِشُدُوفِ الصَّوْمِ يَرْقُبُهَا من المناظر مخطوف الحشازرم
وَقِيلَ: الشَّيَاطِينُ صِنْفٌ مِنَ الْحَيَّاتِ ذَوَاتُ أَعْرَافٍ، وَمِنْهُ:
عُجَيِّزٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحِمَاطِ أَعْرِفُ
وَقِيلَ: شُبِّهَ بِمَا اشْتُهِرَ فِي النُّفُوسِ مِنْ كَرَاهَةِ رؤوس الشَّيَاطِينِ وَقُبْحِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غير مرثية، وَلِذَلِكَ يُصَوِّرُونَ الشَّيْطَانَ فِي أَقْبَحِ الصُّوَرِ. وَإِذَا رَأَوْا أَشْعَثَ مُنْتَفِشَ الشَّعْرِ قَالُوا:
كَأَنَّهُ وَجْهُ شَيْطَانٍ، وَكَأَنَّ رَأْسَهُ رَأْسُ شَيْطَانٍ، وَهَذِهِ بِخِلَافِ الْمَلَكِ، يُشَبِّهُونَ بِهِ الصُّورَةَ الْحَسَنَةِ. وَكَمَا شَبَّهَ امْرِؤُ الْقَيْسِ الْمَسْنُونَةَ الزُّرْقَ بِأَنْيَابِ الْغُولِ فِي قَوْلِهِ:
وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُشَاهِدْ تِلْكَ الْأَنْيَابَ، وَهَذَا كُلُّهُ تَشْبِيهٌ تَخْيِيلِيُّ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا يَعُودُ عَلَى الشَّجَرَةِ، أَيْ مِنْ طَلْعِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَشَوْباً بِفَتْحِ الشِّينِ وَشَيْبَانُ النَّحْوِيُّ:
بِضَمِّهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْفَتْحُ لِلْمَصْدَرِ وَالضَّمُّ لِلِاسْمِ، يَعْنِي أَنَّهُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ مَشُوبٍ، كَالنَّقْصِ بِمَعْنَى الْمَنْقُوصِ. وَفُسِّرَ بِالْخَلْطِ وَالْحَمِيمُ الْمَاءُ السُّخْنَ جِدًّا، وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ هُنَا شَرَابُهُمُ الَّذِي هُوَ طِينَةُ الْخَبَالِ صَدِيدُهُمْ وَمَا سَاحَ مِنْهُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ أنهم يملأون بُطُونَهُمْ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ لِلْجُوعِ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ، أَوْ لِإِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْأَكْلِ وَمَلْءِ الْبُطُونِ زِيَادَةً فِي عَذَابِهِمْ، ذَكَرَ مَا يُسْقُونَ لِغَلَبَةِ الْعَطَشِ، وَهُوَ مَا يُمْزَجُ لَهُمْ مِنَ الْحَمِيمِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَكْلُ يَعْتَقِبُهُ مَلْءُ الْبَطْنِ، كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ في قوله: فَمالِؤُنَ. وَلَمَّا كَانَ الشُّرْبُ يَكْثُرُ تَرَاخِيهِ عَنِ الْأَكْلِ، أُتِيَ بِلَفْظِ ثُمَّ الْمُقْتَضِيَةِ الْمُهْلَةَ، أَوْ لَمَّا امْتَلَأَتْ بُطُونُهُمْ مِنْ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وَهُوَ حَارٌّ، أَحْرَقَ بُطُونَهُمْ وَعَطَّشَهُمْ، فَأُخِّرَ سَقْيُهُمْ زَمَانًا لِيَزْدَادُوا بِالْعَطَشِ عَذَابًا إِلَى عَذَابِهِمْ، ثُمَّ سُقُوا مَا هُوَ أَحَرُّ وَآلَمُ وَأَكْرَهُ.
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ: لَمَّا ذَهَبَ بِهِمْ مِنْ مَنَازِلِهِمُ الَّتِي أُسْكِنُوهَا فِي النَّارِ إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ لِلْأَكْلِ وَالتَّمَلُّؤِ مِنْهَا وَالسَّقْيِ مِنَ الْحَمِيمِ وَنَوَاحِي رُجُوعِهِمْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، دَخَلَتْ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالرُّجُوعُ دَلِيلٌ عَلَى الِانْتِقَالِ فِي وَقْتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِلَى مَكَانٍ غَيْرِ مَكَانِهِمَا، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حَالَهُمْ فِي تَقْلِيدِ آبَائِهِمْ. وَالضَّمِيرُ لِقُرَيْشٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ التَّقْلِيدَ كَانَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِهِمْ تِلْكَ الشَّدَائِدَ، أَيْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ، فَاتَّبَعُوهُمْ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ، مُسْرِعِينَ فِي ذَلِكَ لَا يُثَبِّطُهُمْ شَيْءٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ بِضَلَالِ أَكْثَرِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ، هَذَا وَمَا خَلَتْ أَزْمَانُهُمْ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْذَارِهِمْ عَوَاقِبَ التَّكْذِيبِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ مَا يَقْتَضِي
107
إِهْلَاكَهُمْ وَسُوءَ عَاقِبَتِهِمْ، وَاسْتَثْنَى الْمُخْلَصِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمُ الْأَقَلُّ الْمُقَابِلُ لِقَوْلِهِ: أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ نَجَوْا. وَلَمَّا ذَكَرَ ضَلَالَ الْأَوَّلِينَ، وَذَكَرَ أَوَّلَهُمْ شُهْرَةً، وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَضَمَّنَ أَشْيَاءَ مِنْهَا: الدُّعَاءُ عَلَى قَوْمِهِ، وَسُؤَالُهُ النَّجَاةَ، وَطَلَبُ النُّصْرَةِ. وَأَجَابَهُ تَعَالَى فِي كُلِّ ذَلِكَ إِجَابَةً بَلَغَ بِهَا مُرَادَهُ. وَاللَّامُ فِي فَلَنِعْمَ جَوَابُ قَسَمٍ كَقَوْلِهِ:
يَمِينًا لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وَجَدْتُمَا وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نَحْنُ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِلْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ لِقَوْلِهِ: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ «١» والْكَرْبِ الْعَظِيمِ، قَالَ السُّدِّيُّ:
الْغَرَقُ، وَمِنْهُ تَكْذِيبُ الْكَفَرَةِ وَرُكُوبُ الْمَاءِ، وَهَوْلُهُ، وَهُمْ فَصْلٌ متعين للفصلية لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَ وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ فَقَالَ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ».
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْعَرَبُ مِنْ أَوْلَادِ سَامٍ، وَالسُّودَانُ مِنْ أَوْلَادِ حَامٍ، وَالتُّرْكُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَبْقَى اللَّهُ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ وَمَدَّ فِي نَسْلِهِ، وَلَيْسَ النَّاسُ مُنْحَصِرِينَ فِي نَسْلِهِ، بَلْ فِي الْأُمَمِ مَنْ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ: أَيْ فِي الْبَاقِينَ غَابِرَ الدَّهْرِ وَمَفْعُولُ تَرَكْنَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ثَنَاءً حَسَنًا جَمِيلًا فِي آخِرِ الدَّهْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وسلام: رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ مُسْتَأْنَفٌ، سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِيَقْتَدِيَ بِذَلِكَ الْبَشَرُ، فَلَا يَذْكُرُهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ بِسُوءٍ. سَلَّمَ تَعَالَى عَلَيْهِ جَزَاءً عَلَى مَا صَبَرَ طَوِيلًا، مِنْ أَقْوَالِ الْكَفَرَةِ وَإِذَايَتِهِمْ لَهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَهِيَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ يَعْنِي: يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ تَسْلِيمًا، وَيَدْعُونَ لَهُ، وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ، كَقَوْلِكَ:
قَرَأْتُ سُورَةً أَنْزَلْنَاهَا. انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَتْرُوكُ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَتَرَكْنَا عَلَى نُوحٍ تَسْلِيمًا يُسَلَّمُ بِهِ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. انْتَهَى. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: سَلَامًا بِالنَّصْبِ، وَمَعْنَى فِي الْعَالَمِينَ: ثُبُوتُ هَذِهِ التَّحِيَّةِ مَثْبُوتَةً فِيهِمْ جَمِيعًا، مُدَامَةٌ عَلَيْهِ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَالثَّقَلَيْنِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ عَنْ آخِرِهِمْ. ثُمَّ عَلَّلَ هَذِهِ التَّحِيَّةَ بِأَنَّهُ كَانَ مُحْسِنًا، ثُمَّ عَلَّلَ إِحْسَانَهُ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا، فَدَلَّ عَلَى جَلَالَةِ الْإِيمَانِ ومحله عند الله.
(١) سورة المرسلات: ٧٧/ ٢٣.
108
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ: أَيْ مَنْ كَانَ مُكَذِّبًا لَهُ مِنْ قَوْمِهِ، لَمَّا ذَكَرَ تَحِيَّاتِهِ وَنَجَاةَ أَهْلِهِ، إِذْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ هَلَاكَ غَيْرِهِمْ بِالْغَرَقِ.
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ، مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ، فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ، قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ، قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ، فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ.
وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى نُوحٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، أَيْ مِمَّنْ شَايَعَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمَا، أَوِ اتَّفَقَ أَكْثَرُهُمَا، أَوْ مِمَّنْ شَايَعَهُ فِي التَّصَلُّبِ فِي دِينِ اللَّهِ وَمُصَابَرَةِ الْمُكَذِّبِينَ. وَكَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ أَلْفَا سَنَةٍ وَسِتُّمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ هُودٌ وَصَالِحٌ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمِيرُ فِي مِنْ شِيعَتِهِ يَعُودُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم والأعراف أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ فِي الزَّمَانِ هُوَ شِيعَةٌ لِلْمُتَقَدِّمِ، وَجَاءَ عَكْسُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْكُمَيْتِ:
وَمَا لِي إِلَّا آل أحمد شيعة وما لي إِلَّا مَشْعَبَ الْحَقِّ مَشْعَبُ
جَعَلَهُمْ شِيعَةً لِنَفْسِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ الظَّرْفُ؟ قُلْتُ: بِمَا فِي الشِّيعَةِ مِنْ مَعْنَى الْمُشَايَعَةِ، يَعْنِي: وَإِنَّ مِمَّنْ شَايَعَهُ عَلَى دِينِهِ وَتَقْوَاهُ حِينَ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لَإِبْرَاهِيمَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ اذْكُرْ. انْتَهَى. أَمَّا التَّخْرِيجُ الْأَوَّلُ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَإِبْراهِيمَ، لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ شِيعَتِهِ وَمِنْ إِذْ، وَزَادَ الْمَنْعُ، إِذْ قَدَّرَهُ مِمَّنْ شَايَعَهُ حِينَ جَاءَ لَإِبْرَاهِيمَ. وَأَيْضًا فَلَامُ التَّوْكِيدِ يَمْنَعُ أَنْ يَعْمَلَ مَا قَبْلَهَا فِيمَا بَعْدَهَا. لَوْ قُلْتَ: إن ضاربا لقادم علينا زيدا، وتقديره: إن ضَارِبًا زَيْدًا لَقَادِمٌ عَلَيْنَا، لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ، فَهُوَ الْمَعْهُودُ عِنْدَ الْمُعْرِبِينَ. وَمَجِيئُهُ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ: إِخْلَاصُهُ الدِّينَ لِلَّهِ، وَسَلَامَةُ قَلْبِهِ: بَرَاءَتُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ وَالنَّقَائِصِ الَّتِي تَعْتَرِي الْقُلُوبَ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ وَالْخُبْثِ وَالْمَكْرِ وَالْكِبْرِ وَنَحْوِهَا. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: لم يلعن شَيْئًا قَطُّ. وَقِيلَ:
سَلِيمٌ مِنَ الشِّرْكِ وَلَا مَعْنًى لِلتَّخْصِيصِ. وَأَجَازُوا فِي نَصْبِ أَإِفْكاً وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِتُرِيدُونَ، وَالتَّهْدِيدُ لِأُمَّتِهِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: فَسَّرَ الْإِفْكَ بِقَوْلِهِ: آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، عَلَى أَنَّهَا إِفْكٌ فِي
109
أَنْفُسِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ تُرِيدُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ إِفْكًا، وَآلِهَةً مَفْعُولٌ بِهِ، وَقَدَّمَهُ عِنَايَةً بِهِ، وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ لَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ الْأَهَمَّ عِنْدَهُ أَنْ يُكَافِحَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى إِفْكٍ وَبَاطِلٍ فِي شِرْكِهِمْ، وَبَدَأَ بِهَذَا الْوَجْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ أَتُرِيدُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ آفَّكِينَ؟ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَجَعْلُ الْمَصْدَرِ حَالًا لَا يَطَّرِدُ إِلَّا مَعَ أَمَّا فِي نَحْوِ: أَمَّا عِلْمًا فَعَالِمٌ.
