ﰡ
مكية، وهي مائة وإحدى وثمانون آية، وقيل: واثنتان وثمانون [نزلت بعد الأنعام] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥)
أقسم الله سبحانه بطوائف الملائكة أو بنفوسهم الصافات أقدامها في الصلاة، من قوله تعالى وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أو أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله فَالزَّاجِراتِ السحاب سوقا فَالتَّالِياتِ لكلام الله من الكتب المنزلة وغيرها. وقيل الصَّافَّاتِ: الطير، من قوله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ والزاجرات: كل ما زجر عن معاصى الله. والتاليات: كل من تلا كتاب الله. ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح، فالتاليات آيات الله والدارسات شرائعه. أو بنفوس قواد الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل للجهاد، وتتلو الذكر «١» مع ذلك لا تشغلها
بها ليل منهم جعفر وابن أمه | على ومنهم أحمد المنخير |
يا لهف زيّابة للحرث الصّابح... فالغانم فالآيب «١»
كأنه قيل: الذي صبح فغنم فآب. وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل. وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك، كقوله:
رحم الله المحلقين فالمقصرين، فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات.
فإن قلت: فعلى أى هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟ قلت: إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته، فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه، بيان ذلك: أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة وجعلتهم جامعين لها، فعطفها بالفاء يفيد ترتبا لها في الفضل: إما إن يكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة، وإما على العكس، وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة. وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أخر، فقد أفادت ترتب الموصوفات في الفضل، أعنى أن الطوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلا، أو على العكس، وكذلك إذا أردت بالصافات:
الطير، وبالزاجرات: كل ما يزجر عن معصية. وبالتاليات: كل نفس تتلو الذكر، فإن الموصوفات مختلفة. وقرئ بإدغام التاء في الصاد والزاى والذال رَبُّ السَّماواتِ خبر بعد خبر. أو خبر مبتدإ محذوف. والْمَشارِقِ ثلاثمائة وستون مشرقا، وكذلك المغارب: تشرق الشمس كل يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. فإن قلت:
فماذا أراد بقوله رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ؟ قلت: أراد مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦ الى ٧]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧)
الدُّنْيا القربى منكم. والزينة: مصدر كالنسبة، واسم لما يزان به الشيء، كالليقة اسم لما تلاق به الدواة، ويحتملهما قوله بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ فإن أردت المصدر، فعلى إضافته إلى الفاعل، أى: بأن زانتها الكواكب، وأصله: بزينة الكواكب: أو على إضافته إلى المفعول، أى: بأن زان الله الكواكب وحسنها، لأنها إنما زينت السماء لحسنها في أنفسها، وأصله بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وهي قراءة أبى بكر والأعمش وابن وثاب، وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان:
أن تقع الكواكب بيانا للزينة، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به، وأن يراد
الخارج من الطاعة المتملس «١» منها.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨ الى ١٠]
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
الضمير في لا يَسَّمَّعُونَ لكل شيطان، لأنه في معنى الشياطين. وقرئ بالتخفيف والتشديد، وأصله: يتسمعون. والتسمع: تطلب السماع. يقال: تسمع فسمع، أو فلم يسمع.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم يتسمعون ولا يسمعون، وبهذا ينصر التخفيف على التشديد، فإن قلت: لا يسمعون كيف اتصل بما قبله؟ قلت: لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان، أو استئنافا فلا تصحّ الصفة لأنّ الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يستمعون لا معنى له، وكذلك الاستئناف لأنّ سائلا لو سأل: لم تحفظ من الشياطين؟
فأجيب بأنهم لا يسمعون: لم يستقم، فبقى أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ اقتصاصا، لما عليه حال المسترقة للسمع «٢»، وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة. أو يتسمعوا وهم
(٢). أبطل الزمخشري أن يكون لا يَسَّمَّعُونَ صفة لأن الحفظ من شيطان لا يسمع لا معنى له وأبطل أن يكون أصله لئلا يسمعوا، فحذف اللام وحذفها كثير، ثم حذف أن وأهدر عملها مثل:
ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغي | وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى |
لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت في قولك: جئتك أن تكرمني، فبقى أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها، كما في قول القائل:
ألا أيها ذا الزّاجرى أحضر الوغى «١»
قلت: كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات، على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب. فإن قلت: أى فرق بين سمعت فلانا يتحدّث، وسمعت إليه يتحدّث، وسمعت حديثه، وإلى حديثه؟ قلت: المعدّى بنفسه يفيد الإدراك، والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك، والملأ الأعلى: الملائكة، لأنهم يسكنون السماوات. والإنس والجن: هم الملأ الأسفل، لأنهم سكان الأرض. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم الكتبة من الملائكة. وعنه: أشراف الملائكة مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جميع جوانب السماء من أى جهة صعدوا للاستراق دُحُوراً مفعول له، أى: ويقذفون للدحور وهو الطرد، أو مدحورين على الحال. أو لأنّ القذف والطرد متقاربان في المعنى، فكأنه قيل:
يدحرون أو قذفا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى بفتح الدال على: قذفا دحورا طرودا. أو على أنه قد جاء مجيء القبول والولوع. والواصب: الدائم، وصب الأمر وصوبا، يعنى أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب، وقد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع مَنْ في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون، أى: لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خَطِفَ الْخَطْفَةَ وقرئ: خطف بكسر الخاء والطاء وتشديدها، وخطف بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها، وأصلهما: اختطف. وقرئ: فأتبعه، وفاتبعه.
[سورة الصافات (٣٧) : آية ١١]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١)
الهمزة وإن خرجت إلى معنى التقرير فهي بمعنى الاستفهام في أصلها، فلذلك قيل
نزلت في أبى الأشد بن كلدة، وكنى بذلك لشدّة بطشه وقوته أَمْ مَنْ خَلَقْنا يريد: ما ذكر من خلائقه: من الملائكة، والسماوات والأرض، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب، والشياطين المردة، وغلب أولى العقل على غيرهم، فقال: من خلقنا، والدليل عليه قوله بعد عدّ هذه الأشياء: فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا، بالفاء المعقبة. وقوله: أم من خلقنا، مطلقا من غير تقييد بالبيان، اكتفاء ببيان ما تقدّمه، كأنه قال: خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق وبدائعه، فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم الذي خلقناه من ذلك، ويقطع به قراءة من قرأ: أم من عددنا، بالتخفيف والتشديد. وأشدّ خلقا: يحتمل أقوى خلقا من قولهم:
شديد الخلق. وفي خلقه شدّة، وأصعب خلقا وأشقه، على معنى الرد لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى، وأنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون. وخلقهم مِنْ طِينٍ لازِبٍ إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأنّ ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوّة، أو احتجاج عليهم بأنّ الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا: أئذا كنا ترابا. وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. وقيل: من خلقنا من الأمم الماضية، وليس هذا القول بملائم. وقرئ: لازب ولاتب، والمعنى واحد، والثاقب: الشديد الإضاءة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢ الى ١٤]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)
بَلْ عَجِبْتَ من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة وَهم يَسْخَرُونَ منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث.
