تفسير سورة الزمر

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
سورة الزمر مكية وهى خمس وسبعون آية

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)
﴿تَنزِيلُ الكتاب﴾ أي القرآن مبتدأ خبره ﴿مِنَ الله﴾ أى نزل من عند الله أو خبر مبتدأ محذوف والجار صلة التنزيل أو غير صلة بل هو خبر بعد خبر أو خبر مبتدإ محذوف تقديره هذا تنزيل الكتاب هذا من الله ﴿العزيز﴾ في سلطانه ﴿الحكيم﴾ في تدبيره
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (٢)
﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ هذا ليس بتكرار
الزمر (٥ - ٢)
لأن الأول كالعنوان للكتاب والثاني لبيان ما في الكتاب ﴿فاعبد الله مُخْلِصاً﴾ حال ﴿لَّهُ الدين﴾ أي ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر فالدين منصوب بمخلصا وقرىء الدين بالرفع وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)
﴿أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص﴾ أي هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة كدر لاطلاعه على الغيوب والأسرار وعن قتادة الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله وعن الحسن الإسلام ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أي آلهة وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره والذين
168
عبدوا الأصنام يقولون ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى﴾ مصدر أي تقريباً ﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ بينهم﴾ بين المسلمين والمشركين ﴿فيما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ قيل كان المسلمون إذا قالوا لهم من خلق السموات والأرض قالوا الله فإذا قالوا لهم فما لكم تعبدون الأصنام قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى والمعنى أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ﴾ أي لا يهدي من هو في علمه أنه يختار الكفر يعني لا يوفقه للهدى ولا يعينه وقت اختياره الكفر ولكنه يخذله وكذبهم قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء بنات الله ولذا عقبه محتجاً عليهم بقوله
169
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤)
﴿لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ أي لو جاز اتخاذ الولد على ما تظنون لاختار مما يخلق ما يشاء لا ما تختارون أنتم وتشاؤون ﴿سبحانه﴾ نزه ذاته عن أن يكون له أخذ ما نسبوا إليه من الأولياء والأولاد ودل على ذلك بقوله ﴿هُوَ الله الواحد القهار﴾ يعني أنه واحد متبريء عن انضمام الأعداد متعال عن التجزؤ والولاد قهار غلاب لكل شيء ومن الأشياء آلهتهم فأنى يكون له أولياء وشركاء ثم دل بخلق السموات والأرض وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر وتسخير النيرين وجريهما لأجل مسمى وبث الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك قهار لا يغالب بقوله
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
﴿خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل﴾ والتكوير اللف واللي يقال كار العمامة على رأسه وكورها
169
والمعنى أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار وأن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مسمى﴾
أي يوم القيامة ﴿إِلاَّ هُوَ العزيز﴾ الغالب القادر على عقاب من لم يعتبر بتسخير الشمس والقمر فلم يؤمن بمسخرهما ﴿الغفار﴾ لمن فكر واعتبر فآمن بمدبرهما
170
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
﴿خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة﴾ أي آدم عليه السلام ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي حواء من قُصَيراه قيل أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعد ذلك حواء ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام﴾ أي جعل عن الحسن أو خلقها في الجنة مع آدم عليه السلام ثم أنزلها أو لأنها لا تعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وقد أنزل الماء فكأنه أنزلها ﴿ثمانية أزواج﴾ ذكر وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز كما بين في سورة الأنعام والزوج اسم لواحد معه آخر فإذا انفرد فهو فرد ووتر ﴿يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم إلى تمام الخلق ﴿فِى ظلمات ثلاث﴾ ظلمة البطن والرحم والمشيمة أو ظلمة الصلب والبطن والرحم ﴿ذلكم﴾ الذي هذه مفعولاته هو ﴿الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ فأنى تصرفون﴾ فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره ثم بين أنه غني عنهم بقوله
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧)
﴿إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ﴾ عن إيمانكم وأنتم محتاجون إليه
170
لتضرركم بالكفر وانتفاعكم بالإيمان ﴿وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر﴾ لأن الكفر ليس برضا الله تعالى وإن كان بإرادته ﴿وَإِن تَشْكُرُواْ﴾ فتؤمنوا ﴿يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ أي يرض الشكر لكم لأنه سبب فوزكم فيثيبكم عليه الجنة يرضه بضم الهاء والإشباع مكي وعلي يرضه بضم الهاء بدون الإشباع نافع وهشام وعاصم غير يحيى وحماد وغيرهم يرضه ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ أي لا يؤاخذ أحد بذنب آخر ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ﴾ إلى جزاء ربكم رجوعكم ﴿فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ بخفيات القلوب
171
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (٨)
﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان﴾ هو أبو جهل أو كل كافر ﴿ضُرٌّ﴾ بلاء وشدة والمس في الأعراض مجاز ﴿دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ﴾ راجعاً إلى الله بالدعاء لا يدعو غيره ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ﴾ أعطاه ﴿نِعْمَةً مِّنْهُ﴾ من الله عز وجل ﴿نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾ أى
الزمر (١٠ - ٨)
نسى ربه الذى كان يتضرع إليه وما بمعنى من كقوله وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى أو نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه ﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً﴾ أمثالاً ﴿لِيُضِلَّ﴾ ليضل مكى وأبوعمرو ويعقوب ﴿عَن سَبِيلِهِ﴾ أي الإسلام ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿تَمَتَّعَ﴾ أمر تهديد ﴿بِكُفْرِكَ قَلِيلاً﴾ أي في الدنيا ﴿إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار﴾ من أهلها
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (٩)
﴿أَمَّنْ﴾ قرأ بالتخفيف مكي ونافع وحمزة على إدخال همزة الاستفهام على من وبالتشديد غيرهم على ادخال أم عليه ومن مبتدأ خبره محذوف تقديره أمن ﴿هُوَ قَانِتٌ﴾ كغيره أي أمن هو مطيع كمن هو عاص والقانت المطيع لله وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو جرى ذكر الكافر قبله وقوله بعده قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين
171
