بسم " الله : اسم عزيز من وثق بجوده وكرمه لم يعلق بغير صواعد هممه، ولم يقف على سدة مخلوق بقدمه في ابتغاء كرمه. اسم عزيز من عوده خفايا لطفه لم يتذل في طلب شيء من غيره، ولم يرجع إلى غيره في شره وخيره.
ﰡ
الحاءُ تدل على حياته والميمُ على مجده. .
﴿ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا ﴾ : أي أنه مكتوب في اللَّوح المحفوظ.
﴿ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ لِعَلِيٌّ القَدْرِ، حكيمُ الوصفِ ؛ لا تبديلَ له ولا تحويل.
أي أننا لا نفعل ذلك ؛ ( فيكون معنى الاستفهام ) أفنقطع عنكم خطابَنا وتعريفَنا إنْ أسرفتم في خلافكم ؟ لا. . إننا لا نرفع التكليفَ بِأَنْ خالَفْتُم، ولا نهجركم - بِقَطْع الكلام عنكم- إنْ أسرفتم.
وفي هذا إشارةٌ لطيفةٌ وهو أنه لا يقطع الكلامَ - اليومَ - عَمَّنْ تمَادَى في عصيانه، وأسرف في أكثر شأنه. فأحرى أَنَّ مَنْ لم يُقَصِّرْ في إيمانه - وإنْ تَلَطَّخَ بعصيانه، ولم يَدْخُلْ خَلَلٌ في عِرفانه - ألا يَمْنَعَ عنه لطائفَ غفرانه.
ما أتاهم من رسولٍِ فقابلوه بالتصديق، بل كذَّبَ به الأكثرون وجحدوا، وعلى غَيِّهم أَصَرُّوا. . .
أي لم يُعجِزْنا أحدٌ منهم، ولم نعادِرْ منهم أحداً، وانتقمنا مِنَ الذين أساؤوا.
كانوا يُقِرُّون بأنَّ اللَّهَ خالقُهم، وأنَّه خَلَقَ السماواتِ والأرضَ، وإنما جحدوا حديثَ الأنبياءِ، وحديثَ البعثِ وجوازه.
كما جَعَلَ الأرضَ قراراً لأشباحهم جَعَلَ الأشباحَ قراراً لأرواحهم ؛ فالخَلْقُ سُكَّانُ الأرضِ، فإذا انتهت المدةُ - مدةُ كَوْنِ النفوسِ على الأرضِ - حَكَمَ اللَّهُ بخرابها. . . كذلك إذا فارقت الأرواحُ الأشباحَ بالكُليَّة قضى اللَّهُ بخرابها.
يعني كما يُحْيي الأرضَ بالمطرَ يُحْيي القلوبَ بحُسن النَّظَر.
أي الأصنافَ من الخَلْق.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ﴾.
كذلك جَنَّسَ عليكم الأحوالَ كلها ؛ فمِنْ رغبةٍ في الخيرات إلى رهبةٍ مما توعدَّكم به من العقوبات. ومن خوفٍ يحملكم على تَرْكِ الزلاَّت إلى رجاءٍ يبعثكم على فعل الطاعات طمعاً في المثوبات. . . وغير ذلك من فنون الصِّفات.
يعني الفُلْكَ والأنعام. .
﴿ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾.
مطيعين، وكم سَخَّرَ لهم الفُلْكَ في البحر، والدوابَّ للركوب، وأعَظم عليهم المنة بذلك فكذلك سَهَّلَ للمؤمنين مركب التوفيق فَحَمَلهم عليه إلى بساط الطاعة، وسهَّلَ للمريدين مركبَ الإرادة فَحَمَلهم عليه إلى عرَصَات الجود، وسَهَّل للعارفين مركبَ الهِمَمِ فأناخوا بعِقْوةِ العِزَّةِ. وعند ذلك مَحَطُّ الكافة ؛ إذ لم تخرق سرادفاتِ العزَّةِ هِمَّةُ مخلوقِ : سواء كان مَلَكاً مُقَرَّباً أو نبيّاً مُرْسَلاً أو وليًّا مُكَرَّماً، فعند سطواتِ العِزَّةِ يتلاشى كلُّ مخلوقٍ، ويقف وراءَها كلُّ مُحْدَثٍ مسبوق.
