تفسير سورة إبراهيم

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿وَيْلٌ﴾ هلاكٌ ودمار ﴿يَسْتَحِبُّونَ﴾ يختارون ويفضّلون ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ يذيقونكم يقال: سامه الذلُّ أي أذاقه الذل ﴿تَأَذَّنَ﴾ أعلم إعلاماً لا شبهة فيه ﴿نَبَأُ﴾ النبأ: الخبر وجمعه أنباء ﴿سُلْطَانٍ﴾ حجة وبرهان ﴿فَاطِرِ﴾ مبدع ومخترع ﴿استفتحوا﴾ استنصروا على أعدائهم ﴿جَبَّارٍ﴾ الجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحدٍ عليه حقاً ﴿عَنِيدٍ﴾ العنيد: المعاند للحق والمجانب له الذي يذهب عن طريق الحق، تقول العرب: شرُّ الإِبل العَنُود ﴿صَدِيدٍ﴾ الصديد: القيح الذي يسيل من أجساد أهل النار ﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ أي يتحسّاه ويتكلف بلعه بمرارة ﴿يُسِيغُهُ﴾ يبتلعه.
التفسِير: ﴿الر﴾ هذا الكتاب المعجز مؤلف من جنس هذه الحروف المقطعة فأتوا بمثله إن
83
استطعتم ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ أي هذا القرآن كتاب أنزلناه عليك يا محمد، لم تنشئْه أنت وإنما أوحيناه نحن إليك ﴿لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ أي لتخرج البشرية من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والإِيمان ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ أي بأمره وتوفيقه ﴿إلى صِرَاطِ العزيز الحميد﴾ أي لتهديهم إلى طريق الله العزيز الذي لا يُغالب، المحمود بكل لسان، الممجَّد في كل مكان ﴿الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي المالك لما في السماوات والأرض، الغني عن الناس، المسيطر على الكون وما فيه ﴿وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ قال الزجاج: ﴿وَيْلٌ﴾ كلمة تُقال للعذاب والهلكة، أي هلاك ودمارٌ للكافرين ويا ويلهم من عذاب الله الأليم، ثم وضّح صفات أولئك الكفار بقوله ﴿الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة﴾ أي يفضّلون ويؤثرون الحياة الفانية على الحياة الآخرة الباقية ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي يصرفون الناس ويمنعونهم عن دين الإسلام ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ أي يطلبون أن تكون دين الله معوجَّة لتوافق أهواءهم ﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الذميمة في ضلالٍ عن الحق مبين، لا يُرجى لهم صلاح ولا نجاح ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ أي وما أرسلنا في الأمم الخالية رسولاً من الرسل إلا بلغة قومه ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ أي ليبيّن لهم شريعة الله ويفهمهم مراده، لتتمَّ الغاية من الرسالة ﴿فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ أي وليست وظيفة الرسل إلا التبليغ وأما أمر الهداية والإِيمان فذلك بيد الله يضلُّ من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته على ما سبق به قضاؤه المحكم ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ أي وهو العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ﴾ أي أرسلنا موسى بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ أن تفسيرية بمعنى أيْ والمعنى أي أخرج بني إِسرائيل من ظلمات الجهل والكفر إلى نور الإيمان والتوحيد قال أبو حيان: وفي قوله ﴿قَوْمَكَ﴾ خصوصٌ لرسالة موسى إلى قومه بخلاف قوله لمحمد ﴿لِتُخْرِجَ الناس﴾ مما يدل على عموم الرسالة ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله﴾ أي ذكّرهم بأياديه ونعمه عليهم ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي في التذكير بأيام الله لعبراً ودلالات لكل عبد منيب صابر على البلاء، شاكر للنعماء ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي اذكروا نعم الله الجليلة عليكم ﴿إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أي حين نجاكم من الذل والاستعباد من فرعون وزبانيته ﴿يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب﴾ أي يذيقونكم أسوأ أنواع العذاب ﴿وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾ أي يذبحون الذكور ويستبقون الإناث على قيد الحياة مع الذل والصغار ﴿وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ﴾ أي وفي تلك المحنة ابتلاءٌ واختبار لكم من ربكم عظيم قال المفسرون: وكان سبب قتل الذكور أن الكهنة قالوا لفرعون إنّ مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بقتل كل مولود ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ هذا من تتمة كلام موسى أي واذكروا أيضاً حين أعلم ربكم إعلاماً لا شبهة فيه لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي ﴿وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ أي ولئن جحدتم نعمتي بالكفر والعصيان فإن عذابي شديد، وعدَ بالعذاب
84
