ﰡ
في السورة حكاية لبعض مواقف وأقوال وعقائد العرب. وفصول من المناظرات والمشاهد بين النبي ﷺ والكفار. وبيان لمصير المخلصين والجاحدين يوم القيامة. وسلسلة قصص بعض الأنبياء وأقوامهم ومصائرهم وفيها بعض مواضيع السورة السابقة حتى تكاد أن تكون تتمة لها أو تعقيبا عليها مما فيه قرينة على صحة نزولها بعد سورة الأنعام، وفي أسلوبها ونظمها خصوصية فنية. ففيها تسجيع متنوع القوافي وقد ألحقت حلقات سلسلة القصص بلازمة تتكرر عقب كل قصة مثل حلقات سورة الشعراء مع اختلاف الصيغة وفصولها مترابطة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة وهي خامسة سور القرآن في عدد الآيات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ١٠]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
(١) الزاجرات: المانعات أو الرادعات أو السائقات.
(٢) المشارق: الجمهور على أنها هنا تعني مشارق الشمس من حيث إن للشمس مشارق عديدة بحسب منازلها ومساراتها في مدار السماء. ويتبادر أن
(٣) لا يسمّعون: بمعنى لئلا يتسمعوا.
(٤) دحورا: طردا عنيفا أو دفعا عنيفا.
(٥) واصب: دائم أو ثابت.
(٦) شهاب ثاقب: شهاب ساطع أو مضيء.
في الآيات قسم رباني على سبيل التوكيد بأن إله الناس واحد وحسب، وهو رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق، الذي زين السماء الدنيا بالكواكب وجعلها في الوقت نفسه حافظة لها من كل شيطان باغ لمنعه من التسمع إلى الملأ الأعلى وقذفه من كل جانب من جوانبها قذفا شديدا، بالإضافة إلى ما له من عذاب دائم وكل من خطف خطفة من السمع منهم تبعه شهاب ثاقب قضى عليه.
ولقد تعددت الأقوال في المقصود بالمقسوم به في الجمل الثلاث الأولى، وأوجهها الذي رجحه جمهور المفسرين أنهم الملائكة. فهم الصافون للعبادة صفا والزاجرون الناس عن المعاصي والتالون لآيات الله والمبلغون لأوامره.
وعلى كل حال فالآيات بسبيل توكيد ما بعدها. وهي جارية على الأسلوب القرآني المألوف ونرجح أن سامعيها أو من سامعيها من قد فهم المقصود ولم تكن مبهمة عليه.
ويمكن أن يستلهم من الآيات التالية أن هذه الآيات مقدمة لمشهد من مشاهد المناظرة بين النبي ﷺ والكفار المشركين جرى فيه جدل حول وحدة الله تعالى وحقيقة البعث بعد الموت. وهي مقدمة قوية نافذة، تضمنت لفت نظر السامعين إلى عظمة كون الله تعالى والتدليل على وحدته وربوبيته كما هو المتبادر. ولقد علقنا في سياق تفسير سورتي الجن والحجر على موضوع الشياطين وتسمعهم إلى السماء ورجمهم بالشهب بما فيه الكفاية فلا ضرورة إلى زيادة شيء آخر في هذا المقام بمناسبة ورود ذكر ذلك في الآيات.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١ الى ١٨]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨)
. (١) طين لازب: طين ملتصق متحجر.
(٢) يستسخرون: يشتدون في السخرية.
(٣) داخرون: صاغرون.
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزولها.
وهي كما هو المتبادر في صدد مشهد من مشاهد المناظرة في البعث والجزاء الأخرويين بين النبي ﷺ والكفار، أو في صدد حكاية مواقفهم وأقوالهم والردّ عليهم.
والسؤال الذي أمر النبي ﷺ بتوجيهه إليهم فيه قوة وإلزام. فالسموات والأرض وما بينهما والملائكة والشياطين كل هذه قد خلقها الله وكلها في تصرفه المطلق. والذي خلق كل هذا الخلق العظيم قادر من باب أولى عليهم وهم أضعف من أي منهم وقد جاء الرد والتوكيد في الآية الأخيرة عنيفا ليتناسب مع ما حكته الآيات من مكابرتهم وسخريتهم وجحودهم وتصاممهم.
وليس من شك في أن النبي ﷺ قد نفذ أمر ربه فقذف الكفار مواجهة بالرد العنيف دون مبالاة بهم وهم الأكثر عددا والأشد قوة حيث تتجلى بذلك قوته المعنوية وموقف الاستعلاء الذي يشعر به بالنسبة لهم وقد تكرر هذا الأسلوب مرارا.
ولقد تكررت حكاية مواقف الكفار التي حكتها الآيات وأقوالهم كثيرا.
والمتبادر أن ذلك آت من تكرر المشاهد وتجددها. ولقد شرحنا مدى قول الكفار الجزء الرابع من التفسير الحديث ١٤
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)
. (١) زجرة: صرخة أو صيحة.
(٢) يوم الدين: يوم الجزاء.
(٣) الذين ظلموا: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والإثم.
(٤) أزواجهم: هنا بمعنى أمثالهم ومن هم على شاكلتهم أو أشياعهم.
(٥) اهدوهم: أرشدوهم ودلوهم.
(٦) صراط: طريق.
الآيات جاءت معقبة على الأمر الرباني للنبي ﷺ الذي احتوته الآية الأخيرة من الآيات السابقة كما هو المتبادر. وقد احتوت حكاية ما سوف يكون من أمرهم حينما يأتي وعد الله. فليست إلّا صرخة واحدة فإذا هم أحياء ينظرون إلى ما حولهم نظرة الرعب ويقولون يا ويلنا هذا يوم الجزاء فيقال لهم هذا يوم القضاء الذي كنتم تكذبون به. ويؤمر الملائكة بحشر صنوف الظالمين وفئاتهم المتشاكلة وآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله بدلا من عبادة الله وحده أو يشركونها مع الله تعالى في العبادة وسوقهم جميعا إلى طريق الجحيم وإيقافهم للسؤال والحساب.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الذين يؤمر بحشرهم مع الظالمين من الآلهة هم الأصنام أو الشياطين أو غير عباد الله الصالحين الذين اتخذهم الناس آلهة ومعبودات وشركاء مثل الملائكة والعزير والمسيح على اعتبار أن هؤلاء غير مسؤولين عن فعل المشركين. وقد حكت بعض الآيات تنصلهم منهم ما مرّ مثاله في الآيات [١٦- ١٧] من سورة الفرقان.
