تفسير سورة الشورى

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
سورة الشورى مكية وهى ثلاث وخمسون آية

حم (١) عسق (٢)
فصل ﴿حم﴾ من ﴿عسق﴾ كتابة مخالفا لكهيعص تلفيقا باخواتها ولانه ايتان وكهيعص اية واحدة
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)
﴿كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ﴾ أي مثل ذلك الوحي أو مثل ذلك الكتاب يوحي إليك ﴿وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ﴾ وإلى الرسل من قبلك ﴿الله﴾ يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور وأوحاه إلى من قبلك يعني إلى رسله والمعنى أن الله كرر هذه المعانى في القرآن في جميع الكتب السماوية لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده وعن ابن عباس رضى الله عنهما ليس من بني صاحب كتاب الا اوحى اليه بحكم عسق يُوحَى بفتح الحاء مكي ورافع اسم الله على هذه القراءة ما دل عليه يُوحَى كأن قائلاً قال من الموحي فقيل الله ﴿العزيز﴾ الغالب بقهره
الشورى (٧ - ٤)
﴿الحكيم﴾ المصيب في فعله وقوله
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
﴿لَّهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض﴾ ملكاً وملكاً ﴿وَهُوَ العلى﴾ شأنه ﴿العظيم﴾ برهانه
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥)
﴿تَكَادُ السماوات﴾ وبالياء نافع وعلي ﴿يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾ يتشققن ينفطرن بصري وأبو بكر ومعناه يكدن ينفطرن من علو شان الله وعطمته يدل عليه مجيئه بعد قوله العلى العظيم وقيل من دعائهم له ولداً كقوله تَكَادُ السموات يتفطرن منه ومعنى مِن فَوْقِهِنَّ أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية وكان القياس أن يقال ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها كلمة الكفر لأنها جاءت من الذين تحت السموات ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق كأنه قيل يكدن ينفطرن من الجهة التى فوقهن دع الجهة التى تحتهن وقيل من فوفهن من فوق الأرض فالكناية راجعة إلى الأرض لأنه بمعنى الأرضين وقيل يتشققن لكثرة ما على السموات من الملائكة قال عليه السلام أطت السماء اطا وحق لها ان تئط مافيها موضع قدم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد ﴿والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ خضوعاً لما يرون من عظمته ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرض﴾ أي للمؤمنين منهم كقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ الذين امنوا خوفاً عليهم من سطواته أو يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات حامدين له على ما أولاهم من ألطافه متعجبين مما رأوا من تعرضهم لسخط الله تعالى ويستغفرون لمؤمنى اهل الارض الذين تبرؤا من تلك الكلمة أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب ﴿أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم﴾ لهم
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)
﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أي جعلوا له شركاء وأنداداً ﴿الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ رقيب على أقوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء فيجازيهم عليها ﴿وَمَآ أَنتَ﴾ يا محمد ﴿عَلَيْهِم بوكيل﴾ بموكل عليهم ومفوض إليك أمرهم إنما أنت منذر فحسب
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧)
﴿وكذلك﴾ ومثل ذلك ﴿أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ وذلك إشارة إلى معنى الآية التي قبلها من أن الله رقيب عليهم لا أنت بل أنت منذر لأن هذا المعنى كرره الله في كتابة او هو مفعول به لاوحينا ﴿قرآنا عربيا﴾ حال من المفعول به اي اوحينا إليك وهو قرآن عربي بيّن ﴿لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى﴾ أي مكة لأن الأرض دحيت من تحتها او لانها أشرف البقاع والمراد أهل أم القرى ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ من العرب ﴿وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع﴾ يوم القيامة لأن الخلائق تجتمع فيه ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ اعتراض لا محل له يقال أنذرته كذا وأنذرته بكذا وقد عدي لّتُنذِرَ أُمَّ القرى الى المفعول
الشورى (١١ - ٧)
الأول وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع إلى المفعول الثاني ﴿فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير﴾ أي منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير والضمير للمجموعين لأن المعنى يوم جمع الخلائق
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨)
﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة﴾ أي مؤمنين كلهم ﴿ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ﴾ أي يكرم من يشاء بالإسلام ﴿والظالمون﴾ والكافرون ﴿مَا لَهُمْ مِّن وَلِىٍّ﴾ شافع ﴿وَلاَ نصير﴾ دافع
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)
﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فالله هُوَ الولى﴾ الفاء لجواب شرط مقدر كأنه قيل بعد انكار كل ولى سواء إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق وهو الذي يجب أن يتولى وحده لاولى سواه ﴿وهو يحيي الموتى وَهُوَ على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠)
﴿وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَىْءٍ﴾ حكاية قول رسول الله ﷺ للمؤمنين أي ما خالفتكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين ﴿فَحُكْمُهُ﴾ أي حكم ذلك المختلف فيه مفوض ﴿إِلَى الله﴾ وهو اثبات المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين ﴿ذلكم﴾ الحاكم بينكم
246
﴿الله رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ فيه رد كيد أعداء الدين ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أرجع في كفاية شرهم وقيل وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا الله أعلم كمعرفة الروح وغيره
247
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)
﴿فاطر السماوات والأرض﴾ ارتفاعه على أنه أحد أخبار ذلكم أو خبر مبتدأ محذوف ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ خلق لكم منن جنسكم من الناس ﴿أزواجا وَمِنَ الأنعام أزواجا﴾ أي وخلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾ يكثركم يقال ذرأ الله الخلق بثهم وكثرهم ﴿فِيهِ﴾ في هذا التدبير وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل واختير فِيهِ على به لأنه جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير والضمير في يَذْرَؤُكُمْ يرجع إلى المخاطبين والانعام مغلبا في المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ قيل إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل وتقديره ليس مثله شيء وقيل المثل زيادة وتقديره ليس كهو شىء كقوله تعالى فان امنوا بمثل ما امنتم به وهذا لأن المراد نفي المثلية وإذا لم تجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل وقيل المراد ليس كذاته شيء لأنهم يقولون مثلك لا يبخل يريدون به نفي البخل عن ذاته ويقصدون المبالغة في ذلك بسلوك طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمن بسد مسدد فقد نفوه
الشورى (١٤ - ١١)
عنه فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله ليس كالله شيء وبين قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها وكانهما عبارتان متعقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته ونحوه بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ فمعناه بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط لها لأنها وقعت عبارة عن الجود حتى إنهم استعملوها فيمن لا يدله فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له ﴿وَهُوَ السميع﴾ لجميع
247
المسموعات بلا أذن ﴿البصير﴾ لجميع المرئيات بلا حدقة وكأنه ذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له كما لا مثل له
248
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
﴿لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض﴾ مر في الزمر ﴿يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ﴾ أي يضيق ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)
﴿شَرَعَ﴾ بين وأظهر ﴿لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى﴾ أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد وما بينهما من الأنبياء عليهم السلام ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله ﴿أَنْ أَقِيمُواْ الدين﴾ والمراد إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء وسائر ما يكون المرء باقامته مسلما وبم يرد به الشرائع فإنها مختلفة قال الله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ومحل أَنْ أَقِيمُواْ نصب بدل من مفعول شَرَعَ والمعطوفين عليه أو رفع على الاستئناف كأنه قيل وما ذلك المشروع فقيل هو إقامة الدين ﴿وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ ولا تختلفوا في الدين قال علي رضى الله عنه لا تتفرقوا فالجماعة رحمة والفرقة عذاب ﴿كَبُرَ عَلَى المشركين﴾ عظم عليهم وشق عليهم ﴿مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ من إقامة دين الله والتوحيد ﴿الله يجتبي﴾ يجلب ويجمع ﴿إِلَيْهِ﴾ إلى الدين بالتوفيق والتسديد ﴿مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ يقبل على طاعته
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
﴿وَمَا تَفَرَّقُواْ﴾ أي أهل الكتاب بعد أنبيائهم ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء عليهم السلام ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ حسداً وطلباً للرياسة والاستطالة بغير
248
حق ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ وهي بل الساعة موعدهم ﴿لقضي بينهم﴾ لاهلكوا حين اقترفوا لعظم ما اقترفوا ﴿وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ﴾ هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله ﷺ ﴿لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ﴾ من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان ﴿مُرِيبٍ﴾ مدخل في الريبة وقيل وما تفرق اهل
