سورة الصافات٢
مكية٣
٢ ب: "والصافات" وهو ما جاء في معاني الزجاج ٤/٢٩٧.
٣ هي كذلك في جامع البيان ٢٣/ ٣٣ وتفسير البغوي ٦/١٧ والمحرر الوجيز ١٣/٢١٩ والجامع للقرطبي ١٥/٦٢ وتفسير الخازن ٦/١٧ وتفسير ابن كثير ٤/٣ والبرهان للزركشي ١/١٩٣ والدر المنثور ٧/٧٧ وفتح القدير ٤/٣٨٥ وروح المعاني ٢٣/٦٤.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصافاتمكية
وقوله (تعالى ذكره): ﴿والصافات صَفَّا﴾ إلى قوله: ﴿(بَلْ عَجِبْتَ) وَيَسْخَرُونَ﴾.
أي: ورب الصافات، وهي الملائكة بإجماع. وهو جمع صافة، كأنها جماعات مصطفة لذكر الله وتسبيحه.
قال ابن عباس: الملائكة صفوف، لا يعرف كل منهم مَنْ إلى جانبه لم يتلفت منذ
والزاجرات: جمع أزجرة، أي: تزجر عن معاصي الله، وهي الملائكة، قال ذلك ابن مسعود والسدي.
وقيل: الزاجرات: الملائكة تزجر السحاب، تسوقه إلى المواضع التي يريد الله سقيها، قال مجاهد والسدي أيضاً.
وقال قتادة: الزاجرات: ما زجر الله (عنه) في القرآن. فهي أي القرآن
قال قتادة: الزاجرات كل ما زجر عنه.
ثم قال (تعالى): ﴿فالتاليات ذِكْراً﴾.
يعني: الملائكة تتلو ذكر الله وكلامه، قاله مجاهد والسدي.
وقال قتادة: هو يُتْلَى عليكم في القرآن من أخبار الأمم قبلكم.
ثم قال: ﴿إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ﴾ أي: إن معبودكم واحد. وإن جواب القسم.
ثم قال: ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي: مالك ذلك ومدبره.
﴿وَرَبُّ المشارق﴾ أي: مَالِكُ مشارق الشمس، ومدبرها في الشتاء والصيف، وحذف ذكر المغارب لدلالة الكلام عليه لأن ذكر المشارق يدل على أن ثم مغارب.
قال السدي: المشارق ستون وثلاث مائة مشرق، والمغارب مثلها عدد أيام
قال ابن عباس: للشمس كل يوم مشرق، وكل يوم مغرب، فتلك المشارق والمغارب، وللصيف مشرق ومغرب، وللشتاء مشرق ومغرب، فذلك كقوله: ﴿رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين﴾ [الرحمن: ١٧].
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب﴾ من أضاف زينة فمعناه تتزين الكواكب، أي بحسنها. ومن نوّن زينة وخفض " الكواكب "، جعل الكواكب بدلاً من زينة. ومن نون زينة ونصب " الكواكب " أعمل زينة في الكواكب، وإن شئت جعلت " الكواكب " بدلاً (من زينة) على الموضع.
وقرئت بتنوين " زينة " ورفع " الكواكب "، على تقدير بأن زينتها الكواكب.
ثم قال: ﴿وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ﴾ أي: وحفظناها حِفْظاً. فحِفْظٌ نصب على المصدر.
وقال بعض الكوفيين: هو مفعول من أجله، والواو زائدة.
والتقدير عنده: إنا زينا السماء الدنيا حفظاً لها، أي للحفاظ. معنى: ﴿السمآء الدنيا﴾ السماء التي تليكم، وهي أدنى إليكم من غيرها من السماوات، ودل على ذلك على أن سائر السماوات ليس فيها من الكواكب ما في هذه السماء القريبة منا. والمارد: العاتي الخبيث.
ثم قال (تعالى): ﴿لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى﴾ أي: لا يميلون بسمعهم إلى ما تقول الملائكة (في) السماء للحفيظ الذي في السماء. تقول: سَمِعْتُ إليه يقول كذا، أي أملت بسمعي إليه.
فهذا شاهد للتخفيف.
ويدل على قوة قراءة التخفيف قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٢] ولم يقل عن التسمع.
ومن قرأ بالتشديد فمعناه: أنهم مُنِعُوا من السَّمع ومن التَّسَمُّعِ، وإذا مُنِعوا من السمع فهم عن التَّسَمُّعِ أعظم منعاً. فالتسمع في النفي أبلغ.
قال ابن عباس: " كانت للشياطين مقاعد في السماء، وكانوا يسمعون الوحي، وكانت النجوم لا تجري وكانت الشياطين لا تُرْمَى. قال: فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض فزادوا في الكلمة تسعاً. قال: فلما بعث الله محمداً ﷺ، جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاءه سهاب فلم/ يُخْطِئه حتى يحرقه. قال: فَشَكُواْ ذلك إلى إبليس فقال: ما هو
ثم قال (تعالى): ﴿وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً﴾ أي: ويُرْمون من كل جانب من السماء دحوراً، ودحوراً مصدر دحرته (أي) دفعته وأبعدته، قال اللهمَّ ادْحَرْ (عَنَّا) الشَّيْطَانَ، أي: ادفعه عنّا وأبعِده.
قال قتادة: " دحوراً " قذفاً بالشّهب.
وقال مجاهد: من كل مكان مطرودين.
فيقذفون مستأنف، وليس بمعطوف على يسمعون، لأنه نفي ويقذفون أيجاب.
ثم قال: ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ﴾ أي: وللشيطان من الله عذاب دائم، قاله ابن
وقال أبو صالح والسدي: " واصب " موجع. وعلى القول الأول أهل اللغة.
ثم قال: ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة﴾ مَنْ في موضع رفع على البدل من المضمر في " يسمعون "، أو في موضع نصب على الاستثناء من المنفي عنه السمع، والبدل أحسن.
وقيل: هو في موضع نصب على الاستثناء من قوله: " ويقذفون "، لأنه إيجاب. ويجوز أن تكون في موضع (رفع) على معنى: لكن من خطف.
ومعنى الآية: من استرق السمع من الشياطين.
﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ أي: مضيء متوقد.
ق ابن عباس: تحرقهم الشهب من غير موت ولا قتل.
قال الضحاك: للشياطين أجنحة بها يطيرون إلى السماء.
يقال: إذا أخذ الإنسان الشيء بسرعة خَطَفَه وخَطِفَهُ واخْتَطَفَهُ وتَخَطَفَه. وأصله: اختطفه، ثم أدغمت التاء في الطاء (وأُلْقِيَت حركتها على الخاء فاستغني عن ألف الوصل، ويقال: خطفه وأصله أيضاً اختطفه وأُدْغِمت التاء في الطاء) وحُذِفَتْ حركتها. ثم حُرِّكَت الخاء إلى الكسر لإلتقاء الساكنين واستغني عن ألف الوصل أيضاً، ويقال: خطفه على هذا التقدير، إلا أنه كسر الطاء اتباعاً لكسرة الخاء.
أجاز يعقوب (أن نقف على:) " من كل جانب ".
ومنعه غير لأنه قام مقام العامل في دحوراً. التمام " دحوراً ".
ثم قال (تعالى): ﴿فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [أَم مَّنْ خَلَقْنَآ]﴾ أي: سل يا محمد هؤلاء المشركين المنكرين للبعث، أهم أشد خلقاً أم من تقدم ذكره من الملائكة والسماوات والأرضين والجن؟. وفي قراءة ابن مسعود " (أَمْ) مَنْ عَدَدْنَا ".
ثم قال (تعالى): ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ إي: لا حق علك، يعني آدم لأنه خُلِق من ماء وتراب و (نار) وهواء. والعرب تقول للذين يلزق هو لازب، ولازم، ولابث.
وقال ابن جبير: اللازب الجيد.
وقال قتادة: اللازب اللزق الذي يلتزق باليد.
وهو قول ابن زيد.
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ أي: عجبت يا محمد مما يأتون به من إنكارهم للتوحيد وللبعث، وهم يسخرون. ودليل إضافة العجب إلى النبي ﷺ قوله: ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ [الرعد: ٥]. فأما من ضم التاء فإنه أضاف العجب إلى الله جل ذكره، والعجب منه تعالى ذكره مخالف للعجب من عباده، لأن العجب من الخلق إنما هون أن يطرأ عليهم ما لم يكونوا يظنون فيعجبون منه، وهذا لا يضاف إلى الله لأنه
وقيل: المعنى: قل يا محمد: بل عَجِبْتُ. فيكون مضافاً إلى النبي كفتح التاء. والمعنى على قول قتادة: عجب محمد من هذا القرآن حين أعطيه، وسخر منه الكفار.
قوله (تعالى ذكره): ﴿وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾ إلى قوله ﴿على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾.
أي: وإذا ذُكِّرَ هؤلاء/ الكفار بالله وأياته وخُوِّفوا عذابه، لا يذكرون ولا يخافون، وإذا رأوا آية من آيات القرآن يهزؤون.
ثم قال: ﴿وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي: وقال المشركون ما هذا الذي جئتنا به
ثم قال: ﴿أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ أي: قالوا: أَنُبْعَث إذا كنا تراباً، وعظاماً في التراب.
﴿أَوَ آبَآؤُنَا الأولون﴾ أي: أَوَ يبعث آباؤنا الماضون، أَنْكَروا البعث فقال (الله) جل ذكره لنبيه.