لاَ يَعْلَمُونَ ﴿آناء الليل﴾ ساعاته ﴿ساجدا وَقَائِماً﴾ حالان من الضمير في قانت ﴿يحذر الآخرة﴾ أى عذاب الآخرة ﴿ويرجو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ أي الجنة ودلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء يرجو رحمته لا عمله ويحذر عقابه لتقصيره في عمله ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون أمناً والخوف إذا جاوز حده يكون أياما وقد قال الله تعالى فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون وقال إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فيجب أن لا يجاوز أحدهما حده ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي يعلمون ويعملون به كأنه جعل من لا يعمل غير عالم وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنّون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهله حيث جعل الفانتين هم العلماء أو أريد به التشبيه أي كما لا يستوي العالم والجاهل كذلك لا يستوي المطيع والعاصي ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب﴾ جمع لب أي إنما يتعظ بوعظ الله أولوا العقول
172
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠)
﴿قل يا عباد الذين آمنوا﴾ بلا ياء عند الأكثر ﴿اتقوا رَبَّكُمُ﴾ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾ أي أطاعوا الله في الدنيا وفى يتعلق بأحسنوا لا بحسنة معناه الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة أي حسنة لا توصف وقد علقه السدى بحسنة ففسر الحسنة بالصحة والعافية ومعنى ﴿وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ﴾ أي لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة حتى إن اعتلوا بأنهم لا يتمكنون في أوطانهم من التوفر على الإحسان قيل لهم فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة فتحولوا إلى
الزمر (١٦ - ١٠)
بلاد أخر واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون﴾ على مفارقة أوطانهم وعشائرهم وعلى غيرها من تجرع
172
الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير ﴿أَجْرَهُمْ بغير حساب﴾ عن ابن عباس رضى الله عنهما لا يهتدي إليه حساب الحسّاب ولا يعرف وهو حال من الأجر أي موفراً
173
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (١١)
﴿قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله﴾ بأن أعبد الله ﴿مُخْلِصاً لَّهُ الدين﴾ أي أمرت باخلاص الدين
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢)
﴿وَأُمِرْتُ لأَِنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين﴾ وأمرت بذلك لأجل أن أكون أول المسلمين أي مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة والمعنى أن الإخلاص له السبقة فى الدنيا فمن أخلص كان سابقاً فالأول أمر بالعبادة مع الإخلاص والثاني بالسبق فلاختلاف جهتيهما نزلاً منزلة المختلفين فصح عطف أحدهما على الآخر
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣)
﴿قُلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ لمن دعاك بالرجوع إلى دين آبائك وذلك أن كفار قريش قالوا له عليه السلام الاتنظر إلى أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فنزلت رداً عليهم
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (١٤)
﴿قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى﴾ وهذه الآية إخبار بأنه يخص الله وحده بعبادته مخلصاً له دينه دون غيره والأولى إخبار بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص فالكلام أولاً واقع في نفس الفعل وإثباته وثانياً فيما يفعل الفعل لأجله ولذلك رتب عليه قوله
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١٥)
﴿فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ﴾ وهذا أمر تهديد وقيل له عليه السلام إن خالفت دين آبائك فقد خسرت فنزلت ﴿قُلْ إِنَّ الخاسرين﴾ أي الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه ﴿الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم﴾ بإهلاكها في النار ﴿وَأَهْلِيهِمْ﴾ أي وخسروا أهليهم ﴿يَوْمُ القيامة﴾ لأنهم أضلوهم فصاروا إلى النار ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله ﴿أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين﴾ حيث صدر
173
الجملة بحرف التنبيه ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر وعرف الخسران ونعته بالمبين وذلك لأنهم استبدلوا بالجنة ناراً وبالدرجات دركات
174
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ﴾ أطباق ﴿مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ أطباق من النار وهي ظلل لآخرين أي النار محيطة بهم ﴿ذلك الذي﴾ وصف من العذاب أو ذلك الظلل ﴿يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ﴾ ليؤمنوا به ويجتنبوا مناهيه ﴿يا عباد فاتقون﴾ ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي خوّفهم بالنار ثم حذرهم نفسه
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧)
﴿والذين اجتنبوا الطاغوت﴾
الشياطين فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين أطلقت على الشيطان أو الشياطين لكون الطاغوت مصدراً وفيها مبالغات وهي التسمية بالمصدر كأن عين الشيطان طغيان وأن البناء بناء مبالغة فإن الرحموت الرحمة الواسعة والملكوت الملك المبسوط والقلب وهو للاختصاص إذ لا تطلق على غير الشيطان والمراد بها ههنا الجمع وقريء الطواغيت ﴿أَن يَعْبُدُوهَا﴾ بدل الاشتمال من الطاغوت أي عبادتها ﴿وَأَنَابُواْ﴾ رجعوا ﴿إِلَى الله لَهُمُ البشرى﴾ هي البشارة بالثواب تتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين وحين يحشرون ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٨)
﴿الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ هم الذين اجتنبوا وأنابوا وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة فوضع الظاهر موضع الضمير أراد أن يكونوا نقاداً في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب وكذا المباح والندب حرصا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً أو يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن أو يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو ونحو ذلك أو يستمعون الحديث مع
174
القوم فيه محاسن ومساو فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه ﴿أُوْلَئِكَ الذين هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الألباب﴾ أي المنتفعون بعقولهم
175
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النار﴾ أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب أى وجب أفانت تنقذه جملة شرطية دخلت عليها همزة الانكار والفاء فاء الجزاء ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف تقديره أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الانكار ووضع مَن فِى النار موضع الضمير أي تنقذه فالآية على هذا جملة واحدة أو معناه أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه أفأنت تنقذه أي لا يقدر أحد أن ينقذ من أضله الله وسبق في علمه أنه من أهل النار
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (٢٠)
﴿لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ﴾ أي لهم منازل في الجنة رفيعة وفوقها منازل أرفع منها يعني للكفار ظلل من النار وللمتقين غرف ﴿مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي من تحت منازلها ﴿وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد﴾ وعد الله مصدر مؤكد لأن قوله لَهُمْ غُرَفٌ في معنى وعدهم الله ذلك
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٢١)
