تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
.
لمؤلفه
الشربيني
.
المتوفي سنة 977 هـ
وتسمى عروس القرآن
لأنها مجمع النعم والجمال والبهجة في نوعها والكمال مكية كلها في قول الحسن وعروة وابن الزبير وعطاء وجابر ؛ وقال ابن عباس : إلا آية منها وهي : قوله تعالى :﴿ يسأله من في السماوات والأرض ﴾ [ الرحمن : ٢٩ ]
لآية وقال ابن مسعود ومقاتل : هي مدنية كلها قال ابن عادل : والأوّل أصح لما روى عروة بن الزبير قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، وذلك أن الصحابة قالوا : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط فمن رجل يسمعهموه، فقال ابن مسعود : أنا فقالوا نخشى عليك وإنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ الرحمن علم القرآن ﴾ ثم تمادى بها رافعاً صوته وقريش في أنديتها فتأملوا وقالوا : ما يقول ابن أم عبد ؟ قالوا : هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه، وصح أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «قام يصلي الصبح بنخلة فقرأ بسورة الرحمن، ومرّ النفر من الجن فآمنوا به » وهي سبع وثمانون آية وثلاثمائة، وإحدى وخمسون كلمة وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي ظهرت إحاطة كماله بما ظهر من عجائب مخلوقاته ؛ ﴿ الرحمن ﴾ الذي ظهر عموم رحمته بما بهر من بدائع مصنوعاته ؛ ﴿ الرحيم ﴾ الذي ظهر اختصاصه لأهل طاعته بما تحققوا من الذلّ المفيد للعز بلزوم عباداته.
ﰡ
ولما كانت هذه السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية صدرها بقوله تعالى :﴿ الرحمن ﴾.
﴿ علم ﴾ أي : من شاء ﴿ القرآن ﴾ وقدم من نعمه الدينية ما هو أعلى مراتبها وأقصى مراقبها وهو إنعامه تعالى بالقرآن العظيم، وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحي الله تعالى رتبة، وأعلاها منزلة، وأحسنه في أبواب الدين أثراً ؛ وهو سنام الكتب السماوية، ومصداقها والعيار عليها.
تنبيه : أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها ؛ لأنّ آخر تلك مليك مقتدر، وأوّل هذه أنه رحمن. قال سعيد بن جبير وعامر والشعبي : الرحمن : فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى الر، وحم، ون، فيكون مجموع هذه الرحمن. ولله تبارك وتعالى رحمتان : رحمة سابقة بها خلق الخلق ؛ ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع، فهو رحمن باعتبار السابقة، رحيم باعتبار اللاحقة، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره رحمن ولما خلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطاقة البشرية فأطعم ونفع جاز أن يقال له : رحيم.
وفي إعراب الرحمن ثلاثة أوجه : أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر أي الله الرحمن الثاني : أنه مبتدأ وخبره مضمر أي الرحمن ربنا. الثالث : أنه مبتدأ خبره علم القرآن ؛ فإن قيل : كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى :﴿ وما يعلم تأويله إلا الله ﴾ [ آل عمران : ٧ ] أجيب بأنا أن قلنا بعطف الراسخين على الله فهو ظاهر، وإن قلنا بالوقف على الله ويبتدأ بقوله تعالى :﴿ والراسخون ﴾ [ آل عمران : ٧ ] فلأن من علم كتاباً عظيماً فيه مواضع مشكلة قليلة وتأمّلها بقدر الإمكان فإنه يقال فلان يعلم الكتاب الفلاني، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة، وكذا القول في تعليم القرآن، أو يقال المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه بخلاف الكتب التي تستخرج بقوة الذكاء والفكر.
واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال أكثر المفسرين : نزلت حين قالوا : وما الرحمن، وقيل : نزلت جواباً لأهل مكة حين قالوا : إنما يعلمه بشر وهو رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب ؛ فأنزل الله تعالى :﴿ الرحمن علم القرآن ﴾ أي : سهله ليذكر ويقرأ، كما قال تعالى :﴿ ولقد يسرنا القرآن للذكر ﴾ [ القمر : ١٧ ].
ولما كان كأنه قيل كيف يعلمه وهو صفة من صفاته، ولمن علمه قال تعالى مستأنفاً أو معللاً ﴿ خلق الإنسان ﴾ أي : الجنس بأن قدره وأوجده على هذا الشكل المعروف والتركيب الموصوف منفصلاً عن جميع الجمادات، وأصله منها ثم عن سائر الناميات، ثم عن غيره من الحيوانات، وخلقه له دليل على خلقه لكل شيء موجود ﴿ إنا كل شيء خلقناه بقدر ﴾ [ القمر : ٤٩ ] وقيل علم القرآن جعله علامة.
وآية ﴿ علمه البيان ﴾ أي القوّة الناطقة وهي الإدراك للأمور الكلية والجزئية، والحكم على الحاضر والغائب بقياسه على الحاضر، وغير ذلك مما أودعه له سبحانه مع تعبيره عما أدركه مما هو غائب في ضميره وإفهامه لغيره : تارة بالقول وتارة بالفعل، نطقاً وكتابة وإشارة وغيرها، فصار بذلك ذا قدرة في نفسه والتكميل لغيره فهذا تعليم البيان الذي مكن من تعليم القرآن، وقال ابن عباس وقتادة والحسن : يعني آدم عليه السلام علم أسماء كل شيء، وقيل : علمه اللغات كلها وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية، وعن ابن عباس أيضاً وابن كيسان : المراد بالإنسان هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم والمراد من البيان : الحلال والحرام والهدى من الضلال، وقيل : ما كان وما يكون لأنه بين عن الأولين والآخرين، وعن يوم الدين، وقال الضحاك : البيان : الخير والشرّ، وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه وما يضره. وقال السدي : علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقيل : بيان الكتابة والخط بالقلم نظيره قوله تعالى :﴿ علم بالقلم ٤ علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ [ العلق : ٣ – ٤ ].
فإن قيل : لِمَ قدّم تعليم القرآن للإنسان على خلقه وهو متأخر عنه في الوجود ؟ أجيب : بأنّ التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه.
فإن قيل : كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن ؟ أجيب : بأنّ في ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعميم لا في تعليم شخص دون شخص، وبأنّ المراد من قوله تعالى :﴿ علمه البيان ﴾ : تعديد النعم على الإنسان واستدعاء الشكر منه ؛ ولم يذكر الملائكة لأنّ المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان. وقيل : تقديره علم جبريل القرآن وقيل علم محمداً صلى الله عليه وسلم وقيل علم الإنسان وهذا أولى لعمومه.
تنبيه هذه الجمل من قوله تعالى :﴿ علم القرآن ﴾ إلى هنا جيء بها من غير عاطف لأنها سيقت لتعديد نعمه ؛ كقولك : فلان أحسن إلى فلان أكرمه أشاد ذكره رفع قدره ؛ فلشدّة الوصل ترك العاطف ؛ وهي أخبار مترادفة للرّحمن.
ولما ذكر تعالى خلق الإنسان وإنعامه عليه بتعليمه البيان ذكر نعمتين عظيمتين بقوله تعالى :﴿ الشمس ﴾ وهي آية النهار ﴿ والقمر ﴾ وهي آية الليل ﴿ بحسبان ﴾ فإنهما على قانون واحد وحساب لا يتغيران وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها ولولا الشمس والقمر لفات كثير من المنافع الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإنّ نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما، وإنهما بحسبان لا يتغير أبدا، ولو كان سيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها ومعرفة فصول السنة، والمعنى يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك : يجريان بحسبان في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال أبو زيد وابن كيسان بهما تحسب الأوقات والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً إن كان الدهر كله ليلاً أو نهاراً. وقال السدي : بحسبان تقدير آجالهما أي : يجريان بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا نظيره ﴿ كل يجري إلى أجل مسمى ﴾ [ لقمان : ٢٩ ].
﴿ والنجم ﴾ أي : النبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له كالبقول ﴿ والشجر ﴾ أي : الذي له ساق كشجر الرمان وتقدم الجواب عن قوله تعالى :﴿ وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ﴾ [ الصافات : ١٤٦ ] في سورة الصافات ﴿ يسجدان ﴾ أي : ينقادان لله تعالى فيما يريده طبعاً انقياد الساجد من المكلفين طوعاً وقال الضحاك سجودهما سجود ظلالهما. وقال الفراء سجودهما أنهما يستقبلان إذا طلعت الشمس ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء، وقال الزجاج : سجودهما دوران الظل معهما كما قال تعالى :﴿ يتفيؤا ظلاله ﴾ [ النحل : ٤٨ ] وقال الحسن ومجاهد : النجم نجم السماء وسجوده في قول مجاهد دوران ظله ؛ وقيل : سجود النجم أفوله وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمارها حكاه الماوردي.
وقال النحاس : أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له، ومن الحيوان كذلك.
فإن قيل : كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن ؟ أجيب بأنه استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أنّ الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره كأنه قيل الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له.
فإن قيل : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف ؟ أجيب : بأنّ الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل، فإن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وأنَّ جرى الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله تعالى فهو مناسب لسجود النجم والشجر.
﴿ والسماء ﴾ أي : ورفع السماء ثم فسر ناصبها فيكون كالمذكور مرتين إشارة إلى عظيم تدبيره لشدّة ما فيها من الحكم فقال تعالى :﴿ رفعها ﴾ أي حسا قال البقاعي : بعدما كانت ملتصقة بالأرض ففتقها وأعلاها عنها ؛ وقال الزمخشري وتبعه البيضاوي : خلقها مرفوعة ؛ قال البيضاوي : محلاً ورتبه، وقال الزمخشري : حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه.
﴿ ووضع الميزان ﴾ أي : العدل الذي دبر به الخافقين من الموازنة وهي المعادلة لتنتظم أمورنا كما قال صلى الله عليه وسلم «بالعدل قامت السماوات والأرض » وقال السدي : وضع في الأرض العدل الذي أمر به يقال وضع الله الشريعة ووضع فلان كذا أي : ألفه. وقيل على هذا الميزان القرآن لأنّ فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل، وقال الحسن وقتادة والضحاك هو الميزان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى :﴿ وأقيموا الوزن بالقسط ﴾ [ الرحمن : ٩ ] والقسط هو العدل ؛ وقيل هو الحكم، وقيل المراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال.