على الكفر، كما وعَدَ بالزيادة على الشكر ﴿وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً﴾ أي وقال موسى لبني إِسرائيل بعد أن أيس من إيمانهم لئن كفرتم أنتم وجميع الخلائق فلن تضروا الله شيئاً ﴿فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أي هو غنيٌّ عن شكر عباده، مستحق للحمد في ذاته وهو المحمود وإن كفره من كفره ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ أي ألم يأتكم أخبار من قبلكم من الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود ماذا حلَّ بهم لما كذبوا بآيات الله ﴿والذين مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي والأمم الذين جاءوا بعدهم ﴿لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله﴾ أي لا يحصي عددهم إلا الله ﴿جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات﴾ أي بالحجج الواضحات، والدلائل الباهرات ﴿فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيباً لهم وقال ابن مسعود: عضوا أصابعهم غيظاً ﴿وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ أي كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ أي في شك عظيم من دعوتكم، وقلق واضطراب من دينكم ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ﴾ أي أجابهم الرسل بقولهم: أفي وجود الله ووحدانيته شك؟ والاستفهام للإنكار والتوبيخ لأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة ولهذا لفتوا الانتباه إلى براهين وجوده بقولهم ﴿فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ أي يدعوكم إلى الإِيمان ليغفر لكم ذنوبكم ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي إن آمنتم أمدَّ في أعماركم إلى منتهى آجالكم ولم يعاقبكم في العاجل فيهلككم ﴿قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ أي ما أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل لكم علينا ﴿تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا﴾ أي تريدون أن تصرفونا عن عبادة الأوثان التي كان عليها آباؤنا ﴿فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي فأتونا بحجة ظاهرة على صدقكم ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ أي قالت الرسل: نحن كما قلتم بشر مثلكم ﴿ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي يتفضل على من يشاء بالنبوة والرسالة قال الزمخشري: لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم وسلّموا لقولهم وأنهم بشرٌ مثلُهم في البشرية وحدها، فأمّا ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم ﴿وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي وما ينبغي لنا أن نأتيكم بحجة وآية مما اقترحتموه علينا إلا بمشئية الله وإذنه ﴿وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ أي على الله وحده فليعتمد المؤمنون في جميع أمورهم ﴿وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله﴾ أي قالت الرسل: أيُّ شيء يمنعنا من التوكل على الله؟ ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ أي والحال أنه قد بصّرنا طريق النجاة من عذابه ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ على مَآ آذَيْتُمُونَا﴾ أي ولنصبرنَّ على أذاكم قال ابن الجوزوي: وإنما قُصَّ هذا وأمثاله على نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليقتدي بمن قبله في الصبر وليعلم ما جرى لهم ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون﴾ ليس هذا تكراراً وإنما معناه الثبات على التوكل أي فليدوموا وليثبتوا على التوكل عليه وحده، وهنا يسفر الطغيان عن وجهه متبجحاً بالقوة المادية التي يملكها المتجبرون {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
85
مِلَّتِنَا} أي قال الكفار للرسل الأطهار والله لنطردنكم من ديارنا أو لترجعنَّ إلى ديننا ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين﴾ أي أوحى الله إلى الرسل لأهلكنَّ أعداءكم الكافرين المتجبرين ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي ولأمنحنكم سكنى أرضهم بعد هلاكهم ﴿ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ أي ذلك النصر للرسل وإهلاك الظالمين لمن خاف مقامه بين يديَّ وخاف عذابي ووعيدي قال في البحر: ولما أقسموا على إِخراج الرسل أو العودة في ملتهم أقسم تعالى على إهلاكهم، وأي إِخراجٍ أعظم من الإِهلاك بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبداً ﴿واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ أي واستنصر الرسل بالله على قومهم وخسر وهلك كل متجبر معاند للحق ﴿مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾ أي من وراء ذلك الكافر جهنم ويسقى فيها من ماءٍ صديد هو من قيح ودمٍ ﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته، ولا يكاد يستسيغه لقبحه وكراهته ﴿وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ أي يأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنَّه لا يموت ليستكمل عذابه ﴿وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ أي ومن بين يديه عذابٌ أشدُّ مما قبله وأغلظ.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة أنواعاً من البلاغة والبيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة في ﴿لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ حيث استعار الظلمات للكفر والضلال، والنور للهدى والإيمان، وكذلك ﴿وَيَأْتِيهِ الموت﴾ استعارة عن غواشي الكروب وشدائد الأمور، فقد يوصف المغموم بأنه في غمرات الموت مبالغة في عظيم ما يغشاه وأليم ما يلقاه.
