ﰡ
وتسمى سورة حم عسق، وسورة حم سق، مكية ثلاث وخمسون آية، ثمانمائة وست وثمانون كلمة، ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا
حم (١) عسق (٢) اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين. وقرأ ابن عباس وابن مسعود «حم سق»، وهما خبران لمبتدأ محذوف. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) أي مثل ما في السورة من المعاني أوحى الله القادر على ما لا نهاية له، العالم بجميع المعلومات الغني عن جميع الحاجات إليك في سائر السور وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم.
وقرأ ابن كثير «يوحي» بالبناء للمفعول. ويروى أيضا عن أبي عمرو على أن «كذلك» مبتدأ و «يوحي» خبره المسند إلى ضمير عائد عليه واسم الجلالة مرفوع بما دل عليه «يوحي»، أي الموحي الله. وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان «نوحي» بنون العظمة، فاسم الجلالة مبتدأ، وعلى هاتين القراءتين فالوقف على من قبلك كاف بخلاف قراءة الجمهور فلا يوقف عليه، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فكل من كان موجودا في السموات فهو عبد الله، فوجب أن يكون الله منزها عن الكون في المكان والجهة، والعرش والكرسي، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) أي هو المتعالي عن مشابهة الممكنات، ومناسبة المحدثات، العظيم بالقدرة وكمال الإلهية فهو تعالى أعلى كل شيء وأعظم كل شيء، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي يتشققن من هيبة الله تعالى وعظمته، ويبتدئ التشقق من جهتهن الفوقانية.
قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تكاد» بالتاء «ينفطرن» بنون ساكنة بعد الياء، وابن كثير وابن عامر وحمزة، وحفص عن عاصم «تكاد» بالتاء «يتفطرن» بالتاء المفتوحة بعد الياء، ونافع والكسائي «يكاد يتفطرن» بالتاء، ومن قرأ «تكاد» بالتاء الفوقية يجوز الوجهين في ينفطرن، ومن قرأ «يكاد» بالياء التحتية لا يقرأ «يتفطرن» إلا بالتاء الفوقية. وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي والملائكة ينزهون الله تعالى عمّا لا ينبغي ملتبسين بوصفه تعالى بكونه مفيضا لكل الخيرات، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي يطلبون تجاوز الذنوب عن المؤمنين وتأخير العقوبة عن
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بالرفع خبر خامس ل «ذلكم»، أو مبتدأ خبره ما بعده. وقرئ بالجر على أنه بدل من الضمير، أو وصف لاسم الجلالة المجرور ب «إلى». جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم من الناس أَزْواجاً أي نساء وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي وجعل للأنعام من جنسها أصنافا، ذكرا وأنثى يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ، أي يكثركم بسبب هذا الجعل، لأن الناس والأنعام يتوالدون به لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، أي ليس كذاته تعالى ذوات، وليس كصفاته تعالى صفات، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) للمسموعات والمرئيات، لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له تعالى مفاتيح الرزق من السموات والأرض، وهي الأمطار والنباتات يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ
للمخالفة محل سوى العناد، وبعده لا جدال، فإن الله يجمع
قالوا: ألستم تقولون: إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، فنبوة موسى وحقيقة التوراة معلومة بالاتفاق، ونبوة محمد ليست متفقا عليها فحينئذ وجب الأخذ باليهودية، فبيّن الله تعالى أن هذه الحجة فاسدة، وذلك لأن اليهود أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام، لأجل ظهور المعجزات على وفق قوله عليه السلام، وقد ظهرت المعجزات على وفق قول محمد صلّى الله عليه وسلّم، واليهود شاهدوا تلك المعجزات، فإن كان ظهور المعجزة يدل على صدق صاحبها وجب الاعتراف بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان لا يدل على صدقه وجب أن لا يقروا بنبوة موسى عليه السلام، والإقرار بنبوة موسى مع الإنكار بنبوة محمد مع استوائهما في ظهور المعجزات باطل، لأنه متناقض وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ لمكابرتهم الحق بعد ظهوره، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) في الآخرة اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ أي القرآن وسائر الكتب المنزلة قبلك بِالْحَقِّ، أي بالصدق وَالْمِيزانَ، أي الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوى بين الناس، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) أي أيّ شيء يجعلك عالما بأن الساعة التي يخبر بمجيئها الكتاب شيء قريب، فوجب على العاقل أن يجتهد في النظر ويترك طريقة أهل التقليد، ولمّا كان الرسول يهددهم بنزول القيامة قالوا على سبيل السخرية: متى تقوم القيامة، وليتها قامت، فيظهر لنا أن الحق ما نحن عليه، أو ما عليه محمد وأصحابه، فدفع الله ذلك فقال:
