عرض إجمالي للسورة :
سورة النحل سورة مكية، وعدد آياتها " ١٢٨ " آية، وهي سورة هادئة الإيقاع، عادية الجرس، ولكنها مليئة حافلة، موضوعاتها الرئيسة كثيرة منوعة، والإطار التي تعرض فيه واسع شامل.
وهي كسائر السور المكية تعالج موضوعات العقيدة الكبرى : الألوهية، والوحي والبعث، ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسة، تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين دين إبراهيم عليه السلام، ودين محمد صلى الله عليه وسلم، وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية فيما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال، وتلم بوظيفة الرسل، وسنة الله في المكذبين لهم، وتلم بموضوع التحليل والتحريم، وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع، وتلم بالهجرة في سبيل الله، وفتنة المسلمين في دينهم، والكفر بعد الإيمان وجزاء هذا كله عند الله ثم تضيف إلى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة : العدل والإحسان، والإنفاق والوفاء بالعهد، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة، وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها.
فأما الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات، والمجال الذي تجرى فيه الأحادث فهو فسيح شامل.. هو السماوات والأرض، والماء الهاطل، والشجر النامي.. والليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم. والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار، وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها، والأخرى بأقدارها ومشاهدها، وهو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق.
في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير، حملة هادئة الإيقاع، ولكنها متعددة الأوتار، ليست في جلجلة سورة الأنعام وسورة الرعد، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري، وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان الحساس إنها تخاطب العين ؛ لترى، والأذن ؛ لتسمع، واللمس ؛ ليستشعر، والوجدان ؛ ليتأثر والعقل ؛ ليتدبر، وتحشد الكون كله : سماءه وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره، وجباله وبحاره، وفجاجه وأنهاره، وظلاله وأكنافه، ونبته وثماره، وحيوانه وطيوره، كما تحشد دنياه وآخرته، وأسراره وغيوبه.. كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب، مختلف الإيقاعات التي لا يغلق أمامها إلا القلب الميت، والعقل المنكوس، والحس المطموس.
هذه الإيقاعات تتناول التوجيه إلى آيات الله في الكون وآلائه على الناس، كما تتناول مشاهد القيامة، وصور الاحتضار ومصارع الغابرين، تصاحبها اللمسات الوجدانية التي تتسرب إلى أسرار الأنفس، وإلى أحوال البشر وهم أجنة في البطون، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة، وهم في حالات الضعف والقوة، وهم في أحوال النعمة والنقمة، كذلك تتخذ السورة الأمثال، والمشاهد، والحوار، والقصص الخفيفة، أدوات للعرض والإيضاح.
فأما الظلال العميقة التي تلون جو السورة كله، فهي : الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخلق، وعظمة النعمة، وعظمة العلم والتدبير.. كلها متداخلة، فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر لا تلبي ضروراتهم وحدها، ولكن تلبي أشواقهم كذلك، فتسد الضرورة، وتتخذ للزينة، وترتاح بها أبدانهم وتستريح لها نفوسهم، لعلهم يشكرون، ومن ثم تتراءى في السورة ظلال النعمة، وظلال الشكر، والتوجيهات إليها ؛ والتعقيب بها في مقاطع السورة وتضرب عليها الأمثال، ونعرض لها النماذج وأظهرها نموذج إبراهيم.
﴿ شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ﴾. ( النحل : ١٢١ ).
كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والأفكار، والعبارات والإيقاعات، والقضايا والموضوعات نرجو أن نشاهده في أثناء استعراضنا لأجزاء السورة.
التوحيد في السورة
تبدأ سورة النحل بآية مشهورة تقال كثيرا عندما يحين الأجل ويقف الإنسان عاجزا أمام حوادث القدر، يقول سبحانه :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾. ( النحل : ١ ).
ومن أسباب نزول هذه الآية : أن أهل مكة كانوا يستعجلون الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. وكلما امتد بهم الأجل ولم ينزل العذاب ؛ زادوا استعجالا، وزادوا استهزاء واستهتارا، وحسبوا أن محمدا يخوفهم بما لا وجود له ولا حقيقة ؛ ليؤمنوا له ويستسلموا، ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم ورحمته في إنظارهم ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون، وآياته في القرآن.
نعم الله
تسترسل الآيات في سورة النحل تستعرض نعم الله سبحانه على الإنسان ؛ فتذكر خلق السماوات والأرض والإنسان، والأنعام والنبات، والليل والنهار، والجبال والبحار، والشمس والقمر والنجوم، وهي ظواهر طبيعية ملموسة ولكننا إذا قرأنا الآيات من ٣ إلى١٨ في سورة النحل نجد أننا أمام لوحة كونية معروضة تنتقل بالإنسان من مشهد إلى آخر وكل مشهد يدل على وحدانية الخالق، ووحدانية المنعم. وتعرض الآيات هذه النعم فوجا فوجا ومجموعة مجموعة بادئة بخلق السماوات والأرض فيقول سبحانه :﴿ خلق السماوات والأرض بالحق ﴾. ( النحل : ٣ ).
فالحق قوام خلقهما والحق قوام تدبيرهما، والحق عنصر أصيل في تصريفهما وتصريف من فيهما وما فيهما ؛ فما من شيء من ذلك كله عبث ولا جزاف، إنما كل شيء قائم على الحق وملتبس به وسائر في النهاية إليه.
ثم تستعرض الآيات نعمة خلق الأنعام، والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة العربية كانت هي : الإبل، والبقر، والضأن، والمعز. وقد أباح الله أكلها أما الخيل، والبغال، والحمير ؛ فللركوب والزينة ولا تؤكل، ثم يجيء التعقيب على هذه النعمة يقول سبحانه :﴿ ويخلق ما لا تعلمون ﴾. ( النحل : ٨ ).
ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة. إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها ومقدرات الحياة كلها، ومن ثم يهيئ القرآن الأذهان لاستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة ويتمخض عنه العلم، ويتمخض عنه المستقبل، استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة.
ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة، لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان، والقرآن يهيئ القلوب والأذهان بلا جمود ولا تحجر حين يقول :﴿ ويخلق مالا تعلمون ﴾.
والفوج الثاني من آيات الخلق والنعمة، هو :
إنزال الماء وإنبات النبات والمرعى والزروع التي يأكل منها الإنسان مع الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من أشجار الثمار.
والفوج الثالث من أفواج الآيات :
تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، وكلها ذات أثر حاسم في حياة الإنسان ومن شاء فليتصور نهارا بلا ليل أو ليلا بلا نهار، ثم يتصور مع هذا حياة الإنسان والحيوان والنبات في هذه الأرض كيف تكون، كل أولئك طرف من حكمة التدبير، وتناسق النواميس في الكون كله. يدركه أصحاب العقول التي تتدبر وتعقل :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾. ( النحل : ١٢ ).
والفوج الرابع من أفواج النعمة فيما خلق الله للإنسان :﴿ وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ﴾. ( النحل : ١٣ ).
امتن الله على عباده بما خلق لهم في الأرض من ألوان المنافع، وبما أودعه فيها للبشر من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم في بعض الجهات وفي بعض الأزمان ولفت أنظارهم إلى هذه الذخائر المخبوءة في الأرض، المودوعة للناس حتى يبلغوا رشدهم يوما بعد يوم، ويستخرجوا كنوزهم في حينها ووقت الحاجة إليها، وكما قيل : إن كنزا منها قد نفذ أعقبه كنز آخر غنى، من رزق الله المدخر للعباد قال تعالى :﴿ إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ﴾.
ثم امتن سبحانه على عباده بالبحر المالح وما يشتمل عليه من صنوف النعم ؛ فمنها : اللحم الطري من السمك وغيره للطعام، وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان وغيرها من الأصداف والقواقع.
ومنها : مرور السفن تمخر عباب البحر، وتيسر المصالح وتبادل المنافع بين الناس قال تعالى :﴿ وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ﴾. ( النحل : ١٤ ).
وعندما ينتهي استعراض النعم يبين القرآن : أن من يخلق ليس كمن لا يخلق وأن نعم الله على الإنسان لا تعد ولا تحصى.
﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾. ( النحل : ١٨ ).
وحدة الألوهية
تتعرض الآيات من ٢٢ إلى٥٠ في سورة النحل، لتقرير وحدة الألوهية فيقول سبحانه :﴿ وإلهكم إله واحد ﴾.
وكل ما سبق في السورة من آيات الخلق وآيات النعمة وآيات العلم يؤدي إلى هذه الحقيقة الكبيرة البارزة وهي : أن هذا الكون البديع المنظم لا يحفظ نظامه إلا إله واحد والذين لا يسلمون بهذه الحقيقة ؛ قلوبهم منكرة ؛ فالجحود صفة كامنة فيها، والعلة أصيلة في نفوسهم المريضة، وطباعهم المعاندة المتكبرة عن الإقرار الإذعان والتسليم.
وتختم هذه الآيات بمشهد مؤثر ؛ مشهد الظلال في الأرض كلها ساجدة لله ومعها ما في السماوات وما في الأرض من دابة، والملائكة قد برئت نفوسهم من الاستكبار وامتلأت بالخوف من الله والطاعة لأمره بلا جدال. هذا المشهد الخاشع الطائع يقابل صورة المستكبرين المتكبرة قلوبهم في مفتتح هذه المجموعة من الآيات.
وبين المطلع والختام يستعرض السياق مقولات أولئك المستكبرين المنكرين للوحي والقرآن ؛ إذ يزعمون : أنه أساطير الأولين، ومقولاتهم عن أسباب شركهم بالله وتحريمهم ما لم يحرمه الله ؛ إذ يدعون : أن الله أراد منهم الشر وارتضاه. ومقولاتهم عن البعث والقيامة ؛ إذ يقسمون جهدهم : لا يبعث الله من يموت، ويتولى الرد على مقولاتهم جميعا، ويعرض في ذلك مشاهد احتضارهم ومشاهد بعثهم وفيها يتبرءون من تلك المقولات الباطلة كما يعرض بعض مصارع الغابرين من المكذبين أمثالهم ويخوفهم أخذ الله في ساعة من ليل أو نهار وهم لا يشعرون وهم في تقلبهم في البلاد، أو وهم على تخوف وتوقع وانتظار للعذاب.
إلى جوار هذا يعرض صورا عن مقولات المتقين المؤمنين وما ينتظرهم عند الاحتضار ويوم البعث من طيب الجزاء... وينتهي هذا الدرس بذلك المشهد الخاشع الطائع للظلال والدواب والملائكة في الأرض والسماء والسياق القرآني يعبر عن خضوع الأشياء لنواميس الله بالسجود وهو أقصى مظاهر الخضوع ويوجه إلى حركة الظلال المتفيئة أي : الراجعة بعد امتداد وهي حركة لطيفة خفيفة ذات دبيب في المشاعر والأعماق، ويرسم المخلوقات داخرة أي : خاضعة خاشعة ويضم إليها ما في السماوات وما في الأرض من دابة ويضيف إلى الحشد الكوني.. الملائكة في مقام خشوع وخضوع وعبادة وسجود، قال تعالى :﴿ ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون*يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾. ( النحل : ٥٠، ٤٩ ).
أدلة الوحدانية
تستمر الآيات من ٥١ إلى٧٦ في سورة النحل في إثبات قضية الألوهية الواحدة التي لا تتعدد، تبدأ فتق
ﰡ
﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون١ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون٢ ﴾.
المفردات :
أتى أمر الله : قرب ودنا، وهذا وعيد للمشركين.
أمر الله : العذاب والهلاك لهؤلاء المشركين.
تمهيد :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخوّف المشركين بعذاب الدنيا تارة، وبعذاب الآخرة تارة، ثم إنهم لما لم يشاهدوا ذلك ؛احتجوا وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا : أين العذاب الذي وعدتنا بوقوعه ؟ ! وقد حكى القرآن ذلك عنهم فقال :﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾. ( العنكبوت : ٥٣ ).
وقال سبحانه :﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾. ( يونس : ٤٨ ).
وقد حكى القرآن عنهم قولهم :﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾. ( الأنفال : ٣٢ ).
وقد بين القرآن : أن لله نواميس وسننا في إنزال العذاب بالناس، وفي تأجيل عقوبتهم إلى حين، قال تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ﴾. ( النحل : ٦١ ).
جاء في كتب التفسير ما يأتي :
روى : أنه لما نزل قوله تعالى :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾. ( القمر : ١ ).
قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم : أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون ؛ حتى ننظر ما هو كائن فلما تأخرت ؛ قالوا ما نرى شيئا مما تخوّفنا به ؛ فنزل قوله تعالى :﴿ اقترب للناس حسابهم ﴾. ( الأنبياء : ١ ) ؛ فأشفقوا وانتظروا يومها، فلما امتدت الأيام ؛ قالوا : يا محمد، ما نرى شيئا مما تخوفنا به ؛ فنزل قوله تعالى :﴿ أتى أمر الله ﴾ ؛ فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع الناس رءوسهم، فنزل قوله تعالى :﴿ فلا تستعجلوه ﴾.
والحاصل : أنه عليه السلام لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، ولم يروا شيئا نسبوه إلى الكذب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ﴾١.
التفسير :
١﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه... ﴾.
أي : قرب عذاب المشركين وهلاكهم، أما إتيانه بالفعل وتحققه فمنوط بحكم الله النافذ، وقضائه الغالب على كل شيء، فهو يأتي في الحين الذي قدره وقضاه.
ومعنى قوله :﴿ فلا تستعجلوه ﴾، لا تطلبوا حصوله قبل حضور الوقت المقدر في علمه تعالى ؛ فلله سنن ونواميس في إنزال العذاب، وهو سبحانه لا يعجل لعجلة العباد، وكل شيء عنده بمقدار.
﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾.
ادعوا : أن عبادتهم الأصنام لتشفع لهم عند الله ؛ حتى يتخلصوا من هذا العذاب المتوقع ؛ فأجاب القرآن عن هذه الشبهة، بتنزيه الله عن شركة الشركاء والأنداد.
قال الفخر الرازي :
﴿ عما يشركون ﴾. يجوز أن تكون ما مصدرية، والتقدير : سبحانه وتعالى عن شركهم، ويجوز أن تكون بمعنى : الذي، أي : سبحانه وتعالى عن هذه الأصنام، التي جعلوها شركاء لله ؛ لأنها جمادات خسيسة فأي مناسبة بينها وبين خالق الكائنات، ومدبر الأرض والسماوات ؟ !.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخوّف المشركين بعذاب الدنيا تارة، وبعذاب الآخرة تارة، ثم إنهم لما لم يشاهدوا ذلك ؛احتجوا وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا : أين العذاب الذي وعدتنا بوقوعه ؟ ! وقد حكى القرآن ذلك عنهم فقال :﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾. ( العنكبوت : ٥٣ ).
وقال سبحانه :﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾. ( يونس : ٤٨ ).
وقد حكى القرآن عنهم قولهم :﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾. ( الأنفال : ٣٢ ).
وقد بين القرآن : أن لله نواميس وسننا في إنزال العذاب بالناس، وفي تأجيل عقوبتهم إلى حين، قال تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ﴾. ( النحل : ٦١ ).
جاء في كتب التفسير ما يأتي :
روى : أنه لما نزل قوله تعالى :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾. ( القمر : ١ ).
قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم : أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون ؛ حتى ننظر ما هو كائن فلما تأخرت ؛ قالوا ما نرى شيئا مما تخوّفنا به ؛ فنزل قوله تعالى :﴿ اقترب للناس حسابهم ﴾. ( الأنبياء : ١ ) ؛ فأشفقوا وانتظروا يومها، فلما امتدت الأيام ؛ قالوا : يا محمد، ما نرى شيئا مما تخوفنا به ؛ فنزل قوله تعالى :﴿ أتى أمر الله ﴾ ؛ فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع الناس رءوسهم، فنزل قوله تعالى :﴿ فلا تستعجلوه ﴾.
والحاصل : أنه عليه السلام لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، ولم يروا شيئا نسبوه إلى الكذب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ﴾١.
المفردات :
الروح : الوحي والرحمة.
من أمره : بأمره ومن أجله.
على من يشاء من عباده : الذين اصطفاهم للرسالة.
أن أنذروا : أي : خوفوا عبادي سطوتي وعقوبتي لهم على كفرهم.
أنه لا إله إلا أنا : لا إله إلا هو سبحانه، ولا تصلح الألوهية إلا له.
فاتقون : أي خافوا عقابي ؛ لمخالفة أمري وعبادتي غيري.
التفسير :
﴿ ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ﴾.
سبحانه وتعالى ينزل الملائكة بالوحي والقرآن، وهو روح القلوب وحياتها، ينزل هذا الوحي بأمره وإرادته، على من يصطفيهم من الأنبياء والمرسلين، وهو سبحانه يختارهم بمعرفته وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
﴿ أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ﴾.
أي : أنذروا عبادي : أن إله الخلق واحد لا إله إلا هو، وأنه لا ينبغي الألوهية إلا له، ولا يصح أن يعبد شيء سواه، فاحذروه وأخلصوا له العبادة.
ويطلق الروح على جبريل عليه السلام، وهو أمين الوحي، ويطلق أيضا على القرآن الكريم. قال تعالى :﴿ نزل به الروح الأمين*على قلبك لتكون من المنذرين ﴾( الشعراء : ١٩٤، ١٩٣ ).
وقال عز شأنه :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ﴾ ( الشورى : ٥٢ ).
وفي الآية إشارة إلى أن الوحي من الله تعالى إلى أنبيائه، لا يكون إلا بواسطة الملائكة، وفي آخر سورة البقرة آيتان من قرأهما في ليلة ؛ كفتاه، أي : كانتا له كفاية وحفظا من كل سوء، وفيهما يبدأ الإيمان بالله، ثم بالملائكة الذين يحملون وحي السماء، ثم بالكتب المنزلة من الله، كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ثم بالرسل الذين نزلت عليهم هذه الكتب.
قال تعالى :﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير*لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ﴾ ( البقرة : ٢٨٥، ٢٨٦ ).
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
التفسير :
﴿ خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ﴾.
تبتدئ هذه الآيات بذكر : أدلة القدرة، وقد بدئت بذكر الأشرف فالأشرف، ذكر هنا السماوات، ثم ثنى بالإنسان، ثم ثلث بأحوال الحيوان، ثم ربع بذكر أحوال النبات.. الخ.
ومعنى الآية :
خلق الله السماوات وما فيها من أفلاك وأبراج، وخلق الأرض وما عليها من جبال وأنهار ونبات وفجاج...
﴿ بالحق ﴾. أي : على نهج تقتضيه الحكمة ولم يخلقها عبثا، وقد أوجدهما على أقدار وصور وأوضاع، وخواص مختلفة قدرها بحكمته، ولم يشركه في إنشائها وإحداثها شريك، ولم يعنه على ذلك معين.
﴿ تعالى عما يشركون ﴾.
تنزه سبحانه وتعالى عما يشركون معه في الملك ؛ إذ ليس في قدرة أحد سواه أن ينشئ السماوات والأرض، فلا تليق العبادة إلا له.
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
المفردات :
من نطفة : أصل النطفة : الماء القليل، والمراد بها هنا : مادة التلقيح، أي : ماء الرجل عند اختلاطه بماء المرأة.
خصيم : أي : مخاصم مجادل، قال الطبري :﴿ خصيم مبين ﴾ : يبين عن خصومته بمنطقه، ويجادل بلسانه، وعنى بالإنسان هنا : جميع الناس.
ومنافع : مركب ولبن لحم، والحرث بها، وحملها الماء، ونحو ذلك.
﴿ خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ﴾.
خلق الإنسان من نطفة، أي : من ماء مهين، خلقا عجبا في أطوار مختلفة، ثم أخرجه إلى ضياء الدنيا، وجعل له السمع والبصر والقوة والإدراك والعقل، وتدرج من الضعف إلى الشباب والقوة، ومن القوة إلى الضعف والشيخوخة ؛ حتى يتأمل في خلقه، ويستدل بذلك على قدرة الخالق المبدع، القادر على إعادته عند البعث للحساب والجزاء.
بيد أن الإنسان المخلوق يكابر ويجادل، ويقول :﴿ من يحي العظام وهي رميم ﴾( يس : ٧٨ ).
﴿ فإذا هو خصيم مبين ﴾.
إذا به مخاصم عنيف ينكر وجود خالقه، ويكذب رسله، ويعمل على صدّ الناس عن إتباعهم، وروح الآية تشير إلى موقف كفار مكة، وإنكارهم للبعث، وترشدهم إلى أن الإيمان بالله هو الذي ينقّي أرواحهم، ويرشدها إلى حكمة الحكيم، وإلى قدرة الخالق العظيم، سبحانه وتعالى.
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
المفردات :
الأنعام : هي : الإبل والغنم والبقر، ولا يقال لها : أنعام إلا إذا كان معها الإبل.
دفء : ما يستدفأ به من الأكسية.
التفسير :
﴿ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ﴾.
امتن الله على عباده بما خلق من الحيوانات، وفي سورة الأنعام ذكر سبحانه : ثمانية أزواج، هي الإبل، والبقر، والغنم، والمعز.
من الإبل اثنين هما : الجمل، والناقة.
ومن البقر اثنين هما : الثور، والبقر.
ومن الغنم اثنين هما : الكبش والشاة.
ومن المعز اثنين هما : التيس، والمعز.
والإنسان يستفيد بأصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها، ويتخذ منها أكسية تدفئه وتستر عورته، وينتفع بلحومها وألبانها، ويستفيد بها في حرث الأرض وسقيها، ويأكل من لحومها.
وانتصب الأنعام بفعل مقدر يفسره المذكور بعده، أي : وخلق الأنعام خلقها لكم.
ومعنى الآية : ومن مظاهر قدرته ونعمه عليكم : أن خلق لكم الأنعام، وجعل لكم فيها ما تستدفئون به من الثياب المأخوذة من أصوافها وأوبارها وأشعارها، فتقيكم برودة الجو، وجعل لكم فيها منافع متعددة ؛ بالبيع والاستفادة بألبانها ولحومها وزينتها، وسائر المنافع الأخرى، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ﴾( المؤمنون : ٢١ ).
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
المفردات :
جمال : زينة في أعين الناس، وعظمة لديهم.
حين تريحون : حين تردونها بالعشي من مسارحها، إلى مراحلها ومباركها التي تأوي إليها.
وحين تسرحون : أي : حين تخرجونها بالغداة إلى مسارحها ومراعيها.
التفسير :
﴿ ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ﴾.
للأنعام فوائد أساسية، وهي : الأكل، والدفء، وشرب اللبن، والاستفادة بها في السقي والحرث، وغير ذلك من المنافع، وهناك منافع فرعية هي : جمال هذه الحيوانات، حين تعود من مراعيها، وقد امتلأت ضروعها باللبن، وامتلأت بطونها بالطعام، وتحركت في منظر جميل مع رعاتها، وكذلك في الصباح حين تذهب إلى مسارحها ومراعيها، وقدم الرواح في العشي على التحرك إلى المسارح في الصباح لأنها تعود وهي في قمة جمالها حين تمتلئ بطونها بالطعام، وضروعها باللبن، وفي الصباح تذهب خاوية البطون، خاوية الضروع.
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
المفردات :
الأثقال : واحدها : ثقل وهو متاع المسافر.
شق الأنفس : مشقتها وتعبها.
التفسير :
﴿ وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم ﴾.
أي : وتحمل أحمالكم الثقيلة، وأمتعتكم التي تعجزون عن حملها، إلى بلد بعيد لم تكونوا ؛ لتصلوا إليه بدونها، إلا بعد تعب شديد وجهد مضن.
﴿ إن ربكم لرءوف رحيم ﴾. أي : ربكم لعظيم الرأفة والرحمة بكم ؛ حيث لم يترككم تحملون أثقالكم بأنفسكم، وتقطعون المسافات الطويلة على أرجلكم، بل أوجد هذه الأنعام ؛ لمنافعكم ومصالحكم.
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
﴿ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون ﴾.
أي : وخلق الخيل والبغال والحمير، للحمل والركوب، وهي كذلك زينة وجمال٢.
جاء في حاشية الجمل :
والخيل : اسم جنس لا واحد له من لفظه، بل من معناه، وهو فرس، وسميت خيلا ؛ لاختيالها في مشيتها، والبغال : جمع بغل وهو المتولد بين الخيل والحمير.
والزينة : اسم لما يتزين به الإنسان، والله تعالى يمتن على عباده بهذه النعمة، فالجمال المتمثل في الزينة عنصر له قيمة وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات، من طعام وشراب وركوب، بل تلبية الأشواق الزائدة عن الضرورات، تلبية حاسة الجمال، ووجدان الفرح، والشعور الإنساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان.
قال القرطبي في تفسيره :
هذا الجمال والتزين وإن كان من متاع الدنيا، إلا أن الله تعالى، أذن به لعباده، ففي الحديث الشريف :( الإبل عز لأهلها، والغنم بركة، والخيل في نواصيها الخير )٣. أخرجه البرقاني، وابن ماجة في السنن.
﴿ ويخلق مالا تعلمون ﴾. أي : من وسائل المواصلات والحمل والركوب، ما لم يكن يعلمه السابقون، وسيخلق أشياء لا نعلمها نحن، وقد وجدت بعد نزول هذه الآية الغواصات التي تمخر عباب الماء، والأساطيل البحرية للصيد والسياحة والحرب، ووجدت السيارات والدبابات والمدرعات، والناقلات العملاقة، والقاطرات والطائرات وغيرها، والقرآن بذلك يهيئ القلوب والأذهان للاستفادة من كل جديد. واستغلال التقدم العلمي، ووسائل التقنية والاختراع، وتحديث العقل والعلم والصناعة والزراعة ؛ حتى تظل الأمة قوية عزيزة الجانب، قال تعالى :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ ( الأنفال : ٦٠ ).
والقوة تقدر في كل زمان بقدرها، كانت القوة في الرمي، وتطورت إلى استخدام المدفع والدبابة والقناصة والطائرة والبارجة، ولا يتم النصر إلا بتطور السلام ؛ ليكون في قوة سلاح الخصم أو يزيد، ومن قواعد أصول الفقه : مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وحتى لا يقول بعض الناس : إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير، فلا نستخدم سواها، وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها ؛ فإن القرآن الكريم قد هيأ الأذهان والقلوب، للاستفادة من كل نافع ومفيد حين قال :﴿ ويخلق مالا تعلمون ﴾٤.
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
المفردات :
وعلى الله قصد السبيل : أي : وعليه السبيل القصد، أي : المعتدل، فإن قصد، يقصد، قصدا، أي : استقام واعتدل، ومنه الاقتصاد، أي : الاعتدال والتوسط، جاء في تفسير المراغي : يقال : سبيل قصد وقاصد، إذا أدّاك إلى مطلوبك.
ومنها جائر : أي : ومن السبل مائل عن المحجّة، منحرف عن الحق.
تسيمون : ترعون ماشيتكم.
﴿ وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ﴾.
القصد : الاستقامة، والسبيل : الطريق، وقصد السبيل على تقدير مضاف، أي : وعلى الله بيان : الطريق المستقيم، وهو طريق الإسلام.
وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ؛ فالله سبحانه بحكمته العالية، بين للناس : الطريق المستقيم، وهو طريق الهدى وطاعة الرحمان، وإتباع الإسلام، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ومن السبل والطرق طرق جائرة مائلة عن الاستقامة منحرفة عن الجادة، وهي كل طريق تخالف ما جاء به خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم من عقائد وشرائع وآداب، فالطريق القصد المستقيم، يوصل إلى الإسلام، والطريق الجائر المنحرف، يوصل إلى الكفر والضلال، وفي هذا المعنى قال تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾( الأنعام : ١٥٣ ).
﴿ ولو شاء لهداكم أجمعين ﴾. لو أراد الله تعالى أن يهديكم جميعا إلى الإسلام لهداكم، أي : لأجبركم على الهدى كالملائكة، وهم عباد مكرمون، ﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ ( التحريم : ٦ ).
لكنه أراد سبحانه أن يخلق للإنسان العقل والإرادة والاختيار، وحرية الفكر والتصرف، فمن اختار طريق الهدى ؛ أعانه عليه، ويسره له، وأمدّه بالمعونة والتوفيق، ومن اختار طريق الضلال والانحراف، وآثر الهوى على الهدى ؛ تركه الله ضالا متحيرا، وبذلك تكون هناك عدالة الجزاء يوم القيامة، قال تعالى :﴿ فأما من طغى*وآثر الحياة الدنيا*فإن الجحيم هي المأوى*وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى*فإن الجنة هي المأوى ﴾ ( النازعات : ٣٧ ٤١ ).
وقال عز شأنه :﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا... ﴾ ( يونس : ٩٩ ).
وقال عز شأنه :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين* إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم... ﴾( هود : ١١٩، ١١٨ ).
وقال تعالى :﴿ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا*إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ﴾( الإنسان : ٣، ٢ ).
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
المفردات :
ذرأ : خلق، يقال : ذرأ يذرأ.
ألوانه : أصنافه.
التفسير :
﴿ هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ﴾.
تستمر هذه الآيات في بيان : نعم الله تعالى على عباده، أي : إن الذي أنعم عليكم بالنعم السابقة، وسخر لكم الأنعام والخيل وسائر البهائم لمنافعكم، هو الذي أنزل المطر من السماء عذبا زلالا تشربون منه، وتسقون أشجاركم وزروعكم، التي تسيمون فيها أنعامكم، وفيها ترعى حيواناتكم وماشيتكم.
قال الفخر الرازي :
والحاصل : أن ماء المطر قسمان :
أحدهما : هو الذي جعله الله شرابا لنا ولكل حيّ، والمراد بقوله :﴿ لكم منه شراب ﴾. وقد بين الله تعالى في آية أخرى : أن هذه النعمة جليلة فقال :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴾( الأنبياء : ٣٠ ).
والقسم الثاني : من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سببا لتكوين النبات، وإليه الإشارة بقوله :﴿ ومنه شجر فيه تسيمون ﴾. والمراد من الشجر : الكلأ والعشب.
قال الزجاج : كل ما نبت على الأرض فهو شجر، وقال ابن قتيبة في هذه الآية، المراد من الشجر : الكلأ، وقيل : إن الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار. اه.
ويمكن أن يطلق الشجر على الأشجار والنباتات، وأتى سبحانه بلفظ في المفيدة للظرفية، في قوله تعالى :﴿ فيه تسيمون ﴾ ؛ للإشارة إلى أن الرعي في هذا الشجر، قد يكون عن طريق أكل ما تحته من الأعشاب والمرعى.
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
﴿ ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات ﴾.
أي : ينبت لكم بماء المطر الزرع. كالقمح والشعير، والذرة والفول والعدس، وغير ذلك من الأغذية.
﴿ والزيتون ﴾. الذي تستعملونه إداما في أغذيتكم.
﴿ والنخيل ﴾. الذي يخرج التمر بأنواعه، ﴿ والأعناب ﴾. التي تتلذذون بها، وفي العنب غذاء وفاكهة وتنعم.
﴿ ومن كل الثمرات ﴾. التي تشتهونها وتنتفعون بها، والتي تختلف في أنواعها، وفي مذاقها، وفي روائحها، وفي ألوانها، مع أن الماء الذي سقيت به واحد، والأرض التي تنبت فيها متجاورة.
﴿ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ﴾.
أي : إن فيما ذكر من إنزال الماء، وإنبات أصناف الزروع والنخيل، والأعناب والثمرات، على اختلاف أنواعها وألوانها وأحجامها، لدلائل على قدرة إله قادر، قد أكمل نظام هذا الكون، وسخر الشمس والقمر والليل والنهار، والهواء والتراب والماء ؛ حتى يتكامل نظام الكون، ويتيسر لهذا النبات النمو والنضج، وإفادة الإنسان والحيوان.
فمن فكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض، وتصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أسفلها، فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض، ويخرج منها ساق ينمو، وتخرج فيه الأوراق والأزهار، والحبوب والثمار المختلفة الأشكال، والألوان والخواص ؛ علم أن من هذه آثاره ؛ لا يمكن أن يشبهه شيء في صفات كماله، فضلا عن أن يشاركه في أخص صفاته، وهي الألوهية واستحقاق العبادة٥.
وقد امتن الله سبحانه وتعالى بنعمة إنبات النبات ونموه، وإحيائه الأرض بعد موتها، وتفضله على الإنسان بإنزال الماء، وإنبات الزروع والثمار، متاعا للإنسان والحيوان، في كثير من الآيات.
قال تعالى :﴿ فلينظر الإنسان إلى طعامه*أنا صببنا الماء صبا*ثم شققنا الأرض شقا*فأنبتنا فيها حبا*وعنبا وقضبا*وزيتونا ونخلا*وحدائق غلبا*وفاكهة وأبا*متاعا لكم ولأنعامكم ﴾. ( عبس : ٢٤ ٣٢ ).
وقال تعالى :﴿ أمّن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون ﴾. ( النمل : ٦٠ ).
وقال سبحانه :﴿ وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾. ( الرعد : ٤ ).
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
﴿ وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾.
لقد سخر الله للإنسان هذا الكون كله، ويسر له الانتفاع بكل ما فيه، فالليل من أجل النوم والراحة، والنهار من أجل السعي والعمل، والشمس تمدّ الكون بالطاقة، والقمر ينير الليل ويبدد ظلمته، والنجوم مسخرات بأمر الله وإرادته، فهي زينة للسماء، وهداية للسائرين بالليل، ورجوما للشياطين، فمن تفكر بعقله ؛ أدرك أن وراء هذا الكون البديع، يدا حانية تمسك بنظامه، وتحفظ توازنه.
قال الشوكاني في فتح القدير :
تسخير الشمس والقمر، تصييرهما نافعين لهم، بحسب ما تقتضيه مصالحهم، يتعاقبان دائما، كالعبد الطائع لسيده لا يخالف ما يأمره به، ولا يهمل السعي في نفعه، ﴿ إن في ذلك ﴾ التسخير﴿ لآيات لقوم يعقلون ﴾، أي : يعملون عقولهم في هذه الآثار الدالة على وجود الصانع وتفرده، وعدم وجود شريك له. اه.
وقد قرأ ابن عامر :﴿ والشمس والقمر والنجوم ﴾، كلها بالرفع على الابتداء والخبر هو قوله :﴿ مسخرات ﴾، وقرأ حفص عن عاصم :﴿ والنجوم ﴾ بالرفع على الابتداء وقد قرأ جمهور القراء، ﴿ الليل والنهار والشمس والقمر ﴾، بالنصب على المفعولية لفعل سخّر٦.
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
المفردات :
يذكرون : يتذكرون أن اختلافها في الأنواع والصور والخواص لا يكون إلا بإرادة خالق حكيم.
التفسير :
﴿ وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ﴾.
وما خلق لكم في الأرض، من عجائب الأمور، ومختلف الأشياء، من معادن ونبات وحيوان، على اختلاف أجناسها وأشكالها وألوانها، وخواصها ومنافعها.
﴿ إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ﴾.
أي : يتذكرون آلاء الله وأنعمه المتعددة، بألوانها المختلفة، فيشكرونه ويخبتون إليه، قال تعالى :﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ﴾. ( الروم : ٢٢ ).
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
المفردات :
الفلك : السفينة، وهذا اللفظ يستوي في المفرد والجمع.
مواخر : جمع ماخرة أي : جارية في الماء، وأصل المخر شق الماء، يقال : مخرت السفن، تمخر مخرا، أي : جرت شاقة الماء.
ولتبتغوا : أي : ولتطلبوا.
التفسير :
﴿ وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ﴾.
تعدد هذه الآية أربعة أنواع من منافع البحر، فقد ذلل الله البحر المالح الهائج المتلاطم الأمواج، للإنسان ؛ حتى يستفيد منه بالفوائد الآتية :
١ صيد السمك بكل أنواعه ؛ ليأكل الإنسان لحما طريا لذيذا، وفي وصفه بالطراوة تنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله ؛ لأنه يسرع إليه الفساد، فسبحان الذي جعل في الماء المر الذي لا يشرب، لحما طريا لذيذا.
٢ ومن فوائد البحر : استخراج اللؤلؤ والمرجان، تتخلى بها النساء للرجال.
٣ سير السفن تمخر عباب الماء، وتنقل الأشياء من بلد إلى بلد.
٤ الانتقال في السفن بواسطة البحر من بلد إلى بلد ؛ طلبا للرزق والتجارة والسياحة والحج والعمرة.
﴿ ولعلكم تشكرون ﴾.
أي : ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم ؛ إذ جعل ركوب البحر، مع كونه مظنة للهلاك سببا للانتفاع وحصول المعاش.
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
المفردات :
رواسي : جمع راسية وراس، وهي : الثوابت في الأرض من الجبال.
أن تميد بكم : يعني : لئلا تميد بكم، والميد : هو الحركة والاضطراب يمينا وشمالا.
سبلا : طرقا.
التفسير :
﴿ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ﴾.
تستمر سورة النحل التي تسمى : سورة النعم، في عرض أنعم الله على عباده فتقول :
﴿ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ﴾.
أي : حفظ الله توازن الأرض، وثباتها وعدم اضطرابها ؛ بالجبال الراسيات الثوابت.
قال أبو السعود في تفسيره :
إن الأرض كانت كرة خفيفة قبل أن تخلق فيها الجبال، وكان من حقها أن تتحرك كالأفلاك بأدنى سبب، فلما خلقت الجبال توجهت بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد لها. اه.
وقد امتن الله على عباده بالجبال في أكثر من آية، فالجبال كالأوتاد في حفظ الأرض، وتحفظ الماء في رءوسها في فصل الشتاء ؛ ليسيل على الوديان والوهاد في فصول : الصيف، والربيع، والخريف.
والجبال مكان أمين حصين، وملجأ للهارب، والمعتزل عن الدنيا، والراغب في التأمل والعبادة، ولأمر مّا بدأ الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وبدأت الهجرة من غار ثور، وكانت معركة أحد على جبل أحد، وناجى الله موسى من فوق جبل الطور، ومناسك الحج تتم بالسعي بين الصفا والمروة وهما جبلان، ويقف الحجيج على جبل عرفات يوم التاسع من ذي الحجة، فالجبال وسيلة للصفا والنقاء، والتفرغ الروحي، وقد اهتز الجبل وغاص في الأرض دكا ؛ عندما تجلى الله له.
قال تعالى :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ﴾. ( الأعراف : ١٤٣ ).
وفي آخر سورة الحشر نجد عددا من أسماء الله تعالى، وقبلها مباشرة نجد هذه الآية :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾. ( الحشر : ٢١ ).
وقال تعالى :﴿ خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم... ﴾. ( لقمان : ١٠ ).
وقال عز وجل :﴿ ألم نجعل الأرض مهادا*والجبال أوتادا ﴾. ( النبأ : ٧، ٦ ).
﴿ وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ﴾.
من كمال إعمار الأرض، أن يسر الله فيها الأنهار والطرق، فنجد الأنهار تنبع من مكان، وتسير في مكان، وتصب في مكان آخر.
فنهر النيل ينبع من إفريقيا ويسير طويلا في بلاد السودان، ويستفيد منه أهل مصر، وكذلك الطرق التي يسلكها الناس للرعي والتجارة والسياحة، وقد تحدث ثلمة في الجبل ؛ لتكون ممرا طريقا قال تعالى :﴿ وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ﴾. ( الأنبياء : ٣١ ).
﴿ لعلكم تهتدون ﴾. أي : جعل في الأرض طرقا ومسالك ؛ لعلكم تهتدون بتلك الطرق، إلى المكان الذي تريدون الوصول إليه، فلا تضلون.
قال تعالى :﴿ والله جعل لكم الأرض بساطا*لتسلكوا منها سبلا فجاجا ﴾. ( نوح : ٢٠، ١٩ ).
محتوى الآيات :
تأتي هذه الآيات في مقام الرد على المشركين، الذين عبدوا الأصنام، راغبين في شفاعتهم، فبين القرآن لهم في هذه الآيات : طائفة من أنعم الله على عباده، في خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم في تسخير الأنعام له للركوب، والأكل واللبن والزينة... ، ثم في إنزال الماء وإنبات النبات، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والبحار، والجبال، والنجوم، وسائر النعم.
المفردات :
علامات : أي : معالم الطرق بالنهار، وكل علامة يستدل بها على الطريق من الجبال والفجاج وغيرها داخلة فيها.
التفسير :
﴿ وعلامات وبالنجم هم يهتدون ﴾.
أي : ألهم الإنسان اتخاذ المعالم والأمارات ؛ لمعرفة الطرق والبلاد التي يقصدون إليها، ومن المعالم : الجبال الكبيرة، والآكام الصغيرة، والعيون والأفلاج، ومطلع الشمس ومغربها نهارا. وبالنجوم ومواقعها يهتدون ليلا ؛ للسفر في البر والبحر، وقرئ :﴿ وبالنجم هم يهتدون ﴾. بضم النون والجيم.
