تفسير سورة النجم

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة النجم من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ النَّجْم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١)
أقسم اللَّه - عزَّ وجَلَّ - بالنَّجم.
وقوله: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢)
جَوَاب القسم.
وجاء في التفير أن النجم الثريَّا، وكذلك يسميها العَرَبُ، وجاء أيضاً
في التفسير أن النجم نزول القرآن نَجماً بعد نجم، وكان ينزل منه الآية
والآيتان، وكان بين أول نزوله إلى استتمامه عشرون سنةً.
وقال بعض أهل اللغة: النجم بمعنى النجوم وأنشدوا.
فباتت تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَحيرةٍ... سَريعٍ بأَيدي الآكِلينَ جُمودُها
يصف قِدراً كثيرة الدسم، ومعنى تعد النجم أي من صفاء دسمها ترى
النجوم فيه، والمستحيرة القدر، فقال يجمد على الأيدي الدَّسَمَ مِنْ كَثْرتِه
وقالوا مثله: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ).
ومعنى: (إذَا هَوَى)، إذا سقط، وإذا كان معناه نزول القرآن فالمعنى
في " إذَا هَوَى "، إذَا نزل (١).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿إِذَا هوى﴾: في العاملِ في هذا الظرفِ أوجهٌ، وعلى كلٍ فيها إشكال. أحدُ الأوجهِ: أنه منصوبٌ بفعل القسمِ المحذوفِ تقديرُه: أُقْسِمُ بالنجم وقتَ هُوِيِّه، قاله أبو البقاء وغيرُه. وهو مُشْكِلٌ فإن فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ، والإِنشاءُ حالٌ، و «إذا» لِما يُسْتقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ الثاني: أنَّ العاملَ فيه مقدرٌ على أنَّه حالٌ من النجم أي: أُقْسِم به حالَ كونِه مستقراً في زمانِ هُوِيِّه. وهو مُشْكِلٌ مِنْ وجهين، أحدهما: أن النجم جثةٌ، والزمانُ لا يكونُ حالاً عنها كما لا يكونُ خبراً عنها. والثاني: أنَّ «إذا» للمستقبلِ فكيف يكونُ حالاً؟ وقد أُجيب عن الأول: بأنَّ المرادَ بالنجم القطعةُ من القرآن، والقرآنُ قد نَزَلَ مُنَجَّماً في عشرين سنةً. وهذا تفسيرُ ابن عباس وغيرِه. وعن الثاني: بأنها حالٌ مقدرةٌ. الثالث: أنَّ العاملَ فيه نفسُ النجم إذا أُريد به القرآنُ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القرآنَ لا يَعْمل في الظرف إذا أُريد به أنه اسمٌ لهذا الكتابِ المخصوص. وقد يُقال: إن النجمَ بمعنى المُنَجَّم كأنه قيل: والقرآنِ المنجَّمِ في هذا الوقتِ. وهذا البحثُ وارِدٌ في مواضعَ منها ﴿والشمس وَضُحَاهَا﴾ [الشمس: ١] وما بعدَه، وقولُه: ﴿والليل إِذَا يغشى﴾ [الليل: ١]، ﴿والضحى والليل إِذَا سجى﴾ [الضحى: ١]. وسيأتي في الشمس بحثٌ أخصُّ مِنْ هذا تقف عليه إنْ شاء الله تعالى. وقيل: المراد بالنجم هنا الجنسُ وأُنْشد:
٤١٢١ فباتَتْ تَعُدُّ النجمَ في مُسْتَحيرةٍ... سريعٍ بأيدي الآكلين جمودُها
أي: تَعُدُّ النجومَ، وقيل: بل المرادُ نجمٌ معين. فقيل: الثُّريَّا. وقيل: الشِّعْرَى لذِكْرِها في قوله: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى﴾ [النجم: ٤٩]. وقيل: الزُّهْرة لأنها كانت تُعْبَدُ. والصحيح أنها الثريَّا، لأنَّ هذا صار عَلَماً بالغَلَبة. ومنه قولُ العرب: «إذا طَلَعَ النجمُ عِشاءً ابتغى الراعي كِساءً». وقالوا أيضاً: «طَلَعَ النجمُ غُدْيَة فابتغى الراعي كُسْيَة». وهَوَى يَهْوي هُوِيّاً أي: سقط من علو، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً أي: صَبَا. وقال الراغب: «الهُوِيُّ سقوطٌ مِنْ عُلُوّ». ثم قال: والهُوِيُّ: ذهابٌ في انحدارٍ. والهوى: ذهابٌ في ارتفاع وأَنْشد: /
٤١٢٢.............................. يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجدَلِ
وقيل: هَوَى في اللغة خَرَقَ الهوى، ومَقْصَدُه السُّفْلُ، أو مصيرُه إليه وإن لم يَقْصِدْه. قال:
٤١٢٣............................. هُوِيَّ الدَّلْوِ أسْلَمَها الرِّشاءُ
وقد تقدَّم الكلامُ في هذا مُشْبَعاً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢)
يعني النبي - ﷺ -.
