تفسير سورة الصافات

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا
هَذِهِ قِرَاءَة أَكْثَر الْقُرَّاء.
وَقَرَأَ حَمْزَة بِالْإِدْغَامِ فِيهِنَّ.
وَهَذِهِ الْقِرَاءَة الَّتِي نَفَرَ مِنْهَا أَحْمَد بْن حَنْبَل لَمَّا سَمِعَهَا.
النَّحَّاس : وَهِيَ بَعِيدَة فِي الْعَرَبِيَّة مِنْ ثَلَاث جِهَات : إِحْدَاهُنَّ أَنَّ التَّاء لَيْسَتْ مِنْ مَخْرَج الصَّاد، وَلَا مِنْ مَخْرَج الزَّاي، وَلَا مِنْ مَخْرَج الذَّال، وَلَا مِنْ أَخَوَاتهنَّ، وَإِنَّمَا أُخْتَاهَا الطَّاء وَالدَّال، وَأُخْت الزَّاي الصَّاد وَالسِّين، وَأُخْت الذَّال الظَّاء وَالثَّاء.
وَالْجِهَة الثَّانِيَة أَنَّ التَّاء فِي كَلِمَة وَمَا بَعْدهَا فِي كَلِمَة أُخْرَى.
وَالْجِهَة الثَّالِثَة أَنَّك إِذَا أَدْغَمْت جَمَعْت بَيْن سَاكِنَيْنِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَجُوز الْجَمْع بَيْنَ سَاكِنَيْنِ فِي مِثْل هَذَا إِذَا كَانَا فِي كَلِمَة وَاحِدَة ; نَحْو دَابَّة وَشَابَّة.
وَمَجَاز قِرَاءَة حَمْزَة أَنَّ التَّاء قَرِيبَة الْمَخْرَج مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف.
" وَالصَّافَّات " قَسَم ; الْوَاو بَدَل مِنْ الْبَاء.
وَالْمَعْنَى بِرَبِّ الصَّافَّاتِ وَ " الزَّاجِرَات " عَطْف عَلَيْهِ.
" إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ " جَوَاب الْقَسَم.
وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ فَتْح إِنَّ فِي الْقَسَم.
وَالْمُرَاد بِـ " الصَّافَّات " وَمَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْله :" فَالتَّالِيَات ذِكْرًا " الْمَلَائِكَة فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِد وَقَتَادَة.
تُصَفُّ فِي السَّمَاء كَصُفُوفِ الْخَلْق فِي الدُّنْيَا لِلصَّلَاةِ.
وَقِيلَ : تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاء وَاقِفَة فِيهِ حَتَّى يَأْمُرَهَا اللَّه بِمَا يُرِيد.
وَهَذَا كَمَا تَقُوم الْعَبِيد بَيْن أَيْدِي مُلُوكهمْ صُفُوفًا.
وَقَالَ الْحَسَن :" صَفًّا " لِصُفُوفِهِمْ عِنْد رَبّهمْ فِي صَلَاتهمْ.
وَقِيلَ : هِيَ الطَّيْر ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى :" أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْر فَوْقَهُمْ صَافَّات " [ الْمُلْك : ١٩ ].
وَالصَّفّ تَرْتِيب الْجَمْع عَلَى خَطّ كَالصَّفِّ فِي الصَّلَاة.
" وَالصَّافَّات " جَمْع الْجَمْع ; يُقَال : جَمَاعَة صَافَّة ثُمَّ يُجْمَع صَافَّات.
وَقِيلَ : الصَّافَّات جَمَاعَة النَّاس الْمُؤْمِنِينَ إِذَا قَامُوا صَفًّا فِي الصَّلَاة أَوْ فِي الْجِهَاد ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ.
فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا
الْمَلَائِكَة فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَمَسْرُوق وَغَيْرهمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِمَّا لِأَنَّهَا تَزْجُر السَّحَاب وَتَسُوقهُ فِي قَوْل السُّدِّيّ.
وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَزْجُر عَنْ الْمَعَاصِي بِالْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِح.
وَقَالَ قَتَادَة : هِيَ زَوَاجِر الْقُرْآن.
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا
الْمَلَائِكَة تَقْرَأ كِتَاب اللَّه تَعَالَى ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَابْن جُبَيْر وَالسُّدِّيّ.
وَقِيلَ : الْمُرَاد جِبْرِيل وَحْده فَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْع ; لِأَنَّهُ كَبِير الْمَلَائِكَة فَلَا يَخْلُو مِنْ جُنُود وَأَتْبَاع.
وَقَالَ قَتَادَة : الْمُرَاد كُلّ مَنْ تَلَا ذِكْر اللَّه تَعَالَى وَكُتُبَهُ.
وَقِيلَ : هِيَ آيَات الْقُرْآن وَصَفَهَا بِالتِّلَاوَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :" إِنَّ هَذَا الْقُرْآن يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل " [ النَّمْل : ٧٦ ].
وَيَجُوز أَنْ يُقَال لِآيَاتِ الْقُرْآن تَالِيَات ; لِأَنَّ بَعْض الْحُرُوف يَتْبَع بَعْضًا ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ.
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ : أَنَّ الْمُرَاد بِالتَّالِيَاتِ الْأَنْبِيَاء يَتْلُونَ الذِّكْر عَلَى أُمَمِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ : مَا حُكْم الْفَاء إِذَا جَاءَتْ عَاطِفَة فِي الصِّفَات ؟ قِيلَ لَهُ : إِمَّا أَنْ تَدُلّ عَلَى تَرَتُّب مَعَانِيهَا فِي الْوُجُود ; كَقَوْلِهِ :
يَا لَهْفَ زَيَّابَة لِلْحَارِثِ الصَّ ابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ
كَأَنَّهُ قَالَ : الَّذِي صَبَّحَ فَغَنِمَ فَآبَ.
وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبهَا فِي التَّفَاوُت مِنْ بَعْض الْوُجُوه كَقَوْلِك : خُذْ الْأَفْضَل فَالْأَكْمَل، وَاعْمَلْ الْأَحْسَن فَالْأَجْمَل.
وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّب مَوْصُوفَاتهَا فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ :( رَحِم اللَّه الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ ).
فَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِين الثَّلَاثَة يَنْسَاق أَمْر الْفَاء الْعَاطِفَة فِي الصِّفَات ; قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيّ.
إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ
جَوَاب الْقَسَم.
قَالَ مُقَاتِل : وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّار بِمَكَّة قَالُوا أَجَعَلَ الْآلِهَة إِلَهًا وَاحِدًا، وَكَيْف يَسَع هَذَا الْخَلْق فَرْدُ إِلَهٍ ! فَأَقْسَمَ اللَّه بِهَؤُلَاءِ تَشْرِيفًا.
وَنَزَلَتْ الْآيَة.
قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : وَهُوَ وَقْف حَسَن.
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
عَلَى مَعْنَى هُوَ رَبّ السَّمَوَات.
النَّحَّاس : وَيَجُوز أَنْ يَكُون " رَبّ السَّمَوَات وَالْأَرْض " خَبَرًا بَعْد خَبَر، وَيَجُوز أَنْ يَكُون بَدَلًا مِنْ " وَاحِد ".
قُلْت : وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا يُوقَف عَلَى " لَوَاحِدٌ ".
وَحَكَى الْأَخْفَش :" رَبّ السَّمَوَات - وَرَبّ الْمَشَارِق " بِالنَّصْبِ عَلَى النَّعْت لِاسْمِ إِنَّ.
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَعْنَى وَحْدَانِيّته وَأُلُوهِيَّته وَكَمَال قُدْرَته بِأَنَّهُ " رَبّ السَّمَوَات وَالْأَرْض " أَيْ خَالِقهمَا وَمَالِكهمَا
وَرَبُّ الْمَشَارِقِ
أَيْ مَالِك مَطَالِع الشَّمْس.
اِبْن عَبَّاس : لِلشَّمْسِ كُلّ يَوْم مَشْرِق وَمَغْرِب ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ لِلشَّمْسِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَسِتِّينَ كُوَّة فِي مَطْلِعهَا، وَمِثْلهَا فِي مَغْرِبهَا عَلَى عَدَد أَيَّام السَّنَة الشَّمْسِيَّة، تَطْلُع فِي كُلّ يَوْم فِي كُوَّة مِنْهَا، وَتَغِيب فِي كُوَّة، لَا تَطْلُع فِي تِلْكَ الْكُوَّة إِلَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ الْعَام الْمُقْبِل.
وَلَا تَطْلُع إِلَّا وَهِيَ كَارِهَة فَتَقُول : رَبّ لَا تُطْلِعْنِي عَلَى عِبَادِكَ فَإِنِّي أَرَاهُمْ يَعْصُونَك.
ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي كِتَاب التَّمْهِيد، وَابْن الْأَنْبَارِيّ فِي كِتَاب الرَّدّ عَنْ عِكْرِمَة ; قَالَ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاس أَرَأَيْت مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَيَّةَ بْن أَبِي الصَّلْت ( آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ ) قَالَ : هُوَ حَقّ فَمَا أَنْكَرْتُمْ مِنْ ذَلِكَ ؟ قُلْت : أَنْكَرْنَا قَوْله :
وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ
لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ لَهُمْ فِي رِسْلِهَا إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
مَا بَال الشَّمْس تُجْلَدُ ؟ فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا طَلَعَتْ شَمْس قَطُّ حَتَّى يَنْخُسَهَا سَبْعُونَ أَلْف مَلَك، فَيَقُولُونَ لَهَا اُطْلُعِي اُطْلُعِي، فَتَقُول لَا أَطْلُعُ عَلَى قَوْم يَعْبُدُونَنِي مِنْ دُون اللَّه، فَيَأْتِيهَا مَلَك فَيَسْتَقِلّ لِضِيَاءِ بَنِي آدَم، فَيَأْتِيهَا شَيْطَان يُرِيد أَنْ يَصُدَّهَا عَنْ الطُّلُوع فَتُطِلّ بَيْن قَرْنَيْهِ فَيُحْرِقُهُ اللَّه تَعَالَى تَحْتهَا، فَذَلِكَ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا طَلَعَتْ إِلَّا بَيْن قَرْنَيْ شَيْطَان وَلَا غَرَبَتْ إِلَّا بَيْن قَرْنَيْ شَيْطَان وَمَا غَرَبَتْ قَطُّ إِلَّا خَرَّتْ لِلَّهِ سَاجِدَة فَيَأْتِيهَا شَيْطَان يُرِيد أَنْ يَصُدَّهَا عَنْ السُّجُود فَتَغْرُب بَيْن قَرْنَيْهِ فَيُحْرِقُهُ اللَّه تَعَالَى تَحْتهَا ) لَفْظ اِبْن الْأَنْبَارِيّ.
وَذُكِرَ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : صَدَّقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت فِي هَذَا الشِّعْر :
زُحَلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ وَالنَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ
لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ لَهُمْ فِي رِسْلِهَا إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
قَالَ عِكْرِمَة : فَقُلْت لِابْنِ عَبَّاس : يَا مَوْلَايَ أَتُجْلَدُ الشَّمْس ؟ فَقَالَ : إِنَّمَا اِضْطَرَّهُ الرَّوِيّ إِلَى الْجَلْد لَكِنَّهَا تَخَافُ الْعِقَاب.
وَدَلَّ بِذِكْرِ الْمَطَالِع عَلَى الْمَغَارِب ; فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُر الْمَغَارِب، وَهُوَ كَقَوْلِهِ :" سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ " [ النَّحْل : ٨١ ].
وَخَصَّ الْمَشَارِق بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّ الشُّرُوق قَبْل الْغُرُوب.
وَقَالَ فِي سُورَة [ الرَّحْمَن ] " رَبّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبّ الْمَغْرِبَيْنِ " [ الرَّحْمَن : ١٧ ] أَرَادَ بِالْمَشْرِقَيْنِ أَقْصَى مَطْلِع تَطْلُع مِنْهُ الشَّمْس فِي الْأَيَّام الطِّوَال، وَأَقْصَر يَوْم فِي الْأَيَّام الْقِصَار عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [ يس ] وَاَللَّه أَعْلَم.
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ
قَالَ قَتَادَة : خُلِقَتْ النُّجُوم ثَلَاثًا ; رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَنُورًا يُهْتَدَى بِهَا، وَزِينَة لِسَمَاءِ الدُّنْيَا.
وَقَرَأَ مَسْرُوق وَالْأَعْمَش وَالنَّخَعِيّ وَعَاصِم وَحَمْزَة :" بِزِينَةٍ " مَخْفُوض مُنَوَّن " الْكَوَاكِب " خَفْض عَلَى الْبَدَل مِنْ " زِينَة " لِأَنَّهَا هِيَ.
وَقَرَأَ أَبُو بَكْر كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ نَصَبَ " الْكَوَاكِب " بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ زِينَة.
وَالْمَعْنَى بِأَنْ زَيَّنَّا الْكَوَاكِب فِيهَا.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي ; كَأَنَّهُ قَالَ : إِنَّا زَيَّنَّاهَا " بِزِينَةٍ " أَعْنِي " الْكَوَاكِب ".
وَقِيلَ : هِيَ بَدَل مِنْ زِينَة عَلَى الْمَوْضِع.
وَيَجُوز " بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبُ " بِمَعْنَى أَنَّ زِينَتهَا الْكَوَاكِب.
أَوْ بِمَعْنَى هِيَ الْكَوَاكِب.
الْبَاقُونَ " بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ " عَلَى الْإِضَافَة.
وَالْمَعْنَى زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِتَزْيِينِ الْكَوَاكِب ; أَيْ بِحُسْنِ الْكَوَاكِب.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون كَقِرَاءَةِ مَنْ نَوَّنَ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ التَّنْوِين اِسْتِخْفَافًا.
وَحِفْظًا
مَصْدَر أَيْ حَفِظْنَاهَا حِفْظًا.
مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ
لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَة تَنْزِل بِالْوَحْيِ مِنْ السَّمَاء، بَيَّنَ أَنَّهُ حَرَسَ السَّمَاء عَنْ اِسْتِرَاق السَّمْع بَعْد أَنْ زَيَّنَهَا بِالْكَوَاكِبِ.
وَالْمَارِد : الْعَاتِي مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس، وَالْعَرَب تُسَمِّيهِ شَيْطَانًا.
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى
قَالَ أَبُو حَاتِم : أَيْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا ثُمَّ حُذِفَ " أَنْ " فَرُفِعَ الْفِعْل.
الْمَلَأ الْأَعْلَى : أَهْل السَّمَاء الدُّنْيَا فَمَا فَوْقهَا، وَسُمِّيَ الْكُلّ مِنْهُمْ أَعْلَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَلَإِ الْأَرْض.
الضَّمِير فِي " يَسَّمَّعُونَ " لِلشَّيَاطِينِ.
وَقَرَأَ جُمْهُور النَّاس " يَسْمَعُونَ " بِسُكُونِ السِّين وَتَخْفِيف الْمِيم.
وَقَرَأَ حَمْزَة وَعَاصِم فِي رِوَايَة حَفْص " لَا يَسَّمَّعُونَ " بِتَشْدِيدِ السِّين وَالْمِيم مِنْ التَّسْمِيع.
فَيَنْتَفِي عَلَى الْقِرَاءَة الْأُولَى سَمَاعهمْ وَإِنْ كَانُوا يَسْتَمِعُونَ، وَهُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيح، وَيُعَضِّدُهُ قَوْله تَعَالَى :" إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْع لَمَعْزُولُونَ " [ الشُّعَرَاء : ٢١٢ ].
وَيَنْتَفِي عَلَى الْقِرَاءَة الْأَخِيرَة أَنْ يَقَع مِنْهُمْ اِسْتِمَاع أَوْ سَمَاع.
قَالَ مُجَاهِد : كَانُوا يَتَسَمَّعُونَ وَلَكِنْ لَا يَسْمَعُونَ.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ " قَالَ : هُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَتَسَمَّعُونَ.
وَأَصْل " يَسَّمَّعُونَ " يَتَسَمَّعُونَ فَأُدْغِمَتْ التَّاء فِي السِّين لِقُرْبِهَا مِنْهَا.
وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْد ; لِأَنَّ الْعَرَب لَا تَكَاد تَقُول : سَمِعْت إِلَيْهِ وَتَقُول تَسَمَّعْت إِلَيْهِ.
وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ
أَيْ يُرْمَوْنَ مِنْ كُلّ جَانِب ; أَيْ بِالشُّهُبِ.
دُحُورًا
مَصْدَر لِأَنَّ مَعْنَى " يُقْذَفُونَ " يُدْحَرُونَ.
دَحَرْته دَحْرًا وَدُحُورًا أَيْ طَرَدْته.
وَقَرَأَ السُّلَمِيّ وَيَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ " دَحُورًا " بِفَتْحِ الدَّال يَكُون مَصْدَرًا عَلَى فَعُول.
وَأَمَّا الْفَرَّاء فَإِنَّهُ قَدَّرَهُ عَلَى أَنَّهُ اِسْم الْفَاعِل.
أَيْ وَيُقْذَفُونَ بِمَا يَدْحَرُهُمْ أَيْ بِدُحُور ثُمَّ حَذَفَ الْبَاء ; وَالْكُوفِيُّونَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا كَثِيرًا كَمَا أَنْشَدُوا :
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا
وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ هَذَا الْقَذْف قَبْل الْمَبْعَث، أَوْ بَعْده لِأَجْلِ الْمَبْعَث ; عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَجَاءَتْ الْأَحَادِيث بِذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ ذِكْرهَا فِي سُورَة [ الْجِنّ ] عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَقَدْ يُمْكِن الْجَمْع بَيْنهمَا أَنْ يُقَال : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا لَمْ تَكُنْ الشَّيَاطِين تُرْمَى بِالنُّجُومِ قَبْل مَبْعَث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رُمِيَتْ ; أَيْ لَمْ تَكُنْ تُرْمَى رَمْيًا يَقْطَعُهَا عَنْ السَّمْع، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُرْمَى وَقْتًا وَلَا تُرْمَى وَقْتًا، وَتُرْمَى مِنْ جَانِب وَلَا تُرْمَى مِنْ جَانِب.
وَلَعَلَّ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلّ جَانِب.
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَاب وَاصِب " إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُقْذَفُونَ إِلَّا مِنْ بَعْض الْجَوَانِب فَصَارُوا يُرْمَوْنَ وَاصِبًا.
وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ قَبْل كَالْمُتَجَسِّسَةِ مِنْ الْإِنْس، يَبْلُغ الْوَاحِد مِنْهُمْ حَاجَته وَلَا يَبْلُغهَا غَيْره، وَيَسْلَم وَاحِد وَلَا يَسْلَم غَيْره، بَلْ يُقْبَض عَلَيْهِ وَيُعَاقَب وَيُنَكَّل.
فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيدَ فِي حِفْظ السَّمَاء، وَأُعِدَّتْ لَهُمْ شُهُب لَمْ تَكُنْ مِنْ قَبْل ; لِيُدْحَرُوا عَنْ جَمِيع جَوَانِب السَّمَاء، وَلَا يُقِرُّوا فِي مَقْعَد مِنْ الْمَقَاعِد الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ مِنْهَا ; فَصَارُوا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى سَمَاع شَيْء مِمَّا يَجْرِي فِيهَا، إِلَّا أَنْ يَخْتَطِف أَحَد مِنْهُمْ بِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ خَطْفَة، فَيَتْبَعُهُ شِهَاب ثَاقِب قَبْل أَنْ يَنْزِل إِلَى الْأَرْض فَيُلْقِيهَا إِلَى إِخْوَانه فَيُحْرِقهُ ; فَبَطَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْكِهَانَة وَحَصَلَتْ الرِّسَالَة وَالنُّبُوَّة.
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ هَذَا الْقَذْف إِنْ كَانَ لِأَجْلِ النُّبُوَّة فَلِمَ دَامَ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَالْجَوَاب : أَنَّهُ دَامَ بِدَوَامِ النُّبُوَّة، فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِبُطْلَانِ الْكِهَانَة فَقَالَ :( لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَكَهَّنَ ) فَلَوْ لَمْ تُحْرَسْ بَعْد مَوْته لَعَادَتْ الْجِنّ إِلَى تَسَمُّعهَا ; وَعَادَتْ الْكِهَانَة.
وَلَا يَجُوز ذَلِكَ بَعْد أَنْ بَطَلَ، وَلِأَنَّ قَطْع الْحِرَاسَة عَنْ السَّمَاء إِذَا وَقَعَ لِأَجْلِ النُّبُوَّة فَعَادَتْ الْكِهَانَة دَخَلَتْ الشُّبْهَة عَلَى ضُعَفَاء الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُؤْمَن أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ الْكِهَانَة إِنَّمَا عَادَتْ لِتَنَاهِي النُّبُوَّة، فَصَحَّ أَنَّ الْحِكْمَة تَقْضِي دَوَام الْحِرَاسَة فِي حَيَاة النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام، وَبَعْد أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّه إِلَى كَرَامَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ.
وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ
أَيْ دَائِم، عَنْ مُجَاهِد وَقَتَادَة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : شَدِيد.
الْكَلْبِيّ وَالسُّدِّيّ وَأَبُو صَالِح : مُوجِع ; أَيْ الَّذِي يَصِل وَجَعه إِلَى الْقَلْب ; مَأْخُوذ مِنْ الْوَصَب وَهُوَ الْمَرَض
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ
اِسْتِثْنَاء مِنْ قَوْله :" وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلّ جَانِب " وَقِيلَ : الِاسْتِثْنَاء يَرْجِع إِلَى غَيْر الْوَحْي ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْع لَمَعْزُولُونَ " [ الشُّعَرَاء : ٢١٢ ] فَيَسْتَرِقُ الْوَاحِد مِنْهُمْ شَيْئًا مِمَّا يَتَفَاوَض فِيهِ الْمَلَائِكَة، مِمَّا سَيَكُونُ فِي الْعَالَم قَبْل أَنْ يَعْلَمَهُ أَهْل الْأَرْض ; وَهَذَا لِخِفَّةِ أَجْسَام الشَّيَاطِين فَيُرْجَمُونَ بِالشُّهُبِ حِينَئِذٍ.
وَرُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِث صِحَاح، مُضَمَّنُهَا : أَنَّ الشَّيَاطِين كَانَتْ تَصْعَد إِلَى السَّمَاء، فَتَقْعُد لِلسَّمْعِ وَاحِدًا فَوْق وَاحِد، فَيَتَقَدَّم الْأَجْسَر نَحْو السَّمَاء ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَيَقْضِي اللَّه تَعَالَى الْأَمْر مِنْ أَمْر الْأَرْض، فَيَتَحَدَّث بِهِ أَهْل السَّمَاء فَيَسْمَعهُ مِنْهُمْ الشَّيْطَان الْأَدْنَى، فَيُلْقِيهِ إِلَى الَّذِي تَحْته فَرُبَّمَا أَحْرَقَهُ شِهَاب، وَقَدْ أَلْقَى الْكَلَام، وَرُبَّمَا لَمْ يُحْرِقْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
فَتَنْزِل تِلْكَ الْكَلِمَة إِلَى الْكُهَّان، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَة كَذْبَة، وَتُصَدَّق تِلْكَ الْكَلِمَة فَيُصَدِّق الْجَاهِلُونَ الْجَمِيع كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي [ الْأَنْعَام ].
فَلَمَّا جَاءَ اللَّه بِالْإِسْلَامِ حُرِسَتْ السَّمَاء بِشِدَّةٍ، فَلَا يُفْلِت شَيْطَان سَمِعَ بَتَّةً.
وَالْكَوَاكِب الرَّاجِمَة هِيَ الَّتِي يَرَاهَا النَّاس تَنْقَضّ.
قَالَ النَّقَّاش وَمَكِّيّ : وَلَيْسَتْ بِالْكَوَاكِبِ الْجَارِيَة فِي السَّمَاء ; لِأَنَّ تِلْكَ لَا تُرَى حَرَكَتُهَا، وَهَذِهِ الرَّاجِمَة تُرَى حَرَكَتهَا ; لِأَنَّهَا قَرِيبَة مِنَّا.
وَقَدْ مَضَى فِي هَذَا الْبَاب فِي سُورَة [ الْحِجْر ] مِنْ الْبَيَان مَا فِيهِ كِفَايَة.
وَذَكَرْنَا فِي [ سَبَأ ] حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة.
وَفِيهِ ( وَالشَّيَاطِين بَعْضهمْ فَوْق بَعْض ) وَقَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَفِيهِ عَنْ اِبْن عَبَّاس :( وَيَخْتَطِف الشَّيَاطِين السَّمْع فَيُرْمَوْنَ فَيَقْذِفُونَهُ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهه فَهُوَ حَقّ وَلَكِنَّهُمْ يُحْرِقُونَهُ وَيَزِيدُونَ ).
قَالَ هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَالْخَطْف : أَخْذ الشَّيْء بِسُرْعَةٍ ; يُقَال : خَطَفَ وَخَطِفَ وَخَطَّفَ وَخِطَّفَ وَخِطِّفَ.
وَالْأَصْل فِي الْمُشَدَّدَات اِخْتَطَفَ فَأُدْغِمَ التَّاء فِي الطَّاء لِأَنَّهَا أُخْتهَا، وَفُتِحَتْ الْخَاء ; لِأَنَّ حَرَكَة التَّاء أُلْقِيَتْ عَلَيْهَا.
وَمَنْ كَسَرَهَا فَلِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَمَنْ كَسَرَ الطَّاء أَتْبَعَ الْكَسْرَ الْكَسْرَ.
فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
أَيْ مُضِيءٌ ; قَالَهُ الضَّحَّاك وَالْحَسَن وَغَيْرهمَا.
وَقِيلَ : الْمُرَاد كَوَاكِب النَّار تَتْبَعهُمْ حَتَّى تُسْقِطهُمْ فِي الْبَحْر.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي الشُّهُب : تُحْرِقُهُمْ مِنْ غَيْر مَوْت.
وَلَيْسَتْ الشُّهُب الَّتِي يُرْجَم النَّاس بِهَا مِنْ الْكَوَاكِب الثَّوَابِت.
يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ رُؤْيَة حَرَكَاتهَا، وَالثَّابِتَة تَجْرِي وَلَا تُرَى حَرَكَاتهَا لِبُعْدِهَا.
وَقَدْ مَضَى هَذَا.
وَجَمْع شِهَاب شُهُب، وَالْقِيَاس فِي الْقَلِيل أَشْهِبَة وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ الْعَرَب وَ " ثَاقِب " مَعْنَاهُ مُضِيء ; قَالَهُ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَأَبُو مِجْلَزٍ.
وَمِنْهُ قَوْله :
وَزَنْدُك أَثْقَبُ أَزْنَادِهَا
أَيْ أَضْوَأُ.
وَحَكَى الْأَخْفَش فِي الْجَمْع : شُهُبٌ ثُقُب وَثَوَاقِب وَثِقَاب.
وَحَكَى الْكِسَائِيّ : ثَقَبَتْ النَّار تَثْقُب ثَقَابَةً وَثُقُوبًا إِذَا اِتَّقَدَتْ، وَأَثْقَبْتُهَا أَنَا.
وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ فِي الثَّاقِب : إِنَّهُ الْمُسْتَوْقِد ; مِنْ قَوْلهمْ : أَثْقِبْ زَنْدَك أَيْ اِسْتَوْقِدْ نَارك ; قَالَهُ الْأَخْفَش.
وَأَنْشَدَ قَوْل الشَّاعِر :
فَاسْتَفْتِهِمْ
أَيْ سَلْهُمْ يَعْنِي أَهْل مَكَّة ; مَأْخُوذ مِنْ اِسْتِفْتَاء الْمُفْتِي.
أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا
قَالَ مُجَاهِد : أَيْ مَنْ خَلَقْنَا مِنْ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال وَالْبِحَار.
وَقِيلَ : يَدْخُل فِيهِ الْمَلَائِكَة وَمَنْ سَلَفَ مِنْ الْأُمَم الْمَاضِيَة.
يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ " بِمَنْ " قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْمَلَائِكَة.
وَقَالَ غَيْره :" مَنْ " الْأُمَم الْمَاضِيَة وَقَدْ هَلَكُوا وَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا مِنْهُمْ.
نَزَلَتْ فِي أَبِي الْأَشَدّ بْن كِلْدَةَ، وَسُمِّيَ بِأَبِي الْأَشَدّ لِشِدَّةِ بَطْشِهِ وَقُوَّتِهِ.
وَسَيَأْتِي فِي [ الْبَلَد ] ذِكْرهُ.
وَنَظِير هَذِهِ :" لَخَلْقُ السَّمَوَات وَالْأَرْض أَكْبَر مِنْ خَلْق النَّاس " غَافِر : ٥٧ ] وَقَوْله :" أَأَنْتُمْ أَشَدّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاء " [ النَّازِعَات : ٢٧ ].
إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ
أَيْ لَاصِق ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَمِنْهُ قَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ :
بَيْنَمَا الْمَرْءُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ضَرَبَ الدَّهْرُ سَنَاهُ فَخَمَدْ
تَعَلَّمْ فَإِنَّ اللَّهَ زَادَك بَسْطَةً وَأَخْلَاقَ خَيْرٍ كُلُّهَا لَك لَازِبُ
وَقَالَ قَتَادَة وَابْن زَيْد : مَعْنَى " لَازِب " لَازِق.
الْمَاوَرْدِيّ : وَالْفَرْق بَيْن اللَّاصِق وَاللَّازِق أَنَّ اللَّاصِق : هُوَ الَّذِي قَدْ لَصِقَ بَعْضه بِبَعْضٍ، وَاللَّازِق : هُوَ الَّذِي يَلْتَزِق بِمَا أَصَابَهُ.
وَقَالَ عِكْرِمَة :" لَازِب " لَزِج.
سَعِيد بْن جُبَيْر : أَيْ جَيِّد حُرّ يَلْصَق بِالْيَدِ.
مُجَاهِد :" لَازِب " لَازِم.
وَالْعَرَب تَقُول : طِين لَازِب وَلَازِم، تُبْدِل الْبَاء مِنْ الْمِيم.
وَمِثْله قَوْلهمْ : لَاتِب وَلَازِم.
عَلَى إِبْدَال الْبَاء بِالْمِيمِ.
وَاللَّازِب الثَّابِت ; تَقُول : صَارَ الشَّيْء ضَرْبَة لَازِب، وَهُوَ أَفْصَح مِنْ لَازِم.
قَالَ النَّابِغَة :
وَلَا يَحْسَبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ
وَحَكَى الْفَرَّاء عَنْ الْعَرَب : طِين لَاتِب بِمَعْنَى لَازِم.
وَاللَّاتِب الثَّابِت ; تَقُول مِنْهُ : لَتَبَ يَلْتُب لَتْبًا وَلُتُوبًا، مِثْل لَزُبَ يَلْزُب بِالضَّمِّ لُزُوبًا ; وَأَنْشَدَ أَبُو الْجَرَّاح فِي اللَّاتِب :
فَإِنْ يَكُ هَذَا مِنْ نَبِيذٍ شَرِبْته فَإِنِّيَ مِنْ شُرْبِ النَّبِيذِ لَتَائِبُ
صُدَاعٌ وَتَوْصِيمُ الْعِظَامِ وَفَتْرَةٌ وَغَمٌّ مَعَ الْإِشْرَاقِ فِي الْجَوْفِ لَاتِبُ
وَاللَّاتِب أَيْضًا : اللَّاصِق مِثْل اللَّازِب، عَنْ الْأَصْمَعِيّ حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ.
وَقَالَ السُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ فِي اللَّازِب : إِنَّهُ الْخَالِص.
مُجَاهِد وَالضَّحَّاك : إِنَّهُ الْمُنْتِن.
بَلْ عَجِبْتَ
قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَأَبِي عَمْرو وَعَاصِم بِفَتْحِ التَّاء خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ بَلْ عَجِبْت مِمَّا نَزَلَ عَلَيْك مِنْ الْقُرْآن وَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ.
وَهِيَ قِرَاءَة شُرَيْح وَأَنْكَرَ قِرَاءَة الضَّمّ وَقَالَ : إِنَّ اللَّه لَا يَعْجَب مِنْ شَيْء، وَإِنَّمَا يَعْجَب مَنْ لَا يَعْلَم.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى بَلْ عَجِبْت مِنْ إِنْكَارهمْ لِلْبَعْثِ.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا بِضَمِّ التَّاء.
وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْد وَالْفَرَّاء، وَهِيَ مَرْوِيَّة عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود ; رَوَاهُ شُعْبَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّهُ قَرَأَ :" بَلْ عَجِبْت " بِضَمِّ التَّاء.
وَيُرْوَى عَنْ اِبْن عَبَّاس.
قَالَ الْفَرَّاء فِي قَوْله سُبْحَانَهُ :" بَلْ عَجِبْت وَيَسْخَرُونَ " قَرَأَهَا النَّاس بِنَصْبِ التَّاء وَرَفْعهَا، وَالرَّفْع أَحَبُّ إِلَيَّ ; لِأَنَّهَا عَنْ عَلِيّ وَ عَبْد اللَّه وَابْن عَبَّاس.
وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا الْفَرَّاء : الْعَجَب إِنْ أُسْنِدَ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ مِنْ اللَّه كَمَعْنَاهُ مِنْ الْعِبَاد ; وَكَذَلِكَ قَوْله :" اللَّه يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ " [ الْبَقَرَة : ١٥ ] لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ اللَّه كَمَعْنَاهُ مِنْ الْعِبَاد.
وَفِي هَذَا بَيَان الْكَسْر لِقَوْلِ شُرَيْح حَيْثُ أَنْكَرَ الْقِرَاءَة بِهَا.
رَوَى جَرِير وَالْأَعْمَش عَنْ أَبِي وَائِل شَقِيق بْن سَلَمَة قَالَ : قَرَأَهَا عَبْد اللَّه يَعْنِي اِبْن مَسْعُود " بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ " قَالَ شُرَيْح : إِنَّ اللَّه لَا يَعْجَب مِنْ شَيْء إِنَّمَا يَعْجَب مَنْ لَا يَعْلَم.
قَالَ الْأَعْمَش فَذَكَرْته لِإِبْرَاهِيم فَقَالَ : إِنَّ شُرَيْحًا كَانَ يُعْجِبُهُ رَأْيُهُ، إِنَّ عَبْد اللَّه كَانَ أَعْلَمَ مِنْ شُرَيْح وَكَانَ يَقْرَؤُهَا عَبْد اللَّه " بَلْ عَجِبْتُ ".
قَالَ الْهَرَوِيّ : وَقَالَ بَعْض الْأَئِمَّة : مَعْنَى قَوْله :" بَلْ عَجِبْتُ " بَلْ جَازَيْتهمْ عَلَى عَجَبهمْ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي غَيْر مَوْضِع بِالتَّعَجُّبِ مِنْ الْحَقّ ; فَقَالَ :" وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِر مِنْهُمْ " [ ص : ٤ ] وَقَالَ :" إِنَّ هَذَا لَشَيْء عُجَاب "، " أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُل مِنْهُمْ " [ يُونُس : ٢ ] فَقَالَ تَعَالَى :" بَلْ عَجِبْتُ " بَلْ جَازَيْتهمْ عَلَى التَّعَجُّب.
قُلْت : وَهَذَا تَمَام مَعْنَى قَوْل الْفَرَّاء وَاخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيّ.
وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِد، التَّقْدِير : قِيلَ يَا مُحَمَّد بَلْ عَجِبْتَ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطَب بِالْقُرْآنِ.
النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل حَسَن وَإِضْمَار الْقَوْل كَثِير.
الْبَيْهَقِيّ : وَالْأَوَّل أَصَحّ.
الْمَهْدَوِيّ : وَيَجُوز أَنْ يَكُون إِخْبَار اللَّه عَنْ نَفْسه بِالْعَجَبِ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ أَظْهَرَ مِنْ أَمْره وَسُخْطِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ مَا يَقُوم مَقَام الْعَجَب مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ; كَمَا يُحْمَل إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسه بِالضَّحِكِ لِمَنْ يَرْضَى عَنْهُ - عَلَى مَا جَاءَ فِي الْخَبَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّهُ أَظْهَرَ لَهُ مِنْ رِضَاهُ عَنْهُ مَا يَقُوم لَهُ مَقَام الضَّحِك مِنْ الْمَخْلُوقِينَ مَجَازًا وَاتِّسَاعًا.
قَالَ الْهَرَوِيّ : وَيُقَال مَعْنَى ( عَجِبَ رَبّكُمْ ) أَيْ رَضِيَ وَأَثَابَ ; فَسَمَّاهُ عَجَبًا وَلَيْسَ بِعَجَبٍ فِي الْحَقِيقَة ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" وَيَمْكُر اللَّه " [ الْأَنْفَال : ٣٠ ] مَعْنَاهُ وَيُجَازِيهِمْ اللَّه عَلَى مَكْرهمْ، وَمِثْله فِي الْحَدِيث ( عَجِبَ رَبّكُمْ مِنْ إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ ).
وَقَدْ يَكُون الْعَجَب بِمَعْنَى وُقُوع ذَلِكَ الْعَمَل عِنْد اللَّه عَظِيمًا.
فَيَكُون مَعْنَى قَوْله :" بَلْ عَجِبْتُ " أَيْ بَلْ عَظُمَ فِعْلهمْ عِنْدِي.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُون هَذَا مَعْنَى حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِر قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( عَجِبَ رَبّك مِنْ شَابّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَة ) وَكَذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( عَجِبَ اللَّه مِنْ قَوْم يَدْخُلُونَ الْجَنَّة فِي السَّلَاسِل ) قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَقَدْ يَكُون هَذَا الْحَدِيث وَمَا وَرَدَ مِنْ أَمْثَاله أَنَّهُ يَعْجَب مَلَائِكَته مِنْ كَرَمِهِ وَرَأْفَته بِعِبَادِهِ، حِين حَمَلَهُمْ عَلَى الْإِيمَان بِهِ بِالْقِتَالِ وَالْأَسْر فِي السَّلَاسِل، حَتَّى إِذَا آمَنُوا أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة.