وقيل : المراد بالنجوم : الثريا، والفرقدان، وبنات النعش الصغرى والكبرى، والجدى٧.
وفي الآية إيماء إلى أن مراعاة النجوم ؛ أصل في معرفة الأوقات، والطرق والقبلة، ويحسن أن نتعلم من علم الفلك ما يفيد تلك المعرفة.
قال قتادة : إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء : لتكون زينة للسماء، ومعالم للطرق، ورجوما للشياطين، فمن قال غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به.
المفردات :
أفمن يخلق : أي : هذه الخلائق العجيبة في هذا الكون، والإنسان والحيوان والنبات وسائر النعم.
كمن لا يخلق : مثل الأصنام.
تمهيد :
بين سبحانه وتعالى فيما سبق : طائفة من النعم، التي أنعم الله بها على عباده ومنها يأتي :
١ خلق الكون بكل ما فيه من سماء وأرض وغيرهما.
٢ خلق الإنسان.
٣ خلق الأنعام بكل أنواعها وأصنافها.
٤ هداية الإنسان وإرسال الرسل وبيان الطريق المستقيم.
٥ إنزال المطر، وإنبات صنوف الزروع والثمرات.
٦ تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم.
٧ تسخير البحار والجبال والأرض والطرق.
ثم التفت إلى الجاحدين ؛ ليقارن بين خلق الله، ونعمه المتعددة، وبين آلهتهم المدعاة التي لا تسمع ولا تجيب ولا تخلق ولا تنفع.
التفسير :
١٧ ﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ﴾.
أي : أفمن يخلق هذه المخلوقات العجيبة التي تشاهدونها بأعينكم، في الكون والإنسان والحيوان والنبات والبحار والجبال، ﴿ كمن لا يخلق ﴾ شيئا مثل الأصنام التي تدعون : أنها آلهة، مع أنها لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
والاستفهام هنا استفهام إنكاري، أي : أتشركون هذا الصنم الحقير مع الخالق الجليل ؟، وهو تبكيت للكفرة، وإبطال لعبادتهم الأصنام.
﴿ أفلا تذكرون ﴾.
أي : أفلا تتذكرون، فإن من عنده أدنى تأمل وتفهم وتعقل، لا يسوي بين القادر والعاجز، وهو تبكيت جديد ؛ ليعلموا أن العبادة لا تليق إلا للمنعم، بكل هذه النعم، أما هذه الأصنام فلا ينبغي عبادتها.
قال قتادة : الله هو الخالق الرازق، لا هذه الأوثان التي تعبد من دون الله، ولا تخلق شيئا ولا تملك لأهلها ضرا ولا نفعا. اه.
لا تحصوها : لا تضبطوا عددها.
التفسير :
﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ﴾.
إن أنعم الله وأفضاله لا حصر لها، ولا عد ؛ لكثرتها وتنوعها وتتابعها، وإذا كنتم لا تستطيعون حصرها، فمن باب أولى لا تطيقون شكرها.
قال الفخر الرازي في تفسيره الكبير :
ومما يدل قطعا على أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة أقسام نعم الله تعالى، أن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل ؛ لتنغص العيش على الإنسان، ولتمنى أن ينفق كل الدنيا حتى يزول عنه ذلك الخلل، ثم إنه تعالى يدبر أحوال بدن الإنسان، على الوجه الأكمل الأصلح، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء، ولا بكيفية مصالحه، ولا بدفع مفاسده، فليكن هذا المثال حاضرا في ذهنك، ثم تأمل في جميع ما خلق الله في هذا العالم، من المعادن والنبات والحيوان وجعلها مهيأة لانتفاعك ؛ لتعلم أن عقول الخلق قاصرة عن إحصاء نعمه وأفضاله وإحسانه٨.
﴿ إن الله لغفور رحيم ﴾.
لمن تاب إليه ورجع إلى بابه معترفا بالعجز والتقصير، وهو سبحانه يغفر الكثير ويجازي على اليسير.
ما تسرون : ما تخفون.
التفسير :
﴿ والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ﴾.
هو سبحانه وتعالى مطلع على أعمالكم، السرية منها والجهرية، فراقبوه ولا تعصوه.
وقد كان الكفار مع عبادتهم غير الله، يسرون ضروبا من الكفر، في مكايد الرسول صلى الله عليه وسلم، فجعل هذا زجرا لهم عنها، كما أن الإله يجب أن يكون عالما بالسر والعلانية، وهذه الأصنام جمادات لا تحس بشيء أصلا، فكيف تحسن عبادتها٩.
والذين يدعون من دون الله : أي : والآلهة التي يدعون من دون الله.
التفسير :
﴿ والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ﴾.
أي : هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله، لا تخلق شيئا مهما صغر، وهي جمادات صنعها المشركون بأيديهم، وخلقوها ثم عبدوها، لقد وصف الله الأصنام بما يبعدها عن الألوهية ؛ فهي لا تخلق شيئا، ثم إنها مخلوقة لغيرها.
أيان يبعثون : أي : متى يبعثون.
﴿ أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ﴾.
هذه الأصنام جمادات لا تحسب بشيء، فهي أموات لا حياة فيها، ولا تعتريها الحياة بوجه، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل.
وفائدة قوله :﴿ غير أحياء ﴾. بيان : أن بعض مالا حياة فيه، قد تدركه الحياة بعد ؛ كالنطفة التي ينشئها الله علقة ثم مضغة ثم عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم ينشئ النطفة خلقا آخر، أي : إنسانا كامل الحواس فيه الروح والحياة، أما هذه الأصنام من الحجارة فلا يعقب موتها حياة، ذلك أتم في نقصها.
﴿ وما يشعرون أيان يبعثون ﴾.
إن هذه الأصنام لا تعلم متى يبعث عبّادها ؛ حتى تساعدهم أو تنفعهم بعبادتهم، ويحتمل أن يكون المعنى : وما تدري هذه الأصنام شيئا، عن الوقت التي يبعثها فيه الله يوم القيامة ؛ لتكون وقودا للنار هي وعبّادها، للتدليل على مهانتها وذلها.
قال تعالى :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم... ﴾. ( الأنبياء : ٩٨ ).
قال الفخر الرازي :
فإن قيل : إن هذه الأصنام جمادات، والجمادات لا توصف بأنها أموات، ولا توصف بأنهم لا يشعرون.
والجواب :
إن القوم لما وصفوا تلك الأصنام بالألوهية وعبدوها ؛ قيل لهم : ليس الأمر كذلك، بل هي أموات ولا تعرف شيئا، فنزلت هذه العبارات على وفق معتقدهم.
ثم إن من يعبد الأصنام هو في نهاية الجهالة والضلالة، والكلام مع الجاهل الغرّ الغبيّ، قد يحسن فيه أن يعبّر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة، وغرضه من ذلك الإعلام يكون ذلك المخاطب في غاية الغباوة، وإنما يعيد تلك الكلمات ؛ لكون ذلك السامع في نهاية الجهالة، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة١٠.
أي : أن الله سبحانه وتعالى، الذي هو أهل للعبادة هو إله واحد، لا شريك له، ولا ند له.
﴿ قل هو الله أحد ﴾.
لكن المشركين عميت قلوبهم عن هذه الحقيقة فأنكروها، وأنكروا البعث والجزاء في الآخرة، واستكبروا عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ حقدا وحسدا، قال تعالى :﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾. ( الأنعام : ٣٣ ).
لقد حجبهم الجحود والكنود والاستكبار عن الإيمان ؛ فاستحقوا الجزاء العادل، وعذاب جهنم يوم القيامة، حال كونهم أذلاء صاغرين ؛ جزاء استكبارهم عن اتباع الحق.
قال تعالى :﴿ إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ﴾. ( غافر : ٦٠ ).
وفي الحديث الصحيح :( إن المتكبرين أمثال الذر يوم القيامة، تطؤهم الناس بأقدامهم ؛ لتكبرهم )١١.
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان )، فقال رجل : يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة، فقال :( إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس )١٢.
لا جرم : أي : حقا.
يسرون : يخفون في أنفسهم.
التفسير :
﴿ لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين ﴾.
أي : حقا، إن الله يعلم ما يسرون من الكفر والاستكبار عن الإيمان بك، ﴿ وما يعلنون ﴾ من أقوال وأفعال وسيجازيهم على ذلك بما يستحقون.
﴿ إنه لا يحب المستكبرين ﴾.
أي : عن الاستجابة للحق، المغرورين بأموالهم وأولادهم، الجاحدين لنعم الله وآلائه.
المفردات :
أنزل ربكم : أي : على محمد.
أساطير : واحدها : أسطورة، كأرجوحة وأراجيح وهي الأكاذيب والترهات والأباطيل.
الأولين : الغابرين القدماء، قالوا ذلك ؛ إضلالا للناس، وقد نزلت الآية في النضر بن الحارث.
تمهيد :
تأتي في هذه الآيات، شبهات من أنكروا النبوة مع الجواب عنها، وتذكير الناس بما أصاب المكذبين والمتكبرين ؛ حيث أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
ثم عرض بعض مشاهد الآخرة، حين ينال الظالمون جزاءهم في جهنم خالدين فيها أبدا. ﴿ فلبئس مثوى المتكبرين ﴾.
التفسير :
٢٤ ﴿ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ﴾.
أفادت كتب السيرة : أن قريشا وزعماء مكة، أهمًّها أمر الدعوة الإسلامية، حيث إن أتباع محمد يزيدون، ورأوا تأثير القرآن في نفوس الناس، وصار الواردون إلى مكة في موسم الحج وغيره، يسألون الناس عن هذا النبي الذي ظهر، وعن القرآن الذي أنزل عليه، فدبّر لهم الوليد بن المغيرة معاذير، واختلاقا يختلقونه ؛ ليقنعوا السائلين به.
فندب منهم ستة عشر رجلا، بعثهم أيام موسم الحج يقعدون في طرق مكة، ومسالك الدخول إليها، يقولون لمن سألهم عن محمد : لا تغتروا بهذا الذي يدّعي : أنه نبي ؛ فإنه مجنون أو ساحر أو شاعر أو كاهن، وأن الكلام الذي يقوله أساطير من أساطير الأولين اكتتبها، وقد تقدم ذلك في آخر سورة الحجر، وكان النضر ابن الحارث يقول : أنا أقرأ عليكم ما هو أجمل من حديث محمد، أحاديث رستم وإسفنديار، قال تعالى في شأنه... ﴿ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾. ( الأنعام : ٩٣ ).
وفي صحيح البخاري ما يفيد : مساءلة العرب عن بعث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك سؤال هرقل ملك الروم لأبي سفيان، عن هذا النبي وعن نسبه وعن أتباعه، وعن حروبه، ولما خرج أبو سفيان من عند ملك الروم، قال لمن معه : لقد أمرَ أمرُ ابن أبي كبشة، حتى أصبح ملك الروم يسأل عنه.
وروى البخاري في قصة إسلام أبي ذر١٣ أنه سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في قومه غفار، فأرسل أخاه ؛ ليستعلم عن هذا النبي، ثم حضر بنفسه مستفهما عنه.
﴿ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ﴾.
أي : إذا سألت وفود العرب في موسم الحج وغيره، أهل مكة عن محمد وعن القرآن الذي نزل عليه.
﴿ قالوا أساطير الأولين ﴾.
أي : إن هذا القرآن ليس وحيا من الله، وإنما هو أكاذيب وخرافات مأخوذة من كتب المتقدمين. قال تعالى :﴿ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ﴾. ( الفرقان : ٥ ).
والسائل إما واحد من المسلمين، أو من كلام بعضهم لبعض، أن النضر بن الحارث، أو قول المقتسمين الذين اقتسموا مكة، ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سألهم وفود الحجيج، عما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
تأتي في هذه الآيات، شبهات من أنكروا النبوة مع الجواب عنها، وتذكير الناس بما أصاب المكذبين والمتكبرين ؛ حيث أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
ثم عرض بعض مشاهد الآخرة، حين ينال الظالمون جزاءهم في جهنم خالدين فيها أبدا. ﴿ فلبئس مثوى المتكبرين ﴾.
المفردات :
الأوزار : الآثام، واحدها : وزر.
ساء ما يزرون : أي : بئس شيئا يحملونه.
التفسير :
﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ﴾.
اللام في﴿ ليحملوا ﴾ تسمى : لام العاقبة أو الصيرورة، مثل :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ﴾. ( القصص : ٨ ).
والمعنى : إنما قالوا ذلك ؛ ليتحملوا أوزارهم، وآثامهم كاملة يوم القيامة، وجانبا من أوزار الذين يتبعونهم، جهلا بغير علم، فلا يعلمون أنهم ضلال، ويقتدون بهم في الضلال.
والآية كما نرى تشعر هؤلاء المفترين من أهل مكة، بجزائهم العادل يوم القيامة، فهم سيتحملون وزرهم كاملا بدون نقص، وسيتحملون جانبا من إضلال من اتبعهم، واثقا فيهم، غير عالم بما هم عليه من ضلال، وكأن الآية تضعهم أمام مسئولياتهم، وتوضح لهم عظيم الجرم الذي يرتكبونه ؛ ليكفروا في تبعاتهم، ويعدلوا عن ضلالهم.
﴿ ألا ساء ما يزرون ﴾. أي : بئس شيئا يحملونه من ذلك الذي يفعلون.
ونظير الآية قوله تعالى :﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ﴾. ( العنكبوت : ١٢ ).
وروى الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة : عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك إلا من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٤.
تأتي في هذه الآيات، شبهات من أنكروا النبوة مع الجواب عنها، وتذكير الناس بما أصاب المكذبين والمتكبرين ؛ حيث أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
ثم عرض بعض مشاهد الآخرة، حين ينال الظالمون جزاءهم في جهنم خالدين فيها أبدا. ﴿ فلبئس مثوى المتكبرين ﴾.
ثم أبان الله تعالى وجود الشبه، بين الكفار القدامى والجدد، في الجرم والعقاب فقال :﴿ قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ﴾.
المفردات :
قد مكر الذين من قبلهم : وهو نمروذ بن كنعان، بنى صرحا طويلا ببابل، سمكه خمسة آلاف ذراع ؛ ليصعد منها إلى السماء ؛ ليقاتل أهلها.
والمكر : صرف غيرك عما يريده بحيلة، ويراد به هنا : مباشرة الأسباب وترتيب المقدمات، والمقصود بالآية : المبالغة في وصف وعيد أولئك الكفار، وأن هلاكهم محقق كما حدث لمن قبلهم.
فأتى الله بنيانهم من القواعد : أهلكه وأفناه، فأرسل عليه الريح والزلزلة ؛ فهدمته من الأساس، كما يقال : أتى عليه الدهر.
القواعد : الدعائم والعمد والأساس، واحدها : قاعدة.
خرّ : سقط.
السقف من فوقهم : أي : وهم تحته.
وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون : من جهة لا تخطر ببالهم، أي : من جهة لا يحتسبونها ولا يتوقعونها، وقيل : هذا تمثيل لإفساد ما أبرموه من المكر بالرسل.
التفسير :
أكثر المفسرون على : أن المراد بهذه الآية، هو : نمروذ بن كنعان، بنى صرحا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع، ويمكن أن تكون الآية عامة في كل ظالم مكابر، مثل قوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم فرعون.. قال تعالى :﴿ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ﴾. ( الأنعام : ١٢٣ ).
وفي الآية تشبيه هيئة القوم الذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة، وأزال تلك العزة ؛ بهيئة قوم أقاموا بنيانا عظيما ذا دعائم، وآووا إليه فاستأصله الله من قواعده، فخر سقف البناء دفعة على أصحابه فهلكوا جميعا، فهذا من أبدع الاستعارات التمثيلية ؛ لأنها تنحل إلى عدة استعارات.
جاء في التفسير المنير :
أي : قد كاد لدين الله ورسله من تقدمهم من الأمم، واحتالوا بمختلف الوسائل ؛ لإطفاء نور الله ؛ فأهلكهم الله تعالى في الدنيا، بأن دمر مبانيهم من قواعدها، وسقط عليهم السقف من فوقهم، وأبطل كيدهم، وأحبط أعمالهم، وأطبق عليهم العذاب من كل جانب، ومن حيث لا يحسون بمجيئه ولا يتوقعون، فإن الأخذ فجأة أشد نكاية ؛ لما يصحبه من الرعب الشديد، فاعتبروا يا أهل مكة وأمثالكم، وهذا كله تمثيل لصورة العذاب ومضمونه : إهلاكهم من الله تعالى : ١٥.
وخلاصة ذلك : أن الله أحبط أعمالهم، وجعلها وبالا عليهم، ونعمة منهم.
تأتي في هذه الآيات، شبهات من أنكروا النبوة مع الجواب عنها، وتذكير الناس بما أصاب المكذبين والمتكبرين ؛ حيث أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
ثم عرض بعض مشاهد الآخرة، حين ينال الظالمون جزاءهم في جهنم خالدين فيها أبدا. ﴿ فلبئس مثوى المتكبرين ﴾.
يخزيهم : يذلهم ويهينهم، أو يعذبهم بالنار.
تشاقون : تخاصمون وتعادون المؤمنين، وتنازعون الأنبياء في شأنهم، وأصله : أن كلا من المتخاصمين، في شق وجانب غير شق الآخر.
الذين أوتوا العلم : الأنبياء أو الملائكة أو العلماء.
﴿ ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم... ﴾.
كانت الآية السابقة، تتحدث عما أصاب المكذبين للرسل في الدنيا من العذاب والهلاك، ثم جاءت هذه الآية ؛ لتبين ما ينتظرهم في الآخرة.
ومعنى الآية :
إن الله سيفضح هؤلاء المشركين على رءوس الخلائق، مع الإذلال والإهانة، ثم يسألهم سؤال توبيخ وتقريع : أين هؤلاء الشركاء الذين كنتم في الدنيا تخاصمون وتعادون من أجلهم الأنبياء ؟ ! هل حضروا ليشفعوا لكم، كما كنتم تزعمون ؟ !، وشبيه بهذه الآية قوله تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾. ( القصص : ٧٤ ).
وكلمة ﴿ تشاقون فيهم ﴾من المشاقة، وهي عبارة عن كون كل واحد من الخصمين، في شق غير شق صاحبه، وقد كان الكافرون يقولون للمؤمنين : إنه لا بعث ولا حساب، وإن صح ما تقولون من العذاب في الآخرة ؛ فإن الأصنام ستشفع لنا، فناداهم الله على سبيل التبكيت والاحتقار لشأنهم، أين هؤلاء الشركاء الذين زعمتم : أن لهم اليوم شفاعة ؟ !.
والخلاصة : إنه لا شركاء ولا أماكن لهم.
﴿ قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ﴾.
أي : قال الذين أوتوا العلم بدلائل التوحيد، وهم الأنبياء والمؤمنون، وكل من اهتدى إلى الحق في الدنيا، وأخلص لله تعالى العبادة والطاعة، أو قال الدعاة والهداة والعلماء : إن الخزي الكامل، والذل والهوان على هؤلاء الكافرين، أصحاب القلوب المنكرة للحق، والنفوس الجاحدة لليوم الآخر، وما فيه من حساب وجزاء.
السلم : الاستسلام والخضوع، والمعنى : انقادوا واستسلموا عند الموت.
بلى : نعم، أي : فتجيبهم الملائكة.
إن الله عليم بما كنتم تعملون : فهو يجازيكم عليه.
التفسير :
﴿ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾.
أي : الكافرين الذين تقبض ملائكة الموت أرواحهم، وهم ظالموا أنفسهم ومعرضوها للعذاب المخلد بكفرهم، وأي ظلم للنفس أشد من الكفر ؟ !.
﴿ فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء ﴾.
أي : استسلموا وانقادوا حين عاينوا العذاب، قائلين : ما كنا نشرك بربنا، وهم قد كذبوا على ربهم، واعتصموا بالباطل برجاء النجاة، والمراد بالسلم هنا : الاستسلام والاستكانة، على خلاف عادتهم في الدنيا من العناد والمكابرة، وقد حكى الله عنهم في آيات أخرى ما يشبه هذا القول، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾. ( الأنعام : ٢٣ ).
﴿ بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾.
أي : بل كنتم تعملون أعظم السوء وأقبح الآثام، والله عليم بذلك، فلا فائدة لكم من الإنكار، والله مجازيكم بأفعالكم.
تأتي في هذه الآيات، شبهات من أنكروا النبوة مع الجواب عنها، وتذكير الناس بما أصاب المكذبين والمتكبرين ؛ حيث أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
ثم عرض بعض مشاهد الآخرة، حين ينال الظالمون جزاءهم في جهنم خالدين فيها أبدا. ﴿ فلبئس مثوى المتكبرين ﴾.
المفردات :
مثوى : مأوى، والمثوى : مكان الإقامة.
التفسير :
﴿ فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ﴾.
أي : فادخلوا أيها الكافرون من أبواب جهنم، وطبقاتها المتعددة، وذوقوا ألوانا من العذاب، بما دنستم به أنفسكم من الإشراك.
﴿ فلبئس مثوى المتكبرين ﴾.
أي : فلبئس مقام المتعاظمين عن الإيمان بالله ؛ جهنم.
وأبواب جهنم قد ذكرها القرآن في آية أخرى فقال :﴿ لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ﴾. ( الحجر : ٤٤ )، وتطلق الأبواب على : المنازل والدركات، والمعروف : أن الجنة درجات آخرها الفردوس الأعلى، قالت أم حارثة يا رسول الله، حارثة ابني في الجنة أم في النار ؟ !، فقال :( اتق الله يا أم حارثة، إنها جنان وليست جنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى منها )١٦.
والمعروف : أن النار دركات وفي هذا المعنى قال تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ﴾. ( النساء : ١٤٥ ).
ويمكن أن يراد بقوله تعالى :﴿ فادخلوا أبواب جهنم ﴾. أي : من أبوابها المتعددة، أو فادخلوا في طبقات جهنم، التي خصصت كل طبقة منها لفئة من الظالمين تناسب عملهم، وهو يناسب قول الحق سبحانه :﴿ لها سبعة أبواب لكل باب منها جزء مقسوم ﴾. ( الحجر : ٤٤ ).
وقد مر هذا المعنى عند تفسير هذه الآية من سورة الحجر.
تمهيد :
يقارن القرآن بين عمل الكافرين والظالمين، وجزائهم في جهنم، وبين عمل المتقين وجزائهم في الجنة، من باب المقابلة بين الأضداد، وبضدها تتميز الأشياء، وقد سبق الحديث عن الظالمين، ودخولهم أبواب جهنم، وهنا في هذه الآيات حديث عن المتقين وجزائهم في الجنة.
التفسير :
٣٠ ﴿ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ﴾.
قال المفسرون :
هذا كان أيام الموسم، يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره ؛ فيقولون : إنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أنزل عليه، فيقولون خيرا، والمعنى : أنزل خيرا١٧.
أي : إن الله تعالى أنزل على نبيه وحيا، يتضمن الخير والهدى والإيمان.
﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ﴾. أي : للمتقين مكافأة في الدنيا بزيادة الرزق والتوفيق.
﴿ ولدار الآخرة خير ﴾. أي : وما ينالونه في الآخرة من جزاء كريم، وجنات النعيم، خير وأحسن مقيلا.
﴿ ولنعم دار المتقين ﴾. أي : ولنعم دار المتقين دار الآخرة، حيث ينالون فيها كل تكريم وكل نعيم.
قال تعالى :﴿ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ﴾. ( الزمر : ٧٤ ).
روى مسلم وأحمد : عن أنس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيعطي بحسناته في الدنيا، فإذا لقي الله عز وجل وحل يوم القيامة لم تكن له حسنة يعطي بها خيرا )١٨.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى :﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾. ( النحل : ٩٧ ).
جنات عدن : أي : جنات استقرار وإقامة، يقال : عدن بالمكان، يعدن عدنا، أي : استقر به وأقام.
﴿ جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين ﴾.
﴿ جنات ﴾. مبتدأ وخبره﴿ يدخلونها ﴾، أي : نعم دار المتقين، جنات إقامة دائمة يدخلونها بفضل الله تعالى، ويقتسمونها بحسب أعمالهم.
قال الفخر الرازي :﴿ جنات ﴾ يدل على : القصور والبساتين، ﴿ عدن ﴾ يدل على : الدوام، ﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ يدل على : أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها وتكون الأنهار جارية من تحتهم.
﴿ لهم فيها ما يشاءون ﴾. تدل على حصول كل الخيرات والسعادات، وهو دليل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا.
﴿ كذلك يجزي الله المتقين ﴾. أي : هكذا يكون جزاء التقوى. اه.
وفي معنى هذه الآية يقول الله سبحانه :
﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ﴾. ( محمد : ١٥ ).
وقوله تعالى :﴿ وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ﴾. ( الزخرف : ٧١ ).
طيبين : أي : طاهرين من ظلم أنفسهم بالمعاصي والكفر.
﴿ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾.
أي : هم الذين تقبض الملائكة أرواحهم حال كونهم أبرارا، قد تطهروا من دنس الشرك والمعاصي طيبة نفوسهم بلقاء الله.
﴿ يقولون سلام عليكم ﴾. أي : تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة، قال ابن عباس : الملائكة يأتونهم بالسلام من قبل الله، ويخبرونهم أنهم من أصحاب اليمين١٩.
قال الفخر الرازي :
وقوله :﴿ طيبين ﴾، كلمة مختصرة، جامعة للمعاني الكثيرة ؛ وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به، واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه، ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة، مبرئين عن الأخلاق المذمومة٢٠.
وقال مجاهد : الطيب من تزكو أقواله وأفعاله. اه.
وقال الراغب : الطيب من الناس من تعرّى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الخصال، وتحلّى بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال. اه.
وقال الشوكاني :
﴿ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ﴾.
طاهرين من الشرك، أو صالحين، أو زاكية أفعالهم وأقوالهم، أو طيبين الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله.
﴿ يقولون سلام عليكم ﴾. أي : تسلم عليهم الملائكة ؛ تبشيرا لهم بالجنة ؛ لأن السلام أمان.
﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾. أي : بسبب عملكم. اه.
وفي الحديث الصحيح :
( لن يدخل أحدكم الجنة عمله )، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ ! قال :( ولا أنا ؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته، فسددوا، وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت ؛ إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يتوب )٢١ ( رواه البخاري ).
وفي معنى هذه الآيات يقول الله تبارك وتعالى :﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون*نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون*نزلا من غفور رحيم ﴾. ( فصلت : ٣٠ ٣٢ ).
المفردات :
ينظرون : ينتظرون، فإن نظر، ينظر، نظرا، يعني : أبصر، ويعني أيضا : انتظر.
إلا أن تأتيهم الملائكة : تقبض أرواحهم.
أو يأتي أمر ربك : هو القيامة، أو العذاب المستأصل لهم.
تمهيد :
تفيد الآيات : أن الكفار لا يزدجرون عن أباطيلهم، إلا إذا جاءتهم الملائكة قابضة أرواحهم، أو يأتيهم عذاب الاستئصال، فلا يبقى منهم أحدا، ثم أتبع ذلك ببيان : سنة الله في هلاك الكافرين، فقد كذبت أمم سابقة برسلها، وجحدت رسالات السماء، كقوم نوح والذين من بعدهم، فأهلكهم الله بسبب ظلمهم وجحودهم، وما ظلمهم الله ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم.
التفسير :
٣٣ ﴿ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾.
تأتي هذه الآيات على سبيل التهديد والوعيد لكفار مكة ؛ فهم في عتوهم وكفرهم وجحودهم رسالات السماء ؛ في حالة من ينتظر أحد أمرين :
١ حضور الملائكة لتقبض أرواحهم على الكفر.
٢ مجئ عذاب السماء ؛ ليستأصلهم ؛ كما فعل بقوم نوح وهود وصالح وغيرهم.
وخلاصة هذا : حثهم على الإيمان بالله ورسوله، والرجوع إلى الحق، قبل أن يأتيهم الموت، أو قبل أن يأتيهم عذاب الاستئصال.
﴿ كذلك فعل الذين من قبلهم ﴾.
أي : مثل هذا التكذيب يا محمد، كذبت أمم سابقة برسلها، وتمادي المكذبون في شركهم حتى ذاقوا بأسنا وحل بهم عذابنا ونكالنا.
﴿ وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾.
أي : لم يظلمهم الله حين أنزل بهم العذاب ؛ لأنه أعذر إليهم، وأقام حججه عليهم، بإرسال رسله وإنزال كتبه، ولكن ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل وإحجامهم عن إتباع الحق.
فأصابهم سيئات ما عملوا : أي : جزاء سيئات ما عملوا.
وحاق بهم : أي : أحاط بهم، وخص استعمالا بإحاطة الشر.
التفسير :
﴿ فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾.
أي : فلهذا أصابتهم عقوبة الله على ما فعلوا، وأحاط بهم عذابه الأليم ؛ جزاء ما كانوا يسخرون من الرسل، وبما أخبرهم به من حساب وثواب وعقاب في الآخرة.
المفردات :
البلاغ المبين : أي : التبيين الواضح الذي لا إيهام فيه.
تمهيد :
تستمر الآيات في كشف ألاعيب المشركين، ومن ذلك : طعنهم في إرسال الرسل، وقولهم : نحن مجبورون على أعمالنا، فلو شاء الله لم نعبد الأصنام، ولم نحرم ما حرمنا من الأطعمة، وهي تعلة كاذبة يتعلل بها المكذبون والكافرون ؛ لإلقاء التبعة على القدر، فقد خلق الله الإنسان مزودا بأسباب الهداية والغواية، فمن اختار الهدى وسار في طريق الطاعة ؛ أمده الله بالمعونة والفلاح، ومن اختار التكذيب والغواية ؛ صرف الله عنه الهدى، وقد عقب الله على هذه الآية : بأنه أرسل الرسل ؛ لدعوة الناس إلى التوحيد، والبعد عن عبادة الطاغوت والأصنام والباطل، فمن الناس من اهتدى بهداية السماء، ومنهم من اختار الضلالة فاستحق العذاب، هكذا كان شأن الأمم السابقة مع رسلهم، فلا تحزن يا محمد، فليس عليك إلا البلاغ، قال تعالى :﴿ فذكر إنما أنت مذكر*لست عليهم بمصيطر ﴾. ( الغاشية : ٢٢، ٢١ ).
التفسير :
٣٥ ﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ﴾.
أي : قال أهل الكفر والإشراك، وهم كفار قريش : لو شاء الله ما عبدنا الأصنام نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا ما حرمنا من أنواع الحيوانات كالبحائر والسوائب٢٢ وغيرها، قالوا هذا على سبيل الاستهزاء، لا على سبيل الاعتقاد، وغرضهم أن إشراكهم وتحريمهم لبعض الذبائح والأطعمة واقع بمشيئة الله، فهو راض به، وهو حق وصواب، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم، حيث تعلل المشركون بالمشيئة الإلهية في أكثر من موقع.
قال تعالى في الآية ١٤٨ من سورة الأنعام :
﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ﴾.
جاء في ظلال القرآن ١٤/٦١ :
وهذه مقولة جديدة من مقولات المشركين، في علة إشراكهم بالله، فقد أحالوا إشراكهم وتحريمهم لبعض الذبائح والأطعمة، على إرادة الله ومشيئته، فلو شاء الله في زعمهم ألا يفعلوا شيئا من هذا لمنعهم من فعله، وهذا وهم وخطأ في فهم معنى المشيئة الإلهية، فالله سبحانه لا يريد لعباده الشرك، ولا يرضى لهم أن يحرموا ما أحله لهم من الطيبات، وإرادته هذه ظاهرة منصوص عليها في شرائعه، على ألسنة الرسل الذين كلفوا بالتبليغ، ولهذا قال تعالى بعده :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾. فهذا أمره وهذه إرادته لعباده، وقد شاءت إرادة الخالق الحكيم أن يخلق البشر باستعداد للهدى والضلال، وأن يدع لهم مشيئة الاختيار. اه.
وقريب من هذه الآية، ما ورد في الآيات ٢٨ -٣٠ من سورة الأعراف، من قوله تعالى :﴿ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباؤنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون*قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون*فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ﴾.
وهذه الشبهة تكررت على ألسنة الكافرين السابقين ؛ تبرئة لساحتهم، وتنصلا من التبعة.
﴿ كذلك فعل الذين من قبلهم ﴾. أي : مثل هذا التكذيب والاستهزاء، فعل من قبلهم من المجرمين، واحتجوا مثل احتجاجهم الباطل، وتناسوا كسبهم لكفرهم ومعاصيهم، وأن كل ذلك كان بمحض اختيارهم، بعد أن أنذرتهم رسلهم عذاب النار وغضب الجبار.
﴿ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ﴾.
أي : ليس على الرسل إلا تبليغ رسالات السماء بالحجة البينة، والأدلة الواضحة، وليس من شأنهم هداية الناس، فهذه أمور تتعلق بمشيئة الله تعالى.
قال تعالى :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾. ( القصص : ٥٦ ).
وقصارى ذلك : إن الثواب والعقاب لابد فيهما من أمرين : تعلق مشيئة الله تعالى بوقوع أحدهما، وتوجيه همة العبد إلى تحصيل أسبابه، وصرف اختياره إلى الدأب على إيجاده، وإلا كان كل من الثواب والعقاب اضطراريا لا اختياريا، والرسل ليس من شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي، أما العمل بها إلجاء وقسرا فليس من وظيفتهم، لا في كثير ولا قليل. ٢٣.
تستمر الآيات في كشف ألاعيب المشركين، ومن ذلك : طعنهم في إرسال الرسل، وقولهم : نحن مجبورون على أعمالنا، فلو شاء الله لم نعبد الأصنام، ولم نحرم ما حرمنا من الأطعمة، وهي تعلة كاذبة يتعلل بها المكذبون والكافرون ؛ لإلقاء التبعة على القدر، فقد خلق الله الإنسان مزودا بأسباب الهداية والغواية، فمن اختار الهدى وسار في طريق الطاعة ؛ أمده الله بالمعونة والفلاح، ومن اختار التكذيب والغواية ؛ صرف الله عنه الهدى، وقد عقب الله على هذه الآية : بأنه أرسل الرسل ؛ لدعوة الناس إلى التوحيد، والبعد عن عبادة الطاغوت والأصنام والباطل، فمن الناس من اهتدى بهداية السماء، ومنهم من اختار الضلالة فاستحق العذاب، هكذا كان شأن الأمم السابقة مع رسلهم، فلا تحزن يا محمد، فليس عليك إلا البلاغ، قال تعالى :﴿ فذكر إنما أنت مذكر*لست عليهم بمصيطر ﴾. ( الغاشية : ٢٢، ٢١ ).
المفردات :
الطاغوت : أي : الشيطان وكل ما عبد من دون الله مشتق من الطغيان، وهو تجاوز الحد، والطاغوت يقع على الواحد والجمع، مثال وقوعه على الواحد قوله تعالى :﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ﴾. ( النساء : ٦٠ )، ومثال وقوعه على الجمع قوله تعالى :﴿ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ﴾. ( البقرة : ٢٥٧ ).
حقت : أي : ثبتت ووجبت، يقال : حق الأمر، يحق بفتح الحاء وكسرها ؛ أي : ثبت ووجب.
﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة... ﴾.
إن من سنته تعالى : إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتأييد رسله بالمعجزات، وقد استمر إرسال الرسل لجميع الأمم السابقة ؛ إرشادا للبشرية وتعليما لها، وتنبيها للعقول، وتحذيرا للناس من مكايد الشياطين، ومن ضلال المضلين، قال تعالى :﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ﴾. ( النساء : ١٦٥ ).
وقال عز شأنه :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾. ( فاطر : ٢٤ ).
ومعنى الآية :
أرسلنا الرسل إلى جميع الخلق، وبعثنا في كل أمة سبقت قبلكم، رسلا كما بعثنا فيكم رسولا، فقال الرسول لقومه : اعبدوا الله وحده لا شريك له، واحذروا أن يغويكم الشيطان ويصدكم عن سبيل الله فتضلوا.
﴿ فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ﴾.
أي : إن البشر كانوا بإزاء الرسل صنفان :
صنف : هداه الله إلى الإيمان، فآمن بالرسل وبالله وباليوم الآخر ؛ ففاز وأفلح، واستحق النجاة والرضوان في الدنيا والآخرة.
وصنف : كذب بالرسل، واستكبر عن قبول الحق، واتبع الضلال ؛ فاستحق غضب الله وعقابه.
قال الفخر الرازي :
﴿ ومنهم من حقت عليه الضلالة ﴾. يريد من ظهرت ضلالته، كما يقال للظالم : حقّ ظلمك وتبين. اه. ٢٤.
﴿ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾. أي : التفتوا حولكم أيها المشركون، أو سيروا في جنوب الجزيرة وشمالها، وشرقها وغربها ؛ لتشاهدوا ما أصاب المكذبين، من الدمار والهلاك، كديار عاد وثمود ومن سار سيرتهم ممن حقت عليهم الضلالة، وانظروا إلى آثار سخطنا عليهم ؛ لعلكم تعتبرون بما حلّ بهم.
تستمر الآيات في كشف ألاعيب المشركين، ومن ذلك : طعنهم في إرسال الرسل، وقولهم : نحن مجبورون على أعمالنا، فلو شاء الله لم نعبد الأصنام، ولم نحرم ما حرمنا من الأطعمة، وهي تعلة كاذبة يتعلل بها المكذبون والكافرون ؛ لإلقاء التبعة على القدر، فقد خلق الله الإنسان مزودا بأسباب الهداية والغواية، فمن اختار الهدى وسار في طريق الطاعة ؛ أمده الله بالمعونة والفلاح، ومن اختار التكذيب والغواية ؛ صرف الله عنه الهدى، وقد عقب الله على هذه الآية : بأنه أرسل الرسل ؛ لدعوة الناس إلى التوحيد، والبعد عن عبادة الطاغوت والأصنام والباطل، فمن الناس من اهتدى بهداية السماء، ومنهم من اختار الضلالة فاستحق العذاب، هكذا كان شأن الأمم السابقة مع رسلهم، فلا تحزن يا محمد، فليس عليك إلا البلاغ، قال تعالى :﴿ فذكر إنما أنت مذكر*لست عليهم بمصيطر ﴾. ( الغاشية : ٢٢، ٢١ ).
﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ومالهم من ناصرين ﴾.
تأتي هذه الآية ؛ تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتحديدا لرسالته بالتبليغ، وفيها تهدئة لخاطره، وتطمينا لنفسه، وقد كان حريصا على هداية قومه، راغبا في إيمانهم، بيد أنهم آثروا الضلالة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بمثابة من يشعل ضوءا لهداية قومه، فيتتابع الفراش في إلقاء نفسه في هذه النار ؛ ليشتعل ويهلك، كما ورد في الحديث الصحيح :
( إنما مثلي ومثل قومي كمثل رجل أشعل نارا فجعل الفراش يتهافت على الوقوع فيهما، وإني ممسك بحجز قريش أن تقع في النار )٢٥.
ومعنى الآية :
إن تحرص أيها الرسول الكريم على هداية هؤلاء المصرين على كفرهم ؛ لن ينفعك حرصك ؛ لأن الله تعالى لا يخلق الهداية جبرا وقسرا، فيمن استحق الضلالة، بسوء اختياره، وتوجيه عزائمه إلى عمل المعاصي، والإشراك بربه.
﴿ وما لهم من ناصرين ﴾. تذييل مؤكد لما قبله. أي : وليس لهؤلاء الضالين من ناصر يدفع عنهم عذاب الله تعالى، إن نزل بهم.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾. ( القصص : ٥٦ ).
وقوله سبحانه :﴿ من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾. ( الأعراف : ١٨٦ ).
ومجمل القول :
إن من اختار الضلالة، ووجه همته إلى تحصيل أسبابها ؛ فالله سبحانه وتعالى لا يخلق فيه الهداية قسرا وإلجاء ؛ لأن مدار الإيمان والكفر والاختيار، لا الإلجاء والاضطرار.
المفردات :
جهد أيمانهم : الجهد، بفتح الجيم : المشقة. وبضمها : الطاقة، وجهد أيمانهم، أي : غاية اجتهادهم فيها، وجهد مفعول مطلق لفعل مقدر تقديره : أقسموا بالله يجهدون جهدا.
لا يبعث الله من يموت : أي : لا يحييه بعد الموت.
بلى : كلمة جواب كنعم ؛ لكنها لا تقع إلا بعد النفي، فتثبت ما بعده.
وعدا عليه حقا : أي : وعد ذلك وعدا عليه حقا، أي : ثابتا لا شك فيه.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات لتقديم شبهة جديدة للمشركين، وللرد عليهم، فهم ينكرون البعث بعد الموت، ويقسمون على ذلك، والله تعالى يوضح لهم : أن البعث حق لازم ؛ ليثاب الطائع ويعاقب العاصي، و كانت حجة المشركين أن الموت يفتت الأجسام ويبعثرها، فكيف تجمع كما كانت ؟.
