تفسير سورة المرسلات

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً ﴾ الخ، اعلم أن الله تعالى أقسم بصفات خمسة، موصوفها محذوف، فقدره بعضهم الرياح في الكل، وبعضهم قدره الملائكة في الكل، وبعضهم غاير فجعله تارة الرياح وتارة الملائكة، وأما ما ذكره المفسر، فلم يعرج على المفسرون وهو حسن، وحاصل صنيعه: أنه جعل الصفات. الثلاث الأول لموصوف واحد وهو الرياح، والرابعة لموصوف ثان وهو الآيات، والخامسة لموصوف ثالث وهو الملائكة. قوله: (أي الرياح) أي رياح العذاب، ليغاير قوله: ﴿ وٱلنَّاشِرَاتِ ﴾.
قوله: (ونصبه على الحال) أي من الضمير في المرسلات، والمعنى: حال كونها مشابهة لعرف الفرس، من حيث تتابعها وتلاحقها، فالعرف بالضم شعر عنق الفرس، والمعرفة كمرملة موضع العرف من الفرس. قوله: ﴿ فَٱلْعَاصِفَاتِ ﴾ من العطف وهو الشدة، فهو مرتب على قوله: ﴿ ٱلْمُرْسَلاَتِ ﴾ الذي هو ريح العذاب. قوله: (تنشر المطر) أي تفرقه حيث شاء الله تعالى. قوله: (أو الرسل) هذا تفسير ثان للملقيات. قوله: (أي للإعذار) الخ، أشار بذلك إلى أن ﴿ عُذْراً أَوْ نُذْراً ﴾ مفعولان لأجله، والمعلل بهما هو الملقيات، والمراد بالإعذار إزالة أعذار الخلائق، وبالإنذار التخويف. قوله: (وفي قراءة بضم ذال نذراً) أي وهما سبعيتان، وقوله: (وقرئ) هذه القراءة ليعقوب من العشرة، والحاصل أن الضم في ﴿ عُذْراً ﴾ و ﴿ نُذْراً ﴾ على أنهما جمعان لعذير بمعنى المعذرة، ونذير بمعنى الإنذار، أو بمعنى العاذر أو المنذر، والسكون على أنهما مصدران. قوله: ﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ ﴾ الخ، جواب القسم، وما بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي إن الذي توعدونه.
قوله: ﴿ فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ ﴾ النجوم: مرفوعة بفعل محذوف يفسره ما بعده من باب الاشتغال. قوله: (وسيرت) أي بعد التفتيت. قوله: ﴿ أُقِّتَتْ ﴾ أي جعل لهم وقت للقضاء بينهم وبين أممهم، وهو يوم القيامة. قوله: (بالواو) أي على الأصل لأنه من الوقت، وقوله: (وبالهمز) أي لأن الواو لما ضمت قلبت همزة وهما سبعيتان. قوله: ﴿ لأَيِّ يَوْمٍ ﴾ متعلق بأجلت، والجملة مستأنفة أو مقولة لقول محذوف، أي يقال لأي يوم الخ، والقول منصوب على الحال من مرفوع أقتت، وقوله: ﴿ لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ ﴾ بدل من أي يوم بإعادة العامل، والاستفهام للتهويل والتعظيم. قوله: (ويؤخذ منه) أي من قوله: ﴿ لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ ﴾ وقوله: (جواب إذا) أي المحذوف، والتقدير (وقع الفصل). قوله: ﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ ﴾ ﴿ مَآ ﴾ استفهامية مبتدأ، وجملة ﴿ أَدْرَاكَ ﴾ خبرها، والكاف مفعول أول، وقوله: ﴿ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ﴾ جملة من مبتدأ وخبر، سادة مسد المفعول الثاني، والاستفهام الأول للاستبعاد والانكار، والثاني للتعظيم والتهويل. قوله: ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ ﴿ وَيْلٌ ﴾ مبتدأ، سوغ الابتداء به كونه دعاء، و ﴿ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ خبره.
﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ ظرف لويل، وكررت هذه الجملة في هذه السورة عشر مرات، لمزيد الترغيب والترهيب، والمراد بالويل قيل العذاب والخزي، وقيل واد في جهنم فيه ألوان العذاب، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:" عرضت علي جهنم، فلم أر فيها وادياً اعظم من الويل ". وقيل إنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم.