﴿ أن ﴾ أي : لأجل أن ﴿ لا تطغوا ﴾ أي : تتجاوزوا الحدود ﴿ في الميزان ﴾ فمن قال : الميزان العدل قال : طغيانه الجور ؛ ومن قال : إنه الميزان الذي يوزن به قال : طغيانه البخس قال ابن عباس : لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال : يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس المكيال والميزان ومن قال : إنه الحكم قال : طغيانه التحريف. وقيل فيه إضمار أي : وضع الميزان وأمركم أن لا تطغوا فيه.
فإن قيل : إذا كان المراد به ما يوزن به فأيّ نعمة عظيمة فيه حتى يعدّ في الآلاء ؟ أجيب : بأنّ النفوس تأبى الغبن ولا يرضى أحد أن يغلبه غيره ولو في الشيء اليسير، ويرى أنّ ذلك استهانة به فلا يترك خصمه يغلبه فوضع الله تعالى معياراً بيّن به التساوي ولا تقع به البغضاء بين الناس وهو الميزان، وهو كل ما توزن به الأشياء بين الناس، ويعرف مقاديرها به من ميزان ومكيال ومقياس، فهو نعمة كاملة ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته وكثرته وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء اللذين لا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما.
﴿ وأقيموا الوزن بالقسط ﴾ أي : افعلوه مستقيماً بالعدل. وقال أبو الدرداء : أقيموا لسان الميزان بالعدل. وقال ابن عيينة : الإقامة باليد والقسط بالقلب وقال مجاهد : القسط العدل بالرومية ﴿ ولا تخسروا الميزان ﴾ أي : لا تنقصوا الموزون، أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان ؛ وكرّر لفظ الميزان تشديداً للتوصية وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه ؛ وقيل : كرّره لمحال رؤوس الآي، وقيل كرّره ثلاث مرات : الأول : بمعنى الآلة وهو قوله تعالى :﴿ ووضع الميزان ﴾ والثاني : بمعنى المصدر أي لا تطغوا في الوزن. والثالث : للمفعول أي لا تخسروا الموزون. قال ابن عادل : وبين القرآن والميزان مناسبة، فإنّ القرآن فيه العلم الذي لا يوجد في غيره من الكتب والميزان به يقام العدل الذي لا يقام بغيره من الآلات.
ولما ذكر إنعامه الدال على اقتداره برفع السماء، ذكر على ذلك الوجه مقابلها بعد أن وسط بينهما ما قامتا به من العدل تنبيهاً على شدّة العناية والاهتمام به فقال تعالى :﴿ والأرض ﴾ أي : ووضع الأرض ثم فسر ناصبها كما فعل في قوله تعالى :﴿ والسماء رفعها ﴾ فقال تعالى :﴿ وضعها ﴾ أي : دحاها وبسطها على الماء ﴿ للأنام ﴾ أي : كل من فيه قابلية النوم أو قابلية الونيم وهو الصوت. وقيل : هو الحيوان وقيل : بنو آدم خاصة. وهو مروي عن ابن عباس ونقل النووي في التهذيب عن الزبيدي الأنام الخلق قال : ويجوز الأنيم وقال : الواحدي قال الليث : الأنام ما على ظهر الأرض من جميع الخلق. وقال : الحسن هم الإنس والجن.
﴿ فيها ﴾ أي : الأرض ﴿ فاكهة ﴾ أي : ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار ونكرها لأنّ الانتفاع بها دون الانتفاع بما ذكر بعدها فهو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، إذ التنكير فيها للتعظيم والتكثير، نبه عليه بتعريف فرع منها ونوه به لأنّ فيه مع التفكه التقوت وهو أكثر ثمار العرب المقصودين بهذا الذكر بالقصد الأوّل فقال تعالى :﴿ والنخل ﴾ ودل على تمام القدرة بقول تعالى :﴿ ذات ﴾ أي : صاحبة ﴿ الأكمام ﴾ أي : أوعية ثمرها وهو الطلع قبل أن ينفتق بالثمر، والأكمام جمع كم بالكسر قال الجوهري : والكم بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وإكمام والكمامة ما يكم به فم البعير لئلا يعض ؛ وكم القميص بالضم والجمع أكمام وكممه والكمة القلنسوة المدوّرة لأنها تغطي الرأس.
﴿ والحب ﴾ أي : جميع الحبوب التي يقتات بها كالحنطة والشعير ﴿ ذو العصف ﴾ قال ابن عباس : تبن الزرع وورقه الذي يعصفه الريح، وقال مجاهد : ورق الشجر والزرع، وقال سعيد بن جبير : بقل الزرع الذي أوّل ما ينبت منه وهو قول الفراء. والعرب تقول : خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك وقيل : العصف حطام النبات. ﴿ والريحان ﴾ وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الرزق قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : هو الرزق بلغة حمير، كقولهم : سبحان الله وريحانه نصبوهما على المصدر يريدون تنزيهاً له واسترزاقاً. وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وقتادة : أنه الريحان الذي يشم، وهو قول ابن زيد. وقال سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق. وقال الفراء : العصف المأكول من الزرع والريحان ما لا يؤكل وقال الكلبي : العصف الورق الذي يؤكل والريحان هو الحب المأكول. وقيل : كل بقلة طيبة الريح سميت ريحاناً، لأنّ الإنسان يراح لها رائحة طيبة أي يشم. وفي الصحاح : والريحان نبت معروف، والريحان الرزق تقول : خرجت أبتغي ريحان الله، وفي الحديث :«الولد من ريحان الله ».
وقرأ ابن عامر : بنصب الحب وذا والريحان بخلق مضمر، أي : وخلق الحب وذا العصف والريحان.
وقرأ حمزة والكسائي : برفع الحب وذو عطفا على فاكهة، وجرّ الريحان عطفاً على العصف، والباقون : برفع الثلاثة عطفاً على فاكهة أي وفيها أيضاً هذه الأشياء.
ولما دخل في قوله تعالى :
﴿ والأرض وضعها للأنام ﴾ الجنّ والأنس خاطبهما بقوله تعالى :
﴿ فبأيّ آلاء ﴾ أي : نعم
﴿ ربكما ﴾ أي : المحسن إليكما المدبر لكما الذي لا مدبر ولا سيد لكما غيره
﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم أم بغيرها ؟ وكرر هذه الآية في هذه السورة في أحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة، وتأكيداً في التذكير، وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهم النعم، ويقرّرهم بها كما تقول لمن تتابع عليه إحسانك وهو يكفره وينكره : ألم تكن فقيراً فأغنيتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تكن خاملاً فعززتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تكن راجلاً فحملتك ؟ أفتنكر هذا ؟ والتكرير حسن في مثل هذا، قال القائل :
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم ***
وقال آخر :لا تقتلي مسلماً إن كنت مسلمة | إياك من دمه إياك إياك |
وقال آخر :لا تقطعنّ الصديق ما طرفت | عيناك من قول كاشح أشر |
ولا تملنّ يوماً زيارته | زره وزره وزر وزر وزر |
وقال الحسن بن الفضل : التكرير طرد للغفلة، وتأكيد للحجة قال بعض العلماء : والتكرير هاهنا كما تقدّم في قوله تعالى :
﴿ ولقد يسرنا القرآن للذكر ﴾ [ القمر : ١٧ ] وكقوله تعالى : فيما سيأتي
﴿ ويل يومئذ للمكذبين ﴾ [ المرسلات : ١٥ ] وذهب جماعة منهم ابن قتيبة إلى أنّ التكرير لاختلاف النعم، فلذلك كرّر التوقيف مع كل واحدة.
وقال الرازي : وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات، والمراد به التقرير والزجر وذكر لفظ الرب لأنه يشعر بالرحمة ؛ قال : وكرّرت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة : إما للتأكيد، ولا يعقل لخصوص العدد معنى. وقيل : الخطاب مع الأنس والجنّ والنعمة منحصرة في دفع المكروه، وتحصيل المقصود، وأعظم المكروهات : نار جهنم ولها سبعة أبواب، وأعظم المقاصد نعيم الجنة ولها ثمانية أبواب، فالمجموعة خمسة عشر وذلك بالنسبة للإنس والجنّ ثلاثون والزائد لبيان التأكيد. وروى جابر بن عبد الله قال :
«قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال ما لي أراكم سكوتاً للجنّ كانوا أحسن منكم ردّاً ما قرأت عليهم هذه الآية من مرّة ﴿ فبأيّ آلاء ربكما تكذبان ﴾ [ الرحمن : ١٣ ] إلا قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد » وقرأ ورش
﴿ فبأيّ آلاء ﴾ على أصله بالمدّ، والتوسط، والقصر جميع ما في هذه السورة.
ولما ذكر تعالى خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال تعالى :﴿ خلق الإنسان ﴾ أي : آدم عليه السلام ﴿ من صلصال ﴾ أي : من طين يابس له صلصلة أي صوت إذا نقر ﴿ كالفخار ﴾ أي كالخزف المصنوع المشوي بالنار، وقيل هو طين خلط برمل ؛ وقيل : هو الطين المنتن من صل اللحم وأصل إذا أنتن.