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ: اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَحْذِيرٍ وَتَوَعُّدٍ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ ظَنُّكُمْ بِمَنْ هُوَ يَسْتَحِقُّ لِأَنْ تَعْبُدُوهُ، إِذْ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَتَّى تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُ وَعَدَلْتُمْ بِهِ الْأَصْنَامَ؟ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ ظَنُّكُمْ بِفِعْلِهِ مَعَكُمْ مِنْ عِقَابِكُمْ، إِذْ قَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ؟ كَمَا تقول: أسأت آل فُلَانٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ أَنْ يُوقِعَ بِكَ خَيْرًا مَا أَسَأْتَ إِلَيْهِ؟ وَلَمَّا وَبَّخَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، فَعَهِدَ إِلَى مَا يَجْعَلُهُ مُنْفَرِدًا بِهَا حَتَّى يَكْسَرَهَا وَيُبَيِّنَ لَهُمْ حَالَهَا وَعَجْزَهَا. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ عِلْمَ الْكَوَاكِبِ، وَمَا يُعْزَى إِلَيْهَا مِنَ التَّأْثِيرَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَظَرَهُ كَانَ فِيهَا، أَيْ فِي عِلْمِهَا، أَوْ فِي كِتَابِهَا الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى أَحْوَالِهَا وَأَحْكَامِهَا. قِيلَ: وَكَانُوا يُعَانُونَ ذَلِكَ، فَأَتَاهُمْ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي يُعَانُونَهَا، وَأَوْهَمَهُمْ بِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَمَارَةٍ فِي عِلْمِ النُّجُومِ أَنَّهُ سَقِيمٌ، أَيْ يُشَارِفُ السُّقْمَ. قِيلَ:
وَهُوَ الطَّاعُونُ، وَكَانَ أَغْلَبَ الْأَسْقَامِ عَلَيْهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَخَافُوا الْعَدْوَى وَهَرَبُوا مِنْهُ إِلَى عِيدِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَرَكُوهُ فِي بَيْتِ الْأَصْنَامِ فَفَعَلَ مَا فَعَلَ. وَقِيلَ: كَانُوا أَهْلَ رِعَايَةٍ وَفِلَاحَةٍ، وَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى عِلْمِ النُّجُومِ. وَقِيلَ: أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَلِكَهُمْ أَنَّ غَدًا عِيدُنَا، فَاحْضُرْ مَعَنَا، فَنَظَرَ إِلَى نَجْمٍ طَالِعٍ فَقَالَ: إن هذا يَطْلُعْ مَعَ سَقَمِي.
وَقِيلَ: مَعْنَى فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، أَيْ فِيمَا نَجَمَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ قَوْمِهِ وَحَالِهِ مَعَهُمْ، وَمَعْنَى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، أَيْ لِكُفْرِهِمْ بِهِ وَاحْتِقَارِهِمْ لَهُ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ، مِنَ الْمَعَارِيضِ، عَرَّضَ أَنَّهُ يَسْقُمُ فِي الْمَآلِ، أَيْ يُشَارِفُ السُّقْمَ. قِيلَ: وَهُوَ الطَّاعُونُ، وَكَانَ أَغْلَبَ، وَفَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ مُلْتَبِسٌ بِالسُّقْمِ، وَابْنُ آدَمَ لَا بُدَّ أَنْ يَسْقَمَ، وَالْمَثَلُ: كَفَى بِالسَّلَامَةِ دَاءً. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَدَعَوْتُ رَبِّي بِالسَّلَامَةِ جَاهِدًا لِيَصِحَّنِي فَإِذَا السَّلَامَةُ دَاءُ
وَمَاتَ رَجُلٌ فَجْأَةً، فَاكْتَنَفَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالُوا: مَاتَ وَهُوَ صَحِيحٌ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ:
أَصَحِيحٌ مِنَ الْمَوْتِ فِي عُنُقِهِ؟ فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ: أَيْ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي هِيَ فِي زَعْمِهِمْ
110
آلِهَةٌ، كَقَوْلِهِ: أَيْنَ شُرَكائِيَ «١»، وَعَرَضَ الْأَكْلَ عَلَيْهَا. وَاسْتِفْهَامُهَا عَنِ النُّطْقِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْهَزْءِ، لِكَوْنِهَا مُنْحَطَّةً عَنْ رُتْبَةِ عَابِدِيهَا، إِذْ هُمْ يَأْكُلُونَ وَيَنْطِقُونَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ عِنْدَهَا طَعَامًا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تُصِيبُ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَأْكُلُهُ خَدَمَتُهَا. فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ: أَيْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ مُسْتَخْفِيًا ضَارِبًا، فَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ يَضْرِبُهُمْ ضَرْبًا، فَهُوَ مَصْدَرُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ ضُمِّنَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ مَعْنَى ضَرَبَهُمْ، وَبِالْيَمِينِ:
أَيْ يَمِينِ يَدَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِأَنَّهَا أَقْوَى يَدَيْهِ أَوْ بِقُوَّتِهِ، لِأَنَّهُ قِيلَ: كَانَ يَجْمَعُ يَدَيْهِ فِي الْآلَةِ الَّتِي يَضْرِبُهَا بِهَا وَهِيَ الْفَأْسُ. وَقِيلَ: سَبَبُ الْحَلِفِ الَّذِي هُوَ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «٢».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَزِفُّونَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، مِنْ زَفَّ: أَسْرَعَ، أَوْ مِنْ زِفَافِ الْعَرُوسِ، وَهُوَ التَّمَهُّلُ فِي الْمِشْيَةِ، إِذْ كَانُوا فِي طُمَأْنِينَةٍ أَنْ يَنَالَ أَصْنَامَهُمْ شَيْءٌ لِعِزَّتِهِمْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ: بِضَمِّ الْيَاءِ، مِنْ أَزَفَّ: دَخَلَ فِي الزَّفِيفِ، فَهِيَ لِلتَّعَدِّي، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، وَالضَّحَّاكُ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: يَزِفُّونَ مُضَارِعُ زَفَّ بِمَعْنَى أَسْرَعَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ: لَا نَعْرِفُهَا بِمَعْنَى زَفَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الوزيف: السيلان. وقرىء: يزفون مبنيا للمفعول. وقرىء: يَزْفُونَ بِسُكُونِ الزَّايِ، مِنْ زَفَاهُ إِذَا حَدَاهُ، فَكَانَ بعضهم يزفو بَعْضًا لِتَسَارُعِهِمْ إِلَيْهِ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ وَبَيْنَ سُؤَالِهِمْ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا «٣»، وَإِخْبَارُ مَنْ عَرَضَ بِأَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ كَانَ يَذْكُرُ أَصْنَامَهُمْ، لِأَنَّ هَذَا الْإِقْبَالَ كَانَ يَقْتَضِي تِلْكَ الْجُمَلَ الْمَحْذُوفَةَ، أَيْ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فِي كَسْرِ أَصْنَامِهِمْ وَتَأْنِيبِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَيْسَ هَذَا الْإِقْبَالُ مِنْ عِنْدِهِمْ، بَلْ بَعْدَ مَجِيئِهِمْ مِنْ عِنْدِهِمْ جَرَتَ تِلْكَ الْمُفَاوَضَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَ.
وَاسْتَسْلَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَلَامِهِ أَشْيَاءَ لَمْ تَتَضَمَّنْهَا الْآيَاتُ، صَارَتِ الْآيَاتُ عِنْدَهُ بِهَا كَالْمُتَنَاقِضَةِ. قَالَ، حَيْثُ ذَكَرَ هَاهُنَا: أَنَّهُمْ أَدْبَرُوا عَنْهُ خِيفَةَ الْعَدْوَى، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ يَكْسِرُ أَصْنَامَهُمْ، أَقْبَلُوا إِلَيْهِ مُتَبَادِرِينَ لِيَكُفُّوهُ وَيُوقِعُوا بِهِ. وذكرتم أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ الْكَاسِرِ حتى قيل:
(١) سورة النحل: ١٦/ ٢٧، وسورة القصص: ٢٨/ ٦٢، و ٧٤، وسورة فصلت: ٤١/ ٤٧.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٥٧.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٥٩.
111
سَمِعْنَا إِبْرَاهِيمَ يَذُمُّهُمْ، فَلَعَلَّهُ هُوَ الْكَاسِرُ. فَفِي إِحْدَاهُمَا أَنَّهُمْ شَاهَدُوهُ يَكْسِرُهَا، وَفِيِ الْأُخْرَى أَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِذَمِّهِ عَلَى أَنَّهُ الْكَاسِرُ. انْتَهَى. مَا أَبْدَى مِنَ التَّنَاقُضِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَبْصَرُوهُ يَكْسِرُهُمْ، فَيَكُونُ فِيهِ كَالتَّنَاقُضِ. وَلَمَّا قُرِّرَ أَنَّهُ كَالتَّنَاقُضِ قَالَ: قُلْتُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ أَبْصَرُوهُ وَزَفُّوا إِلَيْهِ نَفَرًا مِنْهُمْ دُونَ جُمْهُورِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعَ الْجُمْهُورُ وَالْعَلِيَّةُ مِنْ عِنْدِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْأَصْنَامِ لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ الَّذِي وَضَعُوهُ عِنْدَهَا لِتَبَرَّكَ عَلَيْهِ وَرَأَوْهَا مَكْسُورَةً، اشْمَأَزُّوا مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِهَا؟ لَمْ يَنِمَّ عَلَيْهِ أُولَئِكَ النَّفَرُ نَمِيمَةً صَرِيحَةً، وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْرِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ لِبَعْضِ الصَّوَارِفِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكْسَرَهَا وَيَذْهَبَ وَلَا يَشْعُرَ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَيَكُونَ إِقْبَالُهُمْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ عِيدِهِمْ، وَسُؤَالِهِمْ عَنِ الْكَاسِرِ، وَقَوْلُهُمْ: قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ «١». انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذُكِرَ هُوَ الصَّحِيحُ.
قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ: اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَإِنْكَارٍ عَلَيْهِمْ، كَيْفَ هُمْ يَعْبُدُونَ صِوَرًا صَوَّرُوهَا بِأَيْدِيِهِمْ وَشَكَّلُوهَا عَلَى مَا يُرِيدُونَ مِنَ الْأَشْكَالِ؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ:
الظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي مَعْطُوفَةٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي خَلَقَكُمْ، أَيْ أَنْشَأَ ذَوَاتَكُمْ وَذَوَاتَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَالْعَمَلُ هُنَا هُوَ التَّصْوِيرُ وَالتَّشْكِيلُ، كَمَا يَقُولُ: عَمِلَ الصَّائِغُ الْخَلْخَالَ، وَعَمِلَ الْحَدَّادُ الْقُفْلَ، وَالنَّجَّارُ الْخِزَانَةَ وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا بِمَعْنَى الَّذِي يَتِمُّ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ، بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الصَّنَمِ وَعَابِدِهِ هُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعَابِدُ هُوَ الْمُصَوِّرُ ذَلِكَ الْمَعْبُودَ، فَكَيْفَ يَعْبُدُ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقًا؟ وَكِلَاهُمَا خَلَقَ اللَّهُ، وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِإِنْشَاءِ ذَوَاتِهِمَا. وَالْعَابِدُ مصور الصنم معبوده. و «ما» فِي: وَمَا تَنْحِتُونَ بِمَعْنَى تاذي، فَكَذَلِكَ فِي وَما تَعْمَلُونَ، لِأَنَّ نَحْتَهُمْ هُوَ عَمَلُهُمْ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ خَلَقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ قَاعِدَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ أَفْعَالَ الْعِبَادِ. وَقَدْ بَدَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَقَابُلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ تَعْمَلُونَ فِي عِبَادَتِكُمْ أَصْنَامًا تَنْحِتُونَهَا؟ أَيْ لَا عَمَلَ لَكُمْ يُعْتَبَرُ. وَقِيلَ: مَا نَافِيَةٌ، أَيْ وَمَا أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ شَيْئًا فِي وَقْتِ خَلْقِكُمْ وَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ. وَكَوْنُ مَا مَصْدَرِيَّةً وَاسْتِفْهَامِيَّةً وَنَعْتًا، أَقْوَالٌ مُتَعَلِّقَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ طَرِيقِ الْبَلَاغَةِ. وَلَمَّا غَلَبَهُمْ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِالْحُجَّةِ، مَالُوا إِلَى الْغَلَبَةِ بِقُوَّةِ الشَّوْكَةِ وَالْجَمْعِ فَقَالُوا: ابْنُوا لَهُ بُنْياناً، أَيْ فِي مَوْضِعِ إِيقَادِ النار. وقيل: هو
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٦١.
112
ﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴ ﭑﭒﭓ ﭕﭖﭗﭘ ﱿ ﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥ ﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈ
الْمَنْجَنِيقُ الَّذِي رُمِيَ عَنْهُ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا، فَأَبْطَلَ اللَّهُ مَكْرَهُمْ، وَجَعَلَهُمُ الْأَخْسَرِينَ الْأَسْفَلِينَ، وَكَذَا عَادَةُ مَنْ غُلِبَ بِالْحُجَّةِ رَجَعَ إِلَى الكيد.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٩ الى ١٨٢]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨)
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣)
إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨)
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
113
تَلَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ: صَرَعَهُ عَلَى شِقِّهِ، وَقِيلَ: وَضَعَهُ بِقُوَّةٍ. وَقَالَ سَاعِدَةُ بْنُ حَوْبَةَ:
وَتَلَّ.
تَلِيلًا لِلْجَبِينِ وَلِلْفَمِ وَالْجَبِينَانِ: مَا اكْتَنَفَ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا، وَشَذَّ جَمْعُ الْجَبِينِ عَلَى أَجْبُنٍ، وَقِيَاسُهُ فِي
114
الْقِلَّةِ أَجْبِنَةٌ، كَكَثِيبٍ وَأَكْثِبَةٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ: جَبَنَاتٌ وَجُبُنٌ، كَكُثُبَاتٌ وَكُثُبٌ. الذَّبْحُ: اسْمُ مَا يُذْبَحُ، كَالرَّعْيِ اسْمُ مَا يُرْعَى. أَبَقَ: هَرَبَ. سَاهَمَ: قَارَعَ. الْمُدْحَضُ: الْمَقْلُوبُ.
الْحُوتُ: مَعْرُوفٌ. أَلَامَ: أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَمْ مِنْ مُلِيمٍ لَمْ يُصَبْ بِمُلَامَةٍ وَمُتَّبِعٍ بِالذَّنْبِ لَيْسَ لَهُ ذَنْبُ
الْعَرَاءُ: الْأَرْضُ الْفَيْحَاءُ لَا شَجَرَ فِيهَا وَلَا يُعْلَمُ، قال الشاعر:
رفعت رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا وَنَبَذْتُ بِالْمِينِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي
الْيَقْطِينُ: يَفْعِيلٌ كَالْيَفْصِيدِ، مِنْ قَطَنَ: أَقَامَ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الشَّجَرِ لَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ مِنْ عُودٍ، كَشَجَرِ الْبِطِّيخِ وَالْحَنْظَلِ وَالْقِثَّاءِ. السَّاحَةُ: الْفِنَاءُ، وَجَمْعُهَا سُوحٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَكَانَ سِيَّانِ أَنْ لَا يَسْرَحُوا نَعَمًا أَوْ يَسْرَحُوهُ بِهَا وَاغْبَرَّتِ السُّوحُ
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ.
لَمَّا سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَمِنَ النَّارِ الَّتِي أَلْقَوْهُ فِيهَا، عَزَمَ عَلَى مُفَارَقَتِهِمْ، وَعَبَّرَ بِالذَّهَابِ إِلَى رَبِّهِ عَنْ هِجْرَتِهِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ. كَمَا قَالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي «١»، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَيَتَضَرَّعَ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْقَى مَنْ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ، فَهَاجَرَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ، مِنْ مَمْلَكَةِ نُمْرُودٍ، إِلَى الشَّامِ. وَقِيلَ: إِلَى أَرْضِ مِصْرَ. وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَهَابِهِ الْهِجْرَةَ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ لِقَاءُ اللَّهِ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ، ظَانًّا مِنْهُ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فِي النَّارِ، فَقَالَهَا قَبْلَ أَنْ يطرح في النار. وسَيَهْدِينِ: أَيْ إِلَى الْجَنَّةِ، نَحَا إِلَى هَذَا قَتَادَةُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يَدْفَعُ هَذَا الْقَوْلَ، وَالْمُعْتَقِدُ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي النَّارِ لَا يَدْعُو بِأَنْ يَهِبَ اللَّهُ لَهُ وَلَدًا صَالِحًا.
سَيَهْدِينِ: يُوَفِّقُنِي إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحِي. مِنَ الصَّالِحِينَ: أَيْ وَلَدًا يكون في عداد
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٢٦.
115
الصَّالِحِينَ. وَلَفْظُ الْهِبَةِ غَلَبَ فِي الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِي الْأَخِ، كَقَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا «١». وَاشْتَمَلَتِ الْبِشَارَةُ عَلَى ذُكُورِيَّةِ الْمَوْلُودِ وَبُلُوغِهِ سِنَّ الْحُلُمِ وَوَصْفِهِ بِالْحِلْمِ، وَأَيُّ حِلْمٍ أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهِ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ أَبُوهُ الذَّبْحَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ؟
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَوُلِدَ لَهُ وَشَبَّ. فَلَمَّا بَلَغَ: أي بلغ أَنْ يَسْعَى مَعَ أَبِيهِ فِي أَشْغَالِهِ وَحَوَائِجِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وابن زَيْدٍ: وَالَسَّعْيُ هُنَا: الْعَمَلُ وَالْعِبَادَةُ وَالْمَعُونَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: السَّعْيُ عَلَى الْقَدَمِ، يُرِيدُ سَعْيًا مُتَمَكِّنًا، وَفِيهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِبَلَغَ بِهِ بُلُوغُهُمَا مَعًا حَدَّ السَّعْيِ وَلَا بِالسَّعْيِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ الْمَصْدَرُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ بَيَانًا، كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، أَيِ الْحَدَّ الَّذِي يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى السَّعْيِ، قِيلَ: مَعَ مَنْ؟ فَقَالَ: مَعَ أَبِيهِ، وَالْمَعْنَى فِي اخْتِصَاصِ الْأَبِّ أَنَّهُ أَرْفَقُ النَّاسِ وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَبِمَا عَنَّفَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِسْعَاءِ، فَلَا يَحْتَمِلُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْكِمْ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَطْلُبْ عَوْدَهُ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. انْتَهَى.
قالَ يا بُنَيَّ: نِدَاءُ شَفَقَةٍ وَتَرَحُّمٍ. إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ: أَيْ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ. وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ كَالْيَقَظَةِ، وَذِكْرُهُ لَهُ الرُّؤْيَا تَجْسِيرٌ عَلَى احْتِمَالِ تِلْكَ الْبَلِيَّةِ الْعَظِيمَةِ. وَشَاوَرَهُ بِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ مَاذَا تَرى، وَإِنْ كَانَ حَتْمًا مِنَ اللَّهِ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُ مِنْ تَلَقِّي هَذَا الِامْتِحَانِ الْعَظِيمِ، وَيُصَبِّرَهُ إِنْ جَزَعَ، وَيُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى مُلَاقَاةِ هَذَا الْبَلَاءِ، وَتَسْكُنَ نَفْسُهُ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، إِذْ مُفَاجَأَةُ الْبَلَاءِ قَبْلَ الشُّعُورِ بِهِ أَصْعَبُ عَلَى النَّفْسِ، وَكَانَ مَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْيَقَظَةِ، كَرُؤْيَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ حَالَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ يَقَظَةً وَمَنَامًا سَوَاءٌ فِي الصِّدْقِ مُتَظَافِرَتَانِ عَلَيْهِ.
قِيلَ: إِنَّهُ حِينَ بَشَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ قَالَ: هُوَ إِذَنْ ذَبِيحُ اللَّهِ.
فَلَمَّا بَلَغَ حَدَّ السَّعْيِ مَعَهُ قِيلَ لَهُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ. قِيلَ: رَأَى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ هَذَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ، رَوَّى فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ. أَمِنَ اللَّهِ هَذَا الْحُلْمُ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. فلما أمسى، رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَعَرَفَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ. ثُمَّ رَأَى مِثْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَهَمَّ بِنَحْرِهِ، فسمي يوم النحر.
(١) سورة مريم: ١٩/ ٥٣.