قوله: ﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ الاستفهام تقريري وهو طلب الإقرار بما بعد النفي، والمراد بالأولين الأمم السابقة من أدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كقوم نوح وعاد وثمود، والمراد بالآخرين كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (أي أهلكناهم) أفاد بذلك أن الاستفهام داخل على نفي، ونفي النفي أثبات نظير﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾[الشرح: ١].
قوله: ﴿ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ ﴾ العامة على رفع العين استئنافاً أو معطوفاً على جلمة ﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ وليس معطوفاً على الفعل، والاستفهام مسلط عليه، لأنه يقضي أن المعنى: أهلكنا الأولين، ثم أتبعناهم الآخرين في الهلاك، وليس كذلك، لأن هلاك الآخرين لم يحصل حينئذ، وقرئ شذوذاً بتسكين العين، إما تحفيفاً والجملة مستأنفة أو معطوفة على المجزوم، ويكون المراد بالأولين: قوم نوح وعاد وثمود، وبالآخرين: قوم شعيب ولوط وموسى، وحينئذ فالمراد بالمجرمين، كفار أمة محمد عليه السلام. قوله: (فنهلكهم) أي في الدنيا كوقعة بدر.
قوله: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم ﴾ الخ، هذا تذكير من الله تعالى للكفار، بعظيم إنعامه عليهم، وبقدرته على ابتداء خلقهم، والقادر على الابتداء، قادر على الإعادة، ففيها رد على منكري البعث. قوله: (حريز) أي يحفظ فيه المني من الفساد. قوله: ﴿ إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ أي مقدار معلوم من الوقت، وقدره تعالى للولادة. قوله: ﴿ فَقَدَرْنَا ﴾ بالتخفيف والتشديد قراءتان سبعيتان، فالتشديد من التقدير والتخفيف من القدرة. قوله: (على ذلك) أي الخلق والتصوير. قوله: ﴿ كِفَاتاً ﴾ مفعول ثاني لنجعل. قوله: (مصدر كفت) المناسب أن يقول اسم مكان، لأن كفت من باب ضرب، فمصدره الكفت، فالمعنى: ألم نجعل الأرض موضع كفت؟ أي جمع وضم. قوله: ﴿ أَحْيَآءً وَأَمْوٰتاً ﴾ أي تضمهم في دورهم ومنازلهم في حال الحياة، وتضمهم في بطنها قبورهم حال الموت، ثم هي إما راضية عليه فتضمه ضمة الأم الشفوق، أو غير راضية فتضمه ضمة تختلف بها أضلاعه. قوله: (جبالاً مرتفعات) أي لولاها لتحركت بأهلها. قوله: ﴿ مَّآءً فُرَاتاً ﴾ أي من العيون والأنهار، فتشربون منه أنتم ودوابكم، وتسقون منه زرعكم. قوله: (من العذاب) بيان لما. قوله: ﴿ ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ﴾ توكيد لانطلقوا الأول. قوله: ﴿ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ ﴾ أي فرق شعبة فوق الكافر، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن يساره، ففيه إشارة لعظم الدخان، لأن شأن الدخان العظيم إذا ارتفع يصير ثلاث شعب، وقيل: يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق، ويتشعب من دخانها ثلاث شعب، فتظلهم حتى يفرغ حسابهم، والمؤمنون في ظل العرش. قوله: ﴿ لاَّ ظَلِيلٍ ﴾ صفة لظل، و ﴿ لاَّ ﴾ متوسطة بين الصفة والموصوف لإفادة النفي، وهذا تهكم بهم ورد لما أوهمه لفظ الظل من الراحة. قوله: (كنين) أي ساتر. قوله: ﴿ بِشَرَرٍ ﴾ هكذا براءين من غير ألف بينهما، وهي قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بألف بين الراءين، مع كسر الشين وفتحها، فالشرر جمع شررة، والشرار بكسر الشين جميع شررة أيضاً، كرقبة ورقاب، وبفتح الشين جمع شررة، وهي كل ما تطاير من النار متفرقاً. قوله: ﴿ كَأَنَّهُ ﴾ أي الشرر، فشبهه أولا بالقصر في العظم والكبر، وثانياً بالجمال في اللون والكثرة والتتابع. قوله: (وفي قراءة) أي سبعية أيضاً. قوله: (في هيئتها) الخ، بيان لوجه الشبه. قوله: (لشوب سوادها) أي اختلاطه. قوله: (فقيل) الخ، تفريع على الحديث وصنيع العرب. قوله: (وقيل لا) أي ليس صفر بمعنى سود، بل هو باق على حقيقته. قول: (القار) أي الزفت. قوله: (أي يوم القيامة) أي المدلول عليه بقوله: ﴿ ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ﴾ الخ.