ولقد روى الترمذي في سياق الآية وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ الصافات: [٢٤] حديثا عن أنس بن مالك قال: «قال النبي ﷺ ما من داع دعا إلى شيء إلّا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه. وإن دعا رجل رجلا ثم قرأ قول الله تعالى وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» «١» ويلحظ أن الضمير في الآية عائد بصراحة حاسمة للظالمين المشركين خاصة. فإن صح الحديث فيكون النبي ﷺ هدف إلى استلهام الآية لوعظ المسلمين وتحذيرهم من أي قول أو عمل فيه انحراف وضلال.
هذا، وللشيعة تأويل غريب على عادتهم للآية، حيث قالوا إنها في حق الذين أنكروا ولاية عليّ ومنعوها عنه، بل لقد رووا في ذلك حديثا عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ «٢» لم يرد في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة وتغافلوا عن أن الآية مكية وأنها في سياق التنديد بالمشركين الظالمين وإنذارهم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٥ الى ٣٣]
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩)
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣)
(٢) ترجمة مختصر التحفة الإثني عشرية ص ١٥٧.
(٢) تأتوننا عن اليمين: أوّلها بعضهم بأن الذين أضلوا الناس كانوا يحلفون لهم بأنهم على هدى ويحولون بينهم وبين الإيمان بالله والاستجابة لدعوته. وأوّلها بعضهم بأنها كناية عن الوسوسة والتزيين من جهة يمينهم لأن هذه الجهة هي الميمونة المأمونة والتي اعتاد الناس أن يسروا إلى بعضهم بما يريدون من ناحيتها.
الآيات استمرار لحكاية ما سوف يكون من أمر الكفار يوم البعث، فسيسألون سؤال التهكم والتحدي عن سبب عدم تناصرهم كما كانوا يفعلون في الدنيا فلا يكون جوابهم إلّا الاستكانة والاستسلام. ولسوف يقبل بعضهم على بعض يتعاتبون ويتخاصمون. فيقول التابعون للمتبوعين وهم الزعماء: إنكم كنتم تزينون لنا الجحود والغواية وتصدوننا عن الهدى فيجيبهم هؤلاء: إنكم كنتم ضالين طغاة غير مصدقين في قرارة نفوسكم ولم يكن لنا عليكم سلطان قاهر لو استجبتم. ولم نكد نقف موقف الصد والغواية حتى تابعتمونا. ولقد حق علينا حكم الله ووعيده فنحن جميعا ذائقون مرارة أعمالنا وضلالنا. وقد عقبت الآية الأخيرة على هذه المحاورة بتقرير أنهم سيكونون جميعا في العذاب مشتركين ولن يغني الاعتذار والتنصل والتلاوم أحدهم شيئا.
والآيات كسابقاتها قوية التصوير ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي حكته فإن من حكمة الأسلوب المتبادرة الذي جاءت عليه إثارة الخوف والرعب والارعواء في قلوب الكفار تابعين ومتبوعين. ولعل مما استهدفته تنبيه التابعين الذين كانوا الأكثر إلى أن الزعماء الذين يتبعونهم لن ينفعوهم في الآخرة شيئا.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٣٤ الى ٣٩]
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨)وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
. الآيات كما هو المتبادر معقبة على ما سبقها من حكاية ما سوف يكون من أمر الكفار بعد البعث. فما حكي هو ما سوف يحل بالمجرمين لأنهم كانوا يستكبرون إذا قيل لهم لا إله إلا الله وكانوا يستنكرون أن يتركوا آلهتهم لشاعر مجنون بزعمهم في حين أنه إنما جاءهم بالحق المتطابق مع ما جاء به المرسلون الأولون. ومن أجل ذلك سيقال لهم إنكم لذائقو العذاب الأليم وإنكم لم تجزوا إلّا بما عملتم وقدمتم.
وفي الآيات صورة لما كان يقفه الكفار من دعوة النبي ﷺ ومن شخصه أيضا، وقد تكررت في مناسبات عديدة مماثلة حيث كانت المشاهد والمواقف تتكرر وتتجدد. وقد علقنا على نعت المجنون والشاعر الذي كان الكفار ينعتون به النبي ﷺ بما فيه الكفاية في المناسبات السابقة فلا نرى ضرورة لزيادة أو إعادة.
ويلحظ في الحوار الذي يجري بين الكفار والأقوال التي تقال لهم أنها مقتبسة من مألوفات الدنيا وأساليب خطابها ومشاهدها. وهذا طبيعي لأنه هو الأشد تأثيرا في الوعظ والإنذار والترغيب والترهيب، وهو مما استهدفته الآيات كما قلنا.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٤٠ الى ٤٩]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
. (١) معين: لا ينضب أو لا ينقطع أو ظاهر على وجه الأرض.
(٣) ينزفون: تذهب عقولهم.
(٤) قاصرات الطرف: غاضات الأنظار. والتعبير كناية عن العفاف والطهر.
(٥) عين: ذات عيون نجلاء.
(٦) بيض: يطلق مجازا على حبات اللؤلؤ الكبيرة.
(٧) مكنون: مصون عن الابتذال.