يعني الفُلْكَ والأنعام..
﴿ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾.
مطيعين، وكم سَخَّرَ لهم الفُلْكَ في البحر، والدوابَّ للركوب، وأعَظم عليهم المنة بذلك فكذلك سَهَّلَ للمؤمنين مركب التوفيق فَحَمَلهم عليه إلى بساط الطاعة، وسهَّلَ للمريدين مركبَ الإرادة فَحَمَلهم عليه إلى عرَصَات الجود، وسَهَّل للعارفين مركبَ الهِمَمِ فأناخوا بعِقْوةِ العِزَّةِ. وعند ذلك مَحَطُّ الكافة ؛ إذ لم تخرق سرادفاتِ العزَّةِ هِمَّةُ مخلوقِ : سواء كان مَلَكاً مُقَرَّباً أو نبيّاً مُرْسَلاً أو وليًّا مُكَرَّماً، فعند سطواتِ العِزَّةِ يتلاشى كلُّ مخلوقٍ، ويقف وراءَها كلُّ مُحْدَثٍ مسبوق.
هم الذين قالوا : الملائكةُ بناتُ الله ؛ فجعلوا البناتِ لله جزءاً على التخصيص من جملة مخلوقاته. . تَعَسَاً لهم في قولهم ذلك وخِزْياً ! ! فردَّ عليهم ذلك قائلاً :﴿ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ﴾.
كلُّ ذلك كان منهم خطأ محظوراً.
إنما قالوا ذلك استهزاءً واستبعاداً لا إيماناً وإخلاصاً فقال تعالى :﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ ولو عَلِمُوا ذلك وقالوه على وجه التصديق لم يكن ذلك منهم معلولاً.
ثم قال :﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ﴾.
﴿ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهتَدُونَ ﴾.
﴿ وَكّذَلِك مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمُّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾.
فلم ينجعْ فيهم قولُه، ولم ينفعهم وَعْظُه، وأَصرُّوا عَلَى تكذيبِهم، فانتقمَ الحقُّ- سبحانه - منهم كما فعل بالذين من قبلهم.
أخبر أَنَّ إبراهيمَ لمَّا دعا أباه وقومَه إلى الله وتوحيده أَبَوْا إِلاَّ تكذيبَه، فتبرّأَ منهم بأجمعِهم، وجعلَ اللَّهُ كلمةَ التوحيدِ باقيةً في عَقِبِه وقومه.
إمّا أبي مسعود الثقفي أو أبي جهل، وهذا أيضاً من فرْط جهلهم.
﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم. . . ﴾ فلم نجعل القسمة في الحياة الدنيا لهم. . فكيف نجعل قسمة النبوة إلى هؤلاء ؟ !.
والإشارة من هذا : أن الحقَّ - سبحانه- لم يجعل قسمةَ السعادةِ والشقاوةِ إلى أحد، وإنما المردودُ مَنْ ردّه بحكمه وقضائه وقَدَرِه، والمقبولُ - من جملة عباده - مَنْ أراده وقَبِلَه- لا لِعلَّةٍ أَو سبب، وليس الردُّ أو القبولُ لأمرِ مُكتَسب. . .
ثمَّ إنه قَسَمَ لِبعْضِ عِباده النعمةَ والغنى، وللبعض القلّةَ والفقر، وجعل لكلِّ واحدٍ منهم سكناً يسكنون إليه يستقلون به ؛ فللأغنياء وجودُ الإنعام وجزيل الأقسام. . فشكروا واستبشروا، وللفقراء شهودُ المُنْعم والقَسَّام. . فَحَمدوا وافتخروا. الأغنياءُ وجدوا النعمة فاستغنوا وانشغلوا، والفقراء سمعوا قوله :" نحن " فاشتغلوا.
وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار :" أما ترضون أن يرجع الناس بالغنى ؛ وأنتم ترجعون بالنبي إلى أَهليكم ؟ ".