تنبيه : قال تعالى : هنا. ﴿ من صلصال كالفخار ﴾ وقال تعالى في الحجر :﴿ من حمإ مسنون ﴾ [ الحجر : ٢٦ ] وقال تعالى في الصافات :﴿ من طين لازب ﴾ [ الصافات : ١١ ] وقال تعالى في آل عمران ﴿ كمثل آدم خلقه من تراب ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] وكله متفق المعنى وذلك أنه أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء، فصار طيناً، ثم ترك حتى صار حمأ مسنوناً ثم منتناً ثم صوّره كما يصوّر الإبريق وغيره من الأواني، ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة فصار كالخزف الذي إذا نقر صوت صوتاً، يعلم منه هل فيه عيب أو لا فالمذكور هنا آخر تخليقه وهو أنسب بالرحمانية وفي غيرها تارة مبدؤه وتارة أثناؤه فالأرض أمّه والماء أبوه ممزوجين بالهواء الحامل للجزء الذي هو من فيح جهنم ؛ فمن التراب جسده ونفسه، ومن الماء روحه وعقله، ومن النار غوايته وحدته، ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه، فالغالب في جبلته التراب، فلهذا نسب إليه، وإن خلق من العناصر الأربع، كما أنّ الجانّ خلق من العناصر الأربع لكن الغالب في جبلته النار فنسب إليها ؛ كما قال تعالى :﴿ وخلق الجانّ من مارج من نار ﴾.
﴿ وخلق الجانّ ﴾ أي : أبا الجنّ، وهو إبليس وقيل : هو أبوهم وليس هو بإبليس ؛ وقيل : هو اسم جنس كالإنسان ﴿ من مارج من نار ﴾ وهو لهبها الخالص من الدخان ؛ وقال القشيري : هو اللهب المختلط بسواد النار، فالنار أغلب عناصره. وقال الليث : المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس : أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر وهو مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلط بعضها ببعض ؛ ونحوه عن مجاهد. وقال أبو عبيدة والحسن : المارج المختلط من النار وأصله من مرج إذا اضطرب واختلط قال القرطبي : يروى أنّ الله تعالى خلق نارين فمرج أحداهما بالأخرى فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم، فخلق منها إبليس.
تنبيه :﴿ من مارج من نار ﴾ مَنْ الأولى لابتداء الغاية ؛ وفي الثانية وجهان : أحدهما : أنها للبيان. والثاني : أنها للتبعيض.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ الناشئة عن مبدئكما ومربيكما وسيد كما ﴿ تكذبان ﴾ أي : مما أفاض عليكما في أطوار خلقتكما حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات.
﴿ رب ﴾ أي : خالق ومدبر ﴿ المشرقين ﴾ أي : مشرق الشتاء ومشرق الصيف ﴿ ورب المغربين ﴾ كذلك.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ربكما أي الذي دبر لكما هذا التدبير العظيم ﴿ تكذبان ﴾ أي : بما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك.
﴿ مرج ﴾ أي : أرسل الرحمن ﴿ البحرين ﴾ أي : العذب والملح فجعلهما مضطربين من طبعهما الاضطراب حال كونهما ﴿ يلتقيان ﴾ أي : يتماسان على وجه الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين. وقال ابن عباس : بحر السماء وبحر الأرض. قال سعيد بن جبير : يلتقيان في كل عام. وقيل : يلتقي طرفاهما. وقال الحسن وقتادة : بحر فارس والروم. وقال ابن جريج : البحر المالح والأنهار العذبة. وقيل : بحر المشرق وبحر المغرب. وقيل : بحر اللؤلؤ وبحر المرجان.
﴿ بينهما برزخ ﴾ أي حاجز عظيم فعلى القول بأنهما بحر السماء وبحر الأرض فالحاجز الذي بينهما هو ما بين السماء والأرض ؛ قاله الضحاك وعلى الأقوال الباقية : قال الحسن وقتادة : هو الأرض. وقال بعضهم هو القدرة الإلهية وهذا أولى.
﴿ لا يبغيان ﴾ اختلف فيه. فقال قتادة : لا يبغيان على الناس فيغرقانهم كما طغيا فأهلكا من على الأرض في أيام نوح عليه السلام، فجعل بينهما وبين الناس اليبس، وقال مجاهد وقتادة أيضاً : لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. وقيل البرزخ ما بين الدنيا والآخرة أي : بينهما مدة قدّرها الله تعالى وهي مدّة الدنيا فهما لا يبغيان فإذا أذن الله تعالى في انقضاء الدنيا صار البحران شيئاً واحداً ؛ وهو كقوله تعالى :﴿ وإذا البحار فجرت ﴾ [ الانفطار : ٣ ] وقال سهل بن عبد الله : البحران طريق الخير والشرّ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة، وقال الرازي : معنى الآية أنّ الله تعالى أرسل بعض البحرين إلى بعض ومن شأنهما الاختلاط، فحجزهما ببرزخ من قدرته فهما لا يبغيان أي لا يتجاوز كل واحد منهما ما حدّه له خالقه لا في الظاهر ولا في الباطن فمتى حفرت على جنب الملح في بعض الأماكن وجدت الماء العذب وإن قربت الحفرة منه ؛ قال البقاعي : بل كلما قربت كان أحلى فخلطهما سبحانه في رأي العين وحجز بينهما في غيب القدرة هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها المدركون العقلاء ؟.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي نعم ﴿ ربكما ﴾ أي الموجد لكما والمربي ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم أم بغيرها فهلا اعتبرتم بهذه الأصول من أنواع الموجودات فصدقتم بالآخرة لعلكم تنجون من عذاب الله تعالى.
﴿ يخرج منهما اللؤلؤ ﴾ وهو كبار الجوهر ﴿ والمرجان ﴾ وهو صغار الجوهر، قاله علي وابن عباس والضحاك : وقيل : بالعكس ؛ وقيل : المرجان حجر أحمر وقيل : حجر شديد البياض والمرجان أعجمي أي بمخالطة العذب المالح من غير واسطة أو بواسطة السحاب فصار ذلك كالذكر والأنثى، وقال الرازي : فيكون العذب كاللقاح للملح، وقال أبو حيان : قال الجمهور : إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة فأسند ذلك إليهما، وهذا مشهور عند الغواصين. قال مكي : كما قال :﴿ على رجل من القريتين عظيم ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] أي : من إحدى القريتين وحذف المضاف كثير شائع ؛ وقيل : هو كقوله تعالى :﴿ نسيا حوتهما ﴾ [ الكهف : ٦١ ] وإنما الناسي فتاه، ويعزى لأبي عبيدة ؛ قال البغوي : وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئان ثم يخص أحدهما بفعل، كقوله تعالى ﴿ يا معشر الجنّ والأنس ألم يأتكم رسل منكم ﴾ وكانت الرسل من الأنس، وقيل : يخرج من أحدهما اللؤلؤ، ومن الآخر المرجان، وقيل : بل يخرجان منهما جميعاً، وقال ابن عباس : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر والصدف تفتح أفواهها للمطر وقد شاهده الناس فيكون تولده من بحر السماء وبحر الأرض، وهذا قول الطبري.
وقال الزمخشري : فإن قلت لم قال منهما، وإنما يخرجان من الملح ؟ قلت : لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما كما يقال : يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر وإنما يخرجان من بعضه ؛ وتقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره، وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب ا. ه.
وقال بعضهم : كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس، فمن الجائز أنه يسوقهما من البحر العذب إلى الملح، واتفق أنهم لم يخرجوهما إلا من الملح، وإذا كان في البر أشياء تخفى على التجار المتردّدين القاطعين المفاوز فكيف بما في قعر البحر. قال ابن عادل : والجواب عن هذا أنّ الله تعالى لا يخاطب الناس ولا يمتن عليهم إلا بما يألفون ويشاهدون.
وقرأ نافع وأبو عمرو : يخرج بضم الياء وفتح الراء مبنياً للمفعول، والباقون بفتح الياء وضم الراء مبنياً للفاعل على المجاز. وقرأ السوسي وشعبة : بإبدال الهمزة الساكنة واواً وصلاً ووقفاً، وإذا وقف حمزة أبدل الأولى والثانية.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : الملك الأعظم المالك لكما ﴿ تكذبان ﴾ أبكثرة النعم من خلق المنافع في البحار وتسليطكم عليها، وإخراج الحلي العجيبة أم بغيرها.
﴿ وله ﴾ أي : لا لغيره ﴿ الجواري ﴾ أي : السفن الكبار والصغار الفارغة والمشحونة فلا تغترّوا بالأسباب الظاهرة فتقفوا معها فتسندوا شيئاً من ذلك إليها، وقرأ :﴿ والمنشآت ﴾ حمزة وأبو بكر بخلاف عنه بكسر الشين بمعنى أنها تنشئ الموج بجريها أو تنشئ السير إقبالاً وإدباراً، أو التي رفعت شراعها أي قلوعها والشراع القلع وعن مجاهد كل ما رفعت قلعها فهي من المنشآت وإلا فليست منها ونسبة الرفع إليها مجاز كما يقال : أنشأت السحابة المطر وقرأ الباقون بفتح الشين وهو اسم مفعول أي أنشأها الله تعالى أو الناس أو رفعوا شراعها.
تنبيه : الجواري جمع جارية وهو اسم أو صفة للسفينة، وخصها بالذكر لأنّ جريها في البحر لا صنع للبشر فيه، وهم معترفون بذلك فيقولون لك الفلك ولك الملك ؛ وإذا خافوا الغرق دعوا الله وحده، وسميت السفينة جارية لأنّ شأنها ذلك وإن كانت واقفة في الساحل كما سماها في موضع آخر بالجارية كما قال تعالى :﴿ إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية ﴾ [ الحاقة : ١١ ] وسماها بالفلك قبل أن لم تكن كذلك فقال تعالى لنوح عليه السلام :﴿ واصنع الفلك بأعيننا ﴾ [ هود : ٣٧ ] ثم بعدما عملها سماها سفينة فقال تعالى :﴿ فأنجيناه وأصحاب السفينة ﴾ [ العنكبوت : ١٥ ] قال الرازي : فالفلك أولاً ثم السفينة ثم الجارية ا. ه. والمرأة المملوكة تسمى أيضاً جارية لأنّ شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها بخلاف الزوجة فهي من الصفات الغالبة.
