تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها ستون
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والذاريات ذروا.. ﴾ أقسم تعالى بالرياح التي تذرو التراب وغيره لقوتها، ثم بالسحب الحاملات للأمطار، ثم بالسفن الجاريات جريا سهلا في البحار، ثم بالملائكة المقسمات الأمور المقدرة بين الخلق على ما أمرت به – على أن ما وعدوا به من البعث موعود صادق، وأن الجزاء يوم القيامة محقق واقع. وقد رتبت هذه الأقسام باعتبار تفاوتها في الدلالة على كمال قدرته تعالى ؛ وإن كانت كلها من أعظم دلائل القدرة على البعث. والمقصود بها : أن من قدر على هذه الأمور العجيبة، يقدر على إعادة ما أنشأه أولا. " والذاريات " من ذرت الريح التراب تذره ذروا، وتذريه ذريا – من بابي عدا ورمى – سفته وطيرته. و " ذروا " مصدر مؤكد. " وقرا " أي حملا وثقلا، مفعول به. " يسرا " أي جريا ذا يسر وسهولة إلى حيث سيرت ؛ صفة مصدر محذوف بتقدير مضاف. " أمرا " مفعول به.
﴿ والسماء ذات الحبك ﴾ ثم أقسم تعالى بالسموات ذوات الطرق التي تسير فيها الكواكب ؛ وهي من بدائع الصنع. جمع حبيكة ؛ كطريقة وزنا ومعنى. أو حباك ؛ كمثل ومثال. والحبيكة والحباك : الطريقة في الرمل ونحوه. ويقال : حبك لما يرى في الماء أو الرمل إذا مرت به الريح اللينة من التكسر والتثنى. أو ذات الخلق السوي الجيد ؛ من قولهم : حبك الثوب يحبكه حبكا، أجاد نسجه.
وكل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد احتبكته.
وجواب القسم :﴿ إنكم لفي قول مختلف ﴾ أي متخالف متناقض في أمره تعالى حيث تقولون : إنه خالق السموات والأرض ؛ وتعبدون الأصنام من دونه. وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فتقولون تارة : مجنون، وأخرى ساحر وفي أمر الحشر فتنكرونه تارة، وتزعمون أخرى أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله يوم القيامة. والنكتة في هذا القسم : تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي مناحيها بطرائق السموات في تباعدها واختلاف هيئتها. ﴿ يؤفك عنه من أفك ﴾ يصرف – عن الإيمان بما كلفوا الإيمان به، ومنه البعث والجزاء أو عن القرآن – من صرف الصرف الذي لا أشد منه ولا أعظم ؛ من الإفك، وهو صرف الشيء عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه.
﴿ قتل الخراصون ﴾ لعن الكذابون أصحاب القول المختلف ؛ وهو دعاء عليهم بذلك. وأطلق على اللعن قتل ؛ لأن الملعون بمنزلة المقتول الهالك، جمع خراص وهو الكذاب. يقال : خرص يخرص خرصا ؛ أي كذب ؛ كخلق واختلق. وأصل الخرص : الظن والتخمين، ثم تجوز به عن الكذب ؛ لأنه ينشأ غالبا عن الظن.
﴿ في غمرة ﴾ في جهالة تغمرهم كالماء الذي يغمر ما فيه. ﴿ ساهون ﴾ غافلون عما أمروا به والغمرة : ما ستر الشيء وغطاه ؛ ومنه نهر غمر : أي يغمر من دخله. والسهو : الغفلة عن الشيء.
﴿ يوم هم على النار يفتنون ﴾ جوا لقولهم " أيان يوم الدين " أي يقع يوم الدين والجزاء يوم يحرقون بالنار ؛ من قولهم : فتنت الذهب، أي أذبته ليختبره ويظهر خبثه ؛ ثم استعمل في الإحراق والتعذيب. وعدى الفعل ب " على " لتضمنه معنى يعرضون. أو على بمعنى في.
﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ﴾ أي كانوا ينامون من الليل زمانا قليلا ويقومون أكثره. والهجوع : النوم ليلا ؛ وقيده بعضهم بالقليل. وبابه خضع. و " ما " زائدة.
﴿ وبالأسحار هم يستغفرون ﴾ جمع سحر، وهو الجزء الأخير من الليل [ آية ١٧ آل عمران ص ١٠٠ ]. أي هم دائما مع هذا الاجتهاد يعدون أنفسهم مذنبين، ويطلبون من الله المغفرة ؛ لوفور علمهم بالله، وأنهم لا يستطيعون أن يقدروه حق قدره مهما اجتهدوا في العبادة والطاعة. وقيل معناه : يصلون بالأسحار لطلب المغفرة.
﴿ وفي أموالهم حق للسائل... ﴾ أي يوجبون على أنفسهم في أموالهم حقا للسائل والمحروم، تقربا إلى الله عز وجل بمقتضى كرم النفس وجودها ؛ يصلون به الأرحام والفقراء والمساكين. والحق هنا غير الزكاة المفروضة ؛ إذ السورة مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة. والسائل : هو من يسال الناس لفاقته. والمحروم : هو المتعفف عن السؤال مع الحاجة ؛ فيحرم الصدقة من أكثر الناس لظنهم فيه الغنى.
﴿ آيات للموقنين ﴾ دلائل للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي الموصل إلى اليقين. وخصوا بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالنظر فيها.
﴿ وفي أنفسكم... ﴾ في نشأتها وأطوارها وسائر أحوالها آيات للمتبصرين.
﴿ وفي السماء رزقكم ﴾ أي سبب رزقكم وهو المطر... والسماء : السحاب.
﴿ وما توعدون ﴾ أي وفي السماء مكتوب ما توعدون به من الثواب والعقاب، والبعث والخير والشر.