وقرئ بضم التاء، أى: بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقى أنى عجبت منها، فكيف بعبادي وهؤلاء يجهلهم وعنادهم يسخرون من آياتي أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون ممن يصف الله بالقدرة عليه. فإن قلت: كيف يجوز العجب على الله تعالى، وإنما هو روعة تعترى الإنسان عند استعظامه الشيء، والله تعالى لا يجوز عليه الروعة؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يجرد العجب لمعنى الاستعظام: والثاني: أن يتخيل العجب ويفرض.
وقد جاء في الحديث: عجب ربكم من ألكم «١» وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم «٢». وكان شريح
(٢). أخرجه أبو عبيد في الغريب عن محمد بن عمرو يرفعه، ثم قال: فقال: الأل رفع الصوت بالدعاء. وقال بعضهم: يرويه الأول، وهو الشدة.
إنّ شريحا كان يعجبه علمه وعبد الله أعلم، يريد عبد الله بن مسعود، وكان يقرأ بالضم. وقيل معناه: قل يا محمد بل عجبت. وَإِذا ذُكِّرُوا ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به وَإِذا رَأَوْا آيَةً من آيات الله البينة كانشقاق القمر ونحوه يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية. أو يستدعى بعضهم من بعض أن يسخر منها.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
وَآباؤُنَا معطوف على محل إِنْ واسمها. أو على الضمير في مبعوثون، والذي جوّز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام. والمعنى: أيبعث أيضا آباؤنا على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل. وقرئ أو آباؤنا قُلْ نَعَمْ وقرئ: نعم بكسر العين وهما لغتان. وقرئ: قال نعم، أى الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: نعم تبعثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون فَإِنَّما جواب شرط مقدّر تقديره: إذا كان ذلك فما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ وهي لا ترجع إلى شيء، إنما هي مبهمة موضحها خبرها. ويجوز:
فإنما البعثة زجرة واحدة وهي النفخة الثانية. والزجرة: الصيحة، من قولك: زجر الراعي الإبل أو الغنم: إذا صاح عليها فريعت لصوته. ومنه قوله:
زجر أبى عروة السباع إذا | أشفق أن يختلطن بالغنم «١» |
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
يحتمل أن يكون هذا يَوْمُ الدِّينِ إلى قوله احْشُرُوا من كلام الكفرة بعضهم مع بعض
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
احْشُرُوا خطاب الله للملائكة، أو خطاب بعضهم مع بعض وَأَزْواجَهُمْ وضرباءهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: وهم نظراؤهم وأشباههم من العصاة: أهل الزنا مع أهل الزنا، وأهل السرقة مع أهل السرقة. وقيل: قرناؤهم من الشياطين. وقيل: نساؤهم اللاتي على دينهم فَاهْدُوهُمْ فعرّفوهم طريق النار حتى يسلكوها. هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعد ما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ قد أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز، فكلهم مستسلم غير منتصر. وقرئ: لا تتناصرون ولا تناصرون، بالإدغام.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٧ الى ٣٥]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥)
اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما وكانوا يتيمنون بها، فبها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون، ويزاولون أكثر الأمور، ويتشاءمون بالشمال، ولذلك سموها: الشؤمى،
استعيرت لجهة الخير وجانبه، فقيل: أتاه عن اليمين، أى: من قبل الخير وناحيته، فصدّه عنه وأضله. وجاء في بعض التفاسير: من أتاه الشيطان من جهة اليمين: أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق. ومن أتاه من جهة الشمال: أتاه من قبل الشهوات. ومن أتاه من بين يديه: أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب. ومن أتاه من خلفه: خوّفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده، فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة. فإن قلت: قولهم: أتاه من جهة الخير وناحيته: مجاز في نفسه، فكيف جعلت اليمين مجازا عن المجاز؟ قلت: من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى لحق بالحقائق، وهذا من ذاك، ولك أن تجعلها مستعارة للقوّة والقهر، لأنّ اليمين موصوفة بالقوة، وبها يقع البطش. والمعنى: أنكم كنتم تأتوننا عن القوّة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه. وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم، والغواة لشياطينهم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه، مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر. غير ملجئين إليه وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً مختارين الطغيان فَحَقَّ عَلَيْنا فلزمنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ يعنى: وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة، ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم. ونحوه قول القائل:
لقد زعمت هوازن قلّ مالى «٣»
(٢). متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها أتم من هذا.
(٣).
ألا زعمت هوازن قل مالى | وهل لي غير ما أنفقت مال |
أسربه نعم ونعم قديما | على ما كان هن مال وبال |
الهمزة لحكاية لفظ الحالف، والتاء لإقبال المحلف على المحلف فَأَغْوَيْناكُمْ فدعوناكم إلى الغى دعوة محصلة للبغية، لقبولكم لها واستحبابكم الغىّ على الرشد إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا فَإِنَّهُمْ فإنّ الأتباع والمتبوعين جميعا يَوْمَئِذٍ يوم القيامة مشتركون في العذاب كما كانوا مشتركين في الغواية إِنَّا مثل ذلك الفعل نَفْعَلُ بكل مجرم، يعنى أنّ سبب العقوبة هو الإجرام، فمن ارتكبه استوجبها إِنَّهُمْ كانُوا إِذا سمعوا بكلمة التوحيد نفروا أو استكبروا عنها وأبوا إلا الشرك.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمدا ﷺ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ رد على المشركين وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ كقوله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وقرئ: لذائقو العذاب، بالنصب على تقدير النون، كقوله:
ولا ذاكر الله إلّا قليلا «١»
بتقدير التنوين. وقرئ على الأصل: لذائقون العذاب إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم جزاء سيئا بعمل سيئ.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٤٠ الى ٤٩]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
وهي كل ما يتلذذ به ولا يتقوّت لحفظ الصحة، يعنى أنّ رزقهم كله فواكه، لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات، بأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه يأكلونه على سبيل التلذذ. ويجوز أن يراد: رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها: من طيب طعم، ورائحة، ولذة، وحسن منظر. وقيل: معلوم الوقت، كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وعن قتادة: الرزق المعلوم الجنة. وقوله فِي جَنَّاتِ يأباه، وقوله وَهُمْ مُكْرَمُونَ هو الذي يقوله العلماء في حد الثواب على سبيل المدح والتعظيم، وهو من أعظم ما يجب أن تتوق إليه نفوس ذوى الهمم، كما أنّ من أعظم ما يجب أن تنفر عنه نفوسهم هو ان أهل النار وصغارهم.
التقابل: أتم للسرور وآنس. وقيل: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.
يقال للزجاجة فيها الخمر: كأس، وتسمى الخمر نفسها كأسا، قال:
وكاس شربت على لذّة «١»
وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وكذا في تفسير ابن عباس مِنْ مَعِينٍ من شراب معين. أو من نهر معين، وهو الجاري على وجه الأرض، الظاهر للعيون: وصف بما يوصف به الماء، لأنه يجرى في الجنة في أنهار كما يجرى الماء، قال الله تعالى وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ.
