ﰡ
(مكية حروفها ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون كلمها ثمانمائة وستون آياتها مائة واثنان وثمانون)
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ٨٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩)
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤)
طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩)
فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا وما بعدهما مدغما: حمزة وأبو عمرو غير عباس بِزِينَةٍ منونا: حمزة وعاصم غير المفضل الكواكب بالنصب: أبو بكر وحماد. الباقون: بالجر لا يَسَّمَّعُونَ بتشديد السين والميم وأصله «يتسمعون» : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون: بسكون السين وتخفيف الميم. بَلْ عَجِبْتَ بالضم: حمزة وعلي وخلف. الآخرون: بالفتح على الخطاب آيذا بالمد والياء إنا بهمزة واحدة مكسورة: يزيد وقالون وزيد. الباقون: مثل التي في «الرعد» وأما الثانية فمثل التي في «الرعد» أَوَآباؤُنَا مثل أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الأعراف: ٩٨] وكذلك في «الواقعة» لا تَناصَرُونَ بالتشديد البزي وابن فليح أَإِنَّا أَإِنَّكَ أَإِفْكاً مثل أَإِنَّكُمْ في «الأنعام» يُنْزَفُونَ بضم الياء وكسر الزاي: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الآخرون: بفتح الزاي لترديني بالياء في الحالين: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل.
الوقوف:
صَفًّا هـ لا زَجْراً هـ لا لَواحِدٌ هـ ط الْمَشارِقِ هـ ط الْكَواكِبِ هـ لا مارِدٍ هـ ج لاحتمال ما بعده الوصف والاستئناف قاله السجاوندي. وعليه بحث
التفسير:
إنه سبحانه بدأ في أوّل هذه السورة بالتوحيد كما ختم السورة المتقدمة بذكر المعاد وأقسم على المطلوب بثلاثة أشياء، أما الحكمة في القسم فكما مرّ في أول سورة يس، وأما الإقسام بغير الله وصفاته فلا نسلم أنه لا يجوز لله سبحانه، أو هو على عادة العرب، أو المراد تعظيم هذه الأشياء وتشريفها، أو المراد رب هذه الأشياء فحذف المضاف. قال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن وكذا التاء في الزاي وفي الذال لتقارب مخارجها، ألا ترى أن التاء والصاد هما من طرف اللسان وأصول الثنايا ويجتمعان في الهمس، والمدغم فيه يزيد على المدغم في الإطباق والصفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن؟ وأيضا الزاي مجهورة وفيها زيادة صفير. ثم المقسم بها في الآيات إما أن تكون صفات ثلاثا لموصوف واحد أو صفات لموصوفات متباينة. وأما التقدير الأوّل ففيه وجوه الأوّل: أنها صفة الملائكة لأنهم صفوف في السماء كصفوف المصلين في الأرض، أو أنهم يصفون أجنحتهم في الهواء واقفين منتظرين لأمر الله تعالى. والصف ترتيب الشيء على
قال الحكيم: يشبه أن يكون معنى كونهم صفوفا أن لكل منهم مرتبة معينة في الشرف أو بالغلبة. والزجر سوق السحاب. قال ابن عباس: يعني الملائكة الموكلين بالسحاب. وقال آخرون: أراد زجرهم الناس عن المعاصي بالخواطر والإلهامات، أو بدفع تعرض الشياطين عن بني آدم. والتاليات الذين يتلون كتاب الله على الأنبياء. والحاصل أن كونهم صافين إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها أعني وقوفهم في مواقف العبودية والطاعة، وكونهم زاجرين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي من جواهر الأرواح البشرية، وكونهم تالين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الإنسانية. الوجه الثاني أنها صفات النفوس الإنسانية المقبلة على عبودية الله وعبادته وهم ملائكة الأرض، أقسم بنفوس المصلين بالجماعات الزاجرين أنفسهم عن الشهوات أو عن إلقاء وساوس الشيطان في قلوبهم أثناء الصلوات بتقديم الاستعاذة أو برفع الأصوات، التالين للقرآن في الصلاة وغيرها. أو أقسم بنفوس العلماء الصافات لأجل الدعوة إلى دين الله الزاجرات عن الشبهات والمنهيات بالمواعظ والنصائح الدارسات شرائع الله وكتبه لوجه الله، أو أقسم بنفوس المجاهدين في سبيل الله كقوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا
[الصف: ٣] والزجرة والصيحة سواء. والمراد رفع الصوت بزجر الخيل. وأما التاليات فذلك أنهم يشتغلون وقت المحاربة بقراءة القرآن وذكر الله.
يحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يخرج من الصف وسيفه ينطف دما فإذا رقى ربوة يأتي بالخطبة الغراء.
الوجه الثالث أنها صفات آيات القرآن وذلك أنها أنواع مختلفة بعضها دلائل التوحيد، وبعضها دلائل العلم والقدرة، وبعضها دلائل النبوة، وبعضها دلائل المعاد، وبعضها بيان التكاليف والأحكام، وبعضها تعليم الأخلاق الفاضلة، وكلها مترتبة ترتيبا لا يتغير ولا يتبدل فكأنها أجرام واقفة في صفوف معينة، ولا ريب أنها تزجر المكلفين عن المناهي والمنكرات. وأما نسبة التلاوة إليهن فمجاز كما يقال: شعر شاعر. والفاء في هذه الوجوه لترتب الصفات في الفضل فالفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو بالعكس فلكل وجه. ويحتمل وإن لم يذكره جار الله أن تكون لترتيب معانيها في الوجود كقوله:
الصابح فالغانم فالآيب كأنه قال: الذي صبح فغنم فآب. مثاله المصلون يقفون أوّلا صفوفا ثم يزجرون الوساوس عنهم بالاستعاذة ثم يشتغلون بالقراءة.
وإنما اقتصر على ذكر المشارق لشرفها ولدلالتها على البغارب كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١]. ثم بين أنه جعل الكواكب بحيث يشاهدها الناس من السماء الدنيا وهي تأنيث الأدنى لمنفعتين: الأولى تحصيل الزينة، والثانية الحفظ من الشيطان. والزينة مصدر كالنسبة أو اسم لما يزان به الشيء كالليقة لما تلاق به الدواة. ثم قرأ بالإضافة فلها وجوه: أن يكون مصدرا مضافا إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وإلى المفعول أي بأن زان الله تعالى الكواكب وحسنها في أنفسها، فإن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها، وكذا أشكالها المختلفة كشكل الثريا وبنات النعش والجوزاء وسائر الصور المتوهمة من الخطوط التي تنظم طائفة منها، وقد ترتقي إلى نيف وأربعين منها صور البروج الاثني عشر.
وبالجملة إشراق الجواهر الزواهر وتلألؤها على بسيط أزرق بنظام مخصوص مما يروق الناظر، ويجوز أن يقع الْكَواكِبِ بيانا للزينة وهي اسم لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به فيكون كخاتم فضة. ويجوز أن يراد بالزينة ما زينت به الكواكب كما روي عن ابن عباس أنه فسر الزينة بالضوء. ومن قرأ بتنوين بِزِينَةٍ وجر الْكَواكِبِ فعلى الإبدال، ومن قرأ بتنوين بِزِينَةٍ ونصب الْكَواكِبِ فعلى أنه بدل من محل بِزِينَةٍ أو من السماء، أو على أن المراد بتزيينها الكواكب كما في أحد وجوه الإضافة. قوله وَحِفْظاً فيه وجوه أحدها: أنه محمول على المعنى والتقدير: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشياطين. وثانيها أن يقدر مثل الفعل المتقدم للتعليل كأنه قيل: وحفظا من كل شيطان زيناها بالكواكب. وثالثها قال المبرد: إذا ذكرت فعلا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله بما تقدم. تقول: افعل ذلك وكرامة أي وأكرمك كرامة، وذلك لما علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فالتقدير: وحفظناها
فلعل المسترق يكون غير واقف عليه، والنيران بعضها أقوى من البعض وليس الشيطان نارا صرفا، ولكن الناري غالب عليه. ولا نسلم أن الملائكة لا ينزلون إلى الفلك الأخير بإذن الله. والمارد الخارج من الطاعة وقد مر اشتقاقه في قوله مردوا على النفاق.