116
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَرى، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَمُجَاهِدٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَعْمَشُ أَيْضًا بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ. فَالْأَوَّلُ مِنَ الرَّأْيِ، وَالثَّانِي مَاذَا تَرَيَنِّيهِ وَمَا تُبْدِيهِ لِأَنْظُرَ فِيهِ؟ وَالثَّالِثُ مَا الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْكَ ويوقع في قلبك؟ وانظر مُعَلَّقَةٌ، وَمَاذَا اسْتِفْهَامٌ. فَإِنْ كَانَتْ ذَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، فما مُبْتَدَأٌ، وَالْفِعْلُ بَعْدَ ذَا صِلَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ ذَا مُرَكَّبَةً، فَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ بَعْدَهَا. وَالْجُمْلَةُ، وَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي هُوَ مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لأنظر. وَلَمَّا كَانَ خِطَابُ الْأَبِّ يَا بُنَيَّ، عَلَى سَبِيلِ التَّرَحُّمِ، قَالَ: هُوَ يَا أَبَتِ، عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ. افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ: أَيْ مَا تُؤْمَرُهُ، حَذَفَهُ وَهُوَ مَنْصُوبٌ، وَأَصْلُهُ مَا تُؤْمَرُ بِهِ، فَحُذِفَ الْحَرْفُ، وَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ مَنْصُوبًا، فَجَازَ حَذْفُهُ لِوُجُودِ شَرَائِطِ الْحَذْفِ فِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أَمَرَكَ، عَلَى إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ هَلْ يُعْتَقَدُ فِي الْمَصْدَرِ الْعَامِلِ أَنْ يَجُوزَ أَنْ يُبْنَى لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونَ مَا بَعْدَهُ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَمْ يَكُونَ ذَلِكَ؟ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ: كَلَامُ مَنْ أُوتِيَ الْحِلْمَ وَالصَّبْرَ وَالِامْتِثَالَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالرِّضَا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ.
فَلَمَّا أَسْلَما: أَيْ لِأَمْرِ اللَّهِ، ويقال: استسلم وسلم بمعناها. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَسْلَمَا.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلَى، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَالثَّوْرِيُّ: سَلَّمَا
: أَيْ فَوَّضَا إِلَيْهِ في قضائه وقدره. وقرىء: اسْتَسْلَمَا، ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي أَسْلَمَا: أَسْلَمَ هَذَا ابْنَهُ، وَأَسْلَمَ هَذَا نَفْسَهُ، فَجَعَلَ أَسْلَمَا مُتَعَدِّيًا، وَغَيْرَهُ جَعَلَهُ لَازِمًا بِمَعْنَى:
انْقَادَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَخَضَعَا لَهُ. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ: أَيْ أَوْقَعَهُ عَلَى أَحَدِ جَنْبَيْهِ فِي الْأَرْضِ مُبَاشِرًا الْأَمْرَ بِصَبْرٍ وَجَلَدٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي بِمِنًى وَعَنِ الْحَسَنِ: فِي الْمَوْضِعِ الْمُشْرِفِ عَلَى مَسْجِدِ مِنًى وَعَنِ الضَّحَّاكِ: فِي الْمَنْحَرِ الَّذِي يُنْحَرُ فِيهِ الْيَوْمَ. وَجَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بَعْدَ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، أَيْ أَجْزَلْنَا أَجْرَهُمَا، قَالَهُ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ بَعْدَ الرُّؤْيا، أَيْ كَانَ مَا كَانَ مِمَّا تنطبق بِهِ الْحَالُ وَلَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ مِنِ اسْتِبْشَارِهِمَا وَحَمْدِهِمَا اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ إِلَى أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابَتِهِ أَوْ قَبْلَ وَتَلَّهُ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْجَوَابُ مُثْبَتٌ، وَهُوَ: وَنادَيْناهُ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ
117
وَتَلَّهُ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ، وَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فُصُولًا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، يُوقِفُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ. وأن مُفَسِّرَةٌ، أَيْ قَدْ صَدَّقْتَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَادَيْنَاهُ قَدْ صَدَّقَتْ، بِحَذْفِ أن وقرىء: صَدَقْتَ، بِتَخْفِيفِ الدَّالِ. وَقَرَأَ فَيَّاضٌ: الرِّيَّا، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْإِدْغَامِ وَتَصْدِيقِ الرُّؤْيَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
بَذَلَ وِسْعَهُ وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُ الذَّابِحُ مِنْ بَطْحِهِ عَلَى شِقِّهِ وَإِمْرَارِ الشَّفْرَةِ عَلَى حَلْقِهِ، لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَاءَ بِمَا مَنَعَ الشَّفْرَةَ أَنْ تَمْضِيَ فِيهِ، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي فِعْلِ إِبْرَاهِيمَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى عَاصِيًا وَلَا مُفَرِّطًا؟ بَلْ يُسَمَّى مُطِيعًا وَمُجْتَهِدًا، كَمَا لَوْ مَضَتْ فِيهِ الشَّفْرَةُ وَفَرَتِ الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَتِ الدَّمَ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ وُرُودِ النَّسْخِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَلَا قَبْلَ أَوَانِ الْفِعْلِ فِي شَيْءٍ، كَمَا يَسْبِقُ إِلَى بَعْضِ الْأَوْهَامِ حَتَّى يَشْتَغِلَ بِالْكَلَامِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
قَدْ صَدَّقْتَ، يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَلْبِكَ عَلَى مَعْنَى: كَانَتْ عِنْدَكَ رُؤْيَاكَ صَادِقَةً حَقًّا مِنَ اللَّهِ فَعَمِلْتَ بِحَسَبِهَا حِينَ آمَنْتَ بِهَا، وَاعْتَقَدْتَ صِدْقَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ: صَدَّقْتَ بِقَلْبِكَ مَا حَصَلَ عَنِ الرُّؤْيَا فِي نَفْسِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ وَفَّيْتَهَا حَقَّهَا مِنَ الْعَمَلِ. انْتَهَى. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ: تَعْلِيلٌ لِتَخْوِيلِ مَا خَوَّلَهُمَا اللَّهُ مِنَ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَالظَّفَرِ بِالْبُغْيَةِ بَعْدَ الْيَأْسِ.
إِنَّ هَذَا: أَيْ مَا آمُرُ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ، لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ: أَيِ الِاخْتِبَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ فِيهِ الْمُخْلِصُونَ وَغَيْرُهُمْ، أَوِ الْمِحْنَةُ الْبَيِّنَةُ الصُّعُوبَةِ الَّتِي لَا مِحْنَةَ أَصْعَبُ مِنْهَا. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ هَابِيلُ فَقُبِلَ مِنْهُ، وَكَانَ يَرْعَى فِي الْجَنَّةِ حَتَّى فُدِيَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَالْحَسَنُ: فُدِيَ بِوَعْلٍ أُهْبِطَ عَلَيْهِ مِنْ سَرْوٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: كَبْشٌ أَبْيَضُ أَقْرَنُ أَقْنَى، وَوُصِفَ بِالْعِظَمِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لِأَنَّهُ مُتَقَبَّلٌ يَقِينًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَبِيدٍ: لِأَنَّهُ جَرَتِ السُّنَّةُ بِهِ، وَصَارَ دِينًا بَاقِيًا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ نَسْلٍ، بَلْ عَنِ التَّكْوِينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: عَظَمَتُهُ كَوْنُهُ مِنْ كِبَاشِ الْجَنَّةِ، رُعِيَ فِيهَا أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَفِي قَوْلِهِ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَذْبَحِ ابْنَهُ، وَقَدْ فُدِيَ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: وَقَعَ الذَّبْحُ وَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَذِبٌ صُرَاحٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
لَمْ يَرَ إِبْرَاهِيمُ فِي مَنَامِهِ الْإِمْرَارَ بِالشَّفْرَةِ فَقَطْ، فَظَنَّ أَنَّهُ ذِبْحٌ مُجَهَّزٌ، فَنَفَّذَ لِذَلِكَ. فَلَمَّا وَقَعَ الَّذِي رَآهُ وَقَعَ النَّسْخُ، قَالَ: وَلَا اخْتِلَافَ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلَى حَلْقِ ابْنِهِ فَلَمْ تَقْطَعْ. انْتَهَى. وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أنه تَلَّهُ لِلْجَبِينِ فَقَطْ، وَلَمْ يَأْتِ فِي حَدِيثٍ
118
صَحِيحٍ أَنَّهُ أَمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلَى حَلْقِ ابْنِهِ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ إِلَى: الْمُؤْمِنِينَ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ، قَبْلَ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ هُنَا، وَقَالَ هُنَا كَذَلِكَ دُونَ إِنَّا، اكْتِفَاءً بِذِكْرِ ذَلِكَ قَبْلُ وَبَعْدُ.
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ بِشَارَةٌ غَيْرُ تِلْكَ الْبِشَارَةِ، وَأَنَّ الْغُلَامَ الْحَلِيمَ الْمُبَشَّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَنَّهُ هُوَ الذَّبِيحُ لَا إِسْحَاقُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَمَاعَةٌ مَنْ التَّابِعِينَ وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ
وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ، وَقَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ لَهُ: يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ، فَتَبَسَّمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ، وَأَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ.
وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ ذَبْحَ أَحَدِ وَلَدِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ أَخْوَالُهُ وَقَالُوا لَهُ: افْدِ ابْنَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَفَدَاهُ بِهَا. وَفِيمَا أَوْحَى اللَّهُ لِمُوسَى فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ، فَإِنَّهُ جَادَ بِدَمِ نَفْسِهِ. وَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَهُودِيًا أَسْلَمَ عن ذلك فقال: أن يهوديا ليعلم، ولكنهم يَحْسُدُونَكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ، وَكَانَ قَرْنَا الْكَبْشِ مَنُوطَيْنِ فِي الْكَعْبَةِ. وَسَأَلَ الْأَصْمَعِيُّ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنِ الذَّبِيحِ فَقَالَ:
يَا أَصْمَعِيُّ، أَيْنَ عَزَبَ عَنْكَ عَقْلُكَ؟ وَمَتَى كَانَ إِسْحَاقُ بِمَكَّةَ؟ وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ مَعَ أَبِيهِ، وَالْمَنْحَرُ بِمَكَّةَ؟ انْتَهَى. وَوَصَفَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ «١»، وَهُوَ صَبْرُهُ عَلَى الذَّبْحِ وَبِصِدْقِ الْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ «٢»، لِأَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى الذَّبْحِ فَوَفَّى بِهِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ، وَيَزْعُمُ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ. وَمِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ، وَوَلَدَ إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ. فَلَوْ كَانَ الذَّبِيحُ إِسْحَاقَ، لَكَانَ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ، وَهُوَ مُحَالٌ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ، مِنْهُمْ: الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٌّ
، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَكَعْبٌ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ، وَكَانَ أَمْرَ ذَبْحِهِ بِالشَّامِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقِيلَ: بِالْحِجَازِ، جَاءَ مَعَ أَبِيهِ عَلَى الْبُرَاقِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ: وَكَانَ أَمْرَ ذَبْحِهِ بِالشَّامِ، كَانَ بِالْمَقَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْبِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ، هِيَ بِشَارَةُ نُبُوَّتِهِ. وَقَالُوا: أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ هَاجَرَ إِلَى الشَّامِ بِأَنَّهُ اسْتَوْهَبَهُ وَلَدًا، ثُمَّ أَتْبَعَ تِلْكَ الْبِشَارَةَ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ،
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٨٥.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٥٤.
119
ثُمَّ ذَكَرَ رُؤْيَاهُ بِذَبْحِ ذَلِكَ الْغُلَامِ الْمُبَشَّرِ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
كِتَابُ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: مِنْ يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلَ اللَّهِ ابْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ ابن إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ.