بَيْضاءَ صفة للكأس لَذَّةٍ إمّا أن توصف باللذة كأنها نفس اللذة وعينها: أو هي تأنيث اللذ، يقال: لذ الشيء فهو لذ ولذيذ. ووزنه: فعل، كقولك: رجل طب، قال:
ولذ كطعم الصّرخدى تركته... بأرض العدا من خشية الحدثان «٢»
وكأس شربت على لذة... وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم الناس أنى امرؤ... أتيت المعيشة من بابها
للأعشى، والكأس تطلق على الزجاجة فيها الخمر، وعلى الخمر فيها: مجازا مشهورا، وهي مؤنثة بدليل تأنيث صفتها وضميرها. يقول: ورب كأس شربتها مع لذة، أو لأجل لذة فضرتنى، فشربت كأسا أخرى تداويت من الأولى بها، ليعلم الناس أنى مجرب للأمور، وكنى عن ذلك بقوله: أتيت المعيشة من بابها، وشبه المعيشة مع أسبابها المناسبة لها بدار لها باب على طريق المكنية وإثبات الباب تخييل، أى: كما داويت الداء من بابه أدرك المعيشة وأحصلها من الأسباب التي تناسبها. ويروى: بدل الشطر الثاني من البيت الأول
دهاق يرنح من ذاقها
ودهقه:
كسره وغمزه غمزا شديدا، وكأس داهق: ممتلئة، ودهاق: مملوءة. وترنح: تميل، لكن هذا من قافية أخرى.
(٢). اللذ: وصف، واللذة: مؤنثة، وهي اسم للكيفية القائمة بالنفس، واسم للشيء اللذيذ. والصرخد:
موضع من الشام ينسب إليه الشراب. والحدثان: مصدر كالحدث، إلا أنه يدل على التجدد والتكرر، يقول:
ورب شيء لذيذ يعنى النوم، طعمه كطعم الشراب الطيب، تركته بأرض الأعداء خوف نزول المكاره بى. ويروى بدل الشطر الثاني
عشية خمس القوم والعين عاشقة
وخمست القوم أخمسهم- بالضم-: أخذت خمس أموالهم.
لعمري لئن أنزفتمو أو صحوتمو... لبئس النّدامى كنتمو آل أبجرا «٢»
ومعناه: صار ذا ترف. ونظيره: أقشع السحاب، وقشعته الريح، وأكب الرجل وكبيته.
وحقيقتهما: دخلا في القشع والكب. وفي قراءة طلحة بن مصرف: وينزفون: بضم الزاى، من نزف ينزف كقرب يقرب، إذا سكر. والمعنى: لا فيها فساد قط من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر من مغص أو صداع أو خمار «٣» أو عربدة أو لغو أو تأثيم أو غير ذلك، ولا هم يسكرون «٤»، وهو أعظم مفاسدها فأفرزه وأفرده بالذكر قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ، لا يمددن طرفا إلى غيرهم، كقوله تعالى عُرُباً «٥» والعين:
النجل العيون «٦» شبههنّ يبيض النعام المكنون في الأداحى، وبها تشبه العرب النساء وتسميهنّ بيضات الخدور.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٠ الى ٥٧]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)
(٢). للأبيرد. ونزف دمه: خرج منه حتى ضعف وانقطعت حركته. ونزف الرجل في الخصومة: انقطعت حجته، وأنزف: صار ذا نزف، فنزف وأنزف لا زمان. وقوله: لئن أنزفتم، أى سكرتم وبطلت حركتكم، أو انقطع شرابكم، ولبئس الندامى: جواب القسم، وجواب الشرط مثله محذوف، وأنتم: هو المخصوص بالذم.
وآل أبجر: منادى، وفيه نوع من التهكم والاستخفاف بهم.
(٣). قوله «في الصحاح: الخمار: بقية السكر. (ع) [.....]
(٤). قوله «ولا هم يسكرون» لعله: ولا هم عنها يسكرون. (ع)
(٥). قوله «كقوله تعالى: عربا» أى متحببات إلى أزواجهن كما يأتى. (ع)
(٦). قوله «النجل العيون» في الصحاح: النجل- بالتحريك: كشف العين. والرجل أنجل، والعين نجلاء، والجمع نجل. وفيه: مدحى النعامة: موضع بيضها. وأدحيها موضعها، وهو أفعول من دحوت، لأنها تدحوه برجلها ثم تبيض فيه اه والأداحى: جمعه. (ع)
يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب «١»، قال:
وما بقيت من اللّذّات إلّا | أحاديث الكرام على المدام «٢» |
أإنك لمن المصدّقين بيوم الدين. أو من المتصدّقين لطلب الثواب. والله لا أعطيك شيئا لَمَدِينُونَ لمجزيون، من الدين وهو الجزاء. أو لمسوسون مربوبون. يقال: دانه ساسة.
ومنه الحديث: «العاقل من دان نفسه، «٣». قالَ يعنى ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى النار لأريكم ذلك القرين. قيل: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. وقيل:
القائل هو الله عز وجل: وقيل بعض الملائكة يقول لأهل الجنة: هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار. وقرئ. مطلعون، فاطلع. وفأطلع بالتشديد، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب: ومطلعون فاطلع، وفأطلع بالتخفيف، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب. يقال: طلع علينا فلان، واطلع، وأطلع بمعنى واحد، والمعنى: هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضا. أو عرض عليهم الاطلاع فاعترضوه، فاطلع هو بعد ذلك.
وإن جعلت الإطلاع من أطلعه غيره، فالمعنى: أنه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم، وهو من
(٢). الفرزدق، يقول: وما بقيت لذة من اللذات إلا لذة أحاديث الكرام، أو ما بقيت شهوة من الشهوات اللذيذة إلا أحاديث الكرام على الخمر، وأتى بحرف الاستعلاء لأن الشراب يكون بين أيديهم والحديث من أفواههم فوقه، وكان الظاهر: وما بقي من اللذات، لكن أنث الفعل لأنه مفرغ لما بعد إلا، أو للتأويل المتقدم.
(٣). أخرجه الترمذي وابن ماجة، والحاكم وأحمد والبزار وأبو يعلى والحرث والطبراني كلهم من رواية أبى بكر ابن أبى مريم عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس.
هم الفاعلون الخير والآمرونه «١»
أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما، كأنه قال: تطلعون، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر فِي سَواءِ الْجَحِيمِ في وسطها، يقال: تعبت حتى انقطع سوائى، وعن أبى عبيدة:
قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائى إِنْ مخففة من الثقيلة، وهي تدخل على «كاد» كما تدخل على «كان» ونحوه إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والإرداء: الإهلاك. وفي قراءة عبد الله: لتغوينّ نِعْمَةُ رَبِّي هي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام، والبراءة من قرين السوء. أو إنعام الله بالثواب وكونه من أهل الجنة مِنَ الْمُحْضَرِينَ من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
الذي عطفت عليه الفاء محذوف، معناه: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا معذبين.