في الآيات وصف لما يكون من أمر المؤمنين يوم القيامة مقابل وصف ما يكون من أمر الكفار على سبيل الاستطراد وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وقد بدأت بحرف الاستثناء ليعني أن عباد الله المخلصين مستثنون من ذلك المصير الذي حكي أنه سيكون بالنسبة للكفار. فلهم الرزق الوافر والفواكه والتكريم في جنات النعيم حيث يجلسون متقابلين على الأسرّة ويطاف عليهم بشراب أبيض لذيذ من منبع لا ينضب ولا يسبب خمارا ولا نزيفا لشاربه ويتمتعون بالنساء النجل العيون اللاتي كأنهن اللؤلؤ بياضا وجمالا، الطاهرات المصونات عن الابتذال.
والآيات متصلة بالسياق كما هو المتبادر. وأسلوبها قوي مثل سابقاتها، ومن شأنها إغراء السامعين وحملهم على الاستجابة وإثارة الطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين وهو مما استهدفته الآيات على ما هو المتبادر أيضا.
والوصف هنا كالوصف هناك مستمد من مألوفات الناس وصور الحياة الدنيا لأنه أقوى على التأثير على ما قلناه في صدد الآيات السابقة. مع واجب الإيمان بحقيقة ما انطوى فيها من مشهد أخروي.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٠ الى ٦١]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
(٢) مدينون: مبعوثون للقضاء والجزاء.
(٣) سواء الجحيم: وسط النار.
(٤) لترديني: لتسقطني وتهلكني.
الآيات استمرار في السياق كما هو واضح، وفيها حكاية لما يكون من حوار بين المخلصين بعد أن ينزلوا منازل التكريم في الآخرة حيث يقبل بعضهم على بعض يتجاذبون الحديث فيذكر أحدهم قرينا كان له يسأله سؤال الساخر المستكبر عما إذا كان يصدق ما يقوله النبي ﷺ من أن الناس مبعوثون للجزاء بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما فيجاب القائل أن انظر فينظر فيرى قرينه في وسط النار فيخاطبه مؤنبا مبكّتا لقد كدت تهلكني بوسوستك وجحودك ولو لم تتداركني رحمة الله لكنت معك أقاسي ما تقاسي. ثم يتساءل المخلصون الناجون تساؤل الفرح عما إذا كانوا حقا لن يموتوا بعد الآن ولن يتعذبوا. ويهتفون مغتبطين مسرورين: ألا إن هذا لهو الفوز العظيم. وقد انتهت الآيات بالهتاف بالسامعين أن لمثل هذا المصير الكريم فليعمل من أراد العمل.
وقد استهدفت الآيات إثارة الطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين وإنذار الكفار فيما استهدفته كما هو شأن سابقاتها مع واجب الإيمان بحقيقة المشهد الأخروي الذي حكته.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٠]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)
(٢) الظالمين: هنا كناية عن الكافرين المجرمين.
(٣) أصل الجحيم: قاع النار.
(٤) طلعها: ثمرها.
(٥) شوب من حميم: شراب من الماء الحار.
(٦) ألفوا: وجدوا.
(٧) يهرعون: يسارعون في السير.
في الآيات سؤال تبكيتي وتقريعي عما إذا كان النعيم الذي أعدّ للمخلصين المذكور في الآيات السابقة خيرا منزلا أم شجرة الزقوم التي أعدها الله لعذاب الظالمين والتي تنبت في قاع الجحيم ولها ثمر كأنه رؤوس الشياطين في القبح والبشاعة. حيث يأكلونه ويملأون به بطونهم ثم يشربون عليه ماء شديد الحرارة فتزداد حرقتهم وعطشهم وعذابهم. ولسوف يكون الجحيم مصيرهم الخالد فقد وجدوا آباءهم ضالين فساروا في السير على طريقهم بدون تروّ ولم يستجيبوا لدعوة الحق والهدى التي وجهت إليهم.
وصلة الآيات بالسياق واضحة: حيث جاءت معقبة على وصف مصير المخلصين للتنبيه إلى الفرق العظيم بين هذا المصير ومصير الظالمين. والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب والهلع في الكفار كما هو شأن سابقاتها.
مع واجب الإيمان بحقيقة المشهد الأخروي الذي حكته.
وقد ذكر بعض المفسرين «١» أن تعبير إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) أريد به
وفي تشبيه طلع شجرة الزقوم الجهنمي برؤوس الشياطين دلالة على أن العرب كانوا يتخيلون الشياطين بأشكال قبيحة مفزعة، فجاء التشبيه متسقا مع ما في أذهانهم زيادة في التأثير والتخويف.
أما شجرة الزقوم الدنيوية فهي شجرة معروفة في بلاد الحجاز بكثرة شوكها وشدة مرارة ثمرها وإثارته عطشا شديدا في آكله.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧١ الى ٧٤]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
. وهذه الآيات معقبة على ما قبلها كما هو المتبادر: فأكثر الأمم السابقة ضلوا كما ضلّ أكثر العرب. ولقد أرسل الله إليهم منذرين فلم يستجيبوا، فاستحقوا ما استحقوه من سوء العاقبة باستثناء المخلصين من عباد الله الذين استجابوا واهتدوا، وقد انطوى في الآيات تقريع وإنذار للكفار وتنويه بالمؤمنين.
وقد جاءت الآيات في الوقت نفسه مقدمة لسلسلة قصص الأنبياء التي تأتي بعدها جريا على النظم القرآني.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
(٢) تركنا عليه في الآخرين: بمعنى أبقينا له ذكرا حسنا في الناس من بعده أو تكرمة دائمة من التحية والصلاة والسلام.
هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية جاءت عقب ذكر مواقف الكفار ومصائرهم جريا على الأسلوب القرآني. وقد شاءت حكمة التنزيل أن تأتي فيها قصة نوح بهذا الأسلوب المقتضب الذي فيه تنويه بنوح عليه السلام وإشارة إلى تنجيته وأهله من الشدة التي كانوا يلقونها من قومهم وجعل ذريته هي الباقية وإغراق الآخرين. وجعله ذا ذكر حسن دائم في العالمين وفقا لعادة الله تعالى في جزاء المحسنين المؤمنين من عباده.
ومقصد العبرة والتذكير فيها واضح، حيث انطوى فيها إنذار للكفار وتنويه وتطمين وبشرى للنبي ﷺ والمخلصين الذين اتبعوه.