﴿قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ﴾ أي: قل يا محمد لهم: نعم تبعثون من قبوركم وأنتم صاغرون.
ثم قال (تعالى): ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ أي: صيحة واحدة، وذلك هو النفخ في الصور.
﴿فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ﴾ أي: شاخصة أبصارهم/ ينظرون إلى ما كانوا يوعدونه من قيام الساعة.
وقيل: " ينظرون " معناه: ينظر بعضهم بعضاً.
وقيل: معناه ينتظرون ما يفعل بهم.
وأجاز أبو حاتم أن نقف على " يا ويلنا "، على أن يكون " هذا يوم الدين " وما بعده قول الملائكة لهم.
ثم قال: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ أي: فيقال: اجمعوا الذين ظلموا في الدنيا وأشياعهم على الكفر بالله.
﴿وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ من دون الله من الأصنام والأوثان.
قال ابن عباس: " وأزواجهم " نظراؤهم وأبتاعهم في الظلم.
وقال قتادة وأبو العالية: (" وأزواجهم ") أشياعهم، الكفار مع الكفار.
وقال ابن زيد: " وأزواجهم " في الأعمال.
وقال مجاهد: " وأزواجهم " أمثالهم.
وقال أهل اللغة: أزواجهم قرناؤهم، (و) منه زوجت الرجل، (أي) قرنته بامرأته.
ثم قال (تعالى): ﴿فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم﴾ أي: فأرشدوهم ودولهم إلى طريق جهنم. والجحيم: الباب الرابع من أبواب النار.
ثم قال (تعالى): ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ أي: واحبسوهم أيها الملائكة إنهم مسؤولون.
روي عن ابن مسعود أنه قال: يقال لهم: هل يعجبكم ورود الماء؟ فيقولون: نعم، فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب.
وقيل: المعنى أنهم مسؤولون عما كانوا يعبدون من دون الله.
﴿بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ﴾ أي: مستسلمون لأمر الله وقضائه، فهم موقنون بعذبه.
ثم قال: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾.
قال قتادة: أقبل الإنس على قرنائهم من الجن يتساءلون، قال الإنس للجن: ﴿قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين﴾ أي: من قبل الدين (والحق) فتخدعوننا بأقوى الوجوه.
واليمين: القوة والقدرة في كلام العرب.
وقيل: معنى ﴿(عَنِ) اليمين﴾ من جهة إيماننا لأن إبليس اللعين قال: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]. فمن أتاه الشيطان
(وهو أيضاً) قول مجاهد والسدي وابن زيد.
وقال قتادة أيضاً: " عن اليمين ": من قبل الخير فتنهوننا عنه.
وقال السدي: " عن اليمين ": من قبل الدين، به يزينون لنا بالباطل ويصدوننا عن الحق. وليس هذا بمناف لقوله: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠]، لأن معنى هذا: لا يتساءلون بالأنساب والأرحام
وقيل: معنى قوله: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ عنى به المشركين، يقول بعضهم لبعض: كنتم تأتوننا عن اليمين، أي: من الجهة التي نحبها ونتفاءل بها.
والعرب تتفاءل/ بما جاء عن اليمين وتسميه السانح.
وقل: معنى: تأتوننا إتيان من إذا حلف لنا صدقناه. فأجابوهم فَقَالُوا (لهم) ﴿بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي: مقرين بتوحيد الله.
﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ أي: من قدرة ولا حجة فنصدكم بها عن الحق والإيمان، ﴿بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ﴾ (أي طاغين) على الله، متعدين إلى ما ليس لكم بحق (من) معصية الله.
ثم قال (تعالى): ﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ﴾ أي: فوجب علينا/ عذاب ربنا إنا لذائقون نحن وأنتم العذاب، هذا خبر من الله جل ذكره عن قول الجن والإنس.
ثم قال: ﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ أي قالت الجن للإنس: فأضللناكم عن الحق بالوسوسة والاستدعاء والتزيين، أو كنا ضالين.
قال الله جل (ثناؤه) وذكره: ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ﴾ أي: كما اشتركوا في الدنيا في الكفر بالله والضلال، كذلك يشتركون في الآخرة والعذاب.
قال ابن زيد: اشترك المشركون والشياطين في عذاب جهنم.
ثم قال (تعالى): ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين﴾ أي: يقول الله جل ذكره: إنا هكذا نفعل بالذين اكتسبوا الكفر والمعاصي في الدنيا، ثم بَيَّنَ أَنّ مِنْ كُفرهم أنهم كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله، يستكبرون، أي: إذا قيل لهم في الدنيا: قولوا لا إله إلا الله، يستكبرون عن قولها، أي: يتعظمون، وحذفت قولوا لدلالة الكلام عليها.
قال السدي: يعني بذلك المشركين خاصة.
ثم قال (تعالى): ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ أي: وكانوا في الدنيا - يعني المشركين - (يقولون): أنترك عبادة الأصنام والأوثان، لما يأمر به شاعر مجنون من أن نقول: لا إله إلا الله، يعنون بذلك محمداً ﷺ.
قال الله جلَّ ذكره: ﴿بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين﴾ أي: بل جاء محمد ﷺ بالحق ولم يأت بشعر، وصَدَّقَ بما جاء به المرسلون، أي: كتبهم، لأن في كتب المرسلين قبله أنه سيبعث بكتاب من عند الله، وفي ما جاء به محمد ذكر المرسلين وتصديقهم بما أتوا به من كتب.
ثم قال (تعالى): ﴿إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم﴾ أي: إنكم أيها القائلون
﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي: ثواب عملكم في الدنيا.
ثم قال: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي: إلا عباد الله الذين أخلصهم يوم خلقهم لرحمته، فإنهم لا يذقون العذاب الأليم.
ومن قرأ بكسر اللام فمعناه: إلا عباد الله الذين أخلصوا له العمل والتوحيد.
ثم قال: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ﴾.
قال قتادة: هو الجنة.
وقيل: هو الفواكه التي خلقها (الله) لهم في الجنة.
ثم قال: ﴿فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النعيم﴾ أي: الرزق المعلوم كونهم ذوي فواكه وإكرام الله لهم بكرامته في جنات (النعيم).
ثم قال: ﴿على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ أي: بعضهم يقابل بعضاً، لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض والسرر جمع سرير.
قوله (تعالى ذكره): ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾ إلى قوله: ﴿مِنَ المحضرين﴾.
أي: يطوف عليهم الخدم بكأس من خمر جارية، قاله قتادة وغيره. وحكى أهل اللغة أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر: كأس، فإذا لم
وقال بعضهم: كل إناء فيه شراب فهو كأس، فإذا لم يكن فيه شراب فهو إناء. كذلك الخِوَانُ إذا كن عليه طعام قيل له مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام قيل له خوان. ومثله الهودج يقال له: إذا كانت فيه امرأة، فإذا لم تكن/ فيه قيل له هودج.
قال الضحاك: / كل كأس في القرآن فهو خمر.
وهو قول السدي.
وقال ابن عباس: هو الخمر.
وقال مجاهد: هي خمر بيضاء.
قال الزجاج: " من معين " أي: تجري كما تجري العيون في الأرض.
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ أي: لا تغتال هذه الخمر عقل شاربها كما تفعل خمر الدنيا.
وقال ابن عباس: " لا فيها غول " (أي): ليس في الخمر صداع. وعنه: ليس فيها وجع بطن. وكذلك قال مجاهد.
وقال ابن زيد: ليس فيها وجع البطون، وشاب الخمر يشتكي بطنه.
وقال السدي: لا تغتال عقولهم.
وقيل: معناه: لا فيها إثم.
وذكر الليث: أن ابن عباس أشكل عليه تفسير الغَوْل حتى سمع إعرابياً يقول لصاحبه: إني لأجِدُ في بطني غَوْلاً فقال ابن عباس: جاءت والله (الغَوْل): الوجع يجده في بطنه.
ثم قال (تعالى): ﴿هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ من فتح الزاي فمعناه لا تذهب عقولهم. قاله ابن عباس ومجاهد والسدي.
وقال قتادة: لا تغلبهم على عقولهم. تقول العرب: نُزِفَ الرَّجُلُ فهو مَنْزُوف إذا ذهب عقله، (ونزف دم فلان إذا ذهب). فنفى الله جل ذكره عن خمر الجنة
فأمّا من قرأ بكسر الزاي، فمعناه: لا يفنى شرابهم. يقال أَنْزَف الرجل إذ نفد شرابه.
وحكى الفراء: أنزف الرجل إذا نفد شرابه، وأَنْزَفَ إذا ذهب عقله. فيكون على هذا القول الأخير كقراءة من فتح الزاي.
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ﴾ أي: وعندهم حور قصرن طرفهن على الأزواج فلا يبغين غيرهم، قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي.
قال عكرمة: " قاصرات الطرف " أي: محبوسات على أزواجهن.
وقال ابن زيد: " قاصرات الطرف " (لا ينظرن إلا) إلى أزواجهن، ليس كما يكون نساء أهل الدنيا.
وسألت أم سلمة رضي الله عنها النبي ﷺ فقالت: " يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: " وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ "، (قال): " العِينُ: الضِّخَامُ العُيُونِ (شَفَرُ) الحَوْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحِ النَّسْرِ ".
وقال (تعالى): ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾.