وقرئ بمائتين. والمعنى أنّ هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى الله به لهم للعلم بأعمالهم أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار، فإنهم فيما يتمنون فيه الموت كل ساعة، وقيل لبعض الحكماء:
ما شر من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
يقوله المؤمن تحدثا بنعمة الله واغتباطا بحاله وبمسمع من قرينه، ليكون توبيخا له يزيد به تعذبا، وليحكيه الله فيكون لنا لطفا وزاجرا. ويجوز أن يكون قولهم جميعا، وكذلك قوله إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أى إن هذا الأمر الذي نحن فيه. وقيل: هو من قول الله عزّ وجلّ تقريرا لقولهم وتصديقا له. وقرئ: لهو الرزق العظيم، وهو ما رزقوه من السعادة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٠]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)
هم الفاعلون الخير والآمرونه | إذا ما خشوا من حادث الدهر معظما |
طعام كثير النزل، فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم: اللذة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم: الألم والغم، وانتصاب نزلا على التمييز، ولك أن تجعله حالا، كما تقول:
أثمر النخلة خير بلحا أم رطبا؟ يعنى أنّ الرزق المعلوم نزل أهل الجنة. وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم، فأيهما خير في كونه نزلا. والنزل: ما يقال «١» للنازل بالمكان من الرزق. ومنه إنزال الجند لأرزاقهم، كما يقال لما يقام لساكن الدار: السكن «٢». ومعنى الأوّل: أنّ للرزق المعلوم نزلا، ولشجر الزقوم نزلا، فأيهما خير نزلا. ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى إلى الرزق المعلوم، واختار الكافرون ما أدى إلى شجرة الزقوم، قيل لهم ذلك توبيخا على سوء اختيارهم فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ محنة وعذابا لهم في الآخرة. أو ابتلاء لهم في الدنيا، وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر، فكذبوا. وقرئ:
نابتة فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها: والطلع للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها: إما استعارة لفظية، أو معنوية، وشبه برءوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر، لأنّ الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير، فيقولون في القبيح الصورة: كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان. وإذا صوّره المصورون: جاءوا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله، كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه، فشبهوا به الصورة الحسنة. قال الله تعالى ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ وهذا تشبيه تخييلى. وقيل: الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدا. وقيل: إنّ شجرا يقال له الأستن خشنا منتنا مرا منكر الصورة، يسمى ثمره:
(٢). قوله «لساكن الدار السكن» في الصحاح «السكن» : كل ما سكنت إليه. (ع)
ما معنى حرف التراخي في قوله ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً وفي قوله ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ؟ قلت:
في الأوّل وجهان، أحدهما: أنهم يملئون البطون من شجر الزقوم، وهو حارّ يحرق بطونهم ويعطشهم، فلا يسقون إلا بعد ملىّ تعذيبا بذلك العطش، ثم يسقون ما هو احرّ وهو الشراب المشوب بالحميم. والثاني: أنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة، ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع، فجاء بثم للدلالة على تراخى حال الشراب عن حال الطعام ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه. ومعنى الثاني: أنهم يذهب بهم عن مقارّهم ومنازلهم في الجحيم، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن يتملئوا، ويسقون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، ومعنى التراخي في ذلك بين: وقرئ: ثم إن منقلبهم، ثم إن مصيرهم، ثم إن منفذهم إلى الجحيم: علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين، واتباعهم إياهم على الضلال، وترك اتباع الدليل. والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يحثون حثا. وقيل:
إسراع فيه شبه بالرعدة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧١ الى ٧٤]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك قريش. مُنْذِرِينَ أنبياء حذروهم العواقب. الْمُنْذَرِينَ الذين أنذروا وحذروا، أى أهلكوا جميعا إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الذين آمنوا منهم وأخلصوا دينهم لله، أو أخلصهم الله لدينه على القراءتين.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
إنا أجبناه أحسن الإجابة، وأوصلها إلى مراده وبغيته من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون هُمُ الْباقِينَ هم الذين بقوا وحدهم وقد فنى غيرهم، فقد روى أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ولده. أو هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة. قال قتادة: الناس كلهم من ذرية نوح. وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام، وحام، ويافث. فسام أبو العرب، وفارس، والروم. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب. ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ من الأمم هذه الكلمة، وهي: سَلامٌ عَلى نُوحٍ يعنى يسلمون عليه تسليما، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقولك: قرأت سورة أنزلناها. فإن قلت: فما معنى قوله فِي الْعالَمِينَ؟ قلت: معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعا، وأن لا يخلو أخد منهم منها، كأنه قيل: ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية من تبقية ذكره، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر بأنه كان محسنا، ثم علل كونه محسنا بأنه كان عبدا مؤمنا، ليريك جلالة محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم، ويرغبك في تحصيله والازدياد منه.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٧]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
مِنْ شِيعَتِهِ ممن شايعه على أصول الدين وإن اختلفت شرائعهما. أو شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين. ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق في أكثر الأشياء. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من أهل دينه وعلى سنته، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان:
هود، وصالح. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. فإن قلت: بم تعلق الظرف؟
قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة، يعنى: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم. أو بمحذوف وهو: اذكر بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من جميع آفات القلوب. وقيل:
من الشرك، ولا معنى للتخصيص لأنه مطلق، فليس بعض الآفات أولى من بعض فيتناولها كلها.
فإن قلت: ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت: معناه أنه أخلص لله قلبه، وعرف ذلك منه فضرب
ثم فسر الإفك بقوله آلِهَةً دُونَ اللَّهِ على أنها إفك في أنفسها. ويجوز أن يكون حالا، بمعنى: أتريدون آلهة من دون الله آفكين فَما ظَنُّكُمْ بمن هو الحقيق بالعبادة، لأنّ من كان ربا للعالمين استحق عليهم أن يعبدوه، حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام: والمعنى: أنه لا يقدّر في وهم ولا ظنّ ما يصدّ عن عبادته. أو فما ظنكم به أى شيء هو من الأشياء، حتى جعلتم الأصنام له أندادا. أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)
فِي النُّجُومِ في علم النجوم أو في كتابها أو في أحكامها، وعن بعض الملوك أنه سئل عن مشتهاه فقال: حبيب أنظر إليه، ومحتاج أنظر له، وكتاب أنظر فيه. كان القوم نجامين، فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه يسقم فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ إنى مشارف للسقم وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل. فإن قلت: كيف جاز له أن يكذب؟ قلت: قد جوّزه بعض الناس في المكيدة في الحرب والتقية، وإرضاء الزوج والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين. والصحيح: أن الكذب حرام إلا إذا عرّض وورّى، والذي قاله إبراهيم عليه السلام: معراض من الكلام، ولقد نوى به أن من في عنقه الموت سقيم.