والآيات [٧٧- ٨١] قد تكررت بشيء يسير من الاختلاف مع كل حلقة من حلقات السلسلة حيث صارت لازمة مثل اللازمة التي لحقت بسلسلة قصص سورة الشعراء، مما فيه صورة من صور النظم القرآني.
ولقد علقنا على قصة نوح عليه السلام وقومه وطوفانه في المناسبات السابقة فلا ضرورة للإعادة. غير أن هناك حديثا نبويا روي في سياق هذه الآيات رأينا أن نؤيده حيث روى الترمذي عن سمرة أن النبيّ ﷺ قال: «حام وسام ويافث» وفي رواية رواها الحاكم وأحمد مع الترمذي «سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم» «١». وفي الإصحاح التاسع من سفر التكوين ذكرت الأسماء الثلاثة
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٣ الى ١١٣]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢)
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
. (١) من شيعته: من فئته أو جماعته أو أمثاله.
(٢) أئفكا آلهة دون الله تريدون: أتتخذون من دون الله آلهة إفكا وزورا.
(٣) نظر نظرة في النجوم: إشارة إلى ما كان تبينه من الضلال في عبادة النجوم على ما جاء في سورة الأنعام السابقة.
(٤) قال إني سقيم: قال إني مريض، من قبيل الاعتذار.
(٥) فتولوا عنه مدبرين: فتركوه وخلفوه.
(٧) يزفون: يسرعون.
(٨) فلما أسلما: فلما انقادا لله وأرادا تنفيذ أمره.
(٩) تله للجبين: سحبه وطرحه على الأرض وجعل جبينه نحوها تهيؤا لذبحه.
(١٠) إن هذا لهو البلاء المبين: إن هذا لهو الامتحان والاختبار الشديد الذي تعرّض له إبراهيم وأقدم على تنفيذه.
(١١) ذبح: ذبيحة، كناية عن الحيوان الذي يذبح.
تعليقات على قصة إبراهيم عليه السلام وتمحيص مسألة الذبح من ولديه
وهذه حلقة ثانية من السلسلة احتوت قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه وأصنامهم وقصة رؤياه في المنام أنه يذبح ابنه وإقدامه على تنفيذ ذلك على اعتبار أنه أمر رباني وفدائه بذبيحة ربانية. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والشطر الأول من القصة لم يرو في سفر التكوين المتداول اليوم ولكن ذلك لا يمنع أن يكون ورد في أسفار وقراطيس مفقودة وهو ما نعتقده. وفي سورتي الشعراء ومريم ورد شيء مما جاء في هذا الشطر وجاء هنا بشيء من الخلاف الأسلوبي وشيء من الزيادة كما اقتضته حكمة التنزيل لتتكامل القصة وعبرتها.
ولقد علقنا على ما جاء في السورتين المذكورتين اللتين سبق تفسيرهما ونبهنا على ما فيهما من عبرة بالنسبة للعرب فلا نرى ضرورة للإعادة.
والزيادة الجديدة هنا هي تآمر قوم إبراهيم عليه وإلقاؤهم إياه في النار وإحباط الله كيدهم وتنجيته، وقد جاء ذلك في القرآن مرتين أخريين واحدة في سورة الأنبياء وأخرى في سورة العنكبوت.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين [٦٨- ٦٩] من سورة الأنبياء اللتين ذكر فيهما الخبر الزائد الجديد بيانات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يرووا ذلك عن النبي ﷺ وليس له مصدر والحالة هذه إلّا اليهود كما هو المتبادر.
والعبرة في الزيادة هنا واضحة فيما كان من عناية الله تعالى بإبراهيم الذي أخلص لله وأسلم نفسه له وتنجيته إياه من كيد الكفار ونارهم.
أما الشطر الثاني من القصة فقد ذكر في الإصحاح (٢٢) من سفر التكوين المتداول بأسلوب متوافق إجمالا مع ما جاء في الآيات [١٠٢- ١٠٧] مع ذكر كون الذبيح اسحق عليه السلام. وفي كتب التفسير أحاديث نبوية وروايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله ﷺ وتابعيهم في صدد ذلك منها ما يفيد أن الذبيح اسحق ومنها ما يفيد أنه إسماعيل. وفيها مع ذلك استنباطات اجتهادية للمفسرين وللعلماء منها ما انتهى إلى أنه إسحق ومنها ما انتهى إلى أنه إسماعيل أيضا. وقد شغل هذا الموضوع جزءا كبيرا في هذه الكتب. والذين استنبطوا من القرآن أنه اسحق قالوا إنه ليس في السلسلة إلّا اسم إسحق وفيها بشارة به وهو غلام وبشارة بنبوته. وإنه ليس في القرآن بشارة إلّا بإسحاق. حيث ورد ذلك صراحة في آيات سورة هود [٦٩ و ٧٠] التي سبق تفسيرها وضمنا في آيات في سورة الذاريات فيها قرينة قوية على ذلك ومماثلة لآيات هود: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠). والذين استنبطوا من القرآن أنه إسماعيل قالوا إن الله ذكر البشارة بإسحاق في آيات هذه السورة بعد الفراغ من قصة الرؤيا والذبيح. وأن الله بشر بإسحاق ومن ورائه يعقوب في آيات سورة هود فلا يصح أن يكون أمر بذبحه لأنه بشره بأنه سيكون له نسل، ونحن نرى في هذا وجاهة وسدادا.