والضمير في قوله لا يَسَّمَّعُونَ لكل شيطان لأنه في معنى الجمع. والتسمع تكلف السماع سمع أو لم يسمع وقد ضمن معنى الإصغاء فلذلك عدّي بإلى. وقيل: معنى سمعت إليه صرفت إلى جهته سمعي. قال جار الله: هذه الجملة لا يصح أن تكون صفة لأن الحفظ من شياطين غير سامعين أو مستمعين لا معنى له، ولا يصح أن يكون استئنافا لأن سائلا لو سأل: لم يحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون. لم يستقم فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ به لاقتصاص حال المسترقة للسمع. قلت: لو كان صفة باعتبار ما يؤول إليه حالهم جاز، وكذا إن كان مستأنفا كأنه قيل: لم يحفظ فأجيب لأنهم يؤلون إلى كذا. ومن هنا زعم بعضهم أن أصله لئلا يسمعوا لهم فحذفت اللام ثم «أن» وأهدر عملها كما في قول القائل:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ورد عليه في الكشاف أن حذف اللام في قولك «جئتك أن تكرمني» وحذف «أن» في قول الشاعر جائز، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات. قلت: إن القرآن حجة على غيره مع أن قول الشاعر أيضا لا يصح إلا بتقدير اللام أو «من» مع «أن». والملأ الأعلى الملائكة
يقذفون قذفا أو يدحرون دحورا. ويجوز أن يكون مفعولا له أي لأجل الدحور أو مصدرا في موضع الحال أي مدحورين كقوله مَذْمُوماً مَدْحُوراً [الإسراء: ١٨] وَلَهُمْ أي للشياطين عَذابٌ واصِبٌ دائم وقد مر في النحل في قوله وَلَهُ الدِّينُ واصِباً [النحل:
٥٢] يعني أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ولهم في الآخرة نوع من العذاب غير منقطع إِلَّا مَنْ خَطِفَ في محل الرفع بدلا من الواو في لا يَسَّمَّعُونَ أي لا يسمع إلا الشيطان الذي اختلس الكلمة مسارقة. وقيل: وثب وثبة. وقيل: الاستثناء منقطع خبره فَأَتْبَعَهُ أي أتبعه ورمى في أثره شِهابٌ ثاقِبٌ مضيء أو ماض فإذا قذفوا احترقوا. وقيل: تصيبهم آفة فلا يعودون. وقيل: لا يقتلون بالشهب بل يحس بذلك فلا يرجع ولهذا لا يمتنع غيره من ذلك. وقيل: يصيبهم مرة ويسلمون مرة فصاروا في ذلك كراكبي السفينة للتجارة. وحين بين الوحدانية ودلائلها في أول هذه السورة أراد أن يذكر ما يدل على الحشر والكلام فيه من طريقين: الأوّل أن يقال: قدر على الأصعب فيقدر على الأسهل بالأولى، الثاني قدر في أول الأمر فيقدر في الحالة الثانية. أما الطريق الأوّل فأشار إليه بقوله فَاسْتَفْتِهِمْ أي سل قومك أو صاحبهم وأراد بمن خلقنا ما ذكرنا من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب والشهب والشياطين، وغلب أولي العقل على غيرهم. وقيل: أراد عادا وثمود ومن قبلهم من الأمم الخالية. والقول الأول أقوى بدليل فاء التعقيب ولإطلاق قوله خَلَقْنا اكتفاء ببيان ما تقدمه كأنه قال: خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق، فاستخبرهم أهم أشد خلقا أم هذه الخلائق، ومن هان عليه هذه كان خلق البشر بل إعادته عليه أهون.
وأما الطريق الثاني فإليه الإشارة بقوله إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لازم والباء بدل من الميم عند أكثرهم ولهذا قال ابن عباس: هو الملتصق من الطين الحر. وقال مجاهد والضحاك: هو المنتن. ووجه الاستدلال أن هذا الجسم لو لم يكن قابلا للحياة لم يقبلها من أول الأمر، وإذا قبلها أوّلا فلا يبقى ريب في قبولها ثانيا، وقادرية الله تعالى باقية على حالها فالإعادة أمر ممكن، وقد أخبر الصادق عن وقوعها فيجب وقوعها. وفي هذا الطريق الثاني تقوية للطريق الأوّل، فإن خلقهم من الطين شهادة عليهم بالضعف والرخاوة. ثم بين أنهم مع قيام الحجج الضرورية عليهم مصرون على الإنكار فقال بَلْ عَجِبْتَ من قرأ بفتح التاء فظاهر أي عجبت يا محمد من تكذيبهم وإنكارهم البعث وَهم يَسْخَرُونَ من
هذه حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء. وأجيب بأن معناه: قل يا محمد بل عجبت.
سلمنا لكن العجب هو أن يرى الإنسان ما ينكره الكافر والإنكار من الله تعالى غير منكر.
سلمنا لكن هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات كالمكر والاستهزاء والمعنى:
بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني استعظمتها فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون منها، أو استعظمت إنكارهم البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يصف الله تعالى بالقدرة عليه نظيره الآية وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: ٥]. عند من يرى أن العجب من الله.
وقد جاء في الحديث «يعجب ربك من الشاب ليس له صبوة».
وقال أيضا: «عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته».