وَقِيلَ : مَعْنَى " بَلْ عَجِبْتُ " بَلْ أَنْكَرْت.
حَكَاهُ النَّقَّاش.
وَقَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : التَّعَجُّب مِنْ اللَّه إِنْكَار الشَّيْء وَتَعْظِيمه، وَهُوَ لُغَة الْعَرَب.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَر ( عَجِبَ رَبّكُمْ مِنْ إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ ).
وَيَسْخَرُونَ
قِيلَ : الْوَاو وَاو الْحَال ; أَيْ عَجِبْتُ مِنْهُمْ فِي حَال سُخْرِيَتهمْ.
وَقِيلَ : تَمَّ الْكَلَام عِنْد قَوْله :" بَلْ عَجِبْت " ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ :" وَيَسْخَرُونَ " أَيْ مِمَّا جِئْت بِهِ إِذَا تَلَوْته عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ : يَسْخَرُونَ مِنْك إِذَا دَعَوْتهمْ.
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ
" وَإِذَا ذُكِّرُوا " أَيْ وُعِظُوا بِالْقُرْآنِ فِي قَوْل قَتَادَة :" لَا يَذْكُرُونَ " لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : أَيْ إِذَا ذُكِرَ لَهُمْ مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلهمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا.
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً
أَيْ مُعْجِزَة
يَسْتَسْخِرُونَ
أَيْ يَسْخَرُونَ فِي قَوْل قَتَادَة.
وَيَقُولُونَ إِنَّهَا سِحْر.
وَاسْتَسْخَرَ وَسَخِرَ بِمَعْنًى مِثْلُ اِسْتَقَرَّ وَقَرَّ، وَاسْتَعْجَبَ، وَعَجِبَ.
وَقِيلَ :" يَسْتَسْخِرُونَ " أَيْ يَسْتَدْعُونَ السُّخْرِيَة مِنْ غَيْرهمْ.
وَقَالَ مُجَاهِد : يَسْتَهْزِئُونَ.
وَقِيلَ : أَيْ يَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ الْآيَة سُخْرِيَة.
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
أَيْ إِذَا عَجَزُوا عَنْ مُقَابَلَة الْمُعْجِزَات بِشَيْءٍ قَالُوا هَذَا سِحْر وَتَخْيِيل وَخِدَاع.
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
أَيْ أَنُبْعَث إِذَا مِتْنَا ؟.
فَهُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار مِنْهُمْ وَسُخْرِيَة.
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ
أَيْ أَوَتُبْعَثُ آبَاؤُنَا دَخَلَتْ أَلِف الِاسْتِفْهَام عَلَى حَرْف الْعَطْف.
قَرَأَ نَافِع :" أَوْ آبَاؤُنَا " بِسُكُونِ الْوَاو.
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَة [ الْأَعْرَاف ].
فِي قَوْله تَعَالَى :" أَوَأَمِنَ أَهْل الْقُرَى " [ الْأَعْرَاف : ٩٨ ].
قُلْ نَعَمْ
أَيْ نَعَمْ تُبْعَثُونَ.
وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ
أَيْ صَاغِرُونَ أَذِلَّاء ; لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا وُقُوع مَا أَنْكَرُوهُ فَلَا مَحَالَة يَذِلُّونَ.
وَقِيلَ : أَيْ سَتَقُومُ الْقِيَامَة وَإِنْ كَرِهْتُمْ، فَهَذَا أَمْر وَاقِع عَلَى رَغْمكُمْ وَإِنْ أَنْكَرْتُمُوهُ الْيَوْم بِزَعْمِكُمْ.
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ
أَيْ صَيْحَة وَاحِدَة، قَالَهُ الْحَسَن وَهِيَ النَّفْخَة الثَّانِيَة.
وَسُمِّيَتْ الصَّيْحَة زَجْرَة ; لِأَنَّ مَقْصُودهَا الزَّجْر أَيْ يُزْجَر بِهَا كَزَجْرِ الْإِبِل وَالْخَيْل عِنْد السُّوق.
فَإِذَا هُمْ
قِيَام
يَنْظُرُونَ
أَيْ يَنْظُر بَعْضهمْ إِلَى بَعْض.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ مَا يُفْعَل بِهِمْ.
وَقِيلَ : هِيَ مِثْل قَوْله :" فَإِذَا هِيَ شَاخِصَة أَبْصَار الَّذِينَ كَفَرُوا " [ الْأَنْبِيَاء : ٩٧ ].
وَقِيلَ : أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَى الْبَعْث الَّذِي أَنْكَرُوهُ.
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ
نَادَوْا عَلَى أَنْفُسهمْ بِالْوَيْلِ ; لِأَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ يَعْلَمُونَ مَا حَلَّ بِهِمْ.
وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى أَنَّهُ مَصْدَر عِنْد الْبَصْرِيِّينَ.
وَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ تَقْدِيره : يَاوَيْ لَنَا، وَوَيْ بِمَعْنَى حُزْن.
النَّحَّاس : وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ مُنْفَصِلًا وَهُوَ فِي الْمُصْحَف مُتَّصِل، وَلَا نَعْلَم أَحَدًا يَكْتُبهُ إِلَّا مُتَّصِلًا.
وَ " يَوْم الدِّين " يَوْم الْحِسَاب.
وَقِيلَ : يَوْم الْجَزَاء.
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل بَعْضهمْ لِبَعْضٍ ; أَيْ هَذَا الْيَوْم الَّذِي كَذَّبْنَا بِهِ.
وَقِيلَ : هُوَ قَوْل اللَّه تَعَالَى لَهُمْ.
وَقِيلَ : مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة ; أَيْ هَذَا يَوْم الْحُكْم بَيْن النَّاس فَيَبِينُ الْمُحِقّ مِنْ الْمُبْطِل.
فَـ " فَرِيق فِي الْجَنَّة وَفَرِيق فِي السَّعِير " [ الشُّورَى : ٧ ].
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ
هُوَ مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ :" اُحْشُرُوا " الْمُشْرِكِينَ " وَأَزْوَاجهمْ " أَيْ أَشْيَاعهمْ فِي الشِّرْك، وَالشِّرْك الظُّلْم ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِنَّ الشِّرْك لَظُلْمٌ عَظِيم " [ لُقْمَان : ١٣ ] فَيُحْشَر الْكَافِر مَعَ الْكَافِر ; قَالَهُ قَتَادَة وَأَبُو الْعَالِيَة.
وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجهمْ " قَالَ : الزَّانِي مَعَ الزَّانِي، وَشَارِب الْخَمْر مَعَ شَارِب الْخَمْر، وَصَاحِب السَّرِقَة مَعَ صَاحِب السَّرِقَة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس :" وَأَزْوَاجهمْ " أَيْ أَشْبَاههمْ.
وَهَذَا يَرْجِع إِلَى قَوْل عُمَر.
وَقِيلَ :" وَأَزْوَاجهمْ " نِسَاؤُهُمْ الْمُوَافِقَات عَلَى الْكُفْر ; قَالَهُ مُجَاهِد وَالْحَسَن، وَرَوَاهُ النُّعْمَان بْن بَشِير عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب.
وَقَالَ الضَّحَّاك :" وَأَزْوَاجَهُمْ " قُرَنَاءَهُمْ مِنْ الشَّيَاطِين.
وَهَذَا قَوْل مُقَاتِل أَيْضًا : يُحْشَر كُلّ كَافِر مَعَ شَيْطَانه فِي سِلْسِلَة.
مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَيْ مِنْ الْأَصْنَام وَالشَّيَاطِين وَإِبْلِيس.
فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ
أَيْ سُوقُوهُمْ إِلَى النَّار.
وَقِيلَ :" فَاهْدُوهُمْ " أَيْ دُلُّوهُمْ.
يُقَال : هَدَيْته إِلَى الطَّرِيق، وَهَدَيْته الطَّرِيق ; أَيْ دَلَلْته عَلَيْهِ.
وَأَهْدَيْت الْهَدِيَّة وَهَدَيْت الْعَرُوس، وَيُقَال أَهْدَيْتهَا ; أَيْ جَعَلْتهَا بِمَنْزِلَةِ الْهَدِيَّة.
وَقِفُوهُمْ
وَحَكَى عِيسَى بْن عُمَر " أَنَّهُمْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة.
قَالَ الْكِسَائِيّ : أَيْ لِأَنَّهُمْ وَبِأَنَّهُمْ، يُقَال : وَقَفْت الدَّابَّة أَقِفُهَا وَقْفًا فَوَقَفَتْ هِيَ وُقُوفًا، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى ; أَيْ اِحْبِسُوهُمْ.
وَهَذَا يَكُون قَبْل السَّوْق إِلَى الْجَحِيم ; وَفِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، أَيْ قِفُوهُمْ لِلْحِسَابِ ثُمَّ سُوقُوهُمْ إِلَى النَّار.
وَقِيلَ : يُسَاقُونَ إِلَى النَّار أَوَّلًا ثُمَّ يُحْشَرُونَ لِلسُّؤَالِ إِذَا قَرُبُوا مِنْ النَّار.
إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ
عَنْ أَعْمَالهمْ وَأَقْوَالهمْ وَأَفْعَالهمْ ; قَالَهُ الْقُرَظِيّ وَالْكَلْبِيّ.
الضَّحَّاك : عَنْ خَطَايَاهُمْ.
اِبْن عَبَّاس : عَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه.
وَعَنْهُ أَيْضًا : عَنْ ظُلْم الْخَلْق.
وَفِي هَذَا كُلّه دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكَافِر يُحَاسَب.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْحِجْر ] الْكَلَام فِيهِ.
وَقِيلَ : سُؤَالهمْ أَنْ يُقَال لَهُمْ :" أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ " [ الْأَنْعَام : ١٣٠ ] إِقَامَة لِلْحُجَّةِ.
وَيُقَال لَهُمْ :
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ
عَلَى جِهَة التَّقْرِيع وَالتَّوْبِيخ ; أَيْ يَنْصُر بَعْضكُمْ بَعْضًا فَيَمْنَعهُ مِنْ عَذَاب اللَّه.
وَقِيلَ : هُوَ إِشَارَة إِلَى قَوْل أَبِي جَهْل يَوْم بَدْر :" نَحْنُ جَمِيع مُنْتَصِر " [ الْقَمَر : ٤٤ ].
وَأَصْله تَتَنَاصَرُونَ فَطُرِحَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا.
وَشَدَّدَ الْبَزِّيّ التَّاء فِي الْوَصْل.
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ
قَالَ قَتَادَة : مُسْتَسْلِمُونَ فِي عَذَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
اِبْن عَبَّاس : خَاضِعُونَ ذَلِيلُونَ.
الْحَسَن : مُنْقَادُونَ.
الْأَخْفَش : مُلْقُونَ بِأَيْدِيهِمْ.
وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
يَعْنِي الرُّؤَسَاء وَالْأَتْبَاع
يَتَسَاءَلُونَ
يَتَخَاصَمُونَ.
وَيُقَال لَا يَتَسَاءَلُونَ فَسَقَطَتْ لَا.
النَّحَّاس : وَإِنَّمَا غَلِطَ الْجَاهِل بِاللُّغَةِ فَتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْله :" فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ يَوْمئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : ١٠١ ] إِنَّمَا هُوَ لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَرْحَامِ، فَيَقُول أَحَدهمْ : أَسْأَلُك بِالرَّحِمِ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنك لَمَا نَفَعْتنِي، أَوْ أَسْقَطْت لِي حَقًّا لَك عَلَيَّ، أَوْ وَهَبْت لِي حَسَنَة.
وَهَذَا بَيِّن ; لِأَنَّ قَبْله " فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ " [ الْمُؤْمِنُونَ : ١٠١ ].
أَيْ لَيْسَ يَنْتَفِعُونَ بِالْأَنْسَابِ الَّتِي بَيْنهمْ ; كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث :( إِنَّ الرَّجُل لَيُسَرُّ بِأَنْ يُصْبِحَ لَهُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ عَلَى اِبْنه حَقّ فَيَأْخُذهُ مِنْهُ لِأَنَّهَا الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَات )، وَفِي حَدِيث آخَر :( رَحِمَ اللَّه اِمْرَأً كَانَ لِأَخِيهِ عِنْده مَظْلِمَةٌ مِنْ مَال أَوْ عِرْض فَأَتَاهُ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْل أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ فَيَأْخُذ مِنْ حَسَنَاته فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَات زِيدَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَات الْمُطَالِب ).
و " يَتَسَاءَلُونَ " هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَسْأَل بَعْضهمْ بَعْضًا وَيُوَبِّخهُ فِي أَنَّهُ أَضَلَّهُ أَوْ فَتَحَ لَهُ بَابًا مِنْ الْمَعْصِيَة ; يُبَيِّن ذَلِكَ أَنَّ بَعْده " إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِين "
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ
قَالَ مُجَاهِد : هُوَ قَوْل الْكُفَّار لِلشَّيَاطِينِ.
قَتَادَة : هُوَ قَوْل الْإِنْس لِلْجِنِّ.
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْأَتْبَاع لِلْمَتْبُوعِينَ ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى :" وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْد رَبّهمْ يَرْجِع بَعْضهمْ إِلَى بَعْض الْقَوْل " [ سَبَأ : ٣١ ] الْآيَة.
قَالَ سَعِيد عَنْ قَتَادَة : أَيْ تَأْتُونَنَا عَنْ طَرِيق الْخَيْر وَتَصُدُّونَنَا عَنْهَا.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس نَحْو مِنْهُ.
وَقِيلَ : تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِين الَّتِي نُحِبّهَا وَنَتَفَاءَل بِهَا لِتَغُرُّونَا بِذَلِكَ مِنْ جِهَة النُّصْح.
وَالْعَرَب تَتَفَاءَل بِمَا جَاءَ عَنْ الْيَمِين وَتُسَمِّيهِ السَّانِح.
وَقِيلَ :" تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِين " تَأْتُونَنَا مَجِيء مَنْ إِذَا حَلَفَ لَنَا صَدَّقْنَاهُ.
وَقِيلَ : تَأْتُونَنَا مِنْ قِبَل الدِّين فَتُهَوِّنُونَ عَلَيْنَا أَمْر الشَّرِيعَة وَتُنَفِّرُونَنَا عَنْهَا.
قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل حَسَن جِدًّا ; لِأَنَّ مِنْ جِهَة الدِّين يَكُون الْخَيْر وَالشَّرّ، وَالْيَمِين بِمَعْنَى الدِّين ; أَيْ كُنْتُمْ تُزَيِّنُونَ لَنَا الضَّلَالَة.
وَقِيلَ : الْيَمِين بِمَعْنَى الْقُوَّة ; أَيْ تَمْنَعُونَنَا بِقُوَّةٍ وَغَلَبَة وَقَهْر ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" فَرَاغ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ " [ الصَّافَّات : ٩٣ ] أَيْ بِالْقُوَّةِ وَقُوَّة الرَّجُل فِي يَمِينه ; وَقَالَ الشَّاعِر :
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
أَيْ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَة.
وَهَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس.
وَقَالَ مُجَاهِد :" تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِين " أَيْ مِنْ قِبَل الْحَقّ أَنَّهُ مَعَكُمْ ; وَكُلّه مُتَقَارِب الْمَعْنَى.
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
قَالَ قَتَادَة : هَذَا قَوْل الشَّيَاطِين لَهُمْ.
وَقِيلَ : مِنْ قَوْل الرُّؤَسَاء ; أَيْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ قَطُّ حَتَّى نَنْقُلَكُمْ مِنْهُ إِلَى الْكُفْر، بَلْ كُنْتُمْ عَلَى الْكُفْر فَأَقَمْتُمْ عَلَيْهِ لِلْإِلْفِ وَالْعَادَة.
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ
أَيْ مِنْ حُجَّة فِي تَرْك الْحَقّ
بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ
أَيْ ضَالِّينَ مُتَجَاوِزِينَ الْحَدّ.
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ
هُوَ أَيْضًا مِنْ قَوْل الْمَتْبُوعِينَ ; أَيْ وَجَبَ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ قَوْل رَبّنَا، فَكُلّنَا ذَائِقُونَ الْعَذَاب، كَمَا كَتَبَ اللَّه وَأَخْبَرَ عَلَى أَلْسِنَة الرُّسُل " لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم مِنْ الْجِنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " [ السَّجْدَة : ١٣ ].
وَهَذَا مُوَافِق لِلْحَدِيثِ :( إِنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ كَتَبَ لِلنَّارِ أَهْلًا وَلِلْجَنَّةِ أَهْلًا لَا يُزَاد فِيهِمْ وَلَا يُنْقَص مِنْهُمْ ).
فَأَغْوَيْنَاكُمْ
أَيْ زَيَّنَّا لَكُمْ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْر
إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ
بِالْوَسْوَسَةِ وَالِاسْتِدْعَاء.
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
الضَّالّ وَالْمُضِلّ.
إِنَّا كَذَلِكَ
أَيْ مِثْل هَذَا الْفِعْل
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ
أَيْ الْمُشْرِكِينَ.
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ
أَيْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ قُولُوا فَأَضْمَرَ الْقَوْل.
وَ " يَسْتَكْبِرُونَ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى خَبَر كَانَ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى أَنَّهُ خَبَر إِنَّ، وَكَانَ مُلْغَاة.
وَلَمَّا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِب عِنْد مَوْته وَاجْتِمَاع قُرَيْش ( قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه تَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَب وَتَدِين لَكُمْ بِهَا الْعَجَم ) أَبَوْا وَأَنِفُوا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه فَذَكَرَ قَوْمًا اِسْتَكْبَرُوا فَقَالَ :" إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه يَسْتَكْبِرُونَ " ) وَقَالَ تَعَالَى :" إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبهمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّة فَأَنْزَلَ اللَّه سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُوله وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلهَا " [ الْفَتْح : ٢٦ ] وَهِيَ ( لَا إِلَه إِلَّا اللَّه مُحَمَّد رَسُول اللَّه ) اِسْتَكْبَرَ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة يَوْم كَاتَبَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَضِيَّة الْمُدَّة ; ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ الْبَيْهَقِيّ، وَاَلَّذِي قَبْله الْقُشَيْرِيّ.
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ
أَيْ لِقَوْلِ شَاعِر مَجْنُون ; فَرَدَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ :
بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ
يَعْنِي الْقُرْآن وَالتَّوْحِيد
وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ
فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ التَّوْحِيد.
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ
الْأَصْل لَذَائِقُونَ فَحُذِفَتْ النُّون اِسْتِخْفَافًا وَخُفِضَتْ لِلْإِضَافَةِ.
وَيَجُوز النَّصْب كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ :
فَأَلْفَيْته غَيْرَ مُسْتَقْتِبٍ وَلَا ذَاكِر اللَّه إِلَّا قَلِيلًا
وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ " وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةَ " عَلَى هَذَا.
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
أَيْ إِلَّا بِمَا عَمِلْتُمْ مِنْ الشِّرْك
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
اِسْتِثْنَاء مِمَّنْ يَذُوق الْعَذَاب.
وَقِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَالْكُوفَة " الْمُخْلَصِينَ " بِفَتْحِ اللَّام ; يَعْنِي الَّذِينَ أَخْلَصَهُمْ اللَّه لِطَاعَتِهِ وَدِينه وَوِلَايَته.
الْبَاقُونَ بِكَسْرِ اللَّام ; أَيْ الَّذِينَ أَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعِبَادَة.
وَقِيلَ : هُوَ اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع، أَيْ إِنَّكُمْ أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ ذَائِقُو الْعَذَاب لَكِنْ عِبَاد اللَّه الْمُخْلَصِينَ لَا يَذُوقُونَ الْعَذَاب.
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ
يَعْنِي الْمُخْلَصِينَ ; أَيْ لَهُمْ عَطِيَّة مَعْلُومَة لَا تَنْقَطِع.
قَالَ قَتَادَة : يَعْنِي الْجَنَّة.
وَقَالَ غَيْره : يَعْنِي رِزْق الْجَنَّة.
وَقِيلَ : هِيَ الْفَوَاكِه الَّتِي ذُكِرَ قَالَ مُقَاتِل : حِين يَشْتَهُونَهُ.
وَقَالَ اِبْن السَّائِب : إِنَّهُ بِمِقْدَارِ الْغَدَاة وَالْعَشِيّ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَلَهُمْ رِزْقهمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا " [ مَرْيَم : ٦٢ ].
فَوَاكِهُ
جَمْع فَاكِهَة ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ " [ الطُّور : ٢٢ ] وَهِيَ الثِّمَار كُلُّهَا رَطْبُهَا وَيَابِسُهَا ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَهُمْ مُكْرَمُونَ
أَيْ وَلَهُمْ إِكْرَام مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ بِرَفْعِ الدَّرَجَات وَسَمَاع كَلَامه وَلِقَائِهِ.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
أَيْ فِي بَسَاتِين يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجِنَان سَبْع فِي سُورَة [ يُونُس ] مِنْهَا النَّعِيم.
عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ
قَالَ عِكْرِمَة وَمُجَاهِد : لَا يَنْظُر بَعْضهمْ فِي قَفَا بَعْض تَوَاصُلًا وَتَحَابُبًا.
وَقِيلَ : الْأَسِرَّة تَدُور كَيْف شَاءُوا فَلَا يَرَى أَحَد قَفَا أَحَد.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : عَلَى سُرُر مُكَلَّلَة بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوت وَالزَّبَرْجَد ; السَّرِير مَا بَيْن صَنْعَاء إِلَى الْجَابِيَة، وَمَا بَيْن عَدَن إِلَى أَيْلَة.
وَقِيلَ : تَدُور بِأَهْلِ الْمَنْزِل الْوَاحِد.
وَاَللَّه أَعْلَم.
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ
لَمَّا ذَكَرَ مَطَاعِمَهُمْ ذَكَرَ شَرَابَهُمْ.
وَالْكَأْس عِنْد أَهْل اللُّغَة اِسْم شَامِل لِكُلِّ إِنَاء مَعَ شَرَابه ; فَإِنْ كَانَ فَارِغًا فَلَيْسَ بِكَأْسٍ.
قَالَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ : كُلّ كَأْس فِي الْقُرْآن فَهِيَ الْخَمْر، وَالْعَرَب تَقُول لِلْإِنَاءِ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْر كَأْس، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَمْر قَالُوا إِنَاء وَقَدَح.
النَّحَّاس : وَحَكَى مَنْ يُوثَق بِهِ مِنْ أَهْل اللُّغَة أَنَّ الْعَرَب تَقُول لِلْقَدَحِ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْر : كَأْس ; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَمْر فَهُوَ قَدَح ; كَمَا يُقَال لِلْخُوَانِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ طَعَام : مَائِدَة ; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَعَام لَمْ تَقُلْ لَهُ مَائِدَة.
قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن كَيْسَان : وَمِنْهُ ظَعِينَة لِلْهَوْدَجِ إِذَا كَانَ فِيهِ الْمَرْأَة.
وَقَالَ الزَّجَّاج :" بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ " أَيْ مِنْ خَمْر تَجْرِي كَمَا تَجْرِي الْعُيُون عَلَى وَجْه الْأَرْض.
وَالْمَعِين : الْمَاء الْجَارِي الظَّاهِر.
بَيْضَاءَ
صِفَة لِلْكَأْسِ.
وَقِيلَ : لِلْخَمْرِ.
قَالَ الْحَسَن : خَمْر الْجَنَّة أَشَدّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَن.
وَقِيلَ :" بَيْضَاء " أَيْ لَمْ يَعْتَصِرْهَا الرِّجَال بِأَقْدَامِهِمْ.
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
" لَذَّة " قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ ذَات لَذَّة فَحُذِفَ الْمُضَاف.
وَقِيلَ : هُوَ مَصْدَر جُعِلَ اِسْمًا أَيْ بَيْضَاء لَذِيذَة ; يُقَال شَرَاب لَذّ وَلَذِيذ، مِثْل نَبَات غَضّ وَغَضِيض.
فَأَمَّا قَوْل الْقَائِل :
وَلَذٍّ كَطَعْمِ الصَّرْخَدِيّ تَرَكْته بِأَرْضِ الْعِدَا مِنْ خَشْيَة الْحَدَثَانِ
فَإِنَّهُ يُرِيد النَّوْم.
لَا فِيهَا غَوْلٌ
أَيْ لَا تَغْتَال عُقُولهمْ، وَلَا يُصِيبهُمْ مِنْهَا مَرَض وَلَا صُدَاع.
وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ
أَيْ لَا تَذْهَب عُقُولهمْ بِشُرْبِهَا ; يُقَال : الْخَمْر غَوْل لِلْحِلْمِ، وَالْحَرْب غَوْل لِلنُّفُوسِ ; أَيْ تَذْهَب بِهَا.
وَيُقَال : نُزِفَ الرَّجُل يُنْزَف فَهُوَ مَنْزُوف وَنَزِيف إِذَا سَكِرَ.
قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس :
وَإِذْ هِيَ تَمْشِي كَمَشْيِ النَّزِيـ ـفِ يَصْرَعُهُ بِالْكَثِيبِ الْبَهَرْ
وَقَالَ أَيْضًا :
نَزِيفٌ إِذَا قَامَتْ لِوَجْهٍ تَمَايَلَتْ تُرَاشِي الْفُؤَادَ الرُّخْصَ أَلَّا تَخَتَّرَا
وَقَالَ آخَر :
فَلَثَمْت فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ بِكَسْرِ الزَّاي ; مِنْ أَنْزَفَ الْقَوْمُ إِذَا حَانَ مِنْهُمْ النَّزْف وَهُوَ السُّكْر.
يُقَال : أَحْصَدَ الزَّرْع إِذَا حَانَ حَصَاده، وَأَقْطَفَ الْكَرْم إِذَا حَانَ قِطَافُهُ، وَأَرْكَبَ الْمُهْرُ إِذَا حَانَ رُكُوبُهُ.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا يُنْفِدُونَ شَرَابَهُمْ ; لِأَنَّهُ دَأْبُهُمْ ; يُقَال : أَنْزَفَ الرَّجُل فَهُوَ مَنْزُوف إِذَا فَنِيَتْ خَمْرُهُ.
قَالَ الْحُطَيْئَة :
لَعَمْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أَوْ صَحَوْتُمُ لَبِئْسَ النَّدَامَى كُنْتُمُ آلَ أَبْجَرَا
النَّحَّاس : وَالْقِرَاءَة الْأُولَى أَبْيَن وَأَصَحّ فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَعْنَى " يُنْزَفُونَ " عِنْد جِلَّة أَهْل التَّفْسِير مِنْهُمْ مُجَاهِد لَا تَذْهَب عُقُولهمْ ; فَنَفَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ خَمْر الْجَنَّة الْآفَات الَّتِي تَلْحَق فِي الدُّنْيَا مِنْ خَمْرهَا مِنْ الصُّدَاع وَالسُّكْر.
وَمَعْنَى " يُنْزَفُونَ " الصَّحِيح فِيهِ أَنَّهُ يُقَال : أَنْزَفَ الرَّجُل إِذَا نَفِدَ شَرَابه، وَهُوَ يَبْعُد أَنْ يُوصَف بِهِ شَرَاب الْجَنَّة ; وَلَكِنَّ مَجَازه أَنْ يَكُون بِمَعْنَى لَا يَنْفَد أَبَدًا.
وَقِيلَ :" لَا يُنْزِفُونَ " بِكَسْرِ الزَّاي لَا يَسْكَرُونَ ; ذَكَرَهُ الزَّجَّاج وَأَبُو عَلِيّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ.
الْمَهْدَوِيّ : وَلَا يَكُون مَعْنَاهُ يَسْكَرُونَ ; لِأَنَّ قَبْله " لَا فِيهَا غَوْل ".
أَيْ لَا تَغْتَال عُقُولهمْ فَيَكُون تَكْرَارًا ; وَيَسُوغ ذَلِكَ فِي [ الْوَاقِعَة ].
وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَى " لَا فِيهَا غَوْل " لَا يَمْرَضُونَ ; فَيَكُون مَعْنَى " وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ " لَا يَسْكَرُونَ أَوْ لَا يَنْفَد شَرَابهمْ.
قَالَ قَتَادَة الْغَوْل وَجَع الْبَطْن.
وَكَذَا رَوَى اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد " لَا فِيهَا غَوْل " قَالَ لَا فِيهَا وَجَع بَطْن.
الْحَسَن : صُدَاع.
وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس :" لَا فِيهَا غَوْل " لَا فِيهَا صُدَاع.
وَحَكَى الضَّحَّاك عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : فِي الْخَمْر أَرْبَع خِصَال : السُّكْر وَالصُّدَاع وَالْقَيْء وَالْبَوْل ; فَذَكَرَ اللَّه خَمْر الْجَنَّة فَنَزَّهَهَا عَنْ هَذِهِ الْخِصَال.
مُجَاهِد : دَاء.
اِبْن كَيْسَان : مَغَص.
وَهَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِبَة.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ :" لَا فِيهَا غَوْل " أَيْ إِثْم ; نَظِيره :" لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تَأْثِيم " [ الطُّور : ٢٣ ].
وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَالسُّدِّيّ وَأَبُو عُبَيْدَة : لَا تَغْتَال عُقُولهمْ فَتَذْهَب بِهَا.
وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
وَمَا زَالَتْ الْكَأْسُ تَغْتَالُنَا وَتَذْهَب بِالْأَوَّلِ الْأَوَّلِ
أَيْ تَصْرَع وَاحِدًا وَاحِدًا.
وَإِنَّمَا صَرَفَ اللَّه تَعَالَى السُّكْر عَنْ أَهْل الْجَنَّة لِئَلَّا يَنْقَطِع الِالْتِذَاذ عَنْهُمْ بِنَعِيمِهِمْ.
وَقَالَ أَهْل الْمَعَانِي : الْغَوْل فَسَاد يَلْحَق فِي خَفَاء.
يُقَال : اِغْتَالَهُ اِغْتِيَالًا إِذَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ أَمْره فِي خُفْيَة.
وَمِنْهُ الْغَوْل وَالْغِيلَة : وَهُوَ الْقَتْل خُفْيَة.
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ
أَيْ نِسَاء قَدْ قَصَرْنَ طَرَفَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرهمْ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَغَيْرهمْ.
عِكْرِمَة :" قَاصِرَات الطَّرْف " أَيْ مَحْبُوسَات عَلَى أَزْوَاجهنَّ.
وَالتَّفْسِير الْأَوَّل أَبْيَنُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَة مَقْصُورَات وَلَكِنْ فِي مَوْضِع آخَر " مَقْصُورَات " يَأْتِي بَيَانه.
وَ " قَاصِرَات " مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : قَدْ اِقْتَصَرَ عَلَى كَذَا إِذَا اِقْتَنَعَ بِهِ وَعَدَلَ عَنْ غَيْره ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس :
مِنْ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ مِنْ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا
وَيُرْوَى : فَوْق الْخَدّ.
وَالْأَوَّل أَبْلَغُ.
وَالْإِتْب الْقَمِيص، وَالْمُحْوِل الصَّغِير مِنْ الذَّرّ.
وَقَالَ مُجَاهِد أَيْضًا : مَعْنَاهُ لَا يَغِرْنَ.
عِينٌ
عِظَام الْعُيُون الْوَاحِدَة عَيْنَاء ; وَقَالَهُ السُّدِّيّ.
مُجَاهِد :" عِين " حِسَان الْعُيُون.
الْحَسَن : الشَّدِيدَات بَيَاض الْعَيْن، الشَّدِيدَات سَوَادهَا.
وَالْأَوَّل أَشْهَر فِي اللُّغَة.
يُقَال : رَجُل أَعْيَنُ وَاسِع الْعَيْنِ بَيِّنُ الْعَيَنِ، وَالْجَمْع عِين.
وَأَصْله فُعْل بِالضَّمِّ فَكُسِرَتْ الْعَيْن ; لِئَلَّا تَنْقَلِبَ الْوَاو يَاء.
وَمِنْهُ قِيلَ لِبَقَرِ الْوَحْش عِين، وَالثَّوْر أَعْيَن، وَالْبَقَرَة عَيْنَاء.
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ
أَيْ مَصُون.
قَالَ الْحَسَن وَابْن زَيْد : شُبِّهْنَ بِبَيْضِ النَّعَام، تُكِنُّهَا النَّعَامَة بِالرِّيشِ مِنْ الرِّيح وَالْغُبَار، فَلَوْنهَا أَبْيَض فِي صُفْرَة وَهُوَ أَحْسَن أَلْوَان النِّسَاء.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَالسُّدِّيّ : شُبِّهْنَ بِبَطْنِ الْبَيْض قَبْل أَنْ يُقَشَّر وَتَمَسَّهُ الْأَيْدِي.
وَقَالَ عَطَاء : شُبِّهْنَ بِالسِّحَاءِ الَّذِي يَكُون بَيْن الْقِشْرَة الْعُلْيَا وَلِبَابِ الْبَيْض.
وَسَحَاة كُلّ شَيْء : قِشْره وَالْجَمْع سَحًا ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ.
وَنَحْوه قَوْل الطَّبَرِيّ، قَالَ : هُوَ الْقِشْر الرَّقِيق، الَّذِي عَلَى الْبَيْضَة بَيْن ذَلِكَ.
وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْعَرَب تُشَبِّهُ الْمَرْأَة بِالْبَيْضَةِ لِصَفَائِهَا وَبَيَاضهَا ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس :
وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا تَمَتَّعْت مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ
وَتَقُول الْعَرَب إِذَا وَصَفَتْ الشَّيْء بِالْحُسْنِ وَالنَّظَافَة : كَأَنَّهُ بَيْض النَّعَام الْمُغَطَّى بِالرِّيشِ.
وَقِيلَ : الْمَكْنُون الْمَصُون عَنْ الْكَسْر ; أَيْ إِنَّهُنَّ عَذَارَى.
وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْبَيْضِ اللُّؤْلُؤ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَحُور عِين كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤ الْمَكْنُون " [ الْوَاقِعَة :
٢٢ - ٢٣ ] أَيْ فِي أَصْدَافه ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا.
وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
وَهِيَ بَيْضَاءُ مِثْلُ لُؤْلُؤَةِ اِلْغَ وَّاصِ مِيزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُونِ
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَكْنُون وَالْبَيْض جُمَع ; لِأَنَّهُ رَدَّ النَّعْت إِلَى اللَّفْظ.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ
أَيْ يَتَفَاوَضُونَ فِيمَا بَيْنهمْ أَحَادِيثهمْ فِي الدُّنْيَا.
وَهُوَ مِنْ تَمَام الْأُنْس فِي الْجَنَّة.
وَهُوَ مَعْطُوف عَلَى مَعْنَى " يُطَاف عَلَيْهِمْ " الْمَعْنَى يَشْرَبُونَ فَيَتَحَادَثُونَ عَلَى الشَّرَاب كَعَادَةِ الشُّرَّاب.
قَالَ بَعْضهمْ :
وَمَا بَقِيَتْ مِنْ اللَّذَّاتِ إِلَّا أَحَادِيثُ الْكِرَامِ عَلَى الْمُدَامِ
فَيُقْبِل بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ عَمَّا جَرَى لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا ; إِلَّا أَنَّهُ جِيءَ بِهِ مَاضِيًا عَلَى عَادَة اللَّه تَعَالَى فِي إِخْبَاره.
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ
أَيْ مِنْ أَهْل الْجَنَّة
إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ
أَيْ صَدِيق مُلَازِم، وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْقَرِينِ قَرِينَهُ مِنْ الشَّيْطَان كَانَ يُوَسْوِس إِلَيْهِ بِإِنْكَارِ الْبَعْث.
يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ
أَيْ بِالْمَبْعَثِ وَالْجَزَاء.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : قَرِينه شَرِيكه.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْكَهْف ] ذِكْرُهُمَا وَقِصَّتُهُمَا وَالِاخْتِلَاف فِي اِسْمَيْهِمَا مُسْتَوْفًى عِنْد قَوْله تَعَالَى :" وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ " [ الْكَهْف : ٣٢ ] وَفِيهِمَا أَنْزَلَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ :" قَالَ قَائِل مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِين " إِلَى " مِنْ الْمُحْضَرِينَ ".
وَقُرِئَ :" أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " بِتَشْدِيدِ الصَّاد.
رَوَاهُ عَلِيّ بْن كَيْسَة عَنْ سُلَيْم عَنْ حَمْزَة.
قَالَ النَّحَّاس : وَلَا يَجُوز " أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلصَّدَقَةِ هَاهُنَا.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَفِي قِرَاءَة عَنْ حَمْزَة " أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " بِتَشْدِيدِ الصَّاد.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا مِنْ التَّصْدِيق لَا مِنْ التَّصَدُّق.
وَالِاعْتِرَاض بَاطِل ; لِأَنَّ الْقِرَاءَة إِذَا ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا مَجَالَ لِلطَّعْنِ فِيهَا.
فَالْمَعْنَى " أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " بِالْمَالِ طَلَبًا فِي ثَوَاب الْآخِرَة.
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ
أَيْ مَجْزِيُّونَ مُحَاسَبُونَ بَعْد الْمَوْت.
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ
فَـ " قَالَ " اللَّه تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّة :" هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ".
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمُؤْمِن لِإِخْوَانِهِ فِي الْجَنَّة هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إِلَى النَّار لِنَنْظُرَ كَيْف حَال ذَلِكَ الْقَرِين.
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة.
وَلَيْسَ " هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ " بِاسْتِفْهَامٍ، إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْأَمْر، أَيْ اِطَّلِعُوا ; قَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَغَيْره.
وَمِنْهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَة الْخَمْر، قَامَ عُمَر قَائِمًا بَيْن يَدَيْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسه إِلَى السَّمَاء، ثُمَّ قَالَ : يَا رَبّ بَيَانًا أَشْفَى مِنْ هَذَا فِي الْخَمْر.
فَنَزَلَتْ :" فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : ٩١ ] قَالَ : فَنَادَى عُمَر اِنْتَهَيْنَا يَا رَبَّنَا.
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس :" هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونَ " بِإِسْكَانِ الطَّاء خَفِيفَة " فَأُطْلِعَ " بِقَطْعِ الْأَلِف مُخَفَّفَة عَلَى مَعْنَى هَلْ أَنْتُمْ مُقْبِلُونَ، فَأَقْبَلَ.
قَالَ النَّحَّاس " فَأُطْلِعَ فَرَآهُ " فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا مَعْنَاهُ فَأُطْلَعَ أَنَا، وَيَكُون مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ جَوَاب الِاسْتِفْهَام.
وَالْقَوْل الثَّانِي أَنْ يَكُون فِعْلًا مَاضِيًا وَيَكُون اِطَّلَعَ وَأُطْلِعَ وَاحِدًا.
قَالَ الزَّجَّاج : يُقَال طَلَعَ وَأَطْلَعَ وَاطَّلَعَ بِمَعْنًى وَاحِد.
وَقَدْ حُكِيَ " هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونِ " بِكَسْرِ النُّون وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِم وَغَيْره.
النَّحَّاس : وَهُوَ لَحْن لَا يَجُوز ; لِأَنَّهُ جَمْع بَيْن النُّون وَالْإِضَافَة، وَلَوْ كَانَ مُضَافًا لَكَانَ هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعِيَّ، وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاء قَدْ حَكَيَا مِثْله، وَأَنْشَدَا :
هُمْ الْقَائِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ إِذَا مَا خَشَوْا مِنْ مُحْدَثِ الْأَمْرِ مُعْظَمَا
وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : وَالْفَاعِلُونَهُ.
وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ وَحْدَهُ :
وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ
وَهَذَا شَاذّ خَارِج عَنْ كَلَام الْعَرَب، وَمَا كَانَ مِثْل هَذَا لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَدْخُل فِي الْفَصِيح.
وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهه : إِنَّهُ أَجْرَى اِسْم الْفَاعِل مُجْرَى الْمُضَارِع لِقُرْبِهِ مِنْهُ، فَجَرَى " مُطَّلِعُونَ " مَجْرَى يَطْلُعُونَ.
ذَكَرَهُ أَبُو الْفَتْح عُثْمَان بْن جِنِّي وَأَنْشَدَ :
أَرَأَيْت إِنْ جِئْت بِهِ أُمْلُودَا مُرَجَّلًا وَيَلْبَسُ الْبُرُودَا
أَقَائِلُنَّ أَحْضِرُوا الشُّهُودَا
فَأَجْرَى أَقَائِلُنَّ مُجْرَى أَتَقُولُنَّ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى :" هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ.
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ " إِنَّ فِي الْجَنَّة كُوًى يَنْظُر أَهْلُهَا مِنْهَا إِلَى النَّار وَأَهْلِهَا.
وَكَذَلِكَ قَالَ كَعْب فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك، قَالَ : إِنَّ بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار كُوًى، فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِن أَنْ يَنْظُر إِلَى عَدُوّ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا اِطَّلَعَ مِنْ بَعْض الْكُوَى.
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ
أَيْ فِي وَسَط النَّار وَالْحَسَك حَوَالَيْهِ ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود.
وَيُقَال : تَعِبْت حَتَّى اِنْقَطَعَ سَوَائِي : أَيْ وَسَطِي.
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَة : قَالَ لِي عِيسَى بْن عُمَر : كُنْت أَكْتُب يَا أَبَا عُبَيْدَة حَتَّى يَنْقَطِع سَوَائِي.
وَعَنْ قَتَادَة قَالَ : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَوْلَا أَنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَرَّفَهُ إِيَّاهُ لَمَا عَرَفَهُ، لَقَدْ تَغَيَّرَ حَبْرُهُ وَسَبْرُهُ.
فَعِنْد ذَلِكَ يَقُول :" تَاللَّهِ إِنْ كِدْت لَتُرْدِينِ "
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ
" إِنْ " مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة دَخَلَتْ عَلَى كَادَ كَمَا تَدْخُل عَلَى كَانَ.
وَنَحْوه " إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا " [ الْفُرْقَان : ٤٢ ] وَاللَّام هِيَ الْفَارِقَة بَيْنهَا وَبَيْن النَّافِيَة.
وَقَالَ الْكِسَائِيّ :" لَتُرْدِينِ " أَيْ لَتُهْلِكُنِي، وَالرَّدَى الْهَلَاك.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : لَوْ قِيلَ :" لَتُرْدِينِ " لَتُوقِعُنِي فِي النَّار لَكَانَ جَائِزًا
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي
أَيْ عِصْمَتُهُ وَتَوْفِيقه بِالِاسْتِمْسَاكِ بِعُرْوَةِ الْإِسْلَام وَالْبَرَاءَة مِنْ الْقَرِين السُّوء.
وَمَا بَعْد لَوْلَا مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ عِنْد سِيبَوَيْهِ وَالْخَبَر مَحْذُوف.
لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ لَكُنْت مَعَك فِي النَّار مُحْضَرًا.
وَأَحْضَرَ لَا يُسْتَعْمَل مُطْلَقًا إِلَّا فِي الشَّرّ ; قَالَهُ الْمَاوَرْدِيّ.
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ
وَقُرِئَ " بِمَائِتِينَ " وَالْهَمْزَة فِي " أَفَمَا " لِلِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى فَاء الْعَطْف، وَالْمَعْطُوف مَحْذُوف مَعْنَاهُ أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وَلَا مُعَذَّبِينَ.
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
يَكُون اِسْتِثْنَاء لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل وَيَكُون مَصْدَرًا ; لِأَنَّهُ مَنْعُوت.
وَهُوَ مِنْ قَوْل أَهْل الْجَنَّة لِلْمَلَائِكَةِ حِين يُذْبَح الْمَوْت، وَيُقَال : يَا أَهْل الْجَنَّة خُلُود وَلَا مَوْت، وَيَا أَهْل النَّار خُلُود وَلَا مَوْت.
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمُؤْمِن عَلَى جِهَة الْحَدِيث بِنِعْمَةِ اللَّه فِي أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يُعَذَّبُونَ ; أَيْ هَذِهِ حَالنَا وَصِفَتنَا.
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمُؤْمِن تَوْبِيخًا لِلْكَافِرِ لِمَا كَانَ يُنْكِرهُ مِنْ الْبَعْث، وَأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا الْمَوْت فِي الدُّنْيَا.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
قَالَ الْمُؤْمِن مُشِيرًا إِلَى مَا هُوَ فِيهِ ; " إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْز الْعَظِيم " يَكُون " هُوَ " مُبْتَدَأ وَمَا بَعْده خَبَر عَنْهُ وَالْجُمْلَة خَبَر إِنَّ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون " هُوَ " فَاصِلًا.
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ
يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ كَلَام الْمُؤْمِن لَمَّا رَأَى مَا أَعَدَّ اللَّه لَهُ فِي الْجَنَّة وَمَا أَعْطَاهُ قَالَ :" لِمِثْلِ هَذَا " الْعَطَاء وَالْفَضْل " فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ " نَظِير مَا قَالَ لَهُ الْكَافِر :" أَنَا أَكْثَر مِنْك مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا " [ الْكَهْف : ٣٤ ].
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة.
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِأَهْلِ الدُّنْيَا ; أَيْ قَدْ سَمِعْتُمْ مَا فِي الْجَنَّة مِنْ الْخَيْرَات وَالْجَزَاء، وَ " لِمِثْلِ هَذَا " الْجَزَاء " فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ".
النَّحَّاس : وَتَقْدِير الْكَلَام - وَاَللَّه أَعْلَم - فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ لِمِثْلِ هَذَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِل : الْفَاء فِي الْعَرَبِيَّة تَدُلّ عَلَى أَنَّ الثَّانِي بَعْد الْأَوَّل، فَكَيْف صَارَ مَا بَعْدهَا يُنْوَى بِهِ التَّقْدِيم ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ التَّقْدِيم كَمِثْلِ التَّأْخِير ; لِأَنَّ حَقّ حُرُوف الْخَفْض وَمَا بَعْدهَا أَنْ تَكُون مُتَأَخِّرَة.
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ
" أَذَلِك خَيْر " مُبْتَدَأ وَخَبَر، وَهُوَ مِنْ قَوْل اللَّه جَلَّ وَعَزَّ.
" نُزُلًا " عَلَى الْبَيَان ; وَالْمَعْنَى أَنَعِيم الْجَنَّة خَيْر نُزُلًا.
" أَمْ شَجَرَة الزَّقُّوم " خَيْر نُزُلًا.
وَالنُّزُل فِي اللُّغَة الرِّزْق الَّذِي لَهُ سَعَة - النَّحَّاس - وَكَذَا النُّزُل إِلَّا أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون النُّزْل بِإِسْكَانِ الزَّاي لُغَة، وَيَجُوز أَنْ يَكُون أَصْله النُّزُل ; وَمِنْهُ أُقِيم لِلْقَوْمِ نُزُلهمْ، وَاشْتِقَاقه أَنَّهُ الْغِذَاء الَّذِي يَصْلُح أَنْ يَنْزِلُوا مَعَهُ وَيُقِيمُوا فِيهِ.
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي آخِر سُورَة [ آل عِمْرَان ] وَشَجَرَة الزَّقُّوم مُشْتَقَّة مِنْ التَّزَقُّم وَهُوَ الْبَلْع عَلَى جَهْد لِكَرَاهَتِهَا وَنَتْنِهَا.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : وَهِيَ فِي الْبَاب السَّادِس، وَأَنَّهَا تَحْيَا بِلَهَبِ النَّار كَمَا تَحْيَا الشَّجَرَة بِبَرْدِ الْمَاء ; فَلَا بُدَّ لِأَهْلِ النَّار مِنْ أَنْ يَنْحَدِر إِلَيْهَا مَنْ كَانَ فَوْقهَا فَيَأْكُلُونَ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ يَصْعَد إِلَيْهَا مَنْ كَانَ أَسْفَل.
وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ شَجَر الدُّنْيَا الَّتِي تَعْرِفهَا الْعَرَب أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مَعْرُوفَة مِنْ شَجَر الدُّنْيَا.
وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اِخْتَلَفُوا فِيهَا ; فَقَالَ قُطْرُب : إِنَّهَا شَجَرَة مُرَّة تَكُون بِتِهَامَةَ مِنْ أَخْبَث الشَّجَر.
وَقَالَ غَيْره : بَلْ هُوَ كُلّ نَبَات قَاتِل.
الْقَوْل الثَّانِي : إِنَّهَا لَا تُعْرَف فِي شَجَر الدُّنْيَا.
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي شَجَرَة الزَّقُّوم قَالَتْ كُفَّار قُرَيْش : مَا نَعْرِف هَذِهِ الشَّجَرَة.
فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَجُل مِنْ إِفْرِيقِيَّة فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : هُوَ عِنْدنَا الزُّبْد وَالتَّمْر.
فَقَالَ اِبْن الزِّبَعْرَى : أَكْثَرَ اللَّه فِي بُيُوتنَا الزَّقُّوم فَقَالَ أَبُو جَهْل لِجَارِيَتِهِ : زَقِّمِينَا ; فَأَتَتْهُ بِزُبْدٍ وَتَمْر.
ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : تَزَقَّمُوا ; هَذَا الَّذِي يُخَوِّفنَا بِهِ مُحَمَّد ; يَزْعُم أَنَّ النَّار تُنْبِتُ الشَّجَر، وَالنَّار تُحْرِق الشَّجَر.
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ
أَيْ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : كَيْف تَكُون فِي النَّار شَجَرَة وَهِيَ تُحْرِق الشَّجَر ؟ وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي [ سُبْحَان ] وَاسْتِخْفَافهمْ فِي هَذَا كَقَوْلِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى :" عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ " [ الْمُدَّثِّر : ٣٠ ].
مَا الَّذِي يُخَصِّصُ هَذَا الْعَدَد ؟ حَتَّى قَالَ بَعْضهمْ : أَنَا أَكْفِيكُمْ مِنْهُمْ كَذَا فَاكْفُونِي الْبَاقِينَ.
فَقَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَة لِلَّذِينَ كَفَرُوا " [ الْمُدَّثِّر : ٣١ ] وَالْفِتْنَة الِاخْتِبَار، وَكَانَ هَذَا الْقَوْل مِنْهُمْ جَهْلًا ; إِذْ لَا يَسْتَحِيل فِي الْعَقْل أَنْ يَخْلُق اللَّه فِي النَّار شَجَرًا مِنْ جِنْسهَا لَا تَأْكُلهُ النَّار، كَمَا يَخْلُق اللَّه فِيهَا الْأَغْلَال وَالْقُيُود وَالْحَيَّات وَالْعَقَارِب وَخَزَنَة النَّار.
وَقِيلَ : هَذَا الِاسْتِبْعَاد الَّذِي وَقَعَ لِلْكُفَّارِ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْآن لِلْمُلْحِدَةِ، حَتَّى حَمَلُوا الْجَنَّة وَالنَّار عَلَى نَعِيم أَوْ عِقَاب تَتَخَلَّلهُ الْأَرْوَاح، وَحَمَلُوا وَزْن الْأَعْمَال وَالصِّرَاط وَاللَّوْح وَالْقَلَم عَلَى مَعَان زَوَّرُوهَا فِي أَنْفُسهمْ، دُون مَا فَهِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَوَارِد الشَّرْع، وَإِذَا وَرَدَ خَبَر الصَّادِق بِشَيْءٍ مَوْهُوم فِي الْعَقْل، فَالْوَاجِب تَصْدِيقه وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُون لَهُ تَأْوِيل، ثُمَّ التَّأْوِيل فِي مَوْضِع إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ تَأْوِيل بَاطِل لَا يَجُوز، وَالْمُسْلِمُونَ مُجْمِعُونَ عَلَى الْأَخْذ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء مِنْ غَيْر مَصِير إِلَى عِلْم الْبَاطِن.
وَقِيلَ إِنَّهَا فِتْنَة أَيْ عُقُوبَة لِلظَّالِمِينَ ; كَمَا قَالَ :" ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ " [ الذَّارِيَات : ١٤ ].
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ
أَيْ قَعْر النَّار وَمِنْهَا مَنْشَؤُهَا ثُمَّ هِيَ مُتَفَرِّعَة فِي جَهَنَّم.
طَلْعُهَا
أَيْ ثَمَرهَا ; سُمِّيَ طَلْعًا لِطُلُوعِهِ.
كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ
قِيلَ : يَعْنِي الشَّيَاطِين بِأَعْيَانِهِمْ شَبَّهَهَا بِرُءُوسِهِمْ لِقُبْحِهِمْ، وَرُءُوس الشَّيَاطِين مُتَصَوَّر فِي النُّفُوس وَإِنْ كَانَ غَيْر مَرْئِيٍّ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلهمْ لِكُلِّ قَبِيح هُوَ كَصُورَةِ الشَّيْطَان، وَلِكُلِّ صُورَة حَسَنَة هِيَ كَصُورَةِ مَلَك.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ صَوَاحِب يُوسُف :" مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَك كَرِيم " [ يُوسُف : ٣١ ] وَهَذَا تَشْبِيهٌ تَخْيِيلِيّ ; رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْقُرَظِيّ.
وَمِنْهُ قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس :
وَمَسْنُونَةٍ زُرْقٍ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ
وَإِنْ كَانَتْ الْغُول لَا تُعْرَف ; وَلَكِنْ لِمَا تُصُوِّرَ مِنْ قُبْحهَا فِي النُّفُوس.
وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى :" شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ " [ الْأَنْعَام : ١١٢ ] فَمَرَدَة الْإِنْس شَيَاطِين مَرْئِيَّةٌ.
وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح ( وَلَكَأَنَّ نَخْلهَا رُءُوس الشَّيَاطِين ) وَقَدْ اِدَّعَى كَثِير مِنْ الْعَرَب رُؤْيَة الشَّيَاطِين وَالْغِيلَان.
وَقَالَ الزَّجَّاج وَالْفَرَّاء : الشَّيَاطِين حَيَّات لَهَا رُءُوس وَأَعْرَاف، وَهِيَ مِنْ أَقْبَح الْحَيَّات وَأَخْبَثهَا وَأَخَفِّهَا جِسْمًا.
قَالَ الرَّاجِز وَقَدْ شَبَّهَ الْمَرْأَة بِحَيَّةٍ لَهَا عُرْف :
عَنْجَرِدٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحِمَاطِ أَعْرَفُ
الْوَاحِدَة حَمَاطَة.
وَالْأَعْرَف الَّذِي لَهُ عُرْف.
وَقَالَ الشَّاعِر يَصِف نَاقَتَهُ :
تُلَاعِبُ مَثْنَى حَضْرَمِيٍّ كَأَنَّهُ تَعَمُّجُ شَيْطَانٍ بِذِي خِرْوَعٍ قَفْرِ
التَّعَمُّج : الِاعْوِجَاج فِي السَّيْر.
وَسَهْم عَمُوجٌ : يَتَلَوَّى فِي ذَهَابه.
وَتَعَمَّجَتْ الْحَيَّة : إِذَا تَلَوَّتْ فِي سَيْرهَا.
وَقَالَ يَصِف زِمَام النَّاقَة :
تُلَاعِب مَثْنَى حَضْرَمِيٍّ كَأَنَّهُ تَعَمُّجُ شَيْطَانٍ بِذِي خِرْوَعٍ قَفْر
وَقِيلَ : إِنَّمَا شُبِّهَ ذَلِكَ بِنَبْتٍ قَبِيح فِي الْيَمَن يُقَال لَهُ الْأَسْتَن وَالشَّيْطَان.
قَالَ النَّحَّاس : وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْد الْعَرَب.
الزَّمَخْشَرِيّ : هُوَ شَجَر خَشِن مُنْتِن مُرّ مُنْكَر الصُّورَة يُسَمَّى ثَمَره رُءُوس الشَّيَاطِين.
النَّحَّاس : وَقِيلَ : الشَّيَاطِين ضَرْب مِنْ الْحَيَّات قِبَاح.
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ
فَهَذَا طَعَامهمْ وَفَاكِهَتُهُمْ بَدَلَ رِزْق أَهْل الْجَنَّة.
وَقَالَ فِي [ الْغَاشِيَة ] :" لَيْسَ لَهُمْ طَعَام إِلَّا مِنْ ضَرِيع " [ الْغَاشِيَة : ٦ ] وَسَيَأْتِي.
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا
أَيْ بَعْد الْأَكْل مِنْ الشَّجَرَة
لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ
الشَّوْب الْخَلْط، وَالشَّوْب وَالشُّوب لُغَتَانِ كَالْفَقْرِ وَالْفُقْر وَالْفَتْح أَشْهَر.
قَالَ الْفَرَّاء : شَابَ طَعَامه وَشَرَابه إِذَا خَلَطَهُمَا بِشَيْءٍ يَشُوبُهُمَا شَوْبًا وَشِيَابَة.
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُشَاب لَهُمْ.
وَالْحَمِيم : الْمَاء الْحَارّ لِيَكُونَ أَشْنَع ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ " [ مُحَمَّد : ١٥ ].
السُّدِّيّ : يُشَاب لَهُمْ الْحَمِيم بِغَسَّاق أَعْيُنِهِمْ وَصَدِيدٍ مِنْ قَيْحهمْ وَدِمَائِهِمْ.
وَقِيلَ : يُمْزَج لَهُمْ الزَّقُّوم بِالْحَمِيمِ لِيُجْمَع لَهُمْ بَيْن مَرَارَة الزَّقُّوم وَحَرَارَة الْحَمِيم ; تَغْلِيظًا لِعَذَابِهِمْ وَتَجْدِيدًا لِبَلَائِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ
قِيلَ : إِنَّ هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِين أَكَلُوا الزَّقُّوم فِي عَذَاب غَيْر النَّار ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَيْهَا.
وَقَالَ مُقَاتِل : الْحَمِيم خَارِج الْجَحِيم فَهُمْ يُورَدُونَ الْحَمِيم لِشُرْبِهِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى الْجَحِيم ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" هَذِهِ جَهَنَّم الَّتِي يُكَذِّب بِهَا الْمُجْرِمُونَ.
يَطُوفُونَ بَيْنهَا وَبَيْن حَمِيم آنٍ " [ الرَّحْمَن :
٤٣ - ٤٤ ].
وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود :" ثُمَّ إِنَّ مُنْقَلَبَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيم " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : يَجُوز أَنْ تَكُون " ثُمَّ " بِمَعْنَى الْوَاو.
الْقُشَيْرِيّ : وَلَعَلَّ الْحَمِيم فِي مَوْضِع مِنْ جَهَنَّم عَلَى طَرَف مِنْهَا.
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ
أَيْ صَادَفُوهُمْ كَذَلِكَ فَاقْتَدَوْا بِهِمْ.
فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ
أَيْ يُسْرِعُونَ ; عَنْ قَتَادَة.
وَقَالَ مُجَاهِد : كَهَيْئَةِ الْهَرْوَلَة.
قَالَ الْفَرَّاء : الْإِهْرَاع الْإِسْرَاع بِرَعْدَةٍ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة :" يُهْرَعُونَ " يَسْتَحِثُّونَ مَنْ خَلْفَهُمْ.
وَنَحْوه قَوْل الْمُبَرِّد.
قَالَ : الْمُهْرِع الْمُسْتَحِثّ ; يُقَال : جَاءَ فُلَان يُهْرَعُ إِلَى النَّار إِذَا اِسْتَحَثَّهُ الْبَرْد إِلَيْهَا.
وَقِيلَ : يُزْعَجُونَ مِنْ شِدَّة الْإِسْرَاع ; قَالَهُ الْفَضْل.
الزَّجَّاج : يُقَال هُرِعَ وَأُهْرِعَ إِذَا اُسْتُحِثَّ وَأُزْعِجَ.
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ
أَيْ مِنْ الْأُمَم الْمَاضِيَة.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ
أَيْ رُسُلًا أَنْذَرُوهُمْ الْعَذَاب فَكَفَرُوا.
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ
أَيْ آخِر أَمْرهمْ.
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
أَيْ الَّذِينَ اِسْتَخْلَصَهُمْ اللَّه مِنْ الْكُفْر.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
ثُمَّ قِيلَ : هُوَ اِسْتِثْنَاء مِنْ " الْمُنْذَرِينَ ".
وَقِيلَ هُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى :" وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلهمْ أَكْثَر الْأَوَّلِينَ ".
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ
مِنْ النِّدَاء الَّذِي هُوَ الِاسْتِغَاثَة ; وَدَعَا قِيلَ بِمَسْأَلَةِ هَلَاك قَوْمه فَقَالَ :" رَبّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْض مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا " [ نُوح : ٢٦ ].
فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ
قَالَ الْكِسَائِيّ : أَيْ " فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ " لَهُ كُنَّا.
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ
يَعْنِي أَهْل دِينه، وَهُمْ مَنْ آمَنَ مَعَهُ وَكَانُوا ثَمَانِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
وَهُوَ الْغَرَق.
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا خَرَجَ نُوح مِنْ السَّفِينَة مَاتَ مَنْ مَعَهُ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء إِلَّا وَلَدَهُ وَنِسَاءَهُ ; فَذَلِكَ قَوْله :" وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ".
وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : كَانَ وَلَد نُوح ثَلَاثَة وَالنَّاس كُلّهمْ مِنْ وَلَد نُوح : فَسَام أَبُو الْعَرَب وَفَارِس وَالرُّوم وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَحَام أَبُو السُّودَان مِنْ الْمَشْرِق إِلَى الْمَغْرِب : السِّنْد وَالْهِنْد وَالنُّوب وَالزِّنْج وَالْحَبَشَة وَالْقِبْط وَالْبَرْبَر وَغَيْرهمْ.
وَيَافِث أَبُو الصَّقَالِبَة وَالتُّرْك واللان وَالْخُزْر وَيَأْجُوج وَمَأْجُوج وَمَا هُنَالِكَ.
وَقَالَ قَوْم : كَانَ لِغَيْرِ وَلَد نُوح أَيْضًا نَسْل ; بِدَلِيلِ قَوْله :" ذُرِّيَّة مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح " [ الْإِسْرَاء : ٣ ].
وَقَوْله :" قِيلَ يَا نُوح اِهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَات عَلَيْك وَعَلَى أُمَم مِمَّنْ مَعَك وَأُمَم سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَاب أَلِيم " [ هُود : ٤٨ ] فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَة :" وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ " دُون ذُرِّيَّة مَنْ كَفَرَ أَنَّا أَغْرَقْنَا أُولَئِكَ.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ
أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ ثَنَاء حَسَنًا فِي كُلّ أُمَّة، فَإِنَّهُ مُحَبَّب إِلَى الْجَمِيع ; حَتَّى إِنَّ فِي الْمَجُوس مَنْ يَقُول إِنَّهُ أفريدون.
رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مُجَاهِد وَغَيْره.
وَزَعَمَ الْكِسَائِيّ أَنَّ فِيهِ تَقْدِيرَيْنِ : أَحَدهمَا " وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ " يُقَال :" سَلَام عَلَى نُوح " أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ هَذَا الثَّنَاء الْحَسَن.
وَهَذَا مَذْهَب أَبِي الْعَبَّاس الْمُبَرِّد.
أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَة بَاقِيَة ; يَعْنِي يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ تَسْلِيمًا وَيَدْعُونَ لَهُ ; وَهُوَ مِنْ الْكَلَام الْمَحْكِيّ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" سُورَة أَنْزَلْنَاهَا ".
[ النُّور : ١ ].
وَالْقَوْل الْآخَر أَنْ يَكُون الْمَعْنَى وَأَبْقَيْنَا عَلَيْهِ.
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ
أَيْ سَلَامَة لَهُ مِنْ أَنْ يُذْكَر بِسُوءٍ " فِي الْآخِرِينَ ".
قَالَ الْكِسَائِيّ : وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " سَلَامًا " مَنْصُوب بِـ " تَرَكْنَا " أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ ثَنَاء حَسَنًا سَلَامًا.
وَقِيلَ :" فِي الْآخِرِينَ " أَيْ فِي أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ : فِي الْأَنْبِيَاء إِذْ لَمْ يُبْعَثْ بَعْده نَبِيّ إِلَّا أُمِرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا " [ الشُّورَى : ١٣ ].
وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : وَبَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْ قَالَ حِين يُمْسِي " سَلَام عَلَى نُوح فِي الْعَالَمِينَ " لَمْ تَلْدَغْهُ عَقْرَب.
ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي التَّمْهِيد.
وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ خَوْلَة بِنْت حَكِيم أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّات مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ فَإِنَّهُ لَنْ يَضُرَّهُ شَيْء حَتَّى يَرْتَحِلَ ).
وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ : مَا نِمْت هَذِهِ اللَّيْلَة ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مِنْ أَيِّ شَيْء ) فَقَالَ : لَدَغَتْنِي عَقْرَب ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَمَا إِنَّك لَوْ قُلْت حِين أَمْسَيْت أَعُوذ بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّات مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّك ).
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
أَيْ نُبْقِي عَلَيْهِمْ الثَّنَاء الْحَسَن.
وَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ جَزَاءً كَذَلِكَ.
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
هَذَا بَيَان إِحْسَانه.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ
أَيْ مَنْ كَفَرَ.
وَجَمْعُهُ أُخَرِ.
وَالْأَصْل فِيهِ أَنْ يَكُون مَعَهُ " مِنْ " إِلَّا أَنَّهَا حُذِفَتْ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى مَعْرُوف، وَلَا يَكُون آخِرًا إِلَّا وَقَبْله شَيْء مِنْ جِنْسه.
" ثُمَّ " لَيْسَ لِلتَّرَاخِي هَاهُنَا بَلْ هُوَ لِتَعْدِيدِ النِّعَم ; كَقَوْلِهِ :" أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ.
ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا " [ الْبَلَد :
١٦ - ١٧ ] أَيْ ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنِّي قَدْ أَغْرَقْت الْآخَرِينَ، وَهُمْ الَّذِينَ تَأَخَّرُوا عَنْ الْإِيمَان.
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ مِنْ أَهْل دِينه.
وَقَالَ مُجَاهِد : أَيْ عَلَى مِنْهَاجه وَسُنَّته.
قَالَ الْأَصْمَعِيّ : الشِّيعَة الْأَعْوَان، وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ الشِّيَاع، وَهُوَ الْحَطَب الصِّغَار الَّذِي يُوقَد مَعَ الْكِبَار حَتَّى يُسْتَوْقَد.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَالْفَرَّاء : الْمَعْنَى وَإِنَّ مِنْ شِيعَة مُحَمَّد لَإِبْرَاهِيم.
فَالْهَاء فِي " شِيعَته " عَلَى هَذَا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَعَلَى الْأَوَّل لِنُوحٍ وَهُوَ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُور أَوَّلًا، وَمَا كَانَ بَيْن نُوح وَإِبْرَاهِيم إِلَّا نَبِيَّانِ هُود وَصَالِح، وَكَانَ بَيْن نُوح وَإِبْرَاهِيم أَلْفَانِ وَسِتُّمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً ; حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيّ.
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
أَيْ مُخْلِص مِنْ الشِّرْك وَالشَّكّ.
وَقَالَ عَوْف الْأَعْرَابِيّ : سَأَلْت مُحَمَّد بْن سِيرِينَ مَا الْقَلْب السَّلِيم ؟ فَقَالَ : النَّاصِح لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي خَلْقه.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ غَالِب الْقَطَّان وَعَوْف وَغَيْرهمَا عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُول لِلْحَجَّاجِ : مِسْكِين أَبُو مُحَمَّد ! إِنْ عَذَّبَهُ اللَّه فَبِذَنْبِهِ، وَإِنْ غَفَرَ لَهُ فَهَنِيئًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَلْبه سَلِيمًا فَقَدْ أَصَابَ الذُّنُوبَ مَنْ هُوَ خَيْر مِنْهُ.
قَالَ عَوْف : فَقُلْت لِمُحَمَّدٍ مَا الْقَلْب السَّلِيم ؟ قَالَ : أَنْ يَعْلَم أَنَّ اللَّه حَقّ، وَأَنَّ السَّاعَة قَائِمَة، وَأَنَّ اللَّه يَبْعَث مَنْ فِي الْقُبُور.
وَقَالَ هِشَام بْن عُرْوَة : كَانَ أَبِي يَقُول لَنَا : يَا بَنِيَّ لَا تَكُونُوا لَعَّانِينَ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى إِبْرَاهِيم لَمْ يَلْعَن شَيْئًا قَطُّ، فَقَالَ تَعَالَى :" إِذْ جَاءَ رَبّه بِقَلْبٍ سَلِيم ".
وَيَحْتَمِل مَجِيئهُ إِلَى رَبّه وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا عِنْد دُعَائِهِ إِلَى تَوْحِيده وَطَاعَته ; الثَّانِي عِنْد إِلْقَائِهِ فِي النَّار.
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ
" لِأَبِيهِ " وَهُوَ آزَر، وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِيهِ.
" وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ " تَكُون " مَا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَ " ذَا " خَبَره.
وَيَجُوز أَنْ تَكُون " مَا " وَ " ذَا " فِي مَوْضِع نَصْب بِـ " تَعْبُدُونَ ".
أَئِفْكًا
نَصْب عَلَى الْمَفْعُول بِهِ ; بِمَعْنَى أَتُرِيدُونَ إِفْكًا.
قَالَ الْمُبَرِّد : وَالْإِفْك أَسْوَأ الْكَذِب، وَهُوَ الَّذِي لَا يَثْبُت وَيَضْطَرِب، وَمِنْهُ اِئْتَفَكَتْ بِهِمْ الْأَرْض.
آلِهَةً
بَدَل مِنْ إِفْك
دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ
أَيْ تَعْبُدُونَ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون حَالًا بِمَعْنَى أَتُرِيدُونَ أَلِهَة مِنْ دُون اللَّه آفِكِينَ.
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
أَيْ مَا ظَنُّكُمْ بِهِ إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْره ؟ فَهُوَ تَحْذِير، مِثْل قَوْله :" مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم " [ الِانْفِطَار : ٦ ].
وَقِيلَ : أَيّ شَيْء أُوهِمْتُمُوهُ حَتَّى أَشْرَكْتُمْ بِهِ غَيْره.
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ
قَالَ اِبْن زَيْد عَنْ أَبِيهِ : أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُهُمْ إِنَّ غَدًا عِيدُنَا فَاخْرُجْ مَعَنَا، فَنَظَرَ إِلَى نَجْم طَالِع فَقَالَ : إِنَّ هَذَا يَطْلُع مَعَ سَقَمِي.
وَكَانَ عِلْم النُّجُوم مُسْتَعْمَلًا عِنْدهمْ مَنْظُورًا فِيهِ، فَأَوْهَمَهُمْ هُوَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَة، وَأَرَاهُمْ مِنْ مُعْتَقَدِهِمْ عُذْرًا لِنَفْسِهِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْل رِعَايَة وَفِلَاحَة، وَهَاتَانِ الْمَعِيشَتَانِ يُحْتَاج فِيهِمَا إِلَى نَظَرٍ فِي النُّجُوم.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ عِلْم النُّجُوم مِنْ النُّبُوَّة، فَلَمَّا حَبَسَ اللَّه تَعَالَى الشَّمْس عَلَى يُوشَع بْن نُون أَبْطَلَ ذَلِكَ، فَكَانَ نَظَر إِبْرَاهِيم فِيهَا عِلْمًا نَبَوِيًّا.
وَحَكَى جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك.
كَانَ عِلْم النُّجُوم بَاقِيًا إِلَى زَمَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ فِي مَوْضِع لَا يُطَّلَع عَلَيْهِ مِنْهُ، فَقَالَتْ لَهُمْ مَرْيَم : مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ بِمَوْضِعِهِ ؟ قَالُوا : مِنْ النُّجُوم.
فَدَعَا رَبّه عِنْد ذَلِكَ فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَا تُفْهِمْهُمْ فِي عِلْمهَا، فَلَا يَعْلَم عِلْم النُّجُوم أَحَد ; فَصَارَ حُكْمهَا فِي الشَّرْع مَحْظُورًا، وَعِلْمهَا فِي النَّاس مَجْهُولًا.
قَالَ الْكَلْبِيّ : وَكَانُوا فِي قَرْيَة بَيْن الْبَصْرَة وَالْكُوفَة يُقَال لَهُمْ هُرْمُز جِرْد، وَكَانُوا يَنْظُرُونَ فِي النُّجُوم.
فَهَذَا قَوْل.
وَقَالَ الْحَسَن : الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَلَّفُوهُ الْخُرُوج مَعَهُمْ تَفَكَّرَ فِيمَا يَعْمَل.
فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ نَظَرَ فِيمَا نَجَمَ لَهُ مِنْ الرَّأْي ; أَيْ فِيمَا طَلَعَ لَهُ مِنْهُ، فَعَلِمَ أَنَّ كُلّ حَيّ يَسْقَم فَقَالَ.
" إِنِّي سَقِيم ".
الْخَلِيل وَالْمُبَرِّد : يُقَال لِلرَّجُلِ إِذَا فَكَّرَ فِي الشَّيْء يُدَبِّرُهُ : نَظَرَ فِي النُّجُوم.
وَقِيلَ : كَانَتْ السَّاعَة الَّتِي دَعَوْهُ إِلَى الْخُرُوج مَعَهُمْ فِيهَا سَاعَة تَغْشَاهُ فِيهَا الْحُمَّى.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَنَظَرَ فِيمَا نَجَمَ مِنْ الْأَشْيَاء فَعَلِمَ أَنَّ لَهَا خَالِقًا.
وَمُدَبِّرًا، وَأَنَّهُ يَتَغَيَّر كَتَغَيُّرِهَا.
وَالنُّجُوم يَكُون جَمْع نَجْم وَيَكُون وَاحِدًا مَصْدَرًا.
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ
قَالَ الضَّحَّاك : مَعْنَى " سَقِيم " سَأَسْقَمُ سَقَم الْمَوْت ; لِأَنَّ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الْمَوْت يَسْقَم فِي الْغَالِب ثُمَّ يَمُوت، وَهَذَا تَوْرِيَة وَتَعْرِيض ; كَمَا قَالَ لِلْمَلِكِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ سَارَةَ هِيَ أُخْتِي ; يَعْنِي أُخُوَّة الدِّين.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَالضَّحَّاك أَيْضًا أَشَارَ لَهُمْ إِلَى مَرَض وَسَقَم يُعْدِي كَالطَّاعُونِ، وَكَانُوا يَهْرُبُونَ مِنْ الطَّاعُون، وَرَوَى التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد عَنْ أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ عَنْ أَبِي مَالِك وَأَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَعَنْ سَمُرَة عَنْ الْهَمْدَانِيّ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَالُوا لِإِبْرَاهِيم : إِنَّ لَنَا عِيدًا لَوْ خَرَجْت مَعَنَا لَأَعْجَبَك دِينُنَا.
فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْعِيد خَرَجُوا إِلَيْهِ وَخَرَجَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيق أَلْقَى بِنَفْسِهِ، وَقَالَ إِنِّي سَقِيم أَشْتَكِي رِجْلِي، فَوَطَئُوا رِجْله وَهُوَ صَرِيع، فَلَمَّا مَضَوْا نَادَى فِي آخِرهمْ " وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامكُمْ " [ الْأَنْبِيَاء : ٥٧ ].