٢ - الطباق بين ﴿يُضِلُّ ويَهْدِي﴾ وبين ﴿شَكَرْتُمْ وكَفَرْتُمْ﴾ وبين ﴿نُخْرِجَنَّ وتَعُودُنَّ﴾.
٣ - صيغة المبالغة في ﴿صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ وفي ﴿جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾.
٤ - جناس الاشتقاق في ﴿أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ﴾ وفي ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون﴾.
٥ - السجع في ﴿شَدِيدٍ، بَعِيدٍ، عَنِيدٍ﴾ الخ.
فَائِدَة: ذكر تعالى في البقرة ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] بغير واوٍ وهنا ﴿وَيُذَبِّحُونَ﴾ بالواو، والسرُّ في ذلك أنه في سورة البقرة جاء اللفظ تفسيراً لما سبق من قوله ﴿سواء العذاب﴾ [البقرة: ٤٩] فكأنه قال يسومونكم سوء العذاب ثم فسره بقوله ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] أما في هذه السورة فهو غير تفسير لأن المعنى أنهم يعذبونهم بأنواع من العذاب وبالتذبيح أيضاً فهو نوع آخر من العذاب غير الأول والله أعلم.
86
المنَاسَبَة: لما حكى تعالى استهزاء الكفار بالرسل، وما أعدَّ لهم من العذاب والنكال في الآخرة، ضرب مثلاً لأعمالهم، ثم ذكر المناظرة بين الرؤساء والأتباع، وعقّبها بالتذكير بنعم الله على العباد ليعبدوه ويشكروه.
اللغَة: ﴿عَاصِفٍ﴾ شديد الريح ﴿بَرَزُواْ﴾ البروز: الظهور بعد الخفاء، والبَراز المكان الواسع لظهوره، وامرأةٌ برْزة أي تظهر للناس ﴿مَّحِيصٍ﴾ منجى ومهرب يقال: حاصَ عن كذا أي فرَّ وأراد الهرب منه ﴿جَزِعْنَآ﴾ الجزع: عدم احتمال الشدة وهو نقيض الصبر ﴿مُصْرِخِكُمْ﴾ مُغيثكم الصارخ المستغيث، والمُصرخ المغيث قال أمية:
فلا تَجْزعوا إِني لكم غيرُ مُصْرخٍ وليس لكم عندي غناءٌ ولا نصْر
﴿اجتثت﴾ اقتلعت من أصلها ﴿البوار﴾ الهلاك ﴿خِلاَلٌ﴾ جمع خُلَّة وهي الصحبة والصَّداقة قال امرؤ القيس:
صرفتُ الهَوى عنهنَّ من خشيةِ الرَّدى فلستُ بمقْليِّ الخِلال ولا قالي
﴿دَآئِبَينَ﴾ الدؤب في اللغة: مرورُ الشيء في العمل على عادة مطردة يقال دأب دؤباً.