الشورى (١٧ - ١٥)
الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله ﷺ كقوله تعالى وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب الا من بعد ماجاءتهم البينة وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ هم المشركون أورثوا القرآن من بعد ما اورث اهل الكتاب التوارة والانجيل
249
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)
﴿فَلِذَلِكَ﴾ فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعباً ﴿فادع﴾ إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القوية ﴿واستقم﴾ عليها وعلى الدعوة إليها ﴿كَمَا أُمِرْتَ﴾ كما أمرك الله ﴿ولا تتبع أهواءهم﴾ المختلفة الباطلة ﴿وقل آمنت بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب﴾ بأي كتاب صح أن الله تعالى أنزله يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض كفوله وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ إلى قوله اولئك هم الكافرون حقا ﴿وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ ﴿الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ أي كلنا عبيده ﴿لنا أعمالنا ولكم أعمالكم﴾ هو كفوله لكم دينكم ولى دين ويجوز أن يكون معناه إنا لا نؤاخذ بأعمالكم وأنتم لا تؤاخذون بأعمالنا ﴿لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ أي لا خصومة لأن الحق قد ظهر وصرتم محجوجين به فلا حاجة إلى المحاجة ومعناه لا إيراد حجة بيننا لأن المتحاجين يورد هذا حجته وهذا حجته ﴿الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا﴾ يوم القيامة ﴿وإليه المصير﴾ المرجع لفصل لاقضاء فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (١٦)
﴿والذين يُحَآجُّونَ فِى الله﴾ يخاصمون في دينه ﴿من بعد ما استجيب له﴾ من بعدما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام ليردوهم إلى دين الجاهلية كقوله وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كفارا كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم واولى بالحق وقيل من بعد فاستجيب لمحمد عليه السلام دعاؤه على المشركين يوم بدر ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ﴾ باطلة وسماها حجة وإن كانت شبهة لزعمهم أنها حجة ﴿عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ بكفرهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ في الاخرة
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)
﴿الله الذى أَنزَلَ الكتاب﴾ أي جنس الكتاب ﴿بالحق﴾ بالصدق أو ملتبساً به ﴿والميزان﴾ والعدل والتسوية ومعنى انزال العدل انه انزل في كتبه المنزلة وقيل هو عين الميزان أنزله في زمن نوح عليه السلام ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ﴾ أي لعل الساعة تقريب منك وانت لا تدرى والمراد مجىء
الشورى (٢١ - ١٨)
الساعة والساعة في تاويل لابعث ووجه مناسبة اقتراب الساعة مع إنزال الكتب والميزان أن الساعة يوم الحساب ووضع الموازين بالقسط فكأنه قيل أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ووزن أعمالكم
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (١٨)
﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ استهزاء ﴿والذين آمنوا مُشْفِقُونَ﴾ خائفون ﴿مِنْهَا﴾ وجلون لهولها ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق﴾ الكائن لا محالة ﴿أَلآ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَى الساعة﴾ المماراة الملاحّة لأن كل واجدة منهما يرى ما عند صاحبه ﴿لَفِى ضلال بَعِيدٍ﴾ عن الحق لأن قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله تعالى وقد دل الكتاب والسنة على وقوعها والعقول تشهد على أنه لا بد من دار جزاء
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
﴿الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ في إيصال المنافع وصرف البلاء من وجه يلطف إدراكه وهو بر بليغ البر بهم قد توصل بره إلى جميعهم وقيل هو من لطف بالغوامض علمه وعظم عن الجرائم حلمه أو من ينشر المناقب ويستر المثالب أو يعفو عمن يهفو أو يعطي العبد فوق الكفاية ويكلفه الطاعة دون الطاعة وعن الجنيد لطف بأوليائه فعرفوه ولو لطف بأعدائه ما جحدوه ﴿يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ﴾ أي يوسع رزق من يشاء إذا علم مصلحته فيه في الحديث إن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ﴿وَهُوَ القوى﴾ الباهر القدرة الغالب على كل شيء ﴿العزيز﴾ المنيع الذي لا يغلب