﴿ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً. . . ﴾ : لو كانت المقاديرُ متساويةً لَتَعَطَّلت المعايشُ، ولَبَقِيَ كلٌّ عندَ حاله ؛ فجعل بعضَهُم مخصوصين بالرّفَه والمال، وآخرين مخصوصين بالفقر ورقة الحال. . حتى احتاج الفقير في جبر حاجته إلى أن يعمل للغني كي يرتفق من جهته بأجرته فيَصْلُحُ بذلك أمرُ الغنيِّ والفقير جميعاً.
معنى الآية أنه ليس للدنيا عندنا خطر ؛ فالذي يبقى عنَّا لو صَبَبْنَا عليه الدنيا بحذافيرها لم يكن ذلك جبراناً لمصيبته. ولولا فتنة قلوب المؤمنين لجعلنا لبيوتهم سُقُفاً من فضة ومعارجَ من فضة، وكذلك ما يكون شبيهاً بهذا.
ولو فعلنا. . لم يكن لِمَا أعطيناه خَطَرٌ ؛ لأنَّ الدنيا بأَسْرِها ليس لها عندنا خطر.
مَنْ لم يعرف قَدْرَ الخلوة مع اللَّهِ فحاد عن ذكره، وأَخلدَ إلى الخواطر الردَّية فيَّضَ اللَّهُ له مَنْ يَشْغَلُه عن الله - وهذا جَزاءُ مَنْ تَرَك الأدبَ في الخلوة. وإذا اشتغل العبدُ في خلوته بربِّه. . فلو تعرَّض له مَنْ يشغله عن الله – وهذا جزاء من ترك الأدب في الخلوة. وإذا اشتغل العبد في خلوته بربه. فلو تعرض له من يشغله عن ربه صَرَفه الحق عنه بأَي وجْهٍ كان، وصَرَفَ دواعيه عن مفاتحته بمَا يشغله عن الله.
ويقال : أصعبُ الشياطين نَفْسُكَ ؛ والعبدُ إذا لم يَعْرِفْ خَطَرَ فراغ قلبه، واتَّبَعَ شهوته، وفتح ذلك البابَ علَى نَفْسه بقي في يد هواه أسيراً لا يكاد يتخَلّصُ عنه إلا بعد مُدَّة.
الذي سوّلت له نَفْسُه أمراً يَتَوَهَّمُ أنه على صواب، ثم يحمل صاحبَه على موافقته في باطله، ويدّعي أَنه على حقِّ. وهو بهذا يَضُر بِنَفْسِه ويضر بغيره.
﴿ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾.
هذا الاستفهام فيه معنى النفي ؛ أي أنه ليس يمكنُكَ هدايةَ مَنْ سَدَدْنا بصيرته، ولبَّسْنا عليه رُشْدَه، ومَنْ صَببْنا في مسامع فَهمه رصاصَ الشقاء والحرمان. . . فكيف يمكنك إسْمَاعه ؟ !
يعني : إنْ انقضى أَجَلُكَ ولم يتفق لكَ شهودُ ما نتوّعَدُهم به فلا تتوَهَّمْ أَنَّ صِدْقَ كلامنا يشوبه مَيْنٌ، فإنّ ما أَخبرناك عنه - لا محالة - سيكون.
أَثبتَهُ عَلَى حدِّ الخوفِ والرجاء، ووقَفَهُ عَلَى وصفِ التجويز لاستبداده -سبحانه بعلم الغيب. والمقصود كذلك أن يكونَ كلُّ أحد بالنسبة لأمر الله من جملة نظارة التقدير- فاللَّهُ يفعل ما يريد.
اجتهِدْ من غير تقصير وتوكَّلْ على اللَّهِ من غير فُتور، وِقفْ حيثما أُمِرْتَ، وثِقْ بأنك على صِراطٍ مستقيم.
أي إنَّ هذا القرآن لَذِكْرٌ لك ؛ أي شرفٌ لك، وحُسْنُ صيتٍ، واستحقاقُ منزلةٍ.
حَشَرَ أرواحَ الأنبياءِ - عليهم السلام - ليلةَ الإسراء، وقيل له - صلى الله عليه وسلم :" سَلْهم : هل أَمَرْنا أحداً بعبادة غيرنا ؟ فلم يَشُكّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسأل ".