قوله: ﴿ لاَ يَنطِقُونَ ﴾ أي في بعض المواقف، وفي بعضها يتكلمون ويعتذرون، فلا منافاة بين ما هنا وبين قوله:﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ﴾[غافر: ٥٢] ونحوه. قوله: (من غير تسبب عنه) جواب عما يقال: إن العطف بالفاء أو الواو على المنفي، ويقتضي نصب المعطوف، فلم رفع في الآية، وإيضاحه: أن محل نصبه إذا كان متسبباً عن المنفي نحو لا يقضى عليهم فيموتوا، وأما إذا لم يكن متسبباً كما هنا، لأن النفي متوجه للمعطوف والمعطوف عليه، فإنه يرفع. قوله: ﴿ هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ﴾ أي بين المحق والمبطل. قوله: ﴿ وَٱلأَوَّلِينَ ﴾ إما عطف على الكاف في ﴿ جَمَعْنَٰكُمْ ﴾ أو مفعول معه، وهذه الجملة مقولة لقول محذوف أي يقال لهم ﴿ ـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ﴾.
قوله: (حيلة) تسميتها كيداً بهم. قوله: ﴿ فَكِيدُونِ ﴾ أي فاحتالوا لأنفسكم وقاووني فلم تجدوا مفراً.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ الخ، ذكر في سورة﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ ﴾[الإنسان: ١] أحوال الكفار في الآخرة على سبيل الاختصار، واطنب في أحوال المؤمنين، عكس ما فعل هنا، ليحصل التعادل بين السورتين. قوله: (أي تكاثف أشجار) من إضافة الصفة للموصوف. قوله: ﴿ وَعُيُونٍ ﴾ (نابعة من الماء) أي ومن العسل واللبن والخمر، كما في آية القتال. قوله: ﴿ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ راجع للعيون والفواكة. قوله: (بحسب شهواتهم) أي فمتى اشتهوا فاكهة وجدوها حاضرة، فليست فاكهة الجنة مقيدة بوقت دون وقت، كما في أنواع فاكهة الدنيا، قال تعالى:﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾[الرعد: ٣٥].
قوله: (ويقال لهم) أي من قبل الله، أو القائل لهم الملائكة إكراماً لهم. قوله: (كما جزينا المتقين) أي بالظلال والعيون والفواكه نجزي المحسنين. إن قلت: لا مغايرة بين المتقين المحسنين، ففيه تشبيه الشيء بنفسه. والجواب: أن يراد بالمتقين الكاملون في الطاعة، وبالمحسنين من عندهم أصل الإيمان، ويصير المعنى: إن هذا الجزاء كما هو ثابت للكاملين في الطاعة، ثابت لمن كان عنده أصل الإيمان، فالمماثلة في الأوصاف التي ذكرت في تلك الآية، لا في المراتب والدرجات فتدبر. قوله: (ومن الزمان) أي فقليلاً منصوب على الظرفية. قوله: (وغايته إلى الموت) أي فهو مدة العمر، قال بعض العلماء: التمتع في الدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الأذن، والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والأعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.
قوله: ﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ﴾ أي لهؤلاء المجرمين، أي من أي قائل كان. قوله: (صلوا) أي فسميت الصلاة باسم جزئها وهو الركوع، وخص هذا الجزاء لأنه يقال على الخضوع والطاعة. قوله: ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ ﴾ متعلق بيؤمنون، قال الرازي: إنه تعالى بالغ في زجر الكفار من أول السورة إلى آخرها، بهذه الوجوه العشرة المذكورة، وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق، ختم السورة بالتعجب من الكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل العظيمة مع وضوحها، لا يؤمنون بغيرها، قال البوصيري في همزيته: وإذا البينات لهم تغن شيئاً   فالتماس الهدى بهن عناءقوله: (لاشتماله) على الإعجاز) أي فقد ورد: أن معجزات المصطفى، مائة ألف وسبعون ألفاً في القرآن، منها مائة ألف والسبعون من غيره، وهذا التعليل لا ينتج ما قاله المفسر من عدم الإمكان، إذ يجوز أن يؤمنوا بغيره مع عدم إعجازه، ويكذبون بالقرآن المعجز، فلو قال في التعليل: لأن القرآن مصدق للكتب القديمة، موافق لها في أصول الدين، فيلزم من تكذيبه تكذيب غيره من الكتب، لأن ما في غيره موجود فيه، فلا يمكن الإيمان بغيره مع تكذيبه لكان أولى.
Icon