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ يعني المطر وقيل كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله ﴿فَسَلَكَهُ﴾ فادخله ﴿يَنَابِيعَ فِى الأرض﴾ عيوناً ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد وينابيع نصب على الحال أو على الظرف وفى الأرض صفة لينابيع ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ﴾ بالماء ﴿زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ﴾
هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض أو أصنافه من بر وشعير وسمسم وغير ذلك ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ يجف ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً﴾ بعد نضارته وحسنه ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما﴾ فتاتاً متكسراً
175
فالحطام ما تفتت وتكسر من النبت وغيره ﴿إِنَّ فِى ذلك﴾ في إنزال الماء وإخراج الزرع ﴿لذكرى لأُِوْلِى الألباب﴾ لتذكيراً وتنبيهاً على أنه لا بد من صانع حكيم وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير لا عن إهمال وتعطيل
176
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٢)
﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ﴾ أي وسع صدره ﴿للإسلام﴾ فاهتدى وسئل رسول الله ﷺ عن الشرح فقال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح فقيل فهل لذلك من علامة قال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت ﴿فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبّهِ﴾ بيان وبصيرة والمعنى أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فقسا قلبه فحذف لأن قوله ﴿فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ﴾ يدل عليه ﴿مِّن ذِكْرِ الله﴾ أي من ترك ذكر الله أو من أجل ذكر الله أي إذا ذكر الله عندهم أو آياته ازدادت قلوبهم قساوة كقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ ﴿أُوْلَئِكَ فِى ضلال مُّبِينٍ﴾ غواية ظاهرة
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٢٣)
﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ في إيقاع اسم الله مبتدا أو بناء نَزَّلَ عليه تفخيم لأحسن الحديث ﴿كتابا﴾ بدل من أَحْسَنَ الحديث أو حال منه ﴿متشابها﴾ يشبه بعضه بعضاً في الصدق والبيان والوعظ والحكمة والإعجاز وغير ذلك ﴿مَّثانِىَ﴾ نعت كتابا جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه فهو بيان لكونه متشابهاً لأن القصص المكررة وغيرهما لا تكون إلا متشابهة وقيل لأنه يثنّى في التلاوة فلا يمل وإنما جاز وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل وتفاصيل الشيء هي جملته ألا تراك
176
تقول القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات أو منصوب على التمييز من متشابها كما تقول رأيت رجلاً حسناً شمائل والمعنى متشابهة مثانية ﴿تَقْشَعِرُّ﴾ تضطرب وتتحرك ﴿مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ يقال اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضاً شديداً والمعنى أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم وفي الحديث إذا اقشعر جلد المؤمن من خشية الله تحاتّت عنا ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله﴾ أي إذا ذكرت آيات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة وعدى بالى لتضمنه معنى فعل متعد بالى كأنه قيل اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة واقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة لأن رحمته سبقت غضبه فلا صالة رحمته إذا ذكر الله لم يخطر بالبال إلا كونه رؤوفا رحيما
الزمر (٢٩ - ٢٣)
وذكرت الجلود وحدها أولاً ثم قرنت بها القلوب ثانياً لأن محل الخشية القلب فكان ذكرها يتضمن ذكر القلوب ﴿ذلك﴾ إشارة إلى الكتاب وهو ﴿هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ﴾ مِنْ عِبَادِهِ وهو من علم منهم اختيار الاهتداء ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله﴾ يخلق الضلالة فيه ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ إلى الحق
177
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤)
﴿أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ العذاب يَوْمَ القيامة﴾ كمن أمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره وسوء العذاب شدته ومعناه أن الإنسان إذا لقي مخوفاً من المخاوف استقبله بيده وطلب أن بقى بها وجهه لأنه أعز أعضائه عليه والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له ومحاماة عليه
177
﴿وقيل للظالمين﴾ أن تقول لهم خزنة النار ﴿ذُوقُواْ﴾ وبال ﴿مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ أي كسبكم
178
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥)
﴿كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ من قبل قريش ﴿فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بينما هم آمنون إذا فوجئوا من مأمنهم
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)
﴿فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى﴾ الذل والصغار كالمسخ والخسف والقتل والجلاء ونحو ذلك من عذاب الله ﴿فِى الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبْرُ﴾ من عذاب الدنيا ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ لآمنوا
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧)
﴿ولقد ضربنا لِلنَّاسِ فِي هذا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لعلهم يتذكرون﴾ ليتعظوا
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
﴿قرآنا عَرَبِيّاً﴾ حال مؤكدة كما تقول جاءني زيد رجلاً صالحاً وإنساناً عاقلاً فتذكر رجلاً أو إنساناً توكيداً أو نصب على المدح ﴿غَيْرَ ذِى عِوَجٍ﴾ مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف ولم يقل مستقيماً للإشعار بأن لا يكون فيه عوج قط وقيل المراد بالعوج الشك ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ الكفر
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩)
﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً﴾ بدل ﴿فِيهِ شُرَكَآءُ متشاكسون﴾ متنازعون ومختلفون ﴿وَرَجُلاً سَلَماً﴾ مصدر سلم والمعنى ذا سلامة ﴿لِرَجُلٍ﴾ أي ذا خلوص له من الشركة سالماً مكي وأبو عمرو واى خالصاً له ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾ صفة وهو تمييز والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالاهما وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقريء مثلين ﴿الحمد للَّهِ﴾ الذي لا إله إلا هو ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ فيشركون به
الزمر (٣٣ - ٣٠)
غيره مثل الكافر
178
ومعبوديه بعبد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع واختلاف وكل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى وهو متحير لا يدري أيهم يرضي بخدمته وعلى أيهم يعتمد في حاجاته وممن يطلب رزقه وممن يلتمس رفقه فهمه شعاع وقلبه أوزاع والمؤمن بعبد له سيد واحد فهّمه واحد وقلبه مجتمع
179
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)
﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ﴾ أي ستموت ﴿وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ وبالتخفيف من حل به الموت قال الخليل أنشد أبو عمرو... وتسألني تفسير ميت وميّت... فدونك قد فسرت إن كنت تعقلُ...