ويقال : الخطابُ له، والمرادُ به غيره. . فَمَنْ يرتاب في ذلك ؟ ويقال : المراد منه سَلْ أقوامهم، لكي إذا قالوا إن الله لم يأمر بذلك كان هذا أبلغ في إبرام الحجة عليهم.
كرَّر قصةَ موسَى غيرَ مرةٍ في القرآن، وأعادَها هنا مجملةً ؛ أرسلناه بدلائلنا، أرسلناه بحجةٍ ظاهرةٍ قاهرةٍ، أرسلناه بالمعجزات إلى فرعون وقومه من القبط، فقوبل بالهزء والضحك والتكذيب. ومع أنَّ اللَّهَ سبحانه لم يُجْرِ عليه من البيِّنات شيئاً إلا كان أوضحَ مما قبله إلا أنهم لم يقابلوه إلا بجفاءٍ أَوْحَشَ مما قبله. فلمَّا عضَّهم الأمرُ قالوا : يا أيها الساحرُ، أدْعُ لنا ربَّك ليكشف عنَّا البليَّةَ لنؤمِنَ بك، فدعا موسى. . . فكشف اللَّهُ عنهم، فعادوا إلى كفرهم، ونقضوا عَهْدَهُم.
كرَّر قصةَ موسَى غيرَ مرةٍ في القرآن، وأعادَها هنا مجملةً ؛ أرسلناه بدلائلنا، أرسلناه بحجةٍ ظاهرةٍ قاهرةٍ، أرسلناه بالمعجزات إلى فرعون وقومه من القبط، فقوبل بالهزء والضحك والتكذيب. ومع أنَّ اللَّهَ سبحانه لم يُجْرِ عليه من البيِّنات شيئاً إلا كان أوضحَ مما قبله إلا أنهم لم يقابلوه إلا بجفاءٍ أَوْحَشَ مما قبله. فلمَّا عضَّهم الأمرُ قالوا : يا أيها الساحرُ، أدْعُ لنا ربَّك ليكشف عنَّا البليَّةَ لنؤمِنَ بك، فدعا موسى... فكشف اللَّهُ عنهم، فعادوا إلى كفرهم، ونقضوا عَهْدَهُم.
تعزَّزَ بمُلْكَ مصر، وجَرى النيل بأمره ! وكان في ذلك هلاكه ؛ ليُعْلَمَ أَنَّ مَنْ تعزَّزَ بشيء من دون الله فحتفُه وهلاكُه في ذلك الشيء.
استصغر موسى وحديثَه، وعابَه بالفقر. . فَسَلَّطه اللَّهُ عليه، وكان هلاكه بيديه، فما استصغر أحدُ أحداً إلا سَلَّطه اللَّهُ عليه.
أطاعوه طاعةَ الرهبة، وطاعة، الرهبةِ لا تكون مخلصةً، وإنما تكون الطاعةُ صادقةً إذا صَدَرت عن الرغبة.
﴿ آسَفُونَا ﴾ أغضبونا، وإنما أراد أغضبوا أولياءَنا، فانتقمنا منهم. وهذا له أصل في باب الجَمْع ؛ حيث أضاف إيسافَهم لأوليائه إلى نَفْسِه. . . وفي الخبر : أنه يقول :" مَرِضْتُ فلم تَعُدْني ".
وقال في قصة إبراهيم عليه :﴿ يَأْتُوكَ رِجَالاً. . . ﴾ [ الحج : ٢٧ ].
وقال في قصة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم :﴿ مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [ النساء : ٨٠ ].
وقيل هو قوله :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] فقالوا : رضينا بأن نكون في النار مع عيسى وعُزَيْر والملائكة، وليس لهم في الآية موضع ذِكرْ ؛ لأنه سبحانه قال :" وما " تعبدون، ولم يقل " ومن " تعبدون.
﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِِلاَّ جَدَلاَ ﴾ : وذلك أنهم قالوا : إن قال آلهتكم خيرٌ فقد أقرَّ بِأنها معبودة، وإن قال : عيسى خيرٌ من آلهتكم فقد أقرَّ بأن عيسى يصلح لأن يُعْبد، وإن قال : ليس واحدٌ منهم خيراً فقد نفى ذلك عن عيسى عليه. وهم راموا بهذا الكلام أن يجادلوه، ولم يكن سؤالهم للاستفادة فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم عليهم :" أن عيسى عليه السلام خيرٌ من آلهتكم ولكنه لا يستحق أن يُعْبَد ؛ إذ ليس كلٌّ ما هو خيرٌ من الأصنام بمستحق أن يكون معبوداً من دون الله وهكذا بيَّن الله - سبحانه - لنبيِّه أنهم قوم جَدِلون، وأنَّ حُجَتَهم داحضةٌ عند ربهم.