قال ابن جبير: كأنهن بطن البيض. يريد: أنه شبههن في بياضهن ببطن البيض.
وقال السدي: كأنهن البيض حين يقشر قبل أن تمسه الأيدي. وهو قول
وهو اختيار الطبري، شبهن ببياض البيضة قبل أن تمسه الأيدي، إذهن لم يمسسهن قبل أزاجهن إنس ولا جان، فَشُبِّهْن في صفاء اللون (وبياضه) (و) في صيانتهن ببياض البيضة في قشره، وبياض البيض عند الطبري هو القشر الرقيق الذي على البيضة من داخل القشر.
وروي أن النبي ﷺ قال لأم سلمة، إذ سألته عن ذلك: " رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الجِلْجَةِ التِي رَأيتَهَا فِي دَاخِلِ البَيْضَةِ التِي تَلِي القِشْرَةَ وَهِيَ الغِرْقِىءُ ".
وقال ابن زيد: كأنهن البيض الذي يكنه الريش مثل بيض النعام، فهي
وقال ابن عباس: " كأنهن بيض مكنون " يعني: اللؤلؤ المكنون في الصدف.
ثم قال (تعالى): ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي: أقبل أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً، قاله قتادة وابن زيد.
ثم قال تعالى عنهم: إنهم قالوا في مساءلتهم: ﴿قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ المصدقين * أَءِذَا مِتْنَا [وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ]﴾.
[فقوله: " إنا لمدينون " جواب للاستفهامين في قوله: " أنَّكَ لمن المصدقين إإذا متناً "].
أي: قال قائل من أهل الجنة إني كان لي صاحب ينكر البعث بعد الموت ويقول لي: أتُصَدِّقُ بأنك تبعث بعد أن تكون عظاماً ورفاتاً، وتجزى بعملك؟ هذا معنى قول ابن عباس.
وقال مجاهد: القرين كان شيطاناً/.
وروي أنه كان شريكان، وكان أحدهما له حرفة والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر: ليس عندك حرفة ولا أراني، إِلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه.
ثم إن الرجل صاحب الحرفة اشترى داراً بألف دينار كانت لِمَلِكٍ مَاتَ، فدعا صاحبه الذي لا حرفة له فأراه الدار، وقال: كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار؟ قال: ما أحسنها. فلما خرج قال: اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة، فَتَصَدَّقَ بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم تزوج امرأة بألف دينار، ثم دعا الذي لا حرفة معه وصنع له
قال: فإنه كان لي صاحب يقول: أئنك لمن المصدقين؟ قيل له: فإنه في الجحيم، فقال: هل أنتم مطلعون؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم، فقال عند ذلك: " تَاللهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلاَ نَعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مَنَ المُحْضَرِينَ " أي: المحضرين في النار معك. ذكر
وهو تأويل يوجب أن تكون القراءة: من " المُصَّدِقينَ " بالتشديد للصاد من الصدقة. وقراءة الجماعة إنما هي من التصديق بالحساب والبعث والمجازاة بالأعمال.
وقال ابن عباس: " لمدينون " لمجازون بالعمل.
وقال مجاهد: لمحاسبون.
قال قتادة: سأل ربه أن يطلعه (فأطلعه) فأطلع فرأى صاحبه في وسط النار.
وروي أنه أطلع فرأى جماجم القوم تغلي.
وروى ابن المبارك عن معمر عن عطاء الخرساني مثل الحكاية بعينها إلا أن فيها اختلاف ألفاظ، قال كان رجلان شريكان بينهما ثمانية ألاف دينار فاقتسماها، فعمد أحدهما فاشترى داراً بألف دينار وأرضاً بألف دينار، وتزوج امرأة بألف دينار واشترى أثاثاً بألف، فقال الآخر: اللهم إني أشتري منك في الجنة داراً وأرضاً وامرأة وأثاثاً بأربعة ألاف دينار، ثم تصدق بها كلها، ثم احتاج فتعرض لشريكه أن ينيله مما عنده، فقال له: أين مالكظ فأخبره بما فعل، فقال له: وإنك لمن المصدقين بهذا، اذهب فوالله لا أعطيك شيئاً. وطرده فنزلت فيهما (هذه) الآيات، فتذكر المتصدق أمر
قال قتادة: رأى جماجم (القوم) تغلي.
قال ابن المبارك: وبلغنا أنه سأل به أن يطلعه عليه.
قال أبو محمد مؤلفه (نضر الله وجهه) نقلت معنى الحكاية واختصرت بعض لفظها.
ويروى أن الله جل ذكره جعل بين أهل الجنة وأهل النار كِوىً ينظر إليهم أهل الجنة إذا أحبوا ليعلموام قدر ما أنجاهم الله منه وقد ما أعطاهم، ودل على ذلك قوله (تعالى): ﴿فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم﴾ أي: أطلع من الكوى فرآه في وسط الجحيم.
أي: قال المؤمن ليس نحن بميتين إلا موتتنا/ (الأولى في الدنيا). ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ قال ذلك سروراً منه واغتباطاً منه بما أعطاه الله من كرامته.
ثم قال: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم﴾ أي: إن ما أعطانا الله من أنا لا نعذب ولا نموت لهو النجاء العظيم.
قال قتادة: هذا قول أهل الجنة.
﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون﴾ أي: لمثل هذا الذي أُعْطِيَ هذا المؤممن من الكرامة في الآخرة فليعمل في الدنيا لأنفسهم العاملون.
قال قتادة: آخر كلام المؤمن: " لهو الفوز العظيم "، ثم قال الله جل ذكره: " لمثل هذا فليعمل العاملون ".
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم﴾ أي: الذي تقدم من ذكر النعيم للمؤمنين خير أم ما أعد الله لأهل النار من الزقوم. والنزول: الرزق
قال قتادة: غُذِّيت بالنار ومنها خُلِقت.
قال السدي: قال أبو جهل لما نزلت هذه الآية: إن شرجة الزقوم: أتعرفونها في كلام (العرب)؟ أنا آتيكم بها، فدعا جاريته فقال: إيتني بزبد وبتمر، فقال: دونكم تزقموا فهذا الزقوم الذي يخوفكم به محمد ﷺ، فأنزل الله تعالى ذكره تفسير هذا: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً﴾ إلى آخر الآيات. فالظالمون هنا أبو جهل
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين﴾ أي: طلعها في قبحه وسماجته كرؤوس الشياطين، وهذا تمثيل لأنهم لم يكونوا يرون الشياطين، ولكن من شأن العرب أنها إذا بلغت في صفة القبح والسماجة قالت: كأنه رأس شيطان، فخوطبوا بما يعقلون وما يجري بينهم ويفهمون.
وقيل: بل مُثِّل لهم الطلع بما يعرفون، وذلك أن ضرباً من الحيات قباح الصور والمناظر يقال لها شيطان، فشبهت لهم الطلع (بذلك).
ثم قال (تعالى): ﴿فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا﴾ أي: فإن هؤلاء المشركين لآكلون من هذه الشجرة فمالئون منها البطون، ثم إن لهم على ما يأكلون منها لشوباً من حميم، أي: خلطاً من ماء قد انتهى حره.
وحميم فعيل مصروف عن مفعول، والشوب مصدر شاب طعامه إذا خلطه يشوبه شَوْباً وَشَابَةً وَشِيَاباً.
وقال ابن عباس: لشوباً لمزجاً.
وقال قتادة: لمزاجاً.
ثم قال (تعالى): ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم﴾.
قال قتادة: فهم (في) عناء وعذاب من نار جهنم، وتلا: " يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيم - انٍ ".
قال بعض المفسرين: هذا النص يدل على إنهم في وقت أكلهم للزقوم وشربهم للحميم ليسوا في النار المتوقدة، هم في عذاب آخر، ثم يردون إلى الجحيم، والجحيم النار المتوقدة.
قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ثم تلا: " أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمّئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ".
ثم قال (تعالى): ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ﴾ أي: وجودهم على الضلال
﴿فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ أي: فهم مسرعون في اتباع ما كان عليه أباؤهم من الكفر.
قال مجاهد/ وقتادة: ﴿يُهْرَعُونَ﴾ يسرعون.
وقال ابن زيد: يستعجلون.
قال (الفراء: الإهراع: الإسراع فيه شبيه) بالرعدة.
قال المبرد: المُهْرَعُ المُستحث. يقال: جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثه البرد إليها.
وحكى الزجاج: هُرِع وأُهْرِع/ إذا استُحث وأزعِج، كأنهم يزعجون من الإسراع إلى اتباع آبائهم.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ﴾ أي: في الأمم الخالية رسلاً منذرين تنذرهم بأس الله وعقابه على الكفر والتكذيب، فكذبوهم، وحذف فكذبوهم لدلالة الكلام عليه.
ثم قال: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين﴾ أي: فَتَأَمَّل يا محمد كيف كان عقابة الأمم الذين قبلك إذ كَذَّبوا رسلهم كيف أهلكهم الله فصيرهم عبرة لمن اغتر وعظة لمن اتعظ.
ثم قال: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي: إلا من آمن بالرسل من الأمم فأخلص لله العمل والإيمان بما جاء به الرسل. هذا على قراءة من كسر اللام. ومن فتحها
ثم قال (تعالى): ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون﴾ أي: نادى فقال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦]، وبقوله: ﴿دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ [نوح: ٥] وما بعده، فلنعم المجيبون كنا له إذ دعانا فأجبناه وأهلكنا قومه.
﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم﴾ أي: من الأذى والمكروه الذي كان فيه (من الكافرين) من قومه.
وقيل: من الطوفان والغرق قاله السدي.
ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين﴾ أي: هم الذين بقوا في الأرض بعد هلاك قومه، وذلك أن الناس كلهم من ذرية نوح بعد الغرق.
قال ابن المسيب: فجميع الخلق من ذرية سام وحام ويافت.
ثم قال: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾.
قال قتادة: أبقى الله عليه الثناء (الحسن) في الآخرين، وهو قول السدي.
وقيل: في " الآخرين ": أمة محمد ﷺ، لأنها آخر الأمم فهي تثني على نوح
ثم قال (تعالى): ﴿سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين﴾ أي: يقال: سلام على نوح، (أي): أبقينا عليه في الآخرين أن يقال ذلك، يعني أن في أمة محمد ﷺ، ولذلك رفع " سلام " لأنه محكي.
وقيل: التقدير: " في الآخرين " تم الكلام، ثم ابتدأ " سلام " على نوح ابتداء وخبر.
وفي حرف ابن مسعود: " سَلاماً " بالنص، أعمل فيه تركنا فنصبه، ومعناه في الرفع أمنة من الله لنوح في العالمين أن يذكره أحد بسوء.
قال أبو إسحاق معناه: وتركنا عليه أن يُصلى عليه إلى يوم القيامة. وقل: (معناه): أبقينا (عليه) الثناء الحسن في الآخرين.
ثم قال: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي: إنا كما فعلنا بنوح ومن آمن معه
ثم قال: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ أي: إن نوحاً من الذين صدقوا وأخلصوا العبادة لله والتوحيد له.
ثم قال: ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين﴾ أي: بعد أن أنجينا نوحاً ومن آمن معه إغرقنا الذين بقوا بعده ممن كفر به وكذبه.
قال قتادة: أنجاه الله ومن معه في السفينة وأغرق بقية قومه.
قوله (تعالى ذكره): ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ﴾ إلى قوله: ﴿بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾.
أي: من تُبَّاع نوح وعلى منهاجه لإبراهيم.
قال ابن عباس: ﴿مِن شِيعَتِهِ﴾: ومن أهل دينه.
وهو معنى قول قتادة ومجاهد. ،، ،،
وقال الفراء: الهاء لمحمد ﷺ، أي: وإن من شعية محمد لإبراهيم، وهو عنده مثل: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [يس: ٤١] يعني ذرية من سبقهم.
ثم قال: ﴿إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.
أي: من الشركة، قاله مجاهد وقتادة.
وقال عروة بن الزبير: لم يلعن شيئاً قط.
وقال ابن سيرين: القلب السليم الناصح لله في خلقه.
وقيل: / القلب السليم الذي يحب للناس ما يحبه لنفسه/، قد سلم جميع الناس من غشه وظلمه وأسلم لله بقلبه ولسانه ولا يعدل به غيره.
ثم قال: ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ أي: أَيّ شيء تعبدون.
﴿أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ﴾ أي: أكذاباً معبوداً غير الله تعبدون، والإفك، ،
قال المبرد: (الإفك) أسوأ الكذب.
ثم قال: ﴿فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين﴾ أي: أَيّ شيء تظنون بربكم أيها القوم أنه يصنع بكم أن لقيتموه وقد عبدتم غيره، قاله قتادة.
ثم قال: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم﴾.
ذُكِرَ أن قوم إبراهيم ﷺ كانوا أهل نجوز وكانوا يهربون من الطاعون، فطمع أن يتركوما بيت آلهتهم ويخرجوا فيخالفهم إليها فيكسرها، فرأى نجماً قد طلع فعصب رأسه (وقال إني مطعون).
قال ابن عباس: قالوا له وهو في بيت آلهتهم: اخرج معنا، فقال: إني مطعون، وتركوه مخافة الطاعون.
وقال ابن زيد: أرسل إليه ملكهم أن غداً عيدنا فاحضر معنا. قال: فنظر نظرة إلى النجوم، فقال: إن ذلك النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي، فقال: إني سقيم.
قال ابن عباس: " سقيم ": مريض.
وقال الحسن: " فنظر نظرة في النجوم ". أي: فكر فيما يعمل إذا كلفوه الخروج، فالمعننى على هذا القول: فنظر نظرة فيما نجح له من الرأي، أي: فيما طلع له. يقال نَجَمَ القول والنَّبْتُ إذا طلعا. أي: فكر فعلم أنه لا بد لكل حي أن يسقم، فقال: إني سقيم.
قال الخليل: يقال للرجل إذا فكر في الشيء كيف يدبره: نظر في النجوم.
وقيل: المعنى: فنظر فيما نجم من الأشياء، أي: طلع منها، فعلم أن لها خلقاً
فتكون النجوم في هذين القولين مصدراً. (و) على القول الأول جمع نجم.
وقيل: إنهم كانوا يعرفون أن نجماً إذ طلع يطلع بالطاعون، فكان إذا طعن رجل منهم هربوا منه، فطلع ذلك النجم، فقال إبراهيم: إني سقيم، أي: مطعون، فهربوا منه، وكان غلاماً أمرد، فهو معنى قوله: ﴿فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾.
وقيل: إنه كان يُحَمُّ في ساعة قد اعتاده ذلك، فنظر في الأوقات، (وقت) الساعة التي تأتيه الحُمى فيها، فوجدها تلك الساعة التي دُعِي إلى الخروج معهم إلى جمعهم فقال: إني سقيم. أي: إن هذه الساعة أسقم فيها بالحمى التي اعتادتني، فجعل ذلك علة لتخلفه عنهم، وكان فيما قال صادقاً، لأن الحمى كانت تأتيه في ذلك الوقت، فكان قد أضمر كسر أصنامهم إذا تخلف بعدهم وغابوا ففعل ذلك.
وقيل: معنى قوله: " إني سقيم " أي: سأسقم لأن من كان في عقبه الموت سقيم،
أي: ستموت ويموتون.
وقيل: إن ذلك (من) إبراهيم كان تحيلاً عليهم في ذات الله.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام غَيْرَ ثَلاَثِ كَذِبَاتٍ، اثْنَتَيْنِ فِي ذَاتِ الله ": قوله: " إِنّي سَقِيمٌ "، وقوله: " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا "، وقوله في سارة: " هِيَ أُخْتِي ".
ثم قال: ﴿فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ أي: مضوا عنه خوفاً أن يعديهم السقم الذي ذكر أنه به، وذلك أنهم كانوا يفرون من الطاعون.
في الكلام معنى التعجب، وفي الكلام حذف، والتقدير: فقرب إليها طعاماً فلم تأكل، فقال لها: ألا تأكلون، فلم تجاوبه، فقال: ما لكم لا تنطقون؟ مستخفاً بها مستهزئاً.
وقيل: إنهم جعلوا لآلهتهم الطعام قبل أن ينصرفوا عنه، فلما انصرفوا ورآها لا تأكل قال: ألا تأكلون، فلما لم تكلمه قال: ما لكم لا تنطقون؟ وإنما خاطبها مخاطبة من يعقل، لأنهم أجروها في العبادة وجعل الطعام لها مجرى من يعقل.
ثم قال: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين﴾.
روي أنه أخذ فأساً/ فضرب بها حافتيها ثم علقها في عنق [أكبرها/.
و ﴿باليمين﴾: بالقوة.
وقيل: باليمين: بقسمه في قوله: ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٥٧] بعد أن تولوا مدبرين، فبر بيمينه بفعله.
ثم قال: ﴿فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ أي: يمشون سراعاً.
يقال: زَفَّ يَزِفُّ زَفِيفاً، إذ أسرع، وأصله من زفيف النعام، وذلك أول عدوه. قال ابن زيد: " يزفون ": يستعجلون.
ومن قرأ بضم الياء فمعناه: جعلوا أنفسهم يسرعون.
يقال: أطردت الرجل أي: صيرته إلى ذلك، وطردته: نحيته. فيكون المعنى:
(وقرئت) " يَزِفُونَ " بالتخفيف، لغة بمعنى يسرعون، يقال: وَزَفَ يَزِفُ إذا أسرع. ولم يقرأ بها الفراء ولا الكسائي.
وقيل: معنى يزفون: يمشون بجمعهم في رجوعهم مشياً على مهل، لأنهم كانوا آمنين أن يصيب أحد آلهتهم بضر.
ثم قال (تعالى): ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾.
في (هذا) الكلام حذف، والتقدير: قالوا له: لِمَ كسرتها؟ قال: أتعبدون، أي:
وأجاز النحويون أن تكون ما بمعنى الذي، وأن تكون وما بعدها مصدراً، وهو أحسن.
وأجازوا أن تكون نافية بمعنى: وما تعملون شيئاً ولكن الله خالقه.
ثم قال (تعالى): ﴿قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم﴾.
الجحيم عند العرب جمر النار بعضه على بعض، والنار على النار. يقال رأيت حجمه النار، أي تلهبها.
والمعنى: أنه لما أقام عليهم الحجة في عبادتهم ما لا ينفع ولا يضر لم يجدوا لحجته مدفعاً، فتركوا جوابه، وقالوا: ابنو له بنياناً فألقوه في الجحيم، فعملوا ناراً عظيمة لا يقدر أحد أن يتقرب منها لشدة حرها، فاحتالوا (له) في رميه فيها فعملوا
ثم قال (تعالى): ﴿فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً﴾ أي أراد قوم إبراهيم عليه السلام به كيداً، وهو طرحهم إياه في النار.