والألّ التضرع. ثم حكى عنهم أنه كما أن دأبهم السخرية عند إيراد البراهين فكذلك دأبهم أنهم إذا وعظوا لا يتعظون.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً بينة كانشقاق القمر وغيره من المعجزات يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها ونسبوا ما رأوه إلى السحر. فالحاصل أنه لا تفيد معهم البراهين الضرورية ولا المقدمات الوعظية ولا المعجزات الدالة على صدق إخبارك بالبعث. قوله أَوَآباؤُنَا من قرأ بسكون الواو فمعطوف على محل اسم «أن»، ومن قرأ بفتحها فعليه، أو على الضمير في لَمَبْعُوثُونَ وحسن الفصل بهمزة الاستفهام والمعنى:
أيبعث أيضا آباؤنا؟ يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد. وعلى الأوّل أرادوا إنكار أن يبعث واحد منهم أو من آبائهم فأرغمهم الله سبحانه بقوله قُلْ نَعَمْ تبعثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون أذلاء. وإذا كان كذلك فَإِنَّما هِيَ أي البعثة أو هو مبهم يوضحه خبره زَجْرَةٌ واحدة يعني صيحة النفخة الثانية فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أراد أنهم أحياء بصراء أو أراد أنهم ينظرون أمر الله فيهم. وَقالُوا يا وَيْلَنا الظاهر أن كلامهم يتم عند قوله تُكَذِّبُونَ يقوله الكفرة فيما بينهم. وقيل: إن كلامهم يتم عند قوله يا وَيْلَنا ثم قال الله أو الملائكة هذا يَوْمُ الدِّينِ الجزاء والحساب هذا يَوْمُ الْفَصْلِ القضاء والفرق بين المحسن والمسيء احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر أو بالفسق يعني رؤساءهم. وهذا الحشر بمعنى الجمع لأنه بعد البعث أي اجمعوهم وَأَزْواجَهُمْ أي أشكالهم الذين على دينهم وسيرتهم الزاني مع الزاني، والسارق مع السارق، والشارب مع الشارب. وقيل: قرناءهم من الشياطين. وقيل: نساءهم اللاتي على ملتهم. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام فَاهْدُوهُمْ ادعوهم أو قدموهم والسابق يسمى الهادي أو دلوهم إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وسطها أو طريقها لأنه قال
أراد قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [الأعراف: ١٨] والمعنى أنه لما أخبر عن وقوعنا في العذاب وكان خبر الله حقا فلا جرم وجب وقوعنا في العذاب. قال جار الله: لو حكى الوعيد كما هو لقال «إنكم لذائقون» ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلمون بذلك عن أنفسهم وكلا الاستعمالين شائع فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية كأنهم قالوا: إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاو آخر لزم التسلسل فعلمنا أن غوايتنا أيضا من الله كما مر في قوله فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا هذا تفسير أهل السنة. وأما المعتزلة فيفسرون الآيات هكذا قالوا: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي كنتم مختارين الكفر على الإيمان، وما سلبنا تمكنكم من تسلط بل اخترتم أنتم الطغيان فحق
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ عنوا محمدا ﷺ بين أنهم منكرون للتوحيد وللنبوّة جميعا فردّ عليهم بقوله بَلْ جاءَ متلبسا بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وفيه تنبيه على أن التوحيد دين كل الأنبياء ثم صدقهم في قولهم فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا ونقل الكلام من الغيبة إلى الحضور للمبالغة قائلا إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ ثم كان لقائل أن يقول: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عبيده فقال وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فالحكمة اقتضت الأمر بالخير والطاعة، والنهي عن القبيح والمعصية، والأمر والنهي لا يكمل المقصود بهما إلا بالترغيب والترهيب، وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحققه صونا للكلام عن الكذب هذا بتفسير المعتزلة أشبه. والسنّي يقول: لا اعتراض عليه في شيء ولا يسأل عما يفعل. قال جار الله إِلَّا عِبادَ اللَّهِ استثناء منقطع أي لكن عباد الله الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ قلت: يجوز أن يكون الاستثناء متصلا والمعنى: وما تجزون إلا ما كنتم تعملون من غير زيادة إلا المخلصين فإن جزاءهم بالأضعاف. ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله إِنَّكُمْ للمكلفين جميعا فيصح الاستثناء المتصل مطلقا أي تذوقون العذاب الأليم. قوله مَعْلُومٌ قيل: أي معلوم الوقت كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: ٦٢] وقيل: معلوم الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل: معلوم القدر على حسب استحقاقهم. وقيل: أراد أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى يقطع. ثم فسر ذلك الرزق بأنه فَواكِهُ فقيل: إن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة، وأرزاق أهل الجنة كلها كذلك لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد فلذلك سمي رزقهم فاكهة. وقيل: أراد به التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كانت الفاكهة حاضرة أبدا كان الطعام أولى بالحضور.
كل كأس في القرآن فهي الخمر وكذا في تفسير ابن عباس. والمعين النهر الجاري على وجه الأرض وأصله معيون لأنه الظاهر للعيون أو من عين الماء. وقد يقال: عان الماء يعين إذا ظهر جاريا قاله ثعلب.
وقيل: «فعيل» من المعن وهو المنقعة أو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في السير أي بالغ فيه. واشتدّ وصف الخمر بما يوصف به الماء لأنها تجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء. وبيضاء صفة للكأس: قال الحسن: خمر الجنة أشدّ بياضا من اللبن. ولَذَّةٍ إما مصدر وصف بها للمبالغة كأنها نفس اللذة، أوصي تأنيث. اللذ واللذ اللذيذ واحد كالطب والطبيب ثم بين أن خمر الجنة لا تغتال العقول. يقال: غاله يغوله غولا إذا أهلكه وأفسده، وفيه تعريض بخمر الدنيا ولهذا قدم الظرف وبنى الكلام على الاسم في قوله وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي يسكرون. وخص هذا الوصف بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر. يقال: نزف الشارب على البناء للمفعول إذا ذهب عقله. والتركيب يدور على الفناء والنفاد ومنه نزحت الركية حتى نزفتها إذا لم تترك فيها ماء. وأنزف مثله ومعناه صار ذا نزف. وعن بعضهم أن معنى قوله وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ هو أن الشراب لا ينقطع عنهم لئلا يلزم نوع من التكرار.
والأوّلون حملوه على المبالغة. ثم وصف منكوحهم بقوله وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي حابساتها عن غير أزواجهن كقوله عُرُباً [الواقعة: ٣٧] والعين جمع العيناء مؤنث الأعين وهو كبير العين. ثم شبههن ببيض النعام المكنون في وكناتها، وذلك لأن فيها بياضا يشوبه قليل من الصفرة، وإذا كانت مستورة في أماكنها كانت مصونة عن الغبرة والتغير فكانت في غاية الحسن، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور. ثم عطف على قوله يُطافُ قوله فَأَقْبَلَ وهو مضارع في المعنى إلا أنه على عادة الله تعالى في الأخبار.
ولعل هذا التذاكر عقيب إطافة الكأس فلهذا جيء بالفاء بخلاف ما مر في تخاصم أهل النار.
والمراد أنهم يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة أهل المنادمة والعشرة. قال بعضهم:
لمسوسون مقهورون من دانه إذا ساسه ومنه
الحديث «الكيس من دان نفسه»
وعن بعضهم:
أراد بالمتحادثين الرجلين المذكورين في الكهف في قوله وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الآية: ٣٢] قالَ يعني ذلك القائل أو الله أو بعض الملائكة هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى النار أي هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم منها. عن ابن عباس: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار فَاطَّلَعَ على أهل النار فرأى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ وسطها قالَ لقرينه تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ «إن» مخففة واللام فارقة. والإرداء الإهلاك، وبخه على أنه كان يدعوه في الدنيا إلى إنكار البعث المتضمن للكفر المؤدّي إلى الهلاك الحقيقي.
والخطاب مع القرين إما أن يكون بحيث يسمعه حقيقة وذلك لرفع الحجاب وتقريب المسافة أو كما أراد الله بقدرته، وإما أن يخاطبه وإن لم يمكنه السماع لبعده كما يخاطب الموتى ومن في حكمهم، نظيره ما مر في قصة صالح فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [الأعراف: ٧٩] إلى آخر الآية والله أعلم. ثم شكر الله تعالى على أن وفقه لنعمة الإسلام وأرشده إلى الحق وعصمه عن الباطل فقال وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ في النار مثلك أطلق إطلاقا لأن الإحضار يستعمل في الشر غالبا ولا سيما في اصطلاح القرآن.