ولو شِئْنا لأنزلنا ملائكةً من السماء حتى يكونوا سُكَّانَ الأرض بَدَلَكم.
ثم قال :﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾.
ولا يصدنكم الشيطانُ عن الإيمان بالساعة، وعن أتِّباع الإيمانِ بهُداي.
ذكرَ مجيءَ عيسى عَلْيه السلام أول مرة ؛ حيث أتى قومَه بالشرائع الواضحة، ودعاهم إلى دين الله، ولكنهم تحزَّبوا عليه، وإن الذين كفروا به لمستحقون للعقوبة.
ما كان لغير ِ اللَّهِ فمآلُه إلا الضياع. والأخلاءُ الذين اصطحبوا عَلَى مقتضى الهوى بعضهم لبعض عدو ؛ يتبرَّأ بعضُهم من بعضَ، فلا ينفع أحدٌ أحداً.
وأمَّا الأخلاءُ في الله فيشفع بعضهم في بعض، ويتكلم بعضهم في شأن بعض، أولئك هم المتقون الذين استثناهم الله بقوله :﴿ إِلاَّ الْمُتَقِينَ ﴾.
وشرط الخلَّة في الله ؛ ألا يستعمل بعضُهم بعضاً في الأمور الدنيوية، ولا يرتفق بعضهم ببعضٍ ؛ حتى تكونَ الصحبةُ خالصةً لله لا لنصيبٍ في الدنيا، ويكون قبولُ بعضهم بعض لأَجْلِ الله، ولا تجري بينهم مُداهَنَةٌ، وبقَدْرِ ما يرى أحدُهم في صاحبه من قبولٍ لطريقِ اللَّهِ يقبله ؛ فإنْ عَلِمَ منه شيئاً لا يرضاه اللَّهُ لا يَرْضَى ذلك من صاحبه، فإذا عاد إلى تركه عاد هذا إلى مودته، وإلا فلا ينبغي أن يُساعدَه عَلَى معصيته، كما ينبغي أن يتقيه بقلبه، وأَلا يسكنَ إليه لغرضٍ دنيوي أو لطمعٍ أو لِعِوَض.
يقال لهم غداً :﴿ يا عبادي لا خوفٌ عليكم اليوم ﴾ مما يلقاه أهل الجمع من الأهوال، ولا أنتم تحزنون فيما قَصَّرْتُم من الأعمال. . .
أمَّا الذنوب. . فقد غفرناها، وأمَّا الأهوال. . فكفيناها، وأمَّا المظالم. . فقضيناها. فإذا قال المنادي : هذا الخطاب يُطْمِعُ الكلَّ قالوا : نحن عباده، فإذا قال :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾.
في رياض الجنة، وترْتَعون.
ويقال :﴿ تُحْبَرُونَ ﴾ من لذة السماع.
العُبَّاد لهم فيها ما تشتهي أنفُسهم لأنهم قاسوا في الدنيا - بحُكم المجاهدات - الجوعَ والعطشَ، وتحمَّلوا وجُوهَ المشاقِّ فيُجازون في الجنةَ بوجوهٍ من الثواب.
وأمَّا أهل المعرفة والمحبّون فلهم ما يلذ أعينهم من النظر إلى الله لطول ما قاسوه من فَرْطِ الاشتياق بقلوبهم ؛ وما عالجوه من الاحتراق لشدة غليلهم.
أي يقال لهم - والخطاب للمطيعين غداً - : أنتم يا أصحاب الإخلاص في أعمالكم ؛ والصدق في أحوالكم :
﴿ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأُْكُلُونَ ﴾.
هؤلاء هم الكفار المشركون، فهم أهل الخلود، لا يُفْتَّرُ عنهم العذاب ولا يُخَفَّف.