التفسِير: ﴿مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح﴾ أي مثلُ أعمالِ الكفار
87
التي عملوها في الدنيا يبتغون بها الأجر من صدقةٍ وصلة رحم وغيرها مثلُ رمادٍ عصفت به الريح فجعلته هباءً منثوراً ﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ أي في يومٍ شديد هبوب الريح قال القرطبي: ضرب الله هذه الآية مثلاً الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ﴾ أي لا يقدر الكفار على تحصيل ثواب ما عملوا من البرِّ في الدنيا لإِحباطه بالكفر، كما لا يستطيع أن يحصل الإِنسان على شيء من الرماد الذي طيَّرته الريح ﴿ذلك هُوَ الضلال البعيد﴾ أي الخسران الكبير ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾ أي ألم تر أيها المخاطب بعين قلبك وتتأمل ببصيرتك أن اللهَ العظيم الجليل أنفرد بالخلق والإيجاد، وأنه خلق السماوات والأرض ليُستدلَّ بهما على قدرته؟ قال المفسرون: أي لم يخلقهن عبثاً وإنما خلقهنَّ لأمرٍ عظيم ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي هو قادرٌ على الإفناء كما قادر على الإِيجاد والإِحياء قال ابن عباس يريد: يميتكم يا معشر الكفار ويخلق قوماً غيركم خيراً منكم وأطوع ﴿وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾ أي ليس ذلك بصعبٍ أو متعذرٍ على الله، فإنَّ القويَّ القادر لا يصعبُ عليه شيء ﴿وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً﴾ أي خرجوا من قبورهم يوم البعث، وظهروا للحساب لا يسترهم عن الله ساتر قال الإِمام الفخر: ورد بلفظ الماضي ﴿وَبَرَزُواْ﴾ وإن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدقٌ وحقٌ، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود ونظيره ﴿ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار﴾ [الأعراف: ٤٤] ﴿فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا﴾ أي قال الأتباع والعوام للسادة الكبراء والقادة الذين أضلوهم في الدنيا ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾ أي كنا أتباعاً لكم نأتمر بأمركم ﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ﴾ أي هل أنتم دافعون عنا شيئاً من عذاب الله؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع ﴿قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ﴾ أي قال القادة معتذرين: لو هدانا الله للإيمان لهديناكم إِليه، ولكن حصل لنا الضلال فأضللناكم فلا ينفعنا العتاب ولا الجزع ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا﴾ أي يستوي علينا الجزع والصبر قال الطبري: إن أهل النار يجتمعون فيقول بعضهم لبعض: إنما أدركَ أهلُ الجنةِ ببكائهم وتضرعهم إلى الله فتعالواْ نبكي ونتضرع إلى الله، فبكوا فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا: تعالوا نصبر فصبروا صبراً لم يُر مثلُه، فلما رأوا أنه لا ينفعهم قالوا ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا﴾ وقال مقاتل: جزعوا خمسمائة عام، وصبروا خمسمائة عام ﴿مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾ أي ليس لنا من مهرب أو ملجأ ﴿وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر﴾ هذه هي الخطبة البتراء التي يخطب بها إبليس في محفل الأشقياء في جهنم أي لمّا فُرغ من الحساب ودخل أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ ﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق﴾ أي وعدكم وعداً حقاً بإثابة المطيع وعقاب العاصي فوفَّى لكم وعده ﴿وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ أي وعدتكم ألاّ بعث ولا ثواب ولا عقاب فكذبتكم وأخلفتكم الوعد ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ أي لم يكن لي قدرة وتسلط وقهر عليكم فأقهركم على الكفر والمعاصي ﴿إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾ أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بالوسوسة
88
والتزيين فاستجبتم لي باختياركم ﴿فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ﴾ أي لا ترجعوا باللوم عليَّ اليوم ولكن لوموا أنفسكم فإن الذنب ذنبكم ﴿مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ أي ما أنا بمغيثكم ولا أنتم بمغيثيَّ من عذاب الله ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾ أي كفرت بإشراككم لي مع الله في الطاعة ﴿إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي إن المشركين لهم عذاب مؤلم قال المفسرون: هذه الخطبة إنما تكون إذا استقر أهل الجنةِ في الجنة، وأهلُ النار في النار، فيأخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه فيقوم فيما بينهم خطيباً بما أخبر عنه القرآن وقال الحسن: يقف إبلس يوم القيامة خطيباً في جهنم على منبرٍ من نار يسمعه الخلائق جميعاً ﴿وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ لمّا ذكر تعالى أحوال الأشقياء، ذكر بعده أحوال السعداء، ليبقى العبد بين الرغبة والرهبة، وبين الخوف والرجاء أي أدخلهم الله تعالى جناتٍ تجري من تحت قصورها أنهار الجنة ماكثين فيها أبداً بأمره تعالى وتوفيقه وهدايته ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ أي تُحييِّهم الملائكة بالسلام مع الإِجلال والإِكرام ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ﴾ هذا مثلٌ ضربه الله لكلمة الإِيمان وكلمة الإِشراك، فمثَّل لكلمة الإِيمان بالشجرة الطيبة، ولكلمة الإِشراك بالشجرة الخبيثة قال ابن عباس: الكلمة الطيبة «لا إله إلا الله» والشجرة الطيبة «المؤمن» ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء﴾ أي أصلها راسخ في الأرض وأغصانها ممتدة نحو السماء ﴿تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ أي تعطي ثمرها كلَّ وقت بتيسير الخالق وتكوينه، كذلك كلمة الإِيمان ثابتة في قلب المؤمن، وعملُه يصعد إلى السماء ويناله بركته وثوابه في كل وقت ﴿وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي يبيّن لهم الأمثال لعلهم يتعظون فيؤمنون ﴿وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ أي ومثل كلمة الكفر الخبيثة كشجرة الحَنْظل الخبيثة ﴿اجتثت مِن فَوْقِ الأرض﴾ أي استؤصلت من جذورها واقتعلت من الأرض لعدم ثبات أصلها ﴿مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ أي ليس لها استقرارٌ وثبات، كذلك كلمة الكفر لا ثبات لها ولا فرع ولا بركة قال ابن الجوزي: شُبه ما يكسبه المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت بثمرتها المجتناة في كل حين، فالمؤمن كلما قال «لا إله إلا الله» صعدت إِلى السماء ثم جاء خيرُها ومنفعتها، والكافر لا يُقبل عمله ولا يصعد إلى الله تعالى، لأنه ليس له أصل في الأرض ثابت، ولا فرع في السماء ﴿يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا﴾ أي يثبتهم على كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» وعلى الإيمان في هذه الحياة فلا يزيغون ولا يُفْتنون ﴿وَفِي الآخرة﴾ أي عند سؤال الملكين في القبر كما في الحديث الشريف
«المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى ﴿يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ﴾... » الآية « ﴿وَيُضِلُّ الله الظالمين﴾ أي لا يهديهم في الحياة ولا عند سؤال الملكين وقت الممات ﴿وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ﴾ أي من هداية المؤمن وإضلال الكافر لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً﴾ استفهام للتعجيب أي ألا تعجب أيها السامع من أولئك الذين
89
غيَّروا نعمة الله بالكفر والتكذيب؟ قال المفسرون: هم كفار مكة فقد أسكنهم الله حرمه الآمن، وجعل عيشهم في السِّعة، وبعث فيهم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، وكفروا به وكذبوه، فابتلاهم الله بالقحط والجدب ﴿وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار﴾ أي أنزلوا قومهم دار الهلاك بكفرهم وطغيانهم ثم فسَّرها بقوله ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار﴾ أي أحلوهم في جهنم يذوقون سعيرها وبئست جهنم مستقراً ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي جعلوا لله شركاء مماثلين عبدوهم كعبادته ليُضلوا الناس عن دين الله ﴿قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار﴾ أي استمتعوا بنعيم الدنيا فإن مردَّكم ومرجعكم إلى عذاب جهنم، وهو وعيد وتهديد ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة﴾ أي قل يا محمد لعبادي الذين آمنوا فلْيقيموا الصلاة المفروضة عليهم ويؤدوها على الوجه الأكمل ﴿وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً﴾ أي ولينفقوا مما أنعمنا عليهم به من الرزق خفيةً وجهراً ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ﴾ أي من قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا صداقة، ولا فداء ولا شفاعة، ولما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء ختم ذلك بذكر الدلائل الدالة على وجود الخالق الحكيم فقال ﴿الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ أي أبدعهما واخترعهما على غير مثال سبق ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ أي أنزل من السحاب الممطر ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ﴾ أي أخرج بالمطر من أنواع الزروع والثمار رزقاً للعباد يأكلونه ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ﴾ أي ذلَّل السفن الكبيرة لتسير بمشيئته، تركبونها وتحملون فيها أمتعتكم من بلد إلى بلد ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار﴾ أي الأنهار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا ﴿وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ﴾ أي وذلَّل لكم الشمس والقمر يجريان بانتظام لا يفتران، لصلاح أنفسكم ومعاشكم ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار﴾ أي لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله بالنهار، هذا لمنامكم وذاك لمعاشكم ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ أي أعطاكم كل ما تحتاجون إليه، وما يصلح أحوالكم ومعاشكم، مما سألتموه بلسان الحال أو المقال ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ أي وإِن تعدُّوا نِعَم اللهِ عليكم لا تطيقوا حصرها وعدَّها، فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها عدد ﴿إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ الإِنسان اسم جنس أي إن الإنسان لمبالغٌ في الظلم والجحود، ظالمٌ لنفسه بتعديه حدود الله، جحودٌ لنعم الله، وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع،
90
كفَّار في النعمة يجمع ويمنع.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - التشبيه التمثيلي ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح﴾ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
٢ - التشبيه المرسل المجمل ﴿وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ ومثلها ﴿مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾.