... فمن كان ذا روح فذلك ميت... وما الميت إلا من إلى القبر يحملُ...
كانوا يتربصون برسول الله ﷺ موته فأخبر أن الموت يعمهم فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني وعن قتادة نعى إلى نبيه نفسه ونعى إليكم أنفسكم أي إنك وإياهم في عداد الموتى لأن ما هو كائن فكأن قد كان
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ﴾ أي إنك وإياهم فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب ﴿يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا واجتهدت في الدعوة فلجّوا في العناد ويعتذرون بمالا طائل تحته تقول الأتباع أطعنا ساداتنا وكبراءنا وتقول السادات أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون قال الصحابة رصى الله عنهم أجمعين ما خصومتنا ونحن إخوان فلما قتل عثمان رضى الله عنه قالوا هذه خصومتنا وعن أبي العالية نزلت في أهل القبلة وذلك في الدماء والمظالم التي بينهم والوجه هو الأوّل ألا ترى إلى قوله
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٣٢)
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله﴾ وقوله والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ
179
بِهِ وما هو إلا بيان وتفسير للدين تكون بينهم الخصومة كَذَبَ علَى الله افترى عليه بإضافة الولد والشريك إليه (وَكَذَّبَ بالصدق) بالأمر الذي هو الصدق بعينه وهو ما جاء به محمد ﷺ (إذ جاءه) فاجأه بالتكذيب لما سمع له من غير وقفة لإعمال روية أو اهتمام بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون (أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين) أي لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق وللام في الكافرين إشارة إليهم
180
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣)
﴿والذى جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ﴾ هو رسول الله ﷺ جاء بالحق وآمن به وأراد به إياه ومن تبعه كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون فلذا قال تعالى (أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون) وقال الزجاج روى عن علي رضي الله عنه أنه قال والذي جاء بالصدق محمد رسول الله ﷺ والذي صدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه ورُوي أن الذي جاء بالصدق محمد رسول الله ﷺ والذي صدق
الزمر (٣٩ - ٣٤)
به المؤمنون والكل صحيح كذا له قاله والوجه في العربية أن يكون جاء وصدق لفاعل واحد لأن التغاير يستدعي إضمار الذي وذا غير جائز أو إضمار الفاعل من غير تقدم الذكر وذا بعيد
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤)
﴿لهم ما يشاؤون عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين﴾
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
﴿لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ إضافة أسوأ وأحسن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل كقولك الأشج أعدل بني مروان
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٦)
﴿أَلَيْسَ الله بِكَافٍ﴾ أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها ﴿عبده﴾ أي محمدا ﷺ عباده حمزة وعلي أي الأنبياء والمؤمنين وهو مثل انا كفيناك المستهزئين
180
﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ﴾ أي بالأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه وذلك أن قريشاً قالت لرسول الله ﷺ إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا وإنا نخشى عليك مضرتها لعيبك إياها ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾
181
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (٣٧)
﴿وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ﴾ بغالب منيع ﴿ذِى انتقام﴾ ينتقم من أعدائه وفيه وعيد لقريش ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم وينصرهم عليهم ثم أعلم بأنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الله تعالى خلق السموات والأرض بقوله
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله﴾ بفتح الياء سوى حمزة ﴿بِضُرٍّ﴾ مرض أو فقر أو غير ذلك ﴿هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرِّهِ﴾ دافعات شدته ف ﴿أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ﴾ صحة أو غنى أو نحوهما ﴿هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ﴾ كاشفات ضُرّهِ وممسكات رحمته بالتنوين على الأصل بصرى وفرض المسألة في نفسه دونهم لأنهم خوفوه معرة الأوثان وتخبيلها بأمر بأن يقررهم أولاً بأن خالق العالم هو الله وحده ثم يقول لهم بعد التقرير فإن أرادني خالق العالم الذي أقررتم به بضر أو برحمة هل يقدرون على خلاف ذلك فلما أفحمهم قل الله تعالى ﴿قُلْ حَسْبِىَ الله﴾ كافياً لمعرة أوثانكم ﴿عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون﴾ يُروى أن النبي ﷺ سألهم فسكتوا فنزل قُلْ حَسْبِىَ الله وإنما قال كاشفات وممسكات على التأنيث بعد قوله وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دونه لانهن إناث وهو اللات والعزى ومناة وفيه تهكم بهم وبمعبوديهم
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩)
﴿قل يا قوم اعملوا على مكانتكم﴾ على حالكم
الزمر (٤٢ - ٤٠)
عمل ﴿فسوف تعلمون﴾ التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها والمكانة بمعنى المكان فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا وحيث للزمان وهما للمكان ﴿إِنِّى عامل﴾ أي على مكانتي وحذف للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد والإيذان بأن حالته تزداد كل يوم قوّة لأن الله تعالى ناصره ومعينه ألا ترى إلى قوله ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٤٠)
﴿مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ كيف توعدهم بكونه منصوراً عليهم غالباً عليهم في الدنيا والآخرة لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزه وغلبته من حيث إن الغلبة تتم له بعز بعزيز من أوليائه وبذل ذليل من أعدائه ويخزيه صفة للعذاب كمقيم أي عذاب مخزلة وهو يوم بدر وعذاب دائم وهو عذاب النار مكاناتكم أبو بكر وحماد
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
﴿إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب﴾ القرآن ﴿لِلنَّاسِ﴾ لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه ليبشروا وينذروا فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية ﴿بالحق فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ﴾ فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه ﴿وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ ومن اختار الضلالة فقد ضرها ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ بحفيظ ثم أخبر بأنه الحفيظ القدير عليهم بقوله