* * *
وقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣)
أي ما الذي يأتيكم به مِما قَاله بهَواه.
* * *
(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)
" إن " بمعنى " ما "، المعنى: ما هو إلا وحي.
* * *
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥)
يعني به جبريل عليه السلام.
* * *
وقوله: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦)
(ذُو مِرَّةٍ) من نعت قوله (شَدِيدُ الْقُوَى)، والمرة القوة.
(عَلَّمَهُ) علم النبي - ﷺ -.
* * *
وقوله: (فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (٧)
قال بعض أهل اللغة: " هو " ههنا يعنى به النبي عليه السلام.
المعنى فاستوى جبريل والنبي - ﷺ - بالأفق الأعلى.
وهذا عند أهل اللغة لا يجوز مثله إلا في الشعر إلا أن يكون مثل قولك: استويت أنا وزيدٌ، ويستقبحون استويت وزيدٌ.
وإنما المعنى استوى جبريل وهو بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية.
لأنه كان يتمثل للنبي - ﷺ - إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجلٍ، فأحبَّ رسول اللَّهِ أن يراه على حقيقته فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق.
فالمعنى - واللَّه أعلم - فاستوى جبريل في الأفق الأعلى على صورته.
* * *
(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨)
ومعنى (دَنَا، وَتَدَلى) واحد، لأن المعنى أنه قَربَ، وتدلى زَادَ في القرب.
كما تقول: قد دنا فلان مني وقرب، ولو قلت: قد قُرَبَ مني ودنا جاز.
* * *
(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩)
المعنى كان ما بينه وبين رسول اللَّه مقدار قوسين مِنَ القَسِيِّ العربيةِ أو
أقرب.
وهذا الموضع يحتاج إلى شرح لأن القائل قد يقول: ليس تَخْلُو " أو "
من أن تكون للشك أو لغير الشك.
فإن كانت للشك فمحال أن يكون موضع شك.
وإن كان معناها بل أدنى، بل أقْرَبُ فما كانت الحاجة إلى أن يقول:
(فكان قاب قَوْسَيْن) - كان ينبغي أن يكون كان أدنى من قاب قَوسَينْ.
والجواب في هذا - والله أعلم - أن العباد خوطبوا على لغتهم ومقدار
فهمهم وقيل لهم في هذا ما يقال للذي يحزر (١)، فالمعنى فكان على ما تُقَدرونَه
أنتم قدر قوسين أو أدنى من ذلك، كما تقول في الذي تقدره: هذا قدر رُمْحَينِ أو أنقص من رُمْحَين أو أرجح.
وقد مرَّ مثل هذا في قوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ).
* * *
(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠)
أي فَأوحى جبريل إلى النبي عليه السلام ما أوحى.
* * *
قوله: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١)
وقرئت: (مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) بتشديد الذَّال.
* * *
وقوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (١٨)
جاء في التفسير أن النبي - ﷺ - رأى رَبَّهُ - عزَّ وجلَّ - بقلبه، وأنه فَضْلٌ خُصَّ به كما خُصَّ إبراهيم عليه السلام بِالخُلَّةِ.
وقيل رأى أمراً عظيماً، وتفسيره (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى).