﴿ إنه لحق ﴾ أي إن جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا لحق ثابت لا مرية فيه. ﴿ مثل ما أنكم تنطقون ﴾ أي كمثل نطقكم المعلوم لكم ضرورة.
﴿ ضيف إبراهيم ﴾ وهم الملائكة الذين نزلوا عنده. والضيف في الأصل : مصدر بمعنى الميل ؛ ولذلك يطلق على الواحد والأكثر.
﴿ قوم منكرون ﴾ أي هؤلاء قوم غرباء لا نعرفهم. قال ذلك في نفسه.
﴿ فراغ إلى أهله ﴾ عدل ومال إليهم في خفية. يقال : راغ فلان إلى كذا، مل إليه
لأمر يريده منه بالاحتيال. وراغ الثعلب وروغا : ذهب يمنة ويسرة في سرعة وخديعة ؛ فهو لا يستقر في جهة
﴿ فأوجس منهم خيفة ﴾ أحس منهم في نفسه خوفا حين رأى عليه السلام إعراضهم عن طعامه.
﴿ فأقبلت امرأته في صرة ﴾ في صيحة وضجة تعجبا من هذه البشرى ؛ من الصرير وهو الصوت ومنه صرير الباب : أي صوته. ﴿ فصكت وجهها ﴾ لطمته بيدها تعجبا، وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء. والصك : الضرب الشديد بالشيء العريض.
﴿ فما خطبكم ﴾ ما حالكم وشأنكم الخطير، الذي لأجله أرسلتم سوى هذه البشرى !
﴿ مسومة عند ربك ﴾ معلمة عند الله قد أعدها لرجم من قضي برجمه من المسرفين في العصيان ؛ من السومة وهي العلامة.
﴿ من كان فيها... ﴾ لوطا وابنيه.
﴿ وفي موسى ﴾ وتركنا في قصة موسى آية. وكذلك يقال في " وفي عاد " وفي " وفي ثمود ".
﴿ فتولى بركنه ﴾ أي أعرض فرعون عن الإيمان بموسى. وهو مثل نأي بجانبه وثنى عطفه. والركن : جانب البدن وعطفه. أو أعرض بجنوده عن الإيمان، وهم الركن ؛ لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم. أو تولى معرضا بقوته وسلطانه ؛ والركن : العزة والمنعة.
﴿ وهو مليم ﴾ آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان ؛ من ألام : إذا أتى ما يلام عليه ؛ كأغرب : إذا أتى أمرا غريبا.
﴿ الريح العقيم ﴾ الشديدة التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر ؛ وهي ريح الهلاك. وروي أنها الدبور. وضعفت بالعقم لأنها لما أهلكتهم وقطعت نسلهم أشبهت الإهلاك بعدم الحمل ؛ لما فيه من إذهاب النسل.
﴿ كالرميم ﴾ كالهشيم المفتت. يقال للنبت إذا يبس وتفتت : رميم وهشيم. ورمّ العظم : بلى. ويقال للبالي : رمام ؛ كغراب.
﴿ فعتوا عن أمر ربهم ﴾ فاستكبروا عن طاعة ربهم. ﴿ فأخذتهم الصاعقة ﴾ أهلكتهم. وكل صاعقة في القرآن فهي العذاب المهلك.
﴿ والسماء بنيناها بأيد ﴾ أي ملتبسة بقوة وقدرة. يقال : آد الرجل يئيد – من باب باع – اشتد وقوى. ﴿ وإنا لموسعون ﴾ لقادرون ؛ من الوسع بمعنى الطاقة. يقال : أوسع الرجل، أي صار ذا وسع ؛ كأوراق الشجر : أي يصار ذا ورق.
﴿ فرشناها ﴾ مهدناها كالفراش للاستقرار عليها.
﴿ زوجين ﴾ نوعين متقابلين كالليل والنهار، والسماء والأرض، والهدى والضلال، إلى غير ذلك.
﴿ أتواصوا به ﴾ أجمعهم على هذا القول الشنيع وصية بعضهم بعضا به حتى قالوه جميعا ؟ ثم أضرب عن ذلك وبين أن الجامع لهم عليه هو طغيانهم جميعا فقال :﴿ بل هم قوم طاغون ﴾.
﴿ وذكر ﴾ دم على التذكير والوعظ.
﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ أي لم أخلق الثقلين إلا مهيئين لعبادتي بما ركبت فيهم من العقول والحواس والقوى ؛ فهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها، فذكرهم بوجودي وتوحيدي وعبادتي. فمن جرى على موجب استعداده وفطرته آمن بي وعبدني وحدي. ومن عاند استعداده وفطرته واتبع هواه، سلك غير سبيل المؤمنين. وفي جعل الخلق مغيا بالعبادة مبالغة ؛ بتنزيل استعدادهم للعبادة منزلة العبادة نفسها. أو أنه تعالى ما خلقهم إلا لغاية كمالية وهي عبادته ؛ وتخلف بعضهم عن الوصول إليها لا يمنع كونها غاية كمالية للخلق. وقيل : المراد بالجن والإنس : المؤمنون ؛ واللام للغاية
﴿ فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم ﴾ أي حظا ونصيا من العقاب نازلا بهم ؛ مثل نصيب من سبقهم من الكفار. والذنوب في الأصل : الدلو العظيمة المملوءة ماء. ولا يقال لها ذنوب إذا كانت فارغة. وجمعها ذنائب ؛ كقلوص وقلائص، وكانوا يستقون الماء فيقسمونه بينهم على الأنصباء ؛ فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب. ومن ثم فسر الذنوب بالنصيب.
﴿ فويل للذين كفروا... ﴾ هلاك. أو حسرة لهم في يوم بدر، أو في يوم القيامة. والله أعلم.