والسفينة فعليه بمعنى فاعله عند ابن دريد ؛ كأنها تسفن الماء وفعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى مسفونة وقوله تعالى :﴿ في البحر ﴾ متعلق بالمنشآت وقوله تعالى :﴿ كالأعلام ﴾ حال إمّا من الضمير المستكن في المنشآت وإمّا من الجواري وكلاهما بمعنى واحد ؛ والأعلام الجبال والعلم الجبل الطويل علماً على الأرض قال القائل :
إذا قطعنا علماً بدا لنا علم ***
وقال آخر :
ربما أوفيت في علم *** ترفعن ثوبى شمالات
وقالت الخنساء في أخيها صخر :
وإن صخراً لتأتمّ الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار
أي : جبل فالسفن في البحر كالجبال في البرّ ؛ وجمع الجواري. ووحد البحر وجمع الأعلام إشارة إلى عظمة البحر.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ العظمى التي عمت خلقه ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم من خلق موادّ السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر وأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره أم غيرها ؟.
وقوله تعالى :﴿ كل من عليها فان ﴾ أي : هالك غلب فيه من يعقل على غيره وجميعهم مراد ؛ والضمير في عليها للأرض قال بعضهم : وإن لم يجر لها ذكر كقوله تعالى :﴿ حتى توارت بالحجاب ﴾ [ ص : ٣٢ ] ورد هذا بأنه قد تقدّم ذكرها في قوله تعالى :﴿ والأرض وضعها ﴾ [ الرحمن : ١٠ ] وقيل : الضمير عائد إلى الجواري.
قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلكت أهل الأرض فنزل :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ فأيقنت الملائكة بالهلاك.
فإن قيل : الكلام في تعدّد النعم فأين النعمة في فناء الخلق ؟ أجيب : بأنها التسوية بينهم في الموت والموت سبب للنقل إلى دار الجزاء والثواب.
﴿ ويبقى ﴾ أي : بعد فناء الكل بقاء مستمرّا إلى ما لا نهاية له ﴿ وجه ربك ﴾ أي : ذاته فالوجه عبارة عن وجود ذاته. قال ابن عباس : الوجه عبارة عنه.
فإن قيل كيف خاطب الاثنين بقوله :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ وخاطب هاهنا الواحد فقال :﴿ ويبقى وجه ربك ﴾ ولم يقل وجه ربكما ؟ أجيب : بأنّ الإشارة هاهنا وقعت إلى كل أحد فقال : ويبقى وجه ربك أيها السامع ليعلم كل أحد أنّ غيره فان فلو قال : ويبقى وجه ربكما لكان كل أحد يخرج نفسه ورفيقه ؛ المخاطب عن الفناء، فإن قيل : فلو قال : ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل ؛ أجيب : بأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال : بلفظ الرب وكاف الخطاب.
ولما ذكر تعالى مباينته للمخلوقات وصف نفسه بالإحاطة الكاملة فقال تعالى :﴿ ذو الجلال ﴾ أي : العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به ﴿ والإكرام ﴾ أي : الإحسان العام وهو صفة فعله مع جلاله وعظمته.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : المربى لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم من بقاء الرب وفناء الكل والحياة الدائمة والنعيم المقيم أم بغيرها ؟.
وقوله تعالى :﴿ يسأله من في السماوات ﴾ أي : كلها كلهم ﴿ والأرض ﴾ كذلك مستأنف وقيل : حال من وجه والعامل فيه يبقى أي : يبقى مسؤولاً من أهل السماوات والأرض بلسان الحال أو المقال أو بهما. قال ابن عباس وأبو صالح : أهل السماوات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعاً. وقال ابن جريج : يسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض كما في الحديث، قال القرطبي : وفي الحديث :«إن من الملائكة ملكاً له أربعة أوجه وجه كوجه الإنسان يسأل الله تعالى الرزق لبني آدم، ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله تعالى الرزق للسباع، ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله تعالى الرزق للبهائم، ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله تعالى الرزق للطير ». وقال ابن عطاء : إنهم يسألوه القوّة على العبادة. وقوله تعالى :﴿ كل يوم ﴾ منصوب بالاستقرار الذي تضمنه الخبر وهو قوله تعالى :﴿ هو في شان ﴾ والشأن الأمر روى أبو الدرداء : عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«كل يوم هو في شان قال من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كربة ويرفع أقواماً ويضع آخرين ». وعن ابن عمر : عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«يفغر ذنباً ويكشف كرباً ويجيب داعياً ». وقال أكثر المفسرين من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويعزّ قوماً ويذل قوماً ويشفي قوماً ويفرج مكروباً ويجيب داعياً ويعطي سائلاً ويغفر ذنباً إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء. وروى البغوي : عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :«إنّ مما خلق الله عز وجل لوحاً من درّة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكلماته نور ينظر الله تعالى فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعزّ ويذلّ ويفعل ما يشاء »، فذلك قوله تعالى :﴿ كل يوم هو في شان ﴾.
وقال سفيان بن عيينة : الدهر كله عند الله تعالى يومان أحدهما : اليوم الذي هو مدّة عمر الدنيا فشأنه فيه أي : في كل يوم من أيامها الأمر والنهي والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع، والثاني : يوم القيامة وشأنه فيه الجزاء والحساب والثواب والعقاب. وقال أبو سليمان الداراني : في هذه الآية له في كل يوم إلى العبيد برّ جديد.
وقال بعض المفسرين : شأنه تعالى أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكراً من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمّهات، وعسكراً من الأرحام إلى الدنيا، وعسكراً من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعاً إلى الله تعالى. وقيل : نزلت في اليهود حين قالوا إنّ الله لا يقضي يوم السبت شيئاً.
وسأل بعض الملوك وزيره عن هذه الآية فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يتفكر فيها، فقال له غلام أسود : يا مولاي أخبرني ما أصابك لعل الله تعالى يسهل لك على يدي ؛ فأخبره فقال : أنا أفسرها للملك فأعلمه فقال أيها الملك شأن الله تعالى أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحيّ، ويشفي سقيما، ويسقم صحيحا، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا، فقال الأمير : أحسنت، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة، فقال : يا مولاي هذا من شأن الله تعالى.
وعن عبد الله بن طاهر : أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشف لي قوله تعالى :﴿ فأصبح من النادمين ﴾ [ المائدة : ٣١ ] وقد صح أنّ الندم توبة. وقوله تعالى :﴿ كل يوم هو في شان ﴾ وصح أنّ القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة وقوله تعالى :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ [ النجم : ٣٩ ]
فمعناه ليس له إلا ما يسعى فما بال الأضعاف ؟ قال الحسين : يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون في هذه الأمة لأنّ الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل : إنّ ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله، وأما قوله تعالى ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ فمعناه أنه ليس له إلا ما يسعى عدلاً ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً فضلاً، وأما قوله تعالى :﴿ كل يوم هو شان ﴾ فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها ؛ فقام عبد الله : فقبل رأسه وسوغ خراجه.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ المدبر لكما هذا التدبر العظيم ﴿ تكذبان ﴾ أي : أبتلك النعم أم بغيرها ؟.
﴿ سنفرغ لكم ﴾ أي سنقصد لحسابكم وجزائكم ؛ وقرأ حمزة والكسائي : بعد السين بالياء التحتية والباقون بالنون
﴿ أيه الثقلان ﴾ أي : الإنس والجنّ وذلك يوم القيامة فإنه تعالى لا يفعل ذلك في غيره قال القرطبي : يقال فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً وتفرّغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلت وليس بالله تعالى شغل يفرغ منه ؛ وإنما المعنى سنقصد لمجازاتكم ومحاسبتكم فهو وعيد لهم وتهديد قاله ابن عباس والضحاك ؛ كقول القائل لمن يريد تهديده : إذا أتفرّغ لك أي أقصدك وأنشد ابن الأنباري لجرير :
الآن وقد فرغت إلى نمير | فهذا حين كنت لهم عذابا |
يريد : وقد قصدت، وأنشد الزجاج والنحاس :
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل ***
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم
«أنه لما بايع الأنصار ليلة العقبة صاح الشيطان : يا أهل الحباحب هذا مذمم يبايع بني قيلة على حربكم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا أزبّ العقبة أما والله يا عدوّ الله لأتفرغنّ لك » أي : أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا اختيار الكسائي وغيره. قال ابن الأثير الأزبّ في اللغة الكثير الشعر ؛ وهو هاهنا شيطان اسمه أزبّ العقبة وهو الحية. وقيل : إنّ الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور ثم قال تعالى :
﴿ سنفرغ لكم أيها الثقلان ﴾ أي ما وعدناكم ونوصل كلاً إلى ما وعدناه أقسم ذلك وأتفرّغ منه قاله الحسن ومقاتل وابن زيد.
تنبيه : رسمْ
﴿ أيه ﴾ بغير ألف فإذا وقف عليها وقف أبو عمرو والكسائي أيها بالألف ووقف الباقون على الرسم أيه وفى الوصل قرأ ابن عامر أيه برفع الهاء والباقون بنصبها.
فائدة : سمى الإنس والجن بالثقلين لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف ؛ وقيل : سموا بذلك لأنهما ثقلا الأرض أحياء وأمواتا. قال الله تعالى :
﴿ وأخرجت الأرض أثقالها ﴾ [ الزلزلة : ٢ ]
ومنه قولهم : أعطه ثقله أي وزنه ؛ وقال بعض أهل المعاني كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ومنه قيل لبيض النعام : ثقل ؛ لأنّ واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به ؛ وقال جعفر الصادق : سميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب ؛ وقيل : الثقل الإنس لشرفهم وسمي الجن بذلك مجازاً للمجاورة والتغلب كالقمرين والعمرين والثقل العظيم الشريف. قال صلى الله عليه وسلم
«إني تارك فيكم ثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي ».
﴿ فبأيّ آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : المحسن إليكما بهذا الصنيع المحكم ﴿ تكذبان ﴾ أي : أبتلك النعم من إثابة أهل طاعته وعقوبة أهل معصيته أم بغيرها ؟.