ولقد روى البغوي فيما روى أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا يهوديا كان أسلم وحسن إسلامه عن شخص الذبيح فقال إنه إسماعيل ولكن اليهود زعموا أنه إسحق حسدا للعرب لأن إسماعيل الذي كرّمه الله بالنداء هو أبوهم فأرادوا أن يجعلوا الفضل لأنفسهم حيث ينطوي في هذا اتهام لليهود بتحريف الخبر في كتبهم. ومثل هذا التحريف ملموح في سفر التكوين حيث تعمد كاتبوه تفضيل إسحق على إسماعيل مع أن هذا بكر إبراهيم وتفضيل يعقوب على عيسو مع أن عيسو بكر إسحق لأن يعقوب وإسحق هما أصلا بني إسرائيل دون إسماعيل وإخوته الآخرين ودون عيسو مما نبهنا عليه وعلى أمثاله في سياق تعليقنا على التوراة والإنجيل في تفسير سورة الأعراف، وفي القرآن ورد أكثر من مرة أنهم كانوا يحرفون كتاب الله ويقولون عما يكتبون إنه من الله وما هو من الله فليس ذلك التحريف بعيدا عن طباعهم والله تعالى أعلم.
وفي الإصحاح (٢٢) من سفر التكوين إن الفداء كان كبشا وجده إبراهيم قربه، وبعض الروايات التي يرويها المفسرون عن علماء الصدر الأول تذكر أنه كبش أقرن أملح نزل من الجنة. وبعضها يذكر أنه تيس من الأروى هبط إلى إبراهيم من جبل ثبير بين عرفات ومنى. ومما ذكرته هذه الروايات أن إبليس تعرض
وعلى كل حال فالذي نرجحه أن سامعي القرآن كانوا يعرفون القصة. وأن المهم فيها هو ضرب المثل بعباد الله الصالحين الذين منهم إبراهيم عليه السلام حيث أقدم على تنفيذ ما ظنه وحيا من الله مهما كان فيه تضحية بالغة للتدليل على انقياده وإسلامه النفس لله تعالى، وحيث وافق ابنه الصبي على ذلك بطيبة خاطر ورضاء نفس للتدليل كذلك على انقياده وإسلامه النفس لله تعالى، وبذلك استحقا ثناء الله وتنويهه وتكريمه وكانا مظهر رعايته وتجلياته.
ولقد انطوى في جملة وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ تقرير واقع الأمر بالنسبة لذرية إبراهيم وإسحق عليهما السلام حيث كان منهم المحسن الصالح والمنحرف الآثم المهلك نفسه بانحرافه وإثمه. ومن الممكن أن يلمح في هذا ردّ على دعوى بني إسرائيل بأنهم شعب الله المختار. فهم مثل سائر البشر منهم الصالح الذي يستحق تكريم الله ورحمته والآثم المنحرف الذي يستحق عذاب الله وسخطه وغضبه. وفي آية في سورة المائدة ذكر هذا التأويل بصراحة وهي هذه:
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨). مع التنبيه على أن في القرآن آيات كثيرة «١» تفيد أن جميعهم إلّا قليلا صاروا موضع سخط الله وغضبه ولعنته بما كان منهم من نقض لميثاقه وانحراف ديني وخلقي ومواقف مؤذية لرسل الله ثم لخاتم رسله.
تعليق على جملة وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ
ونريد أن ننبه إلى أمر كان من مواضيع الجدل بين المفسرين وعلماء الكلام حيث استند بعضهم على آية وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ في تقرير كون الله عز وجل قد خلق الناس وخلق أعمالهم وأن أعمال الناس غير مكتسبة منهم وإنما هي مقدرة محتمة عليهم، بينما أنكر ذلك فريق آخر «١». وبقطع النظر عن عدم اتساق التقرير المذكور مع تقريرات القرآن الحاسمة الكثيرة التي تؤكد بأساليب مختلفة قابلية الناس على الكسب والاختيار واستحقاقهم الجزاء، وفاق ذلك على ما ذكرناه في مناسبات عديدة سابقة، فإن الآية المذكورة ليست تقريرا قرآنيا مباشرا في صدد خلق الناس وأعمالهم، وإنما هي من جملة ما حكي من أقوال إبراهيم عليه السلام لقومه في صدد محاججتهم والتنديد بهم. فهم يعبدون أصناما ينحتونها بأيديهم فقال لهم إن الله خلقكم وخلق ما تنحتون على سبيل الإفحام والإلزام، وإن إيراد الآية في معرض الاستدلال على خلق الله لأعمال الناس في غير محله. ولقد جاء في سورة العنكبوت آية حكي فيها قول لإبراهيم عليه السلام لقومه أيضا نسب فيه الخلق إليهم وهي هذه: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [١٧] مما فيه تأييد لما نقول.
تعليق على ما وصف بكذبات إبراهيم عليه السلام
ويورد المفسرون في سياق جملة إِنِّي سَقِيمٌ المحكية عن لسان إبراهيم في هذه الآيات وفي سياق جملة: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ في الآية [٦٣] من سورة الأنبياء حديثا رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبي ﷺ لم يكذب إبراهيم عليه السلام قطّ إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله إِنِّي سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبّار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها إنّ هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فاخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإنّي لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلمّا دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار فأتاه فقال له لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلّا لك فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرّك ففعلت فعاد فقبضت يده أشدّ من الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت فعاد فقبضت أشدّ من القبضتين الأوليين فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله ألّا أضرّك ففعلت فأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها فقال له إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر. قال فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف الخادم فقال لها مهيم (ماذا جرى؟) قالت خيرا كفّ الله يد الفاجر وأخذ الجزء الرابع من التفسير الحديث ١٥
ومع ذلك فإن بعض المفسرين أرادوا صرف صفة الكذب الصريح عن إبراهيم عليه السلام فقالوا إن كلامه كان من المعاريض وبعضهم لم ير بأسا في الوصف وقد جاء صريحا في الحديث النبوي. ومعظمهم رأوا في مثل هذه الكذبات وظروفها أسوة يمكن أن يسار عليها ويتأسى بها. ولا سيما إذا كانت في سبيل الله ودرء ضرر فادح. ولا يخلو هذا وذاك من وجاهة وسداد استنادا إلى نص الحديث النبوي فضلا عن المبدأ الحكيم بالإذن بالمحظور عند الاضطرار والخطر على ما شرحناه في سياق آية سورة الأنعام [١٤٥] وهناك حديث نبوي يصح أن يساق في هذا المساق رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم كلثوم بنت عقبة قالت: «سمعت رسول الله وهو يقول ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا. قالت ولم أسمع يرخّص في شيء مما يقول الناس كذب إلّا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل لامرأته وحديث المرأة لزوجها» «٢».