* * *
وقوله - عزَّ وجل -: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢)
(١) الحَزَّاءُ والحازي الذي يَحْزُرُ الأَشياء ويقَدِّرُها بظنه. (انظر اللسان. ١٤/ ١٧٤).
(أفَتمْروُنه)
و (أفَتُمارُونَه) وقرئت بالوجهين جميعاً، فمن قرأ (أفَتَمرونَهُ) فالمعنى
أفتَجْحَدونَهُ.
ومن قرأ (أفَتُمارُونَه) فمعناه أتجادولنه فى أنه رأى اللَّه - عز
وجل - بقلبه، وأنه رأى الكبرى من آياته.
* * *
وقوله تعالى: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (١٧)
أي ما زاغ بصر رسول الله - ﷺ - وَمَا طَغَى، ما عدل وَلاَ جَاوَزَ القصدَ في رؤيته جبريل قد ملأ الأفقَ.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤)
أي رآه مرة أخرى عند سدرة المنتهى.
* * *
(عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (١٥)
جاء في التفسير أنها جنة تصير إليها أرواح الشهداء، فلما قصَّ هذه
الأقاصيص، وأعلم - عزَّ وجلَّ - كيف قصه جبريل، وأن النبي - ﷺ - يأتيه ذلك من عند اللَّه الذي ليس كمثله شيء قيل لهم:
* * *
(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠)
كأن المعنى - واللَّهُ أعلم - أخبرونا عن هذه الآلهة التي لكم تعبدونها من
دون اللَّه - عزَّ وجلَّ - هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب
العزة - جلَّ وعزَّ - شيء.
وجاء في التفسير أن اللَّاتَ صَنَمٌ كان لثقيف يعبدونه، وأن العُزَّى
سَمُرة، وهي شجرة كانت لغطفانَ يعبدونها، وأن مَنَاة صخرة كانت لِهذَيْلٍ
وخزاعة يعبدونها من دون اللَّه.
فقيل لهم أخبرونا عن هذه الآلهة التي تَعْبدونَها
وتعبدون معها الملائكة، تزعمون أن الملائكة وهذه بنات اللَّه.
فوبَّخَهمْ اللَّه فقال: أرأيتم هذه الإناث ألِلَّهِ هي وأنتم تَخْتَارونُ الذُكْرَانَ.
وذلك قوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١).
ومن قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَّ وَالْعُزَّى) بتشديد التاء فزعموا أن رَجُلًا كان يَلِتُّ
السَّويق وَيَبيعُة عند ذلك الصنم فسمي الصنمُ اللَّاتّ - بتشديد التاء - والأكثر " اللَّاتَ " بتخفيف التاء.
وكان الكسائي يقف عليها بالهاء، يقول " اللاه " وهذا قياس
والأجود في هذا اتباع المصحف والوقف عليها بالتاء.
وقرئت (عِنْدَهَا جَنَّهُ الْمَأْوَى) - بالهاء - والأجود (جَنَّةُ الْمَأْوَى)، لأنه جاء في التفسير كما ذكرنا أنه يحل فيها أرواح الشهداء (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢)
أي جَعْلكم للَّهِ البنات ولكم البنين.
والضِّيزى في كلام العرب: الناقصةُ الجائرة، يقال: ضازه يَضِيزُه: إذا نقصه حَقَّه، ويقال: ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز.
وأجمع النحويُّون أن أصل ضِيزَى: ضُوزًى، وحُجَّتُهم أنها نُقلت من «فُعْلى» من ضْوزى إلى ضِيزى، لتَسلم الياء، كما قالوا: أبيض وبِيْض، وأصله: بُوضٌ، فنُقلت الضَّمَّة إلى الكسرة..
وقرأت على بعض العلماء باللُّغة: في «ضيزى» لغات؛ يقال: ضِيزَى، وضُوزَى، وضُؤْزَى، وضَأْزَى على «فَعْلى» مفتوحة؛ ولا يجوز في القرآن إلاّ «ضِيزى» بياءٍ غير مهموزة؛ وإنما لم يقُل النحويُّون: إنها على أصلها لأنهم لا يعرفون في الكلام «فِعْلى» صفة، إنما يعرفون الصِّفات على «فَعْلَى» بالفتح، نحو سَكُرَى وغَضْبى، أو بالضم، نحو حُبْلى وفُضْلى..