﴿ يا معشر الجنّ ﴾ أي : يا جماعة فيهم الأهلية والعشرة والتصادق ﴿ والإنس ﴾ أي : الخواص والمستأنسين والمأنوسين المبني أمرهم على الإقامة والاجتماع ﴿ إن استطعتم ﴾ أي : وجدت لكم إطاعة الكون في ﴿ أن تنفذوا ﴾ أي : تسلكوا بأجسامكم وتمضوا من غير مانع يمنعكم ﴿ من أقطار ﴾ أي : نواحي ﴿ السماوات والأرض ﴾ هاربين من الله تعالى من أنواع الجزاء بينكم، أو عصياناً عليه في قبول أحكامه وجري مراداته وأقضيته عليكم من الموت وغيره. وقوله تعالى :﴿ فانفذوا ﴾ أمر تعجيز والمعنى : إن استطعتم أن تجوزوا نواحي السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا، يعني لا مهرب لكم ولا خروج لكم عن ملك الله تعالى أينما تولوا فثم ملك الله عز وجلّ.
فإن قيل : ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس هاهنا، وتقديم الإنس على الجنّ في قوله تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ] أجيب بأنّ النفوذ من أقطار السماوات والأرض بالجنّ أليق إن أمكن والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن فقدم في كل موضع ما يليق به.
فإن قيل : لم جمع في قوله تعالى :﴿ سنفرغ لكم ﴾ وفي قوله تعالى :﴿ إن استطعتم ﴾ وثنى في قوله ﴿ أيه الثقلان ﴾ أجيب : بأنهما فريقان في حال الجمع كقوله تعالى :﴿ فإذا هم فريقان يختصمون ﴾ [ النمل : ٤٥ ] ﴿ وهذان خصمان اختصموا في ربهم ﴾ [ الحج : ١٩ ].
﴿ لا تنفذون ﴾ أي : لا تقدرون على النفوذ ﴿ إلا بسلطان ﴾ أي : إلا بقوّة وقهر وأنى لكم ذلك ؟ وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا ولن تعلموا إلا بسلطان أي بينة من الله تعالى.
تنبيه : في هذه الآيات والتي في الأحقاف وفي قل أوحى دليل على أنّ الجنّ مكلفون مخاطبون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء مؤمنهم كمؤمنهم وكافرهم ككافرهم.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ المحسن إليكما المربي لكما بما تعرفون به قدرته على ما يريد ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم أم بغيرهما ؟.
وقال البغوىّ : وفي الخبر يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون
﴿ يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم ﴾ الآية، فذلك قوله تعالى :
﴿ يرسل عليكما ﴾ أي : أيها المعاندون ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : حين يخرجون من القبور لسوقهم إلى المحشر
﴿ شواظ من نار ﴾ قال مجاهد : هو اللهب الأخضر المنقطع من النار. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو اللهب الخالص الذي لا دخان له. وقال الضحاك هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس كدخان الحطب وقال سعيد بن جبير : عن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر وقيل : هو اللهب الأحمر. وقال عمرو : هو النار والدخان جميعاً وحكاه الأخفش عن بعض العرب قال حسان :
هجوتك فاختضعت لها بذل | بقافية تأجج كالشواظ |
وقرأ ابن كثير : بكسر الشين والباقون : بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد مثل صوار من البقر وصوار وهو القطيع من البقر.
واختلف في قوله سبحانه وتعالى :
﴿ ونحاس ﴾ فقيل : هو الصفر المعروف يذيبه الله تعالى ويعذبهم به. وقيل : هو الدخان الذي لا لهب معه قاله الخليل، وهو معروف في كلام العرب ؛ وأنشد الأعشى :
تضيء كضوء سراج السلي | ط لم يجعل الله فيه نحاسا |
وقال ابن برحان والعرب تسمى الدخان نحاساً بضم النون وكسرها، وأجمع القراء على ضمها ا. ه وقال الضحاك : هو دردريّ الزيت المغلي. وقال الكسائي : التي لها ريح شديد.
﴿ فلا تنتصران ﴾ أي فلا تمتنعان ولا ينصر بعضكم بعضاً من ذلك بل يسوقكم إلى المحشر.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : المدبر لكما هذا التدبير المتقن ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء أم بغيرها ؟.
﴿ فإذا انشقت السماء ﴾ أي : انفرجت، فكانت أبواباً لنزول الملائكة ﴿ فكانت وردة ﴾ أي : محمرّة مثل الوردة ﴿ كالدهان ﴾ أي : كالأديم الأحمر على خلاف العهد بها لشدّة حرّ نار جهنم. وقال مجاهد والضحاك وغيرهما : الدهان الدهن والمعنى صارت في صفاء الدهن ؛ والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة : المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي : تذوب مع جريان الدهن حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها ؛ وقال الحسن : كصب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً ؛ وجواب إذا فما أعظم الهول.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : الخالق والرازق لكما ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما يكون بعد ذلك ؟.
﴿ فيومئذ ﴾ أي : فتسبب عن يوم إذ انشقت السماء أنه ﴿ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جانّ ﴾ أي : سؤال تعرّف واستعلام، بل سؤال تقريع وتوبيخ وملام، وذلك أنه لا يقال له هل فعلت كذا ؟ بل يقال له لم فعلت كذا ؟ على أنّ ذلك اليوم طويل وهو ذو ألوان تارة يسأل فيه، وتارة لا يسأل والأمر في غاية الشدّة وكل لون من تلك الألوان يسمى يوماً فيسأل في بعض ولا يسأل في بعض وقيل : المعنى ألا يسألون إذا استقروا في النار. وقال الحسن وقتادة : لا يسألون عن ذنوبهم لأنّ الله تعالى حفظها عليهم وكتبتها الملائكة ؛ رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وعن الحسن ومجاهد : لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم ؛ دليله قوله تعالى :﴿ يعرف المجرمون بسيماهم ﴾ [ الرحمن : ٤١ ]. ورواه مجاهد عنه أيضاً : في قوله تعالى :﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين ﴾ [ الحجر : ٩٢ ] وقوله تعالى :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ] قال لا يسألهم ليعرف ذلك منهم ولكنه يسألهم لم عملتموها سؤال توبيخ ؛ وقال أبو العالية : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم ؛ وقال قتادة : يسألون قبل الختم على أفواههم ثم يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم شاهدة عليهم.
تنبيه : الجانّ هنا وفيما يأتي بمعنى الجني والإنس بمعنى الإنسي.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : الذي ربى كلاً منكم بما لا مطمع في إنكاره ولا خفاء فيه ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما أنعم الله تعالى على عبادة المؤمنين في هذا اليوم ؟.
﴿ يعرف ﴾ أي : لكل أحد ﴿ المجرمون ﴾ أي : العريقون في هذا الوصف ﴿ بسيماهم ﴾ أي العلامات التي صور الله تعالى ذنوبهم فيها، فجعلها ظاهرة بعد أن كانت باطنة وظاهرة الدلالة عليهم، كما يعرف الآن الليل إذا جاء لا يخفى على أحد أصلاً وكذا النهار ونحوهما لغير الأعمى ؛ قال البقاعي : وتلك السيمى والله أعلم زرقه العيون، وسواد الوجوه، والعمى والصمم والمشي على الوجوه، ونحو ذلك، وكما يعرف المحسنون بسيماهم : من بياض الوجوه، وإشراقها، وتبسمها، والغرّة والتحجيل، ونحو ذلك.
وسبب عن هذه المعرفة قوله تعالى : مشيراً بالبناء للمفعول إلى سهولة الأخذ من أيّ آخذ كان ﴿ فيؤخذ بالنواصي ﴾ أي : منهم وهي مقدمات الرؤوس ﴿ والأقدام ﴾ بعد أن يجمع بينها فيسحبون بها سحباً من كل ساحب أقامه الله تعالى لذلك لا يقدرون على الامتناع بوجه فيلقون في النار ؛ وقال الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره وعنه يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصيته حتى يندق ظهره، ثم يلقى في النار ؛ وفعل بالكافر ذلك ليكون أشدّ لعذابه ؛ وقيل : تسحبه الملائكة إلى النار تارة تأخذ بناصيته وتجره على وجهه وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على وجهه.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : المنعم عليكما الذي دبر مصالحكم بعد أن أوجدكم ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما وعد أن يفعل من الجزاء في الآخرة لكل شخص بما كان يعمل في الدنيا أو غير ذلك من الفضل ؟.
﴿ هذه جهنم ﴾ أي : يقال لهم إذا ألقوا فيها هذه جهنم ﴿ التي يكذب ﴾ أي : ماضياً وحالاً ومآلاً استهانة ؛ ولو ردّوا إلى الدنيا بعد إدخالهم إياها لعادوا لما انهوا عنه.
﴿ بها المجرمون ﴾ أي : المشركون الحقيقون بالإجرام، وهو قطع ما من حقه أن يوصل وهو ما أمر الله تعالى به وخص هذا الاسم إشارة إلى أنها تلقاهم بالتجهم والعبوسة والكلاحة والفظاعة كما كانوا يفعلون مع الصالحين عند الإجرام المذكور.
﴿ يطوفون بينها ﴾ أي بين درك النار ﴿ وبين حميم آن ﴾ أي : حار متناه في الحرارة وهو منقوص كقاض ؛ يقال : أنى يأني فهو آن كقضى يقضي فهو قاض ؛ والمعنى أنهم يسعون بين الحميم والجحيم، فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآن الذي صار كالمهل ؛ وهو قوله تعالى :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل ﴾ [ الكهف : ٢٩ ] وقال كعب الأحبار : وادٍ من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم خلقاً جديداً، فيلقون في النار، فذلك قوله تعالى :﴿ يطوفون بينها وبين حميم آن ﴾.
فإن قيل : هذه الأمور ليست نعمة ؟ فكيف قال عز وجل :﴿ فبأيّ آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : المحسن أيها الثقلان إليكما ﴿ تكذبان ﴾ أجيب : من وجهين :
أحدهما : أن ما وصف من هول يوم القيامة وعقاب المجرمين فيه زجر عن المعاصي وترغيب في الطاعات، وهذا من أعظم النعم ؛ روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أتى على شاب يقرأ في الليل ﴿ فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ﴾ [ الرحمن : ٣٧ ] فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول ويحي من يوم تنشق فيه السماء ويحي فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «ويحك يا فتى منها فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء من بكائك ».