وأمَّا أهل التوحيد : فقد يكون منهم قومٌ في النار. ولكن لا يخلدون فيها. ودليلُ الخطابِ يقتضي أنه يُفَتَّرُ عنهم العذاب. ورد في الخبر الصحيح : أنه لا يُميتهم الحقُّ - سبحانه - إماتةً إلى أن يُخْرِجَهم من النار - والميت لا يحسُّ ولا يتألم.
ولقد قال الشيوخ : إنَّ حالَ المؤمن في النار - من وجهٍ - أرْوَحُ لقلبه من حاله في الدنيا ؛ فاليومَ - خوفُ الهلاك، وغداً - يقينُ النجاة، وأنشدوا :
عيبُ السلامةِ أنَّ صاحبَها | متوقِّعٌ لقواصم الظَّهْرِ |
وفضيلةُ البلوى تَرَقُّبُ أهلِها | - عقبَ الرجاء - مودةَ الدهر |
هذا الخطاب يُشْبِهُ كلمة العُذْر - وإن جلّ قَدْرُه - سبحانه - عن ذلك.
لو قالوا :" يا مَلِك " لعلَّ أقوالهم كانت أقربَ إلى الإجابة، ولكنَّ الأجنبيةَ حالت بينهم وبين ذلك، فكان الجوابُ عليهم :
﴿ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ﴾ فيها. . . نُصِحْتم فلم تنتصحوا، ولم تقبلوا القولَ في حينه، وكان أكثرهم للحق كارهين.
لو قالوا :" يا مَلِك " لعلَّ أقوالهم كانت أقربَ إلى الإجابة، ولكنَّ الأجنبيةَ حالت بينهم وبين ذلك، فكان الجوابُ عليهم :
﴿ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ﴾ فيها... نُصِحْتم فلم تنتصحوا، ولم تقبلوا القولَ في حينه، وكان أكثرهم للحق كارهين.
بل أمورُهم مُنْتَقَضةٌ عليهم ؛ فلا يتمشّى لهم شيء مما دبَّروه، ولا يرتفع لهم أمرٌ على نحو ما قدَّروه - وهذه الحالُ أوضحُ دليل على إثبات الصانع.
إنما خوَّفهم بسماع المَلَك، وبكتابتهم أعمالهم عليهم بغفلتهم عن الله- سبحانه، ولو كان لهم خبرٌ عن الله لما خَوَّفهم بغير الله، ومَنْ عَلِمَ أنَّ أعمالَه تُكتَبُ عليه، وأنه يُطالَبُ بمقتضى ذلك - قَلَّ إلمامُه بما يخاف أن يُسألَ عنه. .
أي إن كان في ضميركم وفي حُكْمِكم وفي اعتقادكم أنَّ للرحمان ولداً فأنا أوَّلُ مَنْ يستنكِفُ من هذه القالة.
تنزَّه الله تنزيهاً، وتقدَّس تقديساً عمَّا قالوه. وفي هذه الآيات وأمثالِهَا دليلٌ على جوازِ حكاية قول المبتدعة - فيما أخطأوا فيه من وصف المعبود - قصداً للردِّ عليهم، وإخباراً بتقبيح أقوالهم، وبطلانِ مزاعمهم.
إذ ليس يفوت أمرُهم، وهم لا محالة سيلقون صغرهم.
وفي هذا دليلٌ على أنه لا ينبغي للعبد أن يَغْتَرَّ بطول السلامة فإنَّ العواقبَ غيرُ مأمونة.
المعبودُ - في السماء - الله، والمقصودُ - في طلب الحوائج في الأرض - الله.
أهلُ السماءِ لا يعبدون غير الله، وأهل الأرض لا يَقْضِي حوائجهم غير الله.
﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ ﴾ في إمهاله للعصاة، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بأحوالِ العِباد.
السماواتُ والأرضُ بقدرته تظهر. . . لا هو بظهورها يتعزَّز.
أي شهد -اليوم- بالتوحيد، فيثبت له الحقُّ حقِّ الشفاعة. وفي الآية دليل على أن جميع المسلمين شفاعتهم تكون غداً مقبولة.
فكيف لا يعتبرون ؟ وكيف يتكبَّرون عن طاعة الله.