وحين تمم كلامه مع الرجل الذي كان قرينا له في الدنيا وهو الآن من أهل النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة قائلا أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وفيه قولان أحدهما: إن أهل الجنة لا يعلمون في أوّل دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فيستفهمون عن ذلك فيما بينهم، أو يسألون الملائكة فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون والتقدير: نحن مخلدون منعمون فما من شأننا أن نموت ولا أن نعذب. وثانيهما أن هذا مما يقوله المؤمن تحدثا بنعمة الله سبحانه واغتباطا بحاله، فإن الذي يتكامل خيره وسعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول. أفيدوم هذا لي؟ وإن كان على يقين من دوامه. وأيضا إنه قال ذلك بمسمع من قرينه ليكون توبيخا له وليحكيه الله فيكون لنا لطفا وزجرا. احتج نفاة عذاب القبر بقوله إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى فإنه يدل على أن الإنسان لا يموت إلا موتة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلا مرتين. وأجيب بأن المراد بالموتة الأولى كل ما يقع في الدنيا. وقوله إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يجوز أن يكون من تمام كلامه لقرينه تقريعا له وتوبيخا وأن يكون من قول أهل الجنة فيما بينهم أي إن هذا الأمر
أصل النزل الفضل والريع في الطعام يقال: طعام كثير النزل. فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم اللذة والسرور، وحاصل تلك الشجرة الألم والغم. ويمكن أن يقال: النزل ما يقدّم للضيف، ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ولكنهم وبخوا على ذلك. وظاهر القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم والرائحة مؤلمة التناول صعبة الابتلاع إلا أن المفسرين اختلفوا في ماهيتها، فذكر قطرب أنها شجرة مرة تكون بتهامة. وقال غيره:
إنها ليس لها في الدنيا وجود بدليل قوله إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ وذلك أنها خلاف المألوف والمعتاد فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله تعالى وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن ويزيد في شبهته كقوله فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: ١٢٥] وقيل: إنما كانت فتنة لهم لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك عليهم فهو كقوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: ١٣] وذكر المفسرون أن ابن الزبعري قال لصناديد قريش إن محمدا يخوّفنا بالزقوم وإن الزقوم بلسان بربر وإفريقية الزبد والتمر.
وذكروا أيضا أن أبا جهل أدخلهم بيته وقال: يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال:
تزقموا فهذا الذي يوعدكم محمد به فأنزل الله صفة الزقوم.
وذكر بقية أوصاف الشجرة منها إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. وفيه تكذيب للطاعنين فيه كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر. ومنها طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ قال جار الله: الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية وذلك أن يكون وجه الاستعارة مجرد الطلوع أي الظهور، أو معنوية وذلك إذا كان يشبه الطلع شكلا ولونا. وفي تشبيه ثمرتها برؤوس الشياطين أقوال أحدها وهو الأقوى: أنه تمثيل وتخييل وذلك أن الشيطان مثل في القبح ونفرة الطباع عنه كما أن الملك مثل في الحسن وميل النفوس إليه، وإذا كان الشيطان كله مستقبحا فرأسه كذلك، وتشبيه الثمرة برأسه أولى للاستدارة وللتوسط في الجحيم. الثاني أن الشيطان هاهنا نوع من الحيات تعرفها العرب، خفاف لها أعراف ورؤوس قباح. الثالث أنه شجر معروف عند العرب قبيح الأعالي يسمى الأستن وثمره يسمى رؤوس الشياطين. الرابع قال مقاتل: رؤوس الشياطين حجارة سود تكون حول مكة. ولعل هذا بل الثالث والثاني أيضا يعود إلى الأول إلا أنه بعد التسمية كأنه صار أصلا يشبه به. ثم
ومعنى «ثم» التراخي في الزمان كأنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة تكميلا للتعذيب، أو التراخي بالرتبة لأن الشراب أبشع من الطعام بكثير. قال مقاتل: معنى «ثم» في قوله ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أنهم يخرجون من الجحيم ودركاتها إلى موضع فيه الزقوم والحميم، وبعد الأكل والشرب يردّون إلى موضعهم أي من الجحيم فكأنهم في وقت الأكل والشرب لا يعذبون بالنار. وقيل: هو كقولهم «فلان يرجع إلى مال ونعمة» أي هو فيها. وقيل: «ثم» لتراخي الأخبار أي فقد صح أن مرجع الكفار إلى النار. وقيل: «ثم» مع الجملة قد تدل على التقديم أي قبل ذلك كان مرجعهم إلى الجحيم. ثم بين أن سبب وقوعهم في أصناف العذاب المذكور هو التقليد. والإهراع الإسراع الشديد كأنهم يساقون سوقا ولو لم يوجد في ذم التقليد إلا هذه الآية لكفى. ثم أراد تسلية النبي ﷺ إجمالا بقوله وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي قبل قومك أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ثم استثنى من قوله وَلَقَدْ ضَلَّ أو من الْمُنْذَرِينَ المهلكين عباده المخلصين فإن عاقبتهم كانت حميدة. ثم سلاه بوقائع الأمم الخالية تفصيلا. وقدّم قصة نوح عليه السلام لكونه أبا ثانيا ونداؤه في قوله رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [المؤمنون:
٢٦] أو قوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦] واللام الداخلة على فَلَنِعْمَ جواب قسم محذوف أو للابتداء، والمخصوص بالمدح وهو نحن محذوف، والجمع لتصوير العظمة والكبرياء، وفيه وفي فاء التعقيب في فَلَنِعْمَ دليل على أن نداء العظيم الكبير حقيق بأن يكون مقرونا بإجابة. والكرب العظيم ما هو فيه من مخاوف الطوفان أو من إيذاء قومه مع اليأس من إيمانهم وهذا أقرب. وفي قوله هُمُ الْباقِينَ بصيغة الحصر دلالة على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فنوا. روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ذريّته وهم سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان شرقا وغربا، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وتركنا عليه في المتأخرين من الأمم هذه الكلمة وهي سَلامٌ عَلى نُوحٍ ومعنى فِي الْعالَمِينَ أن هذه التحية ثبتها الله فيهم فيسلم الثقلان عليه إلى يوم القيامة. ثم بين أن سبب هذه التشريفات هو كونه محسنا وهذا جزاء
التأويل:
وَالصَّافَّاتِ إشارة إلى ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجساد في أربعة صفوف: الأول للأنبياء، والثاني للأولياء، والثالث للمؤمنين، والرابع لأهل الكفر فَالزَّاجِراتِ هي الإلهامات الربانية للعوام عن المناهي، وللخواص عن رؤية الأعمال، وللأخص عن الالتفات إلى غير الله فَالتَّالِياتِ ذِكْراً هم الذين يذكرون الله في الخلوات بخلوص النيات. رب سموات القلوب وأرض النفوس وما بينهما من صفاتهما ورب مشارق القلوب يطلع منها شموس الشواهد وأقمار الطوالع ونجوم اللوامع. السماء الدنيا هي الرأس، وكواكبها الحواس، والشهب هي الخواطر الرحمانية تدفع بها الوساوس الشيطانية طِينٍ لازِبٍ أي لاصق بكل ما يصادفه فقوم لصقوا بالدنيا وقوم لصقوا بالآخرة وقوم لصقوا بنفحات ألطاف الحق، فأذابتهم وجذبتهم عن أنانيتهم بهويتها كما تذيب الشمس الثلج وتجذبه عنه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام. فقوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك، والأوّلون أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف. والآخرون قسمان: قوم لهم أعمال يسترها الحق عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة كما
قال «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري»
وقوم لهم ذنوب لا يطلع عليها إلا الله فيسترها عليهم كما
جاء ذكره في الحديث «إن الله يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كتفه يستره من الناس فيقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب. ثم يقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم. ثم يقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه ورأى نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته» «١»
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية وبعد ذلك لا موت، بل ينتقل من دار إلى دار. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ بل لمثل هذه الأمور تبذل الأرواح وتفدى الأشباح كما قيل: (شعر)
وما بقيت من اللذات إلا | أحاديث الكرام على المدام |
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه | وإن بات من ليلى على اليأس والصدّ |
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٣ الى ١٨٢]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢)
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧)
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢)
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢)
إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧)
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢)
وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧)
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
يزفون بضم الياء وكسر الزاي: حمزة. الباقون: بفتح الياء إِنِّي أَرى أَنِّي أَذْبَحُكَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. وتَرى بضم التاء وكسر الراء: علي وخلف وحمزة. سَتَجِدُنِي بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وَإِنَّ إِلْياسَ موصولا كهمزة الوصل: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون: بكسر الهمزة اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ بالنصب في ثلاثتها على البدل: سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل. الباقون: برفعها على الابتداء والخبر. آل ياسين ابن عامر ونافع ورويس. الآخرون إلياسين كأنه جمع إلياس لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى موصولا والابتداء بكسر الهمزة: يزيد وإسماعيل والأصبهاني عن ورش الباقون: بفتحها في الحالين.