الثاني : أنّ المعنى إن كذبتم بالنعمة المتقدّمة استحقيتم هذه العقوبات وهي دالة على الإيمان بالغيب، وهو من أعظم النعم.
ولما عرف ما للمجرم المجترئ على العظائم وقدمه لما اقتضاه مقام التكذيب من الترهيب، وجعله سابعاً إشارة إلى أبواب النار السبع، عطف عليه ما للخائف الذي أداه خوفه إلى الطاعة، وجعله ثامناً على عدد أبواب الجنة الثمانية فقال تعالى :﴿ ولمن خاف ﴾ أي : من الثقلين ووحد الضمير مراعاة للفظ من إشارة إلى قلة الخائفين ﴿ مقام ربه ﴾ أي : قيامه بين يدي ربه للحساب بترك المعصية والشهوة ؛ قال القرطبي : ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله تعالى وهو كالأجل في قوله تعالى :﴿ فإذا جاء أجلهم ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ]
وقوله تعالى في موضع آخر :﴿ إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ﴾ [ نوح : ٤ ]. وقال مجاهد : هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها من مخافته عز وجل. ﴿ جنتان ﴾ أي : لكل خائف جنتان على حدة. قال مقاتل : جنة عدن وجنة النعيم وقال محمد بن علي الترمذي : جنة بخوف ربه وجنة بترك شهوته ؛ وقال ابن عباس : من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض ؛ وقيل : جنتان لجميع الخائفين ؛ وقيل : جنة لخائف الإنس وأخرى لخائف الجنّ فيكون من باب التوزيع ؛ وقيل : مقام هنا مقحم كما تقول أخاف جانب فلان، وفعلت هذا لمكانك، وأنشد :
. . . . . . . . . . . . . . . . ونفيت عنه *** مقام الذئب ؛ كالرجل اللعين
يريد ونفيت عنه الذئب ؛ قال ابن عادل : وليس بجيد لأنّ زيادة الاسم ليست بالسهلة ؛ وقيل : إنّ الجنتين جنته التي خلقت له وجنة، ورثها ؛ وقيل : إحدى الجنتين منزله والأخرى منزل أزواجه كما يفعل رؤساء الدنيا ؛ وقيل : إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه ؛ وقيل : إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها ؛ وقال الفراء : إنها جنة واحدة وإنما ثنى مراعاة لرؤوس الآي ؛ وأنكر القتيبي هذا وقال : لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون وإنما قال : تسعة عشر مراعاة لرؤوس الآي ؛ وقيل : جنة واحدة وإنما ثنى تأكيداً كقوله تعالى :﴿ ألقيا في جهنم ﴾ [ ق : ٢٤ ] وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل إلا أن يبلغه الله تعالى إليه إلا أن يبلغه الله تعالى الجنة » أخرجه الترمذي. قوله أدلج الإدلاج مخففاً سير أول الليل، ومثقلاً سير آخر الليل ؛ والمراد من الإدلاج التشمير والجد والاجتهاد في أوّل الأمر فإن من سار في أوّل الليل كان جديراً ببلوغ المنزل.
روى البغوي بسنده عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ قلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ فقلت الثانية : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ قلت الثالثة : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله قال :«وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء ».
فائدة : قال القرطبي : في هذه الآية دليل على أنّ من قال لزوجته إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق إنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله تعالى وحياء منه ؛ وقاله سفيان الثوري وأفتى به. هذا ومذهب الشافعي أنه لا يحنث إذا كان مسلماً ومات على الإسلام.
وقال عطاء : نزلت هذه الآية في أبي بكر حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت والنار حين أبرزت ؛ وقال الضحاك : بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ فأعجبه فسأل عنه، فأخبر عنه أنه من غير حل فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فقال : رحمك الله لقد أنزلت فيك آية وتلا عليه الآية.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ المربي لكما بإحسانه الكبار التي لا يقدر أحد على شيء منها ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعمة أم بغيرها من نعمة التي لا تحصى ؟.
ثم وصف الجنتين بقوله تعالى :﴿ ذواتا ﴾ أي : صاحبتا أو خبر لمبتدأ محذوف أي : هما ذواتا، وفي تثنية ذات لغتان الردّ إلى الأصل، فإنّ أصلها ذوية فالعين واو واللام ياء لأنها مؤنثة ذوو الثانية التثنية على اللفظ فيقال ذاتا. وقوله تعالى ﴿ أفنان ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع فنن كطلل وهو الغصن المستقيم طولاً تكون به الزينة بالورق والثمر وكمال الانتفاع، قال النابغة الذبياني :
بكاء حمامة تدعو هديلا *** مفجعة على فنن تغني
وفي الحديث :«أهل الجنة مرد مكحولون الوفانين » يريد الأفانين وهو جمع أفنان وأفنان جمع فنن من الشعر شبه بالغصن ذكره الهروي. وقال قتادة : ذواتا أفنان أي : ذواتا سعة وفضل على سواهما.
والوجه الثاني : أنه جمع فن وإليه أشار ابن عباس. والمعنى ذواتا أنواع وأشكال وقال الضحاك : ألوان من الفاكهة واحدها فنّ إلا أنّ الكثير في فنّ أن يجمع على فنون : وقال عطاء كل غصن فنون من الفاكهة،
ولذا سبب عنه قوله تعالى :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : المحسن إليكما والمدبر لكما ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم من وصف الجنة الذي جعل لكم من أمثاله ما تعتبرون به، أم بغيرها ؟.
ولما كانت الجنان لا تقوم إلا بأنهار قال تعالى :﴿ فيهما عينان تجريان ﴾ أي : في كل واحدة منهما عين جارية قال ابن عباس تجريان : ماء بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة ؛ وعن ابن عباس أيضاً والحسن : تجريان بالماء الزلال إحدى العينين التسنيم والأخرى السلسبيل ؛ وقال عطية : أحدهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين ؛ وقيل : تجريان من جبل من مسك قال أبو بكر الوراق : فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخالفة الله عز وجل فتجريان في أي مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه كما تصعد المياه في الأشجار في كلّ غصن منها وإن زاد علوها.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : المالك لكما والمحسن إليكما ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم التي ذكرها وجعل لها في الدنيا أمثالاً كثيرة أم بغيرها ؟.
﴿ فيهما ﴾ أي : الجنتين ﴿ من كل فاكهة ﴾ أي : تعلمونها أو لا تعلمونها ﴿ زوجان ﴾ أي : صنفان ونوعان قيل : معناه أنّ فيهما من كلّ ما يتفكه به ضربين رطباً ويابساً ؛ وقال ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرّة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ ذواتا أفنان ﴾ و﴿ فيهما عينان تجريان ﴾ و﴿ فيهما من كل فاكهة زوجان ﴾ كلها أوصاف للجنتين فما الحكمة في فصل بعضها عن بعض بقوله تعالى ﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ مع أنه تعالى لم يفصل حين ذكر العذاب بين الصفات ؛ بل قال تعالى :﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ﴾ مع أنّ إرسال الشواظ غير إرسال النحاس ؟ أجيب : بأنه تعالى جمع العذاب جملة، وفصل آيات الثواب ترجيحاً لجانب الرحمة على جانب العذاب، وتطييباً للقلب وتهييجاً للسامع فإن إعادة ذكر المحبوب وتطويل الكلام في اللذات مستحسن.
فإن قيل : فما وجه توسط آية العينين بين ذكر الأفنان وآية الفاكهة والفاكهة إنما تكون على الأغصان، والمناسبة ألا يفصل بين آية الأغصان والفاكهة ؟ أجيب : بأنّ ذلك على عادة المتنعمين إذا خرجوا متفرجين في البستان ؛ فأوّل قصدهم الفرجة بالخضرة والماء ثم يكون الأكل تبعاً.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ التي ادخرها الموجد لكما المحسن إليكما ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما فوضه إليكم من سائر النعم التي لا تحصى.
ولما كان التفكه لا يكمل حسنه إلا مع التنعم من طيب الفرش وغيره ؛ قال تعالى مخبراً عن هؤلاء الذين يخافون مقام ربهم ﴿ متكئين ﴾ أي : لهم ما ذكر حال الاتكاء، والعامل في الحال محذوف أي يتنعمون متكئين ﴿ على فرش ﴾ وعظمها بقول تعالى مخاطباً للمكلفين بما يحتمل عقولهم وإلا فليس في الجنة ما يشبهه على الحقيقة شيء من الدنيا ﴿ بطائنها من استبرق ﴾ وهو ما غلظ من الديباج ؛ قال ابن مسعود : وأبو هريرة : إذا كانت البطائن التي تلي الأرض هكذا، فما ظنك بالظهارة ؟.
وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من استبرق فما الظاهر ؟ قال : هذا مما قال الله تعالى ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين ﴾ [ السجدة : ١٧ ] وقال ابن عباس : إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأمّا الظواهر فلا يعلمها إلا الله تعالى ؛ ونظير ذلك في الجنة قوله تعالى :﴿ عرضها السماوات والأرض ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ]
وأمّا الطول فلا يعلمه إلا الله عز وجلّ، لكن قال القرطبي : وفي الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«ظواهرها نور يتلألأ ». وقيل : الظهائر من السندس. وعن الحس البطائن : هي الظواهر وهو قول الفراء. وروي عن قتادة : والعرب تقول للبطن ظهر فيقولون : هذا بطن السماء وظهر الأرض. وقال الفراء : قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة لأنّ كل واحد منهما يكون وجهاً، والعرب تقول هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا : لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا ولي كلّ واحد منهما قوم كالحائط بينك وبين قوم وعلى أديم السماء ؛ وقال ابن عباس : وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ماء الظواهر.
تنبيه : قال الرازي : الاستبرق معرب وهو الديباج الثخين ؛ أي : وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربياً لأن العربي ما نطقت به العرب وضعاً واستعمالاً من لغة غيرها، وذلك كله سهل عليهم وبه يحصل الإعجاز بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم، وذكر الاتكاء لأنه حال الصحيح الفارغ القلب المتنعم البدن بخلاف المريض والمهموم.