وَمَنْ جَعَلَ الذَّبِيحَ إِسْحَاقَ، جَعَلَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ بِشَارَةً بِنُبُوَّتِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَشِّرَهُ اللَّهُ بِوِلَادَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ مَعًا، لِأَنَّ الِامْتِحَانَ بِذَبْحِهِ لَا يَصِحُّ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ نَبِيًّا.
وَمَنْ جَعَلَهُ إِسْمَاعِيلَ، جَعَلَ الْبِشَارَةَ بِوَلَدِهِ إِسْحَاقَ. وَانْتَصَبَ نَبِيًّا عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. فَإِنْ كَانَ إِسْحَاقُ هُوَ الذَّبِيحَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ بِوِلَادَةِ إِسْحَاقَ، فَقَدْ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ مَحَلَّ سُؤَالٍ. فَإِنْ قُلْتَ: فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَقَوْلِهِ: فَادْخُلُوها خالِدِينَ «١»، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدْخُولَ مَوْجُودٌ مَعَ وُجُودِ الدُّخُولِ، وَالْخُلُودَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَهُمَا، فَقَدَّرْتَ مُقَدَّرَيْنِ لِلْخُلُودِ، فَكَانَ مُسْتَقِيمًا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُبَشَّرُ بِهِ، فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ وَقْتَ وُجُودِ الْبِشَارَةِ، وَعَدَمُ الْمُبَشَّرِ بِهِ أَوْجَبَ عَدَمَ حَالِهِ، لِأَنَّ الْحَالَ حِلْيَةٌ لَا تَقُومُ إِلَّا بِالْمَحَلِّيِّ. وَهَذَا الْمُبَشَّرُ بِهِ الَّذِي هُوَ إِسْحَاقُ، حِينَ وُجِدَ لَمْ تُوجَدِ النُّبُوَّةُ أَيْضًا بِوُجُودِهِ، بَلْ تَرَاخَتْ عَنْهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَكَيْفَ يُجْعَلُ نَبِيًّا حَالًا مُقَدَّرَةً؟ وَالْحَالُ صِفَةٌ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلِ مِنْهُ أَوْ بِهِ. فَالْخُلُودُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِفَتَهُمْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَتَقْدِيرُهَا صِفَتُهُمْ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ النُّبُوَّةُ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً وَقْتَ وُجُودِ الْبِشَارَةِ بِإِسْحَاقَ لِعَدَمِ إِسْحَاقَ.
قُلْتُ: هَذَا سُؤَالٌ دَقِيقُ السَّلْكِ ضَيِّقُ الْمَسْلَكِ، وَالَّذِي يَحُلُّ الْإِشْكَالَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَبَشَّرْناهُ بِوُجُودِ إِسْحَاقَ نَبِيًّا، أَيْ بِأَنْ يُوجَدَ مُقَدَّرَةً نُبُوَّتُهُ، فَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ الْوُجُودُ، لَا فِعْلُ الْبِشَارَةِ وَبِذَلِكَ يَرْجِعُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ «٢»، مِنَ الصَّالِحِينَ «٣»، حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَوُرُودُهَا عَلَى سَبِيلِ الثَّنَاءِ وَالتَّقْرِيظِ، لِأَنَّ كُلُّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ. انْتَهَى.
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ: أَفَضْنَا عَلَيْهِمَا بَرَكَاتِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَبِأَنْ أَخْرَجْنَا أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ صُلْبِهِ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ: فِيهِ وَعِيدٌ لِلْيَهُودِ وَمَنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَرَّ قَدْ يَلِدُ الْفَاجِرَ، وَلَا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ عَيْبٌ وَلَا مَنْقَصَةٌ.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ
(١- ٢) سورة الزمر: ٣٩/ ٧٣.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ٣٩ وغيرها من السور. [.....]
120
الْمُسْتَقِيمَ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ: تَعَبُّدِ الْقِبْطِ لَهُمْ، ثُمَّ خَوْفِهِمْ مِنْ جَيْشِ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ الْبَحْرِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي وَنَصَرْناهُمْ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمِهِمَا وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ فَقَطْ، تَعْظِيمًا لَهُمَا بِكِنَايَةِ الجماعة. وهُمُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا وَتَوْكِيدًا أَوْ بَدَلًا. والْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ: التَّوْرَاةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «١». والصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ: هُوَ الْإِسْلَامُ وَشَرْعُ الله. وإِلْياسَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ: هُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَنَقَلُوا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَالْمِنْهَالِ بْنِ عُمَرَ، وَالْحَكَمِ بْنِ عتيبة الكوفي أنهم قرأوا: وَإِنَّ إِدْرِيسَ لِمَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عِنْدِي عَلَى تَفْسِيرِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَفِيضُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَإِنَّ إِلْياسَ، وَأَيْضًا تَفْسِيرُهُ إِلْيَاسَ بِأَنَّهُ إِدْرِيسُ لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، لِأَنَّ إِدْرِيسَ فِي التَّارِيخِ الْمَنْقُولِ كَانَ قَبْلَ نُوحٍ. وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ذُكِرَ إِلْيَاسُ، وَأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا «٢»، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ «٣»، وَذَكَرَ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ إِلْيَاسَ، وَقِيلَ: إِلْيَاسُ مِنْ أَوْلَاد هَارُونَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ إلياس بن ياسين ابن فِنْحَاصِ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنَّ إِلْياسَ، بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَكْسُورَةٍ.
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ:
بِوَصْلِ الْأَلِفِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ وَصَلَ هَمْزَةَ الْقَطْعِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ يَاسَا، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ أَلْ، كَمَا دَخَلَتْ عَلَى الْيَسَعَ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ وَمُصْحَفِهِ: وإن إبليس، بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، بَعْدَهَا يَاءٌ ساكنة، بعدها لام مكسورة، بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَسِينٌ مفتوحة. وقرىء: وَإِنَّ إِدْرَاسَ، لُغَةً فِي إِدْرِيسَ، كَإِبْرَاهَامَ فِي إِبْرَاهِيمَ.
(١) سورة المائدة: ٥/ ٤٤.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٨٤.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ٨٤.
121
أَتَدْعُونَ بَعْلًا: أَيْ أَتَعْبُدُونَ بَعْلًا، وَهُوَ عَلَمٌ لِصَنَمٍ لَهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ. قِيلَ: وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ، طُولُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، فُتِنُوا بِهِ وَعَظَّمُوهُ حَتَّى أَخَدَمُوهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَادِنٍ وَجَعَلُوهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ بَعْلٍ وَيَتَكَلَّمُ بِشَرِيعَةِ الضَّلَالَةِ، وَالسَّدَنَةُ يَحْفَظُونَهَا وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاسَ، وَهُمْ أَهْلُ بَعْلَبَكَّ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَبِهِ سُمِّيَتْ مَدِينَتُهُمْ بَعْلَبَكَّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ: الْبَعْلُ: الرَّبُّ بِلُغَةِ الْيَمَنِ. وَسَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَنَا بَعْلُهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا؟ وَيُقَالُ: مَنْ بَعْلُ هَذِهِ الدَّارِ، أَيْ رَبُّهَا؟ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَتَعْبُدُونَ بَعْضَ الْبُعُولِ وَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ؟ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ بَعْلًا اسْمُ امْرَأَةٍ أَتَتْهُمْ بضلالة فاتبعوها. وقرىء:
أَتَدْعُونَ بَعْلَاءَ، بِالْمَدِّ عَلَى وَزْنِ حَمْرَاءَ، وَيُؤْنِسُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ اسْمُ امْرَأَةٍ.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ، بِالنَّصْبِ فِي الثَّلَاثَةِ بَدَلًا مِنْ أَحْسَنَ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ إِنْ قُلْنَا إِنَّ إِضَافَةَ التَّفْضِيلِ مَحْضَةٌ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالرَّفْعِ، أَيْ هُوَ اللَّهُ أَوْ يَكُونُ اسْتِئْنَافًا مُبْتَدَأً وَرَبُّكُمْ خَبَرُهُ. وَرُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ أَنَّهُ إِذَا وُصِلَ نُصِبَ، وَإِذَا قُطِعَ رُفِعَ. فَكَذَّبُوهُ: أَيْ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ، إِمَّا فِي قَوْلِهِ: اللَّهَ رَبَّكُمْ هذه النسب، أَوْ فَكَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَتَرْكِ الصَّنَمِ وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ.
وَمُحْضَرُونَ: مَجْمُوعُونَ لِلْعَذَابِ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ: اسْتِثْنَاءٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ قَوْمِهِ مُخَلَصِينَ لَمْ يُكَذِّبُوهُ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ ضَمِيرِ فَكَذَّبُوهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكُونُونَ مُنْدَرِجِينَ فِيمَنْ كَذَّبَ، وَيَكُونُونَ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: لَكِنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مِنْ غَيْرِ قَوْمِهِ لَا يَحْضُرُونَ لِلْعَذَابِ، وَلَا مَسِيسَ لِهَؤُلَاءِ الْمَمْسُوسِينَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِيهَا قِصَّةُ إِلْيَاسَ هَذِهِ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: عَلَى آلِ يَاسِينَ. وَزَعَمُوا أَنَّ آلَ مَفْصُولَةٌ فِي الْمُصْحَفِ، وَيَاسِينَ اسْمٌ لِإِلْيَاسَ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِأَبِي إِلْيَاسَ، لِأَنَّهُ إِلْيَاسُ بْنُ يَاسِينَ، وَآلُ يَاسِينَ هُوَ ابْنُهُ إِلْيَاسُ.
وَقِيلَ: يَاسِينُ هُوَ اسْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: عَلى إِلْ ياسِينَ، بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، أَيْ إِلِيَاسِينَ، جَمَعَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى إِلْيَاسَ مَعَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ كَانَ اتَّبَعَهُ عَلَى الدِّينِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ نُسِبَ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ إِلْيَاسُ، فَلَمَّا جُمِعَتْ، خُفِّفَتْ يَاءُ النِّسْبَةِ بِحَذْفِ إِحْدَاهُمَا كَرَاهَةَ التَّضْعِيفِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ:
الْيَاءُ فِيهِ وَحَرْفُ الْعِلَّةِ الَّذِي لِلْجَمْعِ، فَحُذِفَتْ لِالْتِقَائِهِمَا، كَمَا قَالُوا: الْأَشْعَرُونَ وَالْأَعْجَمُونَ
122
وَالْخَبِيبُونَ وَالْمُهَلَّبُونَ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو أَنَّ مُنَادِيًا نَادَى يَوْمَ الْكِلَابِ: هَلَكَ الْيَزِيدِيُّونَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ كَانَا جَمْعًا، لَعُرِّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ: عَلَى الْيَاسِينَ، بِوَصْلِ الْأَلِفِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ يُرَادُ بِهِ إِلْيَاسُ وَقَوْمُهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَحُذِفَتْ يَاءُ النَّسَبِ، كَمَا قَالُوا: الْأَشْعَرُونَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ، وَاسْمُهُ عَلَى هَذَا يَاسُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ أَنَّهُ قَرَأَ إِدْرِيسَ: سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: وَإِنَّ إِدْرِيسَ.
وَقَرَأَ: عَلِيٌّ إِدْرَسِينَ.