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا﴾ الأنفس الجمل كما هي وتوفيها إماتتها وهو أن يسلب ما هي به حية حساسة دراكة ﴿والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا﴾ ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها أي يتوفاها حين تنام تشبيها للقائمين بالموتى حيث لا يميزون ولا يتصرفون كما أن الموتى كذلك ومنه قوله تعالى وَهُوَ الذي يتوفاكم بالليل ﴿فَيُمْسِكُ﴾ الأنفس ﴿التى قضى﴾ قُضِىَ حمزة وعلي ﴿عَلَيْهَا الموت﴾ الحقيقي أي
182
لا يردها في وقتها حية ( ﴿وَيُرْسِلُ الأخرى﴾ النائمة ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ إلى وقت ضربه لموتها وقيل يتوفى الأنفس أي يستوفيها ويقبضها وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وهي أنفس التمييز قالوا التي تتوفى في المنام هي نفس التمييز لا نفس الحياة لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفسَ والنائم يتنفس ولكل إنسان نفسا إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارق عند الموت والأخرى نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام ورُوي عن ابن عباس رضى الله عنهما في ابن آدم نفس روح بينهما شعاع مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي بها العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحرك فاذا انام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه وعن علي رضي الله عنه قال تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعها في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة وعنه ما رأت نفس النائم في السماء فهي الرؤيا الصادقة وما رأت بعد الإرسال فيلقنها الشيطان فهي كاذبة وعن سعيد بن جبير أن أرواح الأحياء وأرواح الأموات تلتقي
الزمر (٤٦ - ٤٢)
في المنام فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها ورُوي أن أرواح المؤمنين تعرج عند النوم في السماء فمن كان منهم طاهراً أذن له في السجود ومن لم يكن منهم طاهراً لم يؤذن له فيه ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ إن فى توفى الأنفس مائتة ونائمة وإمساكها وإرسالها إلى أجل ﴿لآيَاتٍ﴾ على قدرة الله وعلمه ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون
183
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (٤٣)
﴿أَمِ اتخذوا﴾ بل اتخذ قريش والهمزة للإنكار ﴿مِن دُونِ الله﴾ من دون إذنه ﴿شُفَعَآءَ﴾ حين قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ﴿قُلْ أولو كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ﴾ معناه أيشفعون ولو كانوا لا يملكون شيئاً قط ولا عقل لهم
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)
﴿قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً﴾ أي هو مالكها فلا يستطيع أحد شفاء إلا بإذنه وانتصب جَمِيعاً على الحال ﴿لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ تقرير لقوله لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً لأنه إذا كان له الملك كله والشفاعة من الملك كان مالكاً لها ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ متصل بما يليه معناه له ملك السموات والأرض اليوم ثم إليه ترجعون يوم القيامة فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له فله ملك الدنيا والآخرة
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
﴿وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ﴾ مدار المعنى على قوله وَحْدَهُ أي إذا أفرد الله بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم ﴿اشمأزت﴾ أي نفرت وانقبضت ﴿قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ﴾ يعني آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكر ﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ لافتتانهم بها وإذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له نفروا لأن فيه نفياً لآلهتهم ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه فالاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل والاشمئزاز أن يمتلىء غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه والعامل في إِذَا ذُكِرَ هو العامل في إذا المفاجأة تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجؤا وقت الاستبشار
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)
﴿قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض﴾ أي يا فاطر وليس بوصف كما يقوله المبرد والفراء ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ السر والعلانية ﴿أَنتَ تَحْكُمُ﴾
184
تقضى ﴿بين عبادك فيما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من الهدى والضلالة وقيل هذه محاكمة من النبي للمشركين إلى الله وعن ابن المسيب لا أعرف آية قرئت فدعي عندها إلا أجيب سواها وعن الربيع بن خيثم وكان قليل
الزمر (٤٩ - ٤٧)
الكلام أنه أخبر بقتل الحسين رضى الله عنه وقالوا الآن يتكلم فما زاد أن قال آه أو قد فعلوا وقرأ هذه الآية ورُوي أنه قال على أثره قتل من كان ﷺ يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه
185
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧)
﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ الهاء تعود إلى ما ﴿لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ العذاب﴾ شدته ﴿يَوْمَ القيامة وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ﴾ وظهر لهم من سخط الله وعذابه مالم يكن قط في حسبانهم ولا يحدثون به نفوسهم وقيل عملوا أعمالاً حسبوها حسنات فإذا هي سيئات وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له فقال أخشى آية من كتاب الله وتلاها فأنا أخشى أن يبدوا لى من الله مالم أحتسبه
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤٨)
﴿وبدا لهم سيئات ما كسبوا﴾ أى سيآت أعمالهم التى كسبوها أو سيآت كسبهم حين تعرض صحائف أعمالهم وكانت خافية عليهم أو عقاب ذلك ﴿وَحَاقَ بِهِم﴾ ونزل بهم وأحاط ﴿ما كانوا به يستهزؤون﴾ جزاء هزئهم
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٩)
﴿فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خولناه﴾ أي أعطيناه تفضلاً يقال خولني إذا أعطاك على غير جزاء ﴿نِعْمَةً مِّنَّا﴾ ولا تقف عليه لأن جواب إذا ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ﴾ مني أني سأعطاه لما فيّ من فضل واستحقاق أو على علم مني بوجوه الكسب كما قال قارون على علم عندى وإنما ذكر الضمير في أُوتِيتُهُ وهو للنعمة نظراً إلى المعنى لأن
185