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استعجال إنكار واستهزاء وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها أي خائفون من قيامها وأهوالها لعلمهم أن التوبة تمتنع عندها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي الكائنة بلا شك أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) أي إن الّذين يدخلهم الشك في وقوع الساعة فيجادلون فيها لفي ضلال بعيد عن الصواب، لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل، فلو لم يحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى، وهذا محال. فكان إنكار القيامة ضلالا بعيدا، اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أي كثير الإحسان بهم بالحياة والعقل ودفع أكثر البليات عنهم، وإعطاء ما لا بد منه من الرزق، وتأخير العذاب عمن يستحقون العذاب، يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ كيفما يشاء وَهُوَ الْقَوِيُّ أي القادر على ما يشاء، الْعَزِيزُ (١٩) أي الذي لا يغالب فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء يريده، مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة، نزد له ثوابه بالتضعيف إلى ما نشاء، ونزد له في تسهيل سبيل الطاعات، ونعطه من الدنيا ما كتبناه له، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أي ومن كان يريد بأعماله متاع الدنيا نعطه بعض ما يطلبه حسب ما قسمنا له، وما له
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي: الكفار مكة شياطينهم الذين زينوا لهم ما لم يأمر الله تعالى من الشرك، وإنكار البعث، والعمل للدنيا؟! فإنها على ضد دين الله، وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأخير الجزاء إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الكافر والمؤمنين في الدنيا، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أي الذين اختاروا ما لم يأذن به الله لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١).
وقرأ بعضهم «وأن» بفتح الهمزة عطفا على كلمة الفصل، أي ولولا الوعد بأن الفصل بينهم يكون يوم القيامة، وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا، تَرَى الظَّالِمِينَ يوم القيامة مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا أي خائفين خوفا شديدا من جزاء ما عملوا في الدنيا من السيئات، وَهُوَ جزاؤه واقِعٌ بِهِمْ يوم القيامة فلا ينفعهم الحذر، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ أي مستقرون في أطيب بقاع الجنات، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل عند ربهم، فإن كل الأشياء حاضرة عنده مهيأة، ذلِكَ أي جزاء الإيمان والعمل الصالح هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)، أي فإن الثواب غير واجب على الله وإنما يحصل بطريق الفضل من الله تعالى لا بطريق الاستحقاق، ذلِكَ أي الفضل الكبير الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ في الدنيا عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
قرأ نافع وابن عامر، وعاصم بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين والباقون بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي قل يا أشرف الخلق لأهل مكة: لا أسألكم أجرا قط على التبليغ ببشارة ونذارة، ولكن أسألكم المودة متمكنة في أهل القرابة، وحب آل محمد واجب. قال الشافعي رضي الله عنه:
يا راكبا قف بالمحصب من منى | واهتف بساكن خيفها والناهض |
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى | فيضا كما نظم الفرات الفائض |
إن كان رفضا حب آل محمد | فليشهد الثقلان أني رافضي |
وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علي: يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، فتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة، فقال: يا أمير المؤمنين وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب: الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء، بدل كل ضحك ضحكته
، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، فتارة يعفو عن الذنوب بواسطة قبول التوبة وتارة يعفو ابتداء من غير توبة، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) من خير وشر، فيجازي التائب ويتجاوز عن غير التائب. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على المخاطبة. والباقون بالياء على المغايبة. وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يجيب الله دعاءهم وَيَزِيدُهُمْ على ما طلبوه بالدعاء مِنْ فَضْلِهِ. وقال عطاء عن ابن عباس والمعنى: ويثيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله سوى ثواب أعمالهم تفضلا منه. وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) بدل ما للمؤمنين من الثواب، والفضل المزيد. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي ولو سوى الله الرزق بين الكل لامتنع كون البعض خادما للبعض، ولو صار الأمر كذلك لخرب العالم، وتعطّلت المصالح.