ومنه المثل: كفى بالسلامة داء. وقول لبيد:
فدعوت ربى بالسّلامة جاهدا | ليصحّنى فإذا السّلامة داء «١» |
كانت قناتي لا تلين لغامز | فألانها الإصباح والإمساء |
فدعوت ربى بالسلامة جاهدا | ليصحنى فإذا السلامة داء |
ترشيح. والغمزى: الحبى باليد ويجوز أن الاستعارة تمثيلية في المركب، يصف قوته زمن الشباب، ثم ضعف حال المشيب بتتابع الأزمان عليه، وأنه تطلب فسحة الأجل، فكانت سبب اضمحلاله.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣)فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فذهب إليها في خفية، من روغة الثعلب، إلى آلهتهم: إلى أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة، كقوله تعالى: أين شركائى؟ أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها فَراغَ عَلَيْهِمْ فأقبل عليهم مستخفيا، كأنه قال: فضربهم ضَرْباً لأن راغ عليهم بمعنى ضربهم. أو فراغ عليهم يضربهم ضربا. أو فراغ عليهم ضربا بمعنى ضاربا. وقرئ: صفقا وسفقا، ومعناهما: الضرب. ومعنى ضربا بِالْيَمِينِ ضربا شديدا قويا، لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما. وقيل: بالقوّة والمتانة: وقيل: بسبب الحلف، وهو قوله تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ.
[سورة الصافات (٣٧) : آية ٩٤]
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤)
يَزِفُّونَ يسرعون، من زفيف النعام. ويزفون: من أزفّ، إذا دخل في الزفيف. أو من أزفه، إذا حمله على الزفيف، أى: يزفّ بعضهم بعضا. ويزفون، على البناء للمفعول، أى:
يحملون على الزفيف. ويزفون، من وزف يزف إذا أسرع. ويزفون: من زفاه إذا حداه «١»، كأن بعضهم يزفوا بعضا لتسارعهم إليه، فإن قلت: بين هذا وبين قوله تعالى قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ كالتناقض حيث ذكر هاهنا أنهم أدبروا عنه خيفة العدوى، فلما أبصروه يكسرهم أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويوقعوا به، وذكر ثم أنهم سألوا عن الكاسر، حتى قيل لهم: سمعنا إبراهيم يذمهم، فلعله هو الكاسر، ففي أحدهما أنهم شاهدوه يكسرها، وفي الآخر: أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر. قلت:
فيه وجهان، أحدهما: أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفرا منهم دون جمهورهم وكبرائهم، فلما رجع الجمهور والعلية «٢» من عيدهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة اشمأزوا من ذلك، وسألوا: من فعل هذا بها؟ ثم لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة، ولكن على سبيل التورية والتعريض بقولهم «سمعنا فتى يذكرهم» لبعض الصوارف. والثاني: أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر. وقولهم: قالوا فأتوا به على أعين الناس.
(٢). قوله «والعلية» أى العظماء. (ع)
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ يعنى خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام، كقوله بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أى فطر الأصنام. فإن قلت: كيف يكون الشيء الواحد مخلوقا لله معمولا لهم، حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعا؟
قلت: هذا كما يقال: عمل النجار الباب «١» والكرسي، وعمل الصائغ السوار والخلخال، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها، والأصنام جواهر وأشكال، فخالق جواهرها الله، وعاملو أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه. فإن قلت: فما أنكرت «٢» أن تكون ما مصدرية لا موصولة، ويكون المعنى:
والله خلقكم وعملكم، كما تقول المجبرة «٣» ؟ قلت: أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه
(٢). قوله «فان قلت فما أنكرت» ؟ لعله: لم أنكرت. (ع) [.....]
(٣). قوله «كما تقول المجبرة» يريد أهل السنة حيث ذهبوا إلى أنه لا خالق إلا الله، فهو الخالق لعمل العبد والمعتزلة يقولون: إن العبد هو الخالق لعمل نفسه، فجعلوا العبد شريكا لله في الخالقية، مع أنهم سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد، قالوا: لو كان الله هو الخالق لفعل العبد لكان تعذيبه للعبد على المعاصي ظلما لا عدلا، قال أهل السنة:
يعذبه عليها كما يثيبه على الطاعة، لما له فيهما من الكسب والاختيار، فلا ظلم، لكن المعتزلة لم ينظروا في التوحيد تمام النظر، ولم يتبصروا في أدلته تمام التبصر. (ع)
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
الْجَحِيمِ النار الشديدة الوقود، وقيل: كل نار على نار وجمر فوق جمر، فهي جحيم.
والمعنى: أن الله تعالى غلبه عليهم في المقامين جميعا، وأذلهم بين يديه: أرادوا أن يغلبوه بالحجة فلقنه الله وألهمه ما ألقمهم به الحجر، وقهرهم فمالوا إلى المكر، فأبطل الله مكرهم وجعلهم الأذلين الأسفلين لم يقدروا عليه.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٩ الى ١٠١]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)
أراد بذهابه إلى ربه: مهاجرته إلى حيث أمره بالمهاجرة إليه من أرض الشام، كما قال:
أو أظهر بذلك توكله وتفويضه أمره إلى الله. ولو قصد الرجاء والطمع لقال، كما قال موسى عليه السلام عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ هب لي بعض الصالحين، يريد الولد، لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا قال عزّ وجل وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وقال على بن أبى طالب لابن عباس رضى الله عنهم- حين هنأه بولده علىّ أبى الأملاك-: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب. ولذلك وقعت التسمية بهبة الله، وبموهوب، ووهب، وموهب. وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وأنه يكون حليما، وأى حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح، فقال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين، ثم استسلم لذلك. وقيل: ما نعت الله الأنبياء عليهم السلام بأقل مما نعتهم بالحلم، وذلك لعزة وجوده. ولقد نعت الله به إبراهيم في قوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ لأنّ الحادثة شهدت بحلمهما جميعا.
[سورة الصافات (٣٧) : آية ١٠٢]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)
فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه. فإن قلت: مَعَهُ بم يتعلق؟ قلت: لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ، أو بالسعي، أو بمحذوف، فلا يصح تعلفه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حدّ السعى، ولا بالسعي لأنّ صلة المصدر لا تتقدم عليه، فبقى أن يكون بيانا، كأنه لما قال: فلما بلغ السعى أى الحدّ الذي يقدر فيه على السعى قيل: مع من؟ فقال مع أبيه. والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به، وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله، لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. والمراد: أنه على غضاضة سنه وتقلبه في حد الطفولة، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم: أتى في المنام فقيل له: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحى كالوحى في اليقظة، فلهذا قال إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فذكر تأويل الرؤيا، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة: رأيت في المنام أنى ناج من هذه المحنة، وقيل: رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إنّ الله يأمرك بذبح
فمن ثم سمى يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فمن ثم سمى يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحره فسمى اليوم يوم النحر. وقيل: إنّ الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح الله. فلما ولد وبلغ حد السعى معه قيل له: أوف بنذرك فَانْظُرْ ماذا تَرى من الرأى على وجه المشاورة. وقرئ: ماذا ترى «١»، أى: ماذا تبصر من رأيك وتبديه. وماذا ترى، على البناء للمفعول، أى: ماذا تريك نفسك من الرأى افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أى ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به «٢»
أو أمرك على إضافة المصدر إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمرا. وقرئ: ما تؤمر به. فإن قلت: لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ قلت: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطنها ويهون عليها، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله: ولأنّ المغافصة «٣» بالذبح مما يستسمج، وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك.