قوله نِعْمَةً مّنَّا شيئاً من النعمة وقسماً منها وقيل ما في إنما موصولة لا كافة فيرجع الضمير إليها أي إن الذي أوتيته على علم ﴿بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ﴾ إنكار له كأنه قال ما خولناك من النعمة لما تقول بل هي فتنة أي ابتلاء وامتحان لك أتشكر أم تكفر ولما كان الخبر مؤنثاً أعني فتنة ساغ تأنيث المبتدأ لأجله وقريء بل هو فتنة على وفق إِنَّمَا أُوتِيتُهُ ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أنها فتنة والسبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو أن هذه وقعت مسببة عن قوله وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت على معنى أنهم يشمئزون من ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز بذكره دون من استبشر بذكره وما بينهما من الآي اعتراض فإن قلت حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه قلت ما في الاعتراض من دعاء الرسول ﷺ ربه بأمر من الله وقوله أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ثم ما عقبه من الوعيد العظيم تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم كأنه قيل قل يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترؤون عليك مثل هذه الجراءة إلا أنت
الزمر (٥٤ - ٥٠)
وقوله ولو أن للذين ظلموا متناول لهم ولكل ظالم إن جعل عاماً أو إياهم خاصة إن عنينهم به كأنه قيل ولو أن لهؤلاء الظالمين مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ به حكم عليهم بسوء العذاب وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو ونحو قام زيد وقعد عمرو وبيان وقوعها مسببة أنك تقول زيد يؤمن بالله فإذا مسه ضر التجأ إليه فهذا تسبيب ظاهر ثم تقول زيد كافر بالله فإذا مسه ضر التجأ إليه فتجيء بالفاء مجيئك بها ثمة كأن الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه مقيم كفره مقام الإيمان في جعله سبباً في الالتجاء
186
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠)
﴿قَدْ قَالَهَا﴾ هذه المقالة وهي قوله إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ ﴿الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي قارون وقومه حيث قال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على علم عندى وقومه راضون بها فكأنهم قالوها ويجوز أن يكون في الأمم الخالية
186
آخرون قائلون مثلها ﴿فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ من متاع الدنيا وما يجمعون منها
187
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١)
﴿فأصابهم سيئات ما كسبوا﴾ أى جزاء سيآت كسبهم أو سمى جزاء السيئة سيئة للازدواج كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴿والذين ظَلَمُواْ﴾ كفروا ﴿مِنْ هَؤُلآءِ﴾ أي من مشركي قومك ﴿سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ أي سيصيبهم مثل ما أصاب أولئك فقتل صناديدهم ببدر وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين ﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بفائتين من عذاب الله ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ ويضيق وقيل يجعله على قدر الفوت ﴿إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ بأنه لا قابض ولا باسط إلا الله عز وجل
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
﴿قل يا عبادي الذين﴾ وبسكون الياء بصري وحمزة وعلي ﴿أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلو فيها ﴿لاَ تَقْنَطُواْ﴾ لا تيأسوا وبكسر النون علي وبصري ﴿مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ بالعفو عنها إلا الشرك وفي قراءة النبي عليه السلام يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي ونظير نفي المبالاة نفي الخوف في قوله وَلاَ يَخَافُ عقباها قيل نزلت فى وحشى قاتل حمزة رضى الله عنه وعن رسول الله ﷺ ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور﴾ بستر عظائم الذنوب ﴿الرحيم﴾ بكشف فظائع الكروب
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤)
﴿وأنيبوا إلى ربكم﴾ وتوبوا إليه ﴿وأسلموا﴾ وأخلصوا له العمل ﴿مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثم لا تنصرون﴾
الزمر (٥٩ - ٥٥)
إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥)
﴿واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ مثل قوله الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وقوله ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ أي يفجؤكم وأنتم غافلون كأنكم لا تخشون شيئاً لفرط غفلتكم
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦)
﴿أَن تَقُولَ﴾ لئلا تقول ﴿نَفْسٌ﴾ إنما نكرت لأن المرد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر ويجوز أن يراد نفس متميزة من الأنفس إما بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم ويجوز أن يراد التكثير ﴿يا حسرتى﴾ الألف بدل من ياء المتكلم وقرىء يا حسرتى على الأصل ويا حسرتاي على الجمع بين العوض والمعوض منه ﴿على ما فرطت﴾ قصرت وما مصدرية مثلها فى بما رحبت ﴿فِى جَنبِ الله﴾ في أمر الله أو في طاعة الله أو في ذاته وفي حرف عبد الله في ذكر الله والجنب الجانب يقال أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته وفلان لين الجانب والجنب ثم قالوا فرط في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه وهذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه ومنه الحديث من الشرك الخفي أن يصلي الرجل لمكان الرجل أي لأجله وقال الزجاج معناه فرط في طريق الله وهو توحيده والاقرار بنبوة محمد ﷺ ﴿وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين﴾ المستهزئين قال قتادة لم يكفه أن
188
ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها ومحل وَإِن كُنتُ النصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخريتي
189
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)
﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى﴾ أي أعطاني الهداية ﴿لَكُنتُ مِنَ المتقين﴾ من الذين يتقون الشرك قال الشيخ الإمام أبو منصور رحمه الله تعالى هذا الكافر أعرف بهداية الله من المعتزلة وكذا أولئك الكفرة الذين قالوا لأتباعهم لو هدانا الله لهديناكم يقولون لو وفقنا الله للهداية وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه ولكن علم منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا والمعتزلة يقولون بل هداهم وأعطاهم التوفيق لكنهم لم يهتدوا والحاصل أن عند الله لطفاً من أعطى ذلك اهتدى وهو التوفيق والعصمة ومن لم يعطه ضل وغوى وكان استحبابه العذاب وتضييعه الحق بعد ما مكن من تحصيله لذلك
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً﴾ رجعة إلى الدنيا ﴿فَأَكُونَ مِنَ المحسنين﴾ من الموحدين
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩)
﴿بلى قد جاءتك آياتي فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين﴾ بلى رد من الله كأنه يقول بلى قد جاءتك آياتي وبينت لك الهداية من الغواية وسبيل الحق من الباطل ومكنتك من اختيار الهداية على الغواية واختيار الحق على الباطل ولكن تركت ذلك وضيعته واستكبرت عن قبوله وآثرت الضلالة على الهدى واشتغلت بضد ما أمرت