قال الله جل ذكره: ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين﴾ أي: الأذلين حجة، فلم يضره ما فعلوا به.
ثم قال (تعالى): ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ أي: وقال إبراهيم بعد أن نجاه الله من كيد قومه وأعلى حجته عليهم، إني مهاجر إلى ربي من بلد قومي إلى الأرض المقدسة.
وقال قتادة: معناه: ذاهب إلى ربه بعقله وقلبه ونيته.
وقيل: إنما قال ذلك حين أرادوا أن يلقوه في النار.
ثم قال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين﴾ أي: هب لي ولداً صالحاً من الصالحين.
قال الله جل ذكره: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾.
أي: حليم إذا كبر، وهو إسحاق في قول عكرمة وقتادة.
وهو قول ابن مسعود وكعب.
وقال أبو هريرة وابن عمر والشعبي وابن جبير ومجاهد: هو إسماعيل، واختلف في ذلك عن ابن عباس.
وذكر ابن وهب عن عطاء بن أبي رباح: أن عبد الله بن عباس قال: المُفْدَى إسماعيل.
وزعمت اليهود أنه إسحاٌ، وكذبت اليهود، وقد ذكرنا الاختلاف في الذبيح بحجج كل فريق في كتاب مفرد فلم نعده هنا لطوله.
قوله (تعالى ذكره): ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي﴾ إلى قوله: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾.
قال ابن عباس: السعي العمل.
وقال مجاهد: لما شب حتى أدرك سعيُه سَعْيَ [على] إبراهيم في العمل. وقال قتادة: لما مشى مع إبراهيم.
وقال ابن زيد: السّعي هنا العبادة.
روي أنه أُمِرَ في المنام بذبحه.
وذكر أنه حين بُشِّرَ به نذر أن يجعله إذا وُلِدَ له ذبيحاً. فلما وُلِدَ وبلغ (معه) السعي - مع أبيه -، أُري في المنام فقيل له: فد الله بنذرك. ورؤيا الأنبياء يقين.
قال السدي: لما قال جبريل/ ﷺ لسارة أبشري بولد إسمه إسحاق، ضرب وجهها عجباً، وقالت: أألد وأنا عجوز، وهذا بعلبي شيخاً، إن هذا لشيء عجيب، فقالت سارة لجبريل ﷺ: ما آية ذلك؟ فأخذ جبريل عليه السلام عوداً يابساً فلواه بين أصابعه فاهتز خضرة، فقال إبراهيم: هو الله إذاً ذبيحاً، فلما كبر إسحاق أتي إبراهيم في النوم، فقيل له: أوْفِ لله بنذرك الذي نذرت، إن الله رزقك غلاماً من
ثم قال له إسحاق: يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عني ثيابك حتى لاينضح عليها من دمي بشيء فتراه سارة فتحزن، وأسرِع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي، فإذا أتيت سارة فاقرأ عليها من السلام، فأقبل عليه أبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي، حتى استنقع الدموع تحت خد إسحاق، ثم إنه جر السكين على حلقه فلم تحك السكين، وضرب الله صفحة من نحاس (على حلق إسحاق)، فلما رأى ذلك ذوب به على جبينه وحز في قفاه، فذلك قوله (تعالى): ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ (أي): أسلما الأمر لله ورضيا بالذبح، الذابح والمذبوح، وتله: صرعه. والجبين: ما عن يمين الجبهة و (عن) شمالها.
قال قتادة: تله: كبه وحول وجهه إلى قفاه.
(قال السدي): فنودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا بالحق، فالتفت فإذا بكبش فأخذه وخلى عن ابنه، وأكب على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بني وُهِبْتَ لي، فهو قوله تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾، فرجع إلى سارة فأخبرها الخبر فجزعت، وقالت: يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني.
قال عكرمة في معنى ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾: قال له الغلام: (يا أبت) اقذفني للوجه كي لا تنظر إلى وجهي فترحمني [وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع.
قال مجاهد: " وتله للجبين " وضع وجهه على الأرض]، فقال له: يا أبت لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني، فلا تحن علي، اربط يدي إلى
ومن قرأ (تَرَى) بفتح التاء والراء، فمعناه: ماذا عندك من الرأي فيما قلت لك، على معنى الامتحان لإسحاق، لا (على) معنى الاستشارة له في أمر الله.
ومن ضم التاء، فمعنى قراءته: ماذا ترى [من صبرك أو جزعك. وقيلأ: معنى الكلام: ماذا] تشير، امتحاناً له.
وغلط أبو عبيد وأبو حاتم في هذا فجعلاه من رؤية العين، وليس كذلك،
قال ابن عباس: إن الله لما أمر ابراهيم بالمناسك، عرض له الشيطان عند المسعى، فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به جبريل ﷺ إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرمى بسبع حصيات حتى ذهب، [ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب]. ثم تلّه للجبين وعلى إسماعيل قميض أبيض، فقال (له): يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غير هذا، فاخلعه عني فكفني فيه، فالتفت إبراهيم ﷺ فإذا بكبس أعين أبيض أقرن فذبحه.
وجواب لما محذوف، والتقدير: فلما أسلما سُعِدَا وأجزل لهما الثواب.
وقال الكوفيون: الجواب: ناديناه، والواو زائدة.
وقوله: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ﴾ التي أريناك في منامك أن تذبح ولدك.
ثم قال: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي: كما خلصنا الذبيح والذابح من الشدة والكرب، كذلك نخلص من أحسن بالعمل الصالح من الشدة والكرب.
ثم قال: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين﴾ إي: إن أمرنا لك بذبح ابنك لهو الاختبار الظاهر.
وقال ابن زيد: / البلاء في هذا الموضع الشر والمكروه.
وقيل: المعنى: إن هذا الفداء الذي فديناه به من الذبح لهو النعمة الظاهرة.
وقيل: لا يقال في الاختبار إلا الابتلاء. يقال أبلاه الله إذا أنعم عليه أو
والذِّبْح بالكسر المذبوح، والذَّبح بالفتح المصدر.
وقال كعب الأحبار/: لما أري ابراهيم ﷺ [ ذبح إسحاق قال الشيطان] [والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم] لا أفتن منهم أحداً أبداً (فتمثل الشيطان لهم رجلاً يعرفونه، فأقبل حتى خرج إبراهيم بإسحاق ليذبحه، دخل على سارة، فقال لها: (أين أصبح) إبراهيم غادياً بإسحاق؟ قالت سارة: غدا لبعض حاجته. قال
قالت سارة: فَلِمَ يذبح؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قالت: فهذا أحسن أن يطيع ربه إن كان أمره بذلك. فخرج الشيطان من عند سارة حتى أدرك إسحاق، وهو يمشي على إثر أبيه، فقال له: أين أصبح أبوك غادياً بك؟ قال: غدا بي لبعض حاجته، قال الشيطان: لا والله ما غدا بك لبعض حاجته، ولكنه غدا بك ليذبحك، قال إسحاق، ما كان أبي ليذبحني، قال: بلى، قال: لِمَ؟ قال: زعم أنه ربه أمره بذلك. قال إسحاق: فوالله لئن أمره بذلك ليطيعنه. فتركه الشيطان وأسرع إلى إبراهيم، فقال: أين أصبحت غادياً بابنك؟ قال: غدوت به لبعض حاجتي، قال: أما والله ما غدوت به إلا لتذبحه، قال: لِمَ أذبحه؟ قال: زعمت أن ربك أمرك بذلك، قال إبراهيم: فوالله (إِنْ) كان أمرني بذلك لأفعلن.
قال كعب: أوحى الله إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة استجبت لك فيها، قال: إسحاق اللهم إني أدعوك أن تستجيب لي، أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك شيئاً فأدخله الجنة.
وروي أن الكبش الذي فدي به هو الكبش الذي تُقُبِّلَ من ابن آدم حين قربه.
وقال ابن عباس: " بذبح عظيم " (بكبش قد) رعى في الجنة أربعين سنة.
وقيل: فدي بوعل. الوعل: التيس الجبلي.
وأجاز بعض العلماء نسخ الشيء قبل فعله، واستدل بأن هذه الآية قد نسخ الله فيها الأمر بالذبح بالفداء (له) بالكبش قبل فعله. ومثله عنده أمر الله النبي ﷺ بفرض خمسين صلاة، ثم رده إلى خمس. ومثله الأمر بالصدقة قبل مناجاة النبي ﷺ في سورة المجادلة، ثم نسخه بالترك.
وهذا عند الحذاق من العلماء، إنما هو من تأخير البيان.
ولو جاز أن يقال: إن هذا منسوخ لجاز في قوله: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] ثم بَيَّنَهَا بعد ذلك فيكون البيان ناسخاً لما تقدم، وهذا لم يقله أحد.
ويدل على جواز تأخير البيان قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٩]. وثم تدل على
وقد بينا هذا في كتاب " الناسخ والمنسوخ " بأبين من هذا.