الوقوف:
لَإِبْراهِيمَ هـ ط لأن التقدير «واذكر». وجوز في الكشاف أن يتعلق الظرف بما في الشيعة من معنى المتابعة فلا وقف سَلِيمٍ هـ تَعْبُدُونَ هـ ج للابتداء بالاستفهام
هـ مُصْبِحِينَ
هـ لا وَبِاللَّيْلِ
ط تَعْقِلُونَ
هـ الْمُرْسَلِينَ
هـ لا الْمَشْحُونِ
هـ لا الْمُدْحَضِينَ
هـ ج لحق المحذوف مع الفاء مُلِيمٌ هـ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ هـ لا يُبْعَثُونَ هـ سَقِيمٌ هـ ج يَقْطِينٍ هـ ج أَوْ يَزِيدُونَ هـ ط إِلى حِينٍ هـ ط الْبَنُونَ هـ ط شاهِدُونَ هـ لَيَقُولُونَ هـ لا وَلَدَ اللَّهُ لا تعجيلا لتكذيبهم لَكاذِبُونَ هـ الْبَنِينَ هـ ط لابتداء استفهام آخر تَحْكُمُونَ هـ تَذَكَّرُونَ هـ ج لأن «أم» تصلح استئنافا مُبِينٌ هـ لا لتعجيل أمر التعجيز صادِقِينَ
هـ نَسَباً ط لَمُحْضَرُونَ هـ لا لتعلق الاستثناء وسُبْحانَ اللَّهِ معترض يَصِفُونَ هـ الْمُخْلَصِينَ هـ تَعْبُدُونَ هـ لا بِفاتِنِينَ هـ لا الْجَحِيمِ هـ مَعْلُومٌ هـ الصَّافُّونَ هـ ج للعطف مع الاتفاق الْمُسَبِّحُونَ هـ ج لَيَقُولُونَ هـ لا مِنَ الْأَوَّلِينَ هـ لا الْمُخْلَصِينَ هـ يَعْلَمُونَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لأن ما بعده يصلح ابتداء مقولا للكلمة الْمَنْصُورُونَ هـ ص لعطف الجملتين المتفقتينْ غالِبُونَ
هـ حِينٍ هـ لا للعطف ولشدة اتصال المعنى يُبْصِرُونَ هـ يَسْتَعْجِلُونَ هـ الْمُنْذَرِينَ هـ حِينٍ هـ لا يُبْصِرُونَ هـ عَمَّا يَصِفُونَ هـ ج لعطف جملتين مختلفتين الْمُرْسَلِينَ هـ ج للابتداء بالحمد الذي به يبتدأ الكلام وإليه ينتهي مع اتفاق الجملتين الْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
الضمير في شِيعَتِهِ يعود إلى نوح والمراد أن إبراهيم ممن شايع نوحا على
الأوّل أنه صدر منه كذبا لمصلحة رأى فيه، ولما
جاء في الحديث «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» : قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله لسارة إنها أختي» «١»
وقد سبق تقرير ذلك في الأنبياء. الثاني وهو الأقوى أنه كلام صادق لأن الكذب قبيح وإن اشتمل على مصلحة. وأما الحديث فنسبة الراوي إلى الكذب أولى من نسبة نبي الله إلى ذلك. وفي التوجيه وجوه: الأوّل: إن النظر في النجوم يريد به النظر في علم النجوم وأحكامها وكتبها وذلك ليس بحرام ولا سيما في ذلك الشرع فليس فيه إلا اعتقاد أنه تعالى خص كل واحد من الكواكب بقوّة وخاصية يظهر بها منه أثر مخصوص، والإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة له، إما في بدنه أو في قلبه، فلعل به سقما كالحمى الثابتة، أو أراد سيسقم لأمارة نجومية، أو أراد به الموت الذي يلحقه لا محالة ولاداء أعي منه. الثاني: أن المراد بالنجوم ما جاء في قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً إلى آخر الآية. أي نظر فيها ليعرف أحوالها وأنها قديمة أو محدثة. وقوله إِنِّي سَقِيمٌ أي سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل البلوغ، أو سقيم النفس لكفركم. الثالث: إن النجوم النبات أي فنظر فيها متحريا منها ما فيه شفاء لسقمهم وهمهم أن به ذلك وكان به. وقال الأزهري عن أحمد بن يحيى: النجوم جمع نجم وهو كل ما تفرق ومنه نجوم الكتابة أي نظر في متفرقات
راغ بقوله إِنِّي سَقِيمٌ حتى خلا بها وسماها آلهة على زعمهم. وقوله أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ استهزاء بها وكان عندها طعام زعموا أنها تأكل منه. وقيل: وضع الطعام ليبارك فيه.
وروى أن سدنتها كانوا يأكلون ما يوضع عندها من الطعام وينطقون عند الضعفة عن لسانها يوهمون أنها تأكل وتنطق.
وإنما جاء في هذه السورة فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ بالفاء وفي «الذاريات» قالَ أَلا تَأْكُلُونَ بغير الفاء لأنه قصد من أول الأمر تقريع من زعم أنها تأكل وتشرب، وفي «الذاريات» يستأنف تقديره: قربه إليهم فلم يأكلوها فلما رآهم لا يأكلون فقال ألا تأكلون.
فَراغَ عَلَيْهِمْ عداه بعلى لأن الميل الأول كان على سبيل الرفق استهزاء، وهذا كان بطريق العنف والقهر وهذا كمال يقال في المحبوب: مال إليه. وفي المكروه: مال عليه. وقوله ضَرْباً مصدر راغ من غير لفظه أو لفعل محذوف أو حال أي يضرب ضربا أو ضاربا.
ومعنى بِالْيَمِينِ أي باليد اليمنى لأنها أقوى على الأعمال أو بالقوّة مجازا، أو بسبب الحلف وهو قوله تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ أي إلى إبراهيم يَزِفُّونَ يمشون على سرعة. وزفيف النعامة ابتداء عدوها. ومن قرأ بضم الياء فإما لازم من أزف إذا صار إلى حال الزفيف، أو متعد والمفعول محذوف أي يزفون دوابهم أو بعضهم بعضا وقد مر نظيره في التوبة في قوله وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التوبة: ٤٧] قال بعض الطاعنين، قوله فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ دل على أنهم عرفوا كاسر أصنامهم. وقوله في «الأنبياء» أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ [الآية: ٦٢] دل على أنهم لم يعرفوا الكاسر فبينهما تناقض. وأجيب بأن هؤلاء غير أولئك فالذين عرفوه ذهبوا إليه مسرعين، والذين لم يعرفوه بعد استخبروا عنه.
على أن قوله فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ لا دلالة له على أنهم عرفوا أن الكاسر هو إبراهيم فلعلهم أقبلوا إليه لأجل السؤال عن الكاسر. وحين عاتبوه على فعله أراد أن يبين لهم فساد طريقتهم ف قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وذلك أن الناحت لم يحدث فيه إلا صورة معينة فيكون معناه أن الشيء الذي لم يكن معبودا لي صار بسبب تصرفي فيه معبودا لي وفساد هذا معلوم بالبديهة، احتج جمهور الأشاعرة بقوله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ على أن العبد ليس خالق أعماله لأن المعنى خلقكم وأعمالكم. وزيف بأن «ما» موصولة لتناسب قرينتها في قوله ما
وليتوجه التوبيخ ولكيلا يلزم التناقض فإن النحت عملهم. والصحيح أن الآية كقوله بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ [الأنبياء: ٥٦] أي فطر الأصنام.