٣ - الطباق في ﴿أَصْلُهَا... وَفَرْعُهَا﴾ وفي ﴿طَيِّبَةً... وخَبِيثَةٍ﴾ وفي ﴿يُذْهِب... ويَأْتِيَ﴾ وفي ﴿سِرّاً... وَعَلانِيَةً﴾ وفي ﴿أَجَزِعْنَآ... وصَبَرْنَا﴾.
٤ - طباق السلب في ﴿فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ﴾.
٥ - التعجيب ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً﴾.
٦ - التهديد والوعيد ﴿قُلْ تَمَتَّعُواْ﴾.
٧ - صيغة المبالغة ﴿ظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ لأن فعول وفعّال من صيغ المبالغة.
٨ - السجع المرصَّع دون تكلف مثل ﴿البوار... القرار... النار﴾ الخ.
91
المنَاسَبة: لمّا ذكر تعالى بالدلائل الحسية والسمعية انفراده بالألوهية وأن لا معبود إِلا الله، ذكر هنا أبا الأنبياء «إِبراهيم» عليه السلام حصن التوحيد، ومبالغته في هدم الشرك والأوثان، ثم ذكر موقف الظالمين يوم الدين، وما يعتريهم من الذل والهوان في يوم الحشر الأكبر.
اللغَة: ﴿واجنبني﴾ أبعدني ونحّني يقال: جَنب وجنَّب وأصله جعل الشيء في جانب آخر ﴿تَشْخَصُ﴾ شخَص البصر: إِذا بقيت العين مفتوحة لا تغمض من هول ما ترى ﴿مُهْطِعِينَ﴾ مسرعين يقال أهطع إهطاعاً إذا أسرع قال الشاعر:
بدجلةَ دارهُم ولقد أَراهم بدجلةَ مُهْطعينَ إِلى السَّماع
﴿مُقْنِعِي﴾ المقنعُ: الرافع رأسه المقبل ببصره على ما بين يديه ﴿هَوَآءٌ﴾ خالية ﴿مُّقَرَّنِينَ﴾ مشدودين ﴿الأصفاد﴾ الأغلال والقيود واحدها صفد ﴿سَرَابِيلُهُم﴾ جمع سربال وهو القميص والثوب ﴿تغشى﴾ تجلّل وتغطّي.
التفسِير: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً﴾ أي اجعل مكة بلد آمنٍ يأمن أهله وساكنوه ﴿واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام﴾ أي احمني يا رب وجنبني وأولادي عبادة الأصنام، والغرضُ تثبيتُه على ملة التوحيد والإِسلام ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس﴾ أي يا ربّ إنَّ هذه الأصنام أضلَّت كثيراً من الخلق عن الهداية والإِيمان ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ أي فمن أطاعني وتبعني على التوحيد فإِنه من أهل ديني ﴿وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي ومن خالف أمري فإِنك يا رب غفار الذنوب رحيمٌ بالعباد ﴿رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي﴾ كرّر النداء رغبةً في الإِجابة وإِظهاراً للتذلل والإلتجاء إلى الله تعالى أي يا ربنا إني أسكنت من أهلي - ولدي إسماعيل وزوجي هاجر - ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم﴾ أي بوادٍ ليس فيه زرع في جوار بيتك المحرم، وهو وادي مكة شرفها الله تعالى ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ﴾ أي ربنا لكي يعبدوك ويقيموا الصلاة أسكنتهم بهذا الوادي فاجعل قلوبَ الناسِ تحنُّ وتسرع إِليهم شوقاً قال ابن عباس: لو قال: (أفئدة الناس) لازدحمت عليه فارس والروم والناسُ كلهم، ولكنْ قال ﴿مِّنَ الناس﴾ فهم المسلمون ﴿وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ أي وارزقهم في ذلك الوادي القفر من أنواع الثمار ليشكروك على جزيل نِعمك، وقد استجاب الله دعاءه فجعل مكة حرماً آمناً يجبى إليها ثمرات كل شيء رِزقاً من عند الله ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾ أي يا ربنا إنك العالم لما في القلوب تعلم ما نسرُّ وما نظهر ﴿وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ أي لا يغيب عليه تعالى شيء في الكائنات، سواء منها ما كان في الأرض أو في السماء، فكيف تخفى عليه وهو خالقها وموجدها؟ ﴿الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ أي الحمد لله الذي رزقني على كبر سني وشيخوختي إسماعيل وإسحاق قال ابن عباس: ولد له إِسماعيل وهو ابن تسعٍ
92