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة﴾ سمى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثاً مجازاً ﴿نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ﴾ بالتوفيق في عمله أو التضعيف في إحسانه أو بأن ينال به الدنيا والآخرة ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا﴾ أي من كان عمله للدنيا ولم يؤمن بالآخرة ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي شيئاً منها لأن من للتبعيض وهو رزقه الذي قسم له لا ما يريد ويبتغيه ﴿وَمَا لَهُ فِى الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ وماله نصيب قط في الآخرة وله في الدنيا نصيب ولم يذكر في عامل الآخرة أن رزقه المقسوم يصل إليه للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢١)
﴿أم لهم شركاء﴾ قيل هي أم المنقطعة وتقديره بل ألهم شركاء وقيل هي المعادلة لألف الاستفهام وفي الكلام إضمار تقديره أيقبلون ما شرع الله من الدين أم لهم آلهة ﴿شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله﴾
251
أي لم يأمر به ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل﴾ أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء أي ولولا العدة بان الفصل يكون يوم
الشورى (٢٣ - ٢١)
اليم القيامة ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ بين الكافرين والمؤمنين أو لعجلت لهم العقوبة ﴿وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وإن المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة وإن أخر عنهم في دار الدنيا
252
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)
﴿تَرَى الظالمين﴾ المشركين في الآخرة ﴿مُشْفِقِينَ﴾ خائفين ﴿مِمَّا كَسَبُواْ﴾ من جزاء كفرهم ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ نازل بهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا ﴿والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات فِى روضات الجنات﴾ كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها ﴿لَهُم ما يشاؤون عند ربهم﴾ عند نصب بالظرف لا بيشاءون ﴿ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير﴾ على العمل القليل
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
﴿ذلك﴾ أي الفضل الكبير ﴿الذى يُبَشِّرُ الله﴾ يَبْشُر مكي وأبو عمرو وحمزة وعلي ﴿عِبَادَهُ الذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي به عباده الذين آمنوا فحذف الجار كفولة واختار موسى قومه ثم حذف الراجع إلى الموصول كقوله أهذا الذى بعث الله رسولا ولما قال المشركون ايبتغى على تبليغ الرسالة أجراً نزل ﴿قُل لاَّ أسألكم عَلَيْهِ﴾ على التبليغ ﴿أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى﴾ يجوز أن يكون استثناء متصلاً أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا وهو أن تودوا أهل قرابتي ويجوز أن يكون منقطعا اى لا اسالكم أجراً قط ولكني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم ولم يقل إلا مودة القربى أو المودة للقربى لأنهم جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها كفولك لي في ال فلان موة ولي فيهم حب شديد تريد أحبهم وهم مكان حبى ومحله وليست في بصلة للمودة كاللام إذا قلت إلا المودة للقربى إنما هى متعلقة بمحذوف تعلق الظرف
252
به في قولك المال في الكيس وتقديره إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها والقربى مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة والمراد في أهل القربى ورُوي أنه لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم قال علي وفاطمة وابناهما وقل معناه إلا أن تودوني لقرابتي فيكم ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي إذ لم يكن من بطون قريش الا رسول الله وبينهم قرابة وقيل القربى التقرب إلى الله تعالى أي إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً﴾ يكتسب طاعة عن السدي أنها المودة في آل رسول الله ﷺ نزلت في ابى بكر رضى الله عنه ومودته فيهم والظاهر العموم في أي حسنة كانت إلا أنها تتناول المودة تناولاً أولياً لذكرها عقيب ذكر المودة في القربى ﴿نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً﴾ أي نضاعفها كقوله مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ له اضعافا كثيرة وقرىء
الشورى (٢٦ - ٢٣)
شكور ﴿حسنا﴾ وهو مصدر كالبشرى والضمير يعود إلى الحسنة أو إلى الجنة ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ﴾ لمن أذنب بطوله ﴿شَكُورٌ﴾ لمن أطاع بفضله وقيل قابل للتوبة حامل عليها وقيل الشكور في صفة الله تعالى عبارة عن الاعتداد بالطاعة وتوفية ثوابها والتفضل عن المثاب
253
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٤)
﴿أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ أم منقطعة ومعنى الهمزة فيه التوبيخ كأنه قيل اينما لكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها ﴿فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ﴾ قا ل مجاهد أي يربط على قلبك بالصبر على أذاهم وعلى قولهم افترى عَلَى الله كَذِبًا لئلا تدخله مشقة في تكذيبهم ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ أي الشرك وهو كلام مبتدأ غير معطوف على يَخْتِمْ لأن محو الباطل غير متعلق بالشرط بل هو وعد مطلق دليله تكرار اسم الله تعالى ورفع وَيُحِقُّ وإنما سقطت الواو في الخط كما سقطت في وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير وسندع الزبانية على أنها مثبتة في مصحف نافع ﴿وَيُحِقُّ الحق﴾ ويظهر الاسلام ويثبته ﴿بكلماته﴾
