هذا قسم من الله تبارك وتعالى بمكة ( أُم القرى ) في حال كون الساكن فيها حلالاً، لينبّه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها، قال مجاهد :
﴿ لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد ﴾ لا، رد عليهم، أقسم بهذا البلد، وقال ابن عباس :
﴿ لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد ﴾ يعني مكة
﴿ وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد ﴾ قال : أنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به، وقال مجاهد : ما أصبت فيه فهو حلال لك، وقال الحسن البصري : أحلها الله له ساعة من نهار، وهذا المعنى قد ورد به الحديث المتفق على صحته :
« إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب » وفي لفظ آخر :
« فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم »، وقوله تعالى :
﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾ قال ابن عباس : الوالد الذي يلد
﴿ وَمَا وَلَدَ ﴾ العاقر الذي لا يولد له، وقال مجاهد وقتادة والضحّاك : يعني بالوالد آدم
﴿ وَمَا وَلَدَ ﴾ ولده، وهذا الذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حسن قوي، لأنه تعالى لما أقسم بأُم القرى وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن، وهو ( آدم ) أبو البشر وولده، واختار ابن جرير أنه عام في كل ولد وولده وهو محتمل أيضاً، وقوله تعالى :
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ ﴾ روي عن ابن مسعود وابن عباس : يعني منتصباً، زاد ابن عباس : منتصباً في بطن أمه، والكبد : الاستواء والاستقامة، ومعنى هذا القول : لقد خلقناه سوياً مستقيماً، كقوله تعالى :
﴿ الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ ﴾ [ الانفطار : ٧-٨ ]، وكقوله تعالى :
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [ التين : ٤ ] وقال ابن عباس :
﴿ فِي كَبَدٍ ﴾ في شدة خلق، ألم ترى إليه وذكر مولده ونبات أسنانه، وقال مجاهد :
﴿ فِي كَبَدٍ ﴾ نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، يكبد في الخلق، وهو كقوله تعالى :
﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ] فهو يكابد ذلك، وقال سعيد بن جبير :
﴿ فِي كَبَدٍ ﴾ في شدة وطلب معيشة، وقال قتادة : في مشقة، وقال الحسن : يكابد أمر الدنيا وأمر من الآخرة، وفي رواية : يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة، واختبار ابن جرير أن المراد بذلك مكابدة الأمور ومشاقها.
وقال تعالى :
﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾ قال الحسن البصري : يعني يأخذ ماله، وقال قتادة : يظن أن لن يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وأين أنفقه، وقال السدي :
﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾ قال : الله عزَّ وجلَّ يظن أن لن يقدر عليه ربه، وقوله تعالى :
﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً ﴾ أي يقول ابن آدم : أنفقت
﴿ مَالاً لُّبَداً ﴾ أي كثيراً قاله مجاهد والحسن،
﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ قال مجاهد : أي أيحسب أن لم يره الله عزَّ وجلَّ، وكذا قال غيره من السلف، وقوله تعالى :
﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ﴾ أي يبصر بهما
﴿ وَلِسَاناً ﴾ أي ينطق به فيعبر عما في ضميره
﴿ وَشَفَتَيْنِ ﴾ يستعين بهما على الكلام، وأكل الطعام، وجمالاً لوجهه وفمه.
2706
وقد روى الحافظ ابن عساكر عن مكحول قال : قال النبي ﷺ :
« يقول الله تعالى : يا ابن آدم، قد أنعمت عليك نعماً عظاماً، لا تحصي عددها ولا تطيق شكرها، وإن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما، وجعلت لهما غطاء، فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك، وإن رأيت ما حرمت عليك، فأطبق عليهما غطاءهما، وجعلت لك لساناً وجعلت له غلافاً، فانطق بما أمرتك، وأحللت لك فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك، وجعلت لك فرجاً وجعلت لك ستراً، فأصب بفرجك ما احللت لك، فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأرخ عليك سترك، يا ابن آدم إنك لا تحمل سخطي ولا تطيق انتقامي »،
﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ : الطريقين، قال ابن مسعود : الخير والشر، وعن أبي رجاء قال :
« سمعت الحسن يقول :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله علي وسلم كان يقول :» يا أيها الناس إنهما النجدان : نجد الخير، ونجد الشر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير «، وقال ابن عباس :
﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ قال : الثديين، قال ابن جرير : والصواب القول الأول، نظير هذه الآية قوله تعالى :
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٣ ].
2707