﴿ وجنى الجنتين ﴾ أي : ثمرها ﴿ دان ﴾ أي : قريب ؛ قال ابن عباس : تدنو الشجرة حتى يجنيها وليّ الله تعالى إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً وإن شاء مضطجعاً، وقال قتادة : لا يردّ يده بُعْد ولا شوك.
قال الرازي : جنة الآخرة مخالفة لجنة الدنيا من ثلاثة أوجه : أحدها : أنّ الثمرة على رؤوس الشجر في الدنيا بعيدة على الإنسان المتكئ وفي الجنة هو متكئ والثمرة تتدلى إليه ؛ وثانيها : أنّ الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ويتحرك إليها وفي الآخرة هي تدنو إليهم وتدور عليهم ؛ وثالثها أنّ الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمرة شجرة بعد عن غيرها وثمار الجنة كلها تدنوا إليهم في وقت واحد ومكان واحد.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : المربي لكما الذي يقدر على كلّ ما يريده ﴿ تكذبان ﴾ أمن قدرته على عطف الأغصان وتقريب الثمار أم من غيرها ؟.
ولما كان ما ذكر لا تتم نعمته إلا بالنسوان الحسان قال تعالى :﴿ فيهنّ ﴾ أي الجنان التي علم مما مضى أنّ لكلّ فرد من الخائفين منها جنتين، فصح الجمع ؛ وقال الزمخشري فيهنّ في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى، أو في الجنتين لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس ا. ه. قال أبو حيان : وفيه أي : الأوّل بعد لأن الاستعمال أن يقال على الفراش كذا، ولا يقال في الفراش كذا إلا بتكلف ولذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول ذلك ؛ وقيل يعود على الجنتين لأن أقل الجمع اثنان وقال الفراء كل موضع في الجنة جنة فلذلك صح أن يقال فيهنّ ﴿ قاصرات الطرف ﴾ أي : الأعين على أزواجهنّ المتكئين من الأنس والجنّ.
قال الرازي وقوله قاصرات الطرف أي نساء وأزواج فحذف الموصوف لنكتة وهي أنه تعالى لم يذكرهنّ باسم الجنس وهو النساء بل بالصفات، فقال تعالى :﴿ حور عين ﴾ [ الواقعة : ٢٢ ] ﴿ كواعب أترابا ﴾ [ النبأ : ٣٣ ]
﴿ قاصرات الطرف ﴾ ﴿ حور مقصورات ﴾ [ الرحمن : ٧٢ ] ولم يقل : نساء عربا ولا نساء قاصرات لوجهين : أما على عادة العظماء كبنات الملوك إنما يذكرن بأوصافهنّ ؛ وإما لأنهنّ لما كملن كأنهنّ خرجن عن جنسهنّ.
وقوله تعالى :﴿ قاصرات الطرف ﴾ يدلّ على عفتهنّ وعلى حسن المؤمنين في أعينهنّ فيحببن أزواجهنّ حباً شديد يشغلهنّ عن النظر إلى غيرهم. قال ابن زيد : تقول لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد الله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك، ويدلّ أيضاً على الحياء لأن الطرف حركة الجفن والحيية لا تحرّك جفنها ولا ترفع رأسها.
تنبيه : انظر إلى حسن هذا الترتيب فإنه تعالى بين أولاً : المسكن وهو الجنة، ثم بين ما يتنزه به وهو البستان والأعين الجارية، ثم ذكر المأكول فقال تعالى :﴿ فيهما من كل فاكهة ﴾ ثم ذكر موضع الراحة بعد الأكل وهو الفراش، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه.
ولما كان الاختصاص بالشيء من أعظم الملذذات لاسيما المرأة قال تعالى ﴿ لم يطمثهنّ ﴾ أي : لم يجامعهنّ ويتسلط عليهنّ ؛ يقال طمثت المرأة كضرب وفرح حاضت، وطمثها الرجل افتضها، وأيضاً جامعها ﴿ إنس قبلهم ﴾ أي : المتكئين ﴿ ولا جان ﴾ فكأنه قال : هنّ أبكار لم يخالطهنّ أحد فإنّ هذا جمع كلّ من يمكن منه جماع، وفي ذلك دليل على أنّ الجني يغشى كما يغشى الإنسي ويدخل الجنة ويكون لهم فيها جنتان، قال ضمرة : للمؤمنين منهم أزواج من الحور فالإنسيات للإنس والجنيات للجنّ، وقال مقاتل لأنهنّ خلقن في الجنة فعلى قوله يكونون من حور الجنة ؛ وقال الشعبي : من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن خلق وهو قول الكلبي. أي : لم يجامعهنّ في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان ؛ وأمّا في الدنيا فقال مجاهد : إذا جامع الرجل ولم يسمّ ينطوي الجني على إحليله فيجامع معه. وقال القرطبي : لم يطمثهن لم يصبهنّ بالجماع قبل أزواجهنّ أحد، وهذا شامل لنساء الجنة ولنساء الدنيا بعد إنشائهنّ خلقاً جديداً، وقرأ الكسائي : يطمثهنّ بضم الميم في الموضعين بخلاف عنه وتخييراً في أحدهما، وهما لغتان : يقال طمثها يطمثها ويطمثها إذا جامعها.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ المدبر مصالحكما ﴿ تكذبان ﴾ أي : بأي نوع من أنواع هذا الإحسان أم غيره.
﴿ كأنهنّ الياقوت ﴾ أي : صفاء ﴿ والمرجان ﴾ أي : اللؤلؤ بياضاً، والياقوت جوهر نفيس يقال إنّ النار لا تؤثر فيه، والمرجان صغار اللؤلؤ وأشدّه بياضاً ؛ وقيل : شبه لونهنّ ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت لأنّ أحسن الألوان البياض المشرب بحمرة. قال ابن الخازن : والأصح أنه شبههن بالياقوت لصفائه فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استضأته لرأيت السلك من ظاهره لصفائه. قال عمرو بن ميمون : إنّ المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر من الزجاجة البيضاء : يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إنّ المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها »، وذلك لأنّ الله تعالى يقول :﴿ كأنهنّ الياقوت والمرجان ﴾، فأمّا الياقوت : فإنه حجر لو أدخلت فيها سلكاً ثم استضأته لرأيته من ورائه، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر » ؛ زاد في رواية «ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دريّ في السماء إضاءة لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوّطون ؛ آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوّة » أي : بخورهم العود ورشحهم المسك ولكلّ واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب رجل واحد ».
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : المالك الملك المربي ببدائع التربية ﴿ تكذبان ﴾ أبما جعله مثالاً لما ذكر من وصفهنّ أم بغيره ؟.
﴿ هل جزاء الإحسان ﴾ أي : بالطاعة من الإنس والجن وغيرهما ﴿ إلا الإحسان ﴾ أي : بالثواب ؛ وقال ابن عباس : هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة ؛ وعن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾ ثم قال :«أتدرون ما قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : يقول : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة ». وروى الواحدي بغير سند عن ابن عمر وابن عباس : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية :" يقول الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي ".
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ الكريم الرحيم الجامع لأوصاف الكمال ﴿ تكذبان ﴾ أبشيء من هذه النعم الجزيلة أم بغيرها ؟.
﴿ ومن دونهما ﴾ أي : من أدنى مكان ورتبة تحت جنتي هؤلاء المحسنين المقربين ﴿ جنتان ﴾ أي : لكل واحد ممن دون هؤلاء المحسنين من الخائفين، وهم أصحاب اليمين ؛ وقال أبو موسى الأشعري : جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين ؛ وقال ابن جريج هي أربع جنان جنتان للمقرّبين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان ؛ وجنتان : لأصحاب اليمين والتابعين فيهما فاكهة ونخل ورمان. وقال الكسائي ومن دونهما أي أمامهما وقبلهما يدلّ عليه قول الضحاك : الجنتان الأوليان من ذهب وفضة والأخريان من ياقوت ؛ وعلى هذا فهما أفضل من الأوليين ؛ وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقال : ومعنى ﴿ ومن دونهما جنتان ﴾ أي : دون هذا إلى العرش أي : أقرب وأدنى إلى العرش. وقال مقاتل : الجنتان الأوليان جنة عدن، وجنة النعيم، والأخريان الفردوس، وجنة المأوى.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : المحسن بنعمه لجميع خلقه ﴿ تكذبان ﴾ أبشيء مما تفضل به عليكم أم بغيره ؟.
ثم وصف تلك الجنتين بقوله تعالى :﴿ مدهامّتان ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : خضراوان. وقال مجاهد : سوداوان لأنّ الخضرة إذا اشتدت تضرب إلى السواد، وهذا مشاهد بالنظر ولذلك قالوا : سواد العراق لكثرة شجره وزرعه، والأرض إذا اخضرّت غاية الخضرة تضرب إلى سواد ؛ قال الرازي : والتحقيق فيه أنّ ابتداء الألوان هو البياض وانتهاءها هو السواد فإن الأبيض يقبل كل لون والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : المحسن إليكما بالرزق وغيره ﴿ تكذبان ﴾ أبشيء من تلك النعم أم بغيرها.
ثم وصف تلك الجنتين أيضاً بقوله تعالى :﴿ فيهما ﴾ أي : في جنتي كل شخص منهم ﴿ عينان نضاختان ﴾ قال ابن عباس : أي : فوّارتان بالماء، والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح بالحاء المهملة لأنّ النضح بالمهملة الرشح والرش، وبالمعجمة فورانُ الماء وقال مجاهد : المعنى نضاختان بالخير والبركة، وعن ابن مسعود : تنضخ على أولياء الله تعالى بالمسك والكافور والعنبر في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر، وقال سعيد بن جبير بأنواع الفواكه والماء.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ المربي البليغ الحكمة في التربية ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعمة أم بغيرها ؟.
ثم وصف الجنتين أيضاً بقوله تعالى :﴿ فيهما فاكهة ﴾ وخص أشرفها وأكثرها وجداناً في الخريف والشتاء، كما في جنان الدنيا التي جعلت مثالاً لهاتين بقوله تعالى :﴿ ونخل ورمان ﴾ فإن كلاً منهما فاكهة وأدام، فلهذا خصا تشريفاً وتنبيهاً على ما فيهما من التفكه، وأولهما أعمّ نفعاً، وأعجب خلقاً، ولذا قدمه فعطفهما على الفاكهة من باب ذكر الخاص بعد العامّ تفضيلاً له ؛ كقوله تعالى :﴿ وملائكته ورسله وجبريل وميكال ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] وقوله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ].