253
بما أنزل من كتابه على لسان نبيه عليه السلام وقد فعل الله ذلك فمحا باطلهم وأظهر الإسلام ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي عليم بما في صدرك وصدورهم فيجزى الاجر على حسب ذلك
254
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥)
﴿وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾ يقال قبلت منه الشيء إذا أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي ويقال قبلته عنه أي عزلته عنه وأبنته عنه والتوبة أن يرجع عن القبيح والاحلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعود وإن كان لعبد فيه حق لم يكن بد من التقصى على طريقة وقال علي رضى الله عنه هو اسم يقع على ستة معانٍ على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها ف المعصية واذاقة النفس مرارة الطاعة كما اذقتها حلاوة المعصية والبكاء يدل كل ضحك ضحكته وعن السدي هو صدق العزيمة على ترك الذنوب والإنابة بالقلب إلى علام الغيوب وعن غيره هو أن لا يجد حلاوة الذنب في القلب عند ذكره وعن سهل هو الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة وعن الجنيد هو الإعراض عما دون الله ﴿ويعفو عن السيئات﴾ وهو مادون الشرك يعفو لمن يشاء بلا توبة ﴿وَيَعْلَمُ ما تفعلون﴾ بالتاء كون غير أبي بكر أي من التوبة والمعصية ولا وقف عليه للعطف عليه واتصال المعنى
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (٢٦)
﴿ويستجيب الذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ﴾ أي إذا دعوه استجاب دعاءهم واعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم واستجاب وأجاب بمعنى والسين في مثله لتوكيد الفعل كقولك تعظم واستعظم والتقدير ويجيب الله الذين آمنوا وقيل معناه ويستجيب للذين فحذف اللام مَنَّ عَليهم بأن يقبل توبتهم اذا تابوا
الشورى (٣٠ - ٢٦)
﴿شديد﴾
ويعفو عن سيآتهم ويستجيب لهم إذا دعوه ويزيدهم على ما سألوه وعن إبراهيم بن ادهم انه قيل له
254
ما بالنا ندعوه فلا نجاب قال لأنه دعاكم فلم تجيبوه ﴿والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ في الآخرة
255
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧)
﴿وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ﴾ أي لو أغناهم جميعاً ﴿لَبَغَوْاْ فِى الأرض﴾ من البغي وهو الظلم أي لبغي هذا على ذاك وذاك على هذا لأن الغني مبطرة مأشرة وكفى بحال قارون وفرعون عبرة أو من البغي وهو الكبر أي لتكبّروا في الأرض ﴿ولكن يُنَزِّلُ﴾ بالتخفيف مكي وأبو عمرو ﴿بِقَدَرٍ ما يشاء﴾ بتقدير يقال قدره فدرا وقدراً ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ﴾ يعلم أحوالهم فيقدر لهم ما تقتضيه حكمته فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط ولو أغناهم جميعاً لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا وما ترى من البسط على من يبغي ومن البغي بدون البسط فهو قليل ولا شك أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)
﴿وَهُوَ الذى يُنَزِّلُ الغيث﴾ بالتشديد مدني وشامي وعاصم ﴿مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ﴾ وقرىء قِنطواْ ﴿وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب وقيل لعمر رضى الله عنه اشتد القحط وقنط الناس فقال مطروا إذا أراد هذه الآية أو أراد رحمته في كل شيء ﴿وَهُوَ الولى﴾ الذي يتولى عباده بإحسانه ﴿الحميد﴾ المحمود على ذلك يحمده أهل طاعته
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩)
﴿ومن آياته﴾ أي علامات قدرته ﴿خَلْقُ السماوات والأرض﴾ مع عظمها ﴿وَمَا بَثَّ﴾ فرق وَمَا يجوز أن يكون مرفوعا ومجرورا حملا عل المضاف او المضاف اليه ﴿فيهما﴾ من السموات والأرض ﴿مِن دَابَّةٍ﴾ الدواب تكون في الأرض وحدها لكن يجوز ان ينسب الشى الى جميع الذكور وان كان
255
متلبسا ببعضه كما يقال بنو تميم فيهم شاعر مجيدو انما هو في فخذ من أفخاذهم ومنه قوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من الملح ولا يبعد أن يخلق في السموات حيوانات يمشون فيها مشي الأناسي على الأرض أو يكون للملائكة مشي مع الطيران فوصفوا بالدبيب كما وصف به الأناسي ﴿وَهُوَ على جَمْعِهِمْ﴾ يوم القيامة ﴿إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ﴾ إذا تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي قال الله تعالى والليل اذا يغشى
256
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)
﴿وَمَآ أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ﴾ غم وألم ومكروه ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي بجناية كسبتموها عقوبة عليكم بما كسبت بغير الفاء مدتى وشامى على ان ما مبتدأ وبما كَسَبَتْ خبره من غير تضمين معنى الشرط ومن أثبت الفاء فعلى تضمين معنى الشرط وتعلق بهذه الآية من يقول بالتناسخ وقال لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لم تألموا وقلنا الاية