هذا وقصة إبراهيم وسارة والجبار واردة في الإصحاح (١٢) من سفر التكوين بفروق طفيفة غير جوهرية. والقصة كانت مع فرعون مصر. وهذا يؤيد ما قلناه مرارا من أن هذا السفر كان متداولا معروف المحتوى في عصر النبي ﷺ وبيئته.
أما القولان الآخران فلم يذكرا في هذا السفر تبعا لعدم ورود قصص إبراهيم مع قومه فيه على ما نبهنا عليه من قبل.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٤ الى ١٢٢]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
(٢) التاج ج ٥ ص ٤٠.
وهذه حلقة ثالثة فيها إشارة تنويهية إلى موسى وهرون عليهما السلام بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل والسياق.
وعبارتها واضحة، والعبرة فيها ملموحة وهي ضرب المثل والتذكير بما كان من عناية الله ونصره وهدايته لموسى وهرون بسبب أنهما من عباد الله المؤمنين المحسنين.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٣٢]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
. (١) فإنهم لمحضرون: فإنهم لمحشورون إلى الله وعذابه.
(٢) إلياسين: من المفسرين من قال إن الكلمة جمع (الياس) تشمل أتباعه المنسوبين إليه. وهناك من قرأها (آل ياسين) وهناك من خرجها على التعريب لأن إلياس ليست صريحة العروبة، وقد يكون القول الأول هو الأوجه، والله أعلم.
تعليق على قصة إلياس عليه السلام
وهذه حلقة رابعة فيها قصة النبي إلياس مع قومه الذين كانوا يعبدون البعل من دون الله أحسن الخالقين ربهم وربّ آبائهم الأولين. وقد حكت تأنيب إلياس
وإلياس هذا هو النبي إيليا الذي ورد ذكره في السفر الأول من أسفار الملوك حسب الطبعة البروتستانتية، والثالث حسب الطبعة الكاثوليكية، وما ورد في الآيات مقتضبا قد ورد مسهبا في الإصحاحات (١٦ و ١٧ و ١٨ و ١٩) من السفر المذكور حيث ذكر فيها ما كان من استشراء عبادة البعل وكثرة معابده وأنبيائه في زمن آحاب ملك دولة إسرائيل بتأثير زوجته إيزابيل بنت ملك صور وما كان من إنذار إيليا لهما بأمر الله وغضبهما عليه ومحاولتهما اعتقاله والبطش به وتسليط الله عليهما غزوات خارجية وقحطا وجفافا بسبب ذلك في سياق طويل.
والمتبادر أن هذا مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي ﷺ من طريق اليهود فأشير إليه في معرض التذكير والتمثيل والموعظة. وهو الهدف الملموح والجوهري في الحلقة، حيث ذكرت ما كان من إنذار إلياس لقومه وتأنيبه لهم وتكذيبهم له وعقاب الله لهم والتنويه به بسبب إخلاصه وإيمانه وإحسانه.
وفي كتب التفسير «١» نقلا عن محمد بن إسحاق والقرظي وغيرهما من رواة الأخبار ومسلمة اليهود بيانات كثيرة حول قصة إلياس، فيها ما ذكر في إصحاحات السفر المذكور آنفا وما لم يذكر حيث يدل هذا على أن القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلم وعصره.
ولم نر طائلا في اقتباس ما جاء في كتب التفسير أو في إصحاحات السفر المذكور لأن القصد منها، وهو العبرة، قد حصل بما اقتضت حكمة التنزيل ذكره منها.
تعليق على اسم بعل
وبعل هو معبود بلاد الشام جميعها: أي سورية ولبنان وشرق الأردن
وقد دخلت كلمة بعل في عداد اللغة العربية الفصحى قبل الإسلام وصارت بمعنى الزوج ومالك الشيء. وقد وردت عديدة في القرآن بمعنى الزوج ومن ذلك آية سورة هود [٧٢] التي مر تفسيرها.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٨]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
. (١) في الغابرين: في الهالكين من قوم لوط.
تعليق على قصة لوط عليه السلام
وهذه حلقة خامسة فيها إشارة إلى قصة لوط مع قومه إشارة مقتضبة. وقد وردت هذه القصة بتفصيل أكثر في سور سابقة. وفي الحلقة شيء جديد متصل بأهل الحجاز حيث تذكرهم بأنهم يمرون على مساكن قوم لوط التي دمرها الله في الصباح وفي الليل وتندد بهم لأنهم لا يعقلون ولا يعتبرون بما يرون. وهذه المساكن على شواطىء بحر الميت في غور أريحا في فلسطين. وكانت قوافل الحجازيين التجارية تمر بها حينما تأتي من الحجاز إلى مصر أو ترجع من مصر إلى الحجاز. وكانوا يرون آثار التدمير التي ما تزال موجودة إلى اليوم. وكانوا يعرفون قصة قوم لوط وتدمير الله لمساكنهم من طريق اليهود، وبذلك استحكم فيهم
(٢) انظر الجزء الثالث من تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي ص ١٥٧.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٨]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
. (١) أبق: فرّ متمردا.
(٢) المشحون: المملوء.
(٣) ساهم: دخل في المساهمة وهي القرعة.
(٤) المدحضين: الساقطين.
(٥) التقمه: ابتلعه.
(٦) مليم: ملوم أي أتى بما يلام عليه.
(٧) نبذناه: طرحناه وألقيناه.
(٨) العراء: وجه الأرض الخالي من الشجر والظل.