فإن قلت: لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة؟ قلت: كما أرى يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحى إلى أبيه، وكما وعد رسول الله ﷺ دخول المسجد الحرام في المنام، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء، وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين، لأنّ الحال إما حال يقظة أو حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٠٣ الى ١١١]
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١)
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٥٩٠ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣). قوله «المغافصة» في الصحاح: غافصت الرجل، أى: أخذته على غرة. (ع)
عَظِيمٍ ضخم الجثة سمين، وهي السنة في الأضاحى. وقوله عليه السلام «استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» وقيل: لأنه وقع فداء عن ولد إبراهيم. وروى أنه هرب من إبراهيم عليه السلام عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتّى أخذه، فبقيت سنة في الرمي. وروى أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده: وروى أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال إبراهيم عليه السلام: الله أكبر ولله الحمد «٤»، فبقى سنة: وحكى في قصة الذبيح أنه حين أراد ذبحه وقال: يا بنى خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما توسط شعب ثبير أخبره بما أمر، فقال: اشدد رباطى لا أضطرب، واكفف عنى ثيابك
(٢). قوله «بو عل» في الصحاح: الوعل: الأروى اه، ويقال: التيس الجبلي. (ع)
(٣). لم أجده.
(٤). لم أجده.
هو إسماعيل، فقال عمر: إنّ هذا شيء ما كنت أنظر فيه، وإنى لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى يهودى قد أسلم فسأله، فقال: إن اليهود لتعلم أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، ويدل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدى بنى إسماعيل إلى أن احترق البيت. وعن الأصمعى قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعى أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة، وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة.
اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فانا أهل بيت فذكره مطولا. قال الدارقطني: هذا موضوع. وإسحاق كان يضع الحديث على ابن وهب. وقد تقدم في يوسف من وجه آخر.
(٢). قال محمود: «فان قلت قد أوحى إلى إبراهيم في المنام أن يذبح ولده ولم يذبح، وقيل له: قد صدقت الرؤيا وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح، ولم يصح. فأجاب بأنه قد بذل وسعه وفعل ما يفعله الذابح من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، ولكن الله سبحانه منع الشفرة أن تمضى فيه وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم، ألا ترى أنه لا يسمى عاصيا ولا مفرطا بل يسمى مطيعا ومجتهدا، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل ولا قل أوان الفعل في شيء، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام عليه. انتهى كلامه» قال أحمد: كل ما ذكر دندنة حول امتناع النسخ قبل التمكن من الفعل، وتلك قاعدة المعتزلة. وأما أهل السنة فيثبتون جوازه، لأن التكليف ثابت قبل التمكن من الفعل، فجاز رفعه كالموت. وأيضا فكل نسخ كذلك، لأن القدرة على الفعل عندنا مقارنة لا متقدمة، ثم يثبتون وقوعه بهذه الآية. ووجه الدليل منها أن إبراهيم عليه السلام أمر بالذبح بدليل افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ونسخ قبل التمكن بدليل العدول إلى الفداء، فمن ثم تحوم الزمخشري على أنه فعل غاية وسعه من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، وإنما امتنعت بأمر من الله تعالى، وغرضه بذلك أحد أمرين: إما أن يكون الأمر إنما توجه عليه بمقدمات الذبح وقد حصلت لا بنفس الذبح، أو توجه الأمر بنفس الذبح وتعاطيه، ولكن لم يتمكن. وكلا الأمرين لا يخلصه. أما قوله: أمر بمقدمات الذبح فباطل بقوله إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
وقوله افْعَلْ ما تُؤْمَرُ وأما قوله: لم يتمكن لأن الشفرة منعت بأمر من الله تعالى بعد تسليم الأمر بالذبح، فحاصله أنه لم يتمكن من الذبح المأمور به، فكان النسخ إذا قبل التمكن، وهو عين ما أنكره المعتزلة، ولما لم يكن في هذين الجوابين لهم خلاص: لجأ بعضهم إلى تسليم أنه أمر بالذبح، ودعوى أنه ذبح ولكنه كان يلتحم، وهو باطل لا ثبوت له. وسياق الآية يخل دعواه ويفل ثنياه.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
نَبِيًّا حال مقدرة، كقوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ. فإن قلت: فرق بين هذا وبين قوله فَادْخُلُوها خالِدِينَ وذلك أنّ المدخول موجود مع وجود الدخول، والخلود غير موجود معهما، فقدرت مقدرين الخلود فكان مستقيما، وليس كذلك المبشر به، فإنه معدوم وقت وجود البشارة، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لا محالة، لأنّ الحال حلية، والحلية لا تقوم إلا بالمحلى، وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوّة أيضا بوجوده، بل تراخت عنه مدّة متطاولة، فكيف يجعل نبيا حالا مقدّرة، والحال صفة الفاعل أو المفعول عند وجود الفعل منه أو به، فالخلود وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة، فتقديرها «١» صفتهم، لأنّ المعنى مقدّرين
أنه لا بد من تقدير مضاف محذوف، وذلك قولك: وبشرناه بوجود إسحاق نبيا، أى بأن يوجد مقدّرة نبوّته، فالعامل في الحال الوجود لا فعل البشارة، وبذلك يرجع، نظير قوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ. مِنَ الصَّالِحِينَ حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ، لأنّ كل نبى لا بد أن يكون من الصالحين. وعن قتادة: بشره الله بنبوّة إسحاق بعد ما امتحنه بذبحه، وهذا جواب من يقول الذبيح إسحاق لصاحبه عن تعلقه بقوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ قالوا: ولا يجوز أن يبشره الله بمولده ونبوّته معا، لأن الامتحان بذبحه لا يصح مع علمه بأنه سيكون نبيا وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وقرئ: وبركنا، أى: أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا، كقوله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وقيل: باركنا على إبراهيم في أولاده، وعلى إسحاق بأن أخرجنا أنبياء بنى إسرائيل من صلبه. وقوله وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ نظيره: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجرى أمرهما على العرق والعنصر، فقد يلد البر الفاجر، والفاجر البر. وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر، وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة، وأنّ المرء إنما يعاب بسوء فعله ويعاتب على ما اجترحت يداه، لا على ما وجد من أصله أو فرعه.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٤ الى ١٢٢]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق. أو من سلطان فرعون وقومه وغشمهم «١» وَنَصَرْناهُمْ الضمير لهما ولقومهما في قوله وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما. الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ البليغ في بيانه وهو التوراة، كما قال إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ وقال: من جوز أن تكون التوراة
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٣٢]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
قرئ إلياس، بكسر الهمزة، والياس: على لفظ الوصل: وقيل: هو إدريس النبي. وقرأ ابن مسعود: وإنّ إدريس، في موضع إلياس. وقرئ: إدراس: وقيل: هو إلياس بن ياسين، من ولد هرون أخى موسى أَتَدْعُونَ بَعْلًا أتعبدون بعلا، وهو علم لصنم كان لهم كمناة وهبل.