الشورى (٣٧ - ٣٠)
مخصوصة المكلفين بالسباق والسياق وهو ﴿ويعفو عَن كَثِيرٍ﴾ أي من الذنوب فلا يعاقب عليه أو عن كثير من الناس فلا يعالجهم بالعقوبة وقال ابن عطاء من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه وان ما عفا عنه ولاه أكثر كان قليل النظر في إحسان ربه إليه وقال محمد بن حامد العبد ملازم للجنايات في كل أوان وجناياته في طاعته اكثر من جناياته في معاصيه لان جنية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه والله يطهر عبده من جناياته انواع من المصائب ليخفف عنه أثقاله في القيامة ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة وعن علي رضى الله عنه هذه ارحى آية للمؤمنين في القرآن لأن الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانياً وإذا عفا لا يعود
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٣١)
﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض﴾ أي بفائتين ما قضى عليكم من المصائب
256
﴿وَمَا لَكُم مِّن دُونِ الله مِن وَلِىٍّ﴾ متول بالرحمة ﴿وَلاَ نَصِيرٍ﴾ ناصر يدفع عنكم العذاب إذا حل بكم
257
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢)
﴿ومن آياته الجوار﴾ جمع جارية وهي السفينة الجواري في الحالين مكي وسهل ويعقوب وافقهم مدني وأبو عمر وفي الوصل ﴿فِى البحر كالاعلام﴾ كالجبال
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣)
﴿إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح﴾ الرياح مدني ﴿فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ﴾ ثوابت لا تجري ﴿على ظَهْرِهِ﴾ على ظهر البحر ﴿إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ﴾ على بلائه ﴿شَكُورٍ﴾ لنعمائه أي لكل مؤمن مخلص فالإيمان نصفان نصف شكر ونصف صبر أو صبار على طاعته شكور لنعمته
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤)
﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ﴾ يهلكهن فهو عطف على يُسْكِنِ والمعنى إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها ﴿بِمَا كَسَبُواْ﴾ من الذنوب ﴿وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ﴾ منها فلا يجازي عليها وانما العفو في حكم الابباق حيث جزم جزمه لأن المعنى أو إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
﴿وَيَعْلَمَ﴾ بالنصب عطف على تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم ﴿الذين يجادلون في آياتنا﴾ اى في ابطالها ودفعها وَيَعْلَمُ مدني وشامي على الاستئناف ﴿مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ﴾ مهرب من عذابه
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)
﴿فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَىْءٍ فمتاع الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله﴾ من الثواب ﴿خَيْرٌ وأبقى للذين آمنوا وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ما الأولى ضمنت معنى الشرط فجاءت الفا في جوابها بخلاف الثانية نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه حين تصدق بجميع ماله فلامه الناس
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧)
﴿والذين يَجْتَنِبُونَ﴾ عطف على الذين آمَنُواْ وكذا ما بعده ﴿كبائر الإثم﴾ أي الكبائر من هذا الجنس كَبِيرَ الإثم علي وحمزة وعن ابن عباس كبير
الشورى (٤٢ - ٣٧)
﴿يغفرون﴾
الإثم هو الشرك ﴿والفواحش﴾ قيل ما عظم قبحه فهو فاحشة كالزنا ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ﴾ من أمور دنياهم ﴿هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ أي هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب والمجيء بهم وايقاعه مبتدأ واسناد يغفرون اليه لهذه الفائد ومثله هُمْ يَنتَصِرُونَ
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)
﴿والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ﴾ نزلت في الأنصار دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته فاستجابوا له بأن آمنوا به واطاعوه ﴿وأقاموا الصلاة﴾ وأتموا الصلوات الخمس ﴿وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ﴾ أي ذو شورى لا يتفردون برأي حتى يجتمعوا عليه وعن الحسن ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ﴿وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ﴾ يتصدقون
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)
﴿والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى﴾ الظلم ﴿هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ ينتقمون ممن ظلمهم أي يقتصرون في الانتصار على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون وكانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجتريء عليهم الفساق وإنما حمدوا على الانتصار لأن من انتصر وأخذ حقه ولم يجاوز في ذلك حلى الله فلم يسرف في القتل إن كان ولي دم فهو مطيع لله وكل مطيع محمود ثم بين حد الانتصار فقال