تعليق على قصة يونس عليه السلام
وهذه حلقة سادسة من سلسلة القصص وهي الأخيرة. وقد ذكر فيها قصة يونس مع قومه وقد وردت هذه القصة في سورة القلم ووردت إشارات خاطفة إليها في سورة يونس التي مرت وفي سورة الأنبياء الآتية بعد قليل وجاءت هنا بشيء من الزيادة اقتضتها حكمة التنزيل.
وإذا كان من شيء يزاد هنا فهو تباين بين خبر شجرة اليقطين في الآيات وشجرة الخروعة في السفر. وهناك تباين آخر ففي الآيات أن الله أنبت الشجرة لامتحانه وليس لوقايته بعد خروجه من بطن الحوت. فقد غضب يونس لعدم اتباع الله العذاب الموعود من الله على قومه- وهذا ما يمكن أن يفيده فحوى آية في سورة الأنبياء وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً | [٨٧] فأنبت الله الخروعة وهو ذاهب مغاضب لقومه ليستظل بها فأرسل الله دودة فجففتها، فعاتب ربّه على ذلك فقال له الله أشفقت على شجرة لم تتعب بها أفلا أشفق على مدينة عظيمة فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من أناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم عدا ما فيها من بهائم، والذي نعتقده أن ما جاء في القرآن أيضا كان مما كان واردا في قراطيس ومتداولا بين أوساط اليهود. |
والمناسبة قائمة لإيراد حديث رواه البخاري والتعليق عليه حيث روى عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله ﷺ من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» «١». وقد أوضح الشراح أن القصد هو النهي عن تفضيل نبينا محمد ﷺ على يونس عليه السلام. ولقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «فضّلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» «٢». هذا بالإضافة إلى أن القرآن يذكر بصراحة أن الله فضل بعض النبيين على بعض كما جاء في الآية [٥٥] من سورة الإسراء التي سبق تفسيرها وفي آية [٢٥٣] من سورة البقرة: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وشراح حديث الترمذي يقولون إما أن يكون هذا الحديث قد صدر من النبي ﷺ قبل أن يعلم أنه فضل على النبيين وإما أن يكون من قبيل التواضع وتعليم المسلمين لواجب احترام جميع أنبياء الله، والله أعلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٧]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧)
(٢) التاج ج ١ ص ٢٠٥. [.....]
في الآيات أمر للنبي ﷺ بسؤال المشركين مستفتيا مبكتا عما إذا كان يصح أن يكون لله البنات ولهم البنون، وعما إذا كانوا حاضرين حينما خلق الله الملائكة فرأوا أنه خلقهم إناثا كما يزعمون. وتنبيه إلى ما في زعمهم من اتخاذ الله أولادا من كذب. وتسفيه في صيغة الأسئلة الإنكارية لزعمهم أن الأولاد الذين اتخذهم واصطفاهم بنات وليسوا بنين، وخروجهم في زعمهم وحكمهم عن نطاق المنطق والعقل وتحدّ لهم بإظهار ما عندهم من بينة أو كتاب على صحة زعمهم إن كانوا صادقين فيه.
وفي الآيات التفات خطابي إلى المشركين الذين كانوا موضوع الحديث قبل سلسلة القصص حيث استؤنف فيها موقف المناظرة والجدل الذي حكته آيات السورة الأولى والتحم السياق بين أولها وآخرها. وبذلك تكون الآيات التي جاءت بين الآيات الأولى من السورة وهذه والتي احتوت بيان مصير الكفار والمخلصين وقصص بعض الأنبياء وأقوامهم قد جاءت من قبيل الاستطراد والاستشهاد والتذكير.
وقد تكرر هذا في سور عديدة بحيث يصح أن يقال إنه من أساليب النظم القرآني.
تعليق على انصباب التنديد بالمشركين، على زعم اتخاذ الله بنات دون البنين
وقد يبدو لأول وهلة أن آيات الاستنكار مصبوبة بقوة أكثر على نسبة البنات لله تعالى دون البنين من قبل المشركين، وعلى تقرير كون البنين هم المفضلين على البنات. وهذا ما يبدو في مناسبات أخرى ذكرت فيها عقيدة المشركين بأن الملائكة بنات الله وقد مرّ مثال ذلك في سورة النجم.
وقد علّقنا بما فيه الكفاية على عقيدة الكفار في الملائكة وكونهم بنات الله وعبادتهم لهم ليكونوا شفعاء لديه في سياق تفسير سورة النجم فلا نرى ضرورة للإعادة. غير أننا ننبه إلى أن مضمون الآيات هنا يلهم أن العرب المشركين كانوا يرون أنهم على حقّ في عقيدتهم هذه وكانوا يجادلون عنها بقوة وعناد، فتحدتهم الآيات بقوة مماثلة وشددت عليهم بالتسفيه والسخرية.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٥٨ الى ١٥٩]
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩)
. في الآية الأولى إشارة تبكيتية إلى عقيدة من عقائد المشركين، وهي زعمهم بوجود نسب بين الله والجنة. وردّ تكذيبي عليهم في صورة تقرير كون الجنة يعلمون أن قائلي هذا الزعم محضرون إلى عذاب الله يوم القيامة، واحتوت الآية الثانية تعقيبا تنزيهيا عما يصفه المشركون ويزعمونه.
والمتبادر أن الآيتين غير منفصلتين عن السياق، وقد جاءت تحكي عقيدة أخرى من عقائد المشركين بالإضافة إلى ما ذكرته الآيات السابقة عنهم.
ولقد تعددت الأقوال والروايات في مفهوم ومدى العقيدة التي حكتها الآية الأولى»
فمنها أن كلمة الْجِنَّةِ تعني الملائكة لأنهم مغيبون لا يرون، وأن الآية بسبيل التنديد بعقيدة المشركين بأن الملائكة بنات الله. ومنها أن الجنة قبيل من الملائكة الذي منه إبليس. ومنها أنها تعني عقيدة إشراك الجن مع الله وعبادتهم.
وهي ما ذكرت في آية سورة الأنعام [١٠٠] السابقة ومنها أن الله أصهر إلى الجن فكان الملائكة نتاج ذلك.