وَقَرَأَ ابْنُ عليّ: إبليس، كقراءته وإن إبليس لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِلَّا عَجُوزاً: هِيَ امْرَأَةُ لُوطٍ، وَكَانَتْ كَافِرَةً، إِمَّا مُسْتَتِرَةً بِالْكُفْرِ، وَإِمَّا مُعْلِنَةً بِهِ. وَكَانَ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّاتِ عِنْدَهُمْ جَائِزًا. مُصْبِحِينَ
: أَيْ دَاخِلِينَ فِي الْإِصْبَاحِ. وَالْخِطَابُ فِي وَإِنَّكُمْ
لِقُرَيْشٍ، وَكَانَتْ مَتَاجِرُهُمْ إِلَى الشَّامِ عَلَى مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ. أَفَلا تَعْقِلُونَ
، فَتَعْتَبِرُونَ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ.
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ، فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ، أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ، أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ، فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
يُونُسُ بْنُ مَتَّى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَرُوِيَ أنه نبىء وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ، فَدَعَاهُمْ لِلْإِيمَانِ فَخَالَفُوهُ، فَوَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِيَوْمِهِ، فَحَدَّدَهُ يُونُسُ لَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ قَوْمَهُ لَمَّا رَأَوْا مَخَايِلَ الْعَذَابِ قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَهُمْ تَابُوا وَآمَنُوا، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَصَرَفَ الْعَذَابَ عَنْهُمْ.
وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قِصَّتِهِ، وَأَعَدْنَا طَرَفًا مِنْهَا لِيُفِيدَ مَا بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ.
قِيلَ: وَلَحِقَ يُونُسَ غَضَبٌ، فَأَبِقَ إِلَى رُكُوبِ السَّفِينَةِ فِرَارًا مِنْ قَوْمِهِ
، وَعَبَّرَ عَنِ الْهُرُوبِ بِالْإِبَاقِ، إِذْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، خَرَجَ فَارًّا مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا أَبْعَدَتِ السَّفِينَةُ فِي الْبَحْرِ، وَيُونُسُ فِيهَا، رَكَدَتْ. فَقَالَ أَهْلُهَا: إِنَّ فِيهَا لَمَنْ يَحْبِسُ اللَّهُ السَّفِينَةَ بِسَبَبِهِ، فَلْنَقْتَرِعْ. فَأَخَذُوا لِكُلٍّ سَهْمًا، عَلَى أَنَّ مَنْ طَفَا سَهْمُهُ فَهُوَ، وَمَنْ غَرِقَ سَهْمُهُ فَلَيْسَ إِيَّاهُ، فَطَفَا سَهْمُ يُونُسَ. فَعَلُوا ذَلِكَ ثَلَاثًا، تَقَعُ الْقَرْعَةُ عَلَيْهِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَطْرَحُوهُ. فَجَاءَ إِلَى رُكْنٍ مِنْهَا لِيَقَعَ مِنْهَا، فَإِذَا بِدَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ تَرْقُبُهُ وَتَرْصُدُ لَهُ. فَانْتَقَلَ
123
إِلَى الرُّكْنِ الْآخَرِ، فَوَجَدَهَا حَتَّى اسْتَدَارَ بِالْمَرْكَبِ وَهِيَ لَا تُفَارِقُهُ، فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَتَرَامَى إِلَيْهَا فَالْتَقَمَتْهُ.
فَفِي قِصَّةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَا جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ مُقَدَّرَةٌ قَبْلَ ذِكْرِ فِرَارِهِ إِلَى الْفُلْكِ، كَمَا فِي قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً «١» هُوَ مَا بَعْدَ هَذَا، وَقَوْلِهِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ «٢»، جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْضًا. وَبِمَجْمُوعِ الْقَصَصِ يَتَبَيَّنُ مَا حُذِفَ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا.
فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
: مِنَ الْمَغْلُوبِينَ، وَحَقِيقَتُهُ مِنَ الْمُزْلَقِينَ عَنْ مَقَامِ الظَّفَرِ في الاستفهام. وقرىء: وَهُوَ مُلِيمٌ، بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقِيَاسُهُ مَلُومٌ، لِأَنَّهُ مِنْ لُمْتُهُ أَلُومُهُ لَوْمًا، فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَلَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ عَلَى أَلِيمٍ، كَمَا قَالُوا: مَشِيبٌ وَمَدْعِيٍّ فِي مَشُوبٍ، وَمَدْعُوٍّ بِنَاءً عَلَى شَيَبَ وَدَعَى. مِنَ الْمُسَبِّحِينَ: مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «٣». وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَ اللَّهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: تَسْبِيحُهُ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ:
صَلَاتُهُ فِي وَقْتِ الرَّخَاءِ تَنْفَعُهُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى مِنْبَرِهِ: اذْكُرُوا اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ فِي الشِّدَّةِ، إِنَّ يُونُسَ كَانَ عَبْدًا ذَاكِرًا، فَلَمَّا أَصَابَتْهُ الشِّدَّةُ نَفَعَهُ ذَلِكَ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: تَسْبِيحُهُ: صَلَاتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ لَحْمَ الْحُوتِ بِيَدَيْهِ يَقُولُ: لَأَبْنِيَنَّ لَكَ مَسْجِدًا حَيْثُ لَمْ يَبْنَهِ أَحَدٌ قَبْلِي.
وَرُوِيَ أَنَّ الْحُوتَ سَافَرَ مَعَ السَّفِينَةِ رَافِعًا رَأْسَهُ لِيَتَنَفَّسَ وَيُونُسُ يُسَبِّحُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُمْ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَرِّ، فَلَفَظَهُ سَالِمًا لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَسْلَمُوا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَعَنْ قَتَادَةَ: لَكَانَ بَطْنُ الْحُوتِ لَهُ قَبْرًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَذُكِرَ فِي مُدَّةِ لَبْثِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَقْوَالًا مُتَكَاذِبَةً، ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا. وَهُوَ سَقِيمٌ:
رُوِيَ أَنَّهُ عَادَ بَدَنُهُ كَبَدَنِ الصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: الْيَقْطِينُ: الْقَرْعُ خَاصَّةً، قِيلَ: وَهِيَ الَّتِي أَنْبَتَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَتَجْمَعُ خِصَالًا، بَرَدُ الظِّلِّ، وَنُعُومَةُ الْمَلْمَسِ، وَعِظَمُ الْوَرَقِ، وَالذُّبَابُ لَا يَقْرَبُهَا. قِيلَ: وَمَاءُ وَرَقِهِ إِذَا رُشَّ بِهِ مَكَانٌ لَمْ يَقْرَبْهُ ذُبَابٌ، وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٨٧.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٨٧.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٨٧.
124
فَأَنْبَتَ يَقْطِينًا عَلَيْهِ بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ أَلْفَى ضِيَاعِيَا
وَفِيمَا
رُوِيَ: إِنَّكَ لَتُحِبُّ الْقَرْعَ، قَالَ: أَجَلْ، هِيَ شَجَرَةُ أَخِي يُونُسَ.
وَقِيلَ: هِيَ شَجَرَةُ الْمَوْزِ، تَغَطَّى بِوَرَقِهَا، وَاسْتَظَلَّ بِأَغْصَانِهَا، وَأَفْطَرَ عَلَى ثِمَارِهَا. ومعنى أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ مِنْ عُودٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْبَتَهَا ذَاتَ سَاقٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا وَبِوَرَقِهَا، خَرْقًا لِلْعَادَةِ، فَنَبَتَ وَصَحَّ وَحَسُنَ وَجْهُهُ، لِأَنَّ وَرَقَ الْقَرْعِ أَنْفَعُ شَيْءٍ لِمَنْ يَنْسَلِخُ جِلْدُهُ.
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، قَالَ الْجُمْهُورُ: رِسَالَتُهُ هَذِهِ هِيَ الْأُولَى الَّتِي أَبِقَ بَعْدَهَا، ذَكَرَهَا آخِرَ الْقَصَصِ تَنْبِيهًا عَلَى رِسَالَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ، وَتَمْتِيعُ تِلْكَ الْأُمَّةِ هُوَ الَّذِي أَغْضَبَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى أَبَقَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ:
هِيَ رِسَالَةٌ أُخْرَى بَعْدَ أَنْ نَبَذَهُ بِالْعَرَاءِ، وَهِيَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ نَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ مَا سَبَقَ مِنْ إِرْسَالِهِ إِلَى قَوْمِهِ، وَهُمْ أَهْلُ نِينَوَى. وَقِيلَ: هُوَ إِرْسَالٌ ثَانٍ بَعْدَ مَا جَرَى إِلَيْهِ إِلَى الْأَوَّلِينَ، أَوْ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: أَسْلَمُوا فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فَأَبَى، لِأَنَّ النَّبِيَّ إِذَا هَاجَرَ عَنْ قَوْمِهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ مُقِيمًا فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ بَاعِثٌ إِلَيْكُمْ نَبِيًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَعْنَى بَلْ.
وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْوَاوِ وَبِالْوَاوِ، وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ.
وَقِيلَ: لِلْإِبْهَامِ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ: الْمَعْنَى عَلَى نَظَرِ الْبَشَرِ، وَحَزْرِهِمْ أَنَّ مَنْ وَرَاءَهُمْ قَالَ: هُمْ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. قَالَ: أَوْ يَزِيدُونَ فِي مَرْأَى النَّاظِرِ، إِذَا رَآهَا الرَّائِي قَالَ: هِيَ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ أَكْثَرُ. وَالْغَرَضُ الْوَصْفُ بِالْكَثْرَةِ، وَالزِّيَادَةُ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ سَبْعُونَ أَلْفًا، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ
أَوْ عِشْرُونَ أَلْفًا، رَوَاهُ أُبَيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، وَإِذَا صَحَّ بَطَلَ مَا سِوَاهُ.
فَآمَنُوا: رُوِيَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِالْأَطْفَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْبَهَائِمِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُمَّهَاتِ، وَنَاحُوا وَضَجُّوا وَأَخْلَصُوا، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالتَّمَتُّعُ هُنَا هُوَ بِالْحَيَاةِ، وَالْحِينُ آجَالُهُمُ السَّابِقَةُ فِي الْأَزَلِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَالضَّمِيرُ فِي فَاسْتَفْتِهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْطُوفٌ عَلَى مِثْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ بَيْنَهُمَا الْمَسَافَةُ. أَمَرَ رَسُولَهُ بِاسْتِفْتَاءِ قُرَيْشٍ عَنْ وَجْهِ إِنْكَارِ الْبَعْثِ أَوَّلًا، ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ مَوْصُولًا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِاسْتِفْتَائِهِمْ عَنْ وَجْهِ الْقِسْمَةِ الضِّيزَى. انْتَهَى. وَيَبْعُدُ مَا قَالَهُ مِنَ الْعَطْفِ.
وَإِذَا كَانُوا عَدُّوا الْفَصْلَ بِجُمْلَةٍ مِثْلَ قَوْلِكَ: كُلْ لَحْمًا وَاضْرِبْ زَيْدًا وَخُبْزًا، مِنْ أَقْبَحِ
125
التَّرْكِيبِ، فَكَيْفَ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ وَقِصَصٍ مُتَبَايِنَةٍ؟ فَالْقَوْلُ بِالْعَطْفِ لَا يَجُوزُ، وَالِاسْتِفْتَاءُ هُنَا سُؤَالٌ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِمُ الْبُهْتَانَ عَلَى اللَّهِ، حَيْثُ جَعَلُوا لِلَّهِ الْإِنَاثَ فِي قَوْلِهِمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لَهُنَّ، وَوَأْدِهِمْ إِيَّاهُنَّ، وَاسْتِنْكَافِهِمْ مَنْ ذَكَرَهُنَّ.