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠)
﴿وجزاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ فالأولى سيئة حقيقة والثانية لا وانما سميت سيئة لأنها مجازاة السوء أو لأنها تسوء من تنزل به ولأنه لو لم تكن الأولى لكانت الثانية سيئة لأنها إضرار وإنما صارت حسنة لغيرها او تسمية الثانية سيئة إشارة إلى أن العفو مندوب إليه والمعنى أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء ﴿فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾ عدة مبهمة لا يقاس
258
امرها في العظيم ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ الذين يبدءون بالظلم أو الذين يجاوزون حد الانتصار في الحديث ينادي منادٍ يوم القيامة من كان له أجر على الله فليقم فلا يقوم إلا من عفا
259
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)
﴿ولمن انتصر بعد ظلمه﴾ أخذ حقه بعدما ظلم على إضافة المصدر إلى المفعول ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارة إلى معنى من دون لفظه ﴿مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ﴾ للمعاقب ولا للمعاتب والمعايب
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢)
﴿إنما السبيل على الذين يظلمون الناس﴾ يبتدءونهم بالظلم ﴿ويبغون في الأرض﴾ يتكبرون فيها ويعلمون ويفسدون ﴿بِغَيْرِ الحق أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وفسر السبيل بالتبعة
الشورى (٤٨ - ٤٣)
والحجة
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
﴿ولمن صبر﴾ على الظلم والاذى ﴿وغفر﴾ ولمن ينتصر ﴿إِنَّ ذلك﴾ أي الصبر والغفران منه ﴿لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ أي من الأمور التي ندب إليها أو مما ينبغي أن يوجبه العاقل على نفسه ولا يترخص في تركه وحذف الراجع أي منه لأنه مفهوم كما حذف من قولهم السمن منوان بدرهم وقال أبو سعيد القرشي الصبر على المكاره من علامات الانبياء فمن صبر على مكروه يصيبه ولم يجزع أورثه الله تعالى حال الرضا وهو أجل الأحوال ومن جزع من المصيبات وشكا وكله الله تعالى إلى نفسه ثم لم تنفعه شكواه
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤)
﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ من بعده﴾ فماله من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه ويمنعه من عذابه ﴿وَتَرَى الظالمين﴾ يوم القيامة ﴿لَمَّا رَأَوُاْ العذاب﴾ حين يرون لا عذاب واختير لفظ الماضي للتحقيق ﴿يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ﴾ يسألون ربهم الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا به
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (٤٥)
﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ على النار إذ العذاب يدل عليها ﴿خاشعين﴾ متضائلين متقاصرين مما يلحقهم ﴿مِنَ الذل يَنظُرُونَ﴾ إلى النار ﴿مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ﴾ ضعيف بمسارقة كما ترى المصبور ينظر الى السيف ﴿وقال الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة﴾ يوم متعلق بخسروا وقول المومنين واقع في الدنيا أو يقال أي يقولون يوم القيامة اذ رأوهم على تلك الصفة ﴿أَلآ إِنَّ الظالمين فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ﴾ دائم
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)
﴿وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله﴾ من دون عذابه ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ﴾ إلى النجاة
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧)
﴿استجيبوا لِرَبِّكُمْ﴾ أي أجيبوه إلى ما دعاكم إليه ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ﴾ أي يوم القيامة ﴿لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله﴾ من يتصل بلا مرد اى لا يرده الله بعد ما حكم به او بيأتى أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده ﴿مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ﴾ أي ليس لكم مخلص من العذاب ولا تقدرون ان تنكروا شيئا ما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم والنكير الإنكار
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (٤٨)
﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ﴾ عن الإيمان ﴿فَمَآ أرسلناك عَلَيْهِمْ حفيظا﴾ رقيبا
الشورى (٥١ - ٤٨)
﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ﴾ ما عليك إلا تبليغ الرسالة وقد فعلت ﴿وَإِنَّآ إِذَا أَذَقْنَا الإنسان﴾ المراد الجمع لا الواحد ﴿مِنَّا رَحْمَةً﴾ نعمة وسعة وأمناً وصحة ﴿فَرِحَ بِهَا﴾ بطر لأجلها ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ بلاء كالمرض والفقر ونحوهما وتوحيد فرح
260
باعتبار اللفظ والجمع في ان تُصِبْهُمْ باعتبار المعنى ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بسبب معاصيهم ﴿فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ﴾ ولم يقل فإنه كفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كفار والكفور البليغ الكفران والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها قيل اربد به كفران النعمة وقيل أريد به الكفر بالله تعالى