ويروى أن إبراهيم ﷺ لمَّا أراد أن يذبح ابنه قال له: اربطني، فلما أسلما لأمر الله ووضع السكين على حلقه، بعث الله نحاساً فكان على حلقه فجر على النحاس، ثم نودي فالتفت فرأى الذبح وراءه، فقال إبراهيم: يا بني إنك نبي وإن لك لدعوة أُعطيتَها كما أُعطي الأنبياء فاسأله، فقال إسماعيل: وإني أسأل أن يغفر لكل عبد مات ولا يشرك به شيئاً.
قوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾.
أي: وأبقينا على إبراهيم ثناء حسناً في الآخرين من الأمم، قاله قتادة. وقال ابن زيد: سأل إبراهيم عليه السلام ربه فقال: ﴿واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين﴾ [الشعراء: ٨٤]، أي
ثم قال: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي: كما جزينا إبراهيم على طاعته، كذلك نجزي من أطاع الله وأحسن عبادته.
ثم قال: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ أي: بشرناه - بعد أن فدينا إسماعيل بالذبح - بإسحاق مقدراً له النبوة والصلاح.
ومن قال: إن الذبيح إسحاق فمعناه عنده: (وبشرنا إبراهيم) / بعد الفداء بنبوة إسحاق نبياً. وفيه بُعْدٌ لأنك (لو) قلت: بشرتك بقدوم زيد قادماً، لم يكن للحال فائدة، ولم يوضع لغير فائدة.
قال قتادة: بشر بنبوته بعدما جاد لله بنفسه.
﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ﴾ وهوالمطيع.
﴿وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ وهو الكافر.
وذكر الطبري عن السدي أنه قال: كان إبراهيم كثير الطعام يطعم الناس ويضيفهم، فبينما هو يطعم الناس إذ رأى شيخاً كبيراً يمشي في الحرة، فبعث إليه بحمار فركبه حتى أتاه فأطعمه فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها في فيه فيدخلها في أذنه مرة وفي عينه مرة ثم يدخلها في فيه، فإذا أدخلها في فيه، خرجت من دبره. وكان إبراهيم ﷺ قد سأل ربه ألا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت. فقال إبراهيم للشيخ حين رأى حاله: ما بالك يا شيخ تصنع هذا؟ قال يا إبراهيم الكبر، قال له: ابن كم أنت؟ فزاد على عمر إبراهيم بسنتين، فقال إبراهيم: إنما بيني وبينك سنتين، فإذا بلغت ذلك صرت مثله، قال نعم، فقال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل ذلك، فقالم الشيخ فقبض روح إبراهيم. وكان ملك الموت قد تمثل في صورة شيخ لإبراهيم، ومات إبراهيم وهو ابن مائتي سنة.
ثم قال (تعالى): ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وَهَارُونَ﴾ أي: تفضلنا عليهما بالنبوة والرسالة.
﴿وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا﴾ أي: ومن آمن معهما، يعني بني إسرائيل.
﴿مِنَ الكرب العظيم﴾ أي: من الغرق.
ثم قال (تعالى): ﴿وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الغالبين﴾ أي: ونصرنا موسى وهارون وقومهما على فرعون وآله بتغريقنا إياهم فكانوا هم الغالين.
وقال الفراء: الضيمر في ﴿وَنَصَرْنَاهُمْ﴾ و ﴿فَكَانُواْ﴾ ﴿هُمُ الغالبين﴾ يعود على موسى وهارون وأن التثنية ردت إلى الجمع. ودل على ذلك قوله (جل ذكره).
﴿وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين * وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين * سَلاَمٌ على موسى وَهَارُونَ﴾.
وقال قوم: إنما جع في موضع التثنية لأنهما عظيماً الشأن جليلا القدر. والعرب
ومعنى ﴿المستبين﴾: المتبين هداه وفضله وأحكامه، يعني التوراة، والصراط المستقيم: الإسلام.
﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين﴾ أي: أبقينا عليهما الذكر الجميل والثناء الحسن، فكذلك نفعل بمن أحسن في طاعتي وأدى فرائضي. وفيه من الاختلاف ما تقدم في قصة نوح، وهو يقتضي قوله: ﴿واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين﴾ [الشعراء: ٨٤].
(ثم قال): ﴿إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ أي: الذين أخلصناهم واخترناهم للطاعة وهديناهم للإيمان.
ومن كسر اللام فمعناه: إنهما من عبادنا الذين أخلصوا العمل ولم يشركوا فيه غيري.
قال (تعالى): ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين﴾.
قال ابن إسحاق: (وهو إلياس) (بن) ياسين بن فنحاص بن العزار بن
وقيل هو إدريس. قاله قتادة.
والمعنى: (إنه) لَمِنَ الذين أرسلهم الله إلى الخلق، فقال لقومه: ألا تتقون الله فتخافون عقابه على عبادتكم رباً غيره. (و) هو قوله: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين﴾.
والبعل: الرب لغة أهل اليمن مشهورة، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي.
وقال ابن زيد: هو صنم كانوا يعبدونه ببعلبك مدينة وراء دمشق.
وقيل: إن بعلاً تيس كانوا يعبدون.
وقال ابن إسحاق: بلغني أن بعلاً امرأة كانوا يعبدونها/ من دون الله جل ذكره.
قال وهب بن منبه: بعث الله إلياس إلى بني إسرائيل حين نسواك ما عهد الله إليهم، حتى (نصبوا) الأوثان وعبدوها من دون/ الله، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله تعالى، وجعلوا لا يسمعون منه شيئاً. وكان (له مَلِكٌ) من ملوك بني إسرائيل يطيعونه يقال له: جاب. وكان إلياس يقرب من الملك، وكان الملك يطيع إياس (فيما) يقول له، ويراه الناس على هدى. وكان ملوك بني إسرائيل قد افترقت في
أو كما قال:
(قال) ابن إسحاق: فذكر لنا أنه أوحي إليه أنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك حتى تكون أنت الذي تأذن في ذلك.
فقال إلياس: اللهم أمسك عنهم القطر، فحبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية والدواب والشجر، وجهد الناس جهداً شديداً، وكان إلياس حين دعا عليهم قد استخفى شفقاً على نفسه منهم. وكان
ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع بن أخطوب به ضر، فآوته وأخفت أمره فدعا إليا لأبنها فعوفي من الضر الذي كان به واتبع اليسع إلياس. وفآمن به وصدقه ولزمه، وكان يذهب معه حيث ما ذهب، وكان إلياس قد أسن وكبر، وكان اليسع غلاماً شاباً، فَذُكِر أن الله جل ذكره أوحى إلى إلياس: إنك قد أهلكت خلقاً كثيراً بخطايا بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر. فذكر - والله أعلم - أن إلياس قال: أي رب، دعني أكن أنا الذي أدعوا لهم به، وأكن أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم لعلهم يرجعون عن عبادة غيرك، فقيل له: نعم، فأتى إلياس إلى بني إسرائيل، فقال لهم: إنكم قد هلكتم جهداً وهلكت البهائم والدواب والطير والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور، أو كاما قالهم، فإن كنتم تحبون (علم) ذلك، وتعلمون أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه، والذي أدعوكم إليه الحق، فاخرجوا بأصنامكم هذه التي تبعدونها وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون. فإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله يفرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء،
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: وهذا الخبر إذا صح فإنما يصح على قول من قال: إنه إدريس ﷺ لقوله تعالى ذكره في إدريس ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ [مريم: ٥٧].
وقوله: ﴿وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين﴾ أي: خالقكم الذي هو أحسن المقدرين للأشياء.
﴿الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ أي الماضين.
[ثم قال: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أي: محضرون في عذاب الله].
ثم قال: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي: الذين اختارهم (الله) فأنجاهم من العذاب بتوفيقه إياهم.
ثم قال: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين * سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ﴾ أي: وأبقينا عليه الثناء الحسن بعده، فيال: " سلام على آل ياسين "، أي: سلام على أهل دينه، فيسلم على أهله من أجله، فهو داخل في أفضل الثناء.
وذهب أبو عبيد إلى أنه جُمِعَ جَمْعَ السلامة على معنى أنه وأهل مذهبه يسلم عليهم.
وقال علي بن سليمان: العرب تُسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم، فيقولون: المهالبة لأصحاب المهلب، كأنهم سموا كل واحد بالمهلب فعلى هذا قيل الياسين، يريد قومه المؤمنين كأنه سمَّى كل واحد منهم بإلياس.
وذكر سيبويه أن هذا المعنى إنما يجيء على معنى النسبة حكى الأشعرون،
واحتج أبو عمرو وأبو عبيد على تركه لقراءة آل ياسين، أنه ليس في السور سلام على آل فلان من الأنبياء، فكما سمي الأنبياء في هذا المعنى سمي هو. ولا حجة في هذا لأنه إذا أثني على قومه المؤمنين من أجله فهو داخل في ذلك وله منه أوفر الحظ، وهو أبلغ في المدح ممن أثني عليه باسمه، وأيضاً فإن الحظ مثبت بالانفصال.
وقال الفراء: هو مثل ﴿طُورِ سَيْنَآءَ﴾ [المؤمنون: ٢٠] و ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ [التين: ٢]، والمعنى واحد.
ومعنى ذلك: أن إلياس اسم أعجمي، [والعرب إذا استعملت الأسماء الأعجميه في كلامها غيرتها بضروب من] التعبير، فيقولون: إبراهيم وإبراهام وإبرهام، وميكائيل ومْيكائيل وميكاين وميكال، وإسماعيل وإسمعيل، وإسرائيل وإسرائين، وشبهه. فكذلك إلياس والياسين هو واحد. قال السدي: " سلام على الياسين " هو: إلياس.