فبينت الآية الأخيرة : أن هذا أمر هين في يد القدرة الإلهية، التي تقول للشيء : كن فيكون، وفي الآيات ٧٨ ـ٨٣ من سورة يس، وهي الآيات الأخيرة في السورة، تأكيد هذا المعنى.
التفسير :
٣٨ ﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ﴾.
سبب النزول :
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم : عن أبي العالية قال : كان لرجل من المسلمين، على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلم به : والذي أرجوه بعد الموت، إنه لكذا وكذا ؛ فقال له المشرك : إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت، وأقسم جهد يمينه لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله :﴿ وأقسموا جهد أيمانهم... ﴾الآية.
وروى البخاري : عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فقوله : لن يعيدني كما بدأني، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد )٢٦.
ومعنى الآية :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت... ﴾.
أنهم أقسموا بالله، واجتهدوا في الحلف وأغلظوا في الأيمان : أنه لا يقع بعث بعد الموت، وهذا استبعاد منهم لحصوله، من جراء أن الميت يغنى ويعدم، والبعث إعادة له بعد ما رمّ وبلى وصار ترابا.
قال القرطبي : وهذا تعجيب من صنعهم، إذ أقسموا بالله، وبالغوا في تغليظ اليمين : بأن الله لا يبعث من يموت.
﴿ بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾. أي : بلى سيبعث الله الأموات بعد مماتهم، وقد وعد ذلك وعدا حقا، لابد منه، ولا خلف فيه.
﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ هذه الحقيقة ؛ لجهلهم بكمال قدرة الله تعالى، وعموم علمه، ونفاذ إرادته وسموّ حكمته، والمراد بأكثر الناس : المشركون، ومن كان على شاكلتهم، في إنكار البعث والحساب، والثواب والعقاب يوم القيامة.
وفي التخصيص على أكثر الناس ؛ مدح للأقلية منهم، الذين آمنوا بالبعث وبالآخرة، وما فيها من حساب وجزاء، وهم المؤمنون الصادقون.
تأتي هذه الآيات لتقديم شبهة جديدة للمشركين، وللرد عليهم، فهم ينكرون البعث بعد الموت، ويقسمون على ذلك، والله تعالى يوضح لهم : أن البعث حق لازم ؛ ليثاب الطائع ويعاقب العاصي، و كانت حجة المشركين أن الموت يفتت الأجسام ويبعثرها، فكيف تجمع كما كانت ؟.
فبينت الآية الأخيرة : أن هذا أمر هين في يد القدرة الإلهية، التي تقول للشيء : كن فيكون، وفي الآيات ٧٨ ـ٨٣ من سورة يس، وهي الآيات الأخيرة في السورة، تأكيد هذا المعنى.
﴿ ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ﴾.
أي : بل يبعث الله تعالى يوم القيامة.
﴿ ليبين لهم الذي يختلفون فيه ﴾ من أمور البعث، وليظهر لهم وجه الحق فيما جاء به الرسل، وخالفتهم فيه أممهم، فيمتاز الخبيث من الطيب، والمطيع من العاصي، والظالم من المظلوم، وليجزى الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
﴿ وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ﴾.
أي : وليعلم الذين جحدوا وقوع البعث والجزاء، أنهم كانوا كاذبين في قولهم :﴿ لا يبعث الله من يموت ﴾. ( النحل : ٣٨ ).
وكانوا كاذبين في سخريتهم من المؤمنين، وفي هذا اليوم يلقى الكفار جزاءهم في جهنم، وينظر إليهم المؤمنون، وهم يعذبون جزاء جحودهم للبعث، وتكذيب الرسل، والسخرية بالمؤمنين، قال تعالى :﴿ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا* هذه النار التي كنتم بها تكذبون ﴾. ( الطور : ١٤، ١٣ ).
فالآية الكريمة قد بينت حكمتين لبعث الناس للحساب يوم القيامة.
١ إظهار ما اختلفوا فيه في شأن البعث وغيره.
٢ إظهار كذب الكافرين، الذين أنكروا البعث، واستهزءوا بمن دعاهم إلى الإيمان به.
تأتي هذه الآيات لتقديم شبهة جديدة للمشركين، وللرد عليهم، فهم ينكرون البعث بعد الموت، ويقسمون على ذلك، والله تعالى يوضح لهم : أن البعث حق لازم ؛ ليثاب الطائع ويعاقب العاصي، و كانت حجة المشركين أن الموت يفتت الأجسام ويبعثرها، فكيف تجمع كما كانت ؟.
فبينت الآية الأخيرة : أن هذا أمر هين في يد القدرة الإلهية، التي تقول للشيء : كن فيكون، وفي الآيات ٧٨ ـ٨٣ من سورة يس، وهي الآيات الأخيرة في السورة، تأكيد هذا المعنى.
﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾.
أي : إذا أردنا أن نبعث من يموت، فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائه ؛ لأنا إذا أردنا أمرا وقع وحدث ؛ فقدرتنا لا يتعاصى عليها شيء، ولا يحول دون نفاذها حائل.
قال ابن كثير :
أخبر سبحانه عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له :﴿ كن فيكون ﴾. والمراد من ذلك : إذا أراد كونه ؛ فإنما يأمر به مرة واحدة فيكون كما يشاء٢٧.
قال تعالى :﴿ وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر... ﴾. ( القمر : ٥٠ ).
وقال سبحانه :﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة... ﴾. ( لقمان : ٢٨ ).
ونلاحظ أن هذه الآيات قد حكت إنكار الكفار للبعث، ثم ردت عليهم بالحجة والبرهان، وفي هذا المعنى يقول الله سبحانه وتعالى في آخر سورة يس :
﴿ وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم* قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم* الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون*أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم* إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون* فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ﴾. ( يس : ٧٨ ٨٣ ).
المفردات :
لنبوئنهم في الدنيا حسنة : أي : لننزلنهم في الدنيا بلدة حسنة، هي : المدينة، يقال : بوأه الدار، يبوئه فيها أنزله بها.
تمهيد :
تعرض المسلمون في مكة لألوان متعددة من العذاب والوعيد، فهاجروا إلى الحبشة مرتين، وهاجروا إلى المدينة، في تضحية بالوطن والأهل والمال ؛ فنزلت هذه الآية توضح منزلتهم وجزاءهم.
التفسير :
٤١ ﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ﴾.
أي : والذين فارقوا قومهم وأوطانهم ودورهم، وذهبوا إلى بلاد أخرى ؛ احتسابا لأجر الله وطلبا لمرضاته، من بعد ما نالهم الأذى والظلم من الكفار ؛ هؤلاء سنكافئهم في الدنيا بالمنزلة الحسنة، حيث أسكنهم الله المدينة، ونصرهم على العباد، وفتح لهم البلاد، وصاروا أمراء حكاما، وكان كل منهم للمتقين إماما.
﴿ ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ﴾.
أي : إن ثواب الدار الآخرة في الجنة، أكبر من نعيم الدنيا، لو كان المهاجرون يعلمون ذلك ؛ لازداد يقينهم، وقوي عزمهم، وفي هذا تحريض لمن بقي بمكة من المهاجرين ؛ حتى يهاجروا.
وقيل : الضمير يعود على مشركي مكة، أي : لو كانوا يعلمون ثواب الله للمهاجرين ؛ لكفوا عن إيذائهم وظلمهم، ولآمنوا بالله ورسوله.
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم : صهيب، وبلال، وعمار، وخباب، و عابس، وجبير، موالي لقريش، فجعلوا يعذبونهم ؛ ليردّوهم عن الإسلام، أما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبير، إن كنت لكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضركم، فافتدى منهم نفسه بماله، وتركوه يهاجر، فلما رآه أبو بكر قال : ربح البيع يا صهيب٢٨. وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر، والرجوع عن الإسلام، فتركوا عذابهم، ثم هاجروا فنزلت هذه الآية٢٩.
وعن عمر : أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال : خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكبر٣٠.
أي : هؤلاء هم الذين صبروا على أذى المشركين، وهاجروا ؛ فرارا بدينهم، صابرين على مفارقة الأهل والأوطان، وهم يتوكلون على الله، ويعتمدون عليه، بعد الأخذ في الأسباب، وهذه الآية بمثابة الوسام على جبين هؤلاء المهاجرين.
قال الفخر الرازي :
والمعنى : أنهم صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، الذي هو حرم الله، وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله، وبالجملة فقد ذكر فيه الصبر والتوكل، أما الصبر فللسعي في قهر النفس، وأما التوكل فللانقطاع بالكلية عن الخلق، والتوجه بالكلية إلى الحق، فالأول : هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى، والثاني : آخر هذا الطريق ونهايته والله أعلم٣١.
المفردات :
فاسألوا أهل الذكر : من أسلم من أهل التوراة والإنجيل، وفي المصحف المفسر : فاسألوا العلماء والعارفين بالتواريخ.
بالبينات والزبر : البينة : هي المعجزة الدالة على صدق الرسول، والزبر : واحدها : زبور، وهي كتب الشرائع والتكاليف، التي يبلغها الرسل إلى العباد.
الذكر : القرآن.
تمهيد :
تناقش الآيات شبهة أخرى من شبه المشركين، حيث قالوا : لو أن الله أرسل رسولا ؛ لبعثه ملكا، لا رجلا من سائر الناس، فبين القرآن : أن سنة الله في إرسال الرسل، أن يكونوا رجالا من سائر الناس ؛ لتتحقق القدوة والأسوة، وأهل التوراة والإنجيل يعرفون ذلك، ثم هددهم القرآن بألوان العذاب، ومنها : خسف الأرض كما فعل بقارون، أو يأتيهم بغتة فجأة، أو يأخذهم وهم يتقلبون في أسفارهم ومعايشهم، أو يأخذهم طائفة بعد أخرى، ثم عقب ذلك بلفت أنظارهم، إلى كمال قدرته، وبديع خلقه، وأن هذا الكون بجميع ما فيه، خاضع لقدرة الله، يسبح بحمد الله، ويسير وفق مشيئته وأمره سبحانه وتعالى.
التفسير :
٤٣ ﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾.
كان أهل مكة ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون : الله أعظم من أن يكون بشرا، فهلا بعث الله إلينا ملكا، فأجابهم الحق سبحانه بهذه الآية.
والمعنى : لقد أرسلنا الرسل من البشر، مثل : إبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى ؛ لأن الحكمة تقتضي أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم، ولو فرضنا أن الله اختار ملكا للرسالة، لجعله في صورة بشر ؛ حتى يطيق الناس التفاهم والتخاطب معه، ثم توجه الخطاب إلى أهل مكة فقال الله لهم :
﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾. أي : اسألوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى ؛ فهم أهل التوراة والإنجيل، وقيل : أهل الذكر، هم : أهل العلم بأخبار الأمم السابقة.
{ إن كنتم لا تعلمون ؛ أن الرسل بشر، يخبرونكم بأن أنبياءهم بشر، كموسى، وعيسى، وأن الرسل بشر كلهم.
وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم.
قال تعالى :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾. ( الأنعام : ٨ ).
وقالوا :﴿ أنؤمن لبشرين مثلنا ﴾. ( المؤمنون : ٤٧ ).
وقالوا :﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون* ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ﴾. ( المؤمنون : ٣٤، ٣٣ ).
﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ﴾. ( يونس : ٢ ).
﴿ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ﴾. ( الفرقان : ٧ ).
تناقش الآيات شبهة أخرى من شبه المشركين، حيث قالوا : لو أن الله أرسل رسولا ؛ لبعثه ملكا، لا رجلا من سائر الناس، فبين القرآن : أن سنة الله في إرسال الرسل، أن يكونوا رجالا من سائر الناس ؛ لتتحقق القدوة والأسوة، وأهل التوراة والإنجيل يعرفون ذلك، ثم هددهم القرآن بألوان العذاب، ومنها : خسف الأرض كما فعل بقارون، أو يأتيهم بغتة فجأة، أو يأخذهم وهم يتقلبون في أسفارهم ومعايشهم، أو يأخذهم طائفة بعد أخرى، ثم عقب ذلك بلفت أنظارهم، إلى كمال قدرته، وبديع خلقه، وأن هذا الكون بجميع ما فيه، خاضع لقدرة الله، يسبح بحمد الله، ويسير وفق مشيئته وأمره سبحانه وتعالى.
﴿ بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ﴾.
أي : أرسلنا الرسل رجالا من البشر، وقد أرسلناهم بالبينات والزبر، أي : بالمعجزات والكتب التي تحمل الشرائع والعبادات والمعاملات.
﴿ والزبر ﴾ : جمع زبور بمعنى : مزبور أي : مكتوب، يقال : زبرت الكتاب : من باب نصر وضرب، أي : كتبته كتابة عظيمة.
قال الفخر الرازي :
﴿ بالبينات والزبر ﴾. لفظة جامعة لكل ما تتكامل به الرسالة ؛ لأن مدار أمرها على المعجزات، الدالة على صدق من يدّعي الرسالة وهي البينات، وعلى التكاليف التي يبلغها الرسول من الله تعالى إلى العباد وهي الزبر. اه.
﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ﴾. أي : أنزلنا القرآن الكريم عليك يا محمد، وهو ذكر وشرف وبيان لك ولقومك، وقد اشتمل القرآن الكريم على الأمور الكلية، فهو أصل الشريعة وكليّ أمورها، وفيه إجمال لأمهات الفضائل وأصول التشريع، والنبي صلى الله عليه وسلم : شارح للقرآن ومبين له، ومفصل لمجمله، وموضح لمبهمه. قال صلى الله عليه وسلم :( ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه... )٣٢.
جاء في تفسير ابن عطية ما يأتي :
وقوله :﴿ لتبين ﴾. يحتمل أن يريد : لتبين بسردك نص القرآن ما نزل، ويحتمل أن يريد : لتبين بتفسيرك المجمل، وبشرحك ما أشكل مما نزل، فيدخل في هذا ما تبينه السنة من أمر الشريعة، وهذا قول مجاهد٣٣.
﴿ ولعلهم يتفكرون ﴾. أي : أنزل الله القرآن الكريم، والذكر الحكيم، على النبي الأمين ؛ ليشرح للعباد أمور دينهم، ويبين لهم ما في كتاب الله تعالى، ويوضح لهم أهدافه ومراميه ؛ حتى يثير في الناس أسباب التأمل، والتفكر في آيات القرآن الكريم والاتعاظ بها والعمل بمقتضاها، قال تعالى :﴿ كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ﴾. ( ص : ٢٩ ).
وفي كتب علوم الحديث، نجد بيانا مستفيضا لمنزلة الحديث الشريف ؛ فهو الأصل الثاني من أصول التشريع، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ للناس هذا الكتاب وشارح له، والكتاب لا يستغني عن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وشرحه، فقد كان عليه الصلاة والسلام قرآنا متحركا، يجسد الوحي، ويشرحه بالقول والعمل والإقرار.
سئلت السيدة عائشة عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت :" كان خلقه القرآن " ٣٤.
وهذه الآية توضح منزلة السنة، فهي ضرورية لشرح القرآن، وتفصيل أحكامه، قال تعالى :﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ﴾.
تناقش الآيات شبهة أخرى من شبه المشركين، حيث قالوا : لو أن الله أرسل رسولا ؛ لبعثه ملكا، لا رجلا من سائر الناس، فبين القرآن : أن سنة الله في إرسال الرسل، أن يكونوا رجالا من سائر الناس ؛ لتتحقق القدوة والأسوة، وأهل التوراة والإنجيل يعرفون ذلك، ثم هددهم القرآن بألوان العذاب، ومنها : خسف الأرض كما فعل بقارون، أو يأتيهم بغتة فجأة، أو يأخذهم وهم يتقلبون في أسفارهم ومعايشهم، أو يأخذهم طائفة بعد أخرى، ثم عقب ذلك بلفت أنظارهم، إلى كمال قدرته، وبديع خلقه، وأن هذا الكون بجميع ما فيه، خاضع لقدرة الله، يسبح بحمد الله، ويسير وفق مشيئته وأمره سبحانه وتعالى.
المفردات :
مكروا : المكر : السعي بالفساد خفية.
مكروا السيئات : ظلموا المؤمنين، وراموا أن يفتنوهم عن دينهم.
يخسف : يجعل عاليها سافلها.
التفسير :
﴿ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ﴾.
هذه الآية تهديد لأهل مكة، بأن تصيبهم ألوان العذاب، التي أصابت السابقين ومنها : الخسف، ونقص الأموال والأولاد، والأخذ فجأة، وإلقاء الرعب والخوف، ثم الهلاك والدمار، والاستفهام في الآية الكريمة للتعجب والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر دل عليه المقام، والتقدير : أجهل الذين مكروا السيئات، وعيد الله لهم بالعقاب، فأمنوا مكره.. ؟ !.
والمراد بمكر السيئات : سعيهم بالإفساد بين المؤمنين، على سبيل الإخفاء والخداع، ورغبتهم في صد المؤمنين عن الإيمان بالله ورسوله.
﴿ أن يخسف الله بهم الأرض ﴾. بمعنى : أن تنشق الأرض فتبتلع المخسوف به ؛ كما حدث لقارون، قال تعالى :﴿ فخسفنا به وبداره الأرض ﴾. ( القصص : ٨١ ).
﴿ أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ﴾.
أي : ينزل بهم العذاب فجأة من حيث لا يتوقعون، كما صنع بقوم لوط.
وقريب من ذلك قوله تعالى :﴿ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا... ﴾. ( الحشر : ٢ ).
تناقش الآيات شبهة أخرى من شبه المشركين، حيث قالوا : لو أن الله أرسل رسولا ؛ لبعثه ملكا، لا رجلا من سائر الناس، فبين القرآن : أن سنة الله في إرسال الرسل، أن يكونوا رجالا من سائر الناس ؛ لتتحقق القدوة والأسوة، وأهل التوراة والإنجيل يعرفون ذلك، ثم هددهم القرآن بألوان العذاب، ومنها : خسف الأرض كما فعل بقارون، أو يأتيهم بغتة فجأة، أو يأخذهم وهم يتقلبون في أسفارهم ومعايشهم، أو يأخذهم طائفة بعد أخرى، ثم عقب ذلك بلفت أنظارهم، إلى كمال قدرته، وبديع خلقه، وأن هذا الكون بجميع ما فيه، خاضع لقدرة الله، يسبح بحمد الله، ويسير وفق مشيئته وأمره سبحانه وتعالى.
المفردات :
في تقلبهم : أي : منقلبين في أسفارهم، وتصرفهم في البلاد ليلا أو نهارا، كما قال تعالى :﴿ لا يغرّنك تقلب الذين كفروا في البلاد ﴾. ( آل عمران : ١٩٦ ).
بمعجزين : أي : بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار.
التفسير :
﴿ أو يأخذهم في تقلبهم فماهم بمعجزين ﴾.
أي : يأخذهم بالعذاب حال كونهم في عز ونعيم، يتحركون بالسفر والتجارة، ومحاولتهم المعايش بالحركة والرعاية، والعمل والأمل في السفر والحضر.
﴿ فماهم بمعجزين ﴾. لا يعجزون الله فيما أراده بهم من العذاب، والمعجز : المفلت هربا كأنه عجز طالبه.
وفي معنى الآية قوله تعالى :﴿ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد* متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ﴾. ( آل عمران : ١٩٧، ١٩٦ ).
ففي قدرة الله أن ينتقم من الظالم، على أي حال ؛ سواء أكان نائما هادئا، أو متحركا مسافرا متقلبا، وسواء أكان خائفا من العذاب مترقبا له، أو آمنا وادعا لا يتوقع العذاب ولا ينتظره.
قال تعالى :﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون*أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون*أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾. ( الأعراف : ٩٧ ٩٩ ).
تناقش الآيات شبهة أخرى من شبه المشركين، حيث قالوا : لو أن الله أرسل رسولا ؛ لبعثه ملكا، لا رجلا من سائر الناس، فبين القرآن : أن سنة الله في إرسال الرسل، أن يكونوا رجالا من سائر الناس ؛ لتتحقق القدوة والأسوة، وأهل التوراة والإنجيل يعرفون ذلك، ثم هددهم القرآن بألوان العذاب، ومنها : خسف الأرض كما فعل بقارون، أو يأتيهم بغتة فجأة، أو يأخذهم وهم يتقلبون في أسفارهم ومعايشهم، أو يأخذهم طائفة بعد أخرى، ثم عقب ذلك بلفت أنظارهم، إلى كمال قدرته، وبديع خلقه، وأن هذا الكون بجميع ما فيه، خاضع لقدرة الله، يسبح بحمد الله، ويسير وفق مشيئته وأمره سبحانه وتعالى.
المفردات :
على تخوف : أي : على خوف ووجل من العذاب.
التفسير :
﴿ أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم ﴾.
التخوف في اللغة : يأتي مصدر تخوف القاصر، بمعنى : خاف، ويأتي مصدر تخوف المتعدي بمعنى : تنقص، وهذا الثاني لغة هذيل.
والمعنى على الأول :
أو يأخذهم وهم في حالة خوف، وتوقع نزول العذاب بهم، كما نزل بالذين من قبلهم.
قال ابن كثير : فإنه يكون أبلغ وأشد ؛ فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد.
والمعنى على الثاني :
أو يأخذهم وهم في حالة تنقص في أنفسهم، وأموالهم، وأولادهم حتى يهلكوا ؛ فيكون هلاكهم قد سبقه الفقر والقحط والمرض.
جاء في تيسير التفسير :
أو التخوف : التنقص، بمعنى : إهلاكهم كلهم، لكن قوما بعد قوم، ومالا بعد مال، حتى يأتي على الكل.
قال عمر رضي الله عنه على المنبر : ما المراد بالتخوف ؟، فقال شيخ من هذيل : التخوف : التنقص في لغتنا، فقال : هل تعرفه الشعراء ؟ قال نعم : قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقته :
تخوف الرجل منها تامكا قًََِِردًا | كما تخوف عود النبعة السَّفن |
﴿ فإن ربكم لرءوف رحيم ﴾.
إذ أمهلهم فيزداد عذرهم قطعا، وقد يؤمن بعضهم، والآيات في جملتها تهديد للكافرين، من التمادي في كفرهم ؛ حتى لا يتعرضوا لعذاب الله تعالى، وذكرت ألوانا من العذاب، منها : الخسف، وعذاب الفجاءة ؛ كالزلازل والصواعق، أو القحط والأمراض، فتنقص ثرواتهم وأموالهم وأولادهم، ثم يصيبهم الهلاك وهم في نقص وضعف، وتخوف من الهلاك.
تناقش الآيات شبهة أخرى من شبه المشركين، حيث قالوا : لو أن الله أرسل رسولا ؛ لبعثه ملكا، لا رجلا من سائر الناس، فبين القرآن : أن سنة الله في إرسال الرسل، أن يكونوا رجالا من سائر الناس ؛ لتتحقق القدوة والأسوة، وأهل التوراة والإنجيل يعرفون ذلك، ثم هددهم القرآن بألوان العذاب، ومنها : خسف الأرض كما فعل بقارون، أو يأتيهم بغتة فجأة، أو يأخذهم وهم يتقلبون في أسفارهم ومعايشهم، أو يأخذهم طائفة بعد أخرى، ثم عقب ذلك بلفت أنظارهم، إلى كمال قدرته، وبديع خلقه، وأن هذا الكون بجميع ما فيه، خاضع لقدرة الله، يسبح بحمد الله، ويسير وفق مشيئته وأمره سبحانه وتعالى.
المفردات :
يتفيؤ ظلاله : أي : يرجع من موضع إلى موضع، فهو في أول النهار على حال، ثم يتقلص، ثم يعود إلى حال أخرى في آخر النهار.
عن اليمين : أول النهار.
والشمائل : آخر النهار.
السجود : الانقياد والخضوع.
داخرون : منقادون صاغرون، واحدهم : داخر، وهو الذي يفعل ما تأمره به شاء أو أبى.
التفسير :
﴿ أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ﴾.
والمعنى : أعمي هؤلاء المشركون، الذين مكروا السيئات، ولم ينظروا إلى ما خلق الله تعالى من الأجسام القائمة كالأشجار والجبال، التي تتفيؤ ظلالها، وترجع من موضع إلى موضع، عن اليمين والشمائل، فهي في أول النهار على حال، ثم تتقلص، ثم تعود إلى حال أخرى في آخر النهار، مائلة من جانب إلى جانب، ومن ناحية إلى أخرى، صاغرة منقادة لربها، خاضعة كل الخضوع لما سخرت له.
والاستفهام في قوله تعالى :﴿ أولم يروا ﴾. للإنكار والتوبيخ، والرؤية بصرية.
أي : قد رأوا كل ذلك، ولكنهم لم ينتفعوا بما رأوا، ولم يتعظوا بما شاهدوا، ثم أتبع سبحانه وتعالى هذه الآية بآية أخرى مؤكدة لها، فهي كالدليل لما سلف فقال :﴿ ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ﴾.
تناقش الآيات شبهة أخرى من شبه المشركين، حيث قالوا : لو أن الله أرسل رسولا ؛ لبعثه ملكا، لا رجلا من سائر الناس، فبين القرآن : أن سنة الله في إرسال الرسل، أن يكونوا رجالا من سائر الناس ؛ لتتحقق القدوة والأسوة، وأهل التوراة والإنجيل يعرفون ذلك، ثم هددهم القرآن بألوان العذاب، ومنها : خسف الأرض كما فعل بقارون، أو يأتيهم بغتة فجأة، أو يأخذهم وهم يتقلبون في أسفارهم ومعايشهم، أو يأخذهم طائفة بعد أخرى، ثم عقب ذلك بلفت أنظارهم، إلى كمال قدرته، وبديع خلقه، وأن هذا الكون بجميع ما فيه، خاضع لقدرة الله، يسبح بحمد الله، ويسير وفق مشيئته وأمره سبحانه وتعالى.
﴿ ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ﴾.
أي : يخضع ويخشع، ويستسلم لعظمة الله وقدرته، ما في السماوات، وما في الأرض مما يدب عليها وكذلك ملائكته الذين في السماوات وهم لا يستكبرون عن التذلل والخضوع له.
تناقش الآيات شبهة أخرى من شبه المشركين، حيث قالوا : لو أن الله أرسل رسولا ؛ لبعثه ملكا، لا رجلا من سائر الناس، فبين القرآن : أن سنة الله في إرسال الرسل، أن يكونوا رجالا من سائر الناس ؛ لتتحقق القدوة والأسوة، وأهل التوراة والإنجيل يعرفون ذلك، ثم هددهم القرآن بألوان العذاب، ومنها : خسف الأرض كما فعل بقارون، أو يأتيهم بغتة فجأة، أو يأخذهم وهم يتقلبون في أسفارهم ومعايشهم، أو يأخذهم طائفة بعد أخرى، ثم عقب ذلك بلفت أنظارهم، إلى كمال قدرته، وبديع خلقه، وأن هذا الكون بجميع ما فيه، خاضع لقدرة الله، يسبح بحمد الله، ويسير وفق مشيئته وأمره سبحانه وتعالى.
المفردات :
يخافون ربهم : أي : يخافون عقابه.
من فوقهم : أي : بالقهر والغلبة، كما قال :﴿ وإنا فوقهم قاهرون ﴾ ( الأعراف : ١٢٧ ).
التفسير :
﴿ يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾.
أي : إن من صفات الملائكة أنهم يخافون ربهم، الذي هو من فوقهم بجلاله وقهره، وعلوه بلا تشبيه ولا تمثيل، ويفعلون ما يؤمرون به من الطاعات، من كل ما يكلفهم به سبحانه، دون أن تصدر منهم مخالفة، وقريب من هذا المعنى قوله تعالى :﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ﴾. ( الرعد : ١٥ ).
ومجمل القول :
إن المخلوقات تدين لعظمة الله تعالى، وتخضع لقدرته بأسرها، جمادها ونباتها وحيوانها، ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة.
المفردات :
الرهبة : الخوف.
تمهيد :
لما بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة : أن كل ما في الكون من إنس وجن، وحيوان وجماد، ونبات وملك، منقاد لله وخاضع لسلطانه، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك به، وبين : أن كل ما سواه فهو في ملكه، وأنه مصدر النعم كلها، وأن الإنسان لا يتضرع إليه إلا إذا مسه الضر، فإذا كشفه عنه رجع إلى كفره، وأن الحياة الدنيا قصيرة الأمد.
التفسير :
٥١ ﴿ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون ﴾.
تحدث القرآن الكريم عن الوحدانية في الذات والصفات والأفعال، ورد على المشركين وفنّد حججهم، مثل قوله تعالى :﴿ قل هو الله أحد ﴾، وقوله سبحانه :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾. ( الأنبياء : ٢٢ ).
وفي هذه الآية الكريمة يقول الله تعالى : لا تتخذوا آلهة سواي، ولا تعبدوا إلها آخر، إنما الله إله واحد لا شريك له، وأنا الخالق الرازق المحيي المميت، الباعث، المحاسب المجازي على القليل والكثير.
﴿ فإياي فارهبون ﴾. والمعنى : إن رهبتم شيئا فإياي فارهبون، دون غيري ؛ لأني أنا الذي لا يعجزني شيء. وقوله :﴿ اثنين ﴾صفة للفظ إلهين، أو مؤكد له، وخص هذا العدد بالذكر ؛ لأنه الأقل، فيعلم انتفاء اتخاذ ما فوقه بطريق الأولى.
وقوله سبحانه :﴿ إنما هو إله واحد ﴾. بيان وتوكيد لما قبله وهو مقول لقوله سبحانه :﴿ وقال الله... ﴾. أي : وقال الله لا تتخذوا معي في العبادة إلها آخر، وقال أيضا : إنما المستحق للعبادة إله واحد، والقصر في الجملة الكريمة من قصر الموصوف على الصفة، أي : الله وحده هو المختص بصفة الوحدانية.
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد اشتملت على ألوان من المؤكدات، للنهي عن الشرك، والأمر بإخلاص العبادة لله تعالى وحده، تارة عن طريق التقرير، ﴿ وقال الله... ﴾ وتارة عن طريق النهي الصريح، وتارة عن طريق التخصيص. وذلك لكي يقلعوا عن رذيلة الشرك، ويؤمنوا بالله الواحد القهار٣٦.
لما بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة : أن كل ما في الكون من إنس وجن، وحيوان وجماد، ونبات وملك، منقاد لله وخاضع لسلطانه، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك به، وبين : أن كل ما سواه فهو في ملكه، وأنه مصدر النعم كلها، وأن الإنسان لا يتضرع إليه إلا إذا مسه الضر، فإذا كشفه عنه رجع إلى كفره، وأن الحياة الدنيا قصيرة الأمد.
المفردات :
الدين : الطاعة.
واصبا : دائما، كما قال :﴿ لهم عذاب واصب ﴾. ( الصافات : ٩ ).
التفسير :
﴿ وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون ﴾.
أي : لله ملك السماوات والأرض وما فيهما، خلقا ورعاية ورزقا، لا شريك له في ذلك، ولا منازع له في أمره أو نهيه، وله أيضا الطاعة والإخلاص، على طريق الدوام والثبات، فكل شيء في الكون خاضع لأمره سبحانه بيده الخلق والأمر.
﴿ أفغير الله تتقون ﴾.
والاستفهام هنا للإنكار والتعجب، والفاء للتعقيب، أي : أفبعد أن علمتم هذا ترهبون غير الله، وتحذرون أن يسلبكم نعمة، أو يجلب لكم أذى، أو ينزل بكم نقمة، إذا أنتم أخلصتم العبادة لربكم، وأفردتم الطاعة له، ومالكم نافع سواه.
وإجمال ذلك : أن الله له ملك هذا الكون، وهو بأكمله خاضع لمشيئته، وهو المتصرف فيه بقدرته، فكيف تخافون غيره، أو ترهبون سواه.
لما بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة : أن كل ما في الكون من إنس وجن، وحيوان وجماد، ونبات وملك، منقاد لله وخاضع لسلطانه، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك به، وبين : أن كل ما سواه فهو في ملكه، وأنه مصدر النعم كلها، وأن الإنسان لا يتضرع إليه إلا إذا مسه الضر، فإذا كشفه عنه رجع إلى كفره، وأن الحياة الدنيا قصيرة الأمد.
المفردات :
تجئرون : تتضرعون لكشفه، وأصل الجؤار : صياح الوحش، ثم استعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.
التفسير :
﴿ وما بكم٣٧ من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون ﴾.
نعم الله تعالى في هذا الكون لا تحصى، وأفضاله لا تستقصى، فنعمة الخلق ونعمة الرزق، ونعمة الهداية، ونعم النسل والذرية، ونعمة راحة البال، وغير ذلك من وجود الطعام والماء والصحة، والسمع والبصر، والخلق والإماتة، والبعث والجزاء، كلها أنعم متعددة، كما قال سبحانه وتعالى :﴿ وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ﴾. ( إبراهيم : ٣٤ ).
وكلمة :﴿ نعمة ﴾ مفردة يراد بها : الجمع، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع اعتمادا على القرينة من أبلغ الأساليب الكلامية، تقول : ألقى فلان كلمة بليغة، والمراد : أنه ألقى خطبة أو حديثا، قال ابن مالك :... وكلمة بها كلام قد يؤمّ.
وإذا كانت النعم كلها من الله تعالى ؛ فقد وجب على العبد أن يشكره ويطيعه، ولا يقترف ما نهى عنه، وفي الحديث الشريف :( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم، وأحبوني بحب الله ).
﴿ ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ﴾.
تصور هذه الآية طبيعة البشر، فهم يرون آثار نعم الله عليهم، في الشدة والرخاء، لكنهم لا يلجئون إلى الله تعالى، إلا إذا أصابهم المكروه، أو نزلت بهم نازلة يعجزون عن حلها أو احتمالها، فتراهم في الشدائد يجأرون بالدعاء، ويرفعون أكف الضراعة والنداء، راجين أن يرفع الله عنهم ما نزل بهم، فإذا كشف الله عنهم الكرب، وأزال الضر، استرخى دعاؤهم، وعادوا إلى دنياهم، وقليل منهم من يذكر الله في النعماء، كما يذكره في الضراء، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم.
قال تعالى :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين* فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق... ﴾. ( يونس : ٢٣، ٢٢ ).
وقال تعالى :﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ﴾. ( فصلت : ٥١ ).
وقال سبحانه وتعالى :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾. ( يونس : ١٢ ).
لما بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة : أن كل ما في الكون من إنس وجن، وحيوان وجماد، ونبات وملك، منقاد لله وخاضع لسلطانه، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك به، وبين : أن كل ما سواه فهو في ملكه، وأنه مصدر النعم كلها، وأن الإنسان لا يتضرع إليه إلا إذا مسه الضر، فإذا كشفه عنه رجع إلى كفره، وأن الحياة الدنيا قصيرة الأمد.
﴿ ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ﴾.
هذه طبيعة فريق من الناس، يلجئون إلى الله تعالى في الشدائد ضارعين متلهفين، فإذا استجاب الله لدعائهم، وتحولت الشدة إلى رخاء، إذا بفريق منهم ينسى ما كان فيه من شدة وبلاء، وينسى فضل الله عليه في استجابة الدعاء، ويجعل لله شركاء في العبادة، فيعبدون الأوثان ويذبحون لها الذبائح، شكرا لغير من أنعم بالفرج وأزال من الضر.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلمّ نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ﴾. ( الإسراء : ٦٧ ).
جاء في تفسير الآلوسي :
وفي الآية ما يدل على : أن صنيع العوام اليوم، من الجؤار إلى غير الله تعالى، ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا عند إصابة الضر بهم، وإعراضهم عن دعائه تعالى بالكلية سفه عظيم، وضلال جديد ؛ لكنه أشد من الضلال القديم، ومما تقشعر منه الجلود ؛ لحصوله ممن يؤمن باليوم الموعود.
إن بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير : إياك أن تستغيث بالله إذا خطب دهاك، فإن الله تعالى لا يعجل إغاثتك، ولا يهمه سوء حالتك، وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين، فإنهم يعجلون في تفريج كربك، ويهمهم سوء ما حل بك ؛ فمجّ ذلك سمعي وهَمَى دمعي، وسألت الله تعالى : أن يعصمني والمسلمين، من أمثال هذا الضلال المبين، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك. اه.
لما بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة : أن كل ما في الكون من إنس وجن، وحيوان وجماد، ونبات وملك، منقاد لله وخاضع لسلطانه، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك به، وبين : أن كل ما سواه فهو في ملكه، وأنه مصدر النعم كلها، وأن الإنسان لا يتضرع إليه إلا إذا مسه الضر، فإذا كشفه عنه رجع إلى كفره، وأن الحياة الدنيا قصيرة الأمد.
﴿ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ﴾.
أي : لقد قيضنا لهم النعم، وأجبنا دعاءهم وكشفنا عنهم الضر، وكان الواجب منهم الشكر، لكن عاقبة أمرهم، أنهم كفروا وجحدوا نعمة الله عليهم، فاللام هنا لام العاقبة أو الصيرورة.
قال الشوكاني :
واللام في﴿ ليكفروا بما آتيناهم... ﴾لام كي، أي : لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضر، حتى لكأن هذا الكفر منهم، الواقع في موقع الشكر الواجب عليهم، غرض لهم ومقصد من مقاصدهم، وهذا غاية في العتو والعناد، ليس وراءها غاية، وقيل : اللام للعاقبة، يعني : ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا الكفر... اه.
﴿ فتمتعوا فسوف تعلمون ﴾. أي : تمتعوا في هذه الحياة الدنيا، إلى أن توافيكم آجالكم، وتبلغوا الميقات الذي وقّت لحياتكم، وتمتعكم فيها، وبعدئذ ستصيرون إلى ربكم، فتعلمون عند لقائه وبال ما علمتم، وسوء ما كسبت أيديكم، وتندمون ولات ساعة مندم.
المفردات :
تفترون : تكذبون.
تمهيد :
بعد أن بين سبحانه، سخف أقوال أهل الشرك، أردف ذلك بذكر قبائح أفعالهم، التي تمجها الأذواق السليمة.
التفسير :
٥٦ ﴿ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم... ﴾.
أي : ويجعل هؤلاء المشركون، للأصنام التي لا يعلمون منها ضرا ولا نفعا، نصيبا مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرها.
ويجوز أن يكون المعنى : ويجعلون للأصنام التي لا تعلم شيئا ؛ لأنها جماد لا يعقل ولا يبصر يجعلون لها نصيبا مما رزقناهم ؛ فتركوا التقرب إلى الخالق الرازق المستحق للحمد والشكر، وتقربوا إلى الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، وقد فصلت سورة الأنعام ذلك في قوله تعالى :﴿ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ﴾. ( الأنعام : ١٣٦ ).
﴿ تالله لتسألن عما كنتم تفترون ﴾. أي : أقسم لأسألنكم عما اقترفتموه واختلقتموه من الباطل، ولأعاقبنكم على ذلك عقوبة، تكون كفاء كفرانكم نعمى، وافترائكم علي، وقريب من ذلك قوله تعالى :﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين*عما كانوا يعملون ﴾. ( الحجر : ٩٣، ٩٢ ).
تشير هذه الآية إلى ما كان شائعا في بعض القبائل العربية في الجاهلية، من أنهم كانوا يزعمون : أن الملائكة بنات الله، إذ قالت قبيلة خزاعة وقبيلة كنانة : إن الملائكة بنات الله، ثم عبدوا الملائكة مع الله تعالى، فأخطئوا بذلك خطأ كبيرا، وضلوا ضلالا بعيدا ؛ إذ نسبوا إليه الأولاد، وهو منزه عن الصاحبة والولد، وأعطوه أخس الأولاد في زعمهم، واختصوا أنفسهم بالذكور، قال تعالى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا ﴾. ( الزخرف : ١٩ ).
وقال سبحانه :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى*تلك إذا قسمة ضيزى ﴾. ( النجم : ٢١، ٢٢ ).
وقال عز شأنه :﴿ ألا إنهم من إفكهم ليقولون* ولد الله وإنهم لكاذبون* أصطفى البنات على البنين*مالكم كيف تحكمون ﴾. ( الصافات : ١٥١ ١٥٤ ).
وكانوا يّدعون : أن الله تعالى تزوج من الجن فولدت له الملائكة، قال سبحانه :﴿ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ﴾. ( الصافات : ١٥٨ ).
والمراد من قوله سبحانه :﴿ ولهم ما يشتهون ﴾. إنهم يختارون لأنفسهم الذكور، ويأنفون من البنات، التي نسبوها إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
قال ابن عباس : المعنى : تجعلون لي البنات، وترتضوهنّ لي، ولا ترتضوهن لأنفسكم،
﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم*يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ﴾.
المفردات :
البشارة : في أصل اللغة إلقاء الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه، ويكون في السرور والحزن، فهو حقيقة في كل منهما، وعلى هذا جاءت الآية، ثم خص في عرف اللغة بالخبر السار، يقال لمن لقي مكروها : قد اسودّ وجهه غما وحزنا، ولمن ناله الفرح والسرور : استنار وجهه وأشرق.