261
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩)
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور﴾
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ﴾ أي يقرنهم ﴿ذُكْرَاناً وإناثا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً﴾ لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع ذلك أن له تعالى الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد ويهب لعباده من الأولاد ما يشاء فيخص بعضاً بالإناث وبعضاً بالذكور وبعضاً بالصنفين جميعاً ويجعل البعض عقيماً والعقيم التي لا تلد كذلك رجل عقيم الا إذا كان لا يولد له وقدم الإناث أولاً على الذكور لأن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان فكان ذكر الاناث اللاتى من جملة مالا يشاؤه الإنسان أهم والأهم واجب التقديم وليلي الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء ذكر البلاء ولما أخر الذكور وهم أحقاء بالتقديم تدارك تأخيرهم بتعريفهم لأن التعريف تنويه وتشهير ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير وعرّف أن تقديمهن لم يكن لنقدمهن ولكنن لمقتض آخر فقال ذُكْرَاناً وإناثا وقيل نزلت في الانبياء عليهم السلام حيث وهب لوط وشعيب اناثا ولابراهيم ذكورا ولمحمحد ﷺ الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً وجعل يحيى وعيسى عليهما السلام عقيمين ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ﴾ بكل شيء ﴿قَدِيرٌ﴾ قادر على كل شيء
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)
﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ وما صح لأحد من البشر ﴿أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً﴾
261
أي الهاما كما روى نفث فى زوعى أو رؤيا في المنام كقوله عليه السلام رؤيا الأنبياء وحي وهو كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح الولد ﴿أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ أي يسمع كلاماً من الله كما سمع موسى عليه السلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه وليس المراد به حجاب الله تعالى لان الله تعالى لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الحجاب ولكن المراد به ان لاسامع محجوب عن الرؤية في الدنيا ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾ أي يرسل ملكاً ﴿فَيُوحِىَ﴾ أي الملك اليه قيل وحيا كما اوحى الى الرسل
الشورى (٥٣ - ٥١)
الزخرف (٣ - ١)
﴿بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم {
سورة الزخرف

بسم الله الرحمن الرحيم

{حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا﴾

بواسطة الملائكة أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً أي نبياً كما كلم امم الانبياء على السنتهم ووحيا وان يُرْسِلَ مصدران واقعان موقع الحال لأن أَن يرسل في معنى ارسالا ومن وَرَاء حِجَابٍ ظرف واقع موقع الحال كقوله وعلى جنوبهم والتقدير وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً ويجوز أن يكون المعنى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بأن يوحي أو أن يسمع من وراء حجاب أو أن يرسل رسولاً وهو اختيار الخليل أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بالرفع نافع على تقدير أو هو يرسل ﴿بِإِذْنِهِ﴾ إذن الله ﴿مَا يَشَآءُ﴾ من الوحي ﴿إِنَّهُ عَلِىٌّ﴾ قاهر فلا يمانع ﴿حَكِيمٌ﴾ مصيب في أقواله وأفعاله فلا يعارض
262
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)
﴿وكذلك﴾ أي كما أوحينا إلى الرسل قبلك أو كما وصفنا لك ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ إيحاء كذلك ﴿رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ يريد ما أوحى إليه لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيا الجسد بالروح ﴿مَا كُنتَ تَدْرِى﴾ الجملة حال من الكاف في إِلَيْكَ ﴿مَا الكتاب﴾ القرآن ﴿وَلاَ الإيمان﴾ أي شرائعه أو ولا الإيمان بالكتاب لأنه إذا كان لا يعلم بأن الكتاب ينزل عليه لم يكن عالماً بذلك الكتاب وقيل الإيمان يتناول أشياء بعضها الطرق إليه العقل
262
وبعضها الطريق إليه السمع فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي ﴿ولكن جعلناه﴾ أي الكتاب ﴿نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى﴾ لتدعو وقرىء به ﴿إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ الإسلام
263
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
﴿صراط الله﴾ بدل ﴿الذى لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض﴾ ملكاً وملكاً ﴿أَلآ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور﴾ هو وعيد بالجحيم ووعد بالنعيم والله اعلم بالصواب
263
سورة الزخرف تسع وثمانون اية مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

264
Icon