وقال ابن عباس: ولو وسع الله المال على عباده لطلبوا منزلة بعد منزلة، ودابة بعد دابة، ومركبا بعد مركب، وملبسا بعد ملبس، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ أي بتقدير ما يَشاءُ أن ينزله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) أي إنه عالم بأحوال الناس وبعواقب أمورهم، فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم، وَهُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ
أي المطر الذي يغيثهم من الجدب مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أي من بعد يأسهم من نزوله. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «ينزل» بتشديد الزاي. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بكسر نون «قنطوا». وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي منافع الغيث وما يحصل به من الخصب، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) أي وهو الّذي يتولى عباده بإحسانه، المحمود على ما يوصل للخلق من أقسام الرحمة، وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ، و «ما» معطوف على «السموات»، أي وخلق ما نشر الله فيهما من حي.
وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) أي وهو تعالى على جمع العقلاء للمحاسبة في أي وقت يشاء قدير، وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي فهي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، ف «ما» متضمنة لمعنى الشرط، ولذلك جاءت الفاء في جوابها. وقرأ نافع وابن عامر «بما كسبت» بغير فاء، ف «ما» بمعنى الذي، و «بما كسبت» خبره. والمعنى: والّذي
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي بفائتين ما قضي عليكم من المصائب، وإن هربتم من أقطارها كل مهرب، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يحميكم منها وَلا نَصِيرٍ (٣١) يدفعها عنكم، وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ أي السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) أي كالجبال.
وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء وصلا، وابن كثير وهشام بها وقفا. والباقون بحذفها للتخفيف.
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ التي تجري بها السفن. وقرأ نافع وحده «الرياح» على الجمع. فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي يصرن ثوابت على ظهر البحر، أي غير جاريات، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) فإن كان المؤمن في البلاء كان من الصابرين، وإن كان في النعماء كان من الشاكرين، فلا يكون من الغافلين عن دلائل معرفة الله ألبتة، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا. والمعنى: أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين إما أن يسكن الريح فتقف الجواري على متن البحر، وإما أن يرسل الرياح عاصفة فيها فيهلكن بسبب الإغراق بمعصيتهم وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) أي إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم. وقرأ الأخفش «ويعفو» بالواو. وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار «أن» بعد الواو، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥).
وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على الاستئناف. والباقون بالنصب عطف على علة مقدرة تقديره: لينتقم منهم وليعلم إلخ. وقرئ بالجزم عطفا على «يعف» فيكون المعنى: وإن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم، وإنجاء قوم، وتحذير قوم، وعلى هذا فلا يوقف على كثير بخلاف القراءتين الأوليين، فالوقف عليه تام، فمعنى الآية: وليعلم الّذين ينازعون في آياتنا على وجه التكذيب أن لا مخلص لهم إذا وقفت السفن، وإذا عصفت الرياح فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلّا الله، فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فما أعطيتم مما تتنافسون فيه من أثاث فهو ما تتمتعون به مدة حياتكم وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب خَيْرٌ ما عندكم وَأَبْقى زمانا لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦).
وعن علي رضي الله: أنه تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع من المسلمين فنزلت هذه الآية.
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ كالغيبة والنميمة، وَالْفَواحِشَ كالقتل والزنا والسرقة.
وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» بالإفراد والموصول معطوف على الذين آمنوا، وكذا ما بعده، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧). «وإذا» منصوبة ب «يغفرون»، و «يغفرون» خبر ل «هم»، والجملة بأسرها عطف على «يجتنبون»، والتقدير: والذين يجتنبون وهم يغفرون عطف اسمية على فعلية. وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أي أجابوا لربهم بالتوحيد والطاعة وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أدوا
واعلم أن العفو على قسمين:
أحدهما: أن يصير العفو سببا لتسكين الفتنة ولرجوعه عن جنايته، فآيات العفو محمولة على هذا القسم.