وقيل: كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعا، وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن، وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف- بعل- ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وبه سميت مدينتهم بعلبك. وقيل: البعل الرب، بلغة اليمن، يقال: من بعل هذه الدار، أى: من ربها؟
والمعنى: أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ قرئ بالرفع على الابتداء، وبالنصب على البدل، وكان حمزة إذا وصل نصب، وإذا وقف رفع: وقرئ:
على الياسين. وإدريسين. وادراسين. وإدرسين، على أنها لغات في إلياس وإدريس. ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى. وقرئ: على الياسين بالوصل، على أنه جمع يراد به إلياس وقومه، كقولهم: الخبيبون والمهلبون. فإن قلت: فهلا حملت على هذا إلياسين على القطع وأخواته؟ قلت: لو كان جمعا لعرف بالألف واللام. وأما من قرأ: على آل ياسين، فعلى أنّ ياسين اسم أبى الياس، أضيف إليه الآل.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٨]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
داخلين في الصباح، يعنى: تمرون على منازلهم في متاجركم إلى الشام ليلا ونهارا، فما فيكم عقول تعتبرون بها.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٨]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
قرئ: يونس، بضم النون وكسرها. وسمى هربه من قومه بغير إذن ربه: إباقا على طريقة المجاز. والمساهمة: المقارعة. ويقال: استهم القوم، إذا اقترعوا. والمدحض: المغلوب المقروع.
وحقيقته: المزلق عن مقام الظفر والغلبة. روى أنه حين ركب في السفينة وقفت، فقالوا: هاهنا عبد أبق من سيده، وفيما يزعم البحارون أنّ السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر، فاقترعوا، فخرجت القرعة على يونس فقال: أنا الآبق، وزجّ بنفسه في الماء فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ داخل في الملامة. يقال: ربّ لائم مليم، أى يلوم غيره وهو أحق منه باللوم. وقرئ: مليم، بفتح الميم، من ليم فهو مليم، كما جاء: مشيب في مشوب، مبنيا على شيب. ونحوه: مدعى، بناء على دعى مِنَ الْمُسَبِّحِينَ من الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح والتقديس. وقيل: هو قوله في بطن الحوت لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وقيل: من المصلين. وعن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة «١». وعن قتادة: كان كثير الصلاة في الرخاء. قال:
وكان يقال: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، وإذا صرع وجد متكأ. وهذا ترغيب من الله عز وجل في إكثار المؤمن من ذكره بما هو أهله، وإقباله على عبادته، وجمع همه لتقييد
وعن عطاء سبعة. وعن بعضهم: ثلاثة. وعن الحسن: لم يلبث إلا قليلا، ثم أخرج من بطنه بعيد الوقت الذي التقم فيه. وروى أنّ الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظه سالما لم يتغير منه شيء، فأسلموا: وروى أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. والعراء: المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه وَهُوَ سَقِيمٌ اعتلّ مما حلّ به. وروى أنه عاد بدنه كبدن الصبى حين يولد. واليقطين: كل ما ينسدح على وجه الأرض ولا يقوم على ساق كشجر البطيخ والقثاء والحنظل، وهو «يفعيل» من قطن بالمكان إذا أقام به. وقيل: هو الدباء. وفائدة الدباء أن الذباب لا يجتمع عنده- وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتحب القرع. قال «أجل هي شجرة أخى يونس» «١» وقيل: هي التين، وقيل: شجرة الموز، تغطى بورقها، واستظلّ بأغصانها، وأفطر على ثمارها.
وقيل: كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة «٢» تختلف إليه، فيشرب من لبنها. وروى أنه مرّ زمان على الشجرة فيبست، فبكى جزعا، فأوحى الله إليه: بكيت على شجرة ولا تبكى على مائة ألف في يد الكافر، فإن قلت: ما معنى وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً؟ قلت: أنبتناها فوقه مظلة له، كما يطنب البيت على الإنسان وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه وهم أهل نينوى. وقيل: هو إرسال ثان بعد ما جرى عليه إلى الأولين. أو إلى غيرهم وقيل: أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى، لأن النبىّ إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم، وقال لهم: إن الله باعث إليكم نبيا أَوْ يَزِيدُونَ في مرأى الناظر أى. إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر، والغرض: الوصف بالكثرة إِلى حِينٍ إلى أجل مسمى وقرئ: ويزيدون، بالواو. وحتى حين.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٧]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧)
(٢). قوله «وكانت وعلة» يقال: هي شاة جبلية. (ع)
ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر، أحدها: التجسيم، لأن الولادة مختصة بالأجسام والثاني: تفضيل أنفسهم على ربهم حين جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم، كما قال وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ والثالث: أنهم استهانوا بأكرم خلق الله عليه وأقربهم إليه، حيث أنثوهم ولو قيل لأقلهم وأدناهم: فيك أنوثة. أو شكلك شكل النساء، للبس لقائله جلد النمر، ولانقلبت حماليقه «١» وذلك في أهاجيهم بين مكشوف، فكرّر الله سبحانه الأنواع كلها في كتابه مرّات، ودل على فظاعتها في آيات: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ، وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً، وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ، أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ، وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ، أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ، أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ. فإن قلت. لم قال وهُمْ شاهِدُونَ فخصّ علم المشاهدة؟ قلت: ما هو إلا استهزاء بهم وتجهيل، وكذلك قوله أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ونحوه قوله ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال ونظر.
ويجوز أن يكون المعنى: أنهم يقولون ذلك، كالقائل قولا عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم، كأنهم قد شاهدوا خلقهم. وقرئ: ولد الله، أى الملائكة ولده. والولد
الذي أنزل عليكم في ذلك، كقوله تعالى أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم، وإنكار فظيع، واستبعاد لأقاويلهم شديد، وما الأساليب التي وردت عليها إلا ناطقة بتسفيه أحلام قريش، وتجهيل نفوسها، واستركاك عقولها، مع استهزاء وتهكم وتعجيب، من أن يخطر مخطر مثل ذلك على بال ويحدّث به نفسا، فضلا أن يجعله معتقدا ويتظاهر به مذهبا.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٠]
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠)
وَجَعَلُوا بين الله وبين الجنة وأراد الملائكة نَسَباً وهو زعمهم أنهم بناته، والمعنى:
وجعلوا بما قالوا نسبة بين الله وبينهم، وأثبتوا له بذلك جنسية جامعة له وللملائكة. فإن قلت:
لم سمى الملائكة جنة؟ قلت: قالوا الجنس واحد، ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شرا كله فهو شيطان، ومن طهر منهم ونسك وكان خيرا كله فهو ملك، فذكرهم في هذا الموضع باسم جنسهم، وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعا منهم وتقصيرا بهم. وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم. وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار، وهو من صفات الأجرام لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك. ومثاله: أن تسوّى بين الملك وبين بعض خواصه ومقرّبيه، فيقول لك: أتسوّي بيني وبين عبدى. وإذا ذكره في غير هذا المقام وقره وكناه. والضمير في إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ للكفرة. والمعنى: أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة، وقد علم الملائكة أنهم في ذلك كاذبون مفترون، وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون، والمراد المبالغة في التكذيب. حيث أضيف إلى علم الذين ادّعوا لهم تلك النسبة.