ونحن نستعبد أن يكون المقصود أحد القولين الأولين ونرى القولين الأخيرين أوجه بل ونرى أن مضمون الآية يجعل الرجحان للقول الأخير منهما.
وقد ذهب إلى ذلك الزمخشري وأبو السعود وابن كثير في تفسيرهم للآية. ونص الرواية التي أوردها الأخير «قال مجاهد قال المشركون: الملائكة بنات الله، فقال أبو بكر: فمن أمهاتهن؟ قالوا: بنات سروات الجن».
وفي هذه العقيدة العربية إذا صحت الروايات التي قد تلهم الآية صحتها طرافة في مجال الخيال الديني. فالجن ناريون والملائكة نورانيون ومصاهرة الله للجن صفّت من نارهم نورا فكان منه الملائكة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦٠ الى ١٦٣]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)
. (١) فاتنين: مضلين.
(٢) صال الجحيم: الذي أهّلته أعماله ليكون من أهل النار أو يصلى النار.
والآيات متصلة بما سبقها كما هو المتبادر. ولعلها تنطوي على دلالة على ما كان من جهد زعماء المشركين بسبيل المناضلة والمجادلة عن عقائدهم ومحاولتهم إقناع الناس بفضلها وصحتها حيث ينطوي في ذلك صورة من صور السيرة النبوية واعتداد المشركين بأنفسهم وعقائدهم وقد تكرر ذلك على ما نبهنا إليه في بعض المناسبات السابقة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦٤ الى ١٦٦]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)
. وفي الآيات تقرير صادر من عباد مخلصين بأن كلا منهم عارف حده ومقامه وأنهم جميعا صافون لله مسبحون مقدسون له.
تعليق على آية وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ والآيتين التاليتين لها
وقد قال المفسرون «١» إن المحكي كلامهم هم الملائكة، وإن فيها تكذيبا للمشركين الذين عبدوا الملائكة على اعتبار أنهم بنات الله أو قالوا إن بينه وبينهم
ويلفت النظر إلى أن العبارة لا تحتوي ما يدل على أنها حكاية لأقوال المقررين وإنما هي تقرير مباشر منهم. ولا يذكر المفسرون تعليلا وتأويلا فيما اطلعنا عليه.
والآيات مماثلة أسلوبيا لآيات سورة مريم [٦٤- ٦٥] التي سبق تفسيرها وفيها كذلك مماثلة موضوعية لأن آيات مريم تحكي كلاما للملائكة أيضا ولقد علقنا على هذه الصورة الأسلوبية من صور الوحي القرآني بما فيه الكفاية في سياق تفسير آيات سورة مريم فلا نرى ضرورة للزيادة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦٧ الى ١٧٠]
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
. في الآيات حكاية لما كان يقوله الكفار وهو: لو جاءهم ما جاء الأمم السابقة من ذكر الله وكتبه لآمنوا وكانوا عبادا مخلصين لله وحده. وردّ تنديدي عليهم فقد جاءهم ما كانوا يتمنون فكفروا به ونقضوا عهدهم وقولهم. وإنذار لهم على موقفهم، فلسوف يعلمون ويرون عاقبته السيئة.
والآيات غير منقطعة عن السياق، ومعطوفة على ما سبقها ومن نوعه من حيث حكايتها لأقوال الكفار وردها عليهم.
وهذا الذي حكته الآيات عن الكفار قد حكي عنهم أكثر من مرة في القرآن، وحكي عنهم في السورة السابقة لهذه السورة. ويظهر أن ذلك كان رغبة أو أمنية واسعة النطاق كثيرة الترديد فاستحكمتهم الحجة والتنديد استحكاما شديدا لتناقضهم بين القول والفعل.
ولقد علقنا على الموضوع في سياق تفسير الآيات [٤٢- ٤٣] من سورة فاطر
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧١ الى ١٨٢]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
. (١) وأبصرهم فسوف يبصرون: أنظرهم أو أنذرهم فسوف يرون تحقيق ما ينذرون.
في الآيات تقرير رباني بأن الله تعالى قد وعد أنبياءه ورسله بالنصر وبأن جنده وحزبه هم الغالبون في النهاية. وأمر للنبي ﷺ بالإعراض عن الكفار وعدم المبالاة بهم واستمهالهم إلى الأمد المحدود المعين في علم الله فسوف يرون تحقيق وعيده. وتساؤل ينطوي على التبكيت والوعيد عما إذا كان الكفار يستعجلون عذاب الله حقا. وتقرير بأن هذا العذاب حينما يقع عليهم فإن صباح وقوعه يكون عليهم سيئا مشؤوما. وتكرار الأمر للنبي ﷺ بأن يعرض عنهم ويمهلهم إلى الأمد المحدود ويؤكد لهم رؤية ما يوعدون به. وتنزيه لله عما يصفه به الكفار وينسبونه إليه وتحية ربانية لرسل الله وتقرير بحمد الله رب العالمين الجدير وحده بذلك.
والآيات كما هو المتبادر جاءت معقبة على ما انتهت إليه الآيات السابقة من إنذار الكفار وخاتمة لفصول المناظرة وخاتمة للسورة معا. وقوة هذه الخاتمة ملموسة نافذة، شأن كثير من خواتم حكاية مواقف الكفار ومشاهد مناظراتهم مع النبي صلّى الله عليه وسلم. وقد استهدفت فيما استهدفته توكيد الإنذار الرباني وإثارة الخوف في قلوب الكفار وتطمين النبي ﷺ والمؤمنين وتثبيتهم.
وجملة فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ مما تكرر معناها بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها. وهي هنا كما هي في المواضع الأخرى بسبيل التثبيت والتسلية والتبشير والتطمين بنصر الله الذي وعد بالآيات التالية لها. وليست بقصد الإيعاز للنبي ﷺ بالانصراف عن إنذارهم ودعوتهم. لأن هذا من مهمة النبي ﷺ الأساسية التي لا يمكن أن ينقطع عنها وتوالي نزول القرآن بذلك مما يؤيد هذا.