وقال بعض العلماء : ليس ذلك من الفاكهة. ولهذا قال أبو حنيفة : إذا حلف لا يأكل الفاكهة فأكل رطباً أو رماناً لم يحنث، وخالفه صاحباه. وقال القرطبي : وقيل : إنما كررها لأنّ النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومها وكثرتها عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن فأخرجهما من الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها.
وقيل : أفردا بالذكر لأنّ النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه قال البغوي : وعن ابن عباس قال : نخل الجنة جذوعهما زمرّد أخضر وورقها ذهب أحمر، وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وألين من الزبد ليس له عجم.
وروي أنّ الرمانة من رمان الجنة ملء جلد البعير المقتب ؛ وقيل : إنّ نخل الجنة نضيد، وثمرها كالقلال كلما نزعت عادت مكانها أخرى ؛ العنقود منها اثنا عشر ذراعاً.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي نعم ﴿ ربكما ﴾ المحسن إلى الثقلين بجليل التربية ﴿ تكذبان ﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما أحسن به إليكم ؟.
﴿ فيهنّ ﴾ أي : الجنان الأربع، أو الجنتين وقصورهما ﴿ خيرات حسان ﴾ أي : نساء الواحدة خيرة على معنى ذوات خير، وقيل : خيرات بمعنى خيرات فخفف كهين ولين.
روى الحسن عن أمّه عن أم سلمة : قالت :«قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى :﴿ خيرات حسان ﴾ ؛ قال : خيرات الأخلاق حسان الوجوه ». وقال أبو صالح : لأنهنّ عذارى أبكار ؛ قال الحكيم الترمذي : فالخيرة ما اختارهنّ الله تعالى فأبدع خلقهنّ باختياره، فاختيار الله تعالى لا يشبهه اختيار الآدميين، فوصفهنّ بالحسن فإذا وصف الله تبارك وتعالى خالق الحسن شيئاً بالحسن فانظر ما هناك وقال الرازي : في باطنهنّ الخير وفي ظاهرهنّ الحسن.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ أي : الكامل الإحسان إليكما ﴿ تكذبان ﴾ أبنعمة ما جعل لكم من الفواكه أم غيرها ؟.
ثم زاد في وصفهنّ بقوله تعالى :
﴿ حور ﴾ جمع حوراء وهي الشديدة سواد العين الشديدة بياضها
﴿ مقصورات ﴾ والمقصورات المحبوسات المستورات
﴿ في الخيام ﴾ وهي الحجال، فلسن بالطوّافات في الطرق ؛ قاله ابن عباس، والنساء تمدح بملازمتهنّ البيوت كما قال قيس بن الأسلت :
وتكسل عن جيرانها فيزرنها | وتعتل من إتيانهنّ فتعذر |
ويقال امرأة مقصورة وقصيرة وقصورة بمعنى واحد، قال كثير عزة :
وأنت التي حببت كلّ قصيرة | إليّ ولم يعلم بذاك القصائر |
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد | قصار الخطا شر النساء البحاتر |
والخيام : جمع خيمة، وهي : أربعة أعواد تنصب وتسقف بشيء من نبات الأرض، وجمعها خيم، كتمرة وتمر، وتجمع الخيم على خيام فهو جمع الجمع ؛ وأمّا ما يتخذ من شعر أو وبر أو نحوه فيقال له : خباء، وقد يطلق عليه خيمة تجوّزاً. وقال عمر : الخيمة درة مجوّفة. وقاله ابن عباس قال : وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وفي الحديث :
«أنّ في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها : ستون ميلاً ؛ في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون ». وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي : قال : بلغنا أن سحابة أمطرت من العرش فخلقن أي : الحور العين من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطئ الأنهار سعتها أربعون ميلاً وليس لها باب، حتى إذا دخل وليّ الله تعالى بالخيمة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم وليّ الله أنّ أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصرها الله عن أبصار المخلوقين. وقال مجاهد : معناه قصرن أطرافهنّ وأنفسهنّ على أزواجهنّ فلا يبغين بدلاً. وقال صلى الله عليه وسلم :
«لو أنّ امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ».
فائدة : اختلفوا أيما أكثر حسناً وأتم جمالاً، الحور أم الآدميات ؛ فقيل : الحور لما ذكر في وصفهنّ في القرآن والسنة، ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاة الجنازة :
«وأبدله زوجاً خيراً من زوجه ». وقيل : الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف روي ذلك مرفوعاً. وقيل : إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النبيين والمؤمنين، يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، قاله الحسن البصري، قال ابن عادل : والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، إنما هنّ مخلوقات في الجنة لأنّ الله تعالى قال :
﴿ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ ﴾ وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات ا. ه. لكن مرّ أنه لم يطمثهن بعد إنشائهن خلقاً آخر وعلى هذا لا دليل في ذلك.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ الذي صوركم فأحسن صوركم ﴿ تكذبان ﴾ أبهذه النعم أم بغيرها ؟.
﴿ لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ ﴾ كحور الجنتين الأوليين وضميرهم في قبلهم لأصحاب الجنتين.
﴿ فبأي آلاء ﴾ أي نعم ﴿ ربكما ﴾ الذي جعل لكم في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴿ تكذبان ﴾ أبهذه النعم أم بغيرها.
﴿ متكئين ﴾ أي لهم ما ذكر حالة الاتكاء والعامل في الحال محذوف، أي : ينعمون متكئين ﴿ على رفرف ﴾ أي : ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج لينة ووسائد عظيمة، ورياض باهرة، وبسط لها أطراف فاضلة، وهو جمع رفرفة، لأن الله تعالى وصفه بالجمع بقوله :﴿ خضر ﴾ ووصفه بذلك لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأبهجها، وقال الجوهري : هو ثياب خضر تتخذ منها المحابس الواحدة رفرفة واشتقاقه من رف الطائر أي : ارتفع في الهواء ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطيران ؛ وقيل : الرفرف طرف الفسطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد ؛ وفي الخبر في وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم «فرفع الرفرف، فرأينا وجهه كأنه ورقة »، أي : رفع طرف الفسطاط وقال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول : الرفرف أعظم خطراً من الفرش فذكر في الأولين ﴿ متكئين على فرش بطائنها من استبرق ﴾ وقال هنا :﴿ متكئين على رفرف خضر ﴾ فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به أي طار به حيثما يريد كالمرجاح. وروي في حديث المعراج أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى، جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى سند العرش فذكر أنه قال طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربي. أي : في محل تنزلات رحمة ربي ثم لما جاء الانصراف تناوله فطار به خفضا ورفعاً يهوي به، حتى أداه إلى جبريل عليه السلام ؛ فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور من الدنوّ والقرب ؛ كما أنّ البراق دابة تركبها الأنبياء عليهم السلام مخصوصة بذلك، وهذا الرفرف الذي سخر لأهل الجنتين الدائبتين هو متكؤهما وفرشهما يرفرف بالوليّ على حافات تلك الأنهار حيث يشاء إلى خيام أزواجه.
وقوله تعالى :﴿ وعبقريّ ﴾ منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجنّ فينسبون إليه كل شيء عجب ؛ قال في القاموس : عبقر موضع كثير الجنّ وقرية ثيابها في غاية الحسن، والعبقري الكامل من كل شيء ؛ وقال الخليل : هو كلّ جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم ؛ وقال قطرب ليس هو من المنسوب بل هو بمنزلة كرسي وبختي ا. ه. والمراد به : الجنس، ولذلك قال تعالى :﴿ حسان ﴾ حملاً على المعنى أي هي في غاية من كمال الصنعة وحسن المنظر لا توصف.
﴿ فبأيّ آلاء ﴾ أي : نعم ﴿ ربكما ﴾ المحسن الواحد الذي لا محسن غيره ولا إحسان إلا منه ﴿ تكذبان ﴾ أبشيء من هذه النعم أم بغيرها.
ولما دلّ ما ذكر في هذه السورة من النعم على إحاطة مبدعها بأوصاف الكمال وختم نعم الدنيا بقوله تعالى :﴿ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ﴾ [ الرحمن : ٢٧ ] وفيه إشارة إلى أنّ الباقي هو الله تعالى وأنّ الدنيا فانية ختم نعيم الآخرة بقوله عز من قائل :﴿ تبارك ﴾ قال ابن برّجان : تفاعل من البركة ولا يكاد يذكره جل ذكره إلا عند أمر معجب ا. ه. ومعناه ثبت ثباتاً لا تسع العقول وصفه.
ولما كان تعظيم الاسم أبلغ في تعظيم المسمى قال تعالى :﴿ اسم ربك ﴾ أي : المحسن إليك بإنزال هذا القرآن الذي جبلك على متابعته فصرت مظهراً له وصار خلقاً لك فصار إحسانه إليك فوق الوصف ؛ وقيل : لفظ اسم زائد وجرى عليه الجلال المحلي والأوّل أولى.
﴿ ذي الجلال ﴾ أي : العظمة الباهرة ﴿ والإكرام ﴾ قال القرطبي : كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السورة، فقال :﴿ الرحمن ﴾ فافتتح بهذا الاسم فوصف خلق الإنسان والجنّ، وخلق السماوات والأرض وصنعه ؛ وأنه تعالى كل يوم هو في شان، ووصف تدبيره فيهم ؛ ثم وصف يوم القيامة، وأهوالها، وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنان.
ثم قال في آخر الصفة ﴿ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ﴾ أي : هذا لاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أنّ هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم، وخلقت لكم السماء والأرض والخليقة والجنة والنار فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه فقال تعالى :﴿ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ﴾ أي : جليل في ذاته كريم في أفعاله وقرأ ابن عامر : بالواو رفعاً صفة للاسم والباقون بالياء خفضاً صفة لرب، فإنه هو الموصوف بذلك.