وكذلك قالوا مشية - حيكى، وهي مشية يحيك فيها صاحبها، يقال: حاك يحيك إذا تبختر، فحيكى عندَهم فعْلَى أيضاً (٢).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (٢٦)
جاء (شَفَاعَتُهُمْ) واللفظ لفظ واحد، ولو قيل شفاعته لجاز ولكن المعنى
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿عِندَ سِدْرَةِ﴾: ظرفٌ لِرَآه و «عندها جنةُ» جملةٌ ابتدائيةٌ في موضعِ الحالِ. والأحسنُ أَنْ يكونَ الحالُ الظرفَ، و «جَنَّةُ المَأْوى» فاعلٌ به. والعامَّةُ على «جنَّة» اسمٌ مرفوعٌ. وقرأ أمير المؤمنين وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر بن حبيش ومحمد بن كعب «جَنَّهُ» فعلاً ماضياً. والهاء ضميرُ المفعول يعود للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم. والمَأْوَى فاعلٌ بمعنى: سَتَره إيواءُ اللَّهِ تعالى. وقيل: المعنى: ضَمَّه المبيتُ والليلُ. وقيل: جَنَّهُ بظلالِه ودَخَلَ فيه. وقد رَدَّت عائشةُ رضي الله عنها هذه القراءةَ وتبعها جماعةٌ وقالوا: «أجَنَّ اللَّهُ مَنْ قرأها»، وإذا ثبتت قراءةً عن مثلِ هؤلاء فلا سبيلَ إلى رَدِّها، ولكنِّ المستعملَ إنما/ هو أَجَنَّه رباعياً، فإن استعمل ثلاثياً تَعَدَّى ب «على» كقولِه ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل﴾ [الأنعام: ٧٦]. وقال أبو البقاء: «وهو شاذٌّ والمستعملُ أجنَّه». وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في الأنعام. و «إذ يَغْشَى» منصوبٌ ب رآه. وقولُه: «ما يَغْشَى» كقولِه: ﴿مَآ أوحى﴾ [النجم: ١٠]. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿ضيزى﴾: قرأ ابنُ كثير «ضِئْزَى» بهمزةٍ ساكنةٍ، والباقون بياءٍ مكانَها. وزيدُ علي «ضَيْزَى» بفتح الضادِ والياءِ الساكنة. فأمَّا قراءةُ العامَّةِ فيُحْتمل أَنْ تكونَ مِنْ ضازه يَضَيزه إذا ضامه وجارَ عليه. فمعنى ضِيْزَى أي: جائرة. قال الشاعر:
٤١٣٢ ضازَتْ بنو أُسْدٍ بحُكْمِهِمُ... إذ يَجْعلون الرأسَ كالذَّنَبِ
وعلى هذا فتحتملُ وجهين، أحدُهما: أَنْ تكونَ صفةً على فُعْلى بضم الفاءِ، وإنما كُسِرت الفاءُ لتصِحَّ الياءُ كبِيْض. فإنْ قيل: وأيُّ فالجوابُ أن سيبويه حكى أنه لم يَرِدْ في الصفاتِ فِعْلَى بكسر الفاء إنما وَرَدَ بضمِّها نحو: حُبْلى وأُنْثى ورُبَّى وما أشبهه. إلاَّ أنه قد حَكى غيرُه في الصفات ذلك، حكى ثعلب: «مِشْية حِيْكى»، ورجلٌ كِيْصَى. وحكى غيرُه: أمرأةٌ عِزْهى، وامرأة سِعْلى، وهذا لا يُنْقَضُ لأن سيبويه يقول: حِيْكى وكِيْصى كقولِه في «ضيزَى» لتَصِحَّ الياءُ، وأما عِزْهَى وسِعْلى فالمشهورُ فيهما: سِعْلاة وعِزْهاة.