الزمر (٦٣ - ٦٠)
به فإنما جاء التضييع من قبلك فلا عذر لك وبلى جواب لنفي تقديري لأن المعنى لو أن الله هداني ما هديت وإنما لم يقرن الجواب به لأنه لا بد من حكاية أقوال النفس على ترتيبها ثم الجواب من بينها عما اقتضى الجواب
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)
﴿وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله﴾ وصفوه بما لا يجوز عليه من
189
إضافة الشريك والولد إليه ونفى الصفات عنه ﴿وُجُوهُهُمْ﴾ مبتدأ ﴿مُّسْوَدَّةٌ﴾ خبر والجملة في محل النصب على الحال إن كان ترى من رؤية البصر وإن كان من رؤية القلب فمفعول ثانٍ ﴿أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى﴾ منزل ﴿لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ هو إشارة إلى قوله واستكبرت
190
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
﴿وَيُنَجِّى الله﴾ وَيُنَجّى روح ﴿الذين اتقوا﴾ من الشرك ﴿بِمَفَازَتِهِمْ﴾ بفلاحهم يقال فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه وتفسير المفازة ﴿لاَ يَمَسُّهُمُ السوء﴾ النار ﴿وَلاَ هُمْ يحزنون﴾ كأنه قيل وما مفازتهم فقيل لا يمسهم السوء أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم أي لا يمس أبدانهم أذى ولا قلوبهم خزي أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى فلا نحسبنهم بمفازة من العذاب أي بمنجاة منه لأن النجاة من أعظم الفلاح وسبب منجاتهم العمل الصالح ولهذا فسر ابن عباس رضى الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة ويجوز بسبب فلاحهم لأن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لانه سببها ولا محل للايمسهم على التفسير الأول لأنه كلام مستأنف ومحله النصب على الحال على الثاني بمفازاتهم كوفي غير حفص
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)
﴿الله خالق كُلِّ شَىْءٍ﴾ رد على المعتزلة والتنوبة وَهُوَ على كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ حافظ
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٣)
﴿له مقاليد السموات والأرض﴾ أي هو مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية لان حافظ الخزائن ومدير أمرها هو الذي يملك مقاليدها ومنه قولهم فلان القيت إليه الملك وهى المفاتيح وأحدها مقليد وقيل ولا واحدلها من لفظها والكلمة أصلها فارسية ﴿والذين كَفَرُواْ بآيات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون﴾ هو متصل بقوله وَيُنَجّى الله الذين اتقوا أي
190
ينجي الله المتقين بمفازاتهم والذين كفروا هم الخاسرون واعترض بينهما بأنه خالق كل شيء فهو مهيمن عليه فلا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يجزون عليها أو بما يليه على ان كل شىء في السموات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك أولئك هم الخاسرون وقيل سال عثمان رسول الله ﷺ عن تفسير قوله له مقاليد السموات والأرض فقال يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت
الزمر (٦٧ - ٦٤)
وهو على كل شيء قدير وتأويله على هذا أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها من المتقين أصابه والذين كفروا بآيات الله وكلمات توحيده وتمجيده أولئك هم الخاسرون
191
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤)
﴿قُلْ﴾ لمن دعاك إلى دين آبائك ﴿أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ﴾ تَأْمُرُونِّىَّ مكي تأمرونني على الأصل شامي تَأْمُرُونِىَ مدني وانتصب أَفَغَيْرَ الله باعبد وتامروني اعتراض ومعناه افغير الله اعبد يأمرك بعد هذا لبيان ﴿أَيُّهَا الجاهلون﴾ بتوحيد الله
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥)
﴿وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ﴾ من الأنبياء عليهم السلام ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عملك﴾ الذى عملت قبل الشرك ﴿وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ وإنما قال لَئِنْ أَشْرَكْتَ على التوحيد والموحى إليهم جماعة لأن معناه أوحي إليك لئن أشركت ليحبطنّ عملك وإلى الذين من قبلك مثله واللام الأولى موطئة للقسم المحذوف والثانية لام الجواب وهذا الجواب ساد مسد الجوابين اعني جواب القسم والشرط وإنما صح هذا الكلام مع علمه تعالى بأن رسله لا يشركون لأن
191
الخطاب للنبي عليه السلام والمراد به غيره ولأنه على سبيل الفرض والمحالات يصح فرضها وقيل لئن طالعت غيري في السر ليحبطن ما بيني وبينك من السر
192
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
﴿بل الله فاعبد﴾ رد لما امروه به من عبادة آلهتهم كأنه قال لا تعبد ما أمروك بعبادته بل إن عبدت فاعبد الله فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضاً عنه ﴿وَكُنْ مِّنَ الشاكرين﴾ على ما أنعم به عليك من أن جعلك سيد ولد ادم
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ وما عظموه حق عظمته إذ دعوك إلى عبادة غيره ولما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تقديره عظمه حق تعظيمه قيل وما قدروا الله حق قدره ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل فقال ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ﴾ والمراد بهذا الكلام إذا اخذته كما هو بجملتيه ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين الى جهة حقيقة أو جهة مجاز والمراد بالأرض الأرضون السبع يشهد لذلك قوله جميعا وقوله والسموات ولأن الموضع موضع تعظيم فهو مقتضٍ للمبالغة والارض مبتدأ وقبضته الخبر وجميعا منصوب على الحال أي والأرض إذا كانت مجتمعة قبضته يوم القيامة والقَبضة المرة من القبض والقُبضة المقدار المقبوض بالكف ويقال أعطني قبضة من كذا تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر وكلا المعنيين محتمل والمعنى والأرضون جميعاً قبضته أي ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة يعني أن الأرضين مع عظمهن وبسطهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته كانه يقبضها
الزمر (٧١ - ٦٨)
قبضة بكف واحدة كما تقول الجزور أكلة لقمان أي لا يفي بأكلة فذة من أكلاته وإذا أريد معنى القبضة فظاهر لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة والمطويات من الطي الذي هو ضد النشر كما قال
192
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه وقيل قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع وبيمينه بقدرته وقيل مطويات بيمينه مفنيات بقسمه لأنه أقسم أن يفنيها ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ما أبعد من هذه قدرته وعظمته وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء
193
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