ثم قال: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي: كما فعلنا بإلياس كذلك نفعل بأهل الطاعة والإحسان.
ثم قال: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ أي: من الذين آمنوا وأطاعوا ولم يشركوا.
ثم قال (تعالى): ﴿وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين﴾ أي: لمن الذين أرسلهم الله بالإنذار والإعذار.
ثم قال (تعالى): ﴿إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ﴾ أي: من العذاب الذي أحللنا بقومه على كفرهم.
ثم قال: ﴿إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين﴾ أي: في الباقين، يعني امرأة لوط.
قال الضحاك: يعني امرأته تخلفت فمسخت حجراً.
وقال السدي: " في الغابرين " في الهالكين.
وقيل: في " الغابرين ": في الذين بلغوا العمر الطويل، وقد تقدم هذا بأشبع شرحاً.
ثم قال: ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين﴾ أي: أهلكناهم بالحجارة.
ثم قال: ﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ﴾ هذا خطاب لقريش، أي: إنكم لتمرون في أسفاركم على آثارهم وديارهم وموضع هلاكهم في النهار وفي الليل، فلا تتعظون، لا تزدجرون وتخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ولا تعقلون ما يراد بكم، وأنه من سلك مثل ما سلكوا من الكفر والتكذيب أنه صائر إلى مثل ما صاروا إليه.
" وبالليل " وقف كاف، و " تعقلون " التمام.
ثم قال (تعالى): ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين﴾ أي: لمن الذين أُرْسِلَ إلى قومه
﴿إِلَى الفلك المشحون﴾ (أي): هرب.
وقال المبرد: أصله تباعد.
وقيل له/: آبق لأنه خرج بغير أمر الله تعالى مستتراً من الناس إلى الفلك وهي السفينة. والمشحون: المملوء الموقر. " فَسَاهَمَ " أي: فقارع.
قال السدي: فاحتبست بهم السفينة فعلموا أنها إنما احتبست من/ حدث أحدثوه، فتساهموا فقُرع يونس فرمى بنفسه، فالتقمه الحوت.
وقوله: ﴿فَكَانَ مِنَ المدحضين﴾ أي: من المقروعين.
قال طاوس، لما ركب السفينة ركدت فقالوا: إن فيها رجلاً مشؤماً، فقارعوا فوقعت القرعة عليه ثلاث مرات فرموا به، فالتقمه الحوت، وأصل دحضت من الزلق في الماء والطين.
يقال: أدحض الله حجته ودحضت، وحكي: دحض الله حجته، وهي
﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ أي: وهو قد أتى ما يلام عليه (من) خروجه بغير أمر (من) الله. يقال: ألاَمَ الرجل إذَا أتى ما يلام عليه. والمَلُوم: الذي يلام باللسان (إن) استحق ذلك أو لم يستحقه.
قال مجاهد: ﴿مُلِيمٌ﴾: مذنب.
قوله (تعالى ذكره): ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين﴾ إلى قوله: ﴿أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون﴾.
أي: لولا أنه كان من المصلين قبل البلاء والعقوبة للبث في بطن الحوت إلى يوم القيامة.
روي عن النبي ﷺ أنه قال: " إِنَّ يُونُسَ حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُو الله وَهُوَ فِيْ بَطْنِ الحُوتِ، قَالَ: اللَّهُمَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنْتُ مِنَ الظَّالمِينَ. فَأَقْبَلَتِ الدَّعْوَةُ
قال ابن عباس وابن جبير والسدي: " من المسبحين ": من المصلين.
وكان الضحاك بن قيس يقول على منبره: اذكروه في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس كان عبداً ذاكراً فلما أصابته الشدةة دعا الله فذكروه الله بما كان منه، ففرج عنه، وكان فرعون طاغياً باغياً فلما أدركه الغرق قال: آمنت، (الآن وكنت)،
قال الحسن: فَوَالله ما كانت إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت.
قال ابن جبير: لما قال في بطن الحوت: ﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٨٧] قذفه الحوت.
قال قتادة في قوله: ﴿لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾: أي: لصار له بطن الحوت قبر إلى يوم القيامة.
قال السدي عن أبي مالك: لبث يونس في بطن الحوت أربعين يوماً.
ثم قال: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء﴾ أي: ألقاه الحوت في المكان الخالي، هذا قول أهل اللغة.
وقال ابن عباس: " بالعراء ": بالساحل.
وقال السدي: " بالعراء ": بالأرض.
وقوله: ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾.
قال السدي: كهيئة الصبي.
قال ابن عباس: لفظه الحوت بساحل البحر، فطرحه مثل الصبي المنفوس، لم ينقص من خلقه شيء.
قال ابن عباس: كانت رسالة يونس بعد أن ألقاه الحوت.
وقال ابن مسعود: أرسل قبل وبعد إلى قومه بأعينهم الذين صرف عنهم العذاب، وهو قول مجاهد والحسن.
وروي عن ابن مسعود وغيره: أن يونس وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ففرقوا بين كل والدة وولدها، وخرجوا فجاروا إلى الله
وكقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا﴾ [الأنعام: ١٥٨].
فمن عاين العذاب لم يقبل منه توبته ولا إيمان، كذلك من عاين الموت وغرغر لم تقبل منه توبة. وإنما قبلت توبة قوم يونس، وإيمانهم قبل معاينتهم لنزول العذاب لما فقدوا يونس، وقد أوعدهم العذاب/ وعلموا صدقه ورأوا مخايل العذاب وأمارته، أيقنوا بنزول العذاب، فقبل الله توبتهم. ولو فعلوا ذلك فور معاينة العذاب لم ينفعهم ذلك كما لم ينفع ذلك فرعون/ وأشباهه لأن معاينة العذاب تسقط التكليف، وإذا سقط التكليف لم يقبل ما تكلفه العبد من العمل. فاعرف هذا الأصل.
ويروى أن قوم يونس لما عيانوا العذاب قام رجل منهم فقال: اللهم إن ذنوبنا عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل، فافعل فينا ما أنت أهله [ولا تفعل فينا ما نحن أهله]. فكشف عنهم العذاب فخرج يونس ينتظر العذاب فلم يَرَ شيئاً،
قال: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء وَهُوَ سَقِيمٌ﴾. قال كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش.
فروي أنه طرح على شاطئ البحر وهو ضعيف كالطفل المولود، فلما طعت عليه الشمس نادى من حرها، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وهو القرع، وهو
وقال المبرد: كل شجرة لا تقوم على ساق فهي يقطينة، فإن قامت على ساق فهي شجرة.
واشتقاق يقطين: من قطن بالمكان إذا أقام به.
وعلى أنها القرع: ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جبير وابن زيد.
وقيل: هي شجرة أظلته سماها الله يقطيناً، وليست بالقرع.
وقيل: البطيخ، روي ذلك عن بن عباس أيضاً.
قال ابن جبير: أرسل الله على الشجرة دابة فقرضت عروقها فتساقطت
ولم تجزع لمائة ألف أو يزيدون تابوا فتاب الله عليهم.
روي أنهم لما رأوا علامات إتيان العذاب خرجوا وتابوا، وأفردوا الأطفال والبهائم، وضجوا إلى الله مستغيثين تائبين فصرف عنهم العذاب وتاب عليهم.
قال ابن مسعود في حديثه: فكان يستظل بها ويصيب منها فيبست فبكى عليها. فأوحى الله (إليه) أتبكي على شجرة يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم، قال: وخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال يا غلام: من أنت؟ فقال: من قوم يونس عليه السلام، قال: فإذا جئتهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس، فقال له الغلام: إِنْ كُنْتَ يونس فقد علمت أنه من كذب قُتِل إذا لم تكن له بينة، فمن يشهد لي؟ قال: هذه الشجرة وهذه البقعة، قال: فَمُرْهُمَا، قال لهما يونس: إذا
قال: فأمر به أن يقتل، فقالوا: إن له بينة، فأرسلوا معه فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما: نشدتكما الله أشهدكما يونس؟ قالتا: نعم، فرجع القوم مذعورين، يقولون: شهدت له الشجرة والأرض، فأتوا الملك فأخبروه بما/ رأوا. قال عبد الله: فتناول الملك يد الغلام وأجلسه مجلسه وقال: أنت أحق بهذا المكان مني. قال عبد الله: فأقام ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة.
ثم قال (تعالى): ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾.
قال أبو عبيدة: أو هنا بمعنى بل. ومثله عنده: ﴿سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: ٥٢] أي:
وروي عن ابن عباس ذلك.
وقال القتبي: أو بمعنى الواو.
وقال المبرد: أو على بابها. والمعنى: وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو يزيدون على ذلك.
فخوطب العباد بما يعرفون.
وقيل: أو على بابها لكنه بمنزلة قولك: جاءني زيد أو عمرو، (و) أنت تعرف من جاءك منهما إلا أنك أبهمت على المخاطب.
وقل: " أو " للإباحة.
قال ابن عباس: / كانوا مائة ألف وثلاثين ألفاً.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: ﴿يزيدون عشرين ألفاً﴾ قال ابن جبير: كان العذاب قد أرسله الله إليهم، فلما فرقوا بين النساء وأولادهن والبهائم وأولادها، وعجوا إلى الله جل وعز، كشف عنهم العذاب ومطرت السماء عليهم (ماء).