وَارْتَكَبُوا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكُفْرِ: التَّجْسِيمُ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَجْسَامِ وَتَفْضِيلُ أَنْفُسِهِمْ، حَيْثُ نَسَبُوا أَرْفَعَ الْجِنْسَيْنِ لَهُمْ وَغَيْرَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَاسْتِهَانَتُهُمْ بِمَنْ هُوَ مُكَرَّمٌ عِنْدَ اللَّهِ، حَيْثُ أَنَّثُوهُمْ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
بَدَأَ أَوَّلًا بِتَوْبِيخِهِمْ عَلَى تَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ، وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ:
أَلِرَبِّكُمْ، لِمَا فِي تَرْكِ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ مِنْ تَحْسِينِهِمْ وَشَرَفِ نَبِيِّهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وَثَنَّى بِأَنَّ نِسْبَةَ الْأُنُوثَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ يَقْتَضِي الْمُشَاهَدَةَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ: أَيْ خَلَقْنَاهُمْ وَهُمْ لَا يَشْهَدُونَ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي الْأُخْرَى:
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «١» وَكَمَا قَالَ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ «٢». ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ ثَالِثًا بِأَعْظَمِ الْكُفْرِ، وَهُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ وَلَدَ، فَبَلَغَ إِفْكُهُمْ إِلَى نِسْبَةِ الْوَلَدِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا فَاحِشًا قَالَ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَاحْتَمَلَ أَنْ تُخَصَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِمْ وَلَدَ اللَّهُ، وَيَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: مِنْ إِفْكِهِمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُمَّ هَذَا الْقَوْلَ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَالَ: وَهُمْ شاهِدُونَ، فَخَصَّ عِلْمَهُمْ بِالْمُشَاهَدَةِ؟ قُلْتُ: مَا هُوَ إِلَّا اسْتِهْزَاءٌ وَتَجْهِيلٌ كَقَوْلِهِ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «٣»، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَمَا لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ، لَمْ يَعْلَمُوهُ بِخَلْقِ اللَّهِ عِلْمَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا بِإِخْبَارٍ صَادِقٍ، لَا بِطْرِيقِ اسْتِدْلَالٍ وَلَا نَظَرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، كَالْقَائِلِ قَوْلًا عَنْ ثَلَجِ صَدْرٍ وَطُمَأْنِينَةِ نَفْسٍ لِإِفْرَاطِ جَهْلِهِمْ، كَأَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا خَلْقَهُ. وَقُرِأَ: وَلَدَ اللَّهُ: أَيِ الْمَلَائِكَةُ وَلَدُهُ، وَالْوَلَدُ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. تَقُولُ: هَذِهِ وَلَدِي، وَهَؤُلَاءِ وَلَدِي. انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَصْطَفَى، بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ وَابْنُ جَمَّازٍ وَجَمَاعَةٌ، وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ: بِوَصْلِ الْأَلِفِ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ. حَكَى اللَّهُ تَعَالَى شَنِيعَ قَوْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ مَا كَفَاهُمْ أَنْ قَالُوا وَلَدَ اللَّهُ، حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ الْوَلَدَ بَنَاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى اخْتَارَهُمْ عَلَى الْبَنِينَ. وَقَالَ
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ١٩.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٥١.
(٣) سورة الزخرف: ٤٣/ ١٩.
126
الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِمْ وَلَدَ اللَّهُ، وَقَدْ قَرَأَ بِهَا حَمْزَةُ وَالْأَعْمَشُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مَحْمَلَهَا، فَهِيَ ضَعِيفَةٌ وَالَّذِي أَضْعَفَهَا أَنَّ الْإِنْكَارَ قَدِ اكْتَنَفَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ جَانِبَيْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. فَمَنْ جَعَلَهَا لِلْإِثْبَاتِ فَقَدْ أَوْقَعَهَا دَخِيلَةً بَيْنَ سَبَبَيْنِ، وَلَيْسَتْ دَخِيلَةً بَيْنَ نَسِيبَيْنِ، بَلْ لَهَا مُنَاسَبَةٌ ظَاهِرَةٌ مَعَ قَوْلِهِمْ وَلَدَ اللَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، فَهِيَ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ مَقَالَتَيِّ الْكُفْرِ، جَاءَتْ لِلتَّشْدِيدِ وَالتَّأْكِيدِ فِي كَوْنِ مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ هِيَ مِنْ إِفْكِهِمْ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ: تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ وَاسْتِفْهَامٌ عَنِ الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: تَذْكُرُونَ، بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ. أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ: أَيْ حُجَّةٌ نَزَلَتْ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَخَبَرٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ. فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
، الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً «١»، فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ.
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ، مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ، وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ، وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ، لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ، فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
الظَّاهِرُ أَنَّ الْجِنَّةَ هُمُ الشَّيَاطِينُ، وَعَنِ الْكُفَّارِ فِي ذَلِكَ مَقَالَاتٌ شَنِيعَةٌ. مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى صَاهَرَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، فَوَلَدَ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ فِرْقَةٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَشَافَهَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْكُفَّارِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ: أَيِ الشَّيَاطِينُ، أَنَّهَا مُحْضَرَةٌ أَمْرَ اللَّهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا فُسِّرَتِ الْجِنَّةُ بِالشَّيَاطِينِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ عَالِمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُحْضِرُهُمُ النَّارَ وَيُعَذِّبُهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مُنَاسِبِينَ لَهُ، أَوْ شُرَكَاءَ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ، لَمَا عَذَّبَهُمْ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَجَعَلُوا لِفِرْقَةٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ، وَالْجِنَّةُ: الْمَلَائِكَةُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِاجْتِنَانِهِمْ وَخَفَائِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ وَضْعًا منهم
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٣٥.
127
وَتَصْغِيرًا لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُعَظَّمِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَةَ الْمُنَاسَبَةِ الَّتِي أَضَافُوهَا إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ صِفَتُهُ الِاجْتِنَانُ وَالِاسْتِتَارُ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْرَامِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُنَاسِبَ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. انْتَهَى.
وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ: أَيِ الْمَلَائِكَةُ، إِنَّهُمْ: أَيِ الْكَفَرَةُ الْمُدَّعِينَ نِسْبَةً بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، مُحْضَرُونَ النَّارَ، يُعَذَّبُونَ بِمَا يَقُولُونَ. وَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِ مَنْ نُسِبُوا لِذَلِكَ، مُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِ النَّاسِبِينَ. ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ عن الْوَصْفِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِصِفَاتِهِ. وَأَمَّا مِنَ الْمُحْضَرُونَ، أَيْ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ نَاجُونَ مُدَّةَ الْعَذَابِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ التَّنْزِيهِ اعْتِرَاضًا عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِي وَما تَعْبُدُونَ لِلْعَطْفِ، عَطَفَتْ مَا تَعْبُدُونَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي إِنَّكُمْ، وَأَنَّ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَا، وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: وَمَا تَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ مَا أَنْتُمْ وَهُمْ، وَغَلَبَ الْخِطَابُ. كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ وَزَيْدٌ تَخْرُجَانِ عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى عِبَادَةِ مَعْبُودِكُمْ. بِفاتِنِينَ: أَيْ بِحَامِلِينَ بِالْفِتْنَةِ عِبَادَهُ، إِلَّا مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، كَمَا قُلْنَا، أَيْ عَلَى عِبَادَتِهِ. وَضُمِّنَ فَاتِنِينَ معنى: حاملين بالفتنة، ومن مفعولة بفاتنين، فُرِّغَ لَهُ الْعَامِلُ إِذْ لم يكن بفاتنين مَفْعُولًا. وَقِيلَ: عَلَيْهِ بِمَعْنَى: أَيْ مَا أَنْتُمْ بِالَّذِي تعبدون بفاتنين، وبه متعلق بفاتنين، الْمَعْنَى: مَا أَنْتُمْ فَاتِنِينَ بِذَلِكَ الَّذِي عَبَدْتُمُوهُ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَدَرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ، قَالَ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَفْتِنُونَهُمْ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: يُفْسِدُونَهُمْ عَلَيْهِ بِإِغْوَائِهِمْ وَاسْتِهْوَائِهِمْ مِنْ قَوْلِكَ: فَتَنَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ امْرَأَتَهُ، كَمَا تَقُولُ: أَفْسَدَهَا عَلَيْهِ وَخَيَّبَهَا عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي وَما تَعْبُدُونَ بِمَعْنَى مَعَ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِمْ: كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتُهُ. فَكَمَا جَازَ السُّكُوتُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ وَضَيْعَتُهُ، جَازَ أَنْ يُسْكَتَ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما تَعْبُدُونَ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَإِنَّكُمْ مَعَ مَا تَعْبُدُونَ، وَالْمَعْنَى: فَإِنَّكُمْ مَعَ آلِهَتِكُمْ، أَيْ فَإِنَّكُمْ قُرَنَاؤُهُمْ وَأَصْحَابُهُمْ لَا تَبْرَحُونَ تَعْبُدُونَهُمْ. ثُمَّ قَالَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى مَا تَعْبُدُونَ، بِفاتِنِينَ: بِبَاعِثِينَ أَوْ حَامِلِينَ عَلَى طَرِيقِ الْفِتْنَةِ وَالْإِضْلَالِ، إِلَّا مَنْ هُوَ ضَالٌّ مِنْكُمْ.
انْتَهَى. وَكَوْنُ الْوَاوِ فِي وَما تَعْبُدُونَ وَاوَ مَعَ غَيْرُ مُتَبَادِرٍ إِلَى الذِّهْنِ، وَقَطْعُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ عَنْ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ اتِّصَافَهُ بِهِ هُوَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى، فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ.
128
وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي عبلة: صالو الْجَحِيمَ بِالْوَاوِ، وَهَكَذَا فِي كِتَابِ الْكَامِلِ لِلْهُذَلِيِّ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ عَنْهُمَا: صَالَ مَكْتُوبًا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ الحسن: صالو مَكْتُوبًا بِالْوَاوِ وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ وَكِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ عَنِ الْحَسَنِ: صَالَ مَكْتُوبًا بِغَيْرِ وَاوٍ. فَمَنْ أَثْبَتَ الْوَاوَ فَهُوَ جَمْعُ سَلَامَةٍ سَقَطَتِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ. حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ فَأُفْرِدَ، ثُمَّ ثَانِيًا عَلَى مَعْنَاهَا فَجُمِعَ، كَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «١»، حُمِلَ فِي يَقُولُ عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَفِي وَمَا هُمْ عَلَى الْمَعْنَى، وَاجْتَمَعَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ صِلَةٌ لِلْمَوْصُولِ، كَقَوْلِهِ:
إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «٢». وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامَا وَمَنْ لَمْ يُثْبِتِ الْوَاوَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَحُذِفَتِ الْوَاوُ خَطَأً، كَمَا حُذِفَتْ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ لَفْظًا لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صَالَ مُفْرَدًا حُذِفَتْ لَامُهُ تَخْفِيفًا، وَجَرَى الْإِعْرَابُ فِي عَيْنِهِ، كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ «٣»، وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ «٤»، بِرَفْعِ النُّونِ وَالْجَوَارِ، وَقَالُوا: مَا بَالَيْتُ بِهِ بَالَةً، أَيْ بَالِيَةً مِنْ بَالَى، كَعَافِيَةٍ مِنْ عَافَى، فَحُذِفَتْ لَامُ بَالَيْتُ وَبَالِيَةٍ. وَقَالُوا بَالَةٌ وَبَالٍ، بِحَذْفِ اللَّامِ فِيهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ وَجَّهَ نَحْوًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَجَعَلَهُمَا أَوَّلًا وَثَالِثًا فَقَالَ: وَالثَّانِي أَنْ يكون أصله صائل عَلَى الْقَلْبِ، ثُمَّ يُقَالُ: صَالٌ فِي صَائِلٍ، كَقَوْلِهِمْ: شَاكٌّ فِي شَائِكٍ.