وتسعين، وولد له إِسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء﴾ أي مجيبٌ لدعاء من دعاه ﴿رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي﴾ هذه هي الدعوة السادسة من دعوات الخليل عليه السلام أي يا رب اجعلني ممن حافظ على الصلاة واجعل من ذريتي من يقيمها أيضاً، وهذه خير دعوةٍ يدعوها المؤمن لأولاده فلا أحبَّ له من أن يكون مقيماً للصلاة هو وذريته لأنهما عماد الدين ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ﴾ أي تقبَّلْ واستجبْ دعائي فيما دعوتك به ﴿رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب﴾ هذه هي الدعوة السابعة وبها ختم إِبراهيم دعاءه الضارع الخاشع بالاستغفار له ولوالديه ولجميع المؤمنين، يوم يقوم الناس لرب العالمين قال المفسرون: استغفر لوالديه قبل أن يتبيَّن له أنَّ أباه عدوٌ لله قال القشيري: ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه.
. وينتقل السياق إلى مشاهد القيامة وما فيها من الأهوال حين تزلزل القلوب والأقدام ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون﴾ أي لا تظننَّ يا محمد أنَّ الله ساهٍ عن أفعال الظلمة، فإن سنة الله إمهال العصاة ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، قال ميمون بن مِهْران: هذا وعيدٌ للظالم، وتعزيةٌ للمظلوم ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار﴾ أي إِنما يؤخرهم ليومٍ رهيب عصيب، تَشْخص فيه الأبصار من الفزع والهَلع، فتظلُّ مفتوحة مبهوتة لا تطرف ولا تتحرك قال أبو السعود: تبقى أبصارهم مفتوحة لا تتحرك أجفانهم من هول ما يرونه ﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾ أي مسرعين لا يلتفتون إلى شيء رافعين رءوسهم مع إدامة النظر قال الحسن: وجوه الناس يومئذٍ إِلى السماء لا ينظر أحدٌ إلى أحد ﴿لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ أي لا يطرفون بعيونهم من الخوف والجزع ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ أي قلوبهم خالية من العقل لشدة الفزع ﴿وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب﴾ أي خوّف يا محمد الكفار من هول يوم القيامة حين يأتيهم العذاب الشديد ﴿فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ أي فيتوجه الظالمون يومئذٍ إلى الله بالرجاء يقولون يا ربنا أمهلنا إلى زمنٍ قريب لنستدرك ما فات ﴿نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل﴾ أي نجب دعوتك لنا إِلى الإِيمان ونتّبع رسلك فيما جاءونا به ﴿أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ﴾ أي يقال لهم توبيخاً وتبكيتاً: ألم تحلفوا أنكم باقون في الدنيا لا تنتقلون إلى دار أخرى؟ والمراد إِنكارهم للبعث والنشور ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾ أي سكنتم في ديار الظالمين بعد أن أهلكناهم، فهلاَّ اعتبرتم بمساكنهم؟ ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ أي تبيَّن لكم بالإِخبار والمشاهدة كيف أهلكناهم، وانتقمنا منهم ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال﴾ أي بينا لكم الأمثال في الدنيا فلم تعتبروا ﴿وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ﴾ أي مكر المشركون بالرسول وبالمؤمنين حين أرادوا قتله ﴿وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ﴾ أي وعند الله جزاء هذا المكر فإنه محيط بهم وبمكرهم ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال﴾ أي وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال ولكنَّ الله عصَم ووقى منه ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ أي لا تظننَّ أيها المخاطب أن الله يخلف رسله ما وعدهم به من النصر وأخذ الظالمين المكذبين {إِنَّ الله
93