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه : وَهَذَا لَيْسَ بِمُعَارِضٍ لِمَا قَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَدْ اِجْتَمَعَ لَهُ أَمْرَانِ.
قُلْت : وَفِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَات... ) الْحَدِيث.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة [ الْأَنْبِيَاء ] وَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَقِيمًا وَإِنَّمَا عَرَّضَ لَهُمْ.
وَقَدْ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ :" إِنَّك مَيِّت وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ " [ الزُّمَر : ٣٠ ].
فَالْمَعْنَى إِنِّي سَقِيم فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَتَوَهَّمُوا هُمْ أَنَّهُ سَقِيم السَّاعَة.
وَهَذَا مِنْ مَعَارِيض الْكَلَام عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهُ الْمَثَل السَّائِر [ كَفَى بِالسَّلَامَةِ دَاءً ] وَقَوْل لَبِيد :
فَدَعَوْت رَبِّي بِالسَّلَامَةِ جَاهِدًا... لِيُصِحَّنِي فَإِذَا السَّلَامَةُ دَاءُ
وَقَدْ مَاتَ رَجُل فَجْأَة فَالْتَفَّ عَلَيْهِ النَّاس فَقَالُوا : مَاتَ وَهُوَ صَحِيح ! فَقَالَ أَعْرَابِيّ : أَصَحِيح مَنْ الْمَوْت فِي عُنُقِهِ ! فَإِبْرَاهِيم صَادِق، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاء لِقُرْبِ مَحَلّهمْ وَاصْطِفَائِهِمْ عُدَّ هَذَا ذَنْبًا ; وَلِهَذَا قَالَ :" وَاَلَّذِي أَطْمَع أَنْ يَغْفِر لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين " [ الشُّعَرَاء : ٨٢ ] وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلّه مُبِينًا وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَقِيلَ : أَرَادَ سَقِيم النَّفْس لِكُفْرِهِمْ.
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ
" فَـ " لِذَلِكَ " تَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ " أَيْ فَارِّينَ مِنْهُ خَوْفًا مِنْ الْعَدْوَى.
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ
قَالَ السُّدِّيّ : ذَهَبَ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ أَبُو مَالِك : جَاءَ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ قَتَادَة : مَالَ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ : عَدَلَ.
وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب.
فَرَاغَ يَرُوغ رَوْغًا وَرَوَغَانًا إِذَا مَالَ.
وَطَرِيق رَائِغ أَيْ مَائِل.
وَقَالَ الشَّاعِر :
فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ
فَخَاطَبَهَا كَمَا يُخَاطِب مَنْ يَعْقِل ; لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَة.
وَكَذَا قِيلَ : كَانَ بَيْن يَدَيْ الْأَصْنَام طَعَام تَرَكُوهُ لِيَأْكُلُوهُ إِذَا رَجَعُوا مِنْ الْعِيد، وَإِنَّمَا تَرَكُوهُ لِتُصِيبَهُ بَرَكَة أَصْنَامهمْ بِزَعْمِهِمْ.
وَقِيلَ : تَرَكُوهُ لِلسَّدَنَةِ.
وَقِيلَ : قَرَّبَ هُوَ إِلَيْهَا طَعَامًا عَلَى جِهَة الِاسْتِهْزَاء ; فَقَالَ :" أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ ".
مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ
فَخَاطَبَهَا كَمَا يُخَاطِب مَنْ يَعْقِل ; لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَة.
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ
خَصَّ الضَّرْب بِالْيَمِينِ لِأَنَّهَا أَقْوَى وَالضَّرْب بِهَا أَشَدّ ; قَالَ الضَّحَّاك وَالرَّبِيع بْن أَنَس.
وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْيَمِينِ الْيَمِين الَّتِي حَلَفَهَا حِين قَالَ :" وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامكُمْ " [ الْأَنْبِيَاء : ٥٧ ].
وَقَالَ الْفَرَّاء وَثَعْلَب : ضَرْبًا بِالْقُوَّةِ وَالْيَمِين الْقُوَّة.
وَقِيلَ : بِالْعَدْلِ وَالْيَمِين هَاهُنَا الْعَدْل.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْض الْأَقَاوِيل.
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ " [ الْحَاقَّة :
٤٤ - ٤٥ ] أَيْ بِالْعَدْلِ، فَالْعَدْل لِلْيَمِينِ وَالْجَوْر لِلشِّمَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَدُوّ عَنْ الشِّمَال وَالْمَعَاصِي عَنْ الشِّمَال وَالطَّاعَة عَنْ الْيَمِين ; وَلِذَلِكَ قَالَ :" إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِين " [ الصَّافَّات : ٢٨ ] أَيْ مِنْ قِبَلِ الطَّاعَة.
فَالْيَمِين هُوَ مَوْضِع الْعَدْل مِنْ الْمُسْلِم، وَالشِّمَال مَوْضِع الْجَوْر.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَايَعَ اللَّه بِيَمِينِهِ يَوْم الْمِيثَاق، فَالْبَيْعَة بِالْيَمِينِ ; فَلِذَلِكَ يُعْطَى كِتَابه غَدًا بِيَمِينِهِ ; لِأَنَّهُ وَفَّى بِالْبَيْعَةِ، وَيُعْطَى النَّاكِث لِلْبَيْعَةِ الْهَارِب بِرَقَبَتِهِ مِنْ اللَّه بِشِمَالِهِ ; لِأَنَّ الْجَوْر هُنَاكَ.
فَقَوْله :" فَرَاغ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ " أَيْ بِذَلِكَ الْعَدْل الَّذِي كَانَ بَايَعَ اللَّه عَلَيْهِ يَوْم الْمِيثَاق ثُمَّ وَفَّى لَهُ هَاهُنَا.
فَجَعَلَ تِلْكَ الْأَوْثَان جُذَاذًا، أَيْ فُتَاتًا كَالْجَذِيذَةِ وَهِيَ السَّوِيق وَلَيْسَ مِنْ قَبِيل الْقُوَّة ; قَالَهُ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ
قَرَأَ حَمْزَة " يُزِفُّونَ " بِضَمِّ الْيَاء.
الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا.
أَيْ يُسْرِعُونَ ; قَالَهُ اِبْن زَيْد.
قَتَادَة وَالسُّدِّيّ : يَمْشُونَ.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَمْشُونَ بِجَمْعِهِمْ عَلَى مَهَل آمَنِينَ أَنْ يُصِيب أَحَد آلِهَتَهُمْ بِسُوءٍ.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَتَسَلَّلُونَ تَسَلُّلًا بَيْن الْمَشْي وَالْعَدْو ; وَمِنْهُ زَفِيف النَّعَامَة.
وَقَالَ الضَّحَّاك : يَسْعَوْنَ وَحَكَى يَحْيَى بْن سَلَّام : يُرْعِدُونَ غَضَبًا.
وَقِيلَ : يَخْتَالُونَ وَهُوَ مَشْي الْخُيَلَاء ; قَالَهُ مُجَاهِد.
وَمِنْهُ أُخِذَ زِفَاف الْعَرُوس إِلَى زَوْجهَا.
وَقَالَ الْفَرَزْدَق :
وَيُرِيك مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ حَلَاوَةً وَيَرُوغُ عَنْك كَمَا يَرُوغُ الثَّعْلَبُ
وَجَاءَ قَرِيعُ الشَّوْلِ قَبْلِ إِفَالِهَا يَزِفُّ وَجَاءَتْ خَلْفَهُ وَهِيَ زُفَّفُ
وَمَنْ قَرَأَ :" يُزِفُّونَ " فَمَعْنَاهُ يُزِفُّونَ غَيْرهمْ أَيْ يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى التَّزْفِيف.
وَعَلَى هَذَا فَالْمَفْعُول مَحْذُوف.
قَالَ الْأَصْمَعِيّ : أَزَفَفْت الْإِبِل أَيْ حَمَلْتهَا عَلَى أَنْ تَزِفّ.
وَقِيلَ : هُمَا لُغَتَانِ يُقَال : زَفَّ الْقَوْم وَأَزَفُّوا، وَزَفَفْت الْعَرُوس وَأَزْفَفْتُهَا وَاِزْدَفَفْتُهَا بِمَعْنًى، وَالْمُزَفَّة : الْمِحَفَّة الَّتِي تُزَفّ فِيهَا الْعَرُوس ; حَكَى ذَلِكَ عَنْ الْخَلِيل.
النَّحَّاس :" وَيُزِفُّونَ " بِضَمِّ الْيَاء.
زَعَمَ أَبُو حَاتِم أَنَّهُ لَا يَعْرِف هَذِهِ اللُّغَة، وَقَدْ عَرَفَهَا جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ الْفَرَّاء وَشَبَّهَهَا بِقَوْلِهِمْ : أَطَرَدْت الرَّجُل أَيْ صَيَّرْته إِلَى ذَلِكَ.
وَطَرَدَتْهُ نَحَّيْته ; وَأَنْشَدَ هُوَ وَغَيْره :
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَنْ يَسُود جِذَاعَةً فَأَمْسَى حُصَيْنٌ قَدْ أُذِلَّ وَأُقْهِرَا
أَيْ صُيِّرَ إِلَى ذَلِكَ ; فَكَذَلِكَ " يُزِفُّونَ " يَصِيرُونَ إِلَى الزَّفِيف.
قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : الزَّفِيف الْإِسْرَاع.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق : الزَّفِيف أَوَّل عَدْو النَّعَام.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم : وَزَعَمَ الْكِسَائِيّ أَنَّ قَوْمًا قَرَءُوا " فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُونَ " خَفِيفَة ; مِنْ وَزَفَ يَزِفُ، مِثْل وَزَنَ يَزِن.
قَالَ النَّحَّاس : فَهَذِهِ حِكَايَة أَبِي حَاتِم وَأَبُو حَاتِم لَمْ يَسْمَع مِنْ الْكِسَائِيّ شَيْئًا.
وَرَوَى الْفَرَّاء وَهُوَ صَاحِب الْكِسَائِيّ عَنْ الْكِسَائِيّ أَنَّهُ لَا يُعْرَف " يَزِفُونَ " مُخَفَّفَة.
قَالَ الْفَرَّاء : وَأَنَا لَا أَعْرِفُهَا.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق : وَقَدْ عَرَّفَهَا غَيْرهمَا أَنَّهُ يُقَال وَزَفَ يَزِف إِذَا أَسْرَعَ.
قَالَ النَّحَّاس : وَلَا نَعْلَم أَحَدًا قَرَأَ " يَزِفُونَ ".
قُلْت : هِيَ قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن يَزِيد فِيمَا ذَكَرَ الْمَهْدَوِيّ.
الزَّمَخْشَرِيّ : وَ " يُزَفُّونَ " عَلَى الْبِنَاء لِلْمَفْعُولِ.
" يُزْفُونَ " مِنْ زَفَاهُ إِذَا حَدَاهُ ; كَأَنَّ بَعْضهمْ يَزِفّ بَعْضًا لِتَسَارُعِهِمْ إِلَيْهِ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَابْن السَّمَيْقَع :" يَرْفُونَ " بِالرَّاءِ مِنْ رَفِيف النَّعَام، وَهُوَ رَكْض بَيْن الْمَشْي وَالطَّيَرَان.
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ
فِيهِ حَذْف ; أَيْ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا، فَقَالَ مُحْتَجًّا :" أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ " أَيْ أَتَعْبُدُونَ أَصْنَامًا أَنْتُمْ تَنْحِتُونَهَا بِأَيْدِيكُمْ تَنْجُرُونَهَا.
وَالنَّحْت النَّجْر وَالْبَرْي نَحَتَهُ يَنْحِتُهُ بِالْكَسْرِ نَحْتًا أَيْ بَرَاهُ.
وَالنُّحَاتَة الْبُرَايَة وَالْمِنْحَت مَا يُنْحَت بِهِ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
" مَا " فِي مَوْضِع نَصْب أَيْ وَخَلَقَ مَا تَعْمَلُونَهُ مِنْ الْأَصْنَام، يَعْنِي الْخَشَب وَالْحِجَارَة وَغَيْرهمَا ; كَقَوْلِهِ :" بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ " [ الْأَنْبِيَاء : ٥٦ ] وَقِيلَ : إِنَّ " مَا " اِسْتِفْهَام وَمَعْنَاهُ التَّحْقِير لِعَمَلِهِمْ.
وَقِيلَ : هِيَ نَفْي، وَالْمَعْنَى وَمَا تَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَكِنَّ اللَّه خَالِقه.
وَالْأَحْسَن أَنْ تَكُون " مَا " مَعَ الْفِعْل مَصْدَرًا، وَالتَّقْدِير وَاَللَّه خَلَقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ وَهَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة : أَنَّ الْأَفْعَال خَلْق لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاكْتِسَاب لِلْعِبَادِ.
وَفِي هَذَا إِبْطَال مَذَاهِب الْقَدَرِيَّة وَالْجَبْرِيَّة.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِنَّ اللَّه خَالِق كُلّ صَانِع وَصَنْعَته ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ.
وَخَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيث حُذَيْفَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ صَنَعَ كُلّ صَانِع وَصَنْعَته فَهُوَ الْخَالِق وَهُوَ الصَّانِع سُبْحَانه ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُمَا فِي الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى.
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ
أَيْ تَشَاوَرُوا فِي أَمْره لَمَّا غَلَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ فِي [ الْأَنْبِيَاء ] بَيَانه فَـ " قَالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْيَانًا " تَمْلَئُونَهُ حَطَبًا فَتُضْرِمُونَهُ، ثُمَّ أَلْقُوهُ فِيهِ وَهُوَ الْجَحِيم.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : بَنَوْا حَائِطًا مِنْ حِجَارَة طُولُهُ فِي السَّمَاء ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَمَلَئُوهُ نَارًا وَطَرَحُوهُ فِيهَا.
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن الْعَاص : فَلَمَّا صَارَ فِي الْبُنْيَان قَالَ : حَسْبِيَ اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل.
وَالْأَلِف وَاللَّام فِي " الْجَحِيم " تَدُلّ عَلَى الْكِنَايَة ; أَيْ فِي جَحِيمه ; أَيْ فِي جَحِيم ذَلِكَ الْبُنْيَان.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ : أَنَّ قَائِل ذَلِكَ اِسْمه الهيزن رَجُل مِنْ أَعْرَاب فَارِس وَهُمْ التَّرْك، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيث :( بَيْنَمَا رَجُل يَمْشِي فِي حُلَّة لَهُ يَتَبَخْتَر فِيهَا فَخُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَل فِي الْأَرْض إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) وَاَللَّه أَعْلَم.
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا
أَيْ بِإِبْرَاهِيم.
وَالْكَيْد الْمَكْر ; أَيْ اِحْتَالُوا لِإِهْلَاكِهِ.
فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ
الْمَقْهُورِينَ الْمَغْلُوبِينَ إِذْ نَفَذَتْ حُجَّتُهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُهَا، وَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ مَكْرُهُمْ وَلَا كَيْدُهُمْ.
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ
هَذِهِ الْآيَة أَصْل فِي الْهِجْرَة وَالْعُزْلَة.
وَأَوَّل مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، وَذَلِكَ حِين خَلَّصَهُ اللَّه مِنْ النَّار " قَالَ إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي " أَيْ مُهَاجِر مِنْ بَلَد قَوْمِي وَمَوْلِدِي إِلَى حَيْثُ أَتَمَكَّنُ مِنْ عِبَادَة رَبِّي فَإِنَّهُ " سَيَهْدِينِ " فِيمَا نَوَيْت إِلَى الصَّوَاب.
قَالَ مُقَاتِل : هُوَ أَوَّل مَنْ هَاجَرَ مِنْ الْخَلْق مَعَ لُوط وَسَارَة، إِلَى الْأَرْض الْمُقَدَّسَة وَهِيَ أَرْض الشَّام.
وَقِيلَ : ذَاهِب بِعَمَلِي وَعِبَادَتِي، وَقَلْبِي وَنِيَّتِي.
فَعَلَى هَذَا ذَهَابه بِالْعَمَلِ لَا بِالْبَدَنِ.
وَقَدْ مَضَى بَيَان هَذَا فِي [ الْكَهْف ] مُسْتَوْفًى.
وَعَلَى الْأَوَّل بِالْمُهَاجَرَةِ إِلَى الشَّام وَبَيْت الْمَقْدِس.
وَقِيلَ : خَرَجَ إِلَى حَرَّان فَأَقَامَ بِهَا مُدَّة.
ثُمَّ قِيلَ : قَالَ ذَلِكَ لِمَنْ فَارَقَهُ مِنْ قَوْمه ; فَيَكُون ذَلِكَ تَوْبِيخًا لَهُمْ.
وَقِيلَ : قَالَهُ لِمَنْ هَاجَرَ مَعَهُ مِنْ أَهْله ; فَيَكُون ذَلِكَ مِنْهُ تَرْغِيبًا.
وَقِيلَ : قَالَ هَذَا قَبْل إِلْقَائِهِ فِي النَّار.
وَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْل تَأْوِيلَانِ : أَحَدهمَا : إِنِّي ذَاهِب إِلَى مَا قَضَاهُ عَلَيَّ رَبِّي.
الثَّانِي : إِنِّي مَيِّت ; كَمَا يُقَال لِمَنْ مَاتَ : قَدْ ذَهَبَ إِلَى اللَّه تَعَالَى ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام تَصَوَّرَ أَنَّهُ يَمُوت بِإِلْقَائِهِ فِي النَّار، عَلَى الْمَعْهُود مِنْ حَالهَا فِي تَلَف مَا يُلْقَى فِيهَا، إِلَى أَنْ قِيلَ لَهَا :" كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا " فَحِينَئِذٍ سَلِمَ إِبْرَاهِيم مِنْهَا.
وَفِي قَوْله :" سَيَهْدِينِ " عَلَى هَذَا الْقَوْل تَأْوِيلَانِ : أَحَدهمَا " سَيَهْدِينِ " إِلَى الْخَلَاص مِنْهَا.
الثَّانِي : إِلَى الْجَنَّة.
وَقَالَ سُلَيْمَان اِبْن صُرَد وَهُوَ مِمَّنْ أَدْرَكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا أَرَادُوا إِلْقَاء إِبْرَاهِيم فِي النَّار جَعَلُوا يَجْمَعُونَ لَهُ الْحَطَب ; فَجَعَلَتْ الْمَرْأَة الْعَجُوز تَحْمِل عَلَى ظَهْرِهَا وَتَقُول : أَذْهَبُ بِهِ إِلَى هَذَا الَّذِي يَذْكُر آلِهَتَنَا ; فَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ لِيُطْرَح فِي النَّار " قَالَ إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي ".
فَلَمَّا طُرِحَ فِي النَّار قَالَ :( حَسْبِيَ اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل ) فَقَالَ اللَّه تَعَالَى :" يَا نَار كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا " [ الْأَنْبِيَاء : ٦٩ ] فَقَالَ أَبُو لُوط وَكَانَ اِبْن عَمِّهِ : إِنَّ النَّار لَمْ تُحْرِقْهُ مِنْ أَجْل قَرَابَتِهِ مِنِّي.
فَأَرْسَلَ اللَّه عُنُقًا مِنْ النَّار فَأَحْرَقَهُ.
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ
لَمَّا عَرَّفَهُ اللَّه أَنَّهُ مُخَلِّصُهُ دَعَا اللَّه لِيُعَضِّدَهُ بِوَلَدٍ يَأْنَس بِهِ فِي غُرْبَته.
وَقَدْ مَضَى فِي [ آل عِمْرَان ] الْقَوْل فِي هَذَا.
وَفِي الْكَلَام حَذْف ; أَيْ هَبْ لِي وَلَدًا صَالِحًا مِنْ الصَّالِحِينَ، وَحَذْف مِثْل هَذَا كَثِير.
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ
أَيْ إِنَّهُ يَكُون حَلِيمًا فِي كِبَرِهِ فَكَأَنَّهُ بُشِّرَ بِبَقَاءِ ذَلِكَ الْوَلَد ; لِأَنَّ الصَّغِير لَا يُوصَف بِذَلِكَ، فَكَانَتْ الْبُشْرَى عَلَى أَلْسِنَة الْمَلَائِكَة كَمَا تَقَدَّمَ فِي [ هُود ].
وَيَأْتِي أَيْضًا فِي [ الذَّارِيَات ].
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ
أَيْ فَوَهَبْنَا لَهُ الْغُلَام ; فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ الْمَبْلَغ الَّذِي يَسْعَى مَعَ أَبِيهِ فِي أُمُور دُنْيَاهُ مُعِينًا لَهُ عَلَى أَعْمَاله " قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَام أَنِّي أَذْبَحك ".
وَقَالَ مُجَاهِد :" فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْي " أَيْ شَبَّ وَأَدْرَكَ سَعْيُهُ سَعْيَ إِبْرَاهِيم.
وَقَالَ الْفَرَّاء : كَانَ يَوْمئِذٍ اِبْن ثَلَاث عَشْرَة سَنَة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الِاحْتِلَام.
قَتَادَة : مَشَى مَعَ أَبِيهِ.
الْحَسَن وَمُقَاتِل : هُوَ سَعْي الْعَقْل الَّذِي تَقُوم بِهِ الْحُجَّة.
اِبْن زَيْد : هُوَ السَّعْي فِي الْعِبَادَة.
اِبْن عَبَّاس : صَامَ وَصَلَّى، أَلَمْ تَسْمَعْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول :" وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا " [ الْإِسْرَاء : ١٩ ].
قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَأْمُور بِذَبْحِهِ.
فَقَالَ أَكْثَرهمْ : الذَّبِيح إِسْحَاق.
وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب وَابْنه عَبْد اللَّه وَهُوَ الصَّحِيح عَنْهُ.
رَوَى الثَّوْرِيّ وَابْن جُرَيْج يَرْفَعَانِهِ إِلَى اِبْن عَبَّاس قَالَ : الذَّبِيح إِسْحَاق.
وَهُوَ الصَّحِيح عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ : يَا بْن الْأَشْيَاخ الْكِرَام.
فَقَالَ عَبْد اللَّه : ذَلِكَ يُوسُف بْن يَعْقُوب بْن إِسْحَاق ذَبِيح اللَّه اِبْن إِبْرَاهِيم خَلِيل اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى حَمَّاد بْن زَيْد يَرْفَعهُ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِنَّ الْكَرِيم اِبْن الْكَرِيم اِبْن الْكَرِيم اِبْن الْكَرِيم يُوسُف بْن يَعْقُوب بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ ).
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْر عَنْ جَابِر قَالَ : الذَّبِيح إِسْحَاق.
وَذَلِكَ مَرْوِيّ أَيْضًا عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : أَنَّ الذَّبِيح إِسْحَاق.
وَهُوَ قَوْل عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
فَهَؤُلَاءِ سَبْعَة مِنْ الصَّحَابَة.
وَقَالَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرهمْ عَلْقَمَة وَالشَّعْبِيّ وَمُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَكَعْب الْأَحْبَار وَقَتَادَة وَمَسْرُوق وَعِكْرِمَة وَالْقَاسِم بْن أَبِي بَزَّة وَعَطَاء وَمُقَاتِل وَعَبْد الرَّحْمَن بْن سَابِط وَالزُّهْرِيّ وَالسُّدِّيّ وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي الْهُذَيْل وَمَالِك بْن أَنَس، كُلّهمْ قَالُوا : الذَّبِيح إِسْحَاق.
وَعَلَيْهِ أَهْل الْكِتَابَيْنِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَاخْتَارَهُ غَيْر وَاحِد مِنْهُمْ النَّحَّاس وَالطَّبَرِيّ وَغَيْرهمَا.
قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : أُرِيَ إِبْرَاهِيم ذَبْح إِسْحَاق فِي الْمَنَام، فَسَارَ بِهِ مَسِيرَةَ شَهْر فِي غَدَاة وَاحِدَة، حَتَّى أَتَى بِهِ الْمَنْحَرَ مِنْ مِنًى ; فَلَمَّا صَرَفَ اللَّه عَنْهُ الذَّبْح وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْبَح الْكَبْش فَذَبَحَهُ، وَسَارَ بِهِ مَسِيرَة شَهْر فِي رَوْحَة وَاحِدَة طُوِيَتْ لَهُ الْأَوْدِيَة وَالْجِبَال.
وَهَذَا الْقَوْل أَقْوَى فِي النَّقْل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ إِسْمَاعِيل.
وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو الطُّفَيْل عَامِر بْن وَاثِلَة.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس أَيْضًا، وَمِنْ التَّابِعِينَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالشَّعْبِيّ وَيُوسُف بْن مِهْرَان وَمُجَاهِد وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَمُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ وَالْكَلْبِيّ وَعَلْقَمَة.
وَسُئِلَ أَبُو سَعِيد الضَّرِير عَنْ الذَّبِيح فَأَنْشَدَ :
وَعَنْ الْأَصْمَعِيّ قَالَ : سَأَلْت أَبَا عَمْرو بْن الْعَلَاء عَنْ الذَّبِيح، فَقَالَ : يَا أَصْمَعِيُّ أَيْنَ عَزَبَ عَنْك عَقْلُك ! وَمَتَى كَانَ إِسْحَاق بِمَكَّةَ ؟ وَإِنَّمَا كَانَ إِسْمَاعِيل بِمَكَّة، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْت مَعَ أَبِيهِ وَالْمَنْحَر بِمَكَّة.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَنَّ الذَّبِيح إِسْمَاعِيل ) وَالْأَوَّل أَكْثَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابه وَعَنْ التَّابِعِينَ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيم حِين فَارَقَ قَوْمه، فَهَاجَرَ إِلَى الشَّام مَعَ اِمْرَأَته سَارَة وَابْن أَخِيهِ لُوط فَقَالَ :" إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ " أَنَّهُ دَعَا فَقَالَ :" رَبّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ " فَقَالَ تَعَالَى :" فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب " [ مَرْيَم : ٤٩ ] ; وَلِأَنَّ اللَّه قَالَ :" وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم " فَذَكَرَ أَنَّ الْفِدَاء فِي الْغُلَام الْحَلِيم الَّذِي بُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيم وَإِنَّمَا بُشِّرَ بِإِسْحَاق ; لِأَنَّهُ قَالَ :" وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاق "، وَقَالَ هُنَا :" بِغُلَامٍ حَلِيمٍ " وَذَلِكَ قَبْل أَنْ يَتَزَوَّج هَاجَرَ وَقَبْل أَنْ يُولَد لَهُ إِسْمَاعِيل، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن أَنَّهُ بُشِّرَ بِوَلَدٍ إِلَّا إِسْحَاق.
اِحْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِسْمَاعِيل : بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَهُ بِالصَّبْرِ دُون إِسْحَاق فِي قَوْله تَعَالَى :" وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيس وَذَا الْكِفْل كُلّ مِنْ الصَّابِرِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : ٨٥ ] وَهُوَ صَبْره عَلَى الذَّبْح، وَوَصَفَهُ بِصِدْقِ الْوَعْد فِي قَوْله :" إِنَّهُ كَانَ صَادِق الْوَعْد " [ مَرْيَم : ٥٤ ] ; لِأَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ مِنْ نَفْسه الصَّبْر عَلَى الذَّبْح فَوَفَّى بِهِ ; وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :" وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا " فَكَيْف يَأْمُرهُ بِذَبْحِهِ وَقَدْ وَعَدَهُ أَنْ يَكُون نَبِيًّا، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :" فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاق وَمِنْ وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب " [ هُود : ٧١ ] فَكَيْف يُؤْمَر بِذَبْحِ إِسْحَاق قَبْل إِنْجَاز الْوَعْد فِي يَعْقُوب.
وَأَيْضًا وَرَدَ فِي الْأَخْبَار تَعْلِيق قَرْن الْكَبْش فِي الْكَعْبَة، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الذَّبِيح إِسْمَاعِيل، وَلَوْ كَانَ إِسْحَاق لَكَانَ الذَّبْح يَقَع بِبَيْتِ الْمَقْدِس.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَال كُلّه لَيْسَ بِقَاطِعٍ ; أَمَّا قَوْلهمْ : كَيْف يَأْمُرهُ بِذَبْحِهِ وَقَدْ وَعَدَهُ بِأَنَّهُ يَكُون نَبِيًّا، فَإِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : وَبَشَّرْنَاهُ بِنُبُوَّتِهِ بَعْد أَنْ كَانَ مِنْ أَمْره مَا كَانَ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَسَيَأْتِي.
وَلَعَلَّهُ أُمِرَ بِذَبْحِ إِسْحَاق بَعْد أَنْ وُلِدَ لِإِسْحَاق يَعْقُوب.
وَيُقَال : لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآن أَنَّ يَعْقُوب يُولَد مِنْ إِسْحَاق.
وَأَمَّا قَوْلهمْ : وَلَوْ كَانَ الذَّبِيح إِسْحَاق لَكَانَ الذَّبْح يَقَع بِبَيْتِ الْمَقْدِس، فَالْجَوَاب عَنْهُ مَا قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الزَّجَّاج : اللَّه أَعْلَم أَيّهمَا الذَّبِيح.
وَهَذَا مَذْهَب ثَالِث.
قَالَ مُقَاتِل : رَأَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ثَلَاث لَيَالٍ مُتَتَابِعَات.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : كَانَتْ الرُّسُل يَأْتِيهِمْ الْوَحْي مِنْ اللَّه تَعَالَى أَيْقَاظًا وَرُقُودًا ; فَإِنَّ الْأَنْبِيَاء لَا تَنَام قُلُوبهمْ.
وَهَذَا ثَابِت فِي الْخَبَر الْمَرْفُوع، قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّا مُعَاشِر الْأَنْبِيَاء تَنَام أَعْيُننَا وَلَا تَنَام قُلُوبنَا ).
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : رُؤْيَا الْأَنْبِيَاء وَحْي ; وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة.
وَقَالَ السُّدِّيّ : لَمَّا بُشِّرَ إِبْرَاهِيم بِإِسْحَاق قَبْل أَنْ يُولَد لَهُ قَالَ هُوَ إِذًا لِلَّهِ ذَبِيح.
فَقِيلَ لَهُ فِي مَنَامه : قَدْ نَذَرْت نَذْرًا فَفِ بِنَذْرِك.
وَيُقَال : إِنَّ إِبْرَاهِيم رَأَى فِي لَيْلَة التَّرْوِيَة كَأَنَّ قَائِلًا يَقُول : إِنَّ اللَّه يَأْمُرُك بِذَبْحِ اِبْنك ; فَلَمَّا أَصْبَحَ رَوَّى فِي نَفْسه أَيْ فَكَّرَ أَهَذَا الْحُلْم مِنْ اللَّه أَمْ مِنْ الشَّيْطَان ؟ فَسُمِّيَ يَوْم التَّرْوِيَة.
فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَة الثَّانِيَة رَأَى ذَلِكَ أَيْضًا وَقِيلَ لَهُ الْوَعْد، فَلَمَّا أَصْبَحَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ اللَّه فَسُمِّيَ يَوْم عَرَفَة.
ثُمَّ رَأَى مِثْله فِي اللَّيْلَة الثَّالِثَة فَهَمَّ بِنَحْرِهِ فَسُمِّيَ يَوْم النَّحْر.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذَبَحَهُ قَالَ جِبْرِيل : اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر.
فَقَالَ الذَّبِيح : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر.
فَقَالَ إِبْرَاهِيم : اللَّه أَكْبَر وَالْحَمْد لِلَّهِ ; فَبَقِيَ سُنَّة.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي وُقُوع هَذَا الْأَمْر فَقَالَ أَهْل السُّنَّة : إِنَّ نَفْس الذَّبْح لَمْ يَقَع، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْأَمْر بِالذَّبْحِ قَبْل أَنْ يَقَع الذَّبْح، وَلَوْ وَقَعَ لَمْ يُتَصَوَّر رَفْعُهُ، فَكَانَ هَذَا مِنْ بَاب النَّسْخ قَبْل الْفِعْل ; لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْفَرَاغ مِنْ اِمْتِثَال الْأَمْر بِالذَّبْحِ مَا تَحَقَّقَ الْفِدَاء.
وَقَوْله تَعَالَى :" قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا " : أَيْ حَقَّقْت مَا نَبَّهْنَاك عَلَيْهِ، وَفَعَلْت مَا أَمْكَنَك ثُمَّ اِمْتَنَعْت لَمَّا مَنَعْنَاك.
هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ بِهِ فِي هَذَا الْبَاب.
وَقَالَتْ طَائِفَة : لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُنْسَخ بِوَجْهٍ ; لِأَنَّ مَعْنَى ذَبَحْت الشَّيْء قَطَعْته.
وَاسْتُدِلَّ عَلَى هَذَا بِقَوْلِ مُجَاهِد : قَالَ إِسْحَاق لِإِبْرَاهِيم لَا تَنْظُرْ إِلَيَّ فَتَرْحَمَنِي، وَلَكِنْ اِجْعَلْ وَجْهِي إِلَى الْأَرْض ; فَأَخَذَ إِبْرَاهِيم السِّكِّين فَأَمَرَّهَا عَلَى حَلْقَهُ فَانْقَلَبَتْ.
فَقَالَ لَهُ مَا لَك ؟ قَالَ : اِنْقَلَبَتْ السِّكِّين.
قَالَ اِطْعَنِّي بِهَا طَعْنًا.
وَقَالَ بَعْضهمْ : كَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا اِلْتَأَمَ.
وَقَالَتْ طَائِفَة : وَجَدَ حَلْقَهُ نُحَاسًا أَوْ مُغَشًّى بِنُحَاسٍ، وَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَ قَطْعًا وَجَدَ مَنْعًا.
وَهَذَا كُلّه جَائِز فِي الْقُدْرَة الْإِلَهِيَّة.
لَكِنَّهُ يَفْتَقِر إِلَى نَقْل صَحِيح، فَإِنَّهُ أَمْر لَا يُدْرَك بِالنَّظَرِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَر.
وَلَوْ كَانَ قَدْ جَرَى ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ اللَّه تَعَالَى تَعْظِيمًا لِرُتْبَةِ إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمَا، وَكَانَ أَوْلَى بِالْبَيَانِ مِنْ الْفِدَاء.
وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّ إِبْرَاهِيم مَا أُمِرَ بِالذَّبْحِ الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ فَرْي الْأَوْدَاج وَإِنْهَار الدَّم، وَإِنَّمَا رَأَى أَنَّهُ أَضْجَعَهُ لِلذَّبْحِ فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالذَّبْحِ الْحَقِيقِيّ، فَلَمَّا أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِضْجَاع قِيلَ لَهُ :" قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا " وَهَذَا كُلّه خَارِج عَنْ الْمَفْهُوم.
وَلَا يُظَنّ بِالْخَلِيلِ وَالذَّبِيح أَنْ يَفْهَمَا مِنْ هَذَا الْأَمْر مَا لَيْسَ لَهُ حَقِيقَة حَتَّى يَكُون مِنْهُمَا التَّوَهُّم.
وَأَيْضًا لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَشْيَاء لَمَا اُحْتِيجَ إِلَى الْفِدَاء.
أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا
قَرَأَ أَهْل الْكُوفَة غَيْر عَاصِم " مَاذَا تُرِي " بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر الرَّاء مِنْ أَرَى يُرِي.
قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ فَانْظُرْ مَاذَا تُرِي مِنْ صَبْرك وَجَزَعك.
قَالَ الزَّجَّاج : لَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَد غَيْره، وَإِنَّمَا قَالَ الْعُلَمَاء مَاذَا تُشِير ; أَيْ مَا تُرِيك نَفْسك مِنْ الرَّأْي.
وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْد " تُرِي " وَقَالَ : إِنَّمَا يَكُون هَذَا مِنْ رُؤْيَة الْعَيْن خَاصَّة.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَاتِم.
النَّحَّاس : وَهَذَا غَلَط، وَهَذَا يَكُون مِنْ رُؤْيَة الْعَيْن وَغَيْرهَا وَهُوَ مَشْهُور، يُقَال : أَرَيْت فُلَانًا الصَّوَابَ، وَأَرَيْته رُشْدَهُ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ رُؤْيَة الْعَيْن.
الْبَاقُونَ " تَرَى " مُضَارِع رَأَيْت.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاك وَالْأَعْمَش " تُرَى " غَيْر مُسَمَّى الْفَاعِل.
وَلَمْ يَقُلْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْه الْمُؤَامَرَة فِي أَمْر اللَّه، وَإِنَّمَا شَاوَرَهُ لِيَعْلَم صَبْره لِأَمْرِ اللَّه ; أَوْ لِتَقَرَّ عَيْنه إِذَا رَأَى مِنْ اِبْنه طَاعَة فِي أَمْر اللَّه.
تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ
أَيْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ فَحُذِفَ الْجَارّ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْله :
أَمَرْتُك الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْت بِهِ
فَوَصَلَ الْفِعْل إِلَى الضَّمِير فَصَارَ تُؤْمَرُهُ ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَاء ; كَقَوْلِ :" وَسَلَام عَلَى عِبَاده الَّذِينَ اِصْطَفَى " [ النَّمْل : ٥٩ ] أَيْ اِصْطَفَاهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَ " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي.
وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي " يَا أَبَتِ " [ يُوسُف : ٤ ] وَكَذَلِكَ فِي " يَا بُنَيَّ " [ يُوسُف : ٥ ] فِي " يُوسُف " وَغَيْرهَا.
مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ
قَالَ بَعْض أَهْل الْإِشَارَة : لَمَّا اِسْتَثْنَى وَفَّقَهُ اللَّه لِلصَّبْرِ.
فَلَمَّا أَسْلَمَا
أَيْ اِنْقَادَا لِأَمْرِ اللَّه.
وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعَلِيّ رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ " فَلَمَّا سَلَّمَا " أَيْ فَوَّضَا أَمْرهمَا إِلَى اللَّه.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : اِسْتَسْلَمَا.