وقوله: ﴿فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ﴾ أي: أخرنا عنهم العذاب ومتعناهم بالحياة إلى بلوغ آجالهم.
ثم قال: ﴿فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون﴾ أي: سل يا محمد مشركي قريش مسألة تقرير وتوبيخ عن ذلك، لأنهم جعلوا الملائكة بنات الله.
قوله تعالى: ﴿أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً﴾ إلى قوله: ﴿فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾.
أي: أم شهد هؤلاء القائلون: إن الملائكة بنات (الله)، خلق الله الملائكة إناثاً. هذا كله على التقرير والتوبيخ.
ثم قال: ﴿أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ الله﴾ أي: ألا إن هؤلاء المشركين من كذبهم ليقولن ولد الله، وهو جعلهم الملائكة بنات الله.
ثم قال: ﴿أَصْطَفَى البنات على البنين﴾ هذا أيضاً توبيخ لهم، والمعنى عند الزجاج: سلهم هل اصطفى البنات على البنين.
ثم قال: ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾. هذا أيضاً تقريع وتوبيخ ومعناه: بئس الحكم تحكمون أيها القوم، أن يكون لله البنات ولكم البنون، فأنتم لا ترضون البنات
ثم قال: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ أي: تتدبرون ما تقولون فتعرفون خطأه فتنتهون عنه.
﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ﴾ أي: حجة ظاهرة على ما تقولون.
قال قتادة: " سلطان مبين " عُذْرٌ بَيِّنٌ.
﴿فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي: فأتوا بحجتكم من كتاب جاءكم من عند الله بما قلتم من الإفك إن كنتم صادقين فيما قلتم.
ثم قال: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾.
قال ابن عباس: زعم أعداء الله أنه جل ثناؤه وإبليس أخوان.
وكذلك قال الضحاك.
وقال غيرهما: الجِنَّة هنا الملائكة، جعلهم كفار قريش بنات الله جل عن ذلك وتعالى، وهو قول مجاهد والسدي.
وروي أن أبا بكر قال لقريش: من أمهاتهن؟ فقالوا: سَرَوَاتُ الجِنِّ.
وقال السدي: سموا بذلك لأنهم على الجنان.
[ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أي: ولقد علمت الملائكة أن الذين قالوا هذا لمُشْهِدُون الحساب والنار ومعذبون].
ثم قال: ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي: تنزيهاص له وبراءة عما يقولون ويتفرون.
ثم قال: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي: إلا عباد الله الذين أخلصهم لرحمته، فإنهم لا يحضرون العذاب.
ثم قال (تعالى): ﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم﴾ أي: فإنكم أيها المشركون وما تعبدون من الآلهة ما أنتم على ما تعبدون من ذلك بفاتنين، أي: بمضلين من أحد إلا من هو صالِ الجحيم، أي: من سبق له في علم الله أنه يضل فيدخل النار.
وقيل: " عليه " في قوله " ما أنتم عليه " بمعنى له. هذا كله معنى قول ابن عباس والحسن/ وقتادة والسدي وابن زيد.
وفي هذه الآية رد على القدرية لأن الضلال والهدى كل بمشيئة الله وقضائه، خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للشقاء فالشياطين لا تضل إلا من كتب الله عليه أنه لا يهتدي.
فأما من تقدم له في علم الله الهدى فإنه تعالى يحول بينهم وبينه فلا يصلون إلى إضلاله.
قال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله أن لا يُعْصَى لم يخلق إبليس وإنه لبَيِّنٌ في كتاب لله في آية علمها من علمها وجهلها من جهلها، ثم قرأ: ﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم﴾.
وقوله: " صال الجحيم " أصله صالي بالياء، ولكن كتب على لفظ الوصل، ولا يحسن الوقف عليه، فإن وقف عليه واقف، فمن القراء من يكره مخالفة الشواذ فيقف بغير ياء.
وقرأ الحسن: " صال الجحيم ". على أن يرده على معنى " من " فيجمع بالواو والنون، وتحذف النون للإضافة والواو لالتقاء الساكنين في الوصل. ولا تجوز هذه القراءة على غير هذه الأشياء. ذكر بعض النحويين: أن يكون قرأه على القلب كأنه رد لام الفعل، وهي الياء في الواحد قبل اللام، فصار الإعراب (في اللام)، فضمت ثم حذفت الياء، وهذا بعيد.
التقدير عند الكوفيين: وما منا إلا من له مقام، ثم حذفت من.
ولا يجوز هذا عند البصريين لأنه حذف موصول وترك صلته.
والتقدير عند البصريين: وما منا ملك إلا له مقام.
وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملائكة، أي قالوا: وما منا معشر الملائكة إلا ملك له مقام معلوم في السماء.
ثم قال تعالى حكاية عن قول الملائكة: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون﴾ روت عائشة رضي الله عنهـ أن النبي ﷺ قال: " مَا فِي السَّمَاءِ مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلاَّ عََلَيْهِ (مَلَكٌ) سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ ".
فالمعنى أنهم قالوا: وإنا لنحن الصافون لله بعبادته.
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾ أي: المصلون له.
قال عبد الله بن مسعود وابن عباس: ما من السماوات سماء إلا وما فيها موضع شبر، إلا وعليه جبهة ملك، أو قدماه، ثم قرأ: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾.
ثم قال (تعالى): ﴿وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين * لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي: قالت قريش قبل مبعث النبي ﷺ لو أن عندنا ذكراً من الأولين، أي: كتاباً من السماء فيه ذكر الأمم الماضية كالتوراة والإنجيل، فلما جاءهم ذلك كفروا به.
ثم قال: ﴿لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين﴾ (أي): الذين أخلصوا لله الطاعة. هذا على قراءة من كسر اللام.
ومن فتحها فمعناه: لكنا عباد الله الذين أخلصهم الله وأختارهم لطاعته.
قال قتادة: قالت هذه الأمة ذلك قبل مبعث النبي ﷺ، فلما جاءهم الكتاب والنبي كفروا به.
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون﴾ أي: سبق القضاء في أم الكتاب ووجب القول من الله أن المرسلين هم المنصورون على من ناوأهم بالحجج والغلبة قاله قتادة والسدي.
وقال الفراء: لهم المنصورون بالشفاعة.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ أي: حزب الله هم الغالبون حزب الشيطان بالحجج والغلبة والظفر.
قال/ قتادة: " حتى حين ": إلى الموت.
وقال السدي " إلى يوم بدر.
ثم قال: ﴿وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ أي: انظروهم وأخرهم فسوف يرون ما يحل بهم من العقاب.
قوله (تعالى ذكره): ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ إلى آخر السورة.
أي: أفبنزول عذابنا يستعجلون، وهذا قولهم للنبي ﷺ، متى هذا الوعد.
ثم قال: ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ أي: نزل بهم العذاب.
والعرب تقول نزل بساحة فلان العذاب ويِعُقُوتِهِ إذا نزل به، والساحة فناء الدار.
وقوله: ﴿فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين﴾ أي فبئس الصباح صباح القوم الذين أُنْذِرُوا بأس الله فلم يتعظوا.
قال أبو إسحاق: كان عذاب هؤلاء بالقتل. يعني (يوم) بدر.
وقيل: الحين الأول: إلى حين ينصرك الله عليهم فيهلكهم بأيدي أصحابك، والحين الثاني: قيام الساعة بعذابهم في الآخرة. فهو قوله: " فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين "، أي: إذا نزل العذاب بالسيف عليهم، ثم قال له بعد نزول السيف " فتول/ عنهم حتى حين " أي: إلى الوقت.
ثم قال: ﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ﴾ أي: أعرض عنهم يا محمد حتى يأذن الله بهلاكهم يوم بدر. وقيل: بالموت. وقيل: في الآخرة.
[ثم قال: ﴿وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ أي: أنظروهم وأخرهم فسوف يرون ما يحل بهم في الآخرة].
ثم قال: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة﴾ أي: تنزيهاً وبراءة لربك يا محمد من السوء، ﴿رَبِّ العزة﴾ أي: رب القوة والبطش، عما يصفونه من اتخاذ الأولاد وشركهم وافترائهم على ربهم.
فرب العزة معناه: خالق لعزة التي يتعزز بها الناس فيما بينهم.
قال محمد بن سحنون: وجاء في التفسير أن العزة في قوله:
" رب العزة ": الملائكة، فصارت مربوبة، وكل ما كان مربوباً فهو فعل لله.
فالعزة في هذا الموضع: الملائكة كما قال أهل العلم.
قال محمد: وقال بعض علمائنا: من حلف بعزة الله، فإن أراد عزة الله التي
قوله: ﴿وَسَلاَمٌ على المرسلين﴾ أي: وأمنة من الله جل ذكره للمرسلين من فزع العذاب الأكبر.
روى قتادة أن النبي ﷺ قال: " إِذَا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلِّمُوا عَلَى المُرْسَلِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ مِنَ المُرْسَلِينَ ".
ثم قال: ﴿والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي: الحمد من جميع الخلق لله خالصاً، رب الثقلين: الإنس والجن.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " مَنْ قَالَ: ﴿والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾
يعني من الأجر الثواب.
وروى الخدري عنه أنه كان يقولها في دبر صلاته.
لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة ٤٣٧ هـ
المجلد العاشر
ص - الجاثية
١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م
بسم الله الرحمن الرحيم