﴿وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ﴾ مات ﴿مَن فِى السماوات ومن فى الأرض إلا من شاء الله﴾ أي جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وقيل هم حملة العرش أو رضوان والحور العين ومالك والزبانية ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى﴾ هي في محل الرفع لأن المعنى ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب أو ينظرون أمر الله فيهم ودلت الآية على أن النفخة اثنتان الأولى للموت والثانية للبعث والجمهور على أنها ثلاث الأولى للفزع كما قال ونفخ في الصور ففزع والثانية للموت والثالثة للإعادة
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩)
﴿وَأَشْرَقَتِ الأرض﴾ أضاءت ﴿بِنُورِ رَبِّهَا﴾ أي بعدله بطريق الاستعارة يقال للملك العادل أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك كما يقال أظلمت البلاد بجور فلان وقال عليه الصلاة والسلام الظلم ظلمات يوم القيامة وإضافة اسمه إلى الأرض لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله وينصب فيها موازين قسطه ويحكم بالحق بين أهلها ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه وقال الإمام أبو منصور رحمه الله يجوز أن يخلق الله نوراً فينور به أرض الموقف وإضافته إليه تعالى للتخصيص كبيت الله
193
وناقة الله ﴿وَوُضِعَ الكتاب﴾ أي صحائف الأعمال ولكنه اكتفى باسم الجنس أو اللوح المحفوظ ﴿وجيء بالنبيين﴾ ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة وما أجابهم قومهم ﴿والشهداء﴾ الحفظة وقيل هم الأبرار في كل زمان يشهدون على أهل ذلك الزمان ﴿وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ﴾ بين العباد ﴿بالحق﴾ بالعدل ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ ختم الآية بنفي الظلم كما افتتحها بإثبات العدل
194
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (٧٠)
﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ أي جزاءه ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ من غير كتاب ولا شاهد وقيل هذه الآية تفسير قوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أي ووفيت كل نفس ما عملت من خير وشر لا يزاد في شر ولا ينقص من خير
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧١)
﴿وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ﴾ سوقاً عنيفاً كما يفعل بالاسارى
الزمر (٧٣ - ٧١)
والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل ﴿زُمَراً﴾ حال أي أفواجاً متفرقة بعضها في اثر بعض ﴿حتى إذا جاؤوها فتحت﴾ بالتخفيف فيهماكوفى ﴿أبوابها﴾ وهي سبعة ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ أي حفظة جهنم وهم الملائكة الموكلون بتعذيب أهلها ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾ من بني آدم ﴿يتلون عليكم آيات رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾ أي وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة ﴿قَالُواْ بلى﴾ أتونا وتلوا علينا ﴿ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين﴾ أي ولكن وجبت علينا كلمة الله لاملأن جهنم بسوء أعمالنا كما قالوا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وكنا قوما ضالين فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢)
﴿قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا﴾ حال مقدرة أي مقدرين الخلود ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ اللام فيه للجنس لأن مَثْوَى المتكبرين
194
فاعل بئس وبئس فاعلها اسم معروف بلام الجنس أو مضاف إلى مثله والمخصوص بالذم محذوف تقديره فبئس مثوى المتكبرين جهنم
195
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣)
﴿وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً﴾ المراد سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرم ويشرف من الوافدين على بعض الملوك ﴿حتى إذا جاؤوها﴾ هي التي تحكى بعدها الجمل والجملة المحكية بعدها هي الشرطية إلا أن جزاءها محذوف وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة فذل بحدفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف وقال الزجاج تقديره حتى اذا جاؤوها ﴿وَفُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ طبتم فادخلوها خالدين﴾ دخلوها فحذف دخلوها لأن في الكلام دليلاً عليه وقال قوم حتى اذا جاؤوها جاؤوها وفتحت ابوابها فعندهم جاؤوها محذوف والمعنى حتى اذا جاؤوها وقع مجيئهم مع فتح أبوابها وقيل أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها لقوله تعالى جنات عدن مفتحة لهم الابواب فلذلك جىء بالواو وكانه قال حتى اذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا وقال الزجاج أي كنتم طيبين في الدنيا ولم تكونوا خبيثين أي لم تكونوا أصحاب خبائث وقال ابن عباس طاب لكم المقام وجعل دخول الجنة مسببا عن الطيب والطهارة لأنها دار الطيبين ومثوى الطاهرين قد طهرها الله من كل دنس وطيبها من كل قذر فلا يدخلها الا مناسب لها موصوف
الزمر (٧٥ - ٧٤)
غافر (٣ - ١)
بصفتها
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٧٤)
﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ أنجزنا ما وعدنا في الدنيا من نعيم العقبى ﴿وَأَوْرَثَنَا الأرض﴾ أرض الجنة وقد أورثوها أي ملكوها جعلوا ملوكها واطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه ﴿نَتَبَوَّأُ﴾ حال ﴿مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ﴾
195
أي يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة فيتبوأ أي فيتخذ متبوأ ومقراً من جنته حيث يشاء ﴿فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ في الدنيا الجنة
196
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٧٥)
﴿وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ﴾ حال من الملائكة ﴿مِنْ حول العرش﴾ أي محدقين من حوله ومن لابتداء الغاية أي ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله ﴿يُسَبِّحُونَ﴾ حال من الضمير في ﴿حَافّينَ﴾ ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ أي يقولون سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أو سبوح قدوس رب الملائكة والروح وذلك للتلذذ دون التعبد لزوال التكليف ﴿وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ﴾ بين الأنبياء والأمم أو بين أهل الجنة والنار ﴿بالحق﴾ بالعدل ﴿وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي يقول أهل الجنة شكراً حين دخولها وتم وعد الله لهم كما قال وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وكان رسول الله ﷺ يقرا كل ليلة بني اسرائيل والزمر الحواميم السبع كلها مكية عن ابن عباس رضى الله عنهما
196
سورة المؤمن مكية وهي خمس وثمانون اية

بسم الله الرحمن الرحيم

197
Icon