وقيل: قالوا إنّ الله صاهر الجن فخرجت الملائكة. وقيل: قالوا. إنّ الله والشيطان أخوان.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦١ الى ١٦٣]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)
والضمير في عَلَيْهِ لله عز وجلّ ومعناه: فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهم جميعا بفاتنين على الله إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها. فإن قلت: كيف يفتنونهم على الله؟ قلت. يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهزائهم، من قولك يفتن فلان على فلان امرأته، كما تقول: أفسدها عليه وخيبها عليه. ويجوز أن يكون الواو في وَما تَعْبُدُونَ بمعنى مع، مثلها في قولهم: كل رجل وضيعته، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته، وأنّ كل رجل وضيعته، جاز أن يسكت على قوله فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ لأن قوله وَما تَعْبُدُونَ سادّ مسدّ الخبر، لأن معناه: فإنكم مع ما تعبدون. والمعنى: فإنكم مع آلهتكم، أى: فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونها، ثم قال: ما أنتم عليه، أى على ما تعبدون بِفاتِنِينَ بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال إِلَّا مَنْ هُوَ ضال مثلكم. أو يكون في أسلوب قوله:
فإنّك والكتاب إلى علىّ | كدا بغة وقد حلم الأديم «١» |
وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ بإجراء الإعراب على العين.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦٤ الى ١٦٦]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)
وَما مِنَّا أحد إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، كقوله:
أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا «١»
بكفّى كان من أرمى البشر «٢»
مقام معلوم في العبادة، والانتهاء إلى أمر الله مقصور عليه لا يتجاوزه، كما روى: فمنهم راكع لا يقيم صلبه، وساجد لا يرفع رأسه لَنَحْنُ الصَّافُّونَ نصف أقدامنا في الصلاة، أو أجنحتنا في الهواء. منتظرين ما نؤمر. وقيل: نصف أجنحتنا حول العرش داعين للمؤمنين. وقيل: إنّ المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية. وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين الْمُسَبِّحُونَ المنزهون أو المصلون. والوجه أن يكون هذا وما قبله من قوله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من كلام الملائكة حتى يتصل بذكرهم في قوله وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ كأنه قيل: ولقد علم الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا: سبحان الله، فنزهوه عن ذلك، واستثنوا عباد الله المخلصين وبرؤهم منه، وقالوا للكفرة فإذا صحّ ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحدا من خلقه وتضلوه، إلا من كان مثلكم ممن علم الله- لكفرهم، لا لتقديره وإرادته «٣»، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- أنهم من أهل النار، وكيف نكون مناسبين لرب العزة ويجمعنا وإياه جنسية واحدة؟ وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه، لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يزل عنه ظفرا، خشوعا لعظمته
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٦١٦ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣). قوله «لا لتقديره وإرادته تعالى» مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يقدر الشر ولا يريده. وقال أهل السنة: إن كل كائن فهو بقضاء الله وقدره كما بين في علم التوحيد. (ع)
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦٧ الى ١٧٠]
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
هم مشركو قريش كانوا يقولون لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً أى كتابا مِنَ كتب الْأَوَّلِينَ الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولما كذبنا كما كذبوا، ولما خالفنا كما خالفوا، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب، فكفروا به. ونحوه فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً فسوف يعلمون مغبة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام. وإن: هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة. وفي ذلك أنهم كانوا يقولونه مؤكدين للقول جادّين فيه، فكم بين أوّل أمرهم وآخره.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧١ الى ١٧٣]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)
الكلمة: قوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ وإنما سماها كلمة وهي كلمات عدّة، لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة. وقرئ: كلماتنا: والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقاوم الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة، كما قال وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ولا يلزم انهزامهم «٢» في بعض المشاهد، وما جرى عليهم من القتل فإن الغلبة كانت لهم ولمن بعدهم في العاقبة، وكفى بمشاهد رسول الله ﷺ والخلفاء الراشدين مثلا يحتذى عليها وعبرا يعتبر بها. وعن الحسن رحمه الله: ما غلب نبىّ في حرب ولا قتل فيها، ولأن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه: الظفر والنصرة- وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة- والحكم للغالب. وعن ابن عباس رضى الله
(٢). قوله «ولا يلزم انهزامهم» أى لا يرد نقضا للغلبة والنصر. (ع)
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٥]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عنهم وأغض «١» على أذاهم حَتَّى حِينٍ إلى مدة يسيرة وهي مدّة الكف عن القتال. وعن السدى: إلى يوم بدر. وقيل إلى الموت. وقيل: إلى يوم القيامة وَأَبْصِرْهُمْ وما يقضى عليهم من الأسر والقتل والعذاب في الآخرة، فسوف يبصرونك وما يقضى لك من النصرة والتأييد والثواب في العاقبة. والمراد بالأمر بإبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة: الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة، وأنّ كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك.
وفي ذلك تسلية له وتنفيس عنه. وقوله فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ للوعيد كما سلف لا للتبعيد.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧٦ الى ١٧٩]
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)
مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض نصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره، ولا أخذوا أهبتهم، ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة، فشنّ عليهم الغارة وقطع دابرهم، وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحا، فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر، وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل، وقرأ ابن مسعود: فبئس صباح. وقرئ: نزل بساحتهم، على إسناده إلى الجار والمجرور كقولك: ذهب بزيد ونزل، على:
ونزل العذاب. والمعنى: فساء صباح المنذرين صباحهم، واللام في المنذرين مبهم في جنس من أنذروا، لأنّ ساء وبئس يقتضيان ذلك. وقيل: هو نزول رسول الله ﷺ يوم الفتح بمكة.
وعن أنس رضى الله عنه: لما أتى رسول الله ﷺ خيبر- وكانوا خارجين إلى مزارعهم وممهم المساحي- قالوا: محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم. فقال عليه الصلاة والسلام:
«الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «٢» وإنما ثنى وَتَوَلَّ عَنْهُمْ ليكون تسلية على تسلية، وتأكيدا لوقوع الميعاد إلى تأكيد. وفيه فائدة زائدة وهي إطلاق الفعلين معا عن التقييد بالمفعول، وأنه يبصروهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف
(٢). متفق عليه
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٢]
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل: ذو العزة، كما تقول: صاحب صدق، لاختصاصه بالصدق. ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها، كقوله تعالى تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوا إليه مما هو منزه عنه، وما عاناه المرسلون من جهتهم، وما خوّلوه في العاقبة من النصرة عليهم، فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون، والتسليم على المرسلين وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على ما قيض لهم من حسن العواقب، والغرض تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يخلوا به ولا يغفلوا عن مضمنات كتابه الكريم ومودعات قرآنه المجيد. وعن علىّ رضى الله عنه: «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه:
سبحان ربك رب العرة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين «١» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ والصافات أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل جنى وشيطان وتباعدت عنه مردة الشياطين وبريء من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنا بالمرسلين» «٢».
(٢). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من طرف عن أبى بن كعب رضى الله عنه.