الكظيم : الممتلئ غما وحزنا، والكظم مخرج النفس، يقال : أخذ بكظمه ؛ إذا أخذ بمخرج نفسه، ومنه كظم غيظه أي : حبسه عن الوصول إلى مخرج النفس.
يتوارى : يستخفي، وقد كان من عادتهم في الجاهلية، أن يتوارى الرجل حين ظهور آثار الطلق بامرأته، فإن أخبر بذكر ابتهج، وإن أخبر بأنثى حزن، وبقي متواريا أياما يدبر فيها ما يصنع.
يمسكه : يحبسه، كقوله تعالى :﴿ أمسك عليك زوجك ﴾. ( الأحزاب : ٣٧ ).
الهون : الهوان والذل.
يدسه : يخفيه.
التفسير :
-﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم*يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ﴾.
تحكي هذه الآيات جانبا من رذائل بعض القبائل العربية، التي كثر بينها الحرب والغارة والقتال، والعدوان ودفع العدوان والثأر، فأكلت الحرب رجالهم وأموالهم، وكانوا لا يهنئون إلا بثلاثة أشياء، شاعر ينبغ، أو ذكر يولد، أو فرس تنتج، وكلها عدة الحرب.
فالشاعر يمدح قبيلته ويتغنى بأمجادها، ويهجو أعداءها، والولد الذكر عدة الحرب والغارة، في بلد لا سلطان فيه ولا قانون، وإنما السيف هو السلطان والقانون، والفرس : هو الخيل التي أقسم الله بها في كتابه، وكانت عدة الحرب في الجاهلية والإسلام.
كانت بعض القبائل العربية تكره ولادة الأنثى، وقد وصف القرآن ذلك أبلغ وصف، وعبر عنه أقوى تعبير :﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم... ﴾.
فإذا علم أحد هؤلاء المشركين أنه ولد له أنثى ؛ ظل وجهه كئيبا حزينا، مسودا من الهم، ممتلئا غيظا وحنقا، من شدة ما هو فيه من الحزن.
﴿ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب... ﴾.
فهو يختفي عن القوم حياء وخجلا، وحزنا وكمدا ؛ من أجل أن زوجته ولدت له أنثى، ولم تلد له ذكرا، ويدور بخلده أحد أمرين :
١ إما أن يمسكها ويبقيها على قيد الحياة، لكن بقاء ذلة وهوان، فلا يورّثها ويعنى بها، بل يفضل الذكور عليها.
٢- وإما أن يدفنها في التراب، وهي على قيد الحياة، فيقتلها دون أن ترتكب ذنبا أو إثما، قال تعالى :﴿ وإذا الموءودة سئلت*بأي ذنب قتلت ﴾ ( التكوير : ٩، ٨ ).
﴿ ألا ساء ما يحكمون ﴾. أي : بئس الحكم حكمهم، وبئس الفعل فعلهم ؛ حيث نسبوا البنات إلى الله، وظلموهن ظلما شنيعا، حيث كرهوا وجودهن، وأقدموا على قتلهن، بدون ذنب أو ما يشبه الذنب.
وصدّر سبحانه هذا الحكم العادل عليهم، بحرف ألا الاستفتاحية ؛ لتأكيد هذا الحكم، ولتحقيق أن ما أقدموا عليه، إنما هو جور عظيم، قد تمالئوا عليه بسبب جهلهم الفاضح، وتفكيرهم السيئ.
وأسند سبحانه الحكم إلى جميعهم، مع أن من فعل هذا كان بعضا منهم ؛ لأن ترك هذا البعض يفعل ذلك الفعل القبيح، وهذا الترك هو في ذاته جريمة يستحق عليها الجميع العقوبة ؛ لأن سكوتهم على هذا الفعل مع قدرتهم على منعه يعتبر رضا به. ٣٨.
﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم*يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ﴾.
المفردات :
البشارة : في أصل اللغة إلقاء الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه، ويكون في السرور والحزن، فهو حقيقة في كل منهما، وعلى هذا جاءت الآية، ثم خص في عرف اللغة بالخبر السار، يقال لمن لقي مكروها : قد اسودّ وجهه غما وحزنا، ولمن ناله الفرح والسرور : استنار وجهه وأشرق.
الكظيم : الممتلئ غما وحزنا، والكظم مخرج النفس، يقال : أخذ بكظمه ؛ إذا أخذ بمخرج نفسه، ومنه كظم غيظه أي : حبسه عن الوصول إلى مخرج النفس.
يتوارى : يستخفي، وقد كان من عادتهم في الجاهلية، أن يتوارى الرجل حين ظهور آثار الطلق بامرأته، فإن أخبر بذكر ابتهج، وإن أخبر بأنثى حزن، وبقي متواريا أياما يدبر فيها ما يصنع.
يمسكه : يحبسه، كقوله تعالى :﴿ أمسك عليك زوجك ﴾. ( الأحزاب : ٣٧ ).
الهون : الهوان والذل.
يدسه : يخفيه.
التفسير :
-﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم*يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ﴾.
تحكي هذه الآيات جانبا من رذائل بعض القبائل العربية، التي كثر بينها الحرب والغارة والقتال، والعدوان ودفع العدوان والثأر، فأكلت الحرب رجالهم وأموالهم، وكانوا لا يهنئون إلا بثلاثة أشياء، شاعر ينبغ، أو ذكر يولد، أو فرس تنتج، وكلها عدة الحرب.
فالشاعر يمدح قبيلته ويتغنى بأمجادها، ويهجو أعداءها، والولد الذكر عدة الحرب والغارة، في بلد لا سلطان فيه ولا قانون، وإنما السيف هو السلطان والقانون، والفرس : هو الخيل التي أقسم الله بها في كتابه، وكانت عدة الحرب في الجاهلية والإسلام.
كانت بعض القبائل العربية تكره ولادة الأنثى، وقد وصف القرآن ذلك أبلغ وصف، وعبر عنه أقوى تعبير :﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم... ﴾.
فإذا علم أحد هؤلاء المشركين أنه ولد له أنثى ؛ ظل وجهه كئيبا حزينا، مسودا من الهم، ممتلئا غيظا وحنقا، من شدة ما هو فيه من الحزن.
﴿ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب... ﴾.
فهو يختفي عن القوم حياء وخجلا، وحزنا وكمدا ؛ من أجل أن زوجته ولدت له أنثى، ولم تلد له ذكرا، ويدور بخلده أحد أمرين :
١ إما أن يمسكها ويبقيها على قيد الحياة، لكن بقاء ذلة وهوان، فلا يورّثها ويعنى بها، بل يفضل الذكور عليها.
٢- وإما أن يدفنها في التراب، وهي على قيد الحياة، فيقتلها دون أن ترتكب ذنبا أو إثما، قال تعالى :﴿ وإذا الموءودة سئلت*بأي ذنب قتلت ﴾ ( التكوير : ٩، ٨ ).
﴿ ألا ساء ما يحكمون ﴾. أي : بئس الحكم حكمهم، وبئس الفعل فعلهم ؛ حيث نسبوا البنات إلى الله، وظلموهن ظلما شنيعا، حيث كرهوا وجودهن، وأقدموا على قتلهن، بدون ذنب أو ما يشبه الذنب.
وصدّر سبحانه هذا الحكم العادل عليهم، بحرف ألا الاستفتاحية ؛ لتأكيد هذا الحكم، ولتحقيق أن ما أقدموا عليه، إنما هو جور عظيم، قد تمالئوا عليه بسبب جهلهم الفاضح، وتفكيرهم السيئ.
وأسند سبحانه الحكم إلى جميعهم، مع أن من فعل هذا كان بعضا منهم ؛ لأن ترك هذا البعض يفعل ذلك الفعل القبيح، وهذا الترك هو في ذاته جريمة يستحق عليها الجميع العقوبة ؛ لأن سكوتهم على هذا الفعل مع قدرتهم على منعه يعتبر رضا به. ٣٨.
عرض إجمالي للسورة :
سورة النحل سورة مكية، وعدد آياتها " ١٢٨ " آية، وهي سورة هادئة الإيقاع، عادية الجرس، ولكنها مليئة حافلة، موضوعاتها الرئيسة كثيرة منوعة، والإطار التي تعرض فيه واسع شامل.
وهي كسائر السور المكية تعالج موضوعات العقيدة الكبرى : الألوهية، والوحي والبعث، ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسة، تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين دين إبراهيم عليه السلام، ودين محمد صلى الله عليه وسلم، وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية فيما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال، وتلم بوظيفة الرسل، وسنة الله في المكذبين لهم، وتلم بموضوع التحليل والتحريم، وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع، وتلم بالهجرة في سبيل الله، وفتنة المسلمين في دينهم، والكفر بعد الإيمان وجزاء هذا كله عند الله ثم تضيف إلى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة : العدل والإحسان، والإنفاق والوفاء بالعهد، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة، وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها.
فأما الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات، والمجال الذي تجرى فيه الأحادث فهو فسيح شامل.. هو السماوات والأرض، والماء الهاطل، والشجر النامي.. والليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم. والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار، وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها، والأخرى بأقدارها ومشاهدها، وهو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق.
في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير، حملة هادئة الإيقاع، ولكنها متعددة الأوتار، ليست في جلجلة سورة الأنعام وسورة الرعد، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري، وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان الحساس إنها تخاطب العين ؛ لترى، والأذن ؛ لتسمع، واللمس ؛ ليستشعر، والوجدان ؛ ليتأثر والعقل ؛ ليتدبر، وتحشد الكون كله : سماءه وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره، وجباله وبحاره، وفجاجه وأنهاره، وظلاله وأكنافه، ونبته وثماره، وحيوانه وطيوره، كما تحشد دنياه وآخرته، وأسراره وغيوبه.. كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب، مختلف الإيقاعات التي لا يغلق أمامها إلا القلب الميت، والعقل المنكوس، والحس المطموس.
هذه الإيقاعات تتناول التوجيه إلى آيات الله في الكون وآلائه على الناس، كما تتناول مشاهد القيامة، وصور الاحتضار ومصارع الغابرين، تصاحبها اللمسات الوجدانية التي تتسرب إلى أسرار الأنفس، وإلى أحوال البشر وهم أجنة في البطون، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة، وهم في حالات الضعف والقوة، وهم في أحوال النعمة والنقمة، كذلك تتخذ السورة الأمثال، والمشاهد، والحوار، والقصص الخفيفة، أدوات للعرض والإيضاح.
فأما الظلال العميقة التي تلون جو السورة كله، فهي : الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخلق، وعظمة النعمة، وعظمة العلم والتدبير.. كلها متداخلة، فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر لا تلبي ضروراتهم وحدها، ولكن تلبي أشواقهم كذلك، فتسد الضرورة، وتتخذ للزينة، وترتاح بها أبدانهم وتستريح لها نفوسهم، لعلهم يشكرون، ومن ثم تتراءى في السورة ظلال النعمة، وظلال الشكر، والتوجيهات إليها ؛ والتعقيب بها في مقاطع السورة وتضرب عليها الأمثال، ونعرض لها النماذج وأظهرها نموذج إبراهيم.
﴿ شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ﴾. ( النحل : ١٢١ ).
كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والأفكار، والعبارات والإيقاعات، والقضايا والموضوعات نرجو أن نشاهده في أثناء استعراضنا لأجزاء السورة.
التوحيد في السورة
تبدأ سورة النحل بآية مشهورة تقال كثيرا عندما يحين الأجل ويقف الإنسان عاجزا أمام حوادث القدر، يقول سبحانه :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾. ( النحل : ١ ).
ومن أسباب نزول هذه الآية : أن أهل مكة كانوا يستعجلون الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. وكلما امتد بهم الأجل ولم ينزل العذاب ؛ زادوا استعجالا، وزادوا استهزاء واستهتارا، وحسبوا أن محمدا يخوفهم بما لا وجود له ولا حقيقة ؛ ليؤمنوا له ويستسلموا، ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم ورحمته في إنظارهم ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون، وآياته في القرآن.
نعم الله
تسترسل الآيات في سورة النحل تستعرض نعم الله سبحانه على الإنسان ؛ فتذكر خلق السماوات والأرض والإنسان، والأنعام والنبات، والليل والنهار، والجبال والبحار، والشمس والقمر والنجوم، وهي ظواهر طبيعية ملموسة ولكننا إذا قرأنا الآيات من ٣ إلى١٨ في سورة النحل نجد أننا أمام لوحة كونية معروضة تنتقل بالإنسان من مشهد إلى آخر وكل مشهد يدل على وحدانية الخالق، ووحدانية المنعم. وتعرض الآيات هذه النعم فوجا فوجا ومجموعة مجموعة بادئة بخلق السماوات والأرض فيقول سبحانه :﴿ خلق السماوات والأرض بالحق ﴾. ( النحل : ٣ ).
فالحق قوام خلقهما والحق قوام تدبيرهما، والحق عنصر أصيل في تصريفهما وتصريف من فيهما وما فيهما ؛ فما من شيء من ذلك كله عبث ولا جزاف، إنما كل شيء قائم على الحق وملتبس به وسائر في النهاية إليه.
ثم تستعرض الآيات نعمة خلق الأنعام، والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة العربية كانت هي : الإبل، والبقر، والضأن، والمعز. وقد أباح الله أكلها أما الخيل، والبغال، والحمير ؛ فللركوب والزينة ولا تؤكل، ثم يجيء التعقيب على هذه النعمة يقول سبحانه :﴿ ويخلق ما لا تعلمون ﴾. ( النحل : ٨ ).
ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة. إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها ومقدرات الحياة كلها، ومن ثم يهيئ القرآن الأذهان لاستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة ويتمخض عنه العلم، ويتمخض عنه المستقبل، استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة.
ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة، لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان، والقرآن يهيئ القلوب والأذهان بلا جمود ولا تحجر حين يقول :﴿ ويخلق مالا تعلمون ﴾.
والفوج الثاني من آيات الخلق والنعمة، هو :
إنزال الماء وإنبات النبات والمرعى والزروع التي يأكل منها الإنسان مع الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من أشجار الثمار.
والفوج الثالث من أفواج الآيات :
تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، وكلها ذات أثر حاسم في حياة الإنسان ومن شاء فليتصور نهارا بلا ليل أو ليلا بلا نهار، ثم يتصور مع هذا حياة الإنسان والحيوان والنبات في هذه الأرض كيف تكون، كل أولئك طرف من حكمة التدبير، وتناسق النواميس في الكون كله. يدركه أصحاب العقول التي تتدبر وتعقل :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾. ( النحل : ١٢ ).
والفوج الرابع من أفواج النعمة فيما خلق الله للإنسان :﴿ وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ﴾. ( النحل : ١٣ ).
امتن الله على عباده بما خلق لهم في الأرض من ألوان المنافع، وبما أودعه فيها للبشر من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم في بعض الجهات وفي بعض الأزمان ولفت أنظارهم إلى هذه الذخائر المخبوءة في الأرض، المودوعة للناس حتى يبلغوا رشدهم يوما بعد يوم، ويستخرجوا كنوزهم في حينها ووقت الحاجة إليها، وكما قيل : إن كنزا منها قد نفذ أعقبه كنز آخر غنى، من رزق الله المدخر للعباد قال تعالى :﴿ إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ﴾.
ثم امتن سبحانه على عباده بالبحر المالح وما يشتمل عليه من صنوف النعم ؛ فمنها : اللحم الطري من السمك وغيره للطعام، وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان وغيرها من الأصداف والقواقع.
ومنها : مرور السفن تمخر عباب البحر، وتيسر المصالح وتبادل المنافع بين الناس قال تعالى :﴿ وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ﴾. ( النحل : ١٤ ).
وعندما ينتهي استعراض النعم يبين القرآن : أن من يخلق ليس كمن لا يخلق وأن نعم الله على الإنسان لا تعد ولا تحصى.
﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾. ( النحل : ١٨ ).
وحدة الألوهية
تتعرض الآيات من ٢٢ إلى٥٠ في سورة النحل، لتقرير وحدة الألوهية فيقول سبحانه :﴿ وإلهكم إله واحد ﴾.
وكل ما سبق في السورة من آيات الخلق وآيات النعمة وآيات العلم يؤدي إلى هذه الحقيقة الكبيرة البارزة وهي : أن هذا الكون البديع المنظم لا يحفظ نظامه إلا إله واحد والذين لا يسلمون بهذه الحقيقة ؛ قلوبهم منكرة ؛ فالجحود صفة كامنة فيها، والعلة أصيلة في نفوسهم المريضة، وطباعهم المعاندة المتكبرة عن الإقرار الإذعان والتسليم.
وتختم هذه الآيات بمشهد مؤثر ؛ مشهد الظلال في الأرض كلها ساجدة لله ومعها ما في السماوات وما في الأرض من دابة، والملائكة قد برئت نفوسهم من الاستكبار وامتلأت بالخوف من الله والطاعة لأمره بلا جدال. هذا المشهد الخاشع الطائع يقابل صورة المستكبرين المتكبرة قلوبهم في مفتتح هذه المجموعة من الآيات.
وبين المطلع والختام يستعرض السياق مقولات أولئك المستكبرين المنكرين للوحي والقرآن ؛ إذ يزعمون : أنه أساطير الأولين، ومقولاتهم عن أسباب شركهم بالله وتحريمهم ما لم يحرمه الله ؛ إذ يدعون : أن الله أراد منهم الشر وارتضاه. ومقولاتهم عن البعث والقيامة ؛ إذ يقسمون جهدهم : لا يبعث الله من يموت، ويتولى الرد على مقولاتهم جميعا، ويعرض في ذلك مشاهد احتضارهم ومشاهد بعثهم وفيها يتبرءون من تلك المقولات الباطلة كما يعرض بعض مصارع الغابرين من المكذبين أمثالهم ويخوفهم أخذ الله في ساعة من ليل أو نهار وهم لا يشعرون وهم في تقلبهم في البلاد، أو وهم على تخوف وتوقع وانتظار للعذاب.
إلى جوار هذا يعرض صورا عن مقولات المتقين المؤمنين وما ينتظرهم عند الاحتضار ويوم البعث من طيب الجزاء... وينتهي هذا الدرس بذلك المشهد الخاشع الطائع للظلال والدواب والملائكة في الأرض والسماء والسياق القرآني يعبر عن خضوع الأشياء لنواميس الله بالسجود وهو أقصى مظاهر الخضوع ويوجه إلى حركة الظلال المتفيئة أي : الراجعة بعد امتداد وهي حركة لطيفة خفيفة ذات دبيب في المشاعر والأعماق، ويرسم المخلوقات داخرة أي : خاضعة خاشعة ويضم إليها ما في السماوات وما في الأرض من دابة ويضيف إلى الحشد الكوني.. الملائكة في مقام خشوع وخضوع وعبادة وسجود، قال تعالى :﴿ ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون*يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾. ( النحل : ٥٠، ٤٩ ).
أدلة الوحدانية
تستمر الآيات من ٥١ إلى٧٦ في سورة النحل في إثبات قضية الألوهية الواحدة التي لا تتعدد، تبدأ فتق
المفردات :
مثل السوء : الصفة السوء، وهي احتياجهم إلى الولد، وكراهتهم للبنات ؛ خوف الفقر والعار.
ولله المثل الأعلى : الصفة العليا، وهي أنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال.
التفسير :
﴿ للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ﴾.
أي : للذين لا يؤمنون بالآخرة، وما فيها من حساب وثواب وعقاب ؛ ﴿ مثل السوء ﴾. أي : صفة السوء، التي هي كالمثل في القبح، وهي وأدهم البنات، وقولهم : الملائكة بنات الله، وفرحهم بولادة الذكور، وكرههم لولادة الأنثى، فهذه الصفات تدل على صلفهم وغبائهم وسوء تفكيرهم.
﴿ ولله المثل الأعلى ﴾أي : الصفة العليا، وهي أنه الواحد الأحد، المنزه عن الوالد والولد، والمتصف بكل كمال، والمنزه عن كل نقص، فهو العليّ العظيم القادر الوهّاب، العليم الحكيم العزيز الملك القدوس السلام، المؤمن، المهيمن الجبار القهار، الخالق البارئ المصور، بيده الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير.
﴿ وهو العزيز ﴾ في ملكه بحيث لا يغلبه غالب.
﴿ الحكيم ﴾ في أفعاله وأقواله.
قال الشوكاني :
﴿ للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ﴾.
هذا وجه آخر في الردّ على من قال عن الملائكة : إنها بنات الله، فإن الولد مثل أبيه، أي : اختاروا أضعف الجنسين ؛ ليكون عندهم مثلا لله، بل لهؤلاء الذين وصفوا الله سبحانه بهذه القبائح الفظيعة، ﴿ مثل السوء ﴾، أي : صفة السوء من الجهل والكفر بالله.
﴿ ولله المثل الأعلى ﴾. من الغنى الكامل والجود الشامل والعلم الواسع٤٠.
المفردات :
دابة : الدابة : كل ما يدب على الأرض، ويدخل فيه الإنسان.
إلى أجل مسمى : أي : إلى موعد مقدر.
التفسير :
﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾.
تفيد هذه الآية : حكمة الله ورحمته بعباده ؛ فقد خلق الله الخلق ومنحهم العقل والإرادة والاختيار، وأعطاهم فرصة سانحة في هذه الدنيا طوال حياتهم فيها، ولو عاجل الله الناس بالعقوبة ؛ لأهلك الظالمين والكافرين جميعا، وصارت الأرض يَبَابا ؛ لكثرة من هلك من الظالمين والكافرين، لكن الله جلت حكمته يؤجل هلاك الإنسان، ويمنحه فرصة كاملة ؛ لعله أن يتوب أو يسترجع، فإذا جاء أجل الإنسان وحان موته، فإن روحه تخرج في لحظة محددة، لا تتقدم عنها أي وقت مهما كان صغيرا، ولا تتأخر عن أجلها لحظة أو برهة.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء مرفوعا :" إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها الله العبد ؛ فيدعون له من بعده ؛ فيلحقه دعاؤهم في قبره ؛ فذلك زيادة العمر " ٤١.
ويجعلون لله ما يكرهون : من البنات بزعمهم : أن الملائكة بنات الله.
أن لهم الحسنى : الذكور أو الجنة.
لا جرم : حقا.
مفرطون : منسيون مضيعون، متروكون في النار.
التفسير :
﴿ ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ﴾.
أي : إن المشركين يجعلون لله البنات والشركاء وهم يكرهون البنات، ويكرهون أن يشاركهم أحد فيما يملكون، ثم يتحدثون كذبا وزورا : أن لهم العاقبة الحسنة، والجزاء الأفضل في الجنة، فهم يعملون عملا سيئا، ويزعمون كذبا : أن لهم الحسنى في الآخرة، مع أنك لا تجني من الشوك العنب، وعقيدة الكفر وسلوك الكافرين، لا يؤدي إلا إلى النار في الآخرة.
﴿ لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ﴾. أي : حقا إن لهم في الآخرة النار وعذابها، وأنهم مفرطون، أي : معجلون إلى النار من الفرط، وهو السابق إلى الورد، ومن معاني :﴿ مفرطون ﴾. متركون منسيون مطيّعون، ولا منافاة بينهما ؛ لأن الكفار يعجل بهم إلى النار، وينسون فيها ويخلدون فيها أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
تالله : أقسم الله عز وجل بنفسه.
فهو وليهم : ناصرهم في الدنيا، وبئس الناصر.
ولهم عذاب أليم : موجع في الآخرة.
التفسير :
﴿ تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم ﴾.
أقسم الحق سبحانه وتعالى بنفسه مؤكدا : أنه أرسل رسلا، وأنزل عليهم كتبا، وبعثهم إلى أمم متعددة، كأمة إبراهيم وأمة موسى، وأمة عيسى، وأمة نوح، وأمة عاد، وأمة صالح، وغيرهم من الأمم، لكن هذه الأمم لم تستجب لدعوة الأنبياء، ولم تبادر إلى تصديق الرسل، بل صدوا عن سبيل الله، وكفروا برسل الله، وزين لهم الشيطان هذا الكفر، وأغراهم به فآثروا الباطل، ورفضوا الإيمان، وفي يوم القيامة ليس لهم ولي إلا الشيطان، وعندئذ يرضخون تحت العذاب، ويصلون جهنم ولا تنفعهم ولاية الشيطان.
وقريب من هذا المعنى قال الله تعالى :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم... ﴾( إبراهيم : ٢٢ ).
ويحتمل أن يكون معنى﴿ فهو وليهم اليوم ﴾ : الإشارة إلى كفار مكة، فيكون المعنى :﴿ تالله ﴾ لقد بعثنا قبلك يا محمد رسلا إلى أقوامهم، فحَسّن الشيطان لهم أعمالهم القبيحة حتى كذبوا الرسل، ومثل هذا التزيين والتكذيب، ما يقوم به كفار مكة، فالشيطان وليهم اليوم، وناصرهم، وبئس الناصر، ولهم عذاب أليم في الآخرة ؛ جزاء تكذيبهم الرسل وكفرهم بالله.
وقريب من هذا المعنى الثاني قوله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾( البقرة : ٢٥٧ ).
الذي اختلفوا فيه : في دين الله، فتعرفهم بالصواب.
التفسير :
﴿ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾.
أي : أنزلنا عليك القرآن يا محمد لتبين لهم وجه الصواب فيما اختلفوا فيه، من العقائد والعبادات والمعاملات والحلال والحرام، وليكون القرآن هداية وإرشادا وبيانا، ورحمة لمن أراد الإيمان والاهتداء بهدي السماء، فالقرآن يشتمل على تعاليم السماء، وهذا القرآن مصدقا للكتب السابقة في جملتها، ومهيمنا عليها ؛ لبيان وجه الحق فيم اختلف فيه أهلها، وفي نفس الوقت هو رحمة وهداية لمن اهتدى وآمن، أما من كفر وكذّب وصدّ عن الحق، فهو خارج عن الاستفادة بهدي القرآن، بل أصبح القرآن حجة عليه، وزاده نزول القرآن إعراضا وكبرا وعتوا.
قال تعالى :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ﴾ ( فصلت : ٤٤ ).
المفردات :
فأحيا به الأرض : المراد بحياة الأرض : إنباتها الزرع والشجر وإخراجها الثمر.
يسمعون : سماع تدبر وفهم، بقلوبهم لا بآذانهم.
تمهيد :
تشتمل الآيات على دلائل القدرة الإلهية، فالله أنزل من السماء المطر وبه تخضر الأرض وتنبت، ومن نعم الله : إخراج اللبن من الأنعام خالصا سائغا للشاربين، ويسر لنا اتخاذ الخمر والخل والدبس من الأعناب والنخيل، ويسر لنا استخراج عسل النحل : وألهم النحل بناء البيوت، والبحث عن أرزاقها في كل فج.
التفسير :
٦٥ ﴿ والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ﴾.
نلحظ يد القدرة الإلهية في إعمار هذا الكون وحفظ توازنه، فالشمس ترسل أشعتها على البحار والمحيطات، فيتصاعد البخر إلى السماء، فيرسل الله الرياح فتثير السحاب، ثم يتساقط مطرا بمشيئة الله تعالى، وهذا المطر يحيي الأرض ويتسبب في إنبات النبات والثمر، وحياة الإنسان والحيوان، وإعمار الكون، قال تعالى :﴿ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ﴾( فصلت : ٣٩ ).
والمعنى : وإن من دلائل قدرة الله تعالى، وإنزاله المطر، حيث تنبت الأرض الثمار والأعناب وسائر النباتات، وفي هذا آية ودليل على ألوهية الخالق، ﴿ لقوم يسمعون ﴾بقلوبهم، وأفئدتهم، دعوة الحق ؛ فيستجيبون لها.
تشتمل الآيات على دلائل القدرة الإلهية، فالله أنزل من السماء المطر وبه تخضر الأرض وتنبت، ومن نعم الله : إخراج اللبن من الأنعام خالصا سائغا للشاربين، ويسر لنا اتخاذ الخمر والخل والدبس من الأعناب والنخيل، ويسر لنا استخراج عسل النحل : وألهم النحل بناء البيوت، والبحث عن أرزاقها في كل فج.
المفردات :
لعبرة : الاعتبار والعظة.
الفرث : كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش والمعي.
ودم لبنا خالصا : أي : مصطفى من الدم والفرث ليس عليه لون دم، ولا رائحة فرث.
سائغا للشاربين : سهل المرور في الحلق، يقال : ساغ الشراب في الحلق، أو ساغه صاحبه، قال تعالى :﴿ ولا يكاد يسيغه ﴾.
التفسير :
﴿ وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ﴾.
من دلائل القدرة الإلهية : أن الحيوان يتغذى ببعض نبات الأرض، فيتحول الطعام إلى قسمين : فضلات من الفرث تكون في كرش الحيوان، وعصارة من الدم تغذى الجسم، وتمده بالطاقة التي يحتاج إليها، وهذا الدم أيضا يذهب جزء منه إلى الغدد التي في الضرع فتحولها إلى لبن فكأن الصانع الحكيم جعل هذه الغدد معملا ومصنعا، لتحويل الدم إلى لبن، هذا اللبن النقي السائغ المستساغ للشرب، النافع للصغير والطفل الكبير، هذا اللبن من أفضل الأطعمة، التي يستفيد بها الجسم، وهو دليل الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الإسلام، وفي الحديث الصحيح : أنه في ليلة الإسراء والمعراج، قدم جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إناءين أحدهما من خمر، والآخر من لبن، فاختار الرسول صلى الله عليه وسلم اللبن ؛ فقال له جبريل : اخترت الفطرة.
وروى أبو داود وغيره : عن ابن عباس قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن، فشرب، ثم قال :( إذا أكل أحدكم طعاما فليقل : اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، وإذا سقي لبنا فليقل : اللهم، بارك لنا فيه وزدنا منه، فإنه ليس شيء يجزئ عن الطعام والشراب إلا اللبن ).
تشتمل الآيات على دلائل القدرة الإلهية، فالله أنزل من السماء المطر وبه تخضر الأرض وتنبت، ومن نعم الله : إخراج اللبن من الأنعام خالصا سائغا للشاربين، ويسر لنا اتخاذ الخمر والخل والدبس من الأعناب والنخيل، ويسر لنا استخراج عسل النحل : وألهم النحل بناء البيوت، والبحث عن أرزاقها في كل فج.
المفردات :
السكر : الخمر.
الرزق الحسن : الخل والتمر والزبيب ونحو ذلك.
التفسير :
﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ﴾.
﴿ ومن ثمرات النخيل ﴾. وهو : التمر والدبس والرطب والعجوة، ومن ثمرات ﴿ الأعناب ﴾، وهو العنب والزبيب ؛ تتخذون من هذه الثمرات ﴿ سكرا ﴾ يسكر، وكان ذلك قبل تحريم الخمر، ﴿ ورزقا حسنا ﴾. كالخل والمربة والزبيب، ونحو ذلك.
قال ابن عباس :{ السكر : ما حرم من ثمرتيهما، والرزق الحسن : ما حل من ثمرتيهما.
فالآية تصف الواقع، ولم تقل : سكرا حسنا، بل قالت :﴿ سكرا ورزقا حسنا ﴾. وقد كانت هذه حلقة، في سلسلة تحريم الخمر بالتدريج، فقد كانت الخمر متمكنة من العرب، فكان من الحكمة أن يندرج القرآن في تحريمها، فذكر : أنهم يتخذون سكرا من ثمار النخيل والأعناب، والسكر هو ما يسكرهم ؛ لذلك لم يتحدث عنه القرآن بالتحسين، بل قال :﴿ سكرا ورزقا حسنا ﴾.
ثم ذكر : أن في الخمر والميسر منافع ومضار ؛ لكن المضار أكثر من المنافع، قال تعالى :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾( البقرة : ٢١٩ ).
ثم نهى عن الاقتراب من الصلاة في حالة السكر فقال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾( النساء : ٤٣ ).
ثم حرم الله تعالى الخمر والميسر تحريما قاطعا فقال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون* إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾ ( المائدة : ٩١، ٩٠ ).
﴿ إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ﴾. أي : إن في ذلك لآية باهرة، ودليلا قاطعا على نعم المنعم سبحانه، لقوم يستخدمون عقولهم بالنظر والتأمل، فيصلون إلى توحيد الله وعبادته سبحانه وتعالى.
تشتمل الآيات على دلائل القدرة الإلهية، فالله أنزل من السماء المطر وبه تخضر الأرض وتنبت، ومن نعم الله : إخراج اللبن من الأنعام خالصا سائغا للشاربين، ويسر لنا اتخاذ الخمر والخل والدبس من الأعناب والنخيل، ويسر لنا استخراج عسل النحل : وألهم النحل بناء البيوت، والبحث عن أرزاقها في كل فج.
المفردات :
وأوحى : ألهم وعلّم وقذف في أنفسها ففهمته.
النحل : زنابير العسل واحدتها : نحلة.
يعرشون : يرفعون من الكروم والسقوف.
التفسير :
﴿ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ﴾.
تتحدث الآية عن قدرة الحق سبحانه في تنظيم هذا الكون وإبداعه، وإتمام الخلق وإكماله، فقد تحدث فيما سبق : عن إنزال الماء وفائدته، وعن تيسير اللبن ومزاياه، وعن فوائد ثمرات النخيل والأعناب، ثم تحدثت الآية عن نعمة الله على النحل، حيث ألهم النحل، وأودع فيها طريقة العمل الجماعي، وتنظيم العمل فيما بينها، بطريقة تعجز عن تطبيقها أعظم العقول، فالنحل يتخذ بيوته في ثلاثة أماكن، بين الجبال أي : في الفرجات التي تكون في الجبل، وفي الفجوات التي تكون في الشجر، وفوق العريش الذي يصنعه الإنسان ؛ لتربية النحل والاستفادة بالعسل.
تشتمل الآيات على دلائل القدرة الإلهية، فالله أنزل من السماء المطر وبه تخضر الأرض وتنبت، ومن نعم الله : إخراج اللبن من الأنعام خالصا سائغا للشاربين، ويسر لنا اتخاذ الخمر والخل والدبس من الأعناب والنخيل، ويسر لنا استخراج عسل النحل : وألهم النحل بناء البيوت، والبحث عن أرزاقها في كل فج.
المفردات :
السبل : واحدها : سبل.
ذللا : واحدا : ذلول، أي : منقادة طائعة.
شراب : عسلا.
مختلف ألوانه : من أبيض إلى أصفر إلى أسود بحسب اختلاف المرعى.
التفسير :
﴿ ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ﴾.
جاء الحديث في الآية السابقة، عن إلهام النحل : أن تتخذ بيوتها من بعض الجبال، ومن بعض الأشجار، وفوق العروش التي يصنعها الإنسان، فليس كل جبل صالحا لحياة النحل، ولهذا جاءت من التبعيضية، أي : اتخذي من بعض الجبال.
وهنا أباح الأكل من جميع ما تشتهيه، وما تحب أكله من الثمرات، ﴿ ثم كلي من كل الثمرات ﴾. أي : الحلو والمز والحامض والحريف، ويتحول بقدرة القادر إلى شهد.
﴿ فاسلكي سبل ربك ذللا ﴾. أي : سيري في الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها، وتدخلي فيها لطلب الثمار، ولا تعسر عليك وإن توعرت، ولا تضلي عن العودة منها وإن بعدت.
والخلاصة : سيري في الطرق والمسارات التي ذللها الله لك، ويسر لك السير فيها، والعودة منها إلى منزلك، أو سيري حال كونك مذللة لله مسخرة منقادة لخدمة الإنسان.
﴿ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه ﴾.
كان الحديث عن النحلة فيما سبق، وهنا اتجه الحديث إلى الناس ؛ لإعلامهم بفضل الله عليهم.
والمعنى : يخرج من بطون النحل شراب هو العسل، متعدد الألوان، فتارة يكون أبيض، وأخرى أصفر، وحينا أحمر، بحسب اختلاف المرعى.
﴿ فيه شفاء للناس ﴾. أي : إن العسل نافع لكثير من الأمراض، وكثيرا ما يدخل في تركيب العقاقير والأدوية.
وقد اختلف العلماء في هذا الشفاء، هل هو عام لكل داء، أو خاص ببعض الأمراض.
فقالت طائفة : هو على العموم في كل حال ولكل أحد.
وقالت طائفة أخرى : إن ذلك خاص ببعض الأمراض، ولا يقتضي العموم في كل علة وفي كل إنسان، وليس هذا بأول لفظ خصص في القرآن، فالقرآن مملوء منه، ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص، والخاص بمعنى العام، ومما يدل على هذا، أن العسل نكرة في سياق الإثبات، فلا يكون عاما باتفاق أهل اللسان، ومحققي أهل الأصول. وتنكيره وإن أريد به التعظيم، لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض أو أمراض، لا لكل مريض، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم.
وحديث البخاري :( إن أخي استطلق بطنه )٤٢، يفيد : معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن هذا المرض يناسبه العسل، ولا نستطيع أن نقول : إن جميع الأمراض يناسبها العسل، بل نقول : العسل مناسب وشفاء لبعض الأمراض، وينبغي أن نرجع إلى معرفة الأطباء المختصين، ونتبع مشورتهم، وأن نمتنع عن أكل العسل إذا أفاد الطبيب : أنه غير مناسب لمرض من الأمراض٤٣.
﴿ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ﴾. أي : فيما ذكره الله تعالى من تعداد هذه النعم، وتسخير النحل وإلهامها : أن تأكل من كل الثمرات، وأن تتخذ البيوت من الجبال والشجر والعروش، وتيسير نظامها وعملها وخروج العسل منها ؛ ليكون شفاء للناس ؛ في كل ما ذكر آيات ودلائل واضحات، لقوم يتفكرون ويتأملون، ويشهدون بأن كل ذلك من صنع الإله الواحد الأحد، الذي ليس كمثله شيء، وأنه لا ينبغي أن يكون له شريك، ولا تصح الألوهية إلا له.
ملحق بتفسير الآية
تتبع علماء المواليد أحوال النحل، وكتبوا فيها المؤلفات، بكل اللغات، وخصصوا لها مجلات تنشر أطوارها وأحوالها، وقد وصلوا من ذلك إلى أمور :
( أ ) أنها تعيش جماعات كبيرة، قد يصل عدد بعضها نحو خمسين ألف نحلة، وتسكن كل جماعة منها في بيت خاص يسمى : خلية.
( ب ) أن كل خلية يكون فيها نحلة واحدة كبيرة تسمى : الملكة أو اليعسوب، وهي أكبرهم جثة وأمرها نافذ فيهم، وعدد يتراوح بين أربعمائة وخمسمائة يسمى الذكور، وعدد آخر من خمسة عشر ألفا إلى خمسين ألف نحلة، ويسمى : الشغالات أو العاملات.
( ج ) تعيش هذه الفصائل الثلاث في كل خلية عيشة تعاونية على أدق ما يكون نظاما، فعلى الملكة وحدها وضع البيض، الذي يخرج منه نحل الخلية كلها فهي أم النحل، وعلى الذكور تلقيح الملكات وليس لها عمل آخر، وعلى الشغالة خدمة الخلية، وخدمة الملكات، وخدمة الذكور، فتنطلق في المزارع طول النهار لجمع رحيق الأزهار، ثم تعود إلى الخلية فتفرز عسلا، يغذى به سكان الخلية صغارا وكبارا... كما عليها أن تنظف الخلية، وتخفق بأجنحتها لتساعد على تهويتها، وعليها أيضا الدفاع عن المملكة، وحراستها من الأعداء، كالنمل والزنابير وبعض الطيور.
من هدى السنة
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه، فقال له رسول الله :( اسقه عسلا ) فسقاه عسلا، ثم جاء فقال يا رسول الله، سقيته عسلا، فما زاده إلا استطلاقا، قال :( اذهب فاسقه عسلا )، فذهب فسقاه عسلا، ثم جاء فقال : يا رسول الله، ما زاده ذلك إلا استطلاقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلا ) فذهب فسقاه عسلا فبرئ٤٤.
وعلّل هذا بعض الأطباء الماضين، قال :
كان لدى هذا الرجل فضلات في المعدة، فلما سقاه عسلا ؛ تحللت فأسرعت إلى الخروج فزاد إسهاله، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو فائدة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحلل والدفع، وكلما سقاه حدث مثل هذا، حتى اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن، فاستمسك بطنه، وصلح مزاجه، وزالت الآلام والأسقام، بإرشاده عليه السلام.
وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( الشفاء في ثلاثة : شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهي أمتي عن الكي )٤٥.
وروى البخاري أيضا عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن كان في شيء من أدويتكم، أو يكون في شيء من أدويتكم خير، ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكوى )٤٦.
وقد تحدث الأطباء في القديم والحديث عن فضل العسل وأهميته في علاج بعض الأمراض، وذكروا أن التركيب الكيماوي للعسل كما يلي :
من ٢٥ : ٤٠% جلوكوز.
من ٣٠ : ٤٥% ليفيلوز.
من ١٥ : ٢٥% ماء.
والجلوكوز الموجود في العسل بنسبة أكثر من أي غذاء آخر، وهو سلاح الطبيب في أغلب الأمراض، واستعماله في ازدياد مستمر بتقدم الطب، فيعطى بالفم، وبالحقن الشرجية، وتحت الجلد، وفي الوريد ويعطى بصفته مقويا ومغذيا، وضد التسمم الناشئ من أمراض أعضاء الجسم، مثل : التسمم البولي الناشئ من أمراض الكبد، والاضطرابات المعدية والمعوية، وضد التسمم في الحميات، مثل : التيفويد والالتهاب الرئوي، والسحائي، والمخي، والحصبة، وفي حالات ضعف القلب، وحالات الذبحة الصدرية، وبصفة خاصة في الارتشاحات العمومية الناشئة من التهابات الكلي الحادة وفي احتقان المخ، وفي الأورام المخية.. الخ٤٧.
المفردات :
أرذل العمر : أضعفه وأوهاه، وهو وقت الهرم والشيخوخة، يقال : رذل الشيء، يرذل، رذالة ؛ إذا ذهب جيده وبقي رديئة.
تمهيد :
بعد أن ذكر سبحانه عجائب أحوال الحيوان، وما فيها من نعمة للإنسان، أردف ذلك ببيان أحوال الناس، فذكرت مراتب أعمارهم، فمنهم من يموت صغيرا، ومنهم من يعمر حتى يصل إلى أرذل العمر، ومنهم من يموت في مرحلة الشباب أو الكهولة، ثم ثنى بذكر أعمال أخرى لهم، وهي تفضيل بعضهم على بعض في الرزق، ثم ثلث بذكر نعمة ثالثة، وهي أن جعل لهم من أنفسهم أزواجا، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة، ورزقهم المطعومات الطيبة من النبات، كالثمار والحبوب والأشربة، فمن الواجب شكر المنعم وعبادة الله وحده لا شريك له.
التفسير :
٧٠ ﴿ والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير ﴾.
خلق الله الخلائق من عهد آدم إلى قيام الساعة، وبيده الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير، فالطفل يولد صغيرا، وتوجد معه الحواس المختلفة، والسمع والبصر واليد والرجل، ثم يصير فتى، ثم شابا، ثم كهلا، ثم شيخا، وفي نهاية العمر تضعف قواه وذاكرته ويعتريه النسيان، فإذا كسب علما في شيء لم يلبث أن ينساه، ويزول من ساعته، فيقول لك : من هذا ؟، فتقول له : هذا فلان، فلا يمكث إلا هنيهة، ثم يسألك عنه مرة أخرى.
وقد ذكر العلماء للإنسان أربع مراتب :
أولها : سنّ النشوء والارتقاء، وثانيها : سنّ الوقوف وهو سنّ الشباب من ٣٣ إلى ٤٠ سنة، وثالثها : سنّ بداية الضعف وهو سنّ الكهولة وهو من الأربعين إلى الستين، ورابعها : سنّ الضعف الشديد، وهو سنّ الشيخوخة، وهو من الستين إلى نهاية العمر.
﴿ لكي لا يعلم بعد علم شيئا ﴾.
أي : فعلنا من إبقاء بعض الناس إلى سن الشيخوخة ؛ لكي يصير إلى حالة شبيهة بحالة طفولته، في عدم إدراك الأمور إدراكا تاما سليما، أو لتكون عاقبته بعد العلم بالأشياء، إلى أن لا يعلم شيئا منها علما كاملا، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر ؛ لأنها سن تتكاثر فيها المتاعب والآلام، وقد يصير الإنسان فيها عالة على غيره.
روى البخاري عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول :( اللهم، إني أعوذ بك من البخل والكسل، والهرم، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيى والممات )٤٨.
﴿ إن الله عليم قدير ﴾.
إن الله تعالى عليم بأحوال مخلوقاته، لا يخفى عليه شيء من تصرفاتهم، ﴿ قدير ﴾. على تبديل الأمور كما تقتضي حكمته وإرادته.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى :﴿ الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ﴾( الروم : ٤٥ ).
وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش | ثمانين حولا لا أبا لك يسأم |
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب | تمته ومن تخطئ يعمّر فيهرم |
قال تعالى :﴿ ... ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا.. ﴾( الحج : ٥ ).
بعد أن ذكر سبحانه عجائب أحوال الحيوان، وما فيها من نعمة للإنسان، أردف ذلك ببيان أحوال الناس، فذكرت مراتب أعمارهم، فمنهم من يموت صغيرا، ومنهم من يعمر حتى يصل إلى أرذل العمر، ومنهم من يموت في مرحلة الشباب أو الكهولة، ثم ثنى بذكر أعمال أخرى لهم، وهي تفضيل بعضهم على بعض في الرزق، ثم ثلث بذكر نعمة ثالثة، وهي أن جعل لهم من أنفسهم أزواجا، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة، ورزقهم المطعومات الطيبة من النبات، كالثمار والحبوب والأشربة، فمن الواجب شكر المنعم وعبادة الله وحده لا شريك له.
﴿ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ﴾.
شاءت حكمة الله تعالى، أن يجعل بعض الناس واسع الأرزاق، وبعضهم قليل الرزق، وبعضهم بين بين ؛ لحكمة يعلمها ؛ حتى يستفيد الغني من عمل الفقير، ويستفيد الفقير من مكافأة الغني.
قال تعالى :﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير ﴾( الشورى : ٢٧ ).
ومن الأمثال المشهورة : إذا كنت أمير، وأنا أمير، من يسوق الحمير.
إن هذا التفاوت بين الناس في المواهب والأرزاق، سنة إلهية، حيث قال تعالى :﴿ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس... ﴾ ( الحج : ٧٥ ).
وقال سبحانه :﴿ إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ﴾( البقرة : ٢٤٧ ).
ويذكر بعض المفسرون : أن نعم الله متعددة، فالعلم ملك، والخلق ملك، والحكمة ملك، والمال ملك، وسائر العطايا والمواهب، يعطي منها الوهاب بغير حساب.
قال تعالى :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ﴾( آل عمران : ٢٦ ).
﴿ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق... ﴾. أي : من الناس الأغنياء ومنهم الفقراء، ومنهم العلماء ومنهم الجهلاء، ومنهم المملوك ومنهم المالك، ولم يجعل ذلك بحسن الحيلة وفضل العقل فحسب، فكثيرا ما ترى العبقري النابه، لا يحصل إلا على الكفاف من الرزق بعد الجهد الجهيد، بينما ترى الأحمق يتقلب في النعيم، كأنما يغترف الرزق من خليج البحر.
قال سفيان بن عيينة :
كم من قويٍ قويٌ من تقلبه | مهذب الرأي عنه الرزق منحرف |
ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط | كأنه من خليج البحر يغترف |
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه | وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا |
هذا الذي ترك الأوهام حائرة | وصيّر العالم النحرير زنديقا |
وفي الحديث القدسي :( إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ولو أفقرته ؛ لساء حاله، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر ولو أغنيته ؛ لساء حاله ).
﴿ فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء... ﴾. أي : إن الأغنياء والأثرياء، والمالكين للخدم والعبيد، لا يوزعون ثروتهم على العبيد والخدم، حتى يتساووا جميعا فيما يملكون، بل يحافظون على أموالهم وأملاكهم، ولا يعطون أتباعهم وخدمهم منها، وإن أعطوهم أعطوهم النذر اليسير من المال، وأمسكوا المال في أيديهم، إذا كان هذا شأن العباد مع بعضهم، فكيف يشركون مع الله معبودات أخرى من مخلوقاته، ويجعلونهم شركاء لله في الألوهية.
قال العوفي : عن ابن عباس في هذه الآية يقول :
لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون معي عبيدي في سلطاني..
جاء في تفسير ابن كثير :
يقول تعالى منكرا عليهم : أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم، فكيف يرضى هو تعالى، بمساواة عبيد له في الألوهية والتعظيم ؟ !.
كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم... ﴾( الروم : ٢٨ ).
ثم ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله :
﴿ أفبنعمة الله يجحدون ﴾. أي : أينعم الله عليهم بالمال والجاه والخلق والرزق، ثم ينسبون هذه العطايا إلى غيره، فيجحدون نعمة الخالق الرازق الذي بيده الخلق والأمر، والهمزة هنا للاستفهام الإنكاري، والفاء معطوفة على مقدر، أي : أيشركون به سبحانه فيجحدون نعمه وينكرونها ويغمطونها حقها، مع أنه تعالى هو الذي منحهم هذه النعم، وتفضل عليهم بالأرزاق.
بعد أن ذكر سبحانه عجائب أحوال الحيوان، وما فيها من نعمة للإنسان، أردف ذلك ببيان أحوال الناس، فذكرت مراتب أعمارهم، فمنهم من يموت صغيرا، ومنهم من يعمر حتى يصل إلى أرذل العمر، ومنهم من يموت في مرحلة الشباب أو الكهولة، ثم ثنى بذكر أعمال أخرى لهم، وهي تفضيل بعضهم على بعض في الرزق، ثم ثلث بذكر نعمة ثالثة، وهي أن جعل لهم من أنفسهم أزواجا، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة، ورزقهم المطعومات الطيبة من النبات، كالثمار والحبوب والأشربة، فمن الواجب شكر المنعم وعبادة الله وحده لا شريك له.
المفردات :
وحفدة : الحفدة : أولاد الأولاد، من الحفد وهو الخفة في العمل والخدمة، كما جاء في القنوت : وإليك نسعى ونحفد. روي عن ابن عباس أنه قال : الحفيد : ولد الابن والبنت، ذكرا كان أو أنثى، وقيل : المراد بهم : الأختان والأصهار، أي : أزواج البنات وأقارب الزوجة، وكلها أقوال متقاربة.
التفسير :
﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات... ﴾.
خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وزوجه حواء، وجعل من نسل آدم وحواء ذرية كثيرة، وشاء الله أن تكون الزوجة من جنس الرجل ؛ ليحدث الأنس والمودة والرحمة، وقد جعل الله هذا الأنس والمودة والرحمة، آية من آيات الله، وبذلك يتنعم الزوجان ويذوقان عسيلة بعضهما، قال تعالى :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾( الروم : ٢١ ).
وقال صلى الله عليه وسلم :( حبّب إلي من دنياكم ثلاث : النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة )٤٩.
﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ﴾.
نلمح هنا المساواة بين الرجال والنساء، وقد كان بعض أهل الجاهلية يكره ولادة البنات، ويتوارى خجلا إذا رزق بالبنات، ويعتبر البنت مولودا غير مرغوب فيه ؛ فيمسكه على هون أو يدسه في التراب، فلما جاء الإسلام ؛ كرم إنسانية الإنسان.
﴿ ولقد كرمنا بني آدم ﴾( الإسراء : ٧٠ )، وكرم المرأة وليدة، وناشئة، وزوجة، وأمّاً، فالمرأة من نفس الرجل، وهي شقيقة الرجل، وليست المرأة مخلوقا من الدرجة الثانية، قال تعالى :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ﴾( النساء : ١ ).
وقال صلى الله عليه وسلم :( النساء شقائق الرجال )٥٠.
وقد جعل الله القوامة للرجل على زوجته، مقابل النفقة والولاية والمسئولية عن الأسرة، وهي ولاية مودة ورحمة وتعاطف، لا ولاية غلظة وتجبر.
قال تعالى :﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم... ﴾( النساء : ٣٤ ).
قال الشيخ أحمد المراغى في تفسير المراغى :
﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ﴾. أي : والله سبحانه جعل لكم أزواجا من جنسكم، تأنسون بهن، وتقوم بهن جميع مصالحكم، وعليهن تدبير معايشكم، وجعل لكم منهن بنين وحفدة أي : أولاد، وأولاد أولاد يكونون زهرة الحياة الدنيا وزينتها، وبهم التفاخر والتناصر والمساعدة لدى البأساء والضراء. اه.
﴿ ورزقكم من الطيبات ﴾.
يمتنّ الله علينا بالأرزاق المتعددة في المأكل والمشرب والمنكح، والهداية والملابس والمساكن، وسائر الطيبات التي ينتفع بها الإنسان إلى أقصى الحدود وأبعد الغايات.
﴿ أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ﴾. أي : إن الله قد أنعم أهل مكة بالعديد من النعم، التي أنعم بها على سائر البشر، مثل : الأزواج، والأبناء، والأحفاد، والطيبات من الرزق، لكنهم يؤمنون بالأوثان والأنصاب، والشركاء والأنداد، التي لم تقدم لهم أي رزق، ويكفرون ويجحدون نعم الله المتعددة عليهم، فلا يقدمون له الشكر، ولا يعترفون له بالألوهية والوحدانية، وبأنه وحده الخالق الرازق، الذي لا شريك له، ، وقد استهل القرآن هذه الفقرة بالاستفهام الإنكاري :﴿ أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ﴾. فيشركون به ويخالفون عن أمره، وهذه النعم كلها من عطائه، وهي آيات على ألوهيته، وهي واقعة في حياتهم، تلابسهم في كل آن.
المفردات :
رزقا من السماوات : رزق السماء : المطر، ورزق الأرض : النبات والثمار التي تخرج منها.
تمهيد :
تشنّع الآيات على الكافرين، في عبادتهم الأصنام والأوثان، مع عجزها وعدم قدرتها على رزق الآخرين، وتنهى أن يجعل لله ندّا أو مثيلا، فهو سبحانه لا ند له ولا نظير، ثم ضرب سبحانه مثلا، قارن فيه بن عبد مملوك قاصر قليل الحيلة، وحر متحرك ينفق سرا وجهرا هل يستويان ؟، وإذا امتنع ذلك فكيف يسوي المشركون القادر الرازق، والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على النفع والضر.
والمثل الثاني : مثل رجلين :
أحدهما : أبكم عاجز لا يقدر على تحصيل خير، وهو عبء ثقيل على سيده.
وثانيهما : رجل يأمر غيره بالعدل، وهو متحدث ناطق ناصح لغيره، جامع لخصال الخير في نفسه، متعدد المواهب والمزايا، نافع لنفسه وللآخرين، وفيه أيضا مقارنة بين صم لا يسمع ولا ينفع، وبين رب قادر خالق رازق سميع مجيب.
التفسير :
٧٣ ﴿ ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون ﴾.
أي : إن هؤلاء الكفار يعبدون من دون الله أصناما، لا تملك إنزال المطر، ولا تملك إنبات النبات، ولا تملك أي شيء من دلائل القدرة الإلهية، التي تحدث القرآن عنها فيما سبق، فهو سبحانه : خالق الإنسان، وخالق الذكر والأنثى، وخالق البنين والحفدة، ورازق الإنسان من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات، بينما نجد الكافرين يعبدون أصناما لا تنفع، ولا تضر ولا تسمع ولا تجيب، ولا تستطيع ذلك لو أرادته، فهي أصنام في غاية الضعف وقلة الحيلة، وأتبع ذلك بضرب مثلين يقارب فيهما بين الصنم العاجز والإله القادر سبحانه وتعالى.
تشنّع الآيات على الكافرين، في عبادتهم الأصنام والأوثان، مع عجزها وعدم قدرتها على رزق الآخرين، وتنهى أن يجعل لله ندّا أو مثيلا، فهو سبحانه لا ند له ولا نظير، ثم ضرب سبحانه مثلا، قارن فيه بن عبد مملوك قاصر قليل الحيلة، وحر متحرك ينفق سرا وجهرا هل يستويان ؟، وإذا امتنع ذلك فكيف يسوي المشركون القادر الرازق، والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على النفع والضر.
والمثل الثاني : مثل رجلين :
أحدهما : أبكم عاجز لا يقدر على تحصيل خير، وهو عبء ثقيل على سيده.
وثانيهما : رجل يأمر غيره بالعدل، وهو متحدث ناطق ناصح لغيره، جامع لخصال الخير في نفسه، متعدد المواهب والمزايا، نافع لنفسه وللآخرين، وفيه أيضا مقارنة بين صم لا يسمع ولا ينفع، وبين رب قادر خالق رازق سميع مجيب.
المفردات :
فلا تضربوا لله الأمثال : لا تجعلوا له الأنداد والنظراء ؛ فهو كقوله :﴿ فلا تجعلوا لله أندادا ﴾( البقرة : ٢٢ )، وضرب المثل للشيء، ذكر الشبيه له والمثيل، مع أنه سبحانه منزه عن ذلك، قال تعالى :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾( الشورى : ١١ ).
التفسير :
﴿ فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾. أي : ليس لله مثال حتى تضربوا له الأمثال، ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ( الشورى : ١١ ).
قال الزجاج :
ورد : أن المشركين كانوا يقولون : إن إله العالم أجلّ من أن يعبده الواحد منا، فكانوا يتوسلون إليه بالأصنام والكواكب، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن ذلك. اه.
فالله سبحانه : أقرب إلينا من حبل الوريد، وقد فتح بابه للداعين والتائبين، والقاصدين في كل وقت وحين، وهو سبحانه يقبل عباده، الغني والفقير، والكبير والصغير، والسوقة والأمير، والمذنب والطائع، فلا يجوز أن تقاس أحوال الخلائق على أحوال الخالق، قال تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ﴾( البقرة : ١٨٦ ).
أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أنه قال :﴿ فلا تضربوا لله الأمثال ﴾. أي : لا تجعلوا معي إلها غيري، فإنه لا إله غيري. اه.
﴿ إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾. إن الله يعلم كنه ما تفعلون من الإجرام، وعظيم الآثام، وأنتم لا تعلمون حقيقته، ولا مقدار عقابه، أو إن الله هو الذي يعلم كيف تضرب الأمثال، وأنتم لا تعلمون ذلك.
تشنّع الآيات على الكافرين، في عبادتهم الأصنام والأوثان، مع عجزها وعدم قدرتها على رزق الآخرين، وتنهى أن يجعل لله ندّا أو مثيلا، فهو سبحانه لا ند له ولا نظير، ثم ضرب سبحانه مثلا، قارن فيه بن عبد مملوك قاصر قليل الحيلة، وحر متحرك ينفق سرا وجهرا هل يستويان ؟، وإذا امتنع ذلك فكيف يسوي المشركون القادر الرازق، والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على النفع والضر.
والمثل الثاني : مثل رجلين :
أحدهما : أبكم عاجز لا يقدر على تحصيل خير، وهو عبء ثقيل على سيده.
وثانيهما : رجل يأمر غيره بالعدل، وهو متحدث ناطق ناصح لغيره، جامع لخصال الخير في نفسه، متعدد المواهب والمزايا، نافع لنفسه وللآخرين، وفيه أيضا مقارنة بين صم لا يسمع ولا ينفع، وبين رب قادر خالق رازق سميع مجيب.
﴿ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون ﴾.
ضرب الله هنا مثلا لرجلين :
أحدهما عبد مملوك عاجز عن التملك والإنفاق، و عاجز عن كل شيء.
والثاني : مالك كثير الرزق ينفق سرا وجهرا.
والمثل الثاني : للسيد المالك الرازق، والأول : للملوك العاجز الذي لا يملك ولا يكسب ؛ وذلك لتقريب الحقيقة الكبرى التي غفلوا عنها حقيقة أن ليس لله مثال، وما يجوز أن يسووا في العبادة بين الله وواحد من خلقه، وكلهم له عبيد.
﴿ هل يستوون ﴾. أي : هل يستوي الإله القادر، والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء البتة.
﴿ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ﴾. أي : الحمد الكامل لله خالصا، دون ما تدعون من دونه من الأوثان، فاتجهوا بالحمد لله الخالق الرازق، ولكن أكثر هؤلاء الكفار يجهلون هذه الحقيقة، ويجعلون لله شركاء في العبادة والحمد.
تشنّع الآيات على الكافرين، في عبادتهم الأصنام والأوثان، مع عجزها وعدم قدرتها على رزق الآخرين، وتنهى أن يجعل لله ندّا أو مثيلا، فهو سبحانه لا ند له ولا نظير، ثم ضرب سبحانه مثلا، قارن فيه بن عبد مملوك قاصر قليل الحيلة، وحر متحرك ينفق سرا وجهرا هل يستويان ؟، وإذا امتنع ذلك فكيف يسوي المشركون القادر الرازق، والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على النفع والضر.
والمثل الثاني : مثل رجلين :
أحدهما : أبكم عاجز لا يقدر على تحصيل خير، وهو عبء ثقيل على سيده.
وثانيهما : رجل يأمر غيره بالعدل، وهو متحدث ناطق ناصح لغيره، جامع لخصال الخير في نفسه، متعدد المواهب والمزايا، نافع لنفسه وللآخرين، وفيه أيضا مقارنة بين صم لا يسمع ولا ينفع، وبين رب قادر خالق رازق سميع مجيب.
المفردات :
أحدهما أبكم : البكم : الخرس ؛ وهو إما ناشئ من صمم خلقي، وإما لسبب عارض، ولا علة في أذنيه، فهو يسمع، لكن لسانه معتقل لا يطيق الكلام، فكل من ولد غير سميع فهو أبكم ؛ لأن الكلام بعد السماع، ولا سماع له.
الكل : الغليظ الثقيل من قولهم : كلت السكين، إذا غلظت شفرتها فلم تقطع، وكل عن الأمر : ثقل عليه فلم يستطع عمله، وقد يسمى اليتيم : كلا ؛ لثقله على من يكفله، ومنه قول الشاعر :
أكول لمال الكل قبل شبابه | إذا كان عظم الكل غير شديد |
على صراط مستقيم : أي : طريق عادل غير جائر.
التفسير :
﴿ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ﴾.
يصور هذا المثل رجلين :
أحدهما : أبكم بليد ضعيف لا يسمع، ولا يسمع، وهو عاجز عن خدمة نفسه، فضلا عن خدمة غيره، وهو مثال للصنم المصنوع من خشب أو نحاس، وهو في حاجة إلى من يحمله وينظفه ويعنى به، وترى أن النموذج لرجل فاقد الحيلة، محتاج إلى مولى يرعاه وينفق عليه، وعاجز عن إنجاز أي مهمة.
﴿ هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ﴾. أي : هل يستوي الأبكم الأصم العاجز الضعيف، برجل سليم الحواس عاقل، ينفع نفسه وينفع غيره، يأمر الناس بالعدل وهو على سيرة صالحة ودين قويم، هل يستويان ؟ !.
ولا يسوِّى عاقل بين هذا وذاك، فكيف تمكن التسوية بين صنم أو حجر، وبين الله سبحانه وتعالى، وهو القادر العليم، الآمر بالمعروف، الهادي إلى الصراط المستقيم٥١.
ويمكن أن تكون هذه النماذج ؛ لبيان الفرق الشاسع، بين المؤمن الذي هو على بصيرة من أمره، وبين الكافر الذي استجلب العمى على الهدى، أو بين الحق في وضوحه وجماله وجلاله، وبين الباطل في ظلامه وقبحه.
وبهذه الأمثلة ؛ تكون السورة قد ساقت أعظم الأدلة، وأوضحها على صحة قوله تعالى قبل ذلك :﴿ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد... ﴾ ( النحل : ٥١ ).
المفردات :
غيب السماوات والأرض : جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين، التي لا سبيل إلى إدراكها حسا، ولا إلى فهمها عقلا.
الساعة : الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سميت بذلك ؛ لأنها تفجأ الإنسان في ساعة ما، فيموت الخلق بصيحة واحدة.
لمح البصر : التحرك السريع لطرف العين من جهة إلى جهة، أو من أعلى إلى أسفل.
تمهيد :
تتناول الآيات جوانب قدرة الله تعالى، فهو سبحانه العليم بالغيب، الذي تعجز عنه الحواس والعقول البشرية وهو القادر على المجئ بالقيامة في لمح البصر ؛لأنه على كل شيء قدير، وهو الذي يخلق الإنسان في بطن أمه، ويمنحه السمع والأبصار والعقل والتفكير، وهو سبحانه يمسك الطير في جو السماء، وهذا مرتبط بالهواء والفضاء ونظام الكون، الذي أبدعه العليم القدير.
التفسير :
٧٧ ﴿ ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير ﴾.
الله سبحانه وتعالى استأثر بالغيب، ومعرفة موعد قيام الساعة، ومتى ينزل الغيث، وهو العليم بالجنين : عمره ورزقه وسلوكه، والإنسان لا يعلم ماذا يكسب غدا، ولا يعلم بأي أرض يموت، إنها أمور الغيب التي استأثر الله بعلمها، ويتقدم العلم، ولكن أعلم العلماء لا يدري متى يفارق هذه الحياة، قال تعالى :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ﴾( لقمان : ٣٤ ).
فهو سبحانه تنكشف أمامه جميع الموجودات، انكشافا تاما دون سبق خفاء، وهو سبحانه واسع العلم يسمع كل شيء ويرى كل شيء، ﴿ إن الله سميع بصير ﴾.
﴿ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ﴾.
قدر الله تعالى أن تنتهي الحياة الدنيا في وقت ما، فيموت الناس جميعا، إلا من شاء الله، ثم يبعث الله الناس للحساب والجزاء، حتى يوفى كل إنسان جزاء ما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
قال تعالى :﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ﴾( الزمر : ٦٨ ).
وهذا البعث والحشر والحساب والجزاء، هين على الله تعالى، فهو الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه.
﴿ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ﴾. أي : ليس مجئ القيامة وشأنها في سرعة المجئ، إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أو هو أقرب من ذلك وأسرع ؛ لأن الأمر بيد الإله القادر، ﴿ إنما أمره إذا أردا شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾( يس : ٨٢ ).
قال تعالى :﴿ وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ﴾( القمر : ٥٠ ). أي : فيكون ما يريده الله كطرف العين.
وكان أهل مكة ينكرون البعث، ويستبعدون ذلك ؛ لأن الإنسان يصير ترابا رميما، أبعد ما يكون عن الحياة، فبين الله : أن أمر الساعة يسير هين كلمح البصر.
وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم* قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ﴾ ( يس : ٧٩، ٧٨ ).
وفي ختام الآية يقول الله تعالى :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾. أي : إن الله لا يعجز قدرته شيء، سواء أكان هذا الشيء يتعلق بأمر قيام الساعة، في أسرع من لمح البصر، أو بغير ذلك من أشياء، فهو سبحانه فعال لما يريد، ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾( يس : ٨٢ ).
تتناول الآيات جوانب قدرة الله تعالى، فهو سبحانه العليم بالغيب، الذي تعجز عنه الحواس والعقول البشرية وهو القادر على المجئ بالقيامة في لمح البصر ؛لأنه على كل شيء قدير، وهو الذي يخلق الإنسان في بطن أمه، ويمنحه السمع والأبصار والعقل والتفكير، وهو سبحانه يمسك الطير في جو السماء، وهذا مرتبط بالهواء والفضاء ونظام الكون، الذي أبدعه العليم القدير.
المفردات :
الأفئدة : واحدها : فؤاد، وهي القلوب التي هيأها الله للفهم، وإصلاح البدن.
التفسير :
﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ﴾.
يذكر الحق سبحانه : نعمة جديدة، هي نعمة الخلق، وتكوين الجنين في بطن أمه، ثم خروجه إلى الحياة لا يعلم شيئا، فشق الله له للسمع أذنين، وللنظر عينين، وللبطش يدين، وللمشي رجلين، ووهبه العقل والفؤاد، وأمده بأجهزة متعددة، كالجهاز العصبي والجهاز اللمفاوي والجهاز الهضمي، ويسر له سبل الحياة ؛ ليختار الهدى أو الضلال.
قال تعالى :﴿ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا* إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ﴾( الإنسان : ٣، ٢ ).
وقد خلق الله الجوارح للإنسان ؛ حتى ييسر عليه شئون الحياة، فالسمع : ييسر له سماع الوحي والمواعظ، والأخبار والعلوم والآداب، والنظر : يتأمل به في ملكوت السماوات والأرض، ويشاهد المشتريات فيأخذ الحسن ويترك الردئ، والرجل : يمشي بها إلى الخير والرياضة، والدراسة والصلاة، واليد : يأخذ بها الكتب ويمسك بالقلم ويتعلم ويعلم، وبهذه الجوارح يعبد الله وينفع وينتفع، وإذا أطاع العبد ربه ؛ بارك له في صحته وعافيته، ويسر له استخدامها فيما يفيد البلاد والعباد، وهذا هو شكر النعمة، أي : استخدام الجوارح فيما خلقت له.
روى البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب عبدي إلي بشيء أفضل مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن ؛ يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه )٥٢. وفي هذا الحديث دليل على معونة الله للصالحين، وبركاته للمتقين، حتى إنه يجعل سلوكهم موفقا، وأعمالهم هادفة، وتفكيرهم سليما، وقريب من هذه الآية قوله تعالى :﴿ قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ﴾( الملك : ٢٣ ).
﴿ لعلكم تشكرون ﴾. أي : رجاء أن تشكرون باستعماله نعمه، فيما خلقت لأجله، وتتمكنوا بها من عبادته، وتستعملوا كل جارحة في الخير والعمل النافع ومساعدة عباد الله، لكن بعض الناس هو الذي يفلح في أداء هذه الرسالة، وقليل منهم هو الذي يشكر الله على نعمة هذه الجوارح، ويرى آخرون أن الناس جميعا يشاركونهم في هذه النعمة، ويريدون ألا يشكروا إلا على نعمة خاصة به، مع أن كل إنسان يرى نفسه أعقل الناس، ويرى أن رأيه أفضل الآراء، فلماذا لا يشكر الله على هذه النعمة، التي يرى نفسه مختصا بها.
جو السماء : الهواء المتباعد بين الأرض والسماء.
التفسير :
﴿ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾.
ألم يشاهدوا الطير مرتفعات في جو السماء، وفي طبقات الجو العالية، قد يسر الله لها هذا الطيران، فلا شيء يجذبها إلى أعلا، ولا طريق تحتها يحفظها، وإنما علمتها القدرة الإلهية أن تحرك أجنحتها، حتى تتماسك في السماء بيد القدرة الإلهية، التي أودعت في كل شيء ما تقوم به حياته، وهذا المنظر لأسراب الطير منظمة، في سرب بديع عجيب، منظر يثير الدهشة والتأمل، في قدرة القدير، وجمال هذا الكون وتناسقه، لكن الألف والعادة جعلت الناس ينظرون، ولا تتحرك عندهم مشاعر الإيمان، والإحساس بالنظام والتناسق والإبداع، ﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ﴾( يوسف : ١٠٥ ).
إن في هذا الأمر آيات ودلائل لقوم يؤمنون ؛ بأن يد القدرة الإلهية هي التي سخرت هذا الكون، وأبدعت نظامه، فالهواء والفضاء، وحركة الطير وقوانين الجاذبية، كلها مسخرة بيد القدير، الذي أبدع كل شيء خلقه، إن في هذا التسخير والإبداع آيات وعلامات، لمن تحرك في قلبه الإيمان بالله، واليقين بقدرته وعظمته :
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد
المفردات :
سكنا : مسكنا تستقرون فيه وتؤمنون وتهدءون.
ظعنكم : سفركم أو رحيلكم لطلب الماء أو المرتع.
الأنعام : جمع نعم وتشمل الإبل والبقر والغنم.
الأصواف : للضأن، والأوبار : للإبل، والأشعار : للمعز.
متاعا : المتاع : ما يتمتع به في المتجر والمعاش.
إلى حين : أي : إلى انقضاء آجالكم.
تمهيد :
يتفضل الله على عباده بذكر طائفة من النعم، منها السكن الذي يهدأ فيه الإنسان، ويأمن على نفسه وسره وعرضه، وهناك بيوت خفيفة الحمل يتخذها العربي من جلود الأنعام، ويعمل خيمة يستظل بها في سفره وإقامته، وقد جعل الله للإنسان الجبال يأوي إليها في ظلام الليل، ويسكن في أكنانها وحصونها ومعاقلها، ويسر للإنسان الثياب التي تقيه الحر والبرد، والدروع وعدة الحرب من الحديد ؛ ليتقي بعضهم أذى بعض في الحرب.
التفسير :
٨٠ ﴿ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها و أوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ﴾.
يَمتنّ الله على عباده بالبيوت التي يسكنونها فيهدءون ويستريحون ويستقرون، فهي سكن تسكن فيه النفس وتهدأ على عوراتها وأسرارها، ومن الواجب المحافظة على هذا الأمن النفسي والجسدي، فلا نتطلع إلى أسرار الآخرين، ولا نتجسس عليهم ولا نفاجئهم في ظلام الليل أو قبيل الفجر، وأن نحفظ للجار سره وعرضه فلا نتجسس عليهم، ولا نتطلع إلى عوراته، ولا نؤذيه في نفسه أو أسرته حتى يحقق البيت السكن والأمن، ومن نعم الله : أن جعل لنا بيوتا يسيرة، هي الخيام التي نصنع منها قبابا وفساطيط، نستظل بها عند السفر والترحال، وعند الإقامة، وتتخذ هذه الخيام من الصوف والوبر والشعر.
﴿ ومن أصوافها و أوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ﴾.
جعل الله لنا من أصواف الضأن و أوبار الإبل وأشعار المعز، أثاثا لبيوتنا نكتسي به حينا، ونستعمله في الغطاء والفراش حينا آخر، ونتخذه للتجارة والتمتع به.
﴿ إلى حين ﴾. إلى نهاية آجالنا.
يتفضل الله على عباده بذكر طائفة من النعم، منها السكن الذي يهدأ فيه الإنسان، ويأمن على نفسه وسره وعرضه، وهناك بيوت خفيفة الحمل يتخذها العربي من جلود الأنعام، ويعمل خيمة يستظل بها في سفره وإقامته، وقد جعل الله للإنسان الجبال يأوي إليها في ظلام الليل، ويسكن في أكنانها وحصونها ومعاقلها، ويسر للإنسان الثياب التي تقيه الحر والبرد، والدروع وعدة الحرب من الحديد ؛ ليتقي بعضهم أذى بعض في الحرب.
المفردات :
الظلال : ما يستظل به من الغمام والشجر والجبال وغيرها.
أكنانا : الأكنان : جمع كن، وهو : الغار ونحوه في الجبل.
السرابيل : واحدها : سربال، وهو القميص من القطن والكتان والصوف وغيرها، وسرابيل الحرب : هي الجواشن والدروع.
البأس : الشدة ويراد به هنا الحرب.
التفسير :
﴿ والله جعل لكم مما خلق ظلالا... ﴾.
يحتاج الإنسان إلى الظل خصوصا في البلاد الحارة، وخصوصا الفقراء الذين لا مأوى لهم، فيستفيدون بظل الأشجار والجبال والجدران ؛ لتقيهم من الحر الشديد.
﴿ وجعل لكم من الجبال أكنانا ﴾أي : وجعل لكم من الجبال مواضع تستكنون فيها، وتهدءون للعبادة والتأمل والبعد عن صخب الحياة ؛ في المغارات والكهوف ونحوها.
﴿ وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ﴾.
من نعم الله : أنه يسر لنا الثياب التي نتجمل بها، ونتقي بها الحر والبرد، وقد استغنى بذكر أحد المتقابلين عن الآخر، ولأن بلاد العرب يغلب عليها الحر فاكتفى به، وقيل : لأن ما يقي من الحر يقي من البرد.
﴿ وسرابيل تقيكم بأسكم ﴾.
وتوجد ملابس أخرى من الدروع وحلل الحرب وما يشبهها، تتقون بها الطعنات والضربات التي تسدد إليكم في حالة الحرب، وفيه دليل على اتخاذ عدة الحرب، والتمرين على استخدامها في الجهاد ؛ ليستعان بها على قتال الأعداء، وقد لبسها النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ﴾. أي : إن الله يتم عليكم النعم في المسكن والملبس، والأثاث وعدة الحرب، وأنعم الدين والدنيا، لعلكم تسلمون لله وجوهكم وقلوبكم ؛ بالدخول في الإسلام فتسعدوا بنعيم الدنيا والآخرة ؛ فإن العاقل إذا أسدى إليه المعروف ؛ شكر من أنعم به عليه ؛ كما قال المتنبي :
وقيدت نفسي في دارك محبة | ومن وجد الإحسان قيدا فقيدا |
يتفضل الله على عباده بذكر طائفة من النعم، منها السكن الذي يهدأ فيه الإنسان، ويأمن على نفسه وسره وعرضه، وهناك بيوت خفيفة الحمل يتخذها العربي من جلود الأنعام، ويعمل خيمة يستظل بها في سفره وإقامته، وقد جعل الله للإنسان الجبال يأوي إليها في ظلام الليل، ويسكن في أكنانها وحصونها ومعاقلها، ويسر للإنسان الثياب التي تقيه الحر والبرد، والدروع وعدة الحرب من الحديد ؛ ليتقي بعضهم أذى بعض في الحرب.
﴿ فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين ﴾.
أي : إن أعرضوا عن الإيمان، بعد تقديم كل هذه الأدلة إليهم ؛ فلست مكلفا بخلق الإيمان في قلوبهم، إنما أنت رسول، مهمتك البلاغ المبين الواضح، والبيان الساطع، والتذكير بأنعم الله على الإنسان، ثم اتركهم وشأنهم فما أنت إلا نذير.
قال تعالى :﴿ فذكر إنما أنت مذكر*لست عليهم بمصيطر ﴾ ( الغاشية : ٢٢، ٢١ ).
يتفضل الله على عباده بذكر طائفة من النعم، منها السكن الذي يهدأ فيه الإنسان، ويأمن على نفسه وسره وعرضه، وهناك بيوت خفيفة الحمل يتخذها العربي من جلود الأنعام، ويعمل خيمة يستظل بها في سفره وإقامته، وقد جعل الله للإنسان الجبال يأوي إليها في ظلام الليل، ويسكن في أكنانها وحصونها ومعاقلها، ويسر للإنسان الثياب التي تقيه الحر والبرد، والدروع وعدة الحرب من الحديد ؛ ليتقي بعضهم أذى بعض في الحرب.
﴿ يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ﴾.
أي : إن هؤلاء المشركين، يعرفون نعم الله المتعددة، التي ذكرت في هذه السورة، فالأدلة متوافرة على أن خالق هذه النعم هو الله، بل إنهم يعترفون بأن خالقهم هو الله بأقوالهم ؛ ولكنهم ينكرون ذلك بسلوكهم وأفعالهم.
﴿ وأكثرهم الكافرون ﴾. أي : وأكثر هؤلاء المشركين يجحدون نعم الله لا عن جهل بها، بل عن علم ومعرفة، ويجحدون نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم مع يقينهم بصدقه وأمانته.
قال تعالى :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا... ﴾ ( النمل : ١٤ ).
وقال عز شأنه :﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ ( الأنعام : ٣٣ ).
المفردات :
الأمة : الجماعة من الناس، أو الجيل من الناس.
شهيدا : شهيد كل أمة نبيها يشهد للمؤمنين بالتصديق، وللكافرين بالكفر والتكذيب.
ثم لا يؤذن للذين كفروا : لا يسمح لهم بالاعتذار عن كفرهم وباطلهم.
ولا هم يستعتبون : أي : لا يقبل منهم الاعتذار عما فعلوا، ولا محاولة إرضاء ربهم في الآخرة، يقال عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا فاوضه فيما عتب عليه فيه ؛ قيل : عاتبه، فإذا رجع إلى مسرتك ؛ فقد أعتب، والاسم : العتبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب، قال النابغة :
فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته | وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب |
تمهيد :
تذكر الآيات : موقف الظالمين يوم القيامة، ويبدأ المشهد بموقف الشهداء من الأنبياء، يدلون بما وقع لهم في الدنيا، ثم لا يؤذن للظالمين بالكلام، ولا بطلب العتبى والرضا لله، وإذا رأى الكافرون معبوداتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والآدميين، قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا ! لقد اعترفوا لله بالربوبية، وحاولوا التنصل من تبعة الشرك، وإذا بمن زعموهم شركاء يكذبونهم، ويلقون السلم لله تعالى. وبطل عندئذ كل كذب وافتراء، ثم يذكر السياق : هول المشهد، وظهور الأنبياء شهداء على أممهم، ويظهر النبي عليه الصلاة والسلام شهيدا على جميع من أرسل إليهم، وقد أنزله الله عليه الكتاب ؛ ليبين للناس أمور دينهم ودنياهم، وليكون هداية ورحمة وبشرى للمؤمنين.
التفسير :
٨٤ ﴿ ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ﴾.
يستعرض الجبار موقف القيامة، حيث يبعث الأنبياء شهداء على قومهم، فيشهدون للمؤمنين بالإيمان، وللكافرين بالكفر والعصيان، وفي ذلك الموقف لا يسمح للكفار بإبداء أعذارهم، ولا يسمح لهم بطلب العتبى من ربهم، والاعتذار له حتى يرضى، فالدنيا عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل، وهناك مواقف متعددة في الآخرة، منها موقف السؤال، وفيه نجد القرآن يقول :﴿ وقفوهم إنهم مسئولون ﴾( الصافات : ٢٤ )، ومنها موقف لا يقبل فيه اعتذار ولا كلام، فهو أشبه بقضية يبدأ فيها التحقيق ويسمح فيها للجاني بالدفاع عن نفسه، وإظهار أسباب جريمته، حتى إذا استكمل الدفاع، حجزت القضية للنطق بالحكم، فلا يقبل عندئذ كلام.
والخلاصة : إن هناك مواقف متعددة لمشاهد القيامة.
تذكر الآيات : موقف الظالمين يوم القيامة، ويبدأ المشهد بموقف الشهداء من الأنبياء، يدلون بما وقع لهم في الدنيا، ثم لا يؤذن للظالمين بالكلام، ولا بطلب العتبى والرضا لله، وإذا رأى الكافرون معبوداتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والآدميين، قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا ! لقد اعترفوا لله بالربوبية، وحاولوا التنصل من تبعة الشرك، وإذا بمن زعموهم شركاء يكذبونهم، ويلقون السلم لله تعالى. وبطل عندئذ كل كذب وافتراء، ثم يذكر السياق : هول المشهد، وظهور الأنبياء شهداء على أممهم، ويظهر النبي عليه الصلاة والسلام شهيدا على جميع من أرسل إليهم، وقد أنزله الله عليه الكتاب ؛ ليبين للناس أمور دينهم ودنياهم، وليكون هداية ورحمة وبشرى للمؤمنين.
المفردات :
ينظرون : يمهلون ويؤخرون.
التفسير :
-﴿ وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون ﴾.
إذا عاين الظالمون عذاب جهنم ؛ فزعوا واشتد خوفهم ؛ لكن ذلك لن يغير شيئا من المصير المؤلم الذي ينتظرهم، فلا يخفف عنهم العذاب أي تخفيف، ولا يمهلون ويتركون بعض الوقت بدون العذاب ؛ فالعذاب واقع لا محالة، عاجل وليس بآجل، ونحو الآية قوله تعالى :﴿ ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ﴾( الكهف : ٥٣ ).
وقوله :﴿ إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا* وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا* لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ﴾( الفرقان : ١٢ ١٤ ).
وقريب منه قوله تعالى :﴿ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون* لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ﴾ ( الزخرف : ٧٨، ٧٧ ).
تذكر الآيات : موقف الظالمين يوم القيامة، ويبدأ المشهد بموقف الشهداء من الأنبياء، يدلون بما وقع لهم في الدنيا، ثم لا يؤذن للظالمين بالكلام، ولا بطلب العتبى والرضا لله، وإذا رأى الكافرون معبوداتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والآدميين، قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا ! لقد اعترفوا لله بالربوبية، وحاولوا التنصل من تبعة الشرك، وإذا بمن زعموهم شركاء يكذبونهم، ويلقون السلم لله تعالى. وبطل عندئذ كل كذب وافتراء، ثم يذكر السياق : هول المشهد، وظهور الأنبياء شهداء على أممهم، ويظهر النبي عليه الصلاة والسلام شهيدا على جميع من أرسل إليهم، وقد أنزله الله عليه الكتاب ؛ ليبين للناس أمور دينهم ودنياهم، وليكون هداية ورحمة وبشرى للمؤمنين.
المفردات :
الشركاء : الأصنام والأوثان، والشياطين والملائكة، والشمس والقمر، وغيرها.
ندعو : نعبد.
التفسير :
﴿ وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ﴾.
تعرض الآية مشهدا من مشاهد القيامة، حين يرى المشركون الأصنام والأوثان والآلهة المدعاة، التي عبدوها من دون الله، فإذا عاينوها ؛ تمنوا أن تحمل هذه الآلهة المدعاة، جانبا من العذاب، أو يخفف عنهم العذاب لإلقاء المسئولية على هذه الآلهة، ويلاحظ اعتراف المشركين لله بالربوبية، واعترافهم بالخطأ في عبادة الأصنام من دون الله، مع اعترافهم بالذنب، وعلمهم بأن العذاب مستمر، إلا أن الغريق يتعلق بأي شيء يصادفه، فهم يأملون منقذا من العذاب، لكن الأصنام ترد عليهم وتلزمهم المسئولية، وتقول لمن عبدها :﴿ إنكم لكاذبون ﴾، في محاولة إلقاء التبعة علينا، فما أمرناكم بعبادتنا، ولا طلبنا منكم ذلك، وقريب من هذا تبرؤ المسيح يوم القيامة ممن جعله إلها.
قال تعالى :﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب* ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ﴾ ( المائدة : ١١٧، ١١٦ ).
وقال تعالى :﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا* كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ﴾( مريم : ٨٢، ٨١ ).
وقال عز شأنه :﴿ ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعاءهم غافلون* وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ﴾( الأحقاف : ٦، ٥ ).
تذكر الآيات : موقف الظالمين يوم القيامة، ويبدأ المشهد بموقف الشهداء من الأنبياء، يدلون بما وقع لهم في الدنيا، ثم لا يؤذن للظالمين بالكلام، ولا بطلب العتبى والرضا لله، وإذا رأى الكافرون معبوداتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والآدميين، قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا ! لقد اعترفوا لله بالربوبية، وحاولوا التنصل من تبعة الشرك، وإذا بمن زعموهم شركاء يكذبونهم، ويلقون السلم لله تعالى. وبطل عندئذ كل كذب وافتراء، ثم يذكر السياق : هول المشهد، وظهور الأنبياء شهداء على أممهم، ويظهر النبي عليه الصلاة والسلام شهيدا على جميع من أرسل إليهم، وقد أنزله الله عليه الكتاب ؛ ليبين للناس أمور دينهم ودنياهم، وليكون هداية ورحمة وبشرى للمؤمنين.
المفردات :
السلم : الاستسلام والانقياد.
ضل : ضاع وبطل.
التفسير :
﴿ وألقوا إلى الله يؤمئذ السلم... ﴾.
أي : استسلم العابد والمعبود لأمر الله تعالى، ويحتمل عودة الضمير على المشركين وحدهم، بعد أن يئسوا من تخفيف العذاب عنهم، فاستسلموا لأمر الله وقضائه سبحانه.
﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾. أي : غاب عنهم كل ولي وناصر، فلم تنفعهم عبادتهم ولا أصنامهم، التي عبدوها راغبين في شفاعتها، وقد عبدوها افتراء على الله وكذبا حين قالوا :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾( يونس : ١٨ ).
والآية في جملتها تحمل الغائب فتجعله حاضرا، وترسم مشهد المشركين وقد خسروا المعركة، واستسلموا لأمر الله بعد فوات الأوان، ونحو الآية قوله تعالى :﴿ ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ﴾( السجدة : ١٢ ).
وقوله تعالى :﴿ وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ﴾ ( طه : ١١١ ).
ومعنى :﴿ وعنت الوجوه ﴾. خضعت واستسلمت.
تذكر الآيات : موقف الظالمين يوم القيامة، ويبدأ المشهد بموقف الشهداء من الأنبياء، يدلون بما وقع لهم في الدنيا، ثم لا يؤذن للظالمين بالكلام، ولا بطلب العتبى والرضا لله، وإذا رأى الكافرون معبوداتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والآدميين، قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا ! لقد اعترفوا لله بالربوبية، وحاولوا التنصل من تبعة الشرك، وإذا بمن زعموهم شركاء يكذبونهم، ويلقون السلم لله تعالى. وبطل عندئذ كل كذب وافتراء، ثم يذكر السياق : هول المشهد، وظهور الأنبياء شهداء على أممهم، ويظهر النبي عليه الصلاة والسلام شهيدا على جميع من أرسل إليهم، وقد أنزله الله عليه الكتاب ؛ ليبين للناس أمور دينهم ودنياهم، وليكون هداية ورحمة وبشرى للمؤمنين.
﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ﴾.
كان أهل مكة يمنعون الناس من الدخول في الإسلام، واتفقوا على تقسيم مكة منازل وأجزاء ؛ يختص كل فريق منهم بطريق من طرقها، فإذا شاهدوا وفود الحجاج والمعتمرين، شنعوا على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الدين الجديد الذي يدعو إليه، وادعوا : أنه ساحر أو كاهن أو مجنون.. وفي يوم القيامة يضاعف لهم العذاب ؛ لكفرهم أولا، ولصدهم الناس عن الإسلام ثانيا، ثم إن هذا عدوان على دين الله، وافتراء عليه، وإفساد للعقائد.
﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ﴾. أي : الكافرون من أهل مكة، والمحرضون على الكفر، لهم عذاب جزاء كفرهم، وعذاب آخر لصدهم الناس عن الإيمان، وهذا جزاء إفسادهم في الأرض، وقلب الحقائق، وتقبيح الإيمان وتزيين الكفر، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ وهم ينهون عنه وينأون عنه ﴾( الأنعام : ٢٦ ).
أي : ينهون الناس عن إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويبتعدون عن دينه وهديه، وقد أورد ابن جرير الطبري في تفسيره : آثارا عن الصحابة وغيرهم، في ألوان العذاب الذي يزاد لهم، وقد روى الحاكم والبيهقي وغيرهما عن ابن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن أهل النار إذا جزعوا من حرها، استغاثوا بضحضاح في النار، فإذا أتوه تلقاهم عقارب كأنها البغال الدهم، وأفاع كأنهن البخاتى( ضخام الإبل ) تضربهم فذلك الزيادة )٥٤.
وفي الآية دليل على تفاوت الكفار في العذاب، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة، ودرجاتهم فيها.
تذكر الآيات : موقف الظالمين يوم القيامة، ويبدأ المشهد بموقف الشهداء من الأنبياء، يدلون بما وقع لهم في الدنيا، ثم لا يؤذن للظالمين بالكلام، ولا بطلب العتبى والرضا لله، وإذا رأى الكافرون معبوداتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والآدميين، قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا ! لقد اعترفوا لله بالربوبية، وحاولوا التنصل من تبعة الشرك، وإذا بمن زعموهم شركاء يكذبونهم، ويلقون السلم لله تعالى. وبطل عندئذ كل كذب وافتراء، ثم يذكر السياق : هول المشهد، وظهور الأنبياء شهداء على أممهم، ويظهر النبي عليه الصلاة والسلام شهيدا على جميع من أرسل إليهم، وقد أنزله الله عليه الكتاب ؛ ليبين للناس أمور دينهم ودنياهم، وليكون هداية ورحمة وبشرى للمؤمنين.
المفردات :
شهيدا على هؤلاء : المراد بهؤلاء : أمته، الحاضر منهم بعد عصر التنزيل، ومن بعدهم إلى يوم القيامة.
تبيانا : بيانا لأمور الدين، إما نصا فيها، أو ببيان الرسول واستنباط العلماء المجتهدين في كل عصر.
التفسير :
﴿ ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ﴾.
تستعرض الآيات موقف المشركين يوم القيامة، وزيادة العذاب ومضاعفته لهم، ويستكمل المشهد بمجيء النبيين والشهداء، أي : الصالحين من أتباع الأنبياء ؛ ليشهدوا للمؤمنين بالإيمان والاستجابة للدعوة له وليشهدوا على الكافرين بالكفر والتكذيب، ثم يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدا على أمته، وعلى أهل مكة، وغيرهم ممن بلغتهم الدعوة، ومنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة معروفة، فقد آتاه الله الشفاعة والمقام المحمود الذي يحمده عليه جميع الخلائق، ويرى بعض المفسرين : أن شهادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تكون للأنبياء والأمم كلها، لكن السياق يرجع أن شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن أرسل إليهم سابقا أو لاحقا، وقريب من ذلك ما روي عن عبد الله بن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :( اقرأ علي القرآن )، قلت : يا رسول الله، أقرؤه عليك وعليك أنزل ؟ ! قال :( نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري )، فقرأت صدرا من سورة النساء فلما وصلت إلى قوله تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾( النساء : ٤١ ).
قال الرسول صلى الله عليه وسلم :( حسبك )، قال ابن مسعود : فالتفتت فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان٥٥.
﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ﴾. أي : نزلنا عليك القرآن مشتملا على أصول العقائد، وبيان الحلال والحرام، وبيان ألوان الهداية والرحمة، وبشارة المسلمين بالجزاء الأوفى.
والسنة المطهرة مشتملة على بيان القرآن وتوضيحه وتفسيره.
قال تعالى :﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ ( النحل : ٤٤ ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :( إني أوتيت الكتاب ومثله معه )٥٦.
ويلحق ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، بيان الصحابة والتابعين، قال صلى الله عليه وسلم :( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ )٥٧.
كما أوضح القرآن : وجوب اجتهاد من استكمل شروط الاجتهاد، وبذل الجهد في استنباط الأحكام، قال تعالى :﴿ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم... ﴾( النساء : ٨٣ ).
وأوضح : أن إجماع المسلمين على أمر يجب إتباعه وعدم مخالفته، وبذلك أصبح الإجماع من أصول التشريع.
قال تعالى :﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى... ﴾( النساء : ١١٥ ).
وأرشد القرآن إلى استخدام القياس بقوله تعالى :﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ ( الحشر : ٢ ).
والاعتبار هو النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس، وهو حمل النظير على النظير، وقياس أمر لا حكم له، على أمر معروف الحكم ؛ لاشتراكهما في العلة، وبهذه الطرق فتح الإسلام أبواب الاجتهاد والاستنباط، أمام العلماء المختصين، وأرشد الناس إلى إتباع العلماء في اجتهادهم.
قال تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾( النحل : ٤٣ ).
كما حث القرآن على استخدام العقل والفكر والرأي، وأوجب على المسلمين أن تكون منهم أمة من أهل الاختصاص والنظر، تتابع أمور المسلمين، وتجتهد في شئونهم، ومعرفة أحكام ما يستجد من أمور وأحداث، قال تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ﴾ ( التوبة : ١٢٢ ).
وبهذا فتح القرآن ينابيع الفكر والفقه والرأي، ووضع أصول الاجتهاد، وبين قواعد التشريع، التي تعتمد على القرآن والسنة والاجتهاد والإجماع والقياس، وسيظل القرآن الكريم كلي الشريعة وأصل أصولها فهو بحق تبيان وبيان وإرشاد لكل شيء ؛ لأنه حث على اتباع السنة، وبين أصول الاجتهاد والاستنباط، واشتمل القرآن على بيان الرحمة والتيسير، والبشارة بالجنة للمؤمنين الطائعين، وبالنار للمكذبين وأرشد إلى الفضائل، ونهى عن الرذائل.
المفردات :
العدل : المساواة في كل شيء بلا زيادة أو نقصان، أو إعطاء كل ذي حق حقه بدون إفراط أو تفريط.
الإحسان : مصدر أحسن، يحسن، إحسانا، ويطلق على إتقان العمل، ومقابلة الخير بأكثر منه، والشر بالعفو عنه.
إيتاء ذي القربى : إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر.
الفحشاء : ما قبح من القول والفعل، فيدخل فيه الزنا وشرب الخمر والحرص والطمع، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال المذمومة، وخص بعض المفسرين الفحشاء : بالزنا ؛ لأنه عدوان على الأعراض.
المنكر : كل ما أنكره الشرع بالنهي عنه، فيعم جميع المعاصي و الدناءات والرذائل على اختلاف أنواعها.
البغي : تجاوز الحد في كل شيء، ويشمل الاستعلاء على الناس، والتجبر عليهم بالظلم والعدوان.
يعظكم : الوعظ : التنبيه إلى الخير بالنصح والإرشاد.
تمهيد :
تشتمل هذه الآيات على مكارم الأخلاق وفضائل الآداب، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ثم تحت على الوفاء بالعهد والسلوك القويم، ثم ضرب الله الأمثال لمن يحنث في يمينه، وينقض العهد بعد توثيقه.
التفسير :
٩٠ ﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ﴾.
هذه آية جامعة لخلال الخير، ناهية عن الشر، وخطباء المساجد يختمون بها خطبة الجمعة، والعدل : هو الميزان بالحق بأن يأخذ كل ذي حق حقه، وهو أمر أساسي في الحكم الذي يقوم في الإسلام على العدل والشورى، واختيار الرجل المناسب، أو حسن اختيار المسئولين المساعدين للحكم.
قال تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل... ﴾( النساء : ٥٨ ).
والعدل قاعدة أساسية في تعامل الأفراد والدول، وبالعدل قامت السماوات والأرض، وبالعدل يأخذ كل ذي حق حقه، ويأمن الإنسان على نفسه، ويلقى المعتدي جزاءه حسب جريمته. كتب أبو بكر الصديق إلى عمر بن الخطاب يقول :" إن الحق ثقيل ولكن مآله هنئ، وإن الباطل خفيف ولكن مآله وبئ ".
﴿ والإحسان ﴾. يطلق على شيئين :
أ إتقان العمل وإحسانه.
ب مقابلة الإساءة بالعفو، ومقابلة الخير بما هو أزيد منه، والإحسان يكمل العدل، قال علي بن أبي طالب : العدل : الإنصاف، الإحسان : التفضل.
والعدل والإحسان لهما أثرهما في سلامة المجتمع، واقتناع الأفراد بوصول حقهم إليهم، وبذلك تصفو الحياة ويتماسك المجتمع، ويعم السلام النفسي والاجتماعي بين طوائف المجتمع :﴿ وإيتاء ذي القربى ﴾. أي : العطف على الأقارب ومساعدتهم ومعونتهم والبر بهم ماديا ومعنويا.
﴿ وينهى عن الفحشاء والمنكر ﴾.
﴿ والفحشاء ﴾ : كل ما اشتد قبحه، وخصه بعضهم بالزنا ؛ لأن فيها عدوانا على الأعراض، وانتهاك الحرمات، واختلاط الأنساب، وانتشار الأمراض الفتاكة، مثل : الزهري والسيلان وقمل العانة، ومرض الإيدز الذي يجتاح بعض البلاد كالوباء ؛ عقوبة رادعة على استباحة الحرمات.
﴿ والمنكر ﴾ : كل فعل تنكره الفطرة، ومن ثم تنكره الشريعة فهي شريعة الفطرة، ويشمل المنكر جميع المعاصي والرذائل، والدناءات على اختلاف أنواعها، كالضرب والقتل والتطاول على الناس.
﴿ والبغي ﴾ : العدوان وتجاوز الحد، وظلم الناس والتعدي على حقوقهم.
﴿ يعظكم لعلكم تذكرون ﴾. أي : يرشدكم وينبهكم إلى ثلاث، وينهاكم عن ثلاث ؛ لعلكم تنتبهون وتحسنون التذكر لما ينفعكم، فتعملون بتلك الأوامر، وتجتنبون النواهي، وفي ذلك صلاح دنياكم وآخرتكم، وقد اشتملت هذه الآية على مكارم الأخلاق.
جاء في تفسير ابن كثير :
أن أكثم بن صيفي أرسل رسولين إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يسألاه عن نسبه وعن دعوته، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم :( أنا محمد بن عبد الله وأنا عبد الله ورسوله ) ثم تلا عليهما هذه الآية :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان... ﴾الآية.
ثم حملا الآية إلى أكثم بن صيفي، فقال : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رءوسا، ولا تكونوا فيه أذنابا، وكونوا فيه أو لا تكونوا فيه آخرا. قال سعيد بن جبير عن قتادة في قوله :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان... ﴾ الآية.
ليس من خلق كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم، إلا نهى عنه وقدّم فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها.
فضل الآية
أخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم والبيهقي : عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : أعظم آية في كتاب الله تعالى :﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾( البقرة : ٢٥٥ ).
وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان... ﴾( النحل : ٩٠ ).
وأكثر آية في كتاب الله تفويضا :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا* ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾( الطلاق : ٣، ٢ ).
وأشد آية في كتاب الله رجاء :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾ ( الزمر : ٥٣ ).
وعن عكرمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية، فقال : يا ابن أخي، أعد علي، فأعادها عليه، فقال له الوليد : والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن رضي الله عنه : أنه قرأ هذه الآية :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان... ﴾الآية، ثم قال : إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله، والشر كله في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئا ؛ إلا جمعه وأمر به، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه وزجر عنه.
تشتمل هذه الآيات على مكارم الأخلاق وفضائل الآداب، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ثم تحت على الوفاء بالعهد والسلوك القويم، ثم ضرب الله الأمثال لمن يحنث في يمينه، وينقض العهد بعد توثيقه.
المفردات :
العهد : كل ما يلتزم به الإنسان باختياره، والوفاء بالعهد لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان، ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة، ويدخل فيه الوعد.
توكيدها : توثيقها وتغليظها.
نقض اليمين : الحنث فيها.
كفيلا : شاهدا ورقيبا.
﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ﴾.
تدعو هذه الآية إلى : الوفاء بالعهود، وعدم الحنث في الأيمان، وهي في جملتها داخلة في الآية السابقة، لكن القرآن أفرد الوفاء بالعهد نصا في آية مستقلة ؛ لما له من أهمية في حياة الفرد والمجتمع، فإذا حافظ الفرد والمجتمع على العهود والمواثيق ؛ أدى ذلك إلى الأمن والأمان، ونعم الناس بالهدوء والاطمئنان.
أخرج ابن جرير في أسباب نزول الآية : أن الآية نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، كان من أسلم يبايع على الإسلام فقال تعالى :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ﴾.
فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه، وكثرة المشركين، أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان في المسلمين قلة وفي المشركين كثرة.
ومعنى الآية :
أوفوا بالعهد والميثاق، الذي أوجبتموه على أنفسكم، حقا لمن عاهدتموه وواثقتموه عليه، ويدخل في ذلك كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره، والوعد من العهد.
قال ميمون بن مهران :
من عاهدته وفّ بعهده، مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله تعالى.
﴿ ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ﴾.
لا يليق بالرجل أن يخلف وعده أو يحنث في عهده، وكانوا يوثقون عهدهم بالأيام، وإشهاد الله تعالى، فأمرهم الله ألا يفكوا ارتباطاتهم، وألا يحنثوا في أيمانها، وقد أشهدتم الله على أيمانكم، وجعلتموه راعيا وكفيلا يرعى الموفى للعهد بالخير، والناقض له بالجزاء والعقاب.
﴿ إن الله يعلم ما تفعلون ﴾.
فهو سبحانه يشاهد عقودكم وعهودكم وأفعالكم، سيجازيكم ويكافئكم على الوفاء، ويعاقبكم على الحنث في الأيمان وعلى نقض العهود، وقد أكد القرآن الكريم والسنة الصحيحة : احترام العهود والوفاء بها.
قال تعالى :﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ﴾ ( الفتح : ١٠ ).
وقال تعالى :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ﴾ ( الفتح : ١٨ ).
وقال تعالى :﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ﴾( الإسراء : ٣٤ ).
وقال سبحانه :﴿ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ﴾ ( البقرة : ٤٠ ).
وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان )، ولا تعارض بين هذه الآية وبين ما ورد في الصحيحين من أن :" من حلف على يمين ورأى غيرها خير منها ؛ فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " ٥٨.
فالآية تتحدث عن الوفاء بوجه عام، وتأمر بالالتزام بالأيمان والبر بها بين الأفراد والجماعات، والحديث يتحدث عن إنسان يقسم على شيء ثم يرى غيره خيرا منه، فالآية عامة في نهيها عن نقض الأيمان، والسنة الصحيحة خصصت هذا النعيم، وأباحت النقض إذا كان اليمين مانعا عن عمل خير، ويؤيد هذا التخصيص قوله تعالى :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس... ﴾.
تشتمل هذه الآيات على مكارم الأخلاق وفضائل الآداب، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ثم تحت على الوفاء بالعهد والسلوك القويم، ثم ضرب الله الأمثال لمن يحنث في يمينه، وينقض العهد بعد توثيقه.
المفردات :
الأنكاث : واحدها نكث، وهو ما ينكث قتله وينقض بعد غزله.
الغزل : ما غزل من صوف و نحوه.
القوة : الأبرام والأحكام.
التفسير :
﴿ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ﴾.
الدخل : المكر والخديعة والغش.
قال الراغب الأصفهاني في غريب القرآن : الدخل : كناية عن الفساد والعداوة المستبطنة، كالدغل، وعن الدعوة في النسب.. ومنه قيل : شجرة مدخولة أي : ليست من جنس الأشجار التي حولها. اه.
أربى : أي : أكثر وأوفر عددا.
قال ابن كثير :
هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، تجمع جواريها وتأمرهم بالغزل أول النهار إلى الظهر، ثم تأمرهم بنقض الغزل بعد إبرامه، فضرب الله بها المثل في من ينقض الأيمان ويحنث فيها بعد إبرامها.
والمعنى :
لا تنقضوا عهودكم، مشبهين لامرأة حمقاء، تنقض غزلها من بعد إحكامه، فالعاقل يستمر عهده وفي بنائه، ولا ينقض عهده ولا يهدم بنيانه، وقريب من هذا المعنى قول الشاعر :
هجوت زبان ثم جئت معتذرا | من هجو زبان لم تهج ولم تدع |
أي : لا تتركوا عهودكم المبرمة منقوضة منكوثة محلولة، فالجملة الكريمة تحقر في كل جزئية من جزئياتها، حال من ينقض العهد، وينكث في عهده، ولا يفي بل يغدر وينقض.
﴿ تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ﴾. أي : تبرمون العقود لا بنية الوفاء، بل بنية المكر والخديعة والغش، فينقضون العهد إذا لاحت في الأفق مصلحة أوفر، أو غنيمة أكثر، أو قبيلة أوفر عددا من القبيلة التي تعاقدوا معها، فبين الله لهم : أن الوفاء نور أبلج، وأن التزام أمر الله بالوفاء أولى من اتباع المصلحة، والسير وراء النزوات العارضة، وقد نزلت هذه الآية في العرب، الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت أخرى، ثم جاءت إحداهما قبيلة أخرى كبيرة قوية فداخلتها، غدرت الأولى ونقضت عهدها، ورجعت إلى هذه الكبرى، فأدبهم القرآن بأدبه ؛ حتى لا ينقضوا العهود، من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى، أو أكثر أموالا.
وقال ابن كثير :
كانوا يحالفون الحلفاء، فيجحدون أكثر منهم وأعز ؛ فينقضون حلف هؤلاء، ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز، فنهوا عن ذلك.
﴿ إنما يبلوكم الله به ﴾. إنما يختبركم الله بظهور قوم أكثر أو أعز أمامكم ؛ ليظهر مدى إيمانكم وتمسككم بالعهود، وطاعتكم لأمر الله ؟ هل توفون بالعهود امتثالا لأمر الله أم تنقضون طلبا لمغنم دنيوي ؟.
﴿ وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ﴾. فيجازي أهل الحق بالثواب، ويجازي أهل الباطل بالعقاب.
تشتمل هذه الآيات على مكارم الأخلاق وفضائل الآداب، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ثم تحت على الوفاء بالعهد والسلوك القويم، ثم ضرب الله الأمثال لمن يحنث في يمينه، وينقض العهد بعد توثيقه.
﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ﴾.
شاء الله أن يجعل الإنسان خليفة في الأرض، وميزه بالعقل والفكر والإرادة والاختيار، قال تعالى :﴿ إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ﴾ ( الإنسان : ٣ ).
ولو شاء الله لجعل الناس جميعا نسخا مكررة، مثل جماعات النمل والنحل، ولو شاء لجعل حياة الزوج مع زوجته أشبه بحياة الملائكة، لكن الله أراد أن يتفاوت الناس في الكسب والاختيار والاستعداد، وأن يكون الجزاء مرتبا على العمل.
قال تعالى :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين* إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ﴾( هود : ١١٩، ١١٨ ).
﴿ ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴾.
فهو سبحانه عرض على الناس الهدى والشرائع والرسالات، وأرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، فمن اختار الضلال، وأعرض عن هدايات السماء ؛ تركه الله ضالا متحيرا، ولا يضل إلا من اختار الضلالة على الهدى، ومن رغب في الحق، وسارع إلى الإيمان، واختار طريق الهداية ؛ يسر الله له طريق الهدى وشرح صدره للإسلام، وهداه إلى الصراط المستقيم، وبهذا نجمع بين الآيات القرآنية التي وردت في الموضوع، فالعبد له إرادة واختيار، والله تعالى له نواميس عامة، لهذا الكون، ومن هذه النواميس : أنه لا يهدي إلا من اختار الهدى، ولا يضل إلا من اختار الضلالة، فهدايات السماء غالية عالية، والله لا يلزم الناس بالحق، وإنما يعرضه عليهم، وقد خلق فيهم العقل والإدراك، والكسب والاختيار، وبهذا يستحق كل إنسان جزاء كسبه وسعيه، قال تعالى :﴿ فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذب بالحسنى*فسنيسره للعسرى ﴾( الليل : ٥ ١٠ ).
وقال سبحانه :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾( الزلزلة : ٨، ٧ ).
﴿ ولتسألن عما كنتم تعملون ﴾. أي : إن الله تعالى سيسأل جميع الناس سؤال محاسبة ومجازاة لا سؤال استفهام، وسيترتب على هذا السؤال أن يكون الجزاء الحق من جنس العمل، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا أبا ذر، أخلص العمل ؛ فإن الناقد بصير، وخفف ظهرك ؛ فإن العقبة كئود، واستكثر الزاد ؛ فإن السفر بعيد، والذي نفس محمد بيده، لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا )٥٩.
المفردات :
فتزل قدم بعد ثبوتها : مثل يقال لمن وقع في محنة بعد نعمة، وبلاء بعد عافية.
وتذوقوا السوء : العذاب الدنيوي.
ولكم عذاب عظيم : في الآخرة.
تمهيد :
تحذر الآيات السابقة من نقض العهود والأيمان على الإطلاق، وتحذر هذه الآيات من نقض أيمان مخصوصة، أقدموا عليها، وهي نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به، وإتباع شرائعه جريا وراء خيرات الدنيا وزخارفها، كما بينت : أن متاع الدنيا زائل وما عند الله باق لا ينفد، وعند الله الجزاء الأوفى.
التفسير :
٩٤ ﴿ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ﴾.
تأتي هذه الآية ؛ لتأكيد ما سبق، ولتثبيت الناس على الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
جاء في تفسير الكشاف للزمخشري :
كان قوما ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش، واستضعافهم المسلمين، وإيذائهم لهم. اه.
وقال الفخر الرازي : قال المفسرون :
المراد من هذه الآية : نهى الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن نقض عهده ؛ لأن هذا الوعيد وهو قوله :﴿ فتزل قدم بعد ثبوتها ﴾. لا يليق بنقض عهد قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، على الإيمان به وبشرائعه.
﴿ فتزل قدم بعد ثبوتها ﴾. مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية، ومحنة بعد نعمة، فإن من نقض عهد الإسلام ؛ فقد سقط عن الدرجات العالية، ووقع في مثل هذه الضلالة.
﴿ وتذوقوا السوء ﴾. أي : العذاب.
﴿ بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ﴾.
فالرجوع عن الإسلام إلى الكفر، يوقعهم في محظورات ثلاثة :
١ البعد عن محجة الحق والهدى، بعد أن رسخت أقدامهم فيها.
٢ إنهم يصبحون قدوة لغيرهم في ترك الحق، والانضمام إلى الباطل، وفي هذا صد عن سبيل، ومنع للناس عن الإيمان.
٣ إنهم أهل للعذاب العظيم في الآخرة.
تحذر الآيات السابقة من نقض العهود والأيمان على الإطلاق، وتحذر هذه الآيات من نقض أيمان مخصوصة، أقدموا عليها، وهي نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به، وإتباع شرائعه جريا وراء خيرات الدنيا وزخارفها، كما بينت : أن متاع الدنيا زائل وما عند الله باق لا ينفد، وعند الله الجزاء الأوفى.
المفردات :
ولا تشتروا بعد الله ثمنا قليلا : لا تعتاضوا عن الإيمان بالله عرض الدنيا وزينتها ؛ ؛ فإن متاع الدنيا قليل مهما كان.
التفسير :
﴿ ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا... ﴾.
إن العهد والوعد يباركهما الصدق والوفاء، وقد أمر الله بالوفاء بالعهود، والصدق في الوعود، وقد تعرض في هذه الحياة مصالح وقتية أو منافع آنية، أو إغراء بمال أو منفعة مقابل نقض العهود، فحذر القرآن من نقض العهود، وبيّن : أن العائد من المال فإن، مهما كان كثيرا، لا يساوي عند الله جناح بعوضة.
﴿ إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾.
أن ما يدخره الله في الآخرة، من الجزاء ونعيم الجنة، هو خير لكم من ذلك العرض القليل في الدنيا، إن كنتم من ذوي العقول الراجحة، والأفكار الثاقبة، التي تزن الأمور بميزان الفائدة الحقة، وتقدر الفرق بين العوضين.
تحذر الآيات السابقة من نقض العهود والأيمان على الإطلاق، وتحذر هذه الآيات من نقض أيمان مخصوصة، أقدموا عليها، وهي نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به، وإتباع شرائعه جريا وراء خيرات الدنيا وزخارفها، كما بينت : أن متاع الدنيا زائل وما عند الله باق لا ينفد، وعند الله الجزاء الأوفى.
المفردات :
ما عندكم ينفد وما عند الله باق : ما عندكم يفنى وينقضي، وما عند الله في الآخرة باق لا يزول.
التفسير :
﴿ ما عندكم ينفد وما عند الله باق... ﴾.
فالحياة الدنيا فانية، والآخرة باقية، والدنيا كلها إلى زوال وفناء، وإن طال الأمد وجلّ العدد، وما في خزائن الله باق لا نفاد له.
وفي الحديث الشريف :
( يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت )٦٠.
وفي الحديث النبوي الشريف :
( إن الصدقة توضع في يد الله قبل أن توضع في يد السائل ؛ فينميها كما ينمي أحدكم فصيله )٦١.
﴿ ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾.
ولنكافئن الذين صبروا على طاعتنا، واجتنبوا معصيتنا، ووفوا بعهودنا، بجزاء أفضل وأكرم، مما كانوا يعملونه في الدنيا، من خيرات وطاعات، وفي الآية عدة جميلة، باغتفار ما عسى أن يكون قد فرط منهم، أثناء ذلك من جزع يعتريهم بحسب الطبيعة البشرية.
وقد رغب القرآن والسنة في التزام الوفاء بالعهد، وصار ذلك من ركائز الإسلام ودعائمه، ودخلت في الإسلام جماعات وشعوب، بسبب ما رأوه من وفاء المسلمين بعهدهم، ومن صدقهم في وعدهم ومن إخلاصهم في معاملاتهم.
روى : أنه كان بين معاوية بن أبي سفيان وملك الروم أمد، فسار إليهم في آخر الأمد، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم أغار عليهم وهم غارّون لا يشعرون ؛ فقال له عمر بن عتبة : الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقدة حتى ينقضي أمدها )٦٢، فرجع معاوية بالجيش، والروايات عن حفظ العهود متواترة مشهورة.
تحذر الآيات السابقة من نقض العهود والأيمان على الإطلاق، وتحذر هذه الآيات من نقض أيمان مخصوصة، أقدموا عليها، وهي نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به، وإتباع شرائعه جريا وراء خيرات الدنيا وزخارفها، كما بينت : أن متاع الدنيا زائل وما عند الله باق لا ينفد، وعند الله الجزاء الأوفى.
التفسير :
فلنحيينه حياة طيبة : أي : حياة طيبة في الدنيا، ويشمل ذلك : القناعة، والرضا، والبركة في العمر، وقيل : حياة طيبة في الجنة ونعيمها، وأكثر المفسرين على أن الحياة الطيبة : في الدنيا.
﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾.
تضع هذه الآية أصلا عاما، وقاعدة أصيلة، فالذي يعمل العمل الصالح، ويؤدي واجبه نحو ربه، ونحو نفسه وأسرته وقرابته وأمته، ذكرا كان أم أنثى ؛ فإن الله تعالى يكافئه أحسن مكافأة، حيث يحيا حياة طيبة، في رضا وقناعة وسعادة وعز في الدنيا وجزاء كريم في الآخرة، مع الفضل العظيم من الله الذي يجازي الحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف سبحانه لمن يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
جاء في ظلال القرآن :
وإن العمل الصالح مع الإيمان ؛ جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض، لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال، فقد تكون به، وقد لا يكون معها، وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير، تطيب بها الحياة في حدود الكفاية، فيها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضا والبركة، وسكن البيوت، ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح، وآثاره في الضمير في الحياة، وليس المال إلا عنصرا واحدا، يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله، وإن الحياة الطيبة لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة، وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا، ويتضمن هذا تجاوز الله لهم عن السيئات، فما أكرمه من جزاء ! ٦٣.
من هدي السنة
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول :( اللهم، قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف عليّ كل غائبة لي بخير )٦٤.
وأخرج الترمذي والنسائي من حديث فضالة بن عبيد : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( قد أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع به )٦٥.
وعن عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه٦٦.
المفردات :
قرأت القرآن : أي : إذا أردت قراءة القرآن ؛ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، قبل البدء في القراءة.
الرجيم : المرجوم، المبعد من رحمة الله.
تمهيد :
يرشد القرآن المؤمنين، إلى العمل الذي يجعل أعمالهم خالصة، من وساوس الشيطان.
التفسير :
٩٨ ﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾.
القرآن الكريم أعظم هاد، وهو أساس التشريع، وباب الهداية والإيمان، والشيطان داع إلى الشر والعصيان، فالمؤمن يلجأ ويتحصن، ويستعيذ بقدرة الله وقوته وعونه، من إغواء الشيطان ووسوسته، وذلك بأن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
والأمر بالاستعاذة للندب عند الجمهور، وعند الثوري : أنها واجبة، والجمهور يقولون : صرفها عن الوجوب ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلمها للأعرابي الذي سأله عن كيفية الصلاة، وأيضا فقد روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتركها، وعموما فإن الآية تفيد : أن من آداب الإسلام : أن المسلم إذا أراد قراءة القرآن، فينبغي أن يبدأ القراءة بقوله : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
والأكمل أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الرحمان الرحيم.
وإذا أمر النبي صلى الله عليه سلم بذلك، مع عصمته من الشيطان، فمن باب أولى سائر أمته.
يرشد القرآن المؤمنين، إلى العمل الذي يجعل أعمالهم خالصة، من وساوس الشيطان.
المفردات :
السلطان : التسلط والاستيلاء.
التفسير :
﴿ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾.
الناس أمام الشيطان قسمان : قسم آمن بالله واعتمد عليه، فهو صادق اليقين، واثق أن الهدي بيد الله، والمعونة منه، وأنه سبحانه إذا أراد للإنسان بخير فلا راد لفضله وهذا المؤمن قوي الإيمان، صادق اليقين، عقيدته سليمة، وإيمانه راسخ، ويقينه بالله قوي متين، ومثل هذا المؤمن لا سلطان للشيطان عليه، ولا تأثير له فيه، وحتى إذا استجاب المؤمن للشيطان، فسرعان ما يتوب إلى الله، ويثوب إلى رشده، قال تعالى :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾. ( الأعراف : ٢٠١ ).
والتوكل على الله يعني : صدق اليقين مع الإيمان والعمل، والتوكل غير التواكل، فالتوكل معناه : الأخذ بالأسباب، ثم الاعتماد على الله، رأى عمر رضي الله عنه قوما من أهل اليمن، فسألهم : من أنتم ؟ قالوا : نحن متوكلون، فقال عمر رضي الله عنه : أنتم متواكلون ؛ المتوكل هو الذي يبذر البذرة، وينتظر من الله إنضاج الثمرة.
يرشد القرآن المؤمنين، إلى العمل الذي يجعل أعمالهم خالصة، من وساوس الشيطان.
المفردات :
يتولونه : بالطاعة، يقال : توليته إذا أطعته، وتوليت عنه أي : أعرضت.
به مشركون : أي : بسبب الشيطان وإغوائه مشركون مع الله آلهة أخرى.
التفسير :
﴿ إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ﴾.
إن الشيطان له تأثير وتوجيه وإغراء، لمن وقع في حبه، واستهواه طريقه، فاتخذ الشيطان وليا ومرشدا وإماما، وصار تابعا له، يأتمر بأمره، ويعمل بتوجيهه، ويقع في محيط تأثيره، فيصده الشيطان عن طريق التوحيد، وصدق العقيدة، ويدفعه إلى الشرك والعياذ بالله، فأولياء الشيطان، الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وغرتهم الشهوات، واقترفوا السيئات، وآثروا العاجلة، وابتعدوا عن الآخرة، فهؤلاء هم حزب الشيطان وبطانته، وأهله وأولياؤه. وقريب من هذه الآيات قوله تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ﴾. ( الحجر : ٤٢ ).
وقال تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ﴾ ( الإسراء : ٦٥ ).
وفي الحديث :( المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في سفره )٦٧.
يعني : أن المؤمن يتعب الشيطان ويزجره. ويقلل أهميته بسبب طاعته لله، واستمرار هذه الطاعة، فيزداد المؤمن يقينا، ويزداد الشيطان بؤسا ويأسا، وفي الأثر :" تلاقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر، فإذا شيطان المؤمن : هزيل ضعيف، أشعث أغبر، وإذا شيطان الكافر : بدين سمين، نظيف قوي، فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن : مالك ضعيف هزيل ؟ قال : أنا مع رجل إذا أكل ؛ سمى الله ؛ فأظل جوعانا، وإذا شرب ؛ سمى الله ؛ فأظل عطشانا، وإذا اكتسى ؛ سمى الله ؛ فأظل عريانا، وإذا اغتسل ؛ سمى الله ؛ فأظل أشعثا أغبرا، فقال شيطان الكافر : أنا مع رجل لا يذكر اسم الله ؛ فأنا أكيله وشريبه وضجيعه وشريكه !.
وفي الحديث الشريف : يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( كل إنسان معه شيطان )، قالوا : وأنت يا رسول الله ! قال :( نعم، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ؛ فلا يأمر إلا بخير )٦٨.
وقريب من هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم :( ما سلك عمر فجا إلا وسلك الشيطان فجا آخر )، فعمر لقوة إيمانه وصدق يقينه ؛ يهرب منه الشيطان، ويترك الطريق الذي يمر منه، فسلطان الشيطان إنما يكون على قوم يرغبون في المعاصي وتغريهم الشهوات، ويسيطر عليهم الهوى.
المفردات :
وإذا بدلنا آية : التبديل رفع شيء ووضع غيره مكانه، وتبديل الآية : نسخها بآية أخرى، والنسخ : رفع الشارع حكما شرعيا سابقا بحكم شرعي لاحق.
تمهيد :
تستمر الآيات في ذكر مثالب المشركين، وتذكر منها أمرين :
الأول : أنه قد تنزل آية من القرآن تنسخ آية أخرى، مثل : تحويل القبلة، وجعل الميراث على النسب، لا على الأخوة في الدين، حيث قال تعالى :﴿ وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾، والأمر بالصبر على أذى المشركين، ثم الأمر برد العدوان، إذا تم هذا النسخ لحكمة إلهية، ومقصد شرعي، ادّعى الكفار : أن محمدا يفتري هذا القرآن من عند نفسه.
الثاني : ادّعوا : أن محمدا يتعلم من حداد رومي، فرد القرآن هذه الشبهة، حيث بين أن هذا الحداد أعجمي، والقرآن في غاية الإيضاح والبيان العربي.
التفسير :
١٠١ ﴿ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ﴾.
أنزل الله القرآن هداية ونورا، مشتملا على قواعد الإيمان، وأسباب الصلاح، والآداب والأخلاق، والشرائع التي تفيد الأمم، والله هو الذي خلق وهو العليم بما يصلحهم ومن حكمته أن يبدل آية قرآنية بآية أخرى، تكون أكثر مناسبة للناس في مرحلة تالية، كالطبيب الذي يعالج المريض، ثم يطور العلاج أو يغيره بما يناسب تطور المرض، لكن المشركين كانوا يظنون، أن محمدا يفتري القرآن من عند نفسه، ويأتي بالآيات الجديدة لتنسخ الآيات السابقة، من بنات أفكاره واختراعه، فرد عليهم القرآن في هذه الآية، وأشار إلى أن الحق سبحانه وتعالى، عندما يبدل آية مكان آية، فهو أعلم بما ينزل، وأدرى بما يصلح حال العباد، ودعواهم : أن محمدا يفتري القرآن، دعوى كاذبة ؛ لأنهم لا يعلمون سر هذا النسخ، ولا يعرفون أهداف هذا التعبير.
والنسخ في اللغة : الإزالة، تقول : نسخت الشمس لون الثوب أي : أزالته، وفي الشرع : رفع الشارع حكما شرعيا سابقا، بحكم شرعي لاحق، مثل : تحويل القبلة، وتشريع الجهاد بعد الأمر بالصبر والاحتمال.
﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾. أي : إن أكثر المعترضين جهلاء أغبياء، لا يعلمون الحكمة ولا يفقهون سر النسخ، وقلة منهم تعرف وتعلم، ولكنها تنكر هذه المعرفة وهذا العلم ؛ عنادا وجحودا وحسدا للرسول صلى الله عليه وسلم.
تستمر الآيات في ذكر مثالب المشركين، وتذكر منها أمرين :
الأول : أنه قد تنزل آية من القرآن تنسخ آية أخرى، مثل : تحويل القبلة، وجعل الميراث على النسب، لا على الأخوة في الدين، حيث قال تعالى :﴿ وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾، والأمر بالصبر على أذى المشركين، ثم الأمر برد العدوان، إذا تم هذا النسخ لحكمة إلهية، ومقصد شرعي، ادّعى الكفار : أن محمدا يفتري هذا القرآن من عند نفسه.
الثاني : ادّعوا : أن محمدا يتعلم من حداد رومي، فرد القرآن هذه الشبهة، حيث بين أن هذا الحداد أعجمي، والقرآن في غاية الإيضاح والبيان العربي.
المفردات :
روح القدس : جبريل عليه السلام، سمي بذلك ؛ لأنه ينزل بالقدس، أي : بما يطهر النفوس من القرآن والحكمة والفيض الإلهي.
بالحق : أي : بالحكمة المقتضية له.
التفسير :
﴿ قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ﴾.
روح القدس هو : جبريل عليه السلام، والإضافة فيه إضافة الموصوف إلى الصفة، أي : الروح القدس. ووصف بالقدس ؛ لطهارته وبركته، وسمي روحا لمشابهته للروح، فالروح فيها حياة البشر، وما يحمله جبريل من الوحي فيه حياة الأمم.
والمعنى :
قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين : إن القرآن نزل من عند الله تعالى، وقد نزل به جبريل الأمين متلبسا بالحق والصدق من عند الله، لهدف ومقصد هو تثبيت المؤمنين على الإيمان، كما أن في القرآن هداية من الضلال، وبشارة للطائعين بالجنة، وفيه هداية لمن آمن به من الزيغ والضلالات، إذ فيه ما يهذب النفوس ويكبح جماح الطغيان، ويرد الظالم عن ظلمه، ويدفع عدوان الناس بعضهم على بعض، وقد سمع القرآن أحد المشركين فقال : إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وما يقول هذا بشر. وصدق الله العظيم :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾. ( النساء : ٨٢ ).
تستمر الآيات في ذكر مثالب المشركين، وتذكر منها أمرين :
الأول : أنه قد تنزل آية من القرآن تنسخ آية أخرى، مثل : تحويل القبلة، وجعل الميراث على النسب، لا على الأخوة في الدين، حيث قال تعالى :﴿ وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾، والأمر بالصبر على أذى المشركين، ثم الأمر برد العدوان، إذا تم هذا النسخ لحكمة إلهية، ومقصد شرعي، ادّعى الكفار : أن محمدا يفتري هذا القرآن من عند نفسه.
الثاني : ادّعوا : أن محمدا يتعلم من حداد رومي، فرد القرآن هذه الشبهة، حيث بين أن هذا الحداد أعجمي، والقرآن في غاية الإيضاح والبيان العربي.
المفردات :
بشر : هو جبر الرومي غلام ابن الحضرمي، كان قد قرأ التوراة والإنجيل، وكان النبي يجلس إليه إذا آذاه أهل مكة.
الإلحاد : الميل، يقال : لحد، وألحد، إذا مال عن القصد، ومنه سمي العادل عن الحق : ملحدا.
لسان : أي : كلام.
أعجمي : الأعجمي : والأعجم : الذي في لسانه عجمة، من العجم كان أو من العرب، ومن ذلك زياد الأعجم كان عربيا في لسانه لكنة.
التفسير :
﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ﴾.
ذكر بعض المفسرين : اسم هذا الرجل، فقيل : اسمه بلعام، وقيل : اسم هذا الرجل : يعيش، وقيل غير ذلك.
والمعنى :
إنا لنعلم أن هؤلاء المشركين يقولون جهلا : إن محمدا يتعلم هذا القرآن على يد رجل حداد، وربما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليه، ويكلمه بعض الشيء.
﴿ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ﴾. أي : كذبتم أيها المشركون كذبا شنيعا ؛ فالإنسان الذي تشيرون إليه عبد حداد، لسانه أعمى، يعيش بين المطرقة والسنديان، وبما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمه وينير معارفه، بدليل أن أهل مكة سألوا هذا الحداد : هل تعلم محمدا ؟ فقال لهم : بل هو يعلمني.
﴿ وهذا لسان عربي مبين ﴾.
والقرآن عربي في أعلا درجات البلاغة والفصاحة، فقد أعجزكم بفصاحته وبلاغته، وتحداكم وأنتم أهل اللسان والبيان، أن تأتوا بمثله، أو بعشر سور منه، أو بسورة واحدة، فعجزتم عن ذلك مع شدة الرغبة منكم، واستمرار التحدي، ونشوب الحرب والقتال، ووجود الدواعي والرغبة منكم في إيجاد ما يشبه القرآن، ولما جاءوا بسورة كانت ناقصة مبتورة، وكانت أدل على فشلهم وعجزهم فأنى لبشر أن يأتي بقرآن مثل هذا، فضلا عن أن يكون معلما لمحمد، وهذا المغمز من قريش، ربما كان منها على سبيل السخرية، لا على سبيل الجد، فما حواه القرآن من العلوم والمعارف، والآداب والتشريع، ليس في مقدور بشر أن يأتي به.
وفي مؤتمر المستشرقين عام ١٩٥٤م، كانت دعواهم : أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عمل فرد واحد، هو محمد بل من عمل جماعة كبيرة، وأنه لا يمكن أن يكون قد كتب في الجزيرة العربية، بل إن بعض أجزائه كتب خارجها.
دعاهم عظمة هذا الكتاب أن يستكثروه على موهبة رجل واحد، وعلى علم أمة واحدة، ولم يقولوا ما يوحي به المنطق الطبيعي المستقيم : إنه من وحي رب العالمين.
تستمر الآيات في ذكر مثالب المشركين، وتذكر منها أمرين :
الأول : أنه قد تنزل آية من القرآن تنسخ آية أخرى، مثل : تحويل القبلة، وجعل الميراث على النسب، لا على الأخوة في الدين، حيث قال تعالى :﴿ وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾، والأمر بالصبر على أذى المشركين، ثم الأمر برد العدوان، إذا تم هذا النسخ لحكمة إلهية، ومقصد شرعي، ادّعى الكفار : أن محمدا يفتري هذا القرآن من عند نفسه.
الثاني : ادّعوا : أن محمدا يتعلم من حداد رومي، فرد القرآن هذه الشبهة، حيث بين أن هذا الحداد أعجمي، والقرآن في غاية الإيضاح والبيان العربي.
﴿ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم ﴾.
إن هؤلاء الكافرين قد ضلوا عن الحق والهدى، وصدوا عن الإيمان، وتكبروا عن داعي الرحمان، هؤلاء ليسوا أهلا لهداية السماء. فقد حجب الله عنهم الهدى، وطبع على قلوبهم.
قال تعالى :﴿ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾. ( المطففين : ١٤ ).
﴿ ولهم عذاب أليم ﴾. في الآخرة جزاء كفرهم وصدهم عن سبيل الله.
تستمر الآيات في ذكر مثالب المشركين، وتذكر منها أمرين :
الأول : أنه قد تنزل آية من القرآن تنسخ آية أخرى، مثل : تحويل القبلة، وجعل الميراث على النسب، لا على الأخوة في الدين، حيث قال تعالى :﴿ وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾، والأمر بالصبر على أذى المشركين، ثم الأمر برد العدوان، إذا تم هذا النسخ لحكمة إلهية، ومقصد شرعي، ادّعى الكفار : أن محمدا يفتري هذا القرآن من عند نفسه.
الثاني : ادّعوا : أن محمدا يتعلم من حداد رومي، فرد القرآن هذه الشبهة، حيث بين أن هذا الحداد أعجمي، والقرآن في غاية الإيضاح والبيان العربي.
﴿ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ﴾.
إن الكذب جريمة كبرى لا يقدر على اختلاقه إلا الكافرون، الذين لا يؤمنون بالقرآن، ولا يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء وحدهم هم الكاذبون، هؤلاء مقصورون على الكذب، أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو الصادق الأمين، وهو رسول من عند الله، وهو صادق في تبليغه عن الله، وجبريل أمين على وحي السماء، ومحمد أمين في هذا البلاغ.
جاء في تفسير القاسمي :
ولا يخفى ما في الحصر بعد القصر، من العناية بمقامه صلوات الله عليه وقد كان أصدق الناس وأبرهم.. بحيث كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم، أبا سفيان فقال له من بين ما قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا، فقال هرقل : ما كان ليدع الكذب على الناس، ويكذب على الله تعالى.
وفي هذه الآية دلالة على أن الكذب من أكبر الكبائر، وأفحش الفواحش، والدليل عليه أن كلمة ﴿ إنما ﴾ للحصر، وروى : أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن ؟ قال : لا، ثم قرأ هذه الآية. اه.
المفردات :
أكره : أي : على التلفظ بكلمة الكفر.
مطمئن : ثابت متيقن، والاطمئنان سكون النفس بعد انزعاجها، والمراد : الثبات على ما كان عليه، بعد إزعاج الكفر.
شرح بالكفر صدرا : اعتقده وطاب به نفسا.
تمهيد :
العقيدة الصادقة لها تكاليف وتضحيات، والمسلمون الأولون تعرضوا لكثير من الاضطهاد والآلام، فصبر كثير منهم، وبعضهم تحمّل الموت في سبيل الله، مؤثرا الآخرة على الدنيا. روى : أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه : ياسرا وسمية، على الارتداد فأبوا، فربطوا سمية بين بعيرين، ووجئت بحربة في موضع عفتها، وقالوا : إنما أسلمت من أجل الرجال، فقتلوها، وقتلوا ياسرا، وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل : يا رسول الله، إن عمارا كفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بحلمه ودمه. فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه، وقال له :( مالك ؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت ) وفي رواية : أنه قال له :( كيف تجد قلبك ؟ ) قال : مطمئن بالإيمان، قال صلى الله عليه وسلم :( إن عادوا فعد )، فنزلت هذه الآية٦٩.
والآيات توضح مغفرة الله للمكره، وتبين : أن العقاب الأليم لمن رجع عن الإسلام، وآثر الكفر ؛ فإنه يستحق غضب الله، والعذاب العظيم، وهو قد اشترى الدنيا والكفر، وباع الآخرة والإيمان، فحرمه الله الهدى ووصمه بالكفر، هؤلاء قد ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فصاروا غافلين عن الحق، سادرين في الباطل، حقا إنهم في الآخرة من الخاسرين، فقد حرموا الجنة وصاروا من أهل النار.
التفسير :
١٠٦ ﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ﴾.
الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، وذاقت حلاوته النفوس، لا يجوز أن يتركه الإنسان ويرجع إلى الكفر بالله.
والآية تتحدث عن عقوبة الكافر الذي عرف الإيمان، ثم عدل عنه إلى الكفر وتستثنى من هذه العقوبة، من أكره على الكفر، فكفر بلسانه، وقلبه ثابت مطمئن على الإيمان، فهو في مغفرة الله ورحمته أما من اطمأن قلبه للكفر، وعاد إليه متيقنا به، مؤثرا له على الإيمان، فعليه غضب الله ولعنته، وله عذاب عظيم في جهنم.
وقد تعرض المسلمون في تاريخهم الطويل، لألوان من العذاب والإغراء، ليتركوا الإيمان ويعودوا إلى الكفر، أو ليقولوا كلمة يذمون بها الإسلام ويمدحون الكفر، فمنهم من رضي بالموت فداء لعقيدته، واشترى الآخرة وباع الدنيا، وتحمل صنوف العذاب والإغراء، ومن هؤلاء ياسر، وزوجته سمية، وبلال بن رباح، ومنهم من نطق بكلمة الكفر تقية ؛ حتى يخف عنه العذاب، ومن هؤلاء عمار بن ياسر، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما فعل، وفي الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :( كيف تجد قلبك )، قال : مطمئن بالإيمان، فقال له :( إن عادوا فعد ).
قال ابن كثير في تفسيره :
اتفق العلماء على : أن المكره على الكفر، يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه بالشرك بالله، فيأبى عليهم وهو يقول : أحد أحد، ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها ". اه.
وقريب من صنع بلال بن رباح، ما فعله حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله، قال : نعم، فيقول له مسيلمة : أتشهد أن مسيلمة رسول الله ؟ قال حبيب : لا أسمع، فلم يزل يقطعه إربا إربا، وهو ثابت على ذلك.
وذكر الحافظ ابن عساكر، في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي أحد الصحابة رضوان الله عليهم أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم، فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي، وأزوجك ابنتي، فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم، طرفة عين ما فعلت، فقال : إذن أقتلك، فقال : أنت وذاك، وفي رواية : أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياما، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما إنه قد حل لي، ولكن لم أكن لأشتمك فيّ، فقال له الملك : فقبل رأسي وأنا أطلقك، فقال : تطلق معي جميع أسارى المسلمين، قال : نعم، فقبل رأسه، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذيفة، وأنا أيضا، فقام وقبل رأسه رضي الله عنهما٧٠.
العقيدة الصادقة لها تكاليف وتضحيات، والمسلمون الأولون تعرضوا لكثير من الاضطهاد والآلام، فصبر كثير منهم، وبعضهم تحمّل الموت في سبيل الله، مؤثرا الآخرة على الدنيا. روى : أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه : ياسرا وسمية، على الارتداد فأبوا، فربطوا سمية بين بعيرين، ووجئت بحربة في موضع عفتها، وقالوا : إنما أسلمت من أجل الرجال، فقتلوها، وقتلوا ياسرا، وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل : يا رسول الله، إن عمارا كفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بحلمه ودمه. فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه، وقال له :( مالك ؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت ) وفي رواية : أنه قال له :( كيف تجد قلبك ؟ ) قال : مطمئن بالإيمان، قال صلى الله عليه وسلم :( إن عادوا فعد )، فنزلت هذه الآية٦٩.
والآيات توضح مغفرة الله للمكره، وتبين : أن العقاب الأليم لمن رجع عن الإسلام، وآثر الكفر ؛ فإنه يستحق غضب الله، والعذاب العظيم، وهو قد اشترى الدنيا والكفر، وباع الآخرة والإيمان، فحرمه الله الهدى ووصمه بالكفر، هؤلاء قد ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فصاروا غافلين عن الحق، سادرين في الباطل، حقا إنهم في الآخرة من الخاسرين، فقد حرموا الجنة وصاروا من أهل النار.
المفردات :
استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة : أي : آثروها وقدموها.
التفسير :
﴿ ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾.
أي : ذلك الجزاء العادل والعقاب الأليم، بأن عليهم غضبا من الله ولهم عذاب عظيم، سببه أنهم آثروا الحياة الدنيا وزينتها، وباعوا الآخرة والإيمان بالله، ومن عدالة الله أنه لا يوفق للإيمان من يجحد آيات الله ويصر على إنكارها.
العقيدة الصادقة لها تكاليف وتضحيات، والمسلمون الأولون تعرضوا لكثير من الاضطهاد والآلام، فصبر كثير منهم، وبعضهم تحمّل الموت في سبيل الله، مؤثرا الآخرة على الدنيا. روى : أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه : ياسرا وسمية، على الارتداد فأبوا، فربطوا سمية بين بعيرين، ووجئت بحربة في موضع عفتها، وقالوا : إنما أسلمت من أجل الرجال، فقتلوها، وقتلوا ياسرا، وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل : يا رسول الله، إن عمارا كفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بحلمه ودمه. فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه، وقال له :( مالك ؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت ) وفي رواية : أنه قال له :( كيف تجد قلبك ؟ ) قال : مطمئن بالإيمان، قال صلى الله عليه وسلم :( إن عادوا فعد )، فنزلت هذه الآية٦٩.
والآيات توضح مغفرة الله للمكره، وتبين : أن العقاب الأليم لمن رجع عن الإسلام، وآثر الكفر ؛ فإنه يستحق غضب الله، والعذاب العظيم، وهو قد اشترى الدنيا والكفر، وباع الآخرة والإيمان، فحرمه الله الهدى ووصمه بالكفر، هؤلاء قد ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فصاروا غافلين عن الحق، سادرين في الباطل، حقا إنهم في الآخرة من الخاسرين، فقد حرموا الجنة وصاروا من أهل النار.
﴿ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ﴾.
هؤلاء الكفار قد اشتد إعراضهم عن الحق، وآثروا الدنيا والهوى، وأعرضوا عن الهدى ؛ فختم الله على قلوبهم بحجاب من الغفلة، وعلى أسماعهم فلا تستمع إلى الهدى، استماع راغب مستفيد مما فيه، ولا تبصر الحق ولا تنظر في أدلته.
﴿ وأولئك هم الغافلون ﴾. السادرون في لهوهم، الساهون عما أعد لهم ولأمثالهم، من عقوبة وجزاء.
العقيدة الصادقة لها تكاليف وتضحيات، والمسلمون الأولون تعرضوا لكثير من الاضطهاد والآلام، فصبر كثير منهم، وبعضهم تحمّل الموت في سبيل الله، مؤثرا الآخرة على الدنيا. روى : أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه : ياسرا وسمية، على الارتداد فأبوا، فربطوا سمية بين بعيرين، ووجئت بحربة في موضع عفتها، وقالوا : إنما أسلمت من أجل الرجال، فقتلوها، وقتلوا ياسرا، وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل : يا رسول الله، إن عمارا كفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بحلمه ودمه. فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه، وقال له :( مالك ؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت ) وفي رواية : أنه قال له :( كيف تجد قلبك ؟ ) قال : مطمئن بالإيمان، قال صلى الله عليه وسلم :( إن عادوا فعد )، فنزلت هذه الآية٦٩.
والآيات توضح مغفرة الله للمكره، وتبين : أن العقاب الأليم لمن رجع عن الإسلام، وآثر الكفر ؛ فإنه يستحق غضب الله، والعذاب العظيم، وهو قد اشترى الدنيا والكفر، وباع الآخرة والإيمان، فحرمه الله الهدى ووصمه بالكفر، هؤلاء قد ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فصاروا غافلين عن الحق، سادرين في الباطل، حقا إنهم في الآخرة من الخاسرين، فقد حرموا الجنة وصاروا من أهل النار.
المفردات :
لا جرم : أي : حقا.
التفسير :
﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ﴾.
أي : حقا إنهم في الآخرة هم المغبونون ؛ لأنهم اشتروا عرضا قليلا، وباعوا نعيما أبديا سرمديا ؛ فخسرت تجارتهم وعاد ذلك عليهم بالوبال والنكال في جهنم وبئس القرار.
ولله در من قال :
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس | عليه من الإنفاق في غير واجب |
١ إنهم استوجبوا غضب الله.
٢ إنهم استحقوا عذابه العظيم.
٣ إنهم استحبوا الحياة الدنيا.
٤ إنهم حرموا من الهداية.
٥ إنه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
٦ إنهم غفلوا عن الحق.
٧ إنهم خاسرون في الآخرة.
قال مجاهد :
أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وخباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وسمية، أما الرسول ؛ فحماه أبو طالب، وأما أبو بكر ؛ فحماه قومه، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد، ثم أجلسوا في الشمس، فبلغ منهم الجهد بحرّ الحديد والشمس، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم، ويشتم سمية، ثم طعنها بحربة في ملمس العفة، وقال الآخرون : ما نالوا به منهم، إلا بلالا، فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول : أحد أحد ؛ حتى ملوا ؛ فكتفوه وجعلوا في عنقه حبلا من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به ؛ حتى ملوه فتركوه، وقال عمار : كلنا تكلم بالذي أرادوا، غير بلال ؛ فإن نفسه هانت عليه فتركوه، وقال خباب : لقد أوقدوا لي نارا ما أطفأها إلا ودك ( دهن ) ظهري.
المفردات :
من بعد ما فتنوا : عذبوا وأوذوا، وأصل الفتن : إدخال الذهب في النار ؛ لتظهر جودته من رداءته، ثم استعمل في المحنة والابتلاء يصيب الإنسان..
تمهيد :
تتحدث الآيتان عن فئة من المسلمين كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم، فوافقوا المشركين ظاهرا، على الرجوع إلى دين آبائهم وأجدادهم، ثم فروا وتركوا بلادهم وأهلهم ؛ ابتغاء رضوان الله وطلب غفرانه، وانتظموا في سلك المسلمين، وجاهدوا معهم الكافرين، فحكم الله بقبول توبتهم ودخولهم في زمرة الصالحين، وتمتعهم بجنات النعيم.
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة : أن عياشا رضي الله عنه. ـ وكان أخا أبى جهل من الرضاعة ـ وأبا جندل بن سهل، وسلمة بن هشام، وعبد الله بن سلمة الثقفي، فتنهم المشركون وعذبوهم، فأعطوهم ما أرادوا ؛ ليسلموا من شرهم، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا فنزلت فيهم الآية.
التفسير :
١١٠ ﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ﴾.
تتحدث الآية عن مؤمنين كانوا مستضعفين بمكة، فلما اشتد عليهم العذاب ؛ والوا قومهم، وتكلموا في الظاهر بما يرضي المشركين، ثم هاجروا بعد ذلك إلى المدينة، وحسن إسلامهم وبلاؤهم.
والمعنى : ثم إن ربك يا محمد، لهؤلاء المهاجرين الذين امتحنوا بمكة، ثم هاجروا إلى المدينة، وجاهدوا مع المؤمنين، وصبروا وصابروا، ودفعوا ضريبة الإيمان، من التضحية والفداء ؛ إن ربك يا محمد من بعد هذه المواقف ﴿ لغفور رحيم ﴾. يغفر لهم موالاة الكافرين بمكة، ويرحم ضعفهم، ويجزل مثوبتهم، فقد أتبعوا السيئة بالحسنة، وعوضوا ما فاتهم، وقاموا بجهد مبارك مع المسلمين.
رأي آخر
قال الآلوسي :
وقرأ ابن عامر :﴿ من بعدما فتنوا ﴾، بالبناء للفاعل، وهو ضمير المشركين عند غير واحد، أي : عذبوا المؤمنين كالحضرمي، أكره مولاه " جبرا " حتى ارتد، ثم أسلما وهاجرا..
والمعنى : إن مغفرة لله تكون للمشرك الذي فتن المؤمنين، ثم هاجر وجاهد وصبر ؛ فإن الإسلام يجب ما قبله، وإن مغفرة والله ورحمته لكل من طرق بابه، وقد كان خالد بن الوليد من أبطال المشركين، وقد نال من المؤمنين في معركة أحد، حيث شاهد الرماة قد تركوا أماكنهم في ظهر المعركة، فأخذ جماعة من رجال المشركين، وانقض على المسلمين من الخلف، وأعمل السيف في مؤخرة الجيش، فاحتل نظام الجيش، وصار المسلمون يقتل بعضهم بعضا، ولما أسلم خالد بن الوليد، قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يغفر لي تلك المشاهد التي شهدتها عليك، فقال صلى الله عليه وسلم :( أما علمت أن الإسلام يجبّ ما قبله ).
تتحدث الآيتان عن فئة من المسلمين كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم، فوافقوا المشركين ظاهرا، على الرجوع إلى دين آبائهم وأجدادهم، ثم فروا وتركوا بلادهم وأهلهم ؛ ابتغاء رضوان الله وطلب غفرانه، وانتظموا في سلك المسلمين، وجاهدوا معهم الكافرين، فحكم الله بقبول توبتهم ودخولهم في زمرة الصالحين، وتمتعهم بجنات النعيم.
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة : أن عياشا رضي الله عنه. ـ وكان أخا أبى جهل من الرضاعة ـ وأبا جندل بن سهل، وسلمة بن هشام، وعبد الله بن سلمة الثقفي، فتنهم المشركون وعذبوهم، فأعطوهم ما أرادوا ؛ ليسلموا من شرهم، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا فنزلت فيهم الآية.
المفردات :
تجادل : المجادلة : المحاجة والمدافعة، والسعي في الخلاص من أهوال ذلك اليوم الشديد.
كل نفس : النفس الأولى : الجثة والبدن، والنفس الثانية : عينها وذاتها.
توفى : تعطى.
التفسير :
﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون ﴾.
﴿ يوم ﴾منصوب على الظرفية بقوله :﴿ رحيم ﴾، أو منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره : اذكر، واليوم هنا : يوم القيامة، وقد صورت الآية أهوال هذا اليوم وشدته وفزعه، وقد ورد في بعض الآثار :" إن جهنم لتزفر زفرة، لا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا جثا على ركبتيه، يقول : رب نفسي نفسي، حتى إن إبراهيم الخليل ليفعل ذلك ".
والمعنى : اذكر يوم القيامة، حيث يأتي كل إنسان يدافع عن نفسه، قد شغله الهول عن أي إنسان آخر، وفي ذلك اليوم لا يفيد الكلام ولا الدفاع ؛ لأن الدنيا عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل، بل يوفى كل إنسان جزاء عمله، ويلقى المحسن جزاء إحسانه، والمسيء جزاء إساءته :﴿ وهم لا يظلمون ﴾ ؛ لأنهم أمام الله العادل القائل :
﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾( الأنبياء : ٤٧ ).
وقال سبحانه :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ﴾( الحج : ٢، ١ ).
تمهيد :
في هاتين الآيتين تهديد ووعيد لأهل مكة، وتذكير لهم بما أصاب القرى التي كذبت أنبياءها، فأرسل الله عليهم صاعقة، أو أمطرهم بالحجارة، أو أغرقهم بالماء، أو خسف بهم الأرض، جزاء كفرهم وعنادهم.
التفسير :
١١٢ ﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴾.
ضرب الله الأمثال لأهل مكة ؛ حتى يضع أمامهم صورة عملية لقرية أيّ قرية من قرى المكذبين، مثل قرية نوح، أو هود، أو صالح، أو موسى، أو محمد عليهم الصلاة والسلام، فقد كان هؤلاء الكفار آمنون في قراهم، يأتيهم الرزق والعافية والنعمة، ثم أرسل الله إليهم رسولا ليؤمنوا به، فكذبوه وجحدوا نبوته، فأرسل الله عليهم العقوبة، فقد أغرق الطوفان قوم نوح، وأهلك العذاب مدين وثمود.
قال تعالى :﴿ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ﴾( هود : ٩٥ )، وأغرق الله فرعون في ماء النيل.
قال تعالى :﴿ وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين* فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ ( العنكبوت : ٤٠، ٣٩ ).
وقال عز شأنه :﴿ كذبت ثمود بطغواها* إذ انبعث أشقاها* فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها* فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها* ولا يخاف عقباها ﴾( الشمس : ١١ ١٥ ).
ومن المفسرين من ذهب إلى أن المراد بهذه القرية : قرية غير معينة، وإنما هي مثل لكل قوم قابلوا نعم الله بالجحود والكفران، فأصابهم العذاب والنكال، وهذا ينطبق على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم زكريا، وقوم موسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ومن المفسرين من ذهب إلى أن المراد بالقرية أهل مكة، كانت أنعم الله تترى عليهم، وتأتيهم الخيرات من كل مكان، وكانوا يتمتعون بالأمن والأمان، وتسير تجارتهم آمنة في رحلة الشتاء والصيف، فلا يغير عليها أحد من الأعراب ؛ لأنهم أهل حرم الله وسدنة الكعبة، ثم أرسل الله إليهم رسولا يعرفون نسبه وحسبه، وصدقه وأمانته، وجاء بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكفروا بالكتاب، وكذبوا الرسول، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال :( اللهم، اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف )٧١.
فأصاب أهل مكة الجوع، وأذاقهم الله لباس الخوف، أي : ذاقوا مرارة الخوف والحرب والجوع، حتى إذا نظروا إلى السماء ؛ شاهدوا ما يشبه الدخان، من الجوع الذي أصابهم، عقوبة لكفرهم.
وعند التأمل نجد أن الآية يمكن أن تشمل قرى المكذبين السابقين للرسل، وتنطبق في نفس الوقت على أهل مكة.
وقريب من معنى الآية قوله تعالى :﴿ أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾( القصص : ٥٧ ).
وقوله سبحانه :﴿ لإيلاف في قريش* إيلافهم رحلة الشتاء والصيف* فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ﴾( قريش : ١ ٤ ).
وقوله تعالى :﴿ وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ﴾ ( محمد : ١٣ ).
وفي ختام القول : تظل هذه الآية نموذجا ومثالا، لكل من قابل النعمة بالكفر والطغيان، فتقال له ولأمثاله، بل يمكن أن يذكر الإنسان نفسه عندما يدعوه الهوى أو الشيطان إلى ارتكاب أي فاحشة أو معصية فيقول لنفسه :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴾ ( النحل : ١١٢ ).
في هاتين الآيتين تهديد ووعيد لأهل مكة، وتذكير لهم بما أصاب القرى التي كذبت أنبياءها، فأرسل الله عليهم صاعقة، أو أمطرهم بالحجارة، أو أغرقهم بالماء، أو خسف بهم الأرض، جزاء كفرهم وعنادهم.
﴿ ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ﴾.
أي : إن أهل هذه القرية، قد أكمل الله عليهم النعم، فأرسل إليهم رسولا من جنسهم، يعرفون نسبه وصدقه، فقابلوا دعوته إليهم بالتكذيب والجحود، فقابل الله تكذيبهم وجحودهم بأن أرسل عليهم العذاب، حال كونهم ظالمين لأنفسهم، وظالمين للرسول الذي أرسل إليهم.
في أعقاب التفسير
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
﴿ وضرب الله مثلا قرية... ﴾ أي : جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم، فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته..
وقال الإمام ابن كثير :
هذا مثل أريد به : أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا... ؛ فجحدت آلاء الله عليها، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ﴿ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴾.
تمهيد :
تشتمل الآيات على ما يأتي :
١ ـ الأكل من الحلال الطيب.
٢ ـ تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير.. إلا للمضطر.
٣ ـ التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص، ولا يجوز أن يكونا بالهوى والتشهي.
٤ ـ ما حرم على اليهود قد ذكر من قبل في سورة الأنعام.
٥ ـ قبول توبة التائب الصادق في توبته.
التفسير :
١١٤ ﴿ فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون ﴾.
كلوا من رزق الله، ومن أنعمه الحلال الطيب، واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم، واشكروا الله على أنعمه عليكم، بأن تستخدموا النعمة فيما خلقت له، وأن تؤدوا الزكاة والصدقة، إن كنتم تعبدون الله، فالتزموا بأكل الحلال، والتزموا بشكر النعمة، وأداء حقها، وإخراج زكاتها.
تشتمل الآيات على ما يأتي :
١ ـ الأكل من الحلال الطيب.
٢ ـ تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير.. إلا للمضطر.
٣ ـ التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص، ولا يجوز أن يكونا بالهوى والتشهي.
٤ ـ ما حرم على اليهود قد ذكر من قبل في سورة الأنعام.
٥ ـ قبول توبة التائب الصادق في توبته.
﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ﴾.
التحريم والتحليل يكونان من الله، وقد نعى القرآن على أهل الجاهلية تحريم أنواع من الحيوانات، فقال سبحانه وتعالى :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ﴾( المائدة : ١٠٣ ).
وقد تكرر هذا المعنى في سورة البقرة والمائدة والأنعام، وقد قصر الله التحريم هنا في هذه الأربع ؛ ردا على تحريم المشركين لبعض الحيوانات، افتراء على الله، من غير أن يحرمها الله تعالى.
ف﴿ الميتة ﴾. ربما تعفنت أو فسدت، فتعافها النفس من جهة، ولأن في أكلها أضرارا بالجسم من جهة أخرى، ويلحق بالميتة : المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع منها ؛ نظرا لفسادها وضررها، ولأنها لم تذبح وتذكى وهي حية.
﴿ والدم ﴾. وهو الدم النازل من الحيوان في حياته أو في مماته، ويسمى : الدم المسفوح، أي : السائل عند ذبح الحيوان، وقد أثبت الطب الحديث الأضرار التي تصيب الإنسان من شرب الدم.
﴿ ولحم الخنزير ﴾. وقد حرم الله الخنزير كله، جلده ولحمه ودهنه ؛ وإنما ذكر اللحم هنا ؛ لأنه الأساس المقصود بالذبح، وتحريم الشحم والجلد تابعان لتحريم اللحم.
﴿ وما أهل لغير الله به ﴾. حيث كان أهل الجاهلية يذبحون لآلهتهم، ويقولون عند الذبح باسم اللات أو باسم العزى ؛ والفعل ﴿ أهلّ ﴾ مأخوذ من الإهلال بمعنى : رفع الصوت، أي : رافعين أصواتهم باسم آلهتهم ؛ وفي هذا الحيوان فساد معنوي ؛ لأنه ذكر عليه اسم غير الله، وقد قال تعالى :﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾( الأنعام : ١١٨ ).
والذبح عبادة لها مواصفات في كتب الفقه ؛ منها : أن يحد الذابح شفرته، ويريح ذبيحته، ويذبح الحيوان من رقبته، ويقطع أكثر الرقبة وفيها الحلقوم والودجان والنخاع. وعند الذبح يقول : باسم الله. الله أكبر.
﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ﴾.
أي : من اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات الأربع : كمن سار في صحراء، وضل الطريق، واشتد به الجوع ؛ فإنه يباح له الأكل من هذه المحرمات، بمقدار ما يسد الرمق، ويستبقي الحياة.
﴿ غير باغ ﴾، أي : متجاوز في قصده، بأن يترك الحلال متعمدا إلى أكل الحرام.
﴿ ولا عاد ﴾. أي : ولا معتد بأكل أكثر مما يسد الرمق، من أكل هذه المحرمات مضطرا فلا إثم عليه، ولا ذنب.
﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾. فإن الله يغفر له ويرحمه ؛ لأنه عليم بالملابسات التي أحاطت به، وهو سبحانه لم يكلفنا بما لا نطيق.
قال تعالى :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾( البقرة : ٢٨٦ ).
وقال عز شأنه :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ﴾( الطلاق : ٧ ).
وفي خواتيم سورة البقرة :﴿ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ﴾( البقرة : ٢٨٦ ).
والآن وبعد مرور أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، يتحدث الطب الحديث عن الأضرار العديدة التي تصيب من يأكل من هذه المحرمات، ويتضح للعيان صدق هذا القرآن، وأنه إنما جاء من عند الله حقا، فأنى لمحمد الذي نشأ في بلاد العرب، أن يصل إلى تحريم هذه الأشياء بذاتها، من غير أن يوجهه وحي السماء، وصدق الله العظيم :﴿ وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى ﴾ ( النجم : ٤، ٣ }.
تشتمل الآيات على ما يأتي :
١ ـ الأكل من الحلال الطيب.
٢ ـ تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير.. إلا للمضطر.
٣ ـ التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص، ولا يجوز أن يكونا بالهوى والتشهي.
٤ ـ ما حرم على اليهود قد ذكر من قبل في سورة الأنعام.
٥ ـ قبول توبة التائب الصادق في توبته.
المفردات :
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب : لا تجعلوا الكذب قولكم، ولا تجعلوا ألسنتكم أداة الكذب.
جاء في تفسير الكشاف ما معناه :
يقولون : له وجه يصف الجمال، وعين تصف السحر، يريدون : أنه جميل، وأن عينه تفتن من رآها ؛ لأنه لما كان وجهه منشأ للجمال، وعينه منبعا للفتنة والسحر، كان كل منهما كأنه إنسان عالم بكنههما، محيط بحقيقتهما، يصفهما للناس أجمل وصف، ويعرّفهما أتم تعريف، وعلى هذا الأسلوب جاء قوله تعالى :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ﴾، إذ جعل الكذب كأنه حقيقة مجهولة، وكلامهم الكذب يشرح تلك الحقيقة ويوضحها، كأن ألسنتهم لكونها موصوفة بالكذب، هي حقيقته ومنبعه الذي يعرف منه.
لتفتروا : أي : لتكون العاقبة ذلك.
التفسير :
﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ﴾.
التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص، ولا يجوز أن يجرؤ إنسان على تحليل شيء أو تحريمه، لهواه أو رأيه أو فتوى بغير علم، فيكون قد اجترأ على الله فضلّ وأضلّ.
ومعنى الآية : لا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم وتحكيه : هذا حلال، وهذا حرام، فهذا القول حين يقوله إنسان بلا نص هو الكذب بعينه، الذي يفتريه على الله، ويتقول على الله بما لم يقله، بدون دليل ولا برهان.
قال ابن كثير :
ويدخل في الآية من ابتدع بدعة، ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهيه. اه.
وقال الآلوسي :
لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله تعالى ورسوله : حلالا وحراما ؛ فتكونوا كاذبين على الله ؛ لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمه سبحانه. اه.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى :﴿ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل أآلله أذن لكم أم على الله تفترون ﴾( يونس : ٥٩ ).
وقد ادعى المشركون : تحريم أشياء لم يحرمها الله سبحانه، وفند القرآن دعواهم، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا... ﴾( الأنعام : ١٣٩ ).
﴿ لتفتروا على الله الكذب ﴾. أي : لتكون عاقبة أمركم إسناد التحريم والتحليل إلى الله، كذبا من غير أن يكون ذلك منه، فالله تعالى لم يحرم من ذلك ما تحرمون، ولا أحل كثيرا مما تحللون.
وإجمال ذلك :
لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله ورسوله : حلالا وحراما ؛ فتكونوا كاذبين عليه ؛ لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمه تعالى.
عن أبي نضرة قال : قرأت هذه الآية في سورة النحل فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.
﴿ إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ﴾. أي : إن الذين يختلقون الكذب، ويخترعون الفتوى، وينسبون ذلك إلى الله وشرعه كذبا وزورا ؛ لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة، فسرعان ما يكتشف الناس كذبهم، فينصرفون عنهم، ويكونون مضرب الأمثال في الهوان والصغار.
تشتمل الآيات على ما يأتي :
١ ـ الأكل من الحلال الطيب.
٢ ـ تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير.. إلا للمضطر.
٣ ـ التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص، ولا يجوز أن يكونا بالهوى والتشهي.
٤ ـ ما حرم على اليهود قد ذكر من قبل في سورة الأنعام.
٥ ـ قبول توبة التائب الصادق في توبته.
﴿ متاع قليل ولهم عذاب أليم ﴾.
أي : متاعهم في الدنيا قليل، بالسحت والمال الحرام، الذي حصلوا عليه بفتاواهم الكاذبة.
﴿ ولهم عذاب أليم ﴾.
وينتظرهم عذاب شديد في الآخرة ؛ جزاء كذبهم وافترائهم على الله.
قال تعالى :﴿ قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ﴾ ( النساء : ٧٧ ).
وقال عز شأنه :﴿ نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ﴾( لقمان : ٢٤ ).
تشتمل الآيات على ما يأتي :
١ ـ الأكل من الحلال الطيب.
٢ ـ تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير.. إلا للمضطر.
٣ ـ التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص، ولا يجوز أن يكونا بالهوى والتشهي.
٤ ـ ما حرم على اليهود قد ذكر من قبل في سورة الأنعام.
٥ ـ قبول توبة التائب الصادق في توبته.
﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾.
لقد حرم الله على اليهود أنواعا من الحيوانات ؛ عقوبة لهم وردعا لظلمهم، كما قال سبحانه وتعالى :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾( النساء : ١٦٠ ).
وعند المقارنة : نجد أن الله حرم على المسلمين الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله، وهذا التحريم رأفة بنا، وحفاظا على أجسامنا، ولم يكن ذلك عقوبة على جريمة ارتكبناها، أما ما حرم على اليهود فقد كان عقوبة لهم، وقد سبق ذكر ذلك في سورة الأنعام، حيث قال سبحانه وتعالى :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ﴾( الأنعام : ١٤٦ ).
﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾. أي : أن الله تعالى لم يظلم اليهود بتحريم هذه الأشياء عليهم، وإنما حرمها عليهم جزاء ظلمهم، وعدوانهم في السبت، وقولهم : قلوبنا غلف، وتحريفهم الكلم عن مواضعه، وإضافتهم للتوراة ما ليس منها، وحذفهم بعض الحدود من التوراة، مثل : الرجم للزاني المحصن عندما كثر الزنا في أشرافهم، فاستبدلوه بعقوبة أخف، ولم تتشرب قلوبهم روح التوراة، بل اهتموا باللفظ دون المحتوى، حيث قال تعالى :﴿ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ﴾( الجمعة : ٥ ).
تشتمل الآيات على ما يأتي :
١ ـ الأكل من الحلال الطيب.
٢ ـ تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير.. إلا للمضطر.
٣ ـ التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص، ولا يجوز أن يكونا بالهوى والتشهي.
٤ ـ ما حرم على اليهود قد ذكر من قبل في سورة الأنعام.
٥ ـ قبول توبة التائب الصادق في توبته.
المفردات :
بجهالة : الجهالة هنا : الطيش، وعدم التدبر في العواقب.
التفسير :
﴿ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ﴾.
تتكرر المعاني التي تفصح عن رحمة الله بعباده، وقبول توبتهم ؛ حتى لا ييئس إنسان من فضل الله ورحمته وقد فتح الله أبواب التوبة لكل تائب من اليهود أو من غيرهم، وقد خصت الآية عمل السوء بجهالة ؛ لأن المذنب عادة يكون واقعا تحت جهالة الشهوة أو الشباب أو الإغراء، ؟ وليس معناه : أن من عمل السوء بدون جهالة لا يغفر الله له، بل الآية تعبر عن الواقع والأكثر.
وقال مجاهد :
كل من عصى الله تعالى عمدا أو خطأ، فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
وقال ابن عطية :
الجهالة هنا بمعنى : تعدي الطور، وركوب الرأس، لا عدم العلم، ومنه ما جاء في الخبر :" اللهم، إني أعوذ بك أن أجهل أو يجهل علي " ٧٢.
ومنه قول الشاعر :
ألا لا يجهلن أحد علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
ثم إن ربك لكثير الغفران والرحمة، لأولئك الذين أسرفوا على أنفسهم، بالذنوب أو المعاصي، أو الشرك أو ركوب مالا يليق، بسبب الجهالة والطيش والسفه، ثم ندموا وتابوا توبة صادقة، وعملوا أعمالا صالحة، فإن الله يتقبل توبتهم، ويسجل لهم الحسنات في صحائف أعمالهم، رأفة ورحمة بهم، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم* وأن عذابي هو العذاب الأليم ﴾( الحجر : ٥٠، ٤٩ ).
ويقول تعالى :﴿ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ﴾( الفرقان : ٧٠ ).
ويقول تعالى :﴿ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ﴾ ( البقرة : ٢٢٢ ).
ويقول عز شأنه :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ﴾( الزمر : ٥٣ ).
المفردات :
أمة : الأمة : الجماعة الكثيرة، وسمى إبراهيم : أمة ؛ لأنه جمع من الفضائل ما لو تفرق لكفى أمة.
قال أبو نواس يمدح هارون الرشيد :
وليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
حنيفا : مائلا عن الدين الباطل إلى الدين الحق.
اجتباه : اختاره واصطفاه
وآتيناه في الدنيا حسنة : هي محبة أهل الأديان جميعا له، وقد بشره الله بإسحاق ثم بيعقوب، ومن نسله كان الأنبياء، واتخذه الله خليلا، وهو مذكور في ختام التشهد، ومن دعاء إبراهيم :﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ﴾ ( الشعراء : ٨٤ ).
تمهيد :
تختم سورة النحل بذكر قصة إبراهيم رئيس الموحدين، الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرون بوجوب الاقتداء به ؛ ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، ثم يأمر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بإتباعه، ثم يرسم القرآن طريق الدعوة إلى الله، ويتمثل ذلك في الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى، ثم يأمره بالصبر وينهاه عن الحزن، ويبشره بالنصر للذين اتقوا والذين هم محسنون.
التفسير :
١٢٢، ١٢١، ١٢٠ ﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين* شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم* وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾.
تصف الآيات الكريمة إبراهيم عليه السلام، بأنه كان أمة، جمع من الفضائل والمزايا ما يكفي أمة، قال ابن عباس رضي الله عنه : إنه كان عنده عليه الصلاة والسلام من الخير ما كان عند أمة. اه.
فهو رئيس الموحدين ؛ كسر الأصنام، وجادل الكفار، ونظر في النجوم، ودرس الطبيعة الكونية ؛ ليطمئن قلبه للإسلام.
وجاء في ظلال القرآن ما يأتي :
ويحتمل أن معنى أمة : أن إبراهيم كان إماما يهدي إلى الخير، فهو قائد أمة، وله أجره وأجر من عمل بهدايته إلى يوم القيامة، فكأنه أمة من الناس في خيره وثوابه، لا فرد واحد.
﴿ قانتا لله ﴾. طائعا خاشعا عابدا.
﴿ حنيفا ﴾. مائلا عن الباطل متبعا للحق.
﴿ ولم يك من المشركين ﴾. فقد هجر عبادة الأصنام، وحاربها وكسرها، وساق أدلة متعددة على التوحيد، وجادل النمرود، وألجمه بالحجة حين قال له :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ﴾( البقرة : ٢٥٨ ).
وقد حكى القرآن عن إبراهيم قوله تعالى :﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾( الأنعام : ٧٩ ).
﴿ شاكرا لأنعمه ﴾. أي : شكر نعم الله تعالى بالقول والعمل، واستخدم النعمة فيما خلقت له، وناقش قومه بالحوار والمنطق والعمل، وتحمل النار في شجاعة، وقال عنه القرآن :﴿ وإبراهيم الذي وفّى ﴾. ( النجم : ٣٧ )، أي : وفى لله ما عاهده عليه، من الطاعة والجهاد وتبليغ الدعوة.
اجتباه : اختاره واصطفاه.
﴿ اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ﴾. قربه الله واختاره، وهداه إلى التوحيد الخالص، والطريق القويم والملة الواضحة.
﴿ وآتيناه في الدنيا حسنة ﴾. جمع الله له ما يحتاج إليه المؤمن ؛ ليحيا حياة طيبة ؛ فأعطاه العقل، واللسان الفصيح، والذرية الصالحة، ومحبة الناس وتوقير السابقين واللاحقين، حيث قال :﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ﴾ ( الشعراء : ٨٤ ).
وأشار القرآن إلى عطاء الله له في الدنيا حين قال :﴿ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ﴾( مريم : ٤٩ ).
﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾.
وإن له في الآخرة منزلة عليا، هي منزلة الصلاح، وهي من أعلا المنازل، وقد استجاب الله دعاء إبراهيم حين قال :﴿ رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ﴾( الشعراء : ٨٣ ).
المفردات :
أمة : الأمة : الجماعة الكثيرة، وسمى إبراهيم : أمة ؛ لأنه جمع من الفضائل ما لو تفرق لكفى أمة.
قال أبو نواس يمدح هارون الرشيد :
وليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
حنيفا : مائلا عن الدين الباطل إلى الدين الحق.
اجتباه : اختاره واصطفاه
وآتيناه في الدنيا حسنة : هي محبة أهل الأديان جميعا له، وقد بشره الله بإسحاق ثم بيعقوب، ومن نسله كان الأنبياء، واتخذه الله خليلا، وهو مذكور في ختام التشهد، ومن دعاء إبراهيم :﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ﴾ ( الشعراء : ٨٤ ).
تمهيد :
تختم سورة النحل بذكر قصة إبراهيم رئيس الموحدين، الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرون بوجوب الاقتداء به ؛ ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، ثم يأمر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بإتباعه، ثم يرسم القرآن طريق الدعوة إلى الله، ويتمثل ذلك في الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى، ثم يأمره بالصبر وينهاه عن الحزن، ويبشره بالنصر للذين اتقوا والذين هم محسنون.
التفسير :
١٢٢، ١٢١، ١٢٠ ﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين* شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم* وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾.
تصف الآيات الكريمة إبراهيم عليه السلام، بأنه كان أمة، جمع من الفضائل والمزايا ما يكفي أمة، قال ابن عباس رضي الله عنه : إنه كان عنده عليه الصلاة والسلام من الخير ما كان عند أمة. اه.
فهو رئيس الموحدين ؛ كسر الأصنام، وجادل الكفار، ونظر في النجوم، ودرس الطبيعة الكونية ؛ ليطمئن قلبه للإسلام.
وجاء في ظلال القرآن ما يأتي :
ويحتمل أن معنى أمة : أن إبراهيم كان إماما يهدي إلى الخير، فهو قائد أمة، وله أجره وأجر من عمل بهدايته إلى يوم القيامة، فكأنه أمة من الناس في خيره وثوابه، لا فرد واحد.
﴿ قانتا لله ﴾. طائعا خاشعا عابدا.
﴿ حنيفا ﴾. مائلا عن الباطل متبعا للحق.
﴿ ولم يك من المشركين ﴾. فقد هجر عبادة الأصنام، وحاربها وكسرها، وساق أدلة متعددة على التوحيد، وجادل النمرود، وألجمه بالحجة حين قال له :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ﴾( البقرة : ٢٥٨ ).
وقد حكى القرآن عن إبراهيم قوله تعالى :﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾( الأنعام : ٧٩ ).
﴿ شاكرا لأنعمه ﴾. أي : شكر نعم الله تعالى بالقول والعمل، واستخدم النعمة فيما خلقت له، وناقش قومه بالحوار والمنطق والعمل، وتحمل النار في شجاعة، وقال عنه القرآن :﴿ وإبراهيم الذي وفّى ﴾. ( النجم : ٣٧ )، أي : وفى لله ما عاهده عليه، من الطاعة والجهاد وتبليغ الدعوة.
اجتباه : اختاره واصطفاه.
﴿ اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ﴾. قربه الله واختاره، وهداه إلى التوحيد الخالص، والطريق القويم والملة الواضحة.
﴿ وآتيناه في الدنيا حسنة ﴾. جمع الله له ما يحتاج إليه المؤمن ؛ ليحيا حياة طيبة ؛ فأعطاه العقل، واللسان الفصيح، والذرية الصالحة، ومحبة الناس وتوقير السابقين واللاحقين، حيث قال :﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ﴾ ( الشعراء : ٨٤ ).
وأشار القرآن إلى عطاء الله له في الدنيا حين قال :﴿ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ﴾( مريم : ٤٩ ).
﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾.
وإن له في الآخرة منزلة عليا، هي منزلة الصلاح، وهي من أعلا المنازل، وقد استجاب الله دعاء إبراهيم حين قال :﴿ رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ﴾( الشعراء : ٨٣ ).
المفردات :
أمة : الأمة : الجماعة الكثيرة، وسمى إبراهيم : أمة ؛ لأنه جمع من الفضائل ما لو تفرق لكفى أمة.
قال أبو نواس يمدح هارون الرشيد :
وليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
حنيفا : مائلا عن الدين الباطل إلى الدين الحق.
اجتباه : اختاره واصطفاه
وآتيناه في الدنيا حسنة : هي محبة أهل الأديان جميعا له، وقد بشره الله بإسحاق ثم بيعقوب، ومن نسله كان الأنبياء، واتخذه الله خليلا، وهو مذكور في ختام التشهد، ومن دعاء إبراهيم :﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ﴾ ( الشعراء : ٨٤ ).
تمهيد :
تختم سورة النحل بذكر قصة إبراهيم رئيس الموحدين، الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرون بوجوب الاقتداء به ؛ ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، ثم يأمر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بإتباعه، ثم يرسم القرآن طريق الدعوة إلى الله، ويتمثل ذلك في الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى، ثم يأمره بالصبر وينهاه عن الحزن، ويبشره بالنصر للذين اتقوا والذين هم محسنون.
التفسير :
١٢٢، ١٢١، ١٢٠ ﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين* شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم* وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾.
تصف الآيات الكريمة إبراهيم عليه السلام، بأنه كان أمة، جمع من الفضائل والمزايا ما يكفي أمة، قال ابن عباس رضي الله عنه : إنه كان عنده عليه الصلاة والسلام من الخير ما كان عند أمة. اه.
فهو رئيس الموحدين ؛ كسر الأصنام، وجادل الكفار، ونظر في النجوم، ودرس الطبيعة الكونية ؛ ليطمئن قلبه للإسلام.
وجاء في ظلال القرآن ما يأتي :
ويحتمل أن معنى أمة : أن إبراهيم كان إماما يهدي إلى الخير، فهو قائد أمة، وله أجره وأجر من عمل بهدايته إلى يوم القيامة، فكأنه أمة من الناس في خيره وثوابه، لا فرد واحد.
﴿ قانتا لله ﴾. طائعا خاشعا عابدا.
﴿ حنيفا ﴾. مائلا عن الباطل متبعا للحق.
﴿ ولم يك من المشركين ﴾. فقد هجر عبادة الأصنام، وحاربها وكسرها، وساق أدلة متعددة على التوحيد، وجادل النمرود، وألجمه بالحجة حين قال له :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ﴾( البقرة : ٢٥٨ ).
وقد حكى القرآن عن إبراهيم قوله تعالى :﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾( الأنعام : ٧٩ ).
﴿ شاكرا لأنعمه ﴾. أي : شكر نعم الله تعالى بالقول والعمل، واستخدم النعمة فيما خلقت له، وناقش قومه بالحوار والمنطق والعمل، وتحمل النار في شجاعة، وقال عنه القرآن :﴿ وإبراهيم الذي وفّى ﴾. ( النجم : ٣٧ )، أي : وفى لله ما عاهده عليه، من الطاعة والجهاد وتبليغ الدعوة.
اجتباه : اختاره واصطفاه.
﴿ اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ﴾. قربه الله واختاره، وهداه إلى التوحيد الخالص، والطريق القويم والملة الواضحة.
﴿ وآتيناه في الدنيا حسنة ﴾. جمع الله له ما يحتاج إليه المؤمن ؛ ليحيا حياة طيبة ؛ فأعطاه العقل، واللسان الفصيح، والذرية الصالحة، ومحبة الناس وتوقير السابقين واللاحقين، حيث قال :﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ﴾ ( الشعراء : ٨٤ ).
وأشار القرآن إلى عطاء الله له في الدنيا حين قال :﴿ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ﴾( مريم : ٤٩ ).
﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾.
وإن له في الآخرة منزلة عليا، هي منزلة الصلاح، وهي من أعلا المنازل، وقد استجاب الله دعاء إبراهيم حين قال :﴿ رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ﴾( الشعراء : ٨٣ ).
تختم سورة النحل بذكر قصة إبراهيم رئيس الموحدين، الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرون بوجوب الاقتداء به ؛ ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، ثم يأمر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بإتباعه، ثم يرسم القرآن طريق الدعوة إلى الله، ويتمثل ذلك في الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى، ثم يأمره بالصبر وينهاه عن الحزن، ويبشره بالنصر للذين اتقوا والذين هم محسنون.
﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾.
وكان من أشرف ما أوتي إبراهيم من الفضائل، أن أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتبع إبراهيم في إخلاصه في التوحيد، وفي أصول الدين الثابتة في كل الشرائع.
قال المفسرون : وفيه دليل على جواز إتباع الفاضل للمفضول، ولا ينقص ذلك من قدر الفاضل، فالخصوصية لا تقتضي الأفضلية، لقد كان إبراهيم أبا الملة، وأبا الأنبياء، ﴿ ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل... ﴾ ( الحج : ٧٨ ).
وفي هذا دليل على أن الإسلام رسالة الأنبياء جميعا، يتحملها السابق ثم اللاحق، فالإسلام رسالة إبراهيم، ورسالة من جاء بعده من الرسل، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أمر بإتباعه حال كونه :﴿ حنيفا ﴾. مائلا عن الباطل، متبعا للحق، بريئا من الشرك والمشركين، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم ؛ مؤكدا أن شجرة الإسلام باسقة دعا إليها جميع الأنبياء.
قال تعالى :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ﴾( البقرة : ١٣٦ ).
وقد روى البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يقولون : ما أكمل هذه الدار، وما أجملها لو وضعت هذه اللبنة، فأنا هذه اللبنة، وأنا خاتم الرسل )٧٣.
تختم سورة النحل بذكر قصة إبراهيم رئيس الموحدين، الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرون بوجوب الاقتداء به ؛ ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، ثم يأمر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بإتباعه، ثم يرسم القرآن طريق الدعوة إلى الله، ويتمثل ذلك في الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى، ثم يأمره بالصبر وينهاه عن الحزن، ويبشره بالنصر للذين اتقوا والذين هم محسنون.
المفردات :
إنما جعل السبت : أي : فرض تعظيمه، والتخلي فيه للعبادة، وترك الصيد.
التفسير :
﴿ إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾.
أي : إنما جعل وبال يوم السبت، على الذين اختلفوا فيه من اليهود، حيث أمرهم نبيهم موسى فيه بالانقطاع للعبادة، وعدم صيد السمك، فاختلفوا، فمنهم من أطاع، ومنهم من احتال على صيد السمك يوم السبت، حيث وضع الشبك يوم السبت، واصطاد يوم الأحد، فلم يطيعوا أمر نبيهم، فمسخهم الله قردة مبعدين من رحمته.
قال تعالى :﴿ إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ﴾( الأعراف : ١٦٣ ).
وقد عير القرآن اليهود، بعدوانهم في السبت، وبأكلهم السمك بالحيلة، وبأنهم إخوان القردة.
﴿ وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾.
إن الله ليفصل بين الفريقين في الخصومة والاختلاف، ويجازي كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب.
تختم سورة النحل بذكر قصة إبراهيم رئيس الموحدين، الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرون بوجوب الاقتداء به ؛ ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، ثم يأمر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بإتباعه، ثم يرسم القرآن طريق الدعوة إلى الله، ويتمثل ذلك في الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى، ثم يأمره بالصبر وينهاه عن الحزن، ويبشره بالنصر للذين اتقوا والذين هم محسنون.
المفردات :
بالحكمة : المقالة المحكمة المصحوبة بالدليل الموضح للحق، المزيل للشبهة، أو حسن التأني للأمور، واختيار اللفظ المناسب، والبيان المناسب.
الموعظة الحسنة : الأدلة الظنية المقنعة للعامة، وكل ما يناسب الناس، ويحببهم في الدين والهدى والطاعة.
جادلهم : الجدال : الحوار والمناظرة ؛ لإقناع المعاند، وينبغي أن يكون بالأسلوب الأمثل الهادئ الرزين.
التفسير :
﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن... ﴾.
تأتي هذه الآية وما بعدها في أعقاب سورة النحل المكية، تتحدث عن أسلوب الدعوة إلى الله تعالى وتتحدث عن أسلوب في الحياة، يهتم بالصبر والاحتمال والإيمان بالله، والثقة بما عنده.
إن الدعاة مطالبون بدراسة علمية عالية، لفنون القول والخطاب، والإحاطة بالمعلومات وطرق الجدال، وبيان الحجة، أحيانا نكتفي بالبيان المناسب، والمعلومات المفيدة، وأحيانا نحرك القلوب بالموعظة الحسنة، والتذكير بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأحيانا نناقش الناس بالحجة، ونجادلهم بالمعروف وبالكلمة الطيبة ؛ لنبين الخطأ والصواب، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾.
﴿ الحكمة ﴾. تشمل القول المحكم الصحيح، الموضح للحق، المزيل للباطل، الواقع من النفس أجمل موقع.
﴿ والموعظة الحسنة ﴾. بيان العبر والمواعظ التي جعلها الله في القرآن الكريم، مثل : وصف السماء، والأرض، والجبال، والبحار، والأنهار، والفضاء، والهواء، والليل، والنهار، والحياة، والموت، وغير ذلك مما يبين فضل الله على عباده ودعوتهم إلى طاعته وإتباع أمره واجتناب نهيه.
﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾.
أي : ناقش المخالفين بالهدوء والبيان، بلا تحامل على المخالف، ولا ترذيل له، حتى يطمئن إلى الدعوة، وينظر إلى الموضوع نظرة واقعية عميقة، فالجدل بالتي هي أحسن، هو الذي يفتح نفس المخاطب، ويطمئنه إلى الهدى والرشاد.
﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾.
إن الدعاة هداة لا قضاة، وكذلك الأنبياء والرسل، عليهم تبليغ الدعوة والنصح والنقاش الهادئ، أما الهداية والدخول في الإسلام الحق، فتلك مهمة الله الخالق البارئ الهادي.
قال تعالى :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء... ﴾( البقرة : ٢٧٢ ).
وقال سبحانه :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ ( القصص : ٥٦ ).
وقال سبحانه :﴿ فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمصيطر ﴾ ( الغاشية : ٢٢، ٢١ ).
والمعنى : اسلك أيها الرسول سبل الدعوة وأساليبها المفيدة النافعة، أما الهداية العملية، وانتقال الناس من الضلالة إلى الهدى، فذلك أمر بيد الله تعالى ؛ فهو أعلم بالضالين المعاندين، وهو أعلم بالمهتدين الطائعين، وسيجازي كل فريق بما يستحق.
تختم سورة النحل بذكر قصة إبراهيم رئيس الموحدين، الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرون بوجوب الاقتداء به ؛ ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، ثم يأمر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بإتباعه، ثم يرسم القرآن طريق الدعوة إلى الله، ويتمثل ذلك في الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى، ثم يأمره بالصبر وينهاه عن الحزن، ويبشره بالنصر للذين اتقوا والذين هم محسنون.
المفردات :
العقاب : في أصل اللغة : المجازاة على أذى سابق، ثم استعمل في مطلق العقاب.
التفسير :
﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ﴾.
تحدث المفسرون كما تحدثت كتب علوم القرآن، عن أسباب نزول هذه الآية وما بعدها إلى آخر سورة النحل، فذكر جمع من المفسرين : أن هذه الآيات نزلت في أعقاب غزوة أحد.
روى الحافظ البزار عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه، وقد مثل المشركون به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد كنت وصولا للرحم، فعولا للخيرات، والله لولا حزن من بعدك عليك ؛ لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك ) فنزلت هذه الآية، فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه٧٤.
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره :
إن هذا الإسناد السابق فيه ضعف ؛ لأن أحد رواته وهو( صالح بن بشر المرّى ) ضعيف عن الأئمة، وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه عن أبي كعب، قال : لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا، ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا اليوم من المشركين لنمثلن بهم، فلما كان يوم الفتح، قال رجل : لا تعرف قريش بعد اليوم، فنادى مناد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أمن الأبيض والأسود، إلا فلانا وفلانا ( ناسا سماهم )، فنزلت الآيات الثلاث الأخيرة من سورة النحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نصبر ولا نعاقب. ٧٥.
وقد ذكر بعض العلماء : أن هذه الآيات الثلاث الأخيرة من سورة النحل، تكرر نزولها، فنزلت يوم أحد ونزلت عند فتح مكة، والحكمة في تكرير نزولها ؛ شدة الحاجة إلى العمل بمعانيها، عند الرغبة في التشفي، ودعوة القرآن إلى الصبر.
وعند التأمل نجد أن الآيات دعوة إلهية إلى الصبر والاحتمال، وهي دستور مفيد للإنسان وللجماعات والأمم، وسواء كان نزولها في غزوة أحد، أو عند فتح مكة، أو عند حياة المسلمين بمكة قبل الهجرة، فإن معانيها عامة، وأوامرها وآدابها مطلوبة للحياة والأفراد.
وفي معنى قوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم... ﴾ الآية. يقول سبحانه وتعالى :﴿ وجزاء سيئةٍ سيئةُ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾. ( الشورى : ٤٠ ).
أي : إن من حق الإنسان أن يعاقب على الإساءة إليه، بالقصاص أو بالعقوبة المناسبة، فإذا عفي وأصلح ؛ فإنه ينال جزاءه عند الله في الحياة الآخرة.
وكذلك معنى الآية يفيد : أنه يحق للإنسان أن يعاقب المعتدي بمثل عقوبته، وله أن يعفو ويصفح، وهذا خير وأفضل، وفي الحديث النبوي الشريف :
( ثلاث أقسم عليهن : ما نقص مال عبد من صدقة، وما تواضع أحد لله إلا رفعه، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا فاعفوا يعزكم الله )٧٦.
وقال الشيخ أحمد المراغي في تفسير المراغي :
والخلاصة : أنكم إن رغبتم في القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه ؛ فإن الزيادة ظلم، والظلم لا يحبه الله ولا يرضى به، وإن تجاوزتم عن العقوبة وصفحتم ؛ فذلك خير وأبقى، والله هو الذي يتولى عقاب الظالم ويناصر المظلوم.
تختم سورة النحل بذكر قصة إبراهيم رئيس الموحدين، الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرون بوجوب الاقتداء به ؛ ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، ثم يأمر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بإتباعه، ثم يرسم القرآن طريق الدعوة إلى الله، ويتمثل ذلك في الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى، ثم يأمره بالصبر وينهاه عن الحزن، ويبشره بالنصر للذين اتقوا والذين هم محسنون.
المفردات :
ضيق : بفتح الضاد وكسرها، الغم وانقباض الصدر.
التفسير :
﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ﴾.
تأتي هذه الآية لتأكيد الوصية بالصبر والاحتمال، فالصبر طريق النجاح، والصبر قد ذكر في القرآن في أكثر من سبعين موضعا، والصبر نصف الإيمان، فالإيمان نصفان، نصف صبر، ونصف شكر، قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾( آل عمران : ٢٠٠ ).
وقال سبحانه :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾( الشورى : ٤٣ ).
والمعنى للآية :
﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ﴾. أي : اصبر أيها الرسول على أذى قومك وفوض أمرك إلى الله، فالصابر في عناية الله وحفظه، ومعونته وتوفيقه، أي : وما ثواب صبرك إلا بتوفيق الله ومعونته، وما جزاؤك عليه إلا من عند الله، قال تعالى :﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾ ( الزمر : ١٠ ).
﴿ ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ﴾.
كان عليه الصلاة والسلام حريصا على هداية قومه، ودعوتهم إلى الدين الإسلامي، وكانوا يزيدون في إعراضهم وعنتهم.
فقال له القرآن :
لا تحزن على استمرارهم في الكفر، ولا تكن ضيّق الصدر بعناد قومك، وحرصهم على الكفر، ومكرهم السيئ، وفرارهم من الإيمان.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى :﴿ فلا يكن في صدرك حرج منه ﴾ ( الأعراف : ٢ ).
وقوله عز شأنه :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ﴾( هود : ١٢ ).
جاء في ظلال القرآن :
﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله... ﴾.
فهو الذي يعين على الصبر، وضبط النفس، والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله، والقصاص له بقدره. اه.
ومجمل الآية : لا تحزن بسبب كفر الكافرين، وإصرارهم على ذلك، وإعراضهم عن دعوتك، ولا يضيق صدرك بمكرهم ؛ فإن الله تعالى ناصرك عليهم ومنجيك من شرورهم.
تختم سورة النحل بذكر قصة إبراهيم رئيس الموحدين، الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرون بوجوب الاقتداء به ؛ ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، ثم يأمر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بإتباعه، ثم يرسم القرآن طريق الدعوة إلى الله، ويتمثل ذلك في الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى، ثم يأمره بالصبر وينهاه عن الحزن، ويبشره بالنصر للذين اتقوا والذين هم محسنون.
﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾.
إن الله بمعونته وعونه ونصره، مع دعاته المخلصين، الذين اتقوا ربهم، وراقبوه وأخلصوا له، وقد أحسنوا القول والعمل، وكانوا في حالة من تقوى الله وحسن مراقبته ؛ فكان الله معهم، بعونه وتوفيقه، ومن وجد الله ؛ وجد كل شيء، ومن فقد الله ؛ فقد كل شيء.
* * *
تم تفسير الجزء الرابع عشر في مدينة بورسعيد، بجمهورية مصر العربية، ظهر يوم السبت ٢٥ من ربيع الأول ١٤١٧ه/ الموافق ١٠ أغسطس ١٩٩٦م، والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يرضى ربنا ويحب، اللهم، اجعله خالصا لوجهك الكريم، اللهم، إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تخريج أحاديث وهوامش
تفسير القرآن الكريم
( الجزء الرابع عشر )
خرج أحاديثه
الأستاذ
كمال سعيد فهمي
١ تفسير الفخر الرازي ١٠/٢٢٣، ٢٢٢، دار الفكر لبنان، وتيسير التفسير للعلامة/محمد بن يوسف أطفيش ص٤٥٥، سلطنة عمان.
٢ اللام في﴿ لتركبوها ﴾للتعليل، و﴿ زينة ﴾مفعول لأجله معطوف على محل﴿ لتركبوها ﴾.
٣ الإبل عز لأهلها والغنم بركة :
رواه ابن ماجة في التجارات( ٢٣٠٥ )، من حديث عروة البارقي يرفعه، قال :" الإبل عز لأهلها، والغنم بركة، والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة ". ويشهد للشطر الأخير منه ما رواه البخاري في الجهاد ح( ٢٦٣٨ )، ( ٢٦٤٠ )، وفي فرض الخمس ح( ٢٨٨٧ )، وفي المناقب ح( ٣٣٧٢ )، ومسلم في الزكاة ح( ١٦٤٨ )، وفي الإمارة ح( ٣٤٧٩ )، ( ٣٤٨٠ )، أبو داود في الجهاد ح( ٢٥٣٢ )، والترمذي في فضائل الجهاد ح( ١٥٦٠ )، والنسائي في الخيل ح( ٣٥٠٥ )، ( ٣٥٠٦ )، وابن ماجة في الجهاد ح( ٢٧٧٨ )، وأحمد ح( ٤٨٥٦ )، ( ٤٩٥٣ )، ( ٥٥٠٨ )، والدارمي في الجهاد ح( ٢٣١٩ )، ( ٢٣٢٠ )، من حديث عروة البارقي، وأنس، وأبي هريرة، وابن عمر، وجرير. بلفظ :" الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ".
٤ مقتبس من( في ظلال القرآن ) للمرحوم سيد قطب في تفسير الآية.
٥ انظر : تفسير الآلوسي، وتفسير المراغي، والتفسير الوسيط للدكتور/ محمد سيد طنطاوي.
٦ في تفسير الفخر الرازي مزيد من التوضيح.
٧ تيسير التفسير، محمد بن يوسف أطفيش، سلطنة عمان.
٨ تفسير الفخر الرازي ٢٠/١٤، دار الفكر العربي بيروت، وتفسير المراغي ١٤/٦٥.
٩ تفسير الفخر الرازي بتصرف ٢٠/١٥.
١٠ تفسير الفخر الرازي ٢٠/١٦، بتصرف وتقديم وتأخير.
١١ يجاء بالجبارين والمتكبرين رجالا في صور الذر يطؤهم الناس :
قال السيوطي في الدر المنثور : وأخرج أحمد في الزهد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يجاء بالجبارين والمتكبرين رجالا في صور الذر يطؤهم الناس من هوانهم على الله، حتى يقضي بين الناس، ثم يذهب بهم إلى نار الأنيار. قيل : يا رسول الله، وما نار الأنيار ؟ قال :: عصاة أهل النار ).
ورواه الترمذي في صفة القيامة( ٢٤٩٢ )، وأحمد في مسنده ( ٦٦٣٩ )، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النارطينة الخبال ). قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
١٢ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر :
رواه مسلم في الإيمان( ٩١ )، والترمذي في البر والصلة( ١٩٩٩ )، من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال :( إن الله جميل يحب الجمال ؛ الكبر : بطر الحق وغمط الناس ) ورواه أبو داود في اللباس ٤٠٩٢ من حديث أبي هريرة.
١٣ قصة إسلام أبي ذر :
رواه البخاري في المناقب( ٣٨٦١، ٣٥٢٢ )، ومسلم في فضائل الصحابة( ٢٤٧٤ ) من حديث أبي جمرة قال : قال لنا ابن عباس : ألا أخبركم بإسلام أبي ذر قال : قلنا : بلى قال : قال أبو ذر : كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي : انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره، فانطلق، فلقيه، ثم رجع فقلت : ما عندك، فقال : والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر، فقلت له : لم تشفني من الخبر فأخذت جرابا وعصا، ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد ؟، قال : فمر بي عليّ، فقال : كأن الرجل غريب قال : قلت : نعم، قال : فانطلق إلى المنزل قال : فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه وليس أحد يخبرني عنه بشيء قال : فمر بي عليّ، فقال : أما نال للرجل يعرف منزله بعد، قال : قلت : لا، قال : انطلق معي، قال : فقال : ما أمرك، وما أقدمك هذه البلدة، قال : قلت له : إن كتمت علىّ أخبرتك، قال : فإني أفعل قال : قلت له : بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه، فقال له : أما إنك قد رشدت هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخل حيث أدخل، فإن رأيت أحدا أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنت فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له : اعرض عليّ الإسلام فعرضه، فأسلمت مكاني، فقال لي :( يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل )، فقلت : والذي بعثك بالحق لأصرخن. بها بين أظهرهم، فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال : يا معشر قريش إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا : فضربت لأموت، فأدركني العباس، فأكب عليّ، ثم أقبل عليهم فقال، ويلكم تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار، فأقلعوا عني، فلما أن أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثل ما صنع بالأمس، وأدركني العباس، فأكب عليّ، وقال مثل مقالته بالأمس، قال : فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله.
١٤ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه :
رواه مسلم في العلم( ٢٦٧٤ )، وابن ماجة في المقدمة ( ٢٠٦ )، والدارمي في المقدمة( ٥١٣ )، وأبو داود في السنة( ٤٦٠٩ )، وأحمد ( ٨٩١٥ )، والترمذي في العلم( ٢٦٧٤ )، من حديث أبي هريرة. ورواه ابن ماجة في المقدمة( ٢٠٥ )، من حديث أنس إلا أنه بلفظ :" أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع ؛ فإن له مثل أوزار من اتبعه، ولا ينقص من أوزارهم شيئا، وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع ؛ فإن له مثل أجور من اتبعه ولا ينقص من أجورهم شيئا ".
١٥ التفسير المنير، د. وهبة الزحيلي ١٤/١١٤، بتصرف، وزيادة، ونقصان.
١٦ يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة :
رواه البخاري في الجهاد ( ٢٨٠٩ )، وفي الرقاق( ٦٥٦٧ )، والترمذي في التفسير( ٣١٧٤ )، من حديث أنس بن مالك : أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سواقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت : يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب، فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء قال : يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى.
١٧ تفسير الفخر الرازي ٢٠/٢٤.
١٨ إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطي بها :
رواه مسلم في صفة القيامة( ٢٨٠٨ )، وأحمد في مسنده( ١١٨٥٥ ) من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطي بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها ).
١٩ الطبري ١٤/١٠١.
٢٠ التفسير الكبير ٢٠/٢٥.
٢١ لن يدخل أحدا عمله الجنة، قالوا : ولا أنت ! :
رواه البخاري في المرضى( ٥٦٧٣ )، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار( ٢٨١٦ )، من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لن يدخل أحدا عمله الجنة ) قالوا : ولا أنت يا رسول الله، قال :( ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت ؛ إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب ).
٢٢ ( البحيرة ) : الناقة، كان أهل الجاهلية يبجرون أذنها، أي : يشقونها ويجعلون لبنها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس، وجعل شق أذنها علامة لذلك، ( والسائبة )، الناقة تسيب بنذر على الرجل، إن سلمه الله من مرض، أو بلغه منزلة، فلا تحبس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد، قال تعالى :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة... ﴾. ( المائدة : ١٠٣ ).
٢٣ تفسير المراغي ١٤/٨٠.
٢٤ تفسير الفخر الرازي ٢٠/٢٩.
٢٥ إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا :
رواه البخاري في الرقاق( ٦٤٨٣ )، ومسلم في الفضائل ( ٢٢٨٤ )، والترمذي في الأمثال ( ٢٨٧٤ ) وأحمد في مسنده ( ٢٧٣٣٣ ) من حديث أبي هريرة : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إنما مثلي ومثل الناس، كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها )، ورواه مسلم في الفضائل( ٢٢٨٥ )، وأحمد في مسنده ( ١٤٤٧١ )، من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( مثلي ومثلكم، كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي ).
٢٦ يشتمني ابن آدم :
رواه البخاري في بدء الخلق ح( ٣١٩٣ )، والنسائي في الجنائز ح٢٠٧٨، واللفظ له، وأحمد ح٨٨٧٠.
٢٧ تفسير ابن كثير.
٢٨ يريد : أنه باع ماله، حيث تركه للكفار، واشترى نفسه، قال المفسرون : وفيه نزل قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد ﴾( البقرة : ٢٠٧ ).
٢٩ تفسير الفخر الرازي ٢٠/٣٥.
٣٠ المرجع السابق.
٣١ تفسير الفخر الرازي ٢٠/٣٦.
٣٢ ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه :
رواه أبو داود في السنة( ٤٦٠٤ )، والترمذي في العلم( ٢٦٦٤ )، وابن ماجة في المقدمة( ١٢ )، والدارمي في المقدمة( ٥٨٦ )، وأحمد في مسنده ( ١٦٧٢٢ ) من حديث المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه ) وقال الترمذي : حسن غريب. ورواه أبو داود في السنة ( ٤٦٠٥ )، والترمذي في العلم ( ٢٦٦٣ )، وابن ماجة في المقدمة ( ١٣ )، وأحمد في مسنده ( ٢٣٣٤٩ )، من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) وقال الترمذي : حسن صحيح. ورواه ابن ماجة في المقدمة ( ٢١ )، وأحمد في مسنده ( ٨٥٨٣ )، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لا أعرفن ما يحدث أحدكم عنى الحديث هو متكئ على أريكته، فيقول : أقرأ قرآنا ما قيل من قول حسن فأنا قلته ).
٣٣ تفسير ابن عطية، مطبعة قطر الدوحة ١٩٨٥م، ٨/٤٢٥.
٣٤ كان خلقه الق