وَقَالَ قَتَادَة : أَسْلَمَ أَحَدهمَا نَفْسه لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَسْلَمَ الْآخَر اِبْنه.
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
قَالَ قَتَادَة : كَبَّهُ وَحَوَّلَ وَجْهه إِلَى الْقِبْلَة.
وَجَوَاب " لَمَّا " مَحْذُوف عِنْد الْبَصْرِيِّينَ تَقْدِيره " فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ " فَدَيْنَاهُ بِكَبْشٍ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : الْجَوَاب " نَادَيْنَاهُ " وَالْوَاو زَائِدَة مُقْحَمَة ; كَقَوْلِهِ :" فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَة الْجُبّ وَأَوْحَيْنَا " [ يُوسُف : ١٥ ] أَيْ أَوْحَيْنَا.
وَقَوْله :" وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ " [ الْأَنْبِيَاء : ٩٦ ].
" وَاقْتَرَبَ " أَيْ اِقْتَرَبَ.
وَقَوْله :" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابهَا وَقَالَ " [ الزُّمَر : ٧٣ ] أَيْ قَالَ لَهُمْ.
وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس :
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى
أَيْ اِنْتَحَى، وَالْوَاو زَائِدَة.
وَقَالَ أَيْضًا :
إِنَّ الذَّبِيحَ هُدِيت إِسْمَاعِيلُ نَطَقَ الْكِتَابُ بِذَاكَ وَالتَّنْزِيلُ
شَرَفٌ بِهِ خَصَّ الْإِلَهُ نَبِيَّنَا وَأَتَى بِهِ التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ
إِنْ كُنْت أُمَّتَهُ فَلَا تُنْكِرْ لَهُ شَرَفًا بِهِ قَدْ خَصَّهُ التَّفْضِيلُ
حَتَّى إِذَا حَمَلَتْ بُطُونُكُمْ وَرَأَيْتُمْ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا
وَقَلَبْتُمْ ظَهْرَ الْمِجَنِّ لَنَا إِنَّ اللَّئِيمَ الْفَاجِرُ الْخِبُّ
أَرَادَ قَلَبْتُمْ.
النَّحَّاس : وَالْوَاو مِنْ حُرُوف الْمَعَانِي لَا يَجُوز أَنْ تُزَاد.
وَفِي الْخَبَر : إِنَّ الذَّبِيح قَالَ لِإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام حِين أَرَادَ ذَبْحَهُ : يَا أَبَتِ اُشْدُدْ رِبَاطِي حَتَّى لَا أَضْطَرِبَ ; وَاكْفُفْ ثِيَابَك لِئَلَّا يَنْتَضِحَ عَلَيْهَا شَيْء مِنْ دَمِي فَتَرَاهُ أُمِّي فَتَحْزَنَ، وَأَسْرِعْ مَرَّ السِّكِّين عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ الْمَوْت أَهْوَنَ عَلَيَّ وَاقْذِفْنِي لِلْوَجْهِ ; لِئَلَّا تَنْظُر إِلَى وَجْهِي فَتَرْحَمنِي، وَلِئَلَّا أَنْظُر إِلَى الشَّفْرَة فَأَجْزَع، وَإِذَا أَتَيْت إِلَى أُمِّي فَأَقْرِئْهَا مِنِّي السَّلَام.
فَلَمَّا جَرَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام السِّكِّين ضَرَبَ اللَّه عَلَيْهِ صَفِيحَة مِنْ نُحَاس، فَلَمْ تَعْمَل السِّكِّين شَيْئًا، ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ عَلَى جَبِينه وَحَزَّ فِي قَفَاهُ فَلَمْ تَعْمَل السِّكِّين شَيْئًا ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ " كَذَلِكَ قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَعْنَاهُ كَبَّهُ عَلَى وَجْهه فَنُودِيَ " يَا إِبْرَاهِيم قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا " فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِكَبْشٍ ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَة إِلَى عَدَم صِحَّته، وَأَنَّ الْمَعْنَى لَمَّا اِعْتَقَدَ الْوُجُوب وَتَهَيَّأَ لِلْعَمَلِ ; هَذَا بِهَيْئَةِ الذَّبْح، وَهَذَا بِصُورَةِ الْمَذْبُوح، أُعْطِيَا مَحَلًّا لِلذَّبْحِ فِدَاء وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَرُّ سِكِّين.
وَعَلَى هَذَا يُتَصَوَّر النَّسْخ قَبْل الْفِعْل عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ :" وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ " أَيْ صَرَعَهُ ; كَمَا تَقُول : كَبَّهُ لِوَجْهِهِ.
الْهَرَوِيّ : وَالتَّلّ الدَّفْع وَالصَّرْع ; وَمِنْهُ حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُ :( وَتَرَكُوك لِمَتَلِّك ) أَيْ لِمَصْرَعِك.
وَفِي حَدِيث آخَر :( فَجَاءَ بِنَاقَةٍ كَوْمَاءَ فَتَلَّهَا ) أَيْ أَنَاخَهَا.
وَفِي الْحَدِيث :( بَيْنَا أَنَا نَائِم أُتِيت بِمَفَاتِيح خَزَائِن الْأَرْض فَتُلَّتْ فِي يَدِي ) قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : أَيْ فَأُلْقِيَتْ فِي يَدِي ; يُقَال : تَلَلْت الرَّجُل إِذَا أَلْقَيْته.
قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : فَصُبَّتْ فِي يَدِي ; وَالتَّلّ الصَّبّ ; يُقَال : تَلَّ يَتُلّ إِذَا صَبَّ، وَتَلَّ يَتِلّ بِالْكَسْرِ إِذَا سَقَطَ.
قُلْت : وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ سَهْل بْن سَعْد السَّاعِدِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينه غُلَام وَعَنْ يَسَاره أَشْيَاخ ; فَقَالَ لِلْغُلَامِ :( أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِي هَؤُلَاءِ ) فَقَالَ الْغُلَام : لَا وَاَللَّه، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْك أَحَدًا.
قَالَ ; فَتَلَّهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَده ; يُرِيد جَعَلَهُ فِي يَده.
وَقَالَ بَعْض أَهْل الْإِشَارَة : إِنَّ إِبْرَاهِيم اِدَّعَى مَحَبَّة اللَّه، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْوَلَد بِالْمَحَبَّةِ، فَلَمْ يَرْضَ حَبِيبه مَحَبَّةً مُشْتَرَكَةً ; فَقِيلَ لَهُ : يَا إِبْرَاهِيم اِذْبَحْ وَلَدَك فِي مَرْضَاتِي، فَشَمَّرَ وَأَخَذَ السِّكِّين وَأَضْجَعَ وَلَده، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ تَقَبَّلْهُ مِنِّي فِي مَرْضَاتِك.
فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ : يَا إِبْرَاهِيم لَمْ يَكُنْ الْمُرَاد ذَبْح الْوَلَد، وَإِنَّمَا الْمُرَاد أَنْ تَرُدَّ قَلْبَك إِلَيْنَا، فَلَمَّا رَدَدْت قَلْبك بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْنَا رَدَدْنَا وَلَدَكَ إِلَيْكَ.
وَقَالَ كَعْب وَغَيْره : لَمَّا أُرِيَ إِبْرَاهِيم ذَبْح وَلَده فِي مَنَامه، قَالَ الشَّيْطَان : وَاَللَّه لَئِنْ لَمْ أَفْتِنْ عِنْد هَذَا آلَ إِبْرَاهِيم لَا أَفْتِن مِنْهُمْ أَحَدًا أَبَدًا.
فَتَمَثَّلَ الشَّيْطَان لَهُمْ فِي صُورَة الرَّجُل، ثُمَّ أَتَى أُمّ الْغُلَام وَقَالَ : أَتَدْرِينَ أَيْنَ يَذْهَب إِبْرَاهِيم بِابْنِك ؟ قَالَتْ : لَا.
قَالَ : إِنَّهُ يَذْهَب بِهِ لِيَذْبَحَهُ.
قَالَتْ : كَلَّا هُوَ أَرْأَفُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ.
فَقَالَ : إِنَّهُ يَزْعُم أَنَّ رَبّه أَمَرَهُ بِذَلِكَ.
قَالَتْ : فَإِنْ كَانَ رَبّه قَدْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنَ أَنْ يُطِيعَ رَبّه.
ثُمَّ أَتَى الْغُلَام فَقَالَ : أَتَدْرِي أَيْنَ يَذْهَب بِك أَبُوك ؟ قَالَ : لَا.
قَالَ : فَإِنَّهُ يَذْهَب بِك لِيَذْبَحَك.
قَالَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : زَعَمَ أَنَّ رَبّه أَمَرَهُ بِذَلِكَ.
قَالَ : فَلْيَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ اللَّه بِهِ، سَمْعًا وَطَاعَة لِأَمْرِ اللَّه.
ثُمَّ جَاءَ إِبْرَاهِيم فَقَالَ : أَيْنَ تُرِيد ؟ وَاَللَّه إِنِّي لَأَظُنّ أَنَّ الشَّيْطَان قَدْ جَاءَك فِي مَنَامك فَأَمَرَك بِذَبْحِ اِبْنك.
فَعَرَفَهُ إِبْرَاهِيم فَقَالَ : إِلَيْك عَنِّي يَا عَدُوّ اللَّه، فَوَاَللَّهِ لَأَمْضِيَنَّ لِأَمْرِ رَبِّي.
فَلَمْ يُصِبْ الْمَلْعُون مِنْهُمْ شَيْئًا.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيم بِذَبْحِ اِبْنه عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَان عِنْد جَمْرَة الْعَقَبَة فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَات حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْد الْجَمْرَة الْوُسْطَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَات حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْد الْجَمْرَة الْأُخْرَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَات حَتَّى ذَهَبَ ثُمَّ مَضَى إِبْرَاهِيم لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَوْضِع الَّذِي أَرَادَ ذَبْحه فِيهِ فَقِيلَ : بِمَكَّة فِي الْمَقَام.
وَقِيلَ : فِي الْمَنْحَر بِمِنًى عِنْد الْجِمَار الَّتِي رَمَى بِهَا إِبْلِيس لَعَنَهُ اللَّه ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب.
وَحُكِيَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر : أَنَّهُ ذَبَحَهُ عَلَى الصَّخْرَة الَّتِي بِأَصْلِ ثَبِير بِمِنًى.
وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : ذَبَحَهُ بِالشَّامِ وَهُوَ مِنْ بَيْت الْمَقْدِس عَلَى مِيلَيْنِ.
وَالْأَوَّل أَكْثَر ; فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَخْبَار تَعْلِيق قَرْن الْكَبْش فِي الْكَعْبَة، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ ذَبَحَهُ بِمَكَّة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كَانَ أَوَّل الْإِسْلَام، وَإِنَّ رَأْس الْكَبْش لَمُعَلَّق بِقَرْنَيْهِ مِنْ مِيزَاب الْكَعْبَة وَقَدْ يَبِسَ.
أَجَابَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الذَّبْح وَقَعَ بِالشَّامِ : لَعَلَّ الرَّأْس حُمِلَ مِنْ الشَّام إِلَى مَكَّة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا
فَنُودِيَ " يَا إِبْرَاهِيم قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا "
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا
قَالَ مُقَاتِل : رَأَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ثَلَاث لَيَالٍ مُتَتَابِعَاتٍ.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : كَانَتْ الرُّسُل يَأْتِيهِمْ الْوَحْي مِنْ اللَّه تَعَالَى أَيْقَاظًا وَرُقُودًا ; فَإِنَّ الْأَنْبِيَاء لَا تَنَام قُلُوبهمْ.
وَهَذَا ثَابِت فِي الْخَبَر الْمَرْفُوع، قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّا مُعَاشِر الْأَنْبِيَاء تَنَام أَعْيُننَا وَلَا تَنَام قُلُوبنَا ).
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : رُؤْيَا الْأَنْبِيَاء وَحْي ; وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة.
وَقَالَ السُّدِّيّ : لَمَّا بُشِّرَ إِبْرَاهِيم بِإِسْحَاق قَبْل أَنْ يُولَد لَهُ قَالَ هُوَ إِذًا لِلَّهِ ذَبِيح.
فَقِيلَ لَهُ فِي مَنَامه : قَدْ نَذَرْت نَذْرًا فَفِ بِنَذْرِك.
وَيُقَال : إِنَّ إِبْرَاهِيم رَأَى فِي لَيْلَة التَّرْوِيَة كَأَنَّ قَائِلًا يَقُول : إِنَّ اللَّه يَأْمُرك بِذَبْحِ اِبْنك ; فَلَمَّا أَصْبَحَ رَوَّى فِي نَفْسه أَيْ فَكَّرَ أَهَذَا الْحُلْم مِنْ اللَّه أَمْ مِنْ الشَّيْطَان ؟ فَسُمِّيَ يَوْم التَّرْوِيَة.
فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَة الثَّانِيَة رَأَى ذَلِكَ أَيْضًا وَقِيلَ لَهُ الْوَعْد، فَلَمَّا أَصْبَحَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ اللَّه فَسُمِّيَ يَوْم عَرَفَة.
ثُمَّ رَأَى مِثْله فِي اللَّيْلَة الثَّالِثَة فَهَمَّ بِنَحْرِهِ فَسُمِّيَ يَوْم النَّحْر.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذَبَحَهُ قَالَ جِبْرِيل : اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر.
فَقَالَ الذَّبِيح : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر.
فَقَالَ إِبْرَاهِيم : اللَّه أَكْبَر وَالْحَمْد لِلَّهِ ; فَبَقِيَ سُنَّة.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي وُقُوع هَذَا الْأَمْر
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
أَيْ نَجْزِيهِمْ بِالْخَلَاصِ مِنْ الشَّدَائِد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ
أَيْ النِّعْمَة الظَّاهِرَة ; يُقَال : أَبْلَاهُ اللَّه إِبْلَاء وَبَلَاء إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ يُقَال بَلَاهُ.
قَالَ زُهَيْر :
فَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو
فَزَعَمَ قَوْم أَنَّهُ جَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ.
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ الثَّانِي مِنْ بَلَاهُ يَبْلُوهُ إِذَا اِخْتَبَرَهُ، وَلَا يُقَال مِنْ الِاخْتِبَار إِلَّا بَلَاهُ يَبْلُوهُ، وَلَا يُقَال مِنْ الِابْتِلَاء يَبْلُوهُ.
وَأَصْل هَذَا كُلّه مِنْ الِاخْتِبَار أَنْ يَكُون بِالْخَيْرِ وَالشَّرّ ; قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فِتْنَة " [ الْأَنْبِيَاء : ٣٥ ].
وَقَالَ أَبُو زَيْد : هَذَا مِنْ الْبَلَاء الَّذِي نَزَلَ بِهِ فِي أَنْ يَذْبَح اِبْنه ; قَالَ : وَهَذَا مِنْ الْبَلَاء الْمَكْرُوه.
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
الذِّبْح اِسْم الْمَذْبُوح وَجَمْعه ذُبُوحٌ ; كَالطِّحْنِ اِسْم الْمَطْحُون.
وَالذَّبْح بِالْفَتْحِ الْمَصْدَر.
" عَظِيم " أَيْ عَظِيم الْقَدْر وَلَمْ يُرِدْ عَظِيم الْجُثَّة.
وَإِنَّمَا عَظُمَ قَدْره لِأَنَّهُ فُدِيَ بِهِ الذَّبِيح ; أَوْ لِأَنَّهُ مُتَقَبَّل.
قَالَ النَّحَّاس : عَظِيم فِي اللُّغَة يَكُون لِلْكَبِيرِ وَلِلشَّرِيفِ.
وَأَهْل التَّفْسِير عَلَى أَنَّهُ هَاهُنَا لِلشَّرِيفِ، أَوْ الْمُتَقَبَّل.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الْكَبْش الَّذِي تَقَرَّبَ بِهِ هَابِيل، وَكَانَ فِي الْجَنَّة يَرْعَى حَتَّى فَدَى اللَّه بِهِ إِسْمَاعِيل.
وَعَنْهُ أَيْضًا : أَنَّهُ كَبْش أَرْسَلَهُ اللَّه مِنْ الْجَنَّة كَانَ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّة أَرْبَعِينَ خَرِيفًا.
وَقَالَ الْحَسَن : مَا فُدِيَ إِسْمَاعِيل إِلَّا بِتَيْسٍ مِنْ الْأَرْوَى هَبَطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبِير، فَذَبَحَهُ إِبْرَاهِيم فِدَاء عَنْ اِبْنه، وَهَذَا قَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
فَلَمَّا رَآهُ إِبْرَاهِيم أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ وَأَعْتَقَ اِبْنه.
وَقَالَ : يَا بُنَيَّ الْيَوْم وُهِبْت لِي.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج : قَدْ قِيلَ إِنَّهُ فُدِيَ بِوَعْلٍ، وَالْوَعْل : التَّيْس الْجَبَلِيّ.
وَأَهْل التَّفْسِير عَلَى أَنَّهُ فُدِيَ بِكَبْشٍ.
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّة بِالْغَنَمِ أَفْضَل مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر.
وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه.
قَالُوا : أَفْضَل الضَّحَايَا الْفُحُول مِنْ الضَّأْن، وَإِنَاث الضَّأْن أَفْضَل مِنْ فَحْل الْمَعْز، وَفُحُول الْمَعْز خَيْر مِنْ إِنَاثهَا، وَإِنَاث الْمَعْز خَيْر مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر.
وَحُجَّتهمْ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :" وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم " أَيْ ضَخْم الْجُثَّة سَمِين، وَذَلِكَ كَبْش لَا جَمَل وَلَا بَقَرَة.
وَرَوَى مُجَاهِد وَغَيْره عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُل : إِنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَر اِبْنِي ؟ فَقَالَ : يَجْزِيك كَبْش سَمِين، ثُمَّ قَرَأَ :" وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم ".
وَقَالَ بَعْضهمْ : لَوْ عَلِمَ اللَّه حَيَوَانًا أَفْضَل مِنْ الْكَبْش لَفَدَى بِهِ إِسْحَاق.
وَضَحَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ.
وَأَكْثَر مَا ضَحَّى بِهِ الْكِبَاش.
وَذَكَرَ اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن عُلَيَّة عَنْ اللَّيْث عَنْ مُجَاهِد قَالَ : الذِّبْح الْعَظِيم الشَّاة.
وَاخْتَلَفُوا أَيّهمَا أَفْضَل : الْأُضْحِيَّة أَوْ الصَّدَقَة بِثَمَنِهَا.
فَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه : الضَّحِيَّة أَفْضَل إِلَّا بِمِنًى ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِع الْأُضْحِيَّة ; حَكَاهُ أَبُو عُمَر.
وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : رُوِّينَا عَنْ بِلَال أَنَّهُ قَالَ : مَا أُبَالِي أَلَّا أُضَحِّيَ إِلَّا بِدِيكٍ وَلَأَنْ أَضَعَهُ فِي يَتِيم قَدْ تَرِبَ فِيهِ - هَكَذَا قَالَ الْمُحَدِّث - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ بِهِ.
وَهَذَا قَوْل الشَّعْبِيّ إِنَّ الصَّدَقَة أَفْضَل.
وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَبُو ثَوْر.
وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ : إِنَّ الضَّحِيَّة أَفْضَل ; هَذَا قَوْل رَبِيعَة وَأَبِي الزِّنَاد.
وَبِهِ قَالَ أَصْحَاب الرَّأْي.
زَادَ أَبُو عُمَر وَأَحْمَد بْن حَنْبَل قَالُوا : الضَّحِيَّة أَفْضَل مِنْ الصَّدَقَة ; لِأَنَّ الضَّحِيَّة سُنَّة مُؤَكَّدَة كَصَلَاةِ الْعِيد.
وَمَعْلُوم أَنَّ صَلَاة الْعِيد أَفْضَل مِنْ سَائِر النَّوَافِل.
وَكَذَلِكَ صَلَوَات السُّنَن أَفْضَل مِنْ التَّطَوُّع كُلّه.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْل الضَّحَايَا آثَار حِسَان ; فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ سَعِيد بْن دَاوُدَ بْن أَبِي زَنْبَر عَنْ مَالِك عَنْ ثَوْر بْن زَيْد عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا مِنْ نَفَقَة بَعْد صِلَة الرَّحِم أَفْضَل عِنْد اللَّه مِنْ إِهْرَاق الدَّم ) قَالَ أَبُو عُمَر : وَهُوَ حَدِيث غَرِيب مِنْ حَدِيث مَالِك.
وَعَنْ عَائِشَة قَالَتْ : يَا أَيّهَا النَّاس ضَحُّوا وَطِيبُوا أَنْفُسًا ; فَإِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( مَا مِنْ عَبْد تَوَجَّهَ بِأُضْحِيَّتِهِ إِلَى الْقِبْلَة إِلَّا كَانَ دَمُهَا وَقَرْنُهَا وَصُوفُهَا حَسَنَاتٍ مُحْضَرَاتٍ فِي مِيزَانه يَوْم الْقِيَامَة فَإِنَّ الدَّم إِنْ وَقَعَ فِي التُّرَاب فَإِنَّمَا يَقَع فِي حِرْز اللَّه حَتَّى يُوَفِّيَهُ صَاحِبَهُ يَوْم الْقِيَامَة ) ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي كِتَات التَّمْهِيد.
وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيّ أَيْضًا عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَل يَوْم النَّحْر أَحَبَّ إِلَى اللَّه مِنْ إِهْرَاق الدَّم إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارهَا وَأَظْلَافهَا، وَإِنَّ الدَّم لَيَقَع مِنْ اللَّه بِمَكَانٍ قَبْل أَنْ يَقَع إِلَى الْأَرْض فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا ) قَالَ : وَفِي الْبَاب عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن وَزَيْد بْن أَرْقَم.
وَهَذَا حَدِيث حَسَن.
الضَّحِيَّة لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَلَكِنَّهَا سُنَّة وَمَعْرُوف.
وَقَالَ عِكْرِمَة : كَانَ اِبْن عَبَّاس يَبْعَثنِي يَوْم الْأَضْحَى بِدِرْهَمَيْنِ أَشْتَرِي لَهُ لَحْمًا، وَيَقُول : مَنْ لَقِيت فَقُلْ هَذِهِ أُضْحِيَّة اِبْن عَبَّاس.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَمُجْمَل هَذَا وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر وَعُمَر أَنَّهُمَا لَا يُضَحِّيَانِ عِنْد أَهْل الْعِلْم ; لِئَلَّا يُعْتَقَد فِي الْمُوَاظَبَة عَلَيْهَا أَنَّهَا وَاجِبَة فَرْض، وَكَانُوا أَئِمَّة يَقْتَدِي بِهِمْ مَنْ بَعْدهمْ مِمَّنْ يَنْظُر فِي دِينه إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ الْوَاسِطَة بَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْن أُمَّته، فَسَاغَ لَهُمْ مِنْ الِاجْتِهَاد فِي ذَلِكَ مَا لَا يَسُوغ الْيَوْم لِغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ حَكَى الطَّحَاوِيّ فِي مُخْتَصَره : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : الْأُضْحِيَّة وَاجِبَة عَلَى الْمُقِيمِينَ الْوَاجِدِينَ مِنْ أَهْل الْأَمْصَار، وَلَا تَجِب عَلَى الْمُسَافِر.
قَالَ : وَيَجِب عَلَى الرَّجُل مِنْ الْأُضْحِيَّة عَلَى وَلَده الصَّغِير مِثْل الَّذِي يَجِب عَلَيْهِ مِنْ نَفْسه.
وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد فَقَالَا : لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَلَكِنَّهَا سُنَّة غَيْر مُرَخَّص لِمَنْ وَجَدَ السَّبِيل إِلَيْهَا فِي تَرْكهَا.
قَالَ : وَبِهِ نَأْخُذ.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا قَوْل مَالِك ; قَالَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ تَرْكُهَا مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا، فَإِنْ تَرَكَهَا فَبِئْسَ مَا صَنَعَ إِلَّا أَنْ يَكُون لَهُ عُذْر إِلَّا الْحَاجّ بِمِنًى.
وَقَالَ الْإِمَام الشَّافِعِيّ : هِيَ سُنَّة عَلَى جَمِيع النَّاس وَعَلَى الْحَاجّ بِمِنًى وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ.
وَقَدْ اِحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهَا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا بُرْدَة بْن نِيَار أَنْ يُعِيد ضَحِيَّة أُخْرَى ; لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا لَا يُؤْمَر فِيهِ بِالْإِعَادَةِ.
اِحْتَجَّ آخَرُونَ بِحَدِيثِ أُمّ سَلَمَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ ) قَالُوا : فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَمْ يَجْعَل ذَلِكَ إِلَى إِرَادَة الْمُضَحِّي.
وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْر وَعُمَر وَأَبِي مَسْعُود الْبَدْرِيّ وَبِلَال.
وَاَلَّذِي يُضَحَّى بِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ الْأَزْوَاج الثَّمَانِيَة : وَهِيَ الضَّأْن وَالْمَعْز وَالْإِبِل وَالْبَقَر.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْحَسَن بْن صَالِح أَنَّهُ قَالَ : يُضَحَّى بِبَقَرَةِ الْوَحْش عَنْ سَبْعَة، وَبِالظَّبْيِ عَنْ رَجُل.
وَقَالَ الْإِمَام الشَّافِعِيّ : لَوْ نَزَا ثَوْر وَحْشِيّ عَلَى بَقَرَة إِنْسِيَّة، أَوْ ثَوْر إِنْسِيّ عَلَى بَقَرَة وَحْشِيَّة لَا يَجُوز شَيْء مِنْ هَذَا أُضْحِيَّةً.
وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي : جَائِز ; لِأَنَّ وَلَدهَا بِمَنْزِلَةِ أُمّه.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر : يَجُوز إِذَا كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْأَنْعَام.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة [ الْحَجّ ] الْكَلَام فِي وَقْت الذَّبْح وَالْأَكْل مِنْ الْأُضْحِيَّة مُسْتَوْفًى.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَنَس قَالَ :( ضَحَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا ) فِي رِوَايَة قَالَ :( وَيَقُول بِسْمِ اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر ) وَقَدْ مَضَى فِي آخِر [ الْأَنْعَام ] حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْن، وَمَضَى فِي [ الْمَائِدَة ] الْقَوْل فِي التَّذْكِيَة وَبَيَانهَا وَمَا يُذَكَّى بِهِ، وَأَنَّ ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أُمّه مُسْتَوْفًى.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَن يَطَأ فِي سَوَاد وَيَبْرُك فِي سَوَاد وَيَنْظُر فِي سَوَاد فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ ) فَقَالَ لَهَا :( يَا عَائِشَة هَلُمِّي الْمُدْيَةَ ) ثُمَّ قَالَ :( اِشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْش فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ :( بِسْمِ اللَّه اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد وَمِنْ أُمَّة مُحَمَّد ) ثُمَّ ضَحَّى بِهِ.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا فَكَانَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ يَقُول فِي الْأُضْحِيَّة : بِسْمِ اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر هَذَا مِنْك وَلَك تَقَبَّلْ مِنْ فُلَان.
وَقَالَ مَالِك : إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَحَسَن، وَإِنْ لَمْ يَفْعَل وَسَمَّى اللَّه أَجُزْأَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : وَالتَّسْمِيَة عَلَى الذَّبِيحَة بِسْمِ اللَّه، فَإِنَّ زَادَ بَعْد ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ ذِكْر اللَّه، أَوْ صَلَّى عَلَى مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ أَكْرَههُ، أَوْ قَالَ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي، أَوْ قَالَ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَان فَلَا بَأْس.
وَقَالَ النُّعْمَان : يُكْرَه أَنْ يَذْكُر مَعَ اِسْم اللَّه غَيْره ; يُكْرَه أَنْ يَقُول : اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَان عِنْد الذَّبْح.
وَقَالَ : لَا بَأْس إِذَا كَانَ قَبْل التَّسْمِيَة وَقَبْل أَنْ يُضْجِع لِلذَّبْحِ.
وَحَدِيث عَائِشَة يَرُدّ هَذَا الْقَوْل.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَمَّا أَرَادَ ذَبْح اِبْنه : اللَّه أَكْبَر وَالْحَمْد لِلَّهِ.
فَبَقِيَ سُنَّة.
رَوَى الْبَرَاء بْن عَازِب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : مَاذَا يُتَّقَى مِنْ الضَّحَايَا ؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَقَالَ :( أَرْبَعًا - وَكَانَ الْبَرَاء يُشِير بِيَدِهِ وَيَقُول يَدِي أَقْصَر مِنْ يَد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَرْجَاء الْبَيِّن ظَلَعُهَا وَالْعَوْرَاء الْبَيِّن عَوَرهَا وَالْمَرِيضَة الْبَيِّن مَرَضهَا وَالْعَجْفَاء الَّتِي لَا تُنْقَى ) لَفْظ مَالِك وَلَا خِلَاف فِيهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْيَسِير مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِف الْعَيْن وَالْأُذُن وَأَلَّا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا شَرْقَاء وَلَا خَرْقَاء.
قَالَ : وَالْمُقَابَلَة مَا قُطِعَ طَرَف أُذُنهَا، وَالْمُدَابَرَة مَا قُطِعَ مِنْ جَانِب الْأُذُن، وَالشَّرْقَاء الْمَشْقُوقَة، وَالْخَرْقَاء الْمَثْقُوبَة ; قَالَ هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ نَافِع : أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر كَانَ يَتَّقِي مِنْ الضَّحَايَا وَالْبُدْن الَّتِي لَمْ تُسْنَنْ وَاَلَّتِي نَقَصَ مِنْ خَلْقهَا.
قَالَ مَالِك : وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْت إِلَيَّ.
قَالَ الْقُتَبِيّ : لَمْ تُسْنَنْ أَيْ لَمْ تَنْبُت أَسْنَانهَا كَأَنَّهَا لَمْ تُعْطَ أَسْنَانًا.
وَهَذَا كَمَا يُقَال : فُلَان لَمْ يُلْبَنْ أَيْ لَمْ يُعْطَ لَبَنًا، وَلَمْ يُسْمَنْ أَيْ لَمْ يُعْطَ سَمْنًا، وَلَمْ يُعْسَل أَيْ لَمْ يُعْطَ عَسَلًا.
وَهَذَا مِثْل النَّهْي فِي الْأَضَاحِيّ عَنْ الْهَتْمَاء.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَا بَأْس أَنْ يُضَحَّى عِنْد مَالِك بِالشَّاةِ الْهَتْمَاء إِذَا كَانَ سُقُوط أَسْنَانهَا مِنْ الْكِبَر وَالْهَرَم وَكَانَتْ سَمِينَة ; فَإِنْ كَانَتْ سَاقِطَة الْأَسْنَان وَهِيَ فَتِيَّة لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَحَّى بِهَا ; لِأَنَّهُ عَيْب غَيْر خَفِيف.
وَالنُّقْصَان كُلّه مَكْرُوه، وَشَرْحه وَتَفْصِيله فِي كُتُب الْفِقْه.
وَفِي الْخَبَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( اِسْتَشْرِقُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاط مَطَايَاكُمْ ) ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ.
وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَحْر اِبْنه أَوْ ذَبْحه أَنَّهُ يَفْدِيهِ بِكَبْشٍ كَمَا فَدَى بِهِ إِبْرَاهِيم اِبْنه ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَعَنْهُ رِوَايَة أُخْرَى : يَنْحَر مِائَة مِنْ الْإِبِل كَمَا فَدَى بِهَا عَبْد الْمُطَّلِب اِبْنه ; رَوَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ الشَّعْبِيّ.
وَرَوَى عَنْهُ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد : يَجْزِيهِ كَفَّارَة يَمِين.
وَقَالَ مَسْرُوق : لَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : هُوَ مَعْصِيَة يَسْتَغْفِر اللَّه مِنْهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : هِيَ كَلِمَة يَلْزَمهُ بِهَا فِي وَلَده ذَبْح شَاة وَلَا يَلْزَمهُ فِي غَيْر وَلَده شَيْء.
قَالَ مُحَمَّد : عَلَيْهِ فِي الْحَلِف بِنَحْرِ عَبْده مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْحَلِف بِنَحْرِ وَلَده إِذَا حَنِثَ.
وَذَكَرَ اِبْن عَبْد الْحَكَم عَنْ مَالِك فِيمَنْ قَالَ : أَنَا أَنْحَر وَلَدِي عِنْد مَقَام إِبْرَاهِيم فِي يَمِين ثُمَّ حَنِثَ فَعَلَيْهِ هَدْي.
قَالَ : وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَر اِبْنه وَلَمْ يَقُلْ عِنْد مَقَام إِبْرَاهِيم وَلَا أَرَادَ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
قَالَ : وَمَنْ جَعَلَ اِبْنَهُ هَدْيًا أَهْدَى عَنْهُ ; قَالَ الْقَاضِي اِبْن الْعَرَبِيّ : يَلْزَمهُ شَاة كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ ذَبْح الْوَلَد عِبَارَة عَنْ ذَبْح الشَّاة شَرْعًا، فَأَلْزَمَ اللَّه إِبْرَاهِيم ذَبْح الْوَلَد، وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ بِذَبْحِ شَاة.
وَكَذَلِكَ إِذَا نَذَرَ الْعَبْد ذَبْح وَلَده يَلْزَمهُ أَنْ يَذْبَح شَاة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :" مِلَّة أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ " [ الْحَجّ : ٧٨ ] وَالْإِيمَان اِلْتِزَام أَصْلِيّ، وَالنَّذْر اِلْتِزَام فَرْعِيّ ; فَيَجِب أَنْ يَكُون مَحْمُولًا عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يُؤْمَر إِبْرَاهِيم بِذَبْحِ الْوَلَد وَهُوَ مَعْصِيَة وَالْأَمْر بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوز.
قُلْنَا : هَذَا اِعْتِرَاض عَلَى كِتَاب اللَّه، وَلَا يَكُون ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَقِد الْإِسْلَام، فَكَيْف بِمَنْ يُفْتِي فِي الْحَلَال وَالْحَرَام، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى :" اِفْعَلْ مَا تُؤْمَر " وَاَلَّذِي يَجْلُو الْإِلْبَاس عَنْ قُلُوب النَّاس فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْمَعَاصِي وَالطَّاعَات لَيْسَتْ بِأَوْصَاف ذَاتِيَّة لِلْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا الطَّاعَات عِبَارَة عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْر مِنْ الْأَفْعَال، وَالْمَعْصِيَة عِبَارَة عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْي مِنْ الْأَفْعَال، فَلَمَّا تَعَلَّقَ الْأَمْر بِذَبْحِ الْوَلَد إِسْمَاعِيل مِنْ إِبْرَاهِيم صَارَ طَاعَة وَابْتِلَاء، وَلِهَذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِين " فِي الصَّبْر عَلَى ذَبْح الْوَلَد وَالنَّفْس، وَلَمَّا تَعَلَّقَ النَّهْي بِنَا فِي ذَبْح أَبْنَائِنَا صَارَ مَعْصِيَة.
فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يَصِير نَذْرًا وَهُوَ مَعْصِيَة.
قُلْنَا : إِنَّمَا يَكُون مَعْصِيَة لَوْ كَانَ يَقْصِد ذَبْح الْوَلَد بِنَذْرِهِ وَلَا يَنْوِي الْفِدَاء ؟ فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ وَقَصَدَ الْمَعْصِيَة وَلَمْ يَنْوِ الْفِدَاء ؟ قُلْنَا : لَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ فِي قَصْده وَلَا أَثَّرَ فِي نَذْرِهِ ; لِأَنَّ نَذْر الْوَلَد صَارَ عِبَارَة عَنْ ذَبْح الشَّاة شَرْعًا.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ
أَيْ عَلَى إِبْرَاهِيم ثَنَاء جَمِيلًا فِي الْأُمَم بَعْده ; فَمَا مِنْ أُمَّة إِلَّا تُصَلِّي عَلَيْهِ وَتُحِبُّهُ.
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
وَقِيلَ : هُوَ دُعَاء إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام " وَاجْعَلْ لِي لِسَان صِدْق فِي الْآخِرِينَ " [ الشُّعَرَاء.
٨٤ ].
وَقَالَ عِكْرِمَة : هُوَ السَّلَام عَلَى إِبْرَاهِيم أَيْ سَلَامًا مِنَّا.
وَقِيلَ : سَلَامَة لَهُ مِنْ الْآفَات مِثْل :" سَلَام عَلَى نُوح فِي الْعَالَمِينَ " [ الصَّافَّات : ٧٩ ] حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ.
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
أَيْ نُبْقِي عَلَيْهِمْ الثَّنَاء الْحَسَن.
وَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ جَزَاء كَذَلِكَ.
أَوْ نَجْزِيهِمْ بِالْخَلَاصِ مِنْ الشَّدَائِد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
أَيْ مِنْ الَّذِينَ أَعْطَوْا الْعُبُودِيَّة حَقّهَا حَتَّى اِسْتَحَقُّوا الْإِضَافَة إِلَى اللَّه تَعَالَى.
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : بُشِّرَ بِنُبُوَّتِهِ وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْبِشَارَة كَانَتْ مَرَّتَيْنِ ; فَعَلَى هَذَا الذَّبِيح هُوَ إِسْحَاق بُشِّرَ بِنُبُوَّتِهِ جَزَاء عَلَى صَبْره وَرِضَاهُ بِأَمْرِ رَبّه وَاسْتِسْلَامه لَهُ.
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ
أَيْ ثَنَّيْنَا عَلَيْهِمَا النِّعْمَة وَقِيلَ كَثَّرْنَا وَلَدَهُمَا ; أَيْ بَارَكْنَا عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى أَوْلَاده، وَعَلَى إِسْحَاق حِين أَخْرَجَ أَنْبِيَاء بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ صُلْبه.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْكِنَايَة فِي " عَلَيْهِ " تَعُود عَلَى إِسْمَاعِيل وَأَنَّهُ هُوَ الذَّبِيح.
قَالَ الْمُفَضَّل : الصَّحِيح الَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن أَنَّهُ إِسْمَاعِيل، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَصَّ قِصَّة الذَّبِيح، فَلَمَّا قَالَ فِي آخِر الْقِصَّة :" وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم " ثُمَّ قَالَ :" سَلَام عَلَى إِبْرَاهِيم.
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ " قَالَ :" وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاق نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ.
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ " أَيْ عَلَى إِسْمَاعِيل " وَعَلَى إِسْحَاق " كَنَّى عَنْهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْره.
ثُمَّ قَالَ :" وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا ذُرِّيَّة إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق، وَلَيْسَ تَخْتَلِف الرُّوَاة فِي أَنَّ إِسْمَاعِيل كَانَ أَكْبَر مِنْ إِسْحَاق بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قُلْت : قَدْ ذَكَرْنَا أَوَّلًا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ إِسْحَاق أَكْبَر مِنْ إِسْمَاعِيل، وَأَنَّ الْمُبَشَّر بِهِ هُوَ إِسْحَاق بِنَصِّ التَّنْزِيل ; فَإِذَا كَانَتْ الْبِشَارَة بِإِسْحَاق نَصًّا فَالذَّبِيح لَا شَكَّ هُوَ إِسْحَاق، وَبُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيم مَرَّتَيْنِ ; الْأُولَى بِوِلَادَتِهِ وَالثَّانِيَة بِنُبُوَّتِهِ ; كَمَا قَالَ اِبْن عَبَّاس.
وَلَا تَكُون النُّبُوَّة إِلَّا فِي حَال الْكِبَر وَ " نَبِيًّا " نَصْب عَلَى الْحَال وَالْهَاء فِي " عَلَيْهِ " عَائِدَة إِلَى إِبْرَاهِيم وَلَيْسَ لِإِسْمَاعِيل فِي الْآيَة ذِكْر حَتَّى تَرْجِع الْكِنَايَة إِلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيق مُعَاوِيَة قَالَ : سَمِعْت رَجُلًا يَقُول لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بْن الذَّبِيحَيْنِ ; فَضَحِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَة : إِنَّ عَبْد الْمُطَّلِب لَمَّا حَفَرَ بِئْر زَمْزَم، نَذَرَ لِلَّهِ إِنْ سَهَّلَ عَلَيْهِ أَمْرهَا لَيَذْبَحَنَّ أَحَد وَلَده لِلَّهِ، فَسَهَّلَ اللَّه عَلَيْهِ أَمْرهَا، فَوَقَعَ السَّهْم عَلَى عَبْد اللَّه، فَمَنَعَهُ أَخْوَاله بَنُو مَخْزُوم ; وَقَالُوا : اِفْدِ اِبْنك ; فَفَدَاهُ بِمِائَةِ مِنْ الْإِبِل وَهُوَ الذَّبِيح، وَإِسْمَاعِيل هُوَ الذَّبِيح الثَّانِي فَلَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّ سَنَده لَا يَثْبُت عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب الْأَعْلَام فِي مَعْرِفَة مَوْلِد الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ; وَلِأَنَّ الْعَرَب تَجْعَل الْعَمّ أَبًا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" قَالُوا نَعْبُد إِلَهك وَإِلَه آبَائِك إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق " [ الْبَقَرَة : ١٣٣ ] وَقَالَ تَعَالَى :" وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْش " [ يُوسُف : ١٠٠ ] وَهُمَا أَبُوهُ وَخَالَته.
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ الشَّاعِر الْفَرَزْدَق عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ صَحَّ إِسْنَاده فَكَيْف وَفِي الْفَرَزْدَق نَفْسه مَقَال.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ
لَمَّا ذَكَرَ الْبَرَكَة فِي الذُّرِّيَّة وَالْكَثْرَة قَالَ : مِنْهُمْ مُحْسِن وَمِنْهُمْ مُسِيء، وَإِنَّ الْمُسِيء لَا تَنْفَعُهُ بُنُوَّة النُّبُوَّة ; فَالْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَإِنْ كَانُوا مِنْ وَلَد إِسْحَاق، وَالْعَرَب وَإِنْ كَانُوا مِنْ وَلَد إِسْمَاعِيل، فَلَا بُدّ مِنْ الْفَرْق بَيْن الْمُحْسِن وَالْمُسِيء وَالْمُؤْمِن وَالْكَافِر، وَفِي التَّنْزِيل :" وَقَالَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ " [ الْمَائِدَة : ١٨ ] الْآيَة ; أَيْ أَبْنَاء رُسُل اللَّه فَرَأَوْا لِأَنْفُسِهِمْ فَضْلًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ
لَمَّا ذَكَرَ إِنْجَاء إِسْحَاق مِنْ الذَّبْح، وَمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ بَعْد النُّبُوَّة، ذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى مُوسَى وَهَارُون مِنْ ذَلِكَ.
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
قِيلَ : مِنْ الرِّقّ الَّذِي لَحِقَ بَنِي إِسْرَائِيل.
وَقِيلَ مِنْ الْغَرَق الَّذِي لَحِقَ فِرْعَوْن.
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ
قَالَ الْفَرَّاء : الضَّمِير لِمُوسَى وَهَارُون وَحْدهمَا ; وَهَذَا عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْع ; دَلِيله قَوْله :" وَآتَيْنَاهُمَا " " وَهَدَيْنَاهُمَا ".
وَقِيلَ : الضَّمِير لِمُوسَى وَهَارُون وَقَوْمهمَا وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب ; لِأَنَّ قَبْله " وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمهمَا ".
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ
التَّوْرَاة ; يُقَال اِسْتَبَانَ كَذَا أَيْ صَارَ بَيِّنًا ; وَاسْتَبَانَهُ فُلَان مِثْل تَبَيَّنَ الشَّيْء بِنَفْسِهِ وَتَبَيَّنَهُ فُلَان.
وَ
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
الدِّين الْقَوِيم الَّذِي لَا اِعْوِجَاج فِيهِ وَهُوَ دِين الْإِسْلَام.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ
يُرِيد الثَّنَاء الْجَمِيل.
سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ
أَيْ سَلَامَة لَهُ مِنْ أَنْ يُذْكَر بِسُوءٍ " فِي الْآخِرِينَ ".
قَالَ الْكِسَائِيّ : وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " سَلَامًا " مَنْصُوب بِـ " تَرَكْنَا " أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ ثَنَاء حَسَنًا سَلَامًا.
وَقِيلَ :" فِي الْآخِرِينَ " أَيْ فِي أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ : فِي الْأَنْبِيَاء
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
أَيْ نُبْقِي عَلَيْهِمْ الثَّنَاء الْحَسَن.
وَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ جَزَاء كَذَلِكَ.
أَوْ نَجْزِيهِمْ بِالْخَلَاصِ مِنْ الشَّدَائِد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
أَيْ مِنْ الَّذِينَ أَعْطَوْا الْعُبُودِيَّة حَقّهَا حَتَّى اِسْتَحَقُّوا الْإِضَافَة إِلَى اللَّه تَعَالَى.
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إِلْيَاس نَبِيّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : إِسْرَائِيل هُوَ يَعْقُوب وَإِلْيَاس هُوَ إِدْرِيس.
وَقَرَأَ :" وَإِنَّ إِدْرِيس " وَقَالَهُ عِكْرِمَة.
وَقَالَ : هُوَ فِي مُصْحَف عَبْد اللَّه :" وَإِنَّ إِدْرِيس لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ " وَانْفَرَدَ بِهَذَا الْقَوْل.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ عَمّ الْيَسَع.
وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره : كَانَ الْقَيِّمَ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيل بَعْد يُوشَع كَالِب بْن يوقنا ثُمَّ حِزْقِيل، ثُمَّ لَمَّا قَبَضَ اللَّه حِزْقِيل النَّبِيّ عَظُمَتْ الْأَحْدَاث فِي بَنِي إِسْرَائِيل، وَنَسُوا عَهْد اللَّه وَعَبَدُوا الْأَوْثَان مِنْ دُونه، فَبَعَثَ اللَّه إِلَيْهِمْ إِلْيَاس نَبِيًّا وَتَبِعَهُ الْيَسَع وَآمَنَ بِهِ، فَلَمَّا عَتَا عَلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيل دَعَا رَبّه أَنْ يُرِيحَهُ مِنْهُمْ فَقِيلَ لَهُ : اُخْرُجْ يَوْم كَذَا وَكَذَا إِلَى مَوْضِع كَذَا وَكَذَا فَمَا اِسْتَقْبَلَك مِنْ شَيْء فَارْكَبْهُ وَلَا تَهَبْهُ.
فَخَرَجَ وَمَعَهُ الْيَسَع فَقَالَ : يَا إِلْيَاس مَا تَأْمُرنِي.
فَقَذَفَ إِلَيْهِ بِكِسَائِهِ مِنْ الْجَوّ الْأَعْلَى، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَة اِسْتِخْلَافه إِيَّاهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل، وَكَانَ ذَلِكَ آخِر الْعَهْد بِهِ.
وَقَطَعَ اللَّه عَلَى إِلْيَاس لَذَّة الْمَطْعَم وَالْمَشْرَب، وَكَسَاهُ الرِّيش وَأَلْبَسهُ النُّور، فَطَارَ مَعَ الْمَلَائِكَة، فَكَانَ إِنْسِيًّا مَلَكِيًّا سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا.
قَالَ اِبْن قُتَيْبَة : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِإِلْيَاس :" سَلْنِي أُعْطِك ".
قَالَ : تَرْفَعنِي إِلَيْك وَتُؤَخِّر عَنِّي مَذَاقَة الْمَوْت.
فَصَارَ يَطِير مَعَ الْمَلَائِكَة.
وَقَالَ بَعْضهمْ : كَانَ قَدْ مَرِضَ وَأَحَسَّ الْمَوْت فَبَكَى، فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ : لَمْ تَبْكِ ؟ حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا، أَوْ جَزَعًا مِنْ الْمَوْت، أَوْ خَوْفًا مِنْ النَّار ؟ قَالَ : لَا، وَلَا شَيْء مِنْ هَذَا وَعِزَّتِك، إِنَّمَا جَزَعِي كَيْف يَحْمَدُك الْحَامِدُونَ بَعْدِي وَلَا أَحْمَدك ! وَيَذْكُرُك الذَّاكِرُونَ بَعْدِي وَلَا أَذْكُرُك ! وَيَصُومُ الصَّائِمُونَ بَعْدِي وَلَا أَصُومُ ! وَيُصَلِّي الْمُصَلُّونَ وَلَا أُصَلِّي ! ! فَقِيلَ لَهُ :" يَا إِلْيَاس وَعِزَّتِي لَأُؤَخِّرَنَّكَ إِلَى وَقْت لَا يَذْكُرنِي فِيهِ ذَاكِر ".
يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَالَ عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي رُوَّاد : إِنَّ إِلْيَاس وَالْخَضِر عَلَيْهِمَا السَّلَام يَصُومَانِ شَهْر رَمَضَان فِي كُلّ عَام بِبَيْتِ الْمَقْدِس يُوَافِيَانِ الْمَوْسِم فِي كُلّ عَام.
وَذَكَرَ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا ; إِنَّهُمَا يَقُولَانِ عِنْد اِفْتِرَاقهمَا عَنْ الْمَوْسِم : مَا شَاءَ اللَّه مَا شَاءَ اللَّه، لَا يَسُوق الْخَيْر إِلَّا اللَّه، مَا شَاءَ اللَّه مَا شَاءَ اللَّه، لَا يَصْرِف السُّوء إِلَّا اللَّه ; مَا شَاءَ اللَّه مَا شَاءَ اللَّه، مَا يَكُون مِنْ نِعْمَة فَمِنْ اللَّه ; مَا شَاءَ اللَّه مَا شَاءَ اللَّه ; تَوَكَّلْت عَلَى اللَّه حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْكَهْف ].
وَذُكِرَ مِنْ طَرِيق مَكْحُول عَنْ أَنَس قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِفَجِّ النَّاقَة عِنْد الْحِجْر، إِذَا نَحْنُ بِصَوْتٍ يَقُول : اللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِنْ أُمَّة مُحَمَّد الْمَرْحُومَة، الْمَغْفُور لَهَا، الْمَتُوب عَلَيْهَا، الْمُسْتَجَاب لَهَا، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَا أَنَس، اُنْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْت ).
فَدَخَلْت الْجَبَل، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ أَبْيَض اللِّحْيَة وَالرَّأْس، عَلَيْهِ ثِيَاب بِيض، طُوله أَكْثَر مِنْ ثَلَاثمِائَةِ ذِرَاع، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ قَالَ : أَنْتَ رَسُول النَّبِيّ ؟ قُلْت : نَعَمْ ; قَالَ : اِرْجِعْ إِلَيْهِ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَام وَقُلْ لَهُ : هَذَا أَخُوك إِلْيَاس يُرِيد لِقَاءَك.
فَجَاءَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا قَرِيبًا مِنْهُ، تَقَدَّمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأَخَّرْت، فَتَحَدَّثَا طَوِيلًا، فَنَزَلَ عَلَيْهِمَا شَيْء مِنْ السَّمَاء شِبْهُ السُّفْرَة فَدَعَوَانِي فَأَكَلْت مَعَهُمَا، فَإِذَا فِيهَا كَمْأَة وَرُمَّان وَكَرَفْس، فَلَمَّا أَكَلْت قُمْت فَتَنَحَّيْت، وَجَاءَتْ سَحَابَة فَاحْتَمَلَتْهُ فَإِذَا أَنَا أَنْظُر إِلَى بَيَاض ثِيَابه فِيهَا تَهْوِي بِهِ ; فَقُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! هَذَا الطَّعَام الَّذِي أَكَلْنَا أَمِنْ السَّمَاء نَزَلَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( سَأَلْته عَنْهُ فَقَالَ يَأْتِينِي بِهِ جِبْرِيل فِي كُلّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَكْلَة، وَفِي كُلّ حَوْل شَرْبَة مِنْ مَاء زَمْزَم، وَرُبَّمَا رَأَيْته عَلَى الْجُبّ يَمْلَأ بِالدَّلْوِ فَيَشْرَب وَرُبَّمَا سَقَانِي ).
لا يوجد تفسير لهذه الأية
أَتَدْعُونَ بَعْلًا
قَالَ ثَعْلَب : اِخْتَلَفَ النَّاس فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ هَاهُنَا " بَعْلًا " فَقَالَتْ طَائِفَة : الْبَعْل هَاهُنَا الصَّنَم.
وَقَالَ طَائِفَة : الْبَعْل هَاهُنَا مَلَك.
وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : اِمْرَأَة كَانُوا يَعْبُدُونَهَا.
وَالْأَوَّل أَكْثَر.
وَرَوَى الْحَكَم بْن أَبَان عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس :" أَتَدْعُونَ بَعْلًا " قَالَ : صَنَمًا.
وَرَوَى عَطَاء بْن السَّائِب عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس :" أَتَدْعُونَ بَعْلًا " قَالَ : رَبًّا.
النَّحَّاس : وَالْقَوْلَانِ صَحِيحَانِ ; أَيْ أَتَدْعُونَ صَنَمًا عَمِلْتُمُوهُ رَبًّا.
يُقَال : هَذَا بَعْل الدَّار أَيْ رَبّهَا.
فَالْمَعْنَى أَتَدْعُونَ رَبًّا اِخْتَلَقْتُمُوهُ، وَ " أَتَدْعُونَ " بِمَعْنَى أَتُسَمُّونَ.
حَكَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ.
وَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ : الْبَعْل الرَّبّ بِلُغَةِ الْيَمَن.
وَسَمِعَ اِبْن عَبَّاس رَجُلًا مِنْ أَهْل الْيُمْن يَسُوم نَاقَة بِمِنًى فَقَالَ : مَنْ بَعْل هَذِهِ ؟.
أَيْ مَنْ رَبّهَا ; وَمِنْهُ سُمِّيَ الزَّوْج بَعْلًا.
قَالَ أَبُو دُؤَاد :
وَرَأَيْت بَعْلَك فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا
مُقَاتِل : صَنَم كَسَّرَهُ إِلْيَاس وَهَرَبَ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ : كَانَ مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ طُوله عِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَلَهُ أَرْبَعَة أَوْجُه، فُتِنُوا بِهِ وَعَظَّمُوهُ حَتَّى أَخْدَمُوهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَادِن وَجَعَلُوهُمْ أَنْبِيَاءَهُ، فَكَانَ الشَّيْطَان يَدْخُل فِي جَوْف بَعْل وَيَتَكَلَّم بِشَرِيعَةِ الضَّلَالَة، وَالسَّدَنَة يَحْفَظُونَهَا وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاس، وَهُمْ أَهْل بَعْلَبَكّ مِنْ بِلَاد الشَّام.
وَبِهِ سُمِّيَتْ مَدِينَتهمْ بَعْلَبَكّ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ
أَيْ أَحْسَن مَنْ يُقَال لَهُ خَالِق.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَحْسَن الصَّانِعِينَ ; لِأَنَّ النَّاس يَصْنَعُونَ وَلَا يَخْلُقُونَ.
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ
بِالنَّصْبِ فِي الْأَسْمَاء الثَّلَاثَة قَرَأَ الرَّبِيع بْن خَيْثَم وَالْحَسَن وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَابْن وَثَّاب وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ.
وَإِلَيْهَا يَذْهَب أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم.
وَحَكَى أَبُو عُبَيْد أَنَّهَا عَلَى النَّعْت.
النَّحَّاس : وَهُوَ غَلَط وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْبَدَل وَلَا يَجُوز النَّعْت هَاهُنَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَخْلِيَةٍ.
وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَأَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة وَنَافِع بِالرَّفْعِ.
قَالَ أَبُو حَاتِم : بِمَعْنَى هُوَ اللَّه رَبّكُمْ.
قَالَ النَّحَّاس : وَأَوْلَى مِمَّا قَالَ - أَنَّهُ مُبْتَدَأ وَخَبَر بِغَيْرِ إِضْمَار وَلَا حَذْف.
وَرَأَيْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَذْهَب إِلَى أَنَّ الرَّفْع أَوْلَى وَأَحْسَن ; لِأَنَّ قَبْلَهُ رَأْس آيَة فَالِاسْتِئْنَاف أَوْلَى.
اِبْن الْأَنْبَارِيّ : مَنْ نَصَبَ أَوْ رَفَعَ لَمْ يَقِف عَلَى " أَحْسَن الْخَالِقِينَ " عَلَى جِهَة التَّمَام ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُتَرْجِم عَنْ " أَحْسَن الْخَالِقِينَ " مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
فَكَذَّبُوهُ
أَخْبَرَ عَنْ قَوْم إِلْيَاس أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ.
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
أَيْ فِي الْعَذَاب.
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
أَيْ مِنْ قَوْمه فَإِنَّهُمْ نَجَوْا مِنْ الْعَذَاب.
وَقُرِئَ " الْمُخْلِصِينَ " بِكَسْرِ اللَّام وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ
أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ ثَنَاء حَسَنًا فِي كُلّ أُمَّة،
سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ
قِرَاءَة الْأَعْرَج وَشَيْبَة وَنَافِع.
وَقَرَأَ عِكْرِمَة وَأَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ :" سَلَام عَلَى الْيَاسِينَ ".
وَقَرَأَ الْحَسَن :" سَلَام عَلَى الياسين " بِوَصْلِ الْأَلْف كَأَنَّهَا يَاسِين دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْأَلِف وَاللَّام الَّتِي لِلتَّعْرِيفِ.
وَالْمُرَاد إِلْيَاس عَلَيْهِ السَّلَام، وَعَلَيْهِ وَقَعَ التَّسْلِيم وَلَكِنَّهُ اِسْم أَعْجَمِيّ.
وَالْعَرَب تَضْطَرِب فِي هَذِهِ الْأَسْمَاء الْأَعْجَمِيَّة وَيَكْثُر تَغْيِيرهمْ لَهَا.
قَالَ اِبْن جِنِّي : الْعَرَب تَتَلَاعَب بِالْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّة تَلَاعُبًا ; فَيَاسِين وَإِلْيَاس وَالْيَاسِين شَيْء وَاحِد.
الزَّمَخْشَرِيّ : وَكَانَ حَمْزَة إِذَا وَصَلَ نَصَبَ وَإِذَا وَقَفَ رَفَعَ.
وَقُرِئَ :" عَلَى إِلْيَاسِينَ " و " إِدْرِيسِينَ وَإِدْرَسِينَ وَإِدْرَاسِينَ " عَلَى أَنَّهَا لُغَات فِي إِلْيَاس وَإِدْرِيس.
وَلَعَلَّ لِزِيَادَةِ الْيَاء وَالنُّون فِي السُّرْيَانِيَّة مَعْنًى.
النَّحَّاس : وَمَنْ قَرَأَ :" سَلَام عَلَى آلِ يَاسِين " فَكَأَنَّهُ وَاَللَّه أَعْلَم جَعَلَ اِسْمه إِلْيَاس وَيَاسِين ثُمَّ سَلَّمَ عَلَى آلِهِ ; أَيْ أَهْل دِينه وَمَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبه، وَعُلِمَ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ عَلَى آلِهِ مِنْ أَجْلِهِ فَهُوَ دَاخِل فِي السَّلَام ; كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى ) وَقَالَ اللَّه تَعَالَى :" أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَاب " [ غَافِر : ٤٦ ].
وَمَنْ قَرَأَ " إِلْيَاسِينَ " فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ غَيْر قَوْل.
فَرَوَى هَارُون عَنْ اِبْن أَبِي إِسْحَاق قَالَ : إِلْيَاسِينَ مِثْل إِبْرَاهِيم يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ اِسْم لَهُ.
وَأَبُو عُبَيْدَة يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ جَمْع جَمْع التَّسْلِيم عَلَى أَنَّهُ وَأَهْل بَيْته سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ; وَأَنْشَدَ :
قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الْخُبَيْبِينَ قَدِي
يُقَال : قَدْنِي وَقَدِي لُغَتَانِ بِمَعْنَى حَسْب.
وَإِنَّمَا يُرِيد أَبَا خُبَيْبٍ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر فَجَمَعَهُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبه دَاخِل مَعَهُ.
وَغَيْر أَبِي عُبَيْدَة يَرْوِيهِ : الْخُبَيْبَيْنِ عَلَى التَّثْنِيَة، يُرِيد عَبْد اللَّه وَمُصْعَبًا.
وَرَأَيْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَشْرَحهُ بِأَكْثَر مِنْ هَذَا ; قَالَ : فَإِنَّ الْعَرَب تُسَمِّي قَوْم الرَّجُل بِاسْمِ الرَّجُل الْجَلِيل مِنْهُمْ، فَيَقُولُونَ : الْمَهَالِبَة عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْا كُلّ رَجُل مِنْهُمْ بِالْمُهَلَّبِ.
قَالَ : فَعَلَى هَذَا " سَلَام عَلَى إِلْيَاسِينَ " سُمِّيَ كُلّ رَجُل مِنْهُمْ بِإِلْيَاس.
وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابه شَيْئًا مِنْ هَذَا، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْعَرَب تَفْعَل هَذَا عَلَى جِهَة النِّسْبَة ; فَيَقُولُونَ : الْأَشْعَرُونَ يُرِيدُونَ بِهِ النَّسَب.
الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ " إِلْيَاسِينَ " فَهُوَ جَمْع يَدْخُل فِيهِ إِلْيَاس فَهُوَ جَمْع إِلْيَاسِيّ فَحُذِفَتْ يَاء النِّسْبَة ; كَمَا حُذِفَتْ يَاء النِّسْبَة فِي جَمْع الْمُكَسَّر فِي نَحْو الْمَهَالِبَة فِي جَمْع مُهَلَّبِيّ، كَذَلِكَ حُذِفَتْ فِي الْمُسَلَّم فَقِيلَ الْمُهَلَّبُونَ.
وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ : الْأَشْعَرُونَ وَالنُّمَيْرُونَ يُرِيدُونَ الْأَشْعَرِيِّينَ وَالنُّمَيْرِيِّين.
السُّهَيْلِيّ : وَهَذَا لَا يَصِحّ بَلْ هِيَ لُغَة فِي إِلْيَاس، وَلَوْ أَرَادَ مَا قَالُوهُ لَأَدْخَلَ الْأَلِف وَاللَّام كَمَا تَدْخُل فِي الْمَهَالِبَة وَالْأَشْعَرِيِّينَ ; فَكَانَ يَقُول :" سَلَام عَلَى الْإِلْيَاسِينَ " لِأَنَّ الْعَلَم إِذَا جُمِعَ يُنَكَّر حَتَّى يُعَرَّف بِالْأَلِفِ وَاللَّام ; لَا تَقُول : سَلَام عَلَى زَيْدِينَ، بَلْ عَلَى الزَّيْدِينَ بِالْأَلِفِ وَاللَّام.
فَإِلْيَاس عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِ ثَلَاث لُغَات.
النَّحَّاس : وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْد فِي قِرَاءَته " سَلَام عَلَى إِلْيَاسِينَ " وَأَنَّهُ اِسْمه كَمَا أَنَّ اِسْمه إِلْيَاس لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي السُّورَة سَلَام عَلَى " آل " لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللَّه عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ، فَكَمَا سُمِّيَ الْأَنْبِيَاء كَذَا سُمِّيَ هُوَ.
وَهَذَا الِاحْتِجَاج أَصْله لِأَبِي عَمْرو وَهُوَ غَيْر لَازِم ; لِأَنَّا بَيَّنَّا قَوْل أَهْل اللُّغَة أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ عَلَى آله مِنْ أَجْله فَهُوَ سَلَام عَلَيْهِ.
وَالْقَوْل بِأَنَّ اِسْمه " إِلْيَاسِينَ " يَحْتَاج إِلَى دَلِيل وَرِوَايَة ; فَقَدْ وَقَعَ فِي الْأَمْر إِشْكَال.
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَقَرَأَ الْحَسَن " سَلَام عَلَى يَاسِين " بِإِسْقَاطِ الْأَلِف وَاللَّام وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُمْ آلُ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي أَنَّهُمْ آل يَاسِين ; فَعَلَى هَذَا فِي دُخُول الزِّيَادَة فِي يَاسِين وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهَا زِيدَتْ لِتَسَاوِي الْآي، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِع :" طُور سَيْنَاء " [ الْمُؤْمِنُونَ : ٢٠ ] وَفِي مَوْضِع آخَر " طُور سِينِينَ " [ التِّين : ٢ ] فَعَلَى هَذَا يَكُون السَّلَام عَلَى أَهْله دُونه، وَتَكُون الْإِضَافَة إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهُ.
الثَّانِي : أَنَّهَا دَخَلَتْ لِلْجَمْعِ فَيَكُون دَاخِلًا فِي جُمْلَتهمْ فَيَكُون السَّلَام عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ.
قَالَ السُّهَيْلِيّ : قَالَ بَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مَعَانِي الْقُرْآن : آل يَاسِين آل مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام، وَنَزَعَ إِلَى قَوْل مَنْ قَالَ فِي تَفْسِير " يس " يَا مُحَمَّد.
وَهَذَا الْقَوْل يَبْطُل مِنْ وُجُوه كَثِيرَة : أَحَدهَا : أَنَّ سِيَاقَة الْكَلَام فِي قِصَّة إِلْيَاسِينَ يَلْزَم أَنْ تَكُون كَمَا هِيَ فِي قِصَّة إِبْرَاهِيم وَنُوح وَمُوسَى وَهَارُون وَأَنَّ التَّسْلِيم رَاجِع عَلَيْهِمْ، وَلَا مَعْنَى لِلْخُرُوجِ عَنْ مَقْصُود الْكَلَام لِقَوْلٍ قِيلَ فِي تِلْكَ الْآيَة الْأُخْرَى مَعَ ضَعْف ذَلِكَ الْقَوْل أَيْضًا ; فَإِنَّ " يس " وَ " حم " وَ " الم " وَنَحْو ذَلِكَ الْقَوْل فِيهَا وَاحِد، إِنَّمَا هِيَ حُرُوف مُقَطَّعَة، إِمَّا مَأْخُوذَة مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ اِبْن عَبَّاس، وَإِمَّا مِنْ صِفَات الْقُرْآن، وَإِمَّا كَمَا قَالَ الشَّعْبِيّ : لِلَّهِ فِي كُلّ كِتَاب سِرّ، وَسِرُّهُ فِي الْقُرْآن فَوَاتِح الْقُرْآن.
وَأَيْضًا فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لِي خَمْسَة أَسْمَاء ) وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا " يس ".
وَأَيْضًا فَإِنَّ " يس " جَاءَتْ التِّلَاوَة فِيهَا بِالسُّكُونِ وَالْوَقْف، وَلَوْ كَانَ اِسْمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَالَ :" يَاسِينُ " بِالضَّمِّ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ " [ يُوسُف : ٤٦ ] وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقَوْل لِمَا ذَكَرْنَاهُ ; فَـ " إِلْيَاسِينَ " هُوَ إِلْيَاس الْمَذْكُور وَعَلَيْهِ وَقَعَ التَّسْلِيم.
وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : هُوَ مِثْل إِدْرِيس وَإِدْرَاسِينَ، كَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود.
" وَإِنَّ إِدْرِيس لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ " ثُمَّ قَالَ :" سَلَام عَلَى إِدْرَاسِينَ ".
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
أَيْ نُبْقِي عَلَيْهِمْ الثَّنَاء الْحَسَن.
وَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ جَزَاء كَذَلِكَ.
أَوْ نَجْزِيهِمْ بِالْخَلَاصِ مِنْ الشَّدَائِد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
أَيْ مِنْ الَّذِينَ أَعْطَوْا الْعُبُودِيَّة حَقّهَا حَتَّى اِسْتَحَقُّوا الْإِضَافَة إِلَى اللَّه تَعَالَى.
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
قَالَ الْفَرَّاء : لُوط مُشْتَقّ مِنْ قَوْلهمْ : هَذَا أَلْيَط بِقَلْبِي، أَيْ أَلْصَق.
وَقَالَ النَّحَّاس : قَالَ الزَّجَّاج زَعَمَ بَعْض النَّحْوِيِّينَ - يَعْنِي الْفَرَّاء - أَنَّ لُوطًا يَجُوز أَنْ يَكُون مُشْتَقًّا مِنْ لُطْت إِذَا مَلَّسْته بِالطِّينِ.
قَالَ : وَهَذَا غَلَط ; لِأَنَّ الْأَسْمَاء الْأَعْجَمِيَّة لَا تُشْتَقّ كَإِسْحَاق، فَلَا يُقَال : إِنَّهُ مِنْ السُّحْق وَهُوَ الْبُعْد.
وَإِنَّمَا صُرِفَ لُوط لِخِفَّتِهِ لِأَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَة أَحْرُف وَهُوَ سَاكِن الْوَسَط.
قَالَ النَّقَّاش : لُوط مِنْ الْأَسْمَاء الْأَعْجَمِيَّة وَلَيْسَ مِنْ الْعَرَبِيَّة.
فَأَمَّا لُطْت الْحَوْض، وَهَذَا أَلْيَط بِقَلْبِي مِنْ هَذَا، فَصَحِيح.
وَلَكِنَّ الِاسْم أَعْجَمِيّ كَإِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق.
قَالَ سِيبَوَيْهِ : نُوح وَلُوط أَسْمَاء أَعْجَمِيَّة، إِلَّا أَنَّهَا خَفِيفَة فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ.
بَعَثَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى أُمَّة تُسَمَّى سَدُوم، وَكَانَ اِبْن أَخِي إِبْرَاهِيم.
إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ
سَرَى لُوط بِأَهْلِهِ كَمَا وَصَفَ اللَّه " بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْل " [ هُود : ٨١ ] ثُمَّ أُمِرَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام فَأَدْخَلَ جَنَاحه تَحْت مَدَائِنهمْ فَاقْتَلَعَهَا وَرَفَعَهَا حَتَّى سَمِعَ أَهْل السَّمَاء صِيَاح الدِّيَكَة وَنُبَاح الْكِلَاب، ثُمَّ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَأُمْطِرَتْ عَلَيْهِمْ حِجَارَة مِنْ سِجِّيل، قِيلَ : عَلَى مَنْ غَابَ مِنْهُمْ.
وَأَدْرَكَ اِمْرَأَةَ لُوط - وَكَانَتْ مَعَهُ - حَجَرٌ فَقَتَلَهَا.
وَكَانَتْ - فِيمَا ذُكِرَ - أَرْبَع قُرًى.
وَقِيلَ : خَمْس فِيهَا أَرْبَعمِائَةِ أَلْف.
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ
" " الْغَابِرِينَ " أَيْ الْبَاقِينَ فِي عَذَاب اللَّه ; قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة.
غَبَرَ الشَّيْء إِذَا مَضَى، وَغَبَرَ إِذَا بَقِيَ.
وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَاد.
وَقَالَ قَوْم : الْمَاضِي عَابِر بِالْعَيْنِ غَيْر مُعْجَمَة.
وَالْبَاقِي غَابِر بِالْغَيْنِ مُعْجَمَةً.
حَكَاهُ اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل.
وَقَالَ الزَّجَّاج :" مِنْ الْغَابِرِينَ " أَيْ مِنْ الْغَائِبِينَ عَنْ النَّجَاة وَقِيلَ : لِطُولِ عُمُرِهَا.
قَالَ النَّحَّاس : وَأَبُو عُبَيْدَة يَذْهَب إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى مِنْ الْمُعَمَّرِينَ ; أَيْ إِنَّهَا قَدْ هَرِمَتْ.
وَالْأَكْثَر فِي اللُّغَة أَنْ يَكُون الْغَابِر الْبَاقِي ; قَالَ الرَّاجِز :
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
أَيْ بِالْعُقُوبَةِ.
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
خَاطَبَ الْعَرَب : أَيْ تَمُرُّونَ عَلَى مَنَازِلهمْ وَآثَارهمْ " مُصْبِحِينَ " وَقْت الصَّبَاح
وَبِاللَّيْلِ
تَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا وَتَمَّ الْكَلَام.
أَفَلَا تَعْقِلُونَ
أَيْ تَعْتَبِرُونَ وَتَتَدَبَّرُونَ.
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
يُونُس هُوَ ذُو النُّون، وَهُوَ اِبْن مَتَّى، وَهُوَ اِبْن الْعَجُوز الَّتِي نَزَلَ عَلَيْهَا إِلْيَاس، فَاسْتَخْفَى عِنْدهَا مِنْ قَوْمه سِتَّة أَشْهُر وَيُونُس صَبِيٌّ يَرْضَع، وَكَانَتْ أُمّ يُونُس تَخْدُمُهُ بِنَفْسِهَا وَتُؤَانِسُهُ، وَلَا تَدَّخِر عَنْهُ كَرَامَة تَقْدِر عَلَيْهَا.
ثُمَّ إِنَّ إِلْيَاس سَئِم ضِيقَ الْبُيُوت فَلَحِقَ بِالْجِبَالِ، وَمَاتَ اِبْن الْمَرْأَة يُونُس، فَخَرَجَتْ فِي أَثَر إِلْيَاس تَطُوف وَرَاءَهُ فِي الْجِبَال حَتَّى وَجَدَتْهُ، فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّه لَهَا لَعَلَّهُ يُحْيِي لَهَا وَلَدهَا ; فَجَاءَ إِلْيَاس إِلَى الصَّبِيّ بَعْد أَرْبَعَة عَشَرَ يَوْمًا مِنْ مَوْته، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَدَعَا اللَّه فَأَحْيَا اللَّه يُونُس بْن مَتَّى بِدَعْوَةِ إِلْيَاس عَلَيْهِ السَّلَام.
وَأَرْسَلَ اللَّه يُونُس إِلَى أَهْل نِينَوَى مِنْ أَرْض الْمَوْصِل وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَام ثُمَّ تَابُوا، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة [ يُونُس ] وَمَضَى فِي [ الْأَنْبِيَاء ] قِصَّة يُونُس فِي خُرُوجه مُغَاضِبًا.
وَاخْتُلِفَ فِي رِسَالَته هَلْ كَانَتْ قَبْل اِلْتِقَام الْحُوت إِيَّاهُ أَوْ بَعْده.
قَالَ الطَّبَرِيّ عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب : إِنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى يُونُس فَقَالَ : اِنْطَلِقْ إِلَى أَهْل نِينَوَى فَأَنْذِرْهُمْ أَنَّ الْعَذَاب قَدْ حَضَرَهُمْ.
قَالَ : أَلْتَمِسُ دَابَّة.
قَالَ : الْأَمْر أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ : أَلْتَمِسُ حِذَاء.
قَالَ : الْأَمْر أَعْجَل مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ : فَغَضِبَ فَانْطَلَقَ إِلَى السَّفِينَة فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَكِبَ السَّفِينَة اِحْتَبَسَتْ السَّفِينَة لَا تَتَقَدَّم وَلَا تَتَأَخَّر.
قَالَ : فَتَسَاهَمُوا، قَالَ : فَسُهِمَ، فَجَاءَ الْحُوت يُبَصْبِصُ بِذَنَبِهِ ; فَنُودِيَ الْحُوت : أَيَا حُوتُ ! إِنَّا لَمْ نَجْعَل لَك يُونُس رِزْقًا ; إِنَّمَا جَعَلْنَاك لَهُ حِرْزًا وَمَسْجِدًا.
قَالَ : فَالْتَقَمَهُ الْحُوت مِنْ ذَلِكَ الْمَكَان حَتَّى مَرَّ بِهِ إِلَى الْأُبُلَّة، ثُمَّ اِنْطَلَقَ بِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِ عَلَى دِجْلَة، ثُمَّ اِنْطَلَقَ حَتَّى أَلْقَاهُ فِي نِينَوَى.
حَدَّثَنَا الْحَارِث قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَن قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هِلَال قَالَ حَدَّثَنَا شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : إِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَة يُونُس بَعْد مَا نَبَذَهُ الْحُوت ; وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الرَّسُول لَا يَخْرُج مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، فَكَانَ مَا جَرَى مِنْهُ قَبْل النُّبُوَّة.
وَقَالَ آخَرُونَ : كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْد دُعَائِهِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّه بِدُعَائِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَبْلِيغه إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ رَبّه، وَلَكِنَّهُ وَعَدَهُمْ نُزُول مَا كَانَ حَذَّرَهُمْ مِنْ بَأْس اللَّه فِي وَقْت وَقَّتَهُ لَهُمْ فَفَارَقَهُمْ إِذْ لَمْ يَتُوبُوا وَلَمْ يُرَاجِعُوا طَاعَة اللَّه، فَلَمَّا أَظَلَّ الْقَوْمَ الْعَذَاب وَغَشِيَهُمْ - كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي تَنْزِيله - تَابُوا إِلَى اللَّه، فَرَفَعَ اللَّه الْعَذَاب عَنْهُمْ، وَبَلَغَ يُونُس سَلَامَتهمْ وَارْتِفَاع الْعَذَاب الَّذِي كَانَ وَعَدَهُمُوهُ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ : وَعَدْتهمْ وَعْدًا فَكَذَّبَ وَعْدِي.
فَذَهَبَ مُغَاضِبًا رَبّه وَكَرِهَ الرُّجُوع إِلَيْهِمْ، وَقَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ ; رَوَاهُ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي [ الْأَنْبِيَاء ] وَهُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا يَأْتِي عِنْد قَوْله تَعَالَى :" وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَة أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ " [ الصَّافَّات : ١٤٧ ].
وَلَمْ يَنْصَرِف يُونُس ; لِأَنَّهُ اِسْم أَعْجَمِيّ وَلَوْ كَانَ عَرَبِيًّا لَانْصَرَفَ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَوَّلِهِ الْيَاء ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَفْعَال يُفْعُل كَمَا أَنَّك إِذَا سَمَّيْت بِيُعْفُر صَرَفْته ; وَإِنْ سَمَّيْت بِيَعْفُر لَمْ تَصْرِفْهُ.
إِذْ أَبَقَ
قَالَ الْمُبَرِّد : أَصْل أَبَقَ تَبَاعَدَ ; وَمِنْهُ غُلَام آبِق.
وَقَالَ غَيْره : إِنَّمَا قِيلَ لِيُونُس أَبَقَ ; لِأَنَّهُ خَرَجَ بِغَيْرِ أَمْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَتِرًا مِنْ النَّاس.
قَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم : سَمَّاهُ آبِقًا لِأَنَّهُ أَبَقَ عَنْ الْعُبُودِيَّة، وَإِنَّمَا الْعُبُودِيَّة تَرْك الْهَوَى وَبَذْل النَّفْس عِنْد أُمُور اللَّه ; فَلَمَّا لَمْ يَبْذُل النَّفْس عِنْدَمَا اِشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الْعَزْمَة مِنْ الْمُلْك حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي [ الْأَنْبِيَاء ]، وَآثَرَ هَوَاهُ لَزِمَهُ اِسْم الْآبِق، وَكَانَتْ عَزْمَة الْمُلْك فِي أَمْر اللَّه لَا فِي أَمْر نَفْسه، وَبِحَظِّ حَقّ اللَّه لَا بِحَظِّ نَفْسه ; فَتَحَرَّى يُونُس فَلَمْ يُصِبْ الصَّوَاب الَّذِي عِنْد اللَّه فَسَمَّاهُ آبِقًا وَمُلِيمًا.
إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
أَيْ الْمَمْلُوءَة " وَالْفُلْك " يُذَكَّر وَيُؤَنَّث وَيَكُون وَاحِدًا وَجَمْعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ.
فَسَاهَمَ
قَالَ الْمُبَرِّد : فَقَارَعَ، قَالَ : وَأَصْله مِنْ السِّهَام الَّتِي تُجَالُ.
ذَكَرَ الطَّبَرِيّ : أَنَّ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا رَكِبَ فِي السَّفِينَة أَصَابَ أَهْلَهَا عَاصِفٌ مِنْ الرِّيح، فَقَالُوا : هَذِهِ بِخَطِيئَةِ أَحَدِكُمْ.
فَقَالَ يُونُس وَعَرَفَ أَنَّهُ هُوَ صَاحِب الذَّنْب : هَذِهِ خَطِيئَتِي فَأَلْقُونِي فِي الْبَحْر، وَأَنَّهُمْ أَبَوْا عَلَيْهِ حَتَّى أَفَاضُوا بِسِهَامِهِمْ.
" فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ " فَقَالَ لَهُمْ : قَدْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ هَذَا الْأَمْر بِذَنْبِي.
وَأَنَّهُمْ أَبَوْا عَلَيْهِ حَتَّى أَفَاضُوا بِسِهَامِهِمْ الثَّانِيَة فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ، وَأَنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يُلْقُوهُ فِي الْبَحْر حَتَّى أَعَادُوا سِهَامهمْ الثَّالِثَة فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَلْقَى نَفْسه فِي الْبَحْر، وَذَلِكَ تَحْت اللَّيْل فَابْتَلَعَهُ الْحُوت.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ فِي السَّفِينَة تَقَنَّعَ وَرَقَدَ فَسَارُوا غَيْر بَعِيد إِذْ جَاءَتْهُمْ رِيح كَادَتْ السَّفِينَة أَنْ تَغْرَق، فَاجْتَمَعَ أَهْل السَّفِينَة فَدَعَوْا فَقَالُوا : أَيْقِظُوا الرَّجُل النَّائِم يَدْعُوا مَعَنَا ; فَدَعَا اللَّه مَعَهُمْ فَرَفَعَ اللَّه عَنْهُمْ تِلْكَ الرِّيح.
ثُمَّ اِنْطَلَقَ يُونُس إِلَى مَكَانه فَرَقَدَ، فَجَاءَتْ رِيح كَادَتْ السَّفِينَة أَنْ تَغْرَق، فَأَيْقَظُوهُ وَدَعَوْا اللَّه فَارْتَفَعَتْ الرِّيح.
قَالَ : فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ رَفَعَ حُوت عَظِيم رَأْسه إِلَيْهِمْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَلِع السَّفِينَة، فَقَالَ لَهُمْ يُونُس : يَا قَوْم هَذَا مِنْ أَجْلِي فَلَوْ طَرَحْتُمُونِي فِي الْبَحْر لَسِرْتُمْ وَلَذَهَبَ الرِّيح عَنْكُمْ وَالرَّوْع.
قَالُوا : لَا نَطْرَحُك حَتَّى نَتَسَاهَمَ، فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ رَمَيْنَاهُ فِي الْبَحْر.
قَالَ : فَتَسَاهَمُوا فَوَقَعَ عَلَى يُونُس ; فَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْم اِطْرَحُونِي فَمِنْ أَجَلِي أُوتِيتُمْ ; فَقَالُوا : لَا نَفْعَل حَتَّى نَتَسَاهَمَ مَرَّة أُخْرَى.
فَفَعَلُوا فَوَقَعَ عَلَى يُونُس.
فَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْم اِطْرَحُونِي فَمِنْ أَجْلِي أُوتِيتُمْ ; فَذَلِكَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ " أَيْ وَقَعَ السَّهْم عَلَيْهِ ; فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى صَدْر السَّفِينَة لِيُلْقُوهُ فِي الْبَحْر، فَإِذَا الْحُوت فَاتِح فَاهُ، ثُمَّ جَاءُوا بِهِ إِلَى جَانِب السَّفِينَة، فَإِذَا بِالْحُوتِ، ثُمَّ رَجَعُوا بِهِ إِلَى الْجَانِب الْآخَر، فَإِذَا بِالْحُوتِ فَاتِح فَاهُ ; فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَلْقَى بِنَفْسِهِ فَالْتَقَمَهُ الْحُوت ; فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى الْحُوت : إِنِّي لَمْ أَجْعَلْهُ لَك رِزْقًا وَلَكِنْ جَعَلْت بَطْنَك لَهُ وِعَاء.
فَمَكَثَ فِي بَطْن الْحُوت أَرْبَعِينَ لَيْلَة فَنَادَى فِي الظُّلُمَات :" أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ.
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ " [ الْأَنْبِيَاء :
٨٧ - ٨٨ ] وَقَدْ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي.
فَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْه أَنَّ الْقُرْعَة كَانَتْ مَعْمُولًا بِهَا فِي شَرْع مَنْ قَبْلنَا، وَجَاءَتْ فِي شَرْعنَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [ آل عِمْرَان ] قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ وَرَدَتْ الْقُرْعَة فِي الشَّرْع فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن.
الْأَوَّل : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْن نِسَائِهِ، فَأَيَّتهنَّ خَرَجَ سَهْمهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ.
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّة أَعْبُدٍ لَا مَال لَهُ غَيْرهمْ، فَأَقْرَعَ بَيْنهمْ ; فَأَعْتَقَ اِثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَة.
الثَّالِث : أَنَّ رَجُلَيْنِ اِخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِي مَوَارِيث قَدْ دَرَسَتْ فَقَالَ :( اِذْهَبَا وَتَوَخَّيَا الْحَقّ وَاسْتَهِمَا وَلْيَحْلِلْ كُلّ وَاحِد مِنْكُمَا صَاحِبه ).
فَهَذِهِ ثَلَاثَة مَوَاطِن، وَهِيَ الْقَسْمُ فِي النِّكَاح، وَالْعِتْق، وَالْقِسْمَة، وَجَرَيَانُ الْقُرْعَة فِيهَا لِرَفْعِ الْإِشْكَال وَحَسْم دَاء التَّشَهِّي.
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْقُرْعَة بَيْن الزَّوْجَات فِي الْغَزْو عَلَى قَوْلَيْنِ ; الصَّحِيح مِنْهُمَا الْإِقْرَاع ; وَبِهِ قَالَ فُقَهَاء الْأَمْصَار.
وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَر بِجَمِيعِهِنَّ لَا يُمْكِن، وَاخْتِيَار وَاحِدَة مِنْهُنَّ إِيثَار فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقُرْعَة.
وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَة الْأَعْبُد السِّتَّة ; فَإِنَّ كُلّ اِثْنَيْنِ مِنْهُمَا ثُلُث، وَهُوَ الْقَدْر الَّذِي يَجُوز لَهُ فِيهِ الْعِتْق فِي مَرَض الْمَوْت، وَتَعْيِينهمَا بِالتَّشَهِّي لَا يَجُوز شَرْعًا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقُرْعَة.
وَكَذَلِكَ التَّشَاجُر إِذَا وَقَعَ فِي أَعْيَان الْمَوَارِيث لَمْ يُمَيِّز الْحَقَّ إِلَّا الْقُرْعَةُ، فَصَارَتْ أَصْلًا فِي تَعْيِين الْمُسْتَحِقّ إِذَا أَشْكَلَ.
قَالَ : وَالْحَقّ عِنْدِي أَنْ تُجْرَى فِي كُلّ مُشْكِل، فَذَلِكَ أَبْيَن لَهَا، وَأَقْوَى لِفَصْلِ الْحُكْم فِيهَا، وَأَجْلَى لِرَفْعِ الْإِشْكَال عَنْهَا ; وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّ الْقُرْعَة بَيْن الزَّوْجَات فِي الطَّلَاق كَالْقُرْعَةِ بَيْن الْإِمَاء فِي الْعِتْق.
الِاقْتِرَاع عَلَى إِلْقَاء الْآدَمِيّ فِي الْبَحْر لَا يَجُوز.
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي يُونُس وَزَمَانه مُقَدِّمَة لِتَحْقِيقِ بُرْهَانه، وَزِيَادَة فِي إِيمَانه ; فَإِنَّهُ لَا يَجُوز لِمَنْ كَانَ عَاصِيًا أَنْ يُقْتَل وَلَا يُرْمَى بِهِ فِي النَّار أَوْ الْبَحْر، وَإِنَّمَا تُجْرَى عَلَيْهِ الْحُدُود وَالتَّعْزِير عَلَى مِقْدَار جِنَايَته.
وَقَدْ ظَنَّ بَعْض النَّاس أَنَّ الْبَحْر إِذَا هَالَ عَلَى الْقَوْم فَاضْطُرُّوا إِلَى تَخْفِيف السَّفِينَة أَنَّ الْقُرْعَة تُضْرَب عَلَيْهِمْ، فَيُطْرَح بَعْضهمْ تَخْفِيفًا ; وَهَذَا فَاسِد ; فَإِنَّهَا لَا تَخِفُّ بِرَمْيِ بَعْض الرِّجَال وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَال، وَلَكِنَّهُمْ يَصْبِرُونَ عَلَى قَضَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
قَالَ : مِنْ الْمَغْلُوبِينَ.
قَالَ الْفَرَّاء : دَحَضَتْ حُجَّته وَأَدْحَضَهَا اللَّه.
وَأَصْله مِنْ الزَّلَق ; قَالَ الشَّاعِر :
فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ لَهُ الْإِلَهُ مَا مَضَى وَمَا غَبَرْ
قَتَلْنَا الْمُدْحَضِينَ بِكُلِّ فَجٍّ فَقَدْ قَرَّتْ بِقَتْلِهِمُ الْعُيُونُ
أَيْ الْمَغْلُوبِينَ.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
أَيْ أَتَى بِمَا يُلَام عَلَيْهِ.
فَأَمَّا الْمَلُوم فَهُوَ الَّذِي يُلَام، اِسْتَحَقَّ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَسْتَحِقّ.
وَقِيلَ : الْمُلِيم الْمَعِيب.
يُقَال : لَامَ الرَّجُل إِذَا عَمِلَ شَيْئًا فَصَارَ مَعِيبًا بِذَلِكَ الْعَمَل.
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
قَالَ الْكِسَائِيّ : لَمْ تُكْسَر " أَنَّ " لِدُخُولِ اللَّام ; لِأَنَّ اللَّام لَيْسَتْ لَهَا.
النَّحَّاس : وَالْأَمْر كَمَا قَالَ ; إِنَّمَا اللَّام فِي جَوَاب لَوْلَا.
" فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ " أَيْ مِنْ الْمُصَلِّينَ أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ يُونُس كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ، وَأَنَّ تَسْبِيحَهُ كَانَ سَبَبَ نَجَاته ; وَلِذَلِكَ قِيلَ : إِنَّ الْعَمَل الصَّالِح يَرْفَع صَاحِبه إِذَا عَثَرَ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس :" مِنْ الْمُسَبِّحِينَ " مِنْ الْمُصَلِّينَ.
قَالَ قَتَادَة : كَانَ يُصَلِّي قَبْل ذَلِكَ لِحِفْظِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فَنَجَّاهُ.
وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : لَوْلَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ قَبْل ذَلِكَ عَمَل صَالِح " لَلَبِثَ فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ " قَالَ : وَمَكْتُوب فِي الْحِكْمَة - إِنَّ الْعَمَل الصَّالِح يَرْفَع رَبّه إِذَا عَثَرَ.
وَقَالَ مُقَاتِل :" مِنْ الْمُسَبِّحِينَ " مِنْ الْمُصَلِّينَ الْمُطِيعِينَ قَبْل الْمَعْصِيَة.
وَقَالَ وَهْب : مِنْ الْعَابِدِينَ.
وَقَالَ الْحَسَن : مَا كَانَ لَهُ صَلَاة فِي بَطْن الْحُوت ; وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ عَمَلًا صَالِحًا فِي حَال الرَّخَاء فَذَكَرَهُ اللَّه بِهِ فِي حَال الْبَلَاء، وَإِنَّ الْعَمَل الصَّالِح لَيَرْفَع صَاحِبه، وَإِذَا عَثَرَ وَجَدَ مُتَّكَأ.
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ تَكُون لَهُ خَبِيئَة مِنْ عَمَل صَالِح فَلْيَفْعَلْ ) فَيَجْتَهِد الْعَبْد، وَيَحْرِص عَلَى خَصْلَة مِنْ صَالِح عَمَله، يُخْلِص فِيهَا بَيْنه وَبَيْن رَبّه، وَيَدَّخِرهَا لِيَوْمِ فَاقَته وَفَقْره، وَيُخَبِّئُهَا بِجَهْدِهِ، وَيَسْتُرهَا عَنْ خَلْقه، يَصِل إِلَيْهِ نَفْعهَا أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ.
وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( بَيْنَمَا ثَلَاثَة نَفَر - فِي رِوَايَة مِمَّنْ كَانَ قَبْلكُمْ - يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَر فَأَوَوْا إِلَى غَار فِي جَبَل فَانْحَطَّتْ عَلَى فَم الْغَار صَخْرَة مِنْ الْجَبَل فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ اُنْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَة لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّه بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجهَا عَنْكُمْ.
) الْحَدِيث بِكَمَالِهِ وَهُوَ مَشْهُور، شُهْرَته أَغْنَتْ عَنْ تَمَامه.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : لَمَّا قَالَ فِي بَطْن الْحُوت :" لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : ٨٧ ] قَذَفَهُ الْحُوت.
وَقِيلَ :" مِنْ الْمُسَبِّحِينَ " مِنْ الْمُصَلِّينَ فِي بَطْن الْحُوت.
قُلْت : وَالْأَظْهَر أَنَّهُ تَسْبِيح اللِّسَان الْمُوَافِق لِلْجَنَانِ، وَعَلَيْهِ يَدُلّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة الْمَذْكُور قَبْل الَّذِي ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ.
قَالَ : فَسَبَّحَ فِي بَطْن الْحُوت.
قَالَ : فَسَمِعَتْ الْمَلَائِكَة تَسْبِيحه ; فَقَالُوا : يَا رَبَّنَا إِنَّا نَسْمَع صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَة.
وَتَكُون " كَانَ " عَلَى هَذَا الْقَوْل زَائِدَة ; أَيْ فَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ.
وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُدَ عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( دُعَاء ذِي النُّون فِي بَطْن الْحُوت " لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : ٨٧ ] لَمْ يَدْعُ بِهِ رَجُل مُسْلِم فِي شَيْء قَطُّ إِلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ ) وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَة [ الْأَنْبِيَاء ] فَيُونُس عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ قَبْلُ مُصَلِّيًا مُسَبِّحًا، وَفِي بَطْن الْحُوت كَذَلِكَ.
وَفِي الْخَبَر : فَنُودِيَ الْحُوت : إِنَّا لَمْ نَجْعَل يُونُس لَك رِزْقًا ; إِنَّمَا جَعَلْنَاك لَهُ حِرْزًا وَمَسْجِدًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
أَيْ عُقُوبَة لَهُ ; أَيْ يَكُون بَطْن الْحُوت قَبْرًا لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَاخْتُلِفَ كَمْ أَقَامَ فِي بَطْن الْحُوت.
فَقَالَ السُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل بْن سُلَيْمَان : أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
الضَّحَّاك : عِشْرِينَ يَوْمًا.
عَطَاء : سَبْعَة أَيَّام.
مُقَاتِل بْن حَيَّان : ثَلَاثَة أَيَّام.
وَقِيلَ : سَاعَة وَاحِدَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
رَوَى الطَّبَرِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَمَّا أَرَادَ اللَّه تَعَالَى ذِكْرُهُ - حَبْس يُونُس فِي بَطْن الْحُوت أَوْحَى اللَّه إِلَى الْحُوت أَنْ خُذْهُ وَلَا تَخْدِشْ لَحْمًا وَلَا تَكْسِرْ عَظْمًا فَأَخَذَهُ ثُمَّ هَوَى بِهِ إِلَى مَسْكَنِهِ مِنْ الْبَحْر ; فَلَمَّا اِنْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَل الْبَحْر سَمِعَ يُونُس حِسًّا فَقَالَ فِي نَفْسه مَا هَذَا ؟ فَأَوْحَى اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْن الْحُوت :( إِنَّ هَذَا تَسْبِيح دَوَابّ الْبَحْر ) قَالَ :( فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْن الْحُوت ) قَالَ :( فَسَمِعَتْ الْمَلَائِكَة تَسْبِيحه فَقَالُوا : يَا رَبّنَا إِنَّا نَسْمَع صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَة ) قَالَ :( ذَلِكَ عَبْدِي يُونُس عَصَانِي فَحَبَسْته فِي بَطْن الْحُوت فِي الْبَحْر ) قَالُوا : الْعَبْد الصَّالِح الَّذِي كَانَ يَصْعَد إِلَيْك مِنْهُ فِي كُلّ يَوْم وَلَيْلَة عَمَل صَالِح ؟ قَالَ نَعَمْ.
فَشَفَعُوا لَهُ عِنْد ذَلِكَ فَأَمَرَ الْحُوت بِقَذْفِهِ فِي السَّاحِل كَمَا قَالَ تَعَالَى :" وَهُوَ سَقِيم " ).
وَكَانَ سَقَمه الَّذِي وَصَفَهُ بِهِ اللَّه - تَعَالَى ذِكْره - أَنَّهُ أَلْقَاهُ الْحُوت عَلَى السَّاحِل كَالصَّبِيّ الْمَنْفُوس قَدْ نُشِرَ اللَّحْم وَالْعَظْم.
وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ الْحُوت سَارَ مَعَ السَّفِينَة رَافِعًا رَأْسَهُ يَتَنَفَّس فِيهِ يُونُس وَيُسَبِّح، وَلَمْ يُفَارِقْهُمْ حَتَّى اِنْتَهَوْا إِلَى الْبَرّ، فَلَفَظَهُ سَالِمًا لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْء فَأَسْلَمُوا ; ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي تَفْسِيره.
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَخْبَرَنِي غَيْر وَاحِد مِنْ أَصْحَابنَا عَنْ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي عَبْد الْمَلِك بْن عَبْد اللَّه بْن يُوسُف الْجُوَيْنِيّ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْبَارِي فِي جِهَة ؟ فَقَالَ : لَا، هُوَ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
قِيلَ لَهُ : مَا الدَّلِيل عَلَيْهِ ؟ قَالَ : الدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُس بْن مَتَّى ) فَقِيلَ لَهُ : مَا وَجْه الدَّلِيل فِي هَذَا الْخَبَر ؟ فَقَالَ : لَا أَقُولهُ حَتَّى يَأْخُذ ضَيْفِي هَذَا أَلْف دِينَار يَقْضِي بِهَا دَيْنًا.
فَقَامَ رَجُلَانِ فَقَالَا : هِيَ عَلَيْنَا.
فَقَالَ لَا يَتْبَعُ بِهَا اِثْنَيْنِ ; لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ.
فَقَالَ وَاحِد : هِيَ عَلَيَّ.
فَقَالَ : إِنَّ يُونُس بْن مَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْر فَالْتَقَمَهُ الْحُوت، فَصَارَ فِي قَعْر الْبَحْر فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاث، وَنَادَى " لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : ٨٧ ] كَمَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين جَلَسَ عَلَى الرَّفْرَف الْأَخْضَر وَارْتَقَى بِهِ صُعُدًا، حَتَّى اِنْتَهَى بِهِ إِلَى مَوْضِع يَسْمَع فِيهِ صَرِيف الْأَقْلَام، وَنَاجَاهُ رَبّه بِمَا نَاجَاهُ بِهِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى بِأَقْرَبَ إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ يُونُس فِي بَطْن الْحُوت فِي ظُلْمَة الْبَحْر.
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ
رُوِيَ أَنَّ الْحُوت قَذَفَهُ بِسَاحِلِ قَرْيَة مِنْ الْمَوْصِل.
وَقَالَ اِبْن قُسَيْطٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة : طُرِحَ يُونُس بِالْعَرَاءِ وَأَنْبَتَ اللَّه عَلَيْهِ يَقْطِينَةً ; فَقُلْنَا : يَا أَبَا هُرَيْرَة وَمَا الْيَقْطِينَة ؟ قَالَ : شَجَرَة الدُّبَّاء ; هَيَّأَ اللَّه لَهُ أَرْوِيَة وَحْشِيَّة تَأْكُل مِنْ خَشَاش الْأَرْض - أَوْ هَشَاش الْأَرْض - فَتَفْشِج عَلَيْهِ فَتَرْوِيهِ مِنْ لَبَنهَا كُلّ عَشِيَّة وَبُكْرَة حَتَّى نَبَتَ.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : خَرَجَ بِهِ - يَعْنِي الْحُوت - حَتَّى لَفَظَهُ فِي سَاحِل الْبَحْر، فَطَرَحَهُ مِثْل الصَّبِيّ الْمَنْفُوس لَمْ يَنْقُص مِنْ خَلْقه شَيْء.
وَقِيلَ : إِنَّ يُونُس لَمَّا أَلْقَاهُ الْحُوت عَلَى سَاحِل الْبَحْر أَنْبَتَ اللَّه عَلَيْهِ شَجَرَة مِنْ يَقْطِين، وَهِيَ فِيمَا ذُكِرَ شَجَرَة الْقَرْع تَتَقَطَّر عَلَيْهِ مِنْ اللَّبَن حَتَّى رَجَعَتْ إِلَيْهِ قُوَّتُهُ.
ثُمَّ رَجَعَ ذَات يَوْم إِلَى الشَّجَرَة فَوَجَدَهَا يَبِسَتْ، فَحَزِنَ وَبَكَى عَلَيْهَا فَعُوتِبَ ; فَقِيلَ لَهُ : أَحَزِنْت عَلَى شَجَرَة وَبَكَيْت عَلَيْهَا، وَلَمْ تَحْزَن عَلَى مِائَة أَلْف وَزِيَادَة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل، مِنْ أَوْلَاد إِبْرَاهِيم خَلِيلِي، أَسْرَى فِي أَيْدِي الْعَدُوّ، وَأَرَدْت إِهْلَاكهمْ جَمِيعًا.
وَقِيلَ : هِيَ شَجَرَة التِّين.
وَقِيلَ : شَجَرَة الْمَوْز تَغَطَّى بِوَرَقِهَا، وَاسْتَظَلَّ بِأَغْصَانِهَا، وَأَفْطَرَ عَلَى ثِمَارهَا.
وَالْأَكْثَر عَلَى أَنَّهَا شَجَرَة الْيَقْطِين عَلَى مَا يَأْتِي.
ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى اِجْتَبَاهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ.
ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمه وَيُخْبِرهُمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ، فَعَمَدَ إِلَيْهِمْ حَتَّى لَقِيَ رَاعِيًا فَسَأَلَهُ عَنْ قَوْم يُونُس وَعَنْ حَالهمْ وَكَيْف هُمْ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ بِخَيْرٍ، وَأَنَّهُمْ عَلَى رَجَاء أَنْ يَرْجِع إِلَيْهِمْ رَسُولُهُمْ.
فَقَالَ لَهُ : فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي قَدْ لَقِيت يُونُس.
قَالَ : وَمَاذَا ؟ قَالَ : وَهَذِهِ الْبُقْعَة الَّتِي أَنْتَ فِيهَا تَشْهَد لَك أَنَّك لَقِيت يُونُس، قَالَ : وَمَاذَا ؟ قَالَ وَهَذِهِ الشَّجَرَة تَشْهَد لَك أَنَّك لَقِيت يُونُس.
وَأَنَّهُ رَجَعَ الرَّاعِي إِلَى قَوْمه فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَقِيَ يُونُس فَكَذَّبُوهُ وَهَمُّوا بِهِ شَرًّا فَقَالَ : لَا تَعْجَلُوا عَلَيَّ حَتَّى أُصْبِحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِمْ إِلَى الْبُقْعَة الَّتِي لَقِيَ فِيهَا يُونُس، فَاسْتَنْطَقَهَا فَأَخْبَرَتْهُمْ أَنَّهُ لَقِيَ يُونُس ; وَاسْتَنْطَقَ الشَّاة وَالشَّجَرَة فَأَخْبَرَتَاهُمْ أَنَّهُ لَقِيَ يُونُس، ثُمَّ إِنَّ يُونُس أَتَاهُمْ بَعْد ذَلِكَ.
ذَكَرَ هَذَا الْخَبَر وَمَا قَبْله الطَّبَرِيّ رَحِمَهُ اللَّه.
" فَنَبَذْنَاهُ " طَرَحْنَاهُ.
وَقِيلَ : تَرَكْنَاهُ.
" بِالْعَرَاءِ " بِالصَّحْرَاءِ ; قَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ.
الْأَخْفَش : بِالْفَضَاءِ.
أَبُو عُبَيْدَة : الْوَاسِع مِنْ الْأَرْض.
الْفَرَّاء : الْعَرَاء الْمَكَان الْخَالِي.
قَالَ : وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْعَرَاء وَجْه الْأَرْض ; وَأَنْشَدَ لِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَة :
وَحَكَى الْأَخْفَش فِي قَوْله :" وَهُوَ سَقِيم " جَمْع سَقِيم سَقْمَى وَسَقَامَى وَسِقَام.
وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَة :" فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ " وَقَالَ فِي " ن وَالْقَلَمِ " [ الْقَلَم : ١ ] :" لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبّه لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُوم " [ الْقَلَم : ٤٩ ] وَالْجَوَاب : أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَبَّرَ هَاهُنَا أَنَّهُ نَبَذَهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ غَيْر مَذْمُوم وَلَوْلَا رَحْمَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُوم ; قَالَهُ النَّحَّاس.
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ
يَعْنِي " عَلَيْهِ " أَيْ عِنْده ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْب " [ الشُّعَرَاء : ١٤ ] أَيْ عِنْدِي.
وَقِيلَ :" عَلَيْهِ " بِمَعْنَى لَهُ.
" شَجَرَة مِنْ يَقْطِين " الْيَقْطِين : شَجَر الدُّبَّاء : وَقِيلَ غَيْرهَا ; ذَكَرَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ.
وَفِي الْخَبَر :( الدُّبَّاء وَالْبِطِّيخ مِنْ الْجَنَّة ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : يُقَال لِكُلِّ شَجَرَة لَيْسَ لَهَا سَاق يَفْتَرِش وَرَقهَا عَلَى الْأَرْض يَقْطِينَة نَحْو الدُّبَّاء وَالْبِطِّيخ وَالْحَنْظَل، فَإِنْ كَانَ لَهَا سَاق يُقِلّهَا فَهِيَ شَجَرَة فَقَطْ، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَة أَيْ بِعُرُوقٍ تَفْتَرِش فَهِيَ نَجْمَة وَجَمْعهَا نَجْم.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَالنَّجْم وَالشَّجَر يَسْجُدَانِ " [ الرَّحْمَن : ٦ ] وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَمُقَاتِل.
قَالُوا : كُلّ نَبْت يَمْتَدّ وَيُبْسَط عَلَى الْأَرْض وَلَا يَبْقَى عَلَى اِسْتِوَاء وَلَيْسَ لَهُ سَاق نَحْو الْقِثَّاء وَالْبِطِّيخ وَالْقَرْع وَالْحَنْظَل فَهُوَ يَقْطِين.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : هُوَ كُلّ شَيْء يَنْبُت ثُمَّ يَمُوت مِنْ عَامه فَيَدْخُل فِي هَذَا الْمَوْز.
قُلْت : وَهُوَ مِمَّا لَهُ سَاق.
الْجَوْهَرِيّ : وَالْيَقْطِين مَا لَا سَاق لَهُ كَشَجَرِ الْقَرْع وَنَحْوه.
الزَّجَّاج : اِشْتِقَاق الْيَقْطِين مِنْ قَطَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ فَهُوَ يَفْعِيل.
وَقِيلَ : هُوَ اِسْم أَعْجَمِيّ.
وَقِيلَ : إِنَّمَا خَصَّ الْيَقْطِين بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْزِل عَلَيْهِ ذُبَاب.
وَقِيلَ : مَا كَانَ ثَمَّ يَقْطِين فَأَنْبَتَهُ اللَّه فِي الْحَال.
الْقُشَيْرِيّ : وَفِي الْآيَة مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَفْرُوشًا لِيَكُونَ لَهُ ظِلّ.
الثَّعْلَبِيّ : كَانَتْ تُظِلّهُ فَرَأَى خُضْرَتهَا فَأَعْجَبَتْهُ، فَيَبِسَتْ فَجَعَلَ يَتَحَزَّنُ عَلَيْهَا ; فَقِيلَ لَهُ : يَا يُونُس أَنْتَ الَّذِي لَمْ تَخْلُقْ وَلَمْ تَسْقِ وَلَمْ تُنْبِت تَحْزَن عَلَى شُجَيْرَة، فَأَنَا الَّذِي خَلَقْت مِائَة أَلْف مِنْ النَّاس أَوْ يَزِيدُونَ تُرِيد مِنِّي أَنْ أَسْتَأْصِلَهُمْ فِي سَاعَة وَاحِدَة، وَقَدْ تَابُوا وَتُبْت عَلَيْهِمْ فَأَيْنَ رَحْمَتِي يَا يُونُس أَنَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُل الثَّرِيد بِاللَّحْمِ وَالْقَرْع وَكَانَ يُحِبُّ الْقَرْع وَيَقُول :( إِنَّهَا شَجَرَة أَخِي يُونُس ) وَقَالَ أَنَس : قُدِّمَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَق فِيهِ دُبَّاء وَقَدِيد فَجَعَلَ يَتْبَع الدُّبَّاء حَوَالَيْ الْقَصْعَة.
قَالَ أَنَس : فَلَمْ أَزَلْ أُحِبّ الدُّبَّاء مِنْ يَوْمِئِذٍ.
أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّة.
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ
" أَوْ يَزِيدُونَ " قَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] مَحَامِلُ " أَوْ " فِي قَوْله تَعَالَى :" أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً " [ الْبَقَرَة : ٧٤ ].
وَقَالَ الْفَرَّاء :" أَوْ " بِمَعْنَى بَلْ.
وَقَالَ غَيْره : إِنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاو، وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
وَرَفَعْت رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا وَنَبَذْت بِالْبَلَدِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي
فَلَمَّا اِشْتَدَّ أَمْر الْحَرْبِ فِينَا تَأَمَّلْنَا رِيَاحًا أَوْ رِزَامَا
أَيْ وَرِزَامًا.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَمَا أَمْر السَّاعَة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَر أَوْ هُوَ أَقْرَب " [ النَّحْل : ٧٧ ].
وَقَرَأَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد " إِلَى مِائَة أَلْف وَيَزِيدُونَ " بِغَيْرِ هَمْز ; فَـ " يَزِيدُونَ " فِي مَوْضِع رَفْع بِأَنَّهُ خَبَر مُبْتَدَأ مَحْذُوف أَيْ وَهُمْ يَزِيدُونَ.
النَّحَّاس : وَلَا يَصِحّ هَذَانِ الْقَوْلَانِ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ، وَأَنْكَرُوا كَوْن " أَوْ " بِمَعْنَى بَلْ وَبِمَعْنَى الْوَاو ; لِأَنَّ بَلْ لِلْإِضْرَابِ عَنْ الْأَوَّل وَالْإِيجَاب لِمَا بَعْده، وَتَعَالَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ خُرُوج مِنْ شَيْء إِلَى شَيْء وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِع ذَلِكَ ; وَالْوَاو مَعْنَاهُ خِلَاف مَعْنَى " أَوْ " فَلَوْ كَانَ أَحَدهمَا بِمَعْنَى الْآخَر لَبَطَلَتْ الْمَعَانِي ; وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى أَكْثَر مِنْ مِائَتَيْ أَلْف أَخْصَرَ.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : الْمَعْنَى وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى جَمَاعَة لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَقُلْتُمْ هُمْ مِائَة أَلْف أَوْ أَكْثَر، وَإِنَّمَا خُوطِبَ الْعِبَاد عَلَى مَا يَعْرِفُونَ.
وَقِيلَ : هُوَ كَمَا تَقُول : جَاءَنِي زَيْد أَوْ عَمْرو وَأَنْتَ تَعْرِف مَنْ جَاءَك مِنْهُمَا إِلَّا أَنَّك أَبْهَمْت عَلَى الْمُخَاطَب.
وَقَالَ الْأَخْفَش وَالزَّجَّاج : أَيْ أَوْ يَزِيدُونَ فِي تَقْدِيركُمْ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : زَادُوا عَلَى مِائَة أَلْف عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَرَوَاهُ أَبِي بْن كَعْب مَرْفُوعًا.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : ثَلَاثِينَ أَلْفًا.
الْحَسَن وَالرَّبِيع : بِضْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّان : سَبْعِينَ أَلْفًا.
الثَّعْلَبِيّ : كَانَتْ الشَّجَرَة تُظِلُّهُ فَرَأَى خُضْرَتهَا فَأَعْجَبَتْهُ، فَيَبِسَتْ فَجَعَلَ يَتَحَزَّن عَلَيْهَا ; فَقِيلَ لَهُ : يَا يُونُس أَنْتَ الَّذِي لَمْ تَخْلُق وَلَمْ تَسْقِ وَلَمْ تُنْبِت تَحْزَن عَلَى شُجَيْرَة، فَأَنَا الَّذِي خَلَقْت مِائَة أَلْف مِنْ النَّاس أَوْ يَزِيدُونَ تُرِيد مِنِّي أَنْ أَسْتَأْصِلهُمْ فِي سَاعَة وَاحِدَة، وَقَدْ تَابُوا وَتُبْت عَلَيْهِمْ فَأَيْنَ رَحْمَتِي يَا يُونُس أَنَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ
فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ
أَيْ إِلَى مُنْتَهَى آجَالهمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رِسَالَة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا كَانَتْ بَعْد مَا نَبَذَهُ الْحُوت.
وَلَيْسَ لَهُ طَرِيق إِلَّا عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب.
النَّحَّاس : وَأَجْوَد مِنْهُ إِسْنَادًا وَأَصَحّ مَا حُدِّثْنَاهُ عَنْ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرو بْن الْعَنْقَزِيّ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فِي بَيْت الْمَال عَنْ يُونُس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ يُونُس وَعَدَ قَوْمه الْعَذَاب وَأَخْبَرَهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، فَفَرَّقُوا بَيْن كُلّ وَالِدَة وَوَلَدهَا، وَخَرَجُوا فَجَأَرُوا إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَغْفَرُوا، فَكَفَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ الْعَذَابَ، وَغَدَا يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام يَنْتَظِر الْعَذَاب فَلَمْ يَرَ شَيْئًا - وَكَانَ مَنْ كَذَبَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَة قُتِلَ - فَخَرَجَ يُونُس مُغَاضِبًا، فَأَتَى قَوْمًا فِي سَفِينَة فَحَمَلُوهُ وَعَرَفُوهُ، فَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَة رَكَدَتْ السَّفِينَة وَالسُّفُن تَسِير يَمِينًا وَشِمَالًا ; فَقَالُوا : مَا لِسَفِينَتِكُمْ ؟ فَقَالُوا : لَا نَدْرِي.
فَقَالَ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام : إِنَّ فِيهَا عَبْدًا آبِقًا مِنْ رَبّه جَلَّ وَعَزَّ وَإِنَّهَا لَنْ تَسِير حَتَّى تُلْقُوهُ.
قَالُوا أَمَّا أَنْتَ يَا نَبِيّ اللَّه فَإِنَّا لَا نُلْقِيك.
قَالَ : فَأَقْرِعُوا فَمَنْ قُرِعَ فَلْيَقَعْ، فَاقْتَرَعُوا فَقَرَعَهُمْ يُونُس فَأَبَوْا أَنْ يَدَعُوهُ، قَالَ : فَاقْتَرِعُوا ثَلَاثًا فَمَنْ قُرِعَ فَلْيَقَعْ.
فَاقْتَرَعُوا فَقَرَعَهُمْ يُونُس ثَلَاث مَرَّات أَوْ قَالَ ثَلَاثًا فَوَقَعَ.
وَقَدْ وَكَّلَ اللَّه بِهِ جَلَّ وَعَزَّ حُوتًا فَابْتَلَعَهُ وَهُوَ يَهْوِي بِهِ إِلَى قَرَار الْأَرْض، فَسَمِعَ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام تَسْبِيح الْحَصَى " فَنَادَى فِي الظُّلُمَات أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : ٨٧ ] قَالَ : ظُلْمَة اللَّيْل وَظُلْمَة الْبَحْر وَظُلْمَة بَطْن الْحُوت.
قَالَ :" فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيم " قَالَ : كَهَيْئَةِ الْفَرْخ الْمَمْعُوط الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ رِيش.
قَالَ : وَأَنْبَتَ اللَّه عَلَيْهِ شَجَرَة مِنْ يَقْطِين فَنَبَتَتْ، فَكَانَ يَسْتَظِلّ بِهَا وَيُصِيب مِنْهَا، فَيَبِسَتْ فَبَكَى عَلَيْهَا ; فَأَوْحَى اللَّه جَلَّ وَعَزَّ إِلَيْهِ : أَتَبْكِي عَلَى شَجَرَة يَبِسَتْ، وَلَا تَبْكِي عَلَى مِائَة أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ أَرَدْت أَنْ تُهْلِكَهُمْ قَالَ : وَخَرَجَ رَسُول اللَّه يُونُس فَإِذَا هُوَ بِغُلَامٍ يَرْعَى ; قَالَ : يَا غُلَام مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : مِنْ قَوْم يُونُس.
قَالَ : فَإِذَا جِئْت إِلَيْهِمْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّك قَدْ لَقِيت يُونُس.
قَالَ : إِنْ كُنْت يُونُس فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ مَنْ كَذَبَ قُتِلَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَة فَمَنْ يَشْهَد لِي ؟ قَالَ : هَذِهِ الشَّجَرَة وَهَذِهِ الْبُقْعَة.
قَالَ : فَمُرْهُمَا ; فَقَالَ لَهُمَا يُونُس : إِذَا جَاءَكُمَا هَذَا الْغُلَام فَاشْهَدَا لَهُ.
قَالَتَا نَعَمْ.
قَالَ : فَرَجَعَ الْغُلَام إِلَى قَوْمه وَكَانَ فِي مَنَعَة وَكَانَ لَهُ إِخْوَة، فَأَتَى الْمَلِك فَقَالَ : إِنِّي قَدْ لَقِيت يُونُس وَهُوَ يَقْرَأ عَلَيْك السَّلَام.
قَالَ : فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَل ; فَقَالُوا : إِنَّ لَهُ بَيِّنَةً فَأُرْسِلُوا مَعَهُ.
فَأَتَى الشَّجَرَة وَالْبُقْعَة فَقَالَ لَهُمَا : نَشَدْتُكُمَا بِاَللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ أَتَشْهَدَانِ أَنِّي لَقِيت يُونُس ؟ قَالَتَا : نَعَمْ قَالَ : فَرَجَعَ الْقَوْم مَذْعُورِينَ يَقُولُونَ لَهُ : شَهِدَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ وَالْأَرْضُ فَأَتَوْا الْمَلِك فَأَخْبَرُوهُ بِمَا رَأَوْا.
قَالَ عَبْد اللَّه : فَتَنَاوَلَ الْمَلِك يَد الْغُلَام فَأَجْلَسَهُ فِي مَجْلِسه، وَقَالَ : أَنْتَ أَحَقّ بِهَذَا الْمَكَان مِنِّي.
قَالَ عَبْد اللَّه : فَأَقَامَ لَهُمْ ذَلِكَ الْغُلَام أَمْرَهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَة.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ يُونُس كَانَ قَدْ أُرْسِلَ قَبْل أَنْ يَلْتَقِمَهُ الْحُوت بِهَذَا الْإِسْنَاد الَّذِي لَا يُؤْخَذ بِالْقِيَاسِ.
وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ الْفَائِدَة أَنَّ قَوْم يُونُس آمَنُوا وَنَدِمُوا قَبْل أَنْ يَرَوْا الْعَذَاب ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ الْعَذَاب إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، فَفَرَّقُوا بَيْن كُلّ وَالِدَة وَوَلَدهَا، وَضَجُّوا ضَجَّة وَاحِدَة إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُكْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ كَحُكْمِهِ فِي غَيْرهمْ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا " [ غَافِر : ٨٥ ] وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" وَلَيْسَتْ التَّوْبَة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدهمْ الْمَوْت " [ النِّسَاء : ١٨ ] الْآيَة.
وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّهُمْ رَأَوْا مَخَائِل الْعَذَاب فَتَابُوا.
وَهَذَا لَا يُمْنَع، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا فِي سُورَة [ يُونُس ] فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ.
فَاسْتَفْتِهِمْ
لَمَّا ذَكَرَ أَخْبَار الْمَاضِينَ تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِحْتَجَّ عَلَى كُفَّار قُرَيْش فِي قَوْلهمْ : إِنَّ الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه ; فَقَالَ :" فَاسْتَفْتِهِمْ ".
وَهُوَ مَعْطُوف عَلَى مِثْله فِي أَوَّل السُّورَة وَإِنْ تَبَاعَدَتْ بَيْنهمْ الْمَسَافَة ; أَيْ فَسَلْ يَا مُحَمَّد أَهْل مَكَّة
أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ
الْبَنَات وَلَهُمْ الْبَنُونَ " وَذَلِكَ أَنَّ جُهَيْنَة وَخُزَاعَة وَبَنِي مَلِيح وَبَنِي سَلِمَة وَعَبْد الدَّار زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه.
وَهَذَا سُؤَال تَوْبِيخ.
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ
أَيْ حَاضِرُونَ لِخَلْقِنَا إِيَّاهُمْ إِنَاثًا ; وَهَذَا كَمَا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَة الَّذِينَ هُمْ عِبَاد الرَّحْمَن إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ " [ الزُّخْرُف : ١٩ ].
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ
وَهُوَ أَسْوَأ الْكَذِب
وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
فِي قَوْلهمْ إِنَّ لِلَّهِ وَلَدًا وَهُوَ الَّذِي لَا يَلِد وَلَا يُولَد.
وَ " إِنَّ " بَعْد " أَلَا " مَكْسُورَة ; لِأَنَّهَا مُبْتَدَأَة.
وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا تَكُون بَعْد أَمَا مَفْتُوحَة أَوْ مَكْسُورَة ; فَالْفَتْح عَلَى أَنْ تَكُون أَمَا بِمَعْنَى حَقًّا، وَالْكَسْر عَلَى أَنْ تَكُون أَمَا بِمَعْنَى أَلَا.
النَّحَّاس : وَسَمِعْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَقُول يَجُوز فَتْحهَا بَعْد أَلَا تَشْبِيهًا بِأَمَا، وَأَمَّا فِي الْآيَة فَلَا يَجُوز إِلَّا كَسْرهَا ; لِأَنَّ بَعْدهَا الرَّفْع.
وَتَمَام الْكَلَام " لَكَاذِبُونَ ".
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ
عَلَى مَعْنَى التَّقْرِيع وَالتَّوْبِيخ كَأَنَّهُ قَالَ : وَيْحَكُمْ " أَصْطَفَى الْبَنَات " أَيْ اِخْتَارَ الْبَنَات وَتَرَكَ الْبَنِينَ.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " أَصْطَفَى " بِقَطْعِ الْأَلِف ; لِأَنَّهَا أَلِف اِسْتِفْهَام دَخَلَتْ عَلَى أَلِف الْوَصْل، فَحُذِفَتْ أَلِف الْوَصْل وَبَقِيَتْ أَلِف الِاسْتِفْهَام مَفْتُوحَة مَقْطُوعَة عَلَى حَالهَا مِثْل :" أَطَّلَعَ الْغَيْب " عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة وَنَافِع وَحَمْزَة " اِصْطَفَى " بِوَصْلِ الْأَلِف عَلَى الْخَبَر بِغَيْرِ اِسْتِفْهَام.
وَإِذَا اِبْتَدَأَ كَسَرَ الْهَمْزَة.
وَزَعَمَ أَبُو حَاتِم أَنَّهُ لَا وَجْه لَهَا ; لِأَنَّ بَعْدهَا " مَا لَكُمْ كَيْف تَحْكُمُونَ " فَالْكَلَام جَارٍ عَلَى التَّوْبِيخ مِنْ جِهَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا أَنْ يَكُون تَبْيِينًا وَتَفْسِيرًا لِمَا قَالُوهُ مِنْ الْكَذِب وَيَكُون " مَا لَكُمْ كَيْف تَحْكُمُونَ " مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْله.
وَالْجِهَة الثَّانِيَة أَنَّهُ قَدْ حَكَى النَّحْوِيُّونَ - مِنْهُمْ الْفَرَّاء - أَنَّ التَّوْبِيخ يَكُون بِاسْتِفْهَام وَبِغَيْرِ اِسْتِفْهَام كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ :" أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتكُمْ الدُّنْيَا " [ الْأَحْقَاف : ٢٠ ].
وَقِيلَ : هُوَ عَلَى إِضْمَار الْقَوْل ; أَيْ وَيَقُولُونَ " اِصْطَفَى الْبَنَات ".
أَوْ يَكُون بَدَلًا مِنْ قَوْله :" وَلَدَ اللَّه " لِأَنَّ وِلَادَة الْبَنَات وَاِتِّخَاذَهُنَّ اِصْطِفَاء لَهُنَّ، فَأَبْدَلَ مِثَال الْمَاضِي مِنْ مِثَال الْمَاضِي فَلَا يُوقَف عَلَى هَذَا عَلَى " لَكَاذِبُونَ ".
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
الْكَلَام جَارٍ عَلَى التَّوْبِيخ مِنْ جِهَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا أَنْ يَكُون تَبْيِينًا وَتَفْسِيرًا لِمَا قَالُوهُ مِنْ الْكَذِب وَيَكُون " مَا لَكُمْ كَيْف تَحْكُمُونَ " مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْله.
وَالْجِهَة الثَّانِيَة أَنَّهُ قَدْ حَكَى النَّحْوِيُّونَ - مِنْهُمْ الْفَرَّاء - أَنَّ التَّوْبِيخ يَكُون بِاسْتِفْهَام وَبِغَيْرِ اِسْتِفْهَام كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ :" أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتكُمْ الدُّنْيَا " [ الْأَحْقَاف : ٢٠ ].
وَقِيلَ : هُوَ عَلَى إِضْمَار الْقَوْل ; أَيْ وَيَقُولُونَ " اِصْطَفَى الْبَنَات ".
أَوْ يَكُون بَدَلًا مِنْ قَوْله :" وَلَدَ اللَّه " لِأَنَّ وِلَادَة الْبَنَات وَاِتِّخَاذهنَّ اِصْطِفَاء لَهُنَّ، فَأَبْدَلَ مِثَال الْمَاضِي مِثَال الْمَاضِي فَلَا يُوقَف عَلَى هَذَا عَلَى " لَكَاذِبُونَ ".
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
فِي أَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَكُون لَهُ وَلَد.
أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ
حُجَّة وَبُرْهَان.
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ
أَيْ بِحُجَجِكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
فِي قَوْلكُمْ.
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ
أَكْثَر أَهْل التَّفْسِير أَنَّ الْجِنَّة هَاهُنَا الْمَلَائِكَة.
رَوَى اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد قَالَ : قَالُوا - يَعْنِي كُفَّار قُرَيْش - الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه ; جَلَّ وَتَعَالَى.
فَقَالَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : فَمَنْ أُمَّهَاتهنَّ.
قَالُوا : مُخَدَّرَات الْجِنّ.
وَقَالَ أَهْل الِاشْتِقَاق : قِيلَ لَهُمْ جِنَّة لِأَنَّهُمْ لَا يُرَوْنَ.
وَقَالَ مُجَاهِد : إِنَّهُمْ بَطْن مِنْ بُطُون الْمَلَائِكَة يُقَال لَهُمْ الْجِنَّة.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَرَوَى إِسْرَائِيل عَنْ السُّدِّيّ عَنْ أَبِي مَالِك قَالَ : إِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ جِنَّة لِأَنَّهُمْ خُزَّان عَلَى الْجِنَان وَالْمَلَائِكَة كُلّهمْ جِنَّة.
نَسَبًا
مُصَاهَرَة.
قَالَ قَتَادَة وَالْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل : قَالَتْ الْيَهُود لَعَنَهُمْ اللَّه إِنَّ اللَّه صَاهَرَ الْجِنّ فَكَانَتْ الْمَلَائِكَة مِنْ بَيْنهمْ.
وَقَالَ مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ وَمُقَاتِل أَيْضًا.
الْقَائِل ذَلِكَ كِنَانَة وَخُزَاعَة ; قَالُوا : إِنَّ اللَّه خَطَبَ إِلَى سَادَات الْجِنّ فَزَوَّجُوهُ مِنْ سَرَوَات بَنَاتهمْ، فَالْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه مِنْ سَرَوَات بَنَات الْجِنّ.
وَقَالَ الْحَسَن : أَشْرَكُوا الشَّيْطَان فِي عِبَادَة اللَّه فَهُوَ النَّسَب الَّذِي جَعَلُوهُ.
قُلْت : قَوْل الْحَسَن فِي هَذَا أَحْسَن ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى :" إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ " [ الشُّعَرَاء : ٩٨ ] أَيْ فِي الْعِبَادَة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَالْحَسَن أَيْضًا : هُوَ قَوْلهمْ إِنَّ اللَّه تَعَالَى وَإِبْلِيس أَخَوَانِ ; تَعَالَى اللَّه عَنْ قَوْلهمْ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ
أَيْ الْمَلَائِكَة
إِنَّهُمْ
يَعْنِي قَائِل هَذَا الْقَوْل
لَمُحْضَرُونَ
فِي النَّار ; قَالَهُ قَتَادَة.
وَقَالَ مُجَاهِد : لِلْحِسَابِ.
الثَّعْلَبِيّ : الْأَوَّل أَوْلَى ; لِأَنَّ الْإِحْضَار تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَة وَلَمْ يُرِدْ اللَّه بِهِ غَيْر الْعَذَاب.
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
أَيْ تَنْزِيهًا لِلَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
فَإِنَّهُمْ نَاجُونَ مِنْ النَّار.
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
" مَا " بِمَعْنَى الَّذِي.
وَقِيلَ : بِمَعْنَى الْمَصْدَر، أَيْ فَإِنَّكُمْ وَعِبَادَتكُمْ لِهَذِهِ الْأَصْنَام.
وَقِيلَ : أَيْ فَإِنَّكُمْ مَعَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه ; يُقَال : جَاءَ فُلَان وَفُلَان.
وَجَاءَ فُلَان مَعَ فُلَان.
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ
أَيْ عَلَى اللَّه بِمُضِلِّينَ.
النَّحَّاس.
أَهْل التَّفْسِير مُجْمِعُونَ فِيمَا عَلِمْت عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى : مَا أَنْتُمْ بِمُضِلِّينَ أَحَدًا إِلَّا مَنْ قَدَّرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ أَنْ يَضِلَّ :
فَرَدَّ بِنِعْمَتِهِ كَيْدَهُ عَلَيْهِ وَكَانَ لَنَا فَاتِنَا
أَيْ مُضِلًّا.
فِي هَذِهِ الْآيَة رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة.
قَالَ عَمْرو بْن ذَرّ : قَدِمْنَا عَلَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز فَذُكِرَ عِنْده الْقَدَر، فَقَالَ عُمَر : لَوْ أَرَادَ اللَّه أَلَّا يُعْصَى مَا خَلَقَ إِبْلِيس، وَهُوَ رَأْس الْخَطِيئَة، وَإِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِلْمًا فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ; ثُمَّ قَرَأَ :" فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ.
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ " إِلَّا مَنْ كَتَبَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصْلَى الْجَحِيم.
وَقَالَ : فَصَلَتْ هَذِهِ الْآيَة بَيْن النَّاس، وَفِيهَا مِنْ الْمَعَانِي أَنَّ الشَّيَاطِين لَا يَصِلُونَ إِلَى إِضْلَال أَحَد إِلَّا مَنْ كَتَبَ اللَّه عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي، وَلَوْ عَلِمَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَنَّهُ يَهْتَدِي لَحَالَ بَيْنه وَبَيْنهمْ ; وَعَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى :" وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِك وَرَجْلِك " [ الْإِسْرَاء : ٦٤ ] أَيْ لَسْت تَصِل مِنْهُمْ إِلَى شَيْء إِلَّا إِلَى مَا فِي عِلْمِي.
وَقَالَ لَبِيد بْن رَبِيعَة فِي تَثْبِيت الْقَدَر فَأَحْسَنَ :
إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ
أَحْمَدُ اللَّهَ فَلَا نِدَّ لَهُ بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ مَا شَاءَ فَعَلْ
مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اِهْتَدَى نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلْ
قَالَ الْفَرَّاء : أَهْل الْحِجَاز يَقُولُونَ فَتَنْت الرَّجُل، وَأَهْل نَجْد يَقُولُونَ أَفْتَنْتُهُ.
إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ
رُوِيَ عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ قَرَأَ :" إِلَّا مَنْ هُوَ صَالُ الْجَحِيم " بِضَمِّ اللَّام.
النَّحَّاس : وَجَمَاعَة أَهْل التَّفْسِير يَقُولُونَ إِنَّهُ لَحْن ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوز هَذَا قَاضُ الْمَدِينَة.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ مَا سَمِعْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَقُولُهُ ; قَالَ : هُوَ مَحْمُول عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَعْنَى.
" مَنْ " جَمَاعَة ; فَالتَّقْدِير صَالُون، فَحُذِفَتْ النُّون لِلْإِضَافَةِ، وَحُذِفَتْ الْوَاو لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَقِيلَ : أَصْله فَاعِل إِلَّا أَنَّهُ قُلِبَ مِنْ صَالٍ إِلَى صَايِل وَحُذِفَتْ الْيَاء وَبَقِيَتْ اللَّام مَضْمُومَة فَهُوَ مِثْل " شَفَا جُرُف هَارٍ " [ التَّوْبَة : ١٠٩ ].
وَوَجْه ثَالِث أَنْ تَحْذِف لَام " صَال " تَخْفِيفًا وَتُجْرِي الْإِعْرَاب عَلَى عَيْنه، كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلهمْ : مَا بَالَيْت بِهِ بَالَة.
وَأَصْلهَا بَالِيَة مِنْ بَالِي كَعَافِيَةٍ مِنْ عَافَى ; وَنَظِيره قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ، " وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٌ " [ الرَّحْمَن : ٥٤ ]، " وَلَهُ الْجَوَارُ الْمُنْشَآت " [ الرَّحْمَن : ٢٤ ] أَجْرَى الْإِعْرَاب عَلَى الْعَيْن.
وَالْأَصْل فِي قِرَاءَة الْجَمَاعَة صَالِي بِالْيَاءِ فَحَذَفَهَا الْكَاتِب مِنْ الْخَطّ لِسُقُوطِهَا فِي اللَّفْظ.
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ
هَذَا مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة تَعْظِيمًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْكَارًا مِنْهُمْ عِبَادَة مَنْ عَبَدَهُمْ.
" وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ " قَالَ مُقَاتِل : هَذِهِ الثَّلَاث الْآيَات نَزَلَتْ، وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهَى، فَتَأَخَّرَ جِبْرِيل، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَهُنَا تُفَارِقُنِي ) فَقَالَ : مَا أَسْتَطِيع أَنْ أَتَقَدَّم عَنْ مَكَانِي.
وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى حِكَايَة عَنْ قَوْل الْمَلَائِكَة :" وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَام مَعْلُوم " الْآيَات.
وَالتَّقْدِير عِنْد الْكُوفِيِّينَ : وَمَا مِنَّا إِلَّا مَنْ لَهُ مَقَام مَعْلُوم.
فَحُذِفَ الْمَوْصُول.
وَتَقْدِيره عِنْد الْبَصْرِيِّينَ : وَمَا مِنَّا مَلَك إِلَّا لَهُ مَقَام مَعْلُوم ; أَيْ مَكَان مَعْلُوم فِي الْعِبَادَة ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَابْن جُبَيْر.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا فِي السَّمَوَات مَوْضِع شِبْر إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَك يُصَلِّي وَيُسَبِّح.
وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا فِي السَّمَاء مَوْضِع قَدَم إِلَّا عَلَيْهِ مَلَك سَاجِد أَوْ قَائِم ).
وَعَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَع مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاء وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِع أَرْبَع أَصَابِع إِلَّا وَمَلَك وَاضِع جَبْهَته سَاجِدًا لِلَّهِ وَاَللَّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُش وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَات تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّه لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت شَجَرَة تُعْضَد ) خَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ وَقَالَ فِيهِ حَدِيث حَسَن غَرِيب.
وَيُرْوَى مِنْ غَيْر هَذَا الْوَجْه أَنَّ أَبَا ذَرّ قَالَ : لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت شَجَرَة تُعْضَد.
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرّ مَوْقُوفًا.
وَقَالَ قَتَادَة : كَانَ يُصَلِّي الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة :" وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَام مَعْلُوم ".
قَالَ : فَتَقَدَّمَ الرِّجَال وَتَأَخَّرَ النِّسَاء.
وَقِيلَ :" وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَام مَعْلُوم " مِنْ قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ لِلْمُشْرِكِينَ ; أَيْ لِكُلِّ وَاحِد مِنَّا وَمِنْكُمْ فِي الْآخِرَة مَقَام مَعْلُوم وَهُوَ مَقَام الْحِسَاب.
وَقِيلَ : أَيْ مِنَّا مَنْ لَهُ مَقَام الْخَوْف، وَمِنَّا مَنْ لَهُ مَقَام الرَّجَاء، وَمِنَّا مَنْ لَهُ مَقَام الْإِخْلَاص، وَمِنَّا مَنْ لَهُ مَقَام الشُّكْر.
إِلَى غَيْرهَا مِنْ الْمَقَامَات.
قُلْت : وَالْأَظْهَر أَنَّ ذَلِكَ رَاجِع إِلَى قَوْل الْمَلَائِكَة :" وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَام مَعْلُوم " وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ
قَالَ الْكَلْبِيّ : صُفُوفهمْ كَصُفُوفِ أَهْل الدُّنْيَا فِي الْأَرْض.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن سَمُرَة قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِد ; فَقَالَ :( أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفّ الْمَلَائِكَة عِنْد رَبّهَا ) فَقُلْنَا يَا رَسُول اللَّه كَيْف تَصُفّ الْمَلَائِكَة عِنْد رَبّهَا ؟ قَالَ ؟ ( يُتِمُّونَ الصُّفُوف الْأُوَل وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفّ ) وَكَانَ عُمَر يَقُول إِذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ : أَقِيمُوا صُفُوفكُمْ وَاسْتَوُوا إِنَّمَا يُرِيد اللَّه بِكُمْ هَدْيَ الْمَلَائِكَة عِنْد رَبّهَا وَيَقْرَأ :" وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ " تَأَخَّرْ يَا فُلَان تَقَدَّمَ يَا فُلَان ; ثُمَّ يَتَقَدَّم فَيُكَبِّر.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة [ الْحِجْر ] بَيَانه.
وَقَالَ أَبُو مَالِك : كَانَ النَّاس يُصَلُّونَ مُتَبَدِّدِينَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ " فَأَمَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصْطَفُّوا.
وَقَالَ الشَّعْبِيّ.
جَاءَ جِبْرِيل أَوْ مَلَك إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : تَقُوم أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْل وَنِصْفَهُ وَثُلُثه ; إِنَّ الْمَلَائِكَة لَتُصَلِّي وَتُسَبِّح مَا فِي السَّمَاء مَلَك فَارِغ.
وَقِيلَ : أَيْ لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أَجْنِحَتَنَا فِي الْهَوَاء وُقُوفًا نَنْتَظِر مَا نُؤْمَر بِهِ.
وَقِيلَ : أَيْ نَحْنُ الصَّافُّونَ حَوْل الْعَرْش.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ
أَيْ الْمُصَلُّونَ ; قَالَهُ قَتَادَة.
وَقِيلَ : أَيْ الْمُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَمَّا أَضَافَهُ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ.
وَالْمُرَاد أَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّه بِالتَّسْبِيحِ وَالصَّلَاة وَلَيْسُوا مَعْبُودِينَ وَلَا بَنَات اللَّه.
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ
عَادَ إِلَى الْإِخْبَار عَنْ قَوْل الْمُشْرِكِينَ، أَيْ كَانُوا قَبْل بَعْثَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عُيِّرُوا بِالْجَهْلِ قَالُوا :" لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنْ الْأَوَّلِينَ "
لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ
أَيْ لَوْ بُعِثَ إِلَيْنَا نَبِيّ بِبَيَانِ الشَّرَائِع لَاتَّبَعْنَاهُ.
وَلَمَّا خُفِّفَتْ " إِنْ " دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْل وَلَزِمَتْهَا اللَّام فَرْقًا بَيْن النَّفْي وَالْإِيجَاب.
وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ :" إِنْ " بِمَعْنَى مَا وَاللَّام بِمَعْنَى إِلَّا.
وَقِيلَ : مَعْنَى " لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا " أَيْ كِتَابًا مِنْ كُتُب الْأَنْبِيَاء.
لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
أَيْ لَوْ جَاءَنَا ذِكْر كَمَا جَاءَ الْأَوَّلِينَ لَأَخْلَصْنَا الْعِبَادَة لِلَّهِ.
فَكَفَرُوا بِهِ
أَيْ بِالذِّكْرِ.
وَالْفَرَّاء يُقَدِّرهُ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ فَجَاءَهُمْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ فَكَفَرُوا بِهِ.
وَهَذَا تَعْجِيب مِنْهُمْ، أَيْ فَقَدْ جَاءَهُمْ نَبِيّ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَاب فِيهِ بَيَان مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فَكَفَرُوا وَمَا وَفَّوْا بِمَا قَالُوا.
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
قَالَ الزَّجَّاج : يَعْلَمُونَ مَغَبَّة كُفْرهمْ.
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ
الْمُرْسَلِينَ " قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ بِالسَّعَادَةِ.
وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْكَلِمَةِ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" كَتَبَ اللَّه لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي " [ الْمُجَادَلَة : ٢١ ] قَالَ الْحَسَن : لَمْ يُقْتَل مِنْ أَصْحَاب الشَّرَائِع قَطُّ أَحَد
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ
أَيْ سَبَقَ الْوَعْد بِنَصْرِهِمْ بِالْحُجَّةِ وَالْغَلَبَة.
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ
عَلَى الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ عَلَى اللَّفْظ لَكَانَ هُوَ الْغَالِب مِثْل " جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُوم مِنْ الْأَحْزَاب " [ ص : ١١ ].
وَقَالَ الشَّيْبَانِيّ : جَاءَ هَاهُنَا عَلَى الْجَمْع مِنْ أَجْل أَنَّهُ رَأْس آيَة.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ.
حَتَّى حِينٍ
قَالَ قَتَادَة : إِلَى الْمَوْت.
وَقَالَ الزَّجَّاج : إِلَى الْوَقْت الَّذِي أُمْهِلُوا إِلَيْهِ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يَعْنِي الْقَتْل بِبَدْرٍ.
وَقِيلَ : يَعْنِي فَتْح مَكَّة.
وَقِيلَ : الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَةِ السَّيْف.
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ
قَالَ قَتَادَة : سَوْفَ يُبْصِرُونَ حِين لَا يَنْفَعهُمْ الْإِبْصَار.
وَعَسَى مِنْ اللَّه لِلْوُجُوبِ وَعَبَّرَ بِالْإِبْصَارِ عَنْ تَقْرِيب الْأَمْر ; أَيْ عَنْ قَرِيب يُبْصِرُونَ.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة.
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ
كَانُوا يَقُولُونَ مِنْ فَرْط تَكْذِيبهمْ مَتَى هَذَا الْعَذَاب ; أَيْ لَا تَسْتَعْجِلُوهُ فَإِنَّهُ وَاقِع بِكُمْ.
فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ
أَيْ الْعَذَاب.
قَالَ الزَّجَّاج : وَكَانَ عَذَاب هَؤُلَاءِ بِالْقَتْلِ.
وَمَعْنَى " بِسَاحَتِهِمْ " أَيْ بِدَارِهِمْ ; عَنْ السُّدِّيّ وَغَيْره.
وَالسَّاحَة وَالسَّحْسَة فِي اللُّغَة فِنَاء الدَّار الْوَاسِع.
الْفَرَّاء :" نَزَلَ بِسَاحَتِهِ " وَنَزَلَ بِهِمْ سَوَاء.
فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ
أَيْ بِئْسَ صَبَاح الَّذِينَ أُنْذِرُوا بِالْعَذَابِ.
وَفِيهِ إِضْمَار أَيْ فَسَاءَ الصَّبَاحُ صَبَاحُهُمْ.
وَخَصَّ الصَّبَاح بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّ الْعَذَاب كَانَ يَأْتِيهِمْ فِيهِ.
وَمِنْهُ الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَمَّا أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَر، وَكَانُوا خَارِجِينَ إِلَى مَزَارِعهمْ وَمَعَهُمْ الْمَسَاحِي، فَقَالُوا : مُحَمَّد وَالْخَمِيس، وَرَجَعُوا إِلَى حِصْنهمْ ; فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( اللَّه أَكْبَر خَرِبَتْ خَيْبَر إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْم فَسَاءَ صَبَاح الْمُنْذَرِينَ ) وَهُوَ يُبَيِّن مَعْنَى :" فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ " يُرِيد : النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ
كُرِّرَ تَأْكِيدًا.
وَكَذَا
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ
تَأْكِيد أَيْضًا.
سُبْحَانَ رَبِّكَ
نَزَّهَ سُبْحَانه نَفْسه عَمَّا أَضَافَ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ.
رَبِّ الْعِزَّةِ
عَلَى الْبَدَل.
وَيَجُوز النَّصْب عَلَى الْمَدْح، وَالرَّفْع بِمَعْنَى هُوَ رَبّ الْعِزَّة.
سُئِلَ مُحَمَّد بْن سَحْنُون عَنْ مَعْنَى " رَبّ الْعِزَّة " لِمَ جَازَ ذَلِكَ وَالْعِزَّة مِنْ صِفَات الذَّات، وَلَا يُقَال رَبّ الْقُدْرَة وَنَحْوهَا مِنْ صِفَات ذَاته جَلَّ وَعَزَّ ؟ فَقَالَ : الْعِزَّة تَكُون صِفَة ذَات وَصِفَة فِعْل، فَصِفَة الذَّات نَحْو قَوْله :" فَلِلَّهِ الْعِزَّة جَمِيعًا " وَصِفَة الْفِعْل نَحْو قَوْله :" رَبّ الْعِزَّة " وَالْمَعْنَى رَبّ الْعِزَّة الَّتِي يَتَعَازُّ بِهَا الْخَلْق فِيمَا بَيْنهمْ فَهِيَ مِنْ خَلْق اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ : وَقَدْ جَاءَ فِي التَّفْسِير إِنَّ الْعِزَّة هَاهُنَا يُرَاد بِهَا الْمَلَائِكَة.
قَالَ : وَقَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : مَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّه فَإِنْ أَرَادَ عِزَّته الَّتِي هِيَ صِفَته فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَة، وَإِنْ أَرَادَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه بَيْن عِبَاده فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ.
الْمَاوَرْدِيّ :" رَبّ الْعِزَّة " يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا مَالِك الْعِزَّة، وَالثَّانِي رَبّ كُلّ شَيْء مُتَعَزِّز مِنْ مَلِك أَوْ مُتَجَبِّر.
قُلْت : وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَلَا كَفَّارَة إِذَا نَوَاهَا الْحَالِف.
رُوِيَ مِنْ حَدِيث أَبَى سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول قَبْل أَنْ يُسَلِّم :" سُبْحَان رَبّك رَبّ الْعِزَّة " إِلَى آخِر السُّورَة ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ.
عَمَّا يَصِفُونَ
أَيْ مِنْ الصَّاحِبَة وَالْوَلَد.
وَسُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَعْنَى " سُبْحَان اللَّه " فَقَالَ :( هُوَ تَنْزِيه اللَّه عَنْ كُلّ سُوء ) وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] مُسْتَوْفًى.
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ
أَيْ الَّذِينَ بَلَّغُوا عَنْ اللَّه تَعَالَى التَّوْحِيد وَالرِّسَالَة.
وَقَالَ أَنَس قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِذَا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلِّمُوا عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَإِنَّمَا أَنَا رَسُول مِنْ الْمُرْسَلِينَ ) وَقِيلَ : مَعْنَى " وَسَلَام عَلَى الْمُرْسَلِينَ " أَيْ أَمْن لَهُمْ مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ يَوْم الْفَزَع الْأَكْبَر.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
أَيْ عَلَى إِرْسَال الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
وَقِيلَ : أَيْ عَلَى جَمِيع مَا أَنْعَمَ اللَّه بِهِ عَلَى الْخَلْق أَجْمَعِينَ.
وَقِيلَ : أَيْ عَلَى هَلَاك الْمُشْرِكِينَ ; دَلِيله :" فَقُطِعَ دَابِر الْقَوْم الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " [ الْأَنْعَام : ٤٥ ].
قُلْت : وَالْكُلّ مُرَاد وَالْحَمْد يَعُمّ.
وَمَعْنَى " يَصِفُونَ " يَكْذِبُونَ، وَالتَّقْدِير عَمَّا يَصِفُونَ مِنْ الْكَذِب.
قُلْت : قَرَأْت عَلَى الشَّيْخ الْإِمَام الْمُحَدِّث الْحَافِظ أَبِي عَلِيّ الْحَسَن بْن مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن عَمْرُوك الْبَكْرِيّ بِالْجَزِيرَةِ قُبَالَة الْمَنْصُورَة مِنْ الدِّيَار الْمِصْرِيَّة، قَالَ أَخْبَرَتْنَا الْحُرَّة أُمّ الْمُؤَيِّد زَيْنَب بِنْت عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَسَن الشِّعْرِيّ بِنَيْسَابُور فِي الْمَرَّة الْأُولَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد إِسْمَاعِيل بْن أَبِي بَكْر الْقَارِئ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن عَبْد الْقَادِر بْن مُحَمَّد الْفَارِسِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَهْل بِشْر بْن أَحْمَد الْإِسْفِرايِينِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سُلَيْمَان دَاوُدُ بْن الْحُسَيْن الْبَيْهَقِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زَكَرِيَّاء يَحْيَى بْن يَحْيَى بْن عَبْد الرَّحْمَن التَّمِيمِيّ النَّيْسَابُورِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْم عَنْ أَبِي هَارُون الْعَبْدِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر مَرَّة وَلَا مَرَّتَيْنِ يَقُول فِي آخِر صَلَاته أَوْ حِين يَنْصَرِف " سُبْحَان رَبّك رَبّ الْعِزَّة عَمَّا يَصِفُونَ.
وَسَلَام عَلَى الْمُرْسَلِينَ.
وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : رَوَى الشَّعْبِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَال بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنْ الْأَجْر يَوْم الْقِيَامَة فَلْيَقُلْ آخِرَ مَجْلِسه حِين يُرِيد أَنْ يَقُوم :" سُبْحَان رَبّك رَبّ الْعِزَّة عَمَّا يَصِفُونَ.
وَسَلَام عَلَى الْمُرْسَلِينَ.
وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " ).
ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ مِنْ حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَرْفُوعًا.
Icon