وثانيهما: أن يصير العفو سببا لمزيد جراءة الجاني ولقوة غضبه، فآية الانتقام محمولة على هذا.
وَلَمَنِ انْتَصَرَ أي سعى في نصر نفسه بطاقته وانتصف بالقصاص بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد ظلم الظالم إياه. وقرئ «بعد ما ظلم». فَأُولئِكَ أي المنتصرون ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) أي من مأثم وعقاب لأنهم فعلوا ما أبيح لهم، إِنَّمَا السَّبِيلُ أي المأثم عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدءون بالظلم أو يجاوزون في الانتقام، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يتكبرون في الأرض بلا حق، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) بسبب ظلمهم وتطاولهم، وَلَمَنْ صَبَرَ على الأذى بأن لا يقتص، وَغَفَرَ لمن ظلمه وفوض أمره إلى الله تعالى، إِنَّ ذلِكَ، أي الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) أي من مطلوبات الله تعالى في الأمور. قيل: نزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ إلى قوله تعالى: لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ في شأن أبي بكر الصدّيق وعمرو بن غزية الأنصاري في تنازع بينهما، فشتم الأنصاري أبا بكر الصديق، فأنزل الله تعالى في شأنهما هذه الآيات. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي من أضله الله تعالى عن هذه الأشياء فليس له من هاد يهديه من بعد إضلال الله إياه، وَتَرَى الظَّالِمِينَ أي المشركين يوم القيامة لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي حين يرونه يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤)، أي هل إلى رجوع إلى الدنيا من حيلة، وَتَراهُمْ في ذلك اليوم يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي النار والخطاب في الموضعين لكل من تتأتى منه الرؤية خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ، أي حال كونهم حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم، ضعيف كما ينظر المقتول إلى السيف. وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا على سبيل التعبير للكافرين: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ باستغراقها في العذاب وَأَهْلِيهِمْ بمفارقتهم لهم، يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف ل «قال»، وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق، أي يقولون يوم القيامة- إذا رأوهم على تلك
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ، أي وما صح لفرد من أفراد البشر أن يكلمه الله إلّا على أحد ثلاثة أوجه: إما أن الله يلهمه في قلبه لا بواسطة شخص آخر ولا بسمع عين كلام الله كما في أم موسى، وكما في رؤية إبراهيم عليه السلام في المنام بذبح ولده. وإما أن الله يوصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر ولكنه يسمع عين كلام الله من غير رؤية ذاته تعالى، كما وقع لموسى عليه السلام. وإما أن الله يوصل إليه الوحي بواسطة شخص آخر وهو جبريل. وهذا هو الّذي يجري بينه وبين الأنبياء في أكثر الأوقات من الكلام.
روي أن اليهود قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه فإنا لن نؤمن حتى تفعل فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لم ينظر موسى إلى الله تعالى» فنزلت هذه الآية.
وقرأ نافع برفع «يرسل» بإضمار المبتدأ أي، أو هو يرسل، أو بالعطف على ما يتعلق به من وراء إذ التقدير، أو بسمع من وراء حجاب و «وحيا» في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه أو يرسل، والتقدير: إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسل رسول، وكذلك «فيوحي»
ما كُنْتَ تَدْرِي قبل الوحي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ أي أي شيء هو القرآن والإيمان بتفصيل ما في القرآن من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول، وَلكِنْ جَعَلْناهُ أي الروح الذي أوحينا إليك نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِنا، وهو الذي يصرف اختياره إلى جهة الاهتداء به، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي بذلك النور من تشاء هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)، أي دين حق. وقرئ «التهدي» بالبناء للمفعول أي ليهديك الله. وقرئ «لتدعو». صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي فالذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض، أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣) أي أمور الخلائق في الآخرة فلا حاكم سواه، فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.