والوجه الثاني: أَنْ تكونَ مصدراً كذِكْرى، قال الكسائي: يقال: ضازَ يَضيز ضِيْزَى، كذَكَر يَذْكُر ذِكْرى. ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ ضَأَزَه بالهمز كقراءةِ ابن كثير، إلاَّ أنه خُفِّفَ همزُها، وإن لم يكنْ من أصولِ القُرَّاءِ كلِّهم إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ ياءً لكنها لغةٌ التُزِمَتْ فقرؤُوا بها، ومعنى ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز: نَقَصه ظُلماً وجَوْراً، وهو قريبٌ من الأول. ومِمَّن جَوَّز أَنْ تكونَ الياءُ بدلاً مِنْ همزة أبو عبيد، وأَنْ يكونَ أصلُها ضُوْزَى بالواوِ لأنه سُمِع ضازَه يَضُوْزُه ضُوْزى، وضازه يَضِيْزُه ضِيْزى، وضَأَزه يَضْأَزُه ضَأْزاً، حكى ذلك كلَّه الكسائيُّ، وحكى أبو عبيد ضِزْتُه وضُزْته بكسرِ الفاء وضمِّها. وكُسِرت الضادُ مِنْ ضُوْزَى لأنَّ الضمةَ ثقيلةٌ مع الواو، وفعلوا ذلك ليَتَوَصَّلوا به إلى قَلْب الواوِ ياءً، وأنشد الأخفش على لغةِ الهمز:
٤١٣٣ فإن تَنْأَ عَنَّا نَنْتَقِصْك وإن تَغِبْ... فَسَهْمُكَ مَضْؤُوْزٌ وأَنْفُكَ راغِمُ
و «ضِئْزَى» في قراءةِ ابن كثير مصدرٌ وُصِفَ به، ولا يكون وصفاً أصلياً لِما تقدَّم عن سيبويه. فإنْ قيل: لِم لا قيل في «ضِئْزى» بالكسر والهمز: إنَّ أصلَه ضُئْزَى بالضم فكُسِرَتِ الفاءُ كما قيل فيها مع الياء؟ فالجواب: أنه لا مُوْجِبَ هنا للتغيير؛ إذ الضمُّ مع الهمز لا يُسْتثقل استثقالَه مع الياء الساكنة، وسُمع منهم «ضُوْزَى» بضم الضاد مع الواو أو الهمزة.
وأمَّا قراءةُ زيدٍ فَتَحْتمل أَنْ تكونَ مصدراً وُصِف به كدَعْوى، وأَنْ تكونَ صفةً كسَكْرى وعَطْشَى.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
معنى جماعة، لأن " كَمْ " سؤال عن عَدَدٍ وإخبار بِعَدَدٍ كثير، لأن " رُبَّ " لِلْقِلَّةِ و " كم " للكثرة، ومعنى شفاعتهم ههنا يفسرها قوله - عزَّ وجلَّ -: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩).
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ، أنَّهُمْ لَا يَشْفَعُون إلَّا لمن - ارْتَضَى.
فهذا تأويل قوله (لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (٢٧) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٢٨)
أي يقولون إن الملائكة بنات اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (٣٠)
لأنه وَصَفَهُمْ بأنهم لا يريدونَ إلا الحياة الدنيا فقال: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٢٩) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ).
إنّما يعلمون ما يحتاجون إليه في مَعَاشِهِم، فقد نبذوا أمر الآخرة وراء
ظهورهم.
* * *
وقوله عزَّ وَجَلّ: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (٣٢)
قيل إن اللمم نحو القُبلة والنظرة وما أشبه ذلك، وقيل إلا اللمم إلَّا أن
يكون العبد قد ألمَّ بفاحشة ثم تاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ).
يدل هذا على أن اللمم هوَ أن يَكونَ الِإنْسانُ قد ألم بالمعصية ولم يُصِرّ
ولم يُقِمْ على ذلك، وإنما الِإلْمَامُ في اللغة يوجب أنك تأتي الشيء الوقت ولا تقيم
عليه، فهذا - واللَّه أعلم - معنى اللْمَم في هذا الموضع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ - (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (٣٤)
معنى " أكدى " قطع، وأصله من الحفر في البئر يقال للحافر إذا حَفَر البئر
فبلغ إلى حَجَرٍ لا يمكنه معه الحفر: قد بلغ إلى الكدية، فعند ذلك يقطع
الحفر.
* * *
وقوله: (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (٣٥)
معناه فهو يعلم والرؤية على ضربين:
أحَدُهُمَا " رَأيتُ " أبصَرتُ والآخر عَلِمْتُ، كما تقول: رأيت زيداً أخاكَ وَصَدِيقَكَ مَعْنَاهُ عَلِمْتُ.
ألا تَرَى أن المَكفُوفَ يقول: رأيت زيداً عَاقِلًا، فلو كان من رؤية العَيْنِ لم يجز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)
أي قضى، يقال إن إبراهيم - ﷺ - وَفَّى مَا أمِرَ به، وما امْتحِنَ به من ذبح وَلدِه، فعزم على ذلك حتى فداه اللَّه بالذبح وامْتُحِن بالصبر على عداوة قومه حين أُجِّجَتْ له النار فطُرِحَ فيها، وَأمِرَ أيضاً - بالاختَتانِ فاختتن، وقيل وفَّى وهي أبلغ من وَفَى لأن الذي امتُحِنَ به من أعظم المِحَنِ.
ومعنى (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَهِيمَ)
أي أم لم يخبر، ثم أعلم ما في الصحف.
* * *
ومَوْضعُ (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨)
خَفْضٌ،. المعنى أم لم يُنَبأ بأن لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
وَ " أنْ " ههنا بدل من (ما) ويجوز أن تكون " أنْ " في مَوْضع رَفْع على
إضمار " هو " كَأنهُ لما قِيلَ: بما في صحف موسى قيل: مَا هوَ؛ قيل هو
(أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
ومعناه ولا تؤخذ نفس بإثم غيرها.
وكذلك قوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩)
أي هذا أيضاً مما في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.
وَمَعْنَاه: ليس للِإنسان إلَّا جزاء سعيه، إن عَمِلَ خيراً جزِيَ خيراً.
وإن عَمِل شرًّا جزِيَ شرَّا..
وتزر من وَزَرَ يَزِز إذَا كسبَ وِزْرَاً وهو الِإثم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠)
إن قَالَ قَائِلٌ: إن الله عزَّ وجلَّ يَرَى عَمَلَ كل عَامِلٍ ويعلمه، فما معنى
(سَوْفَ يُرَى)؟
فالمعنى أنه يرى العَبْدُ سَعْيَة يوم القيامَةِ، أي يرى في مِيزَانه
عَمَلَه.
* * *
(ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (٤١)
أي يجزي عمله أوفى جزاء. وجائز أن تقرأ سَوْفَ يَرى، والأجْوَدُ يُرَى.
لأن قولك إنَّ زيداً سوف أكرم، فيه ضَعْفٌ لأن إنَّ عاملة وأكرم عاملة، فلا
يجوز أن ينتصب الاسم من وجْهَيْن، ولكن يجوز على إضمار الهاء، على
معنى سوف يراهُ، أو على إضمار الهاء في " أن " تقول: إن زيداً سَأكْرِمُ، على أنه زيد سأكرم.
* * *
ْوقوله تعالى: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٤٢)
أي إليه المرجع، وهذا كله في صحف إبراهيم ومُوسَى.
* * *
(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (٤٨)
قيل في (أَقْنَى) قولان:
أحدهما (أَقْنَى) هو أرضَى.
والآخر (أَقْنَى) جعل له قِنْيَةً، أي جعل الغنى أصْلاً لِصَاحِبِه ثَابتاً.
ومن هذا قولك: قد أقْتَنَيت كذا وكذْا.
أي عملت على أنه يكون عِنْدِي لا أخرجه مِنْ يَدِي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (٤٩)
الشعرى كوكب خَلْفَ الجوزاء، وهو أحد كوكبي ذِرَاع الأسَد، وكان قوم
من العرب يعبدون الشعرى، فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أنه رَبُّها وأنه خَالِقُهَا، وهوَ المَعْبُود - عزَّ وجلَّ (١).
* * *
(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (٥٠)
هؤلاء هم قوم هودٍ، وهم أُولَى عَادٍ.
فأما الأولى ففيها ثلاثِ لُغاتٍ:
بسكون اللام وإثْباتِ الهَمْزَةِ، وهي أجْوَد اللغَاتِ والتي تَليها في الجَوