تفسير سورة الصافات

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الصافات
مكية، مائة واثنان وثمانون آية، ثمانمائة وستون كلمة، ثلاثة آلاف وثمانمائة وتسعة وعشرون حرفا
وَالصَّافَّاتِ أي والملائكة الناظمات لأنفسها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة، أو الصافات أقدامها في السماء لأداء العبادات، أو الباسطات أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد صَفًّا (١) بديعا، فَالزَّاجِراتِ أي الملائكة التي تزجر السحاب، أي يأتون بها من موضع، إلى موضع أو الزاجرات لبني آدم عن المعاصي بالإلهامات، أو الزاجرات للشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء، وعن استراق السمع زَجْراً (٢) بليغا. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) أي الملائكة التاليات الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وغيرها من التسبيح والتقديس، والتحميد، والتمجيد. إِنَّ إِلهَكُمْ يا أهل مكة لَواحِدٌ (٤) بلا شريك، إذ لو لم يكن واحدا لاختل هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة، فكان غير حكيم. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مالكهما وَما بَيْنَهُما من الموجودات، وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) أي مشارق الشمس فإنها ثلاثمائة وستون مشرقا تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وبحسبها تختلف المغارب وتغرب كل يوم في مغرب منها إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي القربى من أهل الأرض بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦).
قرأ أبو بكر عن عاصم بتنوين «زينة»، ونصب «الكواكب»، أي بتزييننا الكواكب في كونها مضيئة حسنة في أنفسها، وحمزة وحفص كذلك إلّا أنهما خفضا «الكواكب» بدل من «زينة».
والباقون بإضافة «زينة» إلى «الكواكب»، أي بتزيين ضوء الكواكب السماء.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوين «زينة»، ورفع «الكواكب»، أي بزينة في الكواكب أو بتزيين الكواكب فالأول في قوة البدل والثاني في قوة المضاف للفاعل وَحِفْظاً عطف على زينة باعتبار المعنى، أي إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) أي عال على الله عن طاعته برمي الشهب، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم
بفتح السين وتشديدها، وتشديد الميم أي كيلا يتطلب الشياطين السماع إلى كلام أشرف الملائكة. والباقون بسكون السين، وَيُقْذَفُونَ أي يرمون بالشهب مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) أي من جميع جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها دُحُوراً أي للطرد وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) أي دائم بالشهب في الدنيا إلى النفخة الأولى وبالنار في الآخرة،
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ
، و «من» في محل رفع بدل من الواو في «لا يسمعون» أي لا يسمع الشياطين إلّا الشيطان الذي اختلس الكلمة من كلام الملائكة على وجه المسارقة فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)، أي لحقه شهاب مضيء يحرقه، أو يخبله أو يقتله
فَاسْتَفْتِهِمْ، أي سل يا أشرف الخلق هؤلاء المنكرين للبعث من مشركي مكة، أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي أصعب خلقا وأشق إيجادا، أَمْ مَنْ خَلَقْنا أي أم التي خلقناها من هذه الأشياء أصعب وهي السموات والأرض، وما بينهما والمشارق والمغارب، والشياطين الذي يصعدون الفلك والملائكة، والكواكب والشهب الثواقب، إِنَّا خَلَقْناهُمْ أي كل إنسان مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) أي لاصق لشدة اختلاط بعضه ببعض، فإن الحيوان إنما يتولد من المني وهو يتولد من الغذاء، ثم النبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢)، أي بل عجبت يا أشرف الرسل من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك ومن تقريرك للبعث، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يظن أن كل من سمع القرآن يؤمن به، فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي.
وقرأ حمزة والكسائي «عجبت» بضم التاء وهو قراءة ابن عباس، وابن مسعود، وإبراهيم، ويحيى بن وثاب، والأعمش. والمعنى: عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفاعيله وممن كثرت مخلوقاته وكملت قدرته، ويسخروا ممن يجوز البعث. وقال بعض الائمة: معنى قوله:
بَلْ عَجِبْتَ بالضم بل جازيتهم على عجبهم، أي إن هؤلاء المنكرين أقروا بأن الله تعالى قادر على تكوين أشياء أصعب من إعادة الحياة إلى هذه الأجساد، وقد تقرر في صرائح العقول أن القادر على الأشق الأشد يكون قادرا على الأسهل الأيسر، ومع قيام هذه الحجة البديهية بقي هؤلاء القوم مصرّين على إنكار البعث والقيامة، وهذا في موضع التعجب الشديد، وَإِذا ذُكِّرُوا أي إذا وعظوا بشيء من المواعظ لا يَذْكُرُونَ (١٣) أي لا يتعظون، ولا ينتفعون بذكر دلائل صحة البعث لغاية بلادتهم وقصور فكرهم، وَإِذا رَأَوْا آيَةً أي معجزة تدل على صدق القائل بالبعث كانشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) يبالغون في السخرية. وَقالُوا إِنْ هذا أي ما هذا الذي يرونه إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أي ظاهر سحريته أي إن الرسول أثبت جهة رسالته بالمعجزات، ثم قال لما ثبت بهذه المعجزة: كوني رسولا من عند الله صادقا فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حق، ثم إن هؤلاء المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضا لأنهم إذا رأوا معجزة باهرة حملوها على كونها سحرا واستهزءوا منها. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧).
وقرأ قالون وابن عامر بسكون الواو على أنها معطوفة على الضمير في «مبعوثون».
والباقون بفتحها على أنها همزة الاستفهام دخلت على واو العطف، فالمعنى أو تبعث آباؤنا ويقال أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضا، أي أن القوم كانوا يستبعدون الحشر والقيامة ويقولون: من مات وصار ترابا وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه، وبلغوا هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يستسخرون ممن سلك هذا المذهب الحق. قُلْ لهم تبكيتا: نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) أي نعم تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون حال كونهم وهم ذليلين حقيرين، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي لا تستبعدوا البعث، لأنه إنما هي صيحة واحدة فَإِذا هُمْ أي الخلائق قائمون من مراقدهم أحياء يَنْظُرُونَ (١٩) أي يبصرون كما كانوا، وينتظرون ما يفعل بهم وَقالُوا أي الكفار إذا قاموا من القبور: يا وَيْلَنا أي يا هلاكنا احضر، فهذا أوان حضورك. هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) أي هذا اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي يوم القضاء بينكم وبين المؤمنين الَّذِي كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ أي بهذا اليوم تُكَذِّبُونَ (٢١). والوقف على «ويلنا» تام إن جعل هذا يوم الدين من كلام الملائكة جوابا لهم، فالمعنى: هذا يوم جزاء الأعمام وإن جعل من كلام الكفار، لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويجزون بأعمالهم، فالوقف التام على يوم الدين لأن هذا يوم الفصل إلى آخره من كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ. وقيل: هو من كلام بعضهم لبعض فيقول الله للملائكة: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي رؤساء الكفار من مقامهم إلى الموقف وَأَزْواجَهُمْ أي أحزابهم ونظراءهم من الكفرة. وقيل: قرناؤهم من الشياطين. وقيل: نساؤهم اللاتي على دينهم. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غيره من الأصنام ونحوها، فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) أي سوقوهم إلى طريق جهنم وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم في الموقف أو على النار، إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) عن عقائدهم وأعمالهم. وقيل: المراد سألتهم خزنة النار بنحو قولهم:
ألم يأتكم رسل منكم بالبينات. قالوا: بلى.
وقرئ بفتح الهمزة على حذف لام العلة، أي قفوهم لأجل سؤال الله إياهم وتقول لهم خزنة جهنم: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) أي أيّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا- كما قاله ابن عباس- وذلك لأن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر. فيقال لهم يوم القيامة: ما لكم غير متناصرين كما كنتم تزعمون في الدنيا، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) أي منقادون خاضعون لظهور عجزهم وانسداد باب الحيل عليهم في دفع تلك المضار، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) أي يتخاصمون. يقول الأتباع: غررتمونا، ويقول الرؤساء: لم قبلتم منا.
قالُوا أي الاتباع للرؤساء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا في الدنيا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) أي عن القوة والقهر وتقصدوننا عن الغلبة حتى تحملونا على الضلال، أو عن الحلف فإن أئمة الكفار كانوا قد حلفوا لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم. قالُوا أي الرؤساء للأتباع:
بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) أي لم نمنعكم من الإيمان بل لم تؤمنوا باختياركم، وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي من قهر. والمعنى: فلا قدرة لنا عليكم حتى نقهركم على متابعتنا بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) أي غالين في معصية الله تعالى
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) أي فثبت وعيد ربنا إنا لذائقوا العذاب. والمعنى: إن الله تعالى لما أخبر عن وقوعنا في العذاب فلو لم يحصل وقوعنا في العذاب لما كان خبر الله حقا، ولما كان خبر الله أمرا ثابتا كان الوقوع في العذاب الأليم لازما، ولما حق علينا وعيد ربنا وجب أن نكون ذائقين لهذا العذاب، فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) أي إنا إنما أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية فلا لوم علينا، فَإِنَّهُمْ أي الأتباع والمتبوعين يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة فِي الْعَذابِ أي في وقوعهم في العذاب مُشْتَرِكُونَ (٣٣) كما كانوا في الدنيا مشتركين في الغواية، إِنَّا كَذلِكَ أي كما نفعل بعبدة الأوثان نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)، أي المشركين غير هؤلاء كالنصارى واليهود إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥)، أي عبدة الأوثان كانوا إذا قيل لهم: قولوا لا إله إلّا الله، يتعاظمون عن النطق بكلمة التوحيد وعلى من يدعوهم إليها، وَيَقُولُونَ في تكذيب النبوة أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) أي أإنا لتاركوا عبادة آلهتنا لأجل قول محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم إن الله تعالى كذبهم في ذلك الكلام فقال بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ أي بل جاء محمد بالدين الحق، لأنه ثبت بالعقل أنه تعالى منزه عن الشريك وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) أي وصدق محمد المرسلين في مجيئهم بالتوحيد ونفي الشرك، فإن التوحيد دين كل الأنبياء إِنَّكُمْ بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨).
وقرئ بنصب «العذاب» على تقدير النون. وقرئ «لذائقون العذاب» على الأصل وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) أي إلا بما كنتم تعملونه من السيئات، وكأنه قيل: فكيف يليق بالرحيم الكريم المتنزه عن النفع والضر أن يعذب عباده، فأجاب الله عن ذلك بقوله: وَما تُجْزَوْنَ إلخ. والمعنى: أن الحكم يقتضي الأمر بالحسن والنهي عن القبيح ولا يكمل المقصود منهما إلّا بالترغيب في الثواب، وبالترهيب بالعقاب، وإذا وقع الإخبار عن ذلك وجب تحقيقه صونا للكلام عن الكذب، فلهذا السبب وقعوا في العذاب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠).
بقدر أعمالهم دون عباد الله المخلصين فإنهم يجزون أضعافا مضاعفة اه.
أُولئِكَ أي المخلصون لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١)، أي معروف الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلقها الله فيه من طيب طعم ورائحة، ولذة طعم،
وحسن منظر. وقيل: معنى المعلوم إنهم يتيقنون دوام الرزق لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل، ومتى ينقطع. وقيل: معناه أن الرزق على قدر يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وكرامته عليهم، فَواكِهُ وهو ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات، لأنهم مستغنون عن القوت، وهو بدل كل من رزق فالفواكه مساوية للرزق فتشمل الخبز واللحم، لأنهما يؤكلان في الجنة تلذذا، وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) عند الله تعالى لا يلحقهم هوان، لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) أي في جنات ليس فيها إلّا التنعيم، عَلى سُرُرٍ مكللة بالدر والياقوت والزبرجد، مُتَقابِلِينَ (٤٤) أي متواجهين في الزيارة لا يرى بعضهم قفا بعض، وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ أي بخمر أو بإناء فيه خمر، فالكأس يطلق عليهما مِنْ مَعِينٍ (٤٥) أي من نهر جار على وجه الأرض خارج من العيون، بَيْضاءَ مثل اللبن لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ أي ليس في شربها صداع في الرأس- كما قاله ابن عباس والليث- ولا وجع البطن- كما قاله قتادة- ولا أثم- كما قاله الكلبي-، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧).
قرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي أي يسكرون. والباقون بفتح الزاي أي يذهب عقولهم. وعن سببية أي بسبب الخمر وَعِنْدَهُمْ في الجنة قاصِراتُ الطَّرْفِ أي حور قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم عِينٌ (٤٨) أي كبار الأعين حسانها، كَأَنَّهُنَّ في الصفاء بَيْضٌ للنعام مَكْنُونٌ (٤٩) أي مصون عن القترة، شبههن ببيض النعام المصون من الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة، فإن ذلك أحسن ألوان الأبدان فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠). وهذا معطوف على «يطاف»، أي يشربون ويتحادثون على الشراب فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم، وعن المعارف.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من أهل الجنة في تضاعف محاوراتهم وهو يهوذا: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) أي مصاحب في الدنيا يقال له: نطروس- وهما شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن وهو يهوذا، والآخر كافر وهو نطروس- يَقُولُ لي يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) بالبعث ويقول تعجبا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) ! أي لمحاسبون ومجاوزون. وقرئ «المصدقين» بتشديد الصاد.
وقيل: كان رجل تصدق بماله لوجه الله تعالى فافتقر، فاستجدى بعض إخوانه فقال: أين مالك؟ قال: تصدقت به ليعوضني الله تعالى في الآخرة خيرا منه. فقال: أإنك لمن المصدقين بيوم الدين أو من المتصدقين لطلب الثواب والله لا أعطيك شيئا، فيكون التعرض لذكر موتهم وكونهم ترابا وعظاما حينئذ لتأكيد إنكار الجزاء المبني على إنكار البعث. قالَ ذلك الرجل الذي هو من أهل الجنة لجلسائه: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين؟
فذهب إلى بعض أطراف الجنة فَاطَّلَعَ عندها إلى النار فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) أي فرأى ذلك الرجل قرينه في وسط النار. قالَ له موبخا: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) أي إنه، أي الشأن قاربت لتهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة.
وقرئ «لتغوين»، أي لتضلني عن الدين، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي بالإرشاد إلى الحق والعصمة عن الباطل لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) في النار مثلك، ثم عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كانت في الدنيا، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩). وهذا استفهام تلذذ فهو من سؤال بعضهم لبعض، لأن الذي تتكامل سعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول: أيدوم هذا لي أيبقى هذا لي، وإن كان على يقين من دوامه، ثم عند فراغهم من هذه المباحثات يقولون: إِنَّ هذا أي الذي نحن فيه لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠). والوقف هنا تام. وقيل: هو من قول الله تعالى تصديقا لقولهم. وقرئ «إن هذا» أي الذي ذكر لأهل الجنة لهو الرزق العظيم.
قال الله تعالى ترغيبا للمكلفين في عمل الطاعات:
لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أي لطلب مثل هذه السعادات المحكية يجب أن يعمل العاملون فليجتهد المجتهدون بالعلم والعبادة. أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) أي أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير حاصلا أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم، أمر الله ورسوله أن يورد ذلك على كفار قومه ليصير ذلك زاجرا لهم عن الكفر والمعنى أن الرزق المعلوم ضيافة أهل الجنة، وأهل النار ضيافتهم شجرة الزقوم فأيهما خير في كونه ضيافة. وهذا الكلام جيء به على سبيل السخرية بهم، لأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية. إِنَّا جَعَلْناها أي شجرة الزقوم فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) أي شبهة في قلوبهم حتى صارت سببا لتماديهم في الكفر، فإنهم لما سمعوا أن شجرة الزقوم في النار قالوا: كيف يعقل أن تنبت الشجرة في النار مع أنها تحرق الشجر ولم يعلموا أن خالق النار قادر على أن يمنع النار من إحراق الشجر، لأنه إذا جاز أن يكون في النار زبانية والله يمنع النار عن إحراقهم فلم لا يجوز مثل ذلك في هذه الشجرة؟
إِنَّها أي الزقوم شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
وقرئ «نابتة في أصل الجحيم». طَلْعُها أي ثمرها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) في القبح والهول، وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق في الحسن بالملك في قوله تعالى حكاية لقول النساء: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ وذلك أن الناس اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة، واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسيرة، فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة تقرير الكمال، حسن التشبيه برءوس الشياطين في قبح النظر كأنه قيل: إن أقبح الأشياء في الخيال هو رؤوس الشياطين. وقيل: إن الشياطين حيات هائلة لها رؤوس وأعراف، وهي من
أقبح الحيات، والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق، دفرة، مرة، كريهة الرائحة تكون في تهامة، فَإِنَّهُمْ أي الكفار لَآكِلُونَ مِنْها أي من الزقوم فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) لغلبة الجوع أو للقسر على أكلها تكميلا لعذابهم ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي الزقوم بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧)، أي لمخلوطا بماء متناه في الحرارة. والمعنى: إذا غلبهم العطش الشديد سقوا من الماء الحار، فحينئذ يخلط الزقوم بماء حميم فيقطع أمعاءهم، نعوذ بالله من ذلك ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) فإن الزقوم والحميم ضيافة تقدم إليهم قبل دخولها.
وقرئ «إن مصيرهم» أي منقلبهم. إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) أي إنهم وجدوهم ضالين في نفس الأمر فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) أي فهم يتبعون آباءهم على دينهم اتباعا في سرعة من غير تدبر أي إنما استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد الآباء في الدين، وترك اتباع الدليل،
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي قبل قريش أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) من الأمم السالفة، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) أي أنبياء أولي عدد كثير، وذوي شأن خطير بينوا لهم بطلان ما عليهم، فلم يؤمنوا بهم. وهذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم في كفر قومه وتكذيبهم له ليكون له أسوة بمن تقدم من الرسل ليصبر كما صبروا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣). والمقصود من هذا الخطاب خطاب الكفار وإن كان في الظاهر خطابا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعمل وبكسرها، أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى. وهذا استثناء من قوله تعالى: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ فإنها كانت أقبح العواقب، فإنا أهلكناهم إلّا عاقبة عباد الله المخلصين، فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة لأنا لم نهلكهم، أو استثناء من قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وقوله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أي فإنهم لم يضلوا لأنهم لم يكذبوا رسلهم. وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ في أن
ننجيه من الغرق أو في إيذاء قومه وقصدهم لقتله فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) أي فو الله لنعم المجيبون نحن، وَنَجَّيْناهُ أي نوحا وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) أي الحاصل بسبب الخوف من الغرق، أو الحاصل من أذى قومه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) إلى يوم القيامة، وكان له ثلاث بنين: سام، وحام، ويافث. فسام: أبو العرب، وفارس، والروم. وحام: أبو الحبش، والبربر، والسند ويافث: أبو الترك والتتار ويأجوج. ومأجوج وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) أي وتركنا على نوح في الباقين بعد من الأمم، هذه الكلمة وهي سلام على نوح في العالمين أي يسلمون عليه تسليما ويدعون له بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعا على الدوام، أي أثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين، فيسلمون عليه بكليتهم إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) أي إنا مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الكاملين في الإحسان
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١). والمقصود من
هذا بيان أن أعظم الدرجات الإيمان بالله والانقياد لطاعته، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وهم كفار قومه أجمعين وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن تابعه في أصول الدين لَإِبْراهِيمَ (٨٣) وإن اختلفت فروع شرائعها، وما كان بينهما إلّا نبيان: هود وصالح عليهم السلام، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)، أي إذ أقبل إبراهيم إلى طاعة ربه بقلب خالص من كل عيب. وقال الأصوليون: المراد أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل دنس المعاصي، فيكون سليما عن الشرك، والغش، والحقد، والحسد.
وعن ابن عباس: أنه كان يحب للناس ما يحب لنفسه وسلم جميع الناس من غشه وظلمه.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ظرف ل «جاء» أو ل «سليم»، وأما العامل في «إذا» الأولى فهو ما دلّ عليه قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ من معنى المتابعة. ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أي أيّ شيء تعبدونه أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) ! أي أتعبدون آلهة من غير الله لأجل الكذب؟ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في العبودية أو أنه جوّز جعل هذه الجمادات مشاركة له في العبودية. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨)، أي في علم النجوم وأراد أن يتخلف عنهم في عيد يخرجون إليه ليبقى خاليا في بيت الأصنام، فيقدر على كسرها ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان قومه يتعاملون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا يتعاملون به ليتركوه ويعذروه في التخلف عنهم. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) أي سأسقم سقم الموت، لأن من كتب الله عليه الموت يسقم في الغالب، ثم يموت- كما قاله الضحاك- أو سقيم القلب عليكم لعبادتكم الأصنام، وذلك تورية ليتركوه وقيل: إنه نظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي. وأشار لهم إلى مرض يعدي كالطاعون وكانوا يهربون من الطاعون، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) أي فارين مخافة العدوى وتركوه، وعذروه في أن لا يخرج اليوم ذاهبين إلى عيدهم، فكان ذلك مراده، وكانوا في قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها: هرمز
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي ذهب إلى الأصنام في خفية، فَقالَ استهزاء بها: أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ؟ أي من الطعام لذي كانوا يصنعونه عندها لتبرك عليه ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) بجواب كلامي؟ فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) أي أقبل عليهم مستخفيا ضاربا ضربا شديدا قويا، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) أي إنهم لما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام وجدوها مكسرة، فسألوا عن المكسر، فظنوا أنه إبراهيم عليه السلام، فأتوا به يسرعون المشي.
وقرأ حمزة «يزفون» بضم الياء، أي يحملون غيرهم على الإسراع في المشي. قالَ لهم إبراهيم، أي بعد أن أتوا به عليه السلام وعاتبوه على كسر الأصنام: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) بأيديكم من العيدان والحجارة! وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) ؟ أي والحال أن الله تعالى خلقكم، وخلق معمولكم، فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك. قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) أي في النار الشديدة الاتقاد.
قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا، وملئوه نارا، فطرحوا سيدنا إبراهيم فيها فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً أي شرا حرقا بالنار، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) أي الأذلين بإبطال كيدهم بجعل النار عليه بردا وسلاما، أي أن إبراهيم عليه السلام في وقت المحاجة حصلت الغلبة له وعند ما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار فصار هو الغالب عليهم. وَقالَ إبراهيم لما انقضت هذه الواقعة: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي إلى مواضع دين ربي وهي أرض الشام. فالمراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار، سَيَهْدِينِ (٩٩) إلى ما فيه صلاح ديني، فلما هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) أي ولدا من المرسلين، فاستجبنا له،
فَبَشَّرْناهُ على لسان الملائكة بِغُلامٍ، أي بولد ذكر حَلِيمٍ (١٠١)، أي ذي حلم كثير وهو إسماعيل عليه السلام فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي فوهبنا له فنشأ، فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه. قالَ إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ أي إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك في اليقظة.
روي أن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثمّ سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله، فسمي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. فَانْظُرْ ماذا تَرى بفتح التاء والراء أي أيّ شيء تشير إلي برأيك.
وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وكسر الراء، أي أيّ الذي ترى من نفسك الصبر والتسليم.
وقرئ مبنيا للمفعول أي ما تظن ذلك الرؤيا. قالَ أي ذلك الغلام: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي ما أمرت به، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) على قضاء الله وعلى الذبح فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا لأمر الله تعالى واتفقا. وقال قتادة: أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) أي أضجعه على جنبه، وجواب «لما» محذوف، أي نادته الملائكة من الجبل: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
حكي أن إبراهيم لما أراد ذبحه قال: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما توسطا شعب ثبير أخبره بما أمر به فقال: يا أبت اشدد رباطي في كي لا أضطرب، واكفف عني ثيابك كي لا ينضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك، وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون علي، فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي. وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها. فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ثم أقبل عليه يقلبه وقد ربطه، وهما يبكيان، ثم وضع السكين على حلقه، فلم تؤثر شيئا فقال الابن: كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة
تحول بينك وبين أمر الله، ففعل، ثم وضع السكين على قفاه، فانقلبت، فعند ذلك نودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فذلك قوله تعالى: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) ف «أن» مفسرة، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي قد أتيت ما أمرت به في المنام وقد حصل المقصود من تلك الرؤيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) أي كما جزيناهم إبراهيم وابنه بتفريج الكرب، نجزي كل محسن بامتثال الأمر، إِنَّ هذا أي الذبح لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) أي لهو الجنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) أي وفدينا إسماعيل بكبش سمين اسمه جرير، وهو الكبش الذي تقرب به هابيل إلى الله تعالى، فقبله، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل.
وقال السدي: نودي إبراهيم، فالتفت، فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل، فقام عند إبراهيم، فأخذه. فذبحه، ثم اعتنق ابنه، وقال: يا بني اليوم وهبت لي.
وروي أنه لما ذبحه قال جبريل عليه السلام الله أكبر، الله أكبر فقال الذبيح: لا إله إلّا الله والله أكبر فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقي ذلك سنة، والفادي في الحقيقة هو إبراهيم، فالله هو المعطي له والآمر به وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩)، أي وتركنا على إبراهيم في الباقين من الأمم هذه الكلمة
والمعنى: أثبت الله التسليم على إبراهيم وأدامه في الآخرين، فيسلمون عليه أي يدعون له بثبوت هذه التحية كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠)، أي مثل ذكره الجميل فيما بين الأمم نجزي المحسنين بالثناء الحسن،
إِنَّهُ أي إبراهيم، مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١)، أي الراسخين في الإيمان وَبَشَّرْناهُ أي إبراهيم بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) أي مقضيا بنبوته، مقدرا كونه من الصالحين فالصلاح غاية للنبوة، وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي أبقينا الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى قيام القيامة وأخرجنا جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ بالإيمان والطاعة، وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر والمعاصي مُبِينٌ (١١٣) أي ظاهر ظلمه. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) أي أنعمنا عليهما بمنافع الدنيا، كالحياة، والعقل، والصحة: وبمنافع الدين كالعلم والطاعة، وأعلى هذه الدرجات: النبوة، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما وهم بنو إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) من الغرق الذي أغرق الله به فرعون وقومه، ومن إيذاء فرعون، وَنَصَرْناهُمْ على فرعون وقومه فَكانُوا بسبب ذلك هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) عليهم بظهور الحجة، ثم بالرفعة، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) أي البليغ في البيان- وهو التوراة- فإنه كتاب مشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)، أي دللناهما على طريق الحق عقلا وسمعا، ومددناهما بالتوفيق والعصمة، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠)، أي وتركنا عليهما في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قولهم: سلام على موسى
وهارون، أي دعاءهم لهما بثبوت هذه التحية،
إِنَّا كَذلِكَ أي مثل الجزاء الكامل نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢). وهذا تنبيه على أن الفضيلة الحاصلة بسبب الإيمان أعلى من كل الفضائل، ولولا ذلك لما حسن ختم فضائل المرسلين بكونهم من المؤمنين، وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)، وهو إلياس بن ياسين، من ولد هارون أخي موسى عليهم السلام، وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل.
قال ابن عباس: وهو ابن عم اليسع عليهما السلام. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) عذاب الله أَتَدْعُونَ بَعْلًا، أي أتعبدون بعلا- وهو اسم صنم لأهل بك- قيل: كان من ذهب طوله عشرون ذراعا، وله أربعة وجوه، وكانوا عظموه حتى جعلوا له أربعمائة سادن، وجعلوهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل، ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وببعلبك سميت مدينتهم. وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) أي وتتركون عبادة أعظم المصورين اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦).
قرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم بالنصب على البدل. والباقون بالرفع على الاستئناف فَكَذَّبُوهُ أي إلياس فَإِنَّهُمْ بسبب تكذيبهم لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) النار غدا، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) في التوحيد والعبادة. وهذا استثناء من الواو في فكذبوه، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠)، أي وتركنا عليه في الآخرين دعاءهم له بثبوت التسليم.
قرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب بفتح الهمزة ممدودة، وكسر اللام على إضافة لفظ «آل» إلى لفظ «ياسين». والمراد به إلياس ابن ياسين كأن إلياس آل ياسين. والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام، كما يقال: ميكال، وميكائيل، وميكالين، فكذا هاهنا يقال: إلياس وإلياسين- كذا قال الزجاج-
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إلى قومه إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ ابنتيه زاعورا ورينا، أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) أي إلّا امرأته المنافقة تخلفت مع المتخلفين بالهلاك، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
(١٣٦) أي أهلكنا من بقي بعد لوط وابنتيه، وَإِنَّكُمْ
يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
أي على قريات قوم لوط، سذوم، وعمورا، وصبورا، ودادوما مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ
، فإن أهل مكة كانوا يسافرون إلى الشام والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار، فلهذا السبب عين الله تعالى هذين الوقتين، أَفَلا تَعْقِلُونَ
(١٣٨) أي أتشاهدون ذلك فليس فيكم عقول تعتبرون به وتخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ
أي هرب من قومه بغير إذن ربه، إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
(١٤٠) أي إلى السفينة الموقرة،
فَساهَمَ
أي قارع في السفينة، فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
(١٤١) أي فصار من المغلوبين بالقرعة فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ- يقال له: لخم- وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) أي مستحق اللوم فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) أي كان يقول في بطن الحوت: لا
إله إلّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، أو كان قبل أن التقمه الحوت من المصلين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ أي ذلك الحوت إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ أي أمرنا الحوت بلفظه بالمكان الخالي، عما يغطيه من شجر أو نبت.
قال جعفر: بشاطئ دجلة. وقيل: بأرض اليمن. حكاه ابن كثير.
روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس عليه السلام ويسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظه سالما لم يتغير منه شيء، فأسلموا وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) أي مريض صار بدنه كبدن الطفل حين يولد، وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) أي من قرع وخص الله القرع، لأنه يجمع برد الظل، ولين الملمس، وكبر الورق، وأن الذباب لا يقربه، فإن جسد يونس حين ألقي على الأرض الواسعة لم يكن يتحمل الذباب.
قال مقاتل بن حبان: كان يونس عليه السلام يستظل بالشجرة، وكانت وعلة تتردد إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشيا حتى اشتد لحمه ونبت شعره، وَأَرْسَلْناهُ إلى قوم بنينوى، وهي قرية من أرض الموصل إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧).
قال ابن عباس: إن أو بمعنى الواو، وقد قرئ بالواو. فَآمَنُوا بعد ما شاهدوا علائم حلول العذاب إيمانا خالصا فَمَتَّعْناهُمْ بالحياة الدنيا إِلى حِينٍ (١٤٨) أي إلى الوقت الذي جعله الله أجلا لكل واحد منهم، أي إن أولئك القوم لما آمنوا، أزال الله عنهم الخوف وأمنهم من العذاب، فَاسْتَفْتِهِمْ أي سل بعض أجناس العرب ممن قالوا: الملائكة بنات الله كبني مليح، وبني سلمة وجهينة وخزاعة، أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ اللاتي هي أوضع الجنسين وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) ؟ الذين هم أرفعهما، فإن ذلك مما لا يقول به من له أدنى شيء من العقل، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) ؟ أي بل أخلقناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أي كذبهم لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ فعل وفاعل حيث قالوا: الملائكة بنات الله.
وقرئ «ولد الله»، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي الملائكة ولد الله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) في مقالتهم ذلك كذبا بينا. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) بفتح الهمزة، وهي استفهام إنكار وتقريع، أي اختار الله الإناث على الذكور ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) بهذا الحكم الجائر، وهو أنهم نسبوا أخس الجنسين إلى الله تعالى وأحسنهما إليهم، فالأول استفهام إنكار عما استقر لهم، والثاني استفهام تعجب من هذا الحكم، أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أي ألا تلاحظون ذلك فلا تتعظون به! أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) أي بل ألكم حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله، فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي دل على صحة دعواكم، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(١٥٧) في دعواكم. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ تعالى وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أي إن قوما من الزنادقة يقولون: الله تعالى وإبليس إخوان، فالله
تعالى هو الحر الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم. ويقولون: إبليس مع الله شريك، فالله خالق الخير، وإبليس خالق الشر- وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن- وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) أي ولقد علمت الشياطين أن الله تعالى يحضرهم النار، ويعذبهم بها ولو كانوا شركاء لله في استحقاق العبادة لما عذبهم، ثم نزّه الله نفسه عما قالوا من الكذب فقال: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) أي عما يقولون من الكذب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) أي لكن عباد الله المخلصين لله بالاعتقاد والعبادة، فإنهم لا يكذبون على الله، وينزهون الله تعالى عما يصفه به تعالى الكاذبون، وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة مناسبة فهو عند الله مخلص
ممن الشرك،
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)، أي فإنكم ومعبوديكم أيها المشركون لستم بفاتنين عليه تعالى بإفساد عباده وإضلالهم، إلا أصحاب النار الذي سبق في علم الله كونهم من أهل النار، فإنهم يصرون على الكفر بسوء اختيارهم. وهذا استثناء مفرغ.
وقرأ العامة «صال الجحيم» بكسر اللام، لأنه منقوص حذفت منه لام كلمته لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن بضم اللام وسقوط الواو لالتقاء الساكنين ومن موحد اللفظ مجموع المعنى، وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)، أنزل الله تعالى هذه الآية حكاية عن قول الملائكة وهي حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم، أي وما منا ملك إلا له مكان معلوم في العبادة- قاله ابن مسعود وابن جبير-
وقالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما في السماء موضع قدم إلّا عليه ملك ساجد أو قائم»
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) في أداء الطاعة ومنازل الخدمة، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) أي المنزهون لله تعالى عما لا يليق به تعالى وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) أي إن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون: لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله، ولما كذبنا كما كذبوا، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب الشاهد على كل الكتب وهو القرآن، فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) عاقبة هذا الكفر والتكذيب،
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١)، أي وبالله لقد سبق وعدنا لهم وهو إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) بالحجة إِنَّ جُنْدَنا
وهم أتباع المرسلين هُمُ الْغالِبُونَ
(١٧٣) على أعدائهم في الدنيا والآخرة، ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المشاهد، فإن أساس أمرهم النصرة، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من المحنة، والحكم للغالب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. وقرئ «على عبادنا» بتضمين «سبقت» معنى حقت. وقرئ «كلماتنا». فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤)، أي أعرض عن كفار مكة إلى مدة يسيرة تؤمر فيها بجهادهم، وَأَبْصِرْهُمْ وما يقضي عليهم من القتل والأسر في الدنيا ومن العذاب في الآخرة فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) ما يقع عليهم من الأمور، أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦).
روي أنه لما نزل فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا على سبيل الاستهزاء: متى هذا الموعود، فنزل: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) أي فإذا نزل العذاب بقربهم فبئس صباح المنذرين صباحهم.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أتى خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا:
محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الله أكبر، خربت خبير إنا إذا نزلنا بساحة قوم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ»
«١». والصباح: هو وقت نزول العذاب وإن وقع ليلا.
وقرئ «نزل» بتشديد الزاي وبالبناء للمفعول. وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) أي أعرض عنهم إلى يوم بدر أو إلى فتح مكة. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)، أي يبصرونك مع ما قدر لك من النصرة سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠). وهذه كلمات محتوية على أقصى الدرجات في معرفة إله العالم، فلفظة سبحان تنزيهه عما لا يليق بصفات الإلهية والربوبية دالة على كمال الرحمة، والحكمة والعزة إشارة إلى كمال القدرة وهي دالة على أنه تعالى قادر على جميع الحوادث ومنزه عن الشريك والنظير في الإلهية
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١). وهذا اللفظ يدل على أنهم في الكمال اللائق بالبشر فاقوا غيرهم، فيجب على كل من سواهم الاقتداء بهم، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢) على نجاة الرسل وسلامة الحال بعد الموت، فالله تعالى غني رحيم، والغني الرحيم لا يعذب.
(١) رواه البيهقي في الأسماء والصفات (١٦٨). [.....]
Icon