انْتَهَى. وَما مِنَّا: أَيْ أَحَدٌ، إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ: أَيْ مَقَامٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، مَقْصُورٌ عَلَيْهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ. كَمَا رُوِيَ: فَمِنْهُمْ رَاكِعٌ لَا يُقِيمُ ظَهْرَهُ، وَسَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْجِنَّةَ هم الملائكة تبرؤوا عَنْ مَا نَسَبَ إِلَيْهِمُ الْكَفَرَةُ مِنْ كَوْنِهِمْ بَنَاتِ اللَّهِ، وَأَخْبَرُوا عَنْ حَالِ عُبُودِيَّتِهِمْ، وَعَلَى أَيِّ حَالَةٍ هُمْ فِيهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ السَّمَاءَ مَا فِيهَا مَوْضِعٌ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ وَاقِفٌ يُصَلِّي»
، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ أَوْ قَدَمَاهُ»، وَحَذْفُ الْمُبْتَدَأِ مَعَ مِنْ جَيِّدٌ فَصِيحٌ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ «٥»، أَيْ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أحد.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٨.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١١١.
(٣) سورة الرحمن: ٥٥/ ٥٤.
(٤) سورة الرحمن: ٥٥/ ٢٤. [.....]
(٥) سورة النساء: ٤/ ١٥٩.
129
وَقَالَ الْعَرَبِ: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ، يُرِيدُ: مِنَّا فَرِيقٌ ظَعَنَ وَمِنَّا فَرِيقٌ أَقَامَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَمَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، حَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَأَقَامَ الصِّفَةَ مُقَامَهُ، كَقَوْلِهِ:
أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا بِكَفَّيْ كَانَ مِنْ أَرَمَى الْبَشَرِ انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مُقَامَهُ، لِأَنَّ أَحَدًا الْمَحْذُوفَ مُبْتَدَأٌ.
وَإِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ خَبَرُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ كَلَامٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا مِنَّا أَحَدٌ، فَقَوْلُهُ: إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هُوَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ. وَإِنْ تَخَيَّلَ أَنَّ إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ إِلَّا لَا تَكُونُ صِفَةً إِذَا حُذِفَ مَوْصُوفُهَا، وَأَنَّهَا فَارَقَتْ غَيْرَ إِذَا كَانَتْ صِفَةً فِي ذَلِكَ، لِيَتَمَكَنَّ غَيْرُهُ فِي الْوَصْفِ وَقِلَّةِ تَمَكُّنِ إِلَّا فِيهِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: أَنَا ابْنُ جَلَا، أَيِ ابْنُ رَجُلٍ جَلَا وَبِكَفِّي كَانَ، أَيْ رَجُلٍ كَانَ، وَهَذَا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مِنْ أَقْبَحِ الضَّرُورَاتِ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ: أَيْ أَقْدَامَنَا فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أَجْنِحَتَنَا فِي الْهَوَاءِ، أَوْ حَوْلَ الْعَرْشِ دَاعِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: قِيلَ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا اصْطَفُّوا فِي الصَّلَاةِ مُنْذُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا يَصْطَفُّ أَحَدٌ مِنَ الْمِلَلِ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ: أَيِ الْمُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ مَا نَسَبَ إِلَيْهِ الْكَفَرَةُ، أَوِ الْمُنَزِّهُونَ بِلَفْظِ التَّسْبِيحِ، أَوِ الْمُصَلُّونَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَتَطَّرِدُ الْجُمَلُ وَتَنْسَاقُ لِقَائِلٍ وَاحِدٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ نَاسِبِي ذَلِكَ لَمُحْضَرُونَ لِلْعَذَابِ وَقَالُوا:
سُبْحَانَ اللَّهِ، فَنُزِّهُوا عَنْ ذَلِكَ وَاسْتَثْنَوْا مَنْ أَخْلَصَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَقَالُوا لِلْكَفَرَةِ: فَإِنَّكُمْ وَآلِهَتَكُمْ إِلَى آخِرِهِ. وَكَيْفَ نَكُونُ مُنَاسِبِيهِ، وَنَحْنُ عَبِيدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، لِكُلٍّ مِنَّا مَقَامٌ مِنَ الطَّاعَةِ؟
إِلَى مَا وَصَفُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مِنْ رُتْبَةِ الْعُبُودِيَّةِ. وَقِيلَ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ، هُوَ مِنْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ وَمَا مِنَ الْمُرْسَلِينَ أَحَدٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
ثُمَّ ذَكَرَ أَعْمَالَهُمْ، وَأَنَّهُمُ الْمُصْطَفُّونَ فِي الصَّلَاةِ الْمُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ مَا يَقُولُ أَهْلُ الضَّلَالِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَيَقُولُونَ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً: أَيْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، لَأَخْلَصْنَا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، وَلَمْ نُكَذِّبْ كَمَا كَذَّبُوا.
فَكَفَرُوا بِهِ: أَيْ فَجَاءَهُمُ الذِّكْرُ الَّذِي كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَذْكَارِ، لِإِعْجَازِهِ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الِانْتِقَامِ. وَأَكَّدُوا قولهم
130
بأن الْمُخَفَّفَةِ وَبِاللَّامِ كَوْنُهُمْ كَانُوا جَادِّينَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ وَالنُّفُورُ الْبَلِيغُ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «١».
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا: قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْإِفْرَادِ لَمَّا انْتَظَمَتْ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: بِالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ الْمَوْعِدُ بِعُلُوِّهِمْ عَلَى عَدِوِّهِمْ فِي مَقَامَاتِ الْحِجَاجِ وَمَلَاحِمِ الْقِتَالِ فِي الدُّنْيَا، وَعُلُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا غُلِبَ نَبِيٌّ فِي الْحَرْبِ، وَلَا قُتِلَ فِيهَا. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ: أَيْ إِلَى مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَهِيَ مُدَّةُ الْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَى مَوْتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَبْصِرْهُمْ: أَيِ انْظُرْ إِلَى عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَهَا وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالْأَسْرِ وَالْقَتْلِ، أَوْ سَوْفَ يُبْصِرُونَكَ وَمَا يَتِمُّ لَكَ مِنَ الظَّفَرِ بِهِمْ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ. وَأَمْرُهُ بِإِبْصَارِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْمُنْتَظَرَةِ الْكَائِنَةِ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهَا قَرِيبَةٌ كَأَنَّهَا بَيْنَ نَاظِرَيْهِ بِحَيْثُ هُوَ يُبْصِرُهَا، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ وَتَنْفِيسٌ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ: اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ.
فَإِذا نَزَلَ هُوَ، أَيِ الْعَذَابُ، مِثْلُ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ بَعْدَ مَا أَنْذَرَهُ، فَأَنْكَرُوهُ بِحَيْثُ أَنْذَرَ بِهُجُومِهِ قَوْمَهُ وَبَعْضَ صُنَّاعِهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلى إنذراه، وَلَا أَخَذُوا أُهْبَتَهُ، وَلَا دَبَّرُوا أَمْرَهُمْ تَدْبِيرًا يُنْجِيهِمْ حَتَّى أَنَاخَ بِفَنَائِهِمْ، فَشَنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَقَطَعَ دَابِرَهُمْ. وَكَانَتْ عَادَةُ مَغَازِيهِمْ أَنْ يُغِيرُوا صَبَاحًا، فَسُمِّيَتِ الْغَارَةُ صَبَاحًا، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَمَا فَصَحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا كَانَتْ لَهُ الرَّوْعَةُ الَّتِي يَحْسُنُ بِهَا، وَيَرُونُكَ مَوْرِدُهَا عَلَى نَفْسِكِ وَطَبْعِكَ إِلَّا لِمَجِيئِهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَابْنُ مَسْعُودٍ:
مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَسَاحَتِهِمْ: هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَنَزَلَ سَاحَةَ فُلَانٍ، يُسْتَعْمَلُ فِيمَا وَرَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَسُوءُ الصَّبَاحِ: يُسْتَعْمَلُ فِي حُلُولِ الْغَارَاتِ وَالرَّزَايَاتِ وَمِثْلُ قَوْلِ الصَّارِخِ: يَا صَبَاحَاهُ وَحُكْمُ سَاءَ هَنَا حُكْمُ بِئْسَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ صَبَاحُهُمْ. وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ: كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّوَلِّي، تَأْنِيسًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَسْلِيَةً وَتَأْكِيدًا لِوُقُوعِ الْمِيعَادِ وَلَمْ يُقَيِّدْ أَمْرَهُ بِالْإِبْصَارِ، كَمَا قَيَّدَهُ فِي الْأَوَّلِ، إِمَّا لِاكْتِفَائِهِ بِهِ فِي الْأَوَّلِ فَحَذَفَهُ اخْتِصَارًا، وَإِمَّا لِمَا فِي تَرْكِ التَّقْيِيدِ مِنْ جَوَلَانِ الذِّهْنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبْصَارُ مِنْهُ مِنْ صُنُوفِ الْمَسَرَّاتِ، وَالْإِبْصَارُ مِنْهُمْ من صنوف المساءات. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَبِالْآخِرَةِ عَذَابُ الْآخِرَةِ.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٨٩.
131
وَخَتَمَ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ تنزيهه عن ما يصفه به الْمُشْرِكُونَ، وَأَضَافَ الرَّبَّ إِلَى نَبِيِّهِ تَشْرِيفًا لَهُ بِإِضَافَتِهِ وَخِطَابِهِ، ثُمَّ إِلَى الْعِزَّةِ، وَهِيَ الْعِزَّةُ الْمَخْلُوقَةُ الْكَائِنَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ وَغَيْرُهُ: مَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى يُرِيدُ عِزَّتَهُ الَّتِي خُلِقَتْ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: رَبِّ الْعِزَّةِ، فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُضِيفَ الرَّبُّ إِلَى الْعِزَّةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: ذُو الْعِزَّةِ، كَمَا تَقُولُ: صَاحِبُ صِدْقٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِالصِّدْقِ. انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِعِزَّةِ اللَّهِ لِأَنَّهَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ مَا مِنْ عِزَّةٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا وَهُوَ رَبُّهَا وَمَالِكُهَا، لِقَوْلِهِ: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ «١».
وَعَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَكُنْ آخِرُ كَلَامِهِ إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ، إِلَى آخِرِ السُّورَةُ.
(١) سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: ٣/ ٢٦.
132
Icon