عَزِيزٌ ذُو انتقام} أي إنه تعالى غالبٌ لا يعجزه شيء منتقم ممن عصاه ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات﴾ أي ينتقم من أعدائه يوم الجزاء، يوم تتبدل هذه الأرض أرضاً أخرى، وتتبدل السماوات سماوات أخرى قال ابن مسعود: تُبدَّل الأرضُ بأرضٍ كالفضة نقية، لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة ﴿وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ﴾ أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم، وإنما هم في أرض المحشر أمام الواحد القهار ﴿وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد﴾ أي وفي ذلك اليوم الرهيب تبصر المجرمين مشدودين مع شياطينهم بالقيود والأغلال قال الطبري: أي مقرَّنة أيديهم وأرجُلهم إِلى رقابهم بالأصفاد وهي الأغلال والسلاسل ﴿سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ﴾ أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران وهي مادة يسرع فيها اشتعال النار، تُطلى بها الإِبل الجربى فيحرق الجربَ بحرّه وحدته، وهو أسود اللون منتنُ الريح ﴿وتغشى وُجُوهَهُمُ النار﴾ أي تعلوها وتحيط بها النار، جزاء المكر والاستكبار ﴿لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ أي برزوا يوم القيامة لأحكم الحاكمين ليجازيهم الله على أعمالهم، المحسنَ بإِحسانه، والمسيءَ بإِساءته ﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ أي لا يشغله شأن عن شأن، يحاسب جميع الخلق في أعجل ما يكون من الزمان، في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا كما ورد به الأثر ﴿هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ﴾ أي هذا القرآن بلاغٌ لجميع الخلق من إِنس وجان، أنزل لتبليغهم بما فيه من فنون العبر والعظات ﴿وَلِيُنذَرُواْ بِهِ﴾ أي لكي يُنصحوا به ويخوّفوا من عقاب الله ﴿وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ أي ولكي يتحققوا بما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة، على أنه تعالى واحد أحدٌ، فردٌ صمد ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب﴾ أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة، وهم السعداء أهل النهي والصلاح.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - التشبيه البليغ ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه أي قلوبهم كالهواء لفراغها من جميع الأشياء فأصبح التشبيه بليغاً.
٢ - الإيجاز بالحذف ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات﴾ حذف منه والسماوات تبدل غير السماوات لدلالة ما سبق.
٣ - الطباق في ﴿تَبِعَنِي... عَصَانِي﴾ وفي ﴿نُخْفِي... نُعْلِنُ﴾ وفي ﴿الأرض... السمآء﴾.
٤ - جناس الاشتقاق في ﴿مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ﴾.
٥ - العدول عن المضارع إلى الماضي ﴿وَبَرَزُواْ﴾ بدل ﴿ويبرزون﴾ للدلالة على تحقق الوقوع مثل ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١] فكأنه حدث ووقع فأخبر عنه بصيغة الماضي.
٦ - الاستعارة في ﴿لصَّلاَةَ فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ﴾ قال الشريف الرضي: وهذه من
94
محاسن الاستعارة وحقيقةُ الهُوي النزول من علوٍ إلى انخفاض كالهبوط والمراد تسرع إليهم شوقاً وتطير إليهم حباً، ولو قال «تحنُّ إليهم» لم يكن فيه من الفائدة ما في التعبير ب ﴿تهوي إِلَيْهِمْ﴾ لأن الحنين قد يكون من المقيم بالمكان.
لطيفَة: حكمة تعريف البلد هنا ﴿اجعل هذا البلد آمِناً﴾ وتنكيره في البقرة ﴿اجعل هذا بَلَداً آمِناً﴾ [البقرة: ١٢٦] أنه تكرر الدعاء من الخليل، ففي البقرة كان قبل بنائها فطلب من الله أن تجعل بلداً، وأن تكون آمناً، وهنا كان بعد بنائها فطلب من الله أن تكون آمناً أي بلد أمنٍ واستقرار، وهذا هو السرُّ في التفريق في الآيتين، اللهم ارزقنا فهم أسرار كتابك العظيم.
95
Icon