ثم إن إبراهيم لما ألقمهم الحجر بهذا القول وألزمهم عدلوا إلى طريقة الإيذاء وقالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون. وتقدير الآية: ابنوا له بنيانا واملؤه نارا وألقوه فيها. والجحيم النار العظيمة. ومعنى الفاء في قوله فَأَرادُوا كقوله أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: ٤] كأنه قيل: فبنوا البنيان وملؤه نارا وألقوه فيها فنجيناه منها. وقد صح أنهم أرادوا به كيدا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ الأذلين وأما في الأنبياء فلم يقصد هذا الترتيب فاقتصر على الواو العاطفة. وإنما اختصت هذه السورة بقوله الْأَسْفَلِينَ لأنه ذكر أنهم بنوا بنيانا عاليا فكان ذكر السفل في طباقه أنسب. ثم ذكر بقية قصة إبراهيم وقوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي كقوله في «العنكبوت» إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [الآية: ٢٦] وإنما حكم بقوله سَيَهْدِينِ ربي إلى ما فيه صلاحي في الدارين اعتمادا على فضل الله أو عرف ذلك بالوحي. وحين هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ والله تعالى بين استجابته بقوله فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وصف الغلام بالعلم في سورة الحجر وبالحلم هاهنا. فذهب العلماء إلى أنه أراد بغلام عليم في صغره حليم في كبره، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ومن هنا انطوت البشارة على معان ثلاثة: أحدها أن الولد ذكر، والثاني أنه يبلغ أوان الحلم، والثالث أنه يكون حليما، وأيّ حلم أعظم من استمساكه حين عرض أبوه عليه الذبح فقال سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ وفيه أن ولده قائم مقامه في الشرف والفضيلة فوصفه بالحلم كما وصف به إبراهيم في قوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: ٧٥]. وقيل: العليم إسحق لقوله فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذاريات: ٢٩] والحليم إسماعيل. ثم حكى حديث ذبحه قائلا فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي قوي على أن يمشي مع أبيه في حوائجه. والظرف بيان كأنه قال أوّلا فلما بلغ السعي فقيل: مع من؟ فأجيب مع أبيه. ولا يجوز تعلقه بالسعي لأن صلة المصدر لا تتقدّم عليه ولا بقوله بَلَغَ لأنهما لم يبلغا معا حد السعي- والمعنى في اختصاص الأب إخراج الكلام مخرج الأغلب. وقال جار الله: السبب فيه أن الأب أرفق الناس به وأعطفهم عليه وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته. يروى أنه كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وقيل أراد السعي في المنافع وفي طاعة الله.
اعلم أن الناس اختلفوا في الذبيح، فعن أبي بكر الصديق وابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والضحاك أنه إسماعيل
لقوله ﷺ «أنا
فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله. وذلك أن عبد المطلب نذر إن بلغ بنوه عشرة أن يذبح واحدا منهم تقربا، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم بالقداح فخرج قدح عبد الله فمنعه أخواله ففداه بعشرة من الإبل، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه ففداه بعشرة أخرى، وضرب مرة أخرى فخرج قدحه وهكذا يزيد عشرة عشرة إلى أن تمت مائة فخرج القدح على الجزر فنحرها وسن الدية مائة.
وفي رواية أن أعرابيا قال للنبي ﷺ «يا ابن الذبيحين». فتبسم فسأل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده. فخرج السهم على عبد الله فمنعوه ففداه بمائة من الإبل.
حجة أخرى: نقل عن الأصمعي أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عقلك؟ ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه وسن النحر بمكة. وحجة أخرى: وصف إسماعيل بالصبر في قوله وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء: ٨٥] وهو صبره على الذبح في قوله سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ووصفه بصدق الوعد إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: ٥٤] وذلك أنه وعد أباه الصبر على قضاء الله أو على الذبح فوفى به. أخرى: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [مريم: ٥٤] فيمن قرأ بالنصب لأنه إذا بشر بالولد من صلبه علم أنه لم يؤمر بذبحه. أخرى: أجمعوا على أن إسماعيل مقدم في الوجود على إسحق فهو المراد بقوله رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ثم إنه ذكر عقيبة قصة الذبح. وأيضا قوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ يجب أن يكون غير قوله فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وإلا لزم التكرار. حجة أخرى:
ان قرني الكبش كانا ميراثا لولد إسماعيل عن أبيهم وكانا معلقين بالكعبة إلى أن احترق البيت في أيام ابن الزبير والحجاج. وعن علي وابن مسعود وكعب الأحبار وإليه ذهب أهل الكتاب أن الذبيح إسحق لما
روي أن النبي ﷺ سئل أي النسب أشرف؟ فقال: يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
وأجابوا عن قوله: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ أنه بشر بغلام أوّلا ثم بنبوته ثانيا. وأيضا صرح بالمبشر به في قوله فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: ٧١] وفي قوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ فيحمل عليه المبهم في قوله فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ وأيضا لا نسلم أن البشارة بيعقوب كانت متصلة ببشارة إسحق اعتبارا بقراءة من قرأ يعقوب [هود: ١٧] بالرفع. وأيضا أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي هو مهاجرته إلى الشام ثم قال فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ فوجب أن يكون الغلام الحليم قد حصل له في الشام وذلك الغلام لم يكن إلا إسحق، لأن إسماعيل قد نشأ بمكة. وكان الزجاج يقول: الله أعلم أيهما الذبيح. ويتفرع على اختلاف المفسرين في الذبيح اختلافهم في موضع الذبح، فالذين قالوا إن الذبيح إسماعيل ذهبوا إلى أن الذبح كان
أوف بنذرك فانظر ماذا ترى هو من الرأي. ومن قرأه من الإراءة فالمعنى ماذا تبصر من رأيك وتدبيرك. وإنما شاوره في حتم من الله ليثبته إن جزع ويفرح بصبره إن ثبت ولئلا يقع الذبح معافصة من غير إعلام به وبسببه، وليكون سنة في المشاورة فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في الأكل من الشجرة لما فرط منه ذلك قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي به فحذف الجار كقوله: أمرتك الخير. أي أمرتك بالخير أو أمرك على تسمية المأمور به بالمصدر ثم إضافته إلى المفعول: فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا وخضعا لأمر الله. قال قتادة: أسلم هذا ابنه وهذا نفسه. وَتَلَّهُ أي صرعه. واللام في لِلْجَبِينِ كهي في قوله وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الإسراء: ١٠٩] والجبين أحد جانبي الجبهة. وقيل: كبه لوجهه لأن الولد قال له اذبحني وأنا ساجد.
يروى أنه حين أراد ذبحه قال: يا بنيّ خذ الحبل والمدية ننطلق إلى الشعب ونحتطب، فلما توسطا الشعب أخبره بما أمر فقال له: اشدد به رباطي لئلا أضطرب واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل. فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله. ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان فقال له: كبني على وجهي ولا تنظر إليّ حتى لا تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله.
قال جار الله: تقدير الكلام فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به العيان ولا يحيط به البيان من استئثارهما بما أنعم الله عليهما من دفع البلاء وبما اكتسبا في تضاعيف ذلك من الثواب والثناء، وقد أشير إلى جميع ذلك بقوله إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا الأمر الذي قد وقع لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الذي يتميز فيه المخلص عن المدعى والمكروه الذي لا أصعب على النفس منه.
يروى أنه لما وصل موضع السجود منه
وقيل: إنه وضع السكين على قفاه فانقلب السكين ونودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا. فنظر فإذا جبرائيل عليه السلام معه كبش أقرن أملح فكبر جبرائيل والكبش وإبراهيم وابنه وأتى المنحر من منى فذبحه
وذلك قوله سبحانه وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ والفداء جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه. والذبح اسم لما يذبح كالطحن لما يطحن. وقوله عَظِيمٍ أي سمين ضخم الجثة بالقياس إلى أمثاله وهي السنة في الأضاحي.
قال ﷺ «استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم».
والاستشراف جعلها شريفة وكريمة. وعن سعيد بن جبير: حق له أن يكون عظيما وقد رعى في الجنة أربعين خريفا. وفي قول ابن عباس: إنه الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه وكان يرعى في الجنة إلى أن فدى به إسماعيل. وقيل: سمي عظيما لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد خليله. وقيل: وصفه بالعظم لبقاء أثره إلى يوم القيامة فإنه ما من سنة إلا ويذبح بسبب ذلك من الأنعام ما لا يحصيه إلا الله. وعن الحسن. أنه وعل أهبط عليه من ثبير. وقال السدّي:
نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح ينحط من الجبل فقام عند إبراهيم عليه السلام فذبحه وخلى ابنه.
استدل بعض الأصوليين من أهل السنة بالآية على جواز نسخ الحكم قبل حضور وقته. وقالت المعتزلة. وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية بعدم الجواز لاستلزامه البداء أو الجهل، وزعموا أنه تعالى أمر إبراهيم في المنام بمقدمات الذبح كاضجاع ابنه ووضع السكين على حلقه، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل أوان ورود الأمر. سلمنا أنه أمر بنفس الذبح لكن لم يجوز أنه قطع الحلقوم إلا أنه كان يلتئم جزءا فجزءا فلهذا قيل له قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا. والفداء فضل من الله في حقه وتعظيم له بدلا من عدم وقوع الذبح في الظاهر ولهذا قال وَفَدَيْناهُ. بإسناد الفداء إلى ذاته تعالى. والحق أن نسخ الحكم قبل وقته لا يدل على البداء والعبث كما أنه بعد الوقت لا يدل على ذلك فقد يكون غرض الآمر أن يعلم أن المأمور هل يعزم على الفعل ويوطن نفسه على الانقياد والطاعة أم لا. وتصديق الرؤيا يكفي فيه الإتيان بمثل هيئة الذبح، فمن الرؤيا ما يكون تأويلها بالشبيه كرؤيا يوسف، والفداء زيادة تشريف وتكريم ووضع سنة مؤكدة.
وروي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقيت سنة في الرمي.
وروي أنه لما ذبحه قال جبرائيل: الله أكبر الله أكبر. فقال الولد الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر. فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد. فبقي سنة.
قوله وَتَرَكْنا إلى قوله الْمُؤْمِنِينَ قد مر نظيره في قصة نوح إلا أنه لم يقل هاهنا فِي الْعالَمِينَ اكتفاء بما علم في قصة نوح. ولم يقل هاهنا إِنَّا
بل اقتصر على كَذلِكَ لأنه سبق ذكر التأكيد في هذه القصة فلم يحتج إلى إعادته على أنه قد بقي من القصة شيء فناسب الاختصار في الاعتراض. قوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ من جعل الذبيح إسماعيل قال: وبشرناه بإسحاق بعد إسماعيل. ومن جعل الذبيح إسحق قال بشر بنبوّته وقد كان بشر بمولده. قوله نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ كل منهما حال مقدرة من الفاعل أي بشرناه به مقدرا وعالما وحاكما بأنه نبي صالح. وقد أطنب صاحب الكشاف في هذا المقام حيث بنى الكلام على أنه حال مقدرة من إسحق. وهو عندي تطويل بلا طائل فليتأمل. وَبارَكْنا عَلَيْهِ قيل: أي على الغلام المبشر به. وقيل: على إبراهيم: وَعَلى إِسْحاقَ أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا. ومن جملة ذلك ما
روي أنه أخرج من صلب إسحق ألف نبي أوّلهم يعقوب وآخرهم عيسى
وهم المشار إليهم بقوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ ويعلم من قوله وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ أن البر قد يلد الفاجر ولا عار على الأب، وأن الشرف بالحسب لا بالنسب. وأما قصة موسى فلا خفاء بها. والكرب العظيم تسلط فرعون وجفاؤه على قومه. وقيل: الغرق. والضمير في نَصَرْناهُمْ لهما ولقومهما. والمستبين البليغ في بيانه وهو التوراة بان وأبان واستبان بمعنى إلا أن الثالث أبلغ. والصراط المستقيم دين الله الذي اشترك في أصوله جميع الرسل. وأما إلياس فالجمهور على أنه نبي من بني إسرائيل بعث بعد موسى وكان من ولد هارون. وقيل:
هو إدريس النبي وقد مر ذكره في سورة مريم. و «إذا» ظرف ٣ لمحذوف أي اذكر يا محمد لقومك إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ الله. قال الكلبي: أي ألا تخافون عبادة غير الله. وحين خوّفهم مجملا ذكر سببه فقال أَتَدْعُونَ أي أتعبدون بَعْلًا وهو اسم صنم من ذهب كان ببعلبك من بلاد الشام طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس. قال الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه:
لو جوّزنا دخول الشيطان في جوف الصنم وتكلمه فيه لكان قادحا في كثير من المعجزات كحنين الجذع وكلام الجمل. قلت: هذا الوهم زائل بعد ثبوت النبوّة بمعجزات أخر.
وقيل: البعل الرب بلغة اليمن. والمعنى أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة أحسن الخالقين. ثم بين جزاء تكذيبهم أنهم محضرون في العذاب غدا. وباقي القصة ظاهر إلا قوله إلياسين فمن قرأ بالإضافة فعلى أن إدريس بن ياسين أي سلام على أهل ياسين. وقيل:
آل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: يس اسم القرآن فكأنه قيل: سلام على من آمن بكتاب الله.
والوجه الأوّل هو أنسب الأقوال. ومن قرأ على صورة الجمع فقد قال الفراء: أراد به إلياس
وقيل: إلياس موكل بالفيافي كما وكل الخضر بالبحار، وهما آخر من يموت من بني آدم.
وكان الحسن يقول: قد هلك إلياس والخضر ولا نقول كما يقول الناس. وقصة لوط مذكورة مرارا. ومعنى مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ
أن مشركي العرب كانوا مسافرين إلى الشام فلعل أكثر مرورهم بتلك الديار كان في هذين الوقتين لأمر عارض كحر أو غيره. وقصة يونس أيضا مما سبق ذكرها، وفيها مزيد تسلية وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم: إنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله تعالى. فالإباق وهو هرب العبد من سيده لا يوجب العصيان، والأظهر أن قوله وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
مذكور في معرض التعظيم على قياس أوائل سائر القصص، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان الإرسال من الله تعالى. وأما الجواب عن إباقه فقد مر في قوله وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [الأنبياء: ٨٧] قوله الْمَشْحُونِ
كالعلة لقوله فَساهَمَ
والمساهمة المقارعة. يقال: أسهم القوم إذا اقترعوا.
قال المبرد: هي من السهام التي تجال للقرعة، والمدحض المغلوب في الحجة وغيرها وحقيقته الذي أزلق عن مقام الظفر والغلبة. يروى أنه حين غضب على قومه خرج من بينهم حتى أتى بحر الروم ووجد سفينة مشحونة فحملوه فيها، فلما وصلت إلى لجة البحر أشرفت على الغرق فقال الملاحون: إن فيكم عاصيا وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر. وقد يزعم أهل البحر أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري فاقترعوا فخرج من بينهم يونس. فقال التجار: نحن أولى بالمعصية من نبي الله. ثم عادوا ثانيا وثالثا فخرج سهمه فقال: يا هؤلاء أنا العاصي ورمى بنفسه إلى الماء. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه كاللقمة وَهُوَ مُلِيمٌ داخل في الملامة ومنه المثل: رب لائم مليم. أي يلوم غيره وهو أحق منه باللوم فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قيل: أي من المصلين. قيل: أي من المصلين.
عن قتادة: كان كثير الصلاة في الرخاء. وقيل: من الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح والتقديس
والضمير في يُبْعَثُونَ للخلائق بالقرينة وقوله لَلَبِثَ فيه أقوال: أحدها: يبقى هو والحوت إلى يوم البعث. والثاني يموت الحوت ويبقى هو في بطنه. والثالث يموتان ثم يحشر يونس من بطنه. واختلفوا في مدّة لبثه في بطن الحوت، فعن الحسن أنه لم يلبث إلا قليلا. وقيل: ثلاثة أيام. وعن عطاء: سبعة. وعن الضحاك: عشرون. وقال الكلبي:
أربعون.
روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر فلفظه بالعراء وهو المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه.
عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال «سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا ربنا إنا لنسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة. فقال: نعم ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح. قال: نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل»
وحكي في بعض التفاسير وإن لم يطابقه رأي أصحاب المسالك كل المطابقة أن الحوت أخرجه إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى البطائح ثم دجلة فلفظه بأرض نصيبين لم تنله آفة إلا أن بدنه عاد كبدن الصبي حين يولد، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وذلك كالمعجزة له. قال المبرد والزجاج: هو «يفعيل» من قطن بالمكان إذا أقام به فيشمل كل شجرة لا تقوم على ساق كالدباء والبطيخ إلا أن المفسرين خصصوه بالدباء قالوا: لأن الذباب لا يجتمع عنده
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتحب القرع. قال: أجل هي شجرة أخي يونس.
قال الواحدي: في الآية دلالة أوّلا على أن اليقطين لم يكن من قبل فأنبته الله لأجله. والآخر أن اليقطين كان قائما بحيث يحصل له ظل. قلت: الثاني مسلم إلا أن الأول ممنوع إن أراد به النوع وإن أراد به الشخص فمسلم.
وقيل: هي التين. وقيل: هي شجرة الموز تغطى بورقها واستظل بأغصانها واغتذى من ثمارها.
وروي أنه كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة تأتيه فيشرب من لبنها.
وروي أنه مر زمان على الشجرة فيبست فبكى جزعا فأوحى إليه: بكيت على شجرة ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون فرجع إلى قومه.
وقد سبق في سورة يونس باقي التفسير و «أو» في قوله أَوْ يَزِيدُونَ ليست للشك وإنما المراد وصفهم بالكثرة في مرأى الناظر أي إذا رآها الرائي قال هي مائة ألف أو أكثر. ومن هذا التأويل يتضح وجه العطف من حيث المعنى كأنه قيل:
وأرسلناه إلى جم غفير مقول فيهم إنهم مائة ألف أو يزيدون. وقيل: التقدير وأرسلناه إلى
وحين بين المذاهب الفاسدة بقضها بيّن أن أهل الشرك ومعبوديهم ليس لهم أن يفتنوا على الله أي يحملوا غيرهم على سلوك سبيل الفتنة والضلال إلا من سبق في علم الله بأنه من أهل النار. وقالت المعتزلة: إلا من سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها.
وجوز جار الله أن تكون الواو في وَما تَعْبُدُونَ بمعنى «مع» وجاز السكوت على تَعْبُدُونَ كما في قولهم «كل رجل وضيعته». ثم قال ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي على ما تعبدون بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ مثلكم. وقال: والوجه في نظم هذه الآيات أن يكون قوله سُبْحانَ اللَّهِ إلى قوله الْمُسَبِّحُونَ من كلام الملائكة والمعنى: ولقد علمت الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا: سبحان الله، فنزهوه عن ذلك واستثنوا عباده المخلصين. وقالوا للكفرة: فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحدا من خلقه إلا من كان مثلكم ممن علم الله عز وجل لكفرهم أنهم أهل النار. وكيف نكون مناسبين لرب العزة وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يتجاوزه ونحن الصافون كما مر في أول السورة ونحن المسبحون وقال في التفسير الكبير: هاتان الجملتان تدلان على الحصر، وفيه إشارة إلى أن طاعة البشر كالعدم بالنسبة إلى طاعة الملك فكيف يجوز أن يقال: البشر تقرب درجتهم من درجة الملك فضلا عن دعوى الأفضلية؟ قلت: لا شك أن هذا التركيب يفيد الحصر إلا أنه لم يفرق بين قصر الأول على الثاني كما في الآية وبين عكسه، والذي يفيد مدعاه هو العكس لا الأصل فافهم. وقيل: هذه الآيات من قول رسول الله ﷺ أي وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله. ثم ذكر أعمالهم وأنهم الذين يصطفون في الصلاة ويسبحون الله وينزهونه. ثم حكى أن مشركي قريش كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً أي كتابا من جملة كتب الأوّلين أي نظيرها في بيان الشرائع والتكاليف لأخلصنا العبادة لله. وإن مخففة واللام فارقة فَكَفَرُوا بِهِ الفاء للربط أي فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار فكفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وخامة عاقبة التكذيب. وقيل: أرادوا لو علمنا حال آبائنا وما آل إليه أمرهم وكان ذلك كما يقول محمد ﷺ لآمنا به وأخلصنا لكنا على شك من حديثه. ثم بين أن رسل الله وجنده منصورون غالبون عاجلا وآجلا، والأول أكثريّ والثاني تحقيق يقيني. ثم أمر نبيه بالصفح والإغماض إلى أوان النصرة والغلبة قائلا فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عن أذاهم إلى حين الأمر بالقتال أو إلى يوم بدر. عن السدي: أو إلى الموت والقيامة.
وعن أنس: لما أتى رسول الله ﷺ خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا: محمد والخميس. ورجعوا إلى حصنهم فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين
أي صباحهم، فحذف المخصوص بالذم. واللام في الْمُنْذَرِينَ للجنس. وإنما ثنى وتول عنهم ليكون تسلية على تسلية. والأول لعذاب الدنيا والثاني للآخرة، وأطلق الفعل الثاني أيضا اكتفاء بالأول وليفيد فائدة زائدة وهي أنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به الوصف من صنوف المسرة وفنون المساءة. واعلم أن السورة اشتملت على ما قاله المشركون في الله وعلى ما عانى المرسلون من جهتهم وعلى ما يؤل إليه عاقبة الرسل وحزب الله من موجبات الحمد فلا جرم ختمها بكلمات جامعة لتلك المعاني. ومعنى رَبِّ الْعِزَّةِ كقوله قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: ٢٦] والمراد ذي العزة لأنها صفته لا مربوبه. عن ابن عباس أنه سمع رجلا يقول: اللهم رب القرآن فأنكر عليه وقال: القرآن ليس بمربوب ولكن كلام الله. والظاهر أن قوله عَمَّا يَصِفُونَ يتعلق ب سُبْحانَ كما في قوله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ وقل: متعلق بالعزة أي امتنع عما يصفونه به وقد مر شيء من تحقيق هذه الحالة في آخر سورة يس. قال بعضهم: إنما لم يقل في آخر قصتي لوط ويونس سلام عليهما اكتفاء بقوله في الخاتمة وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ
عن علي رضي الله عنه: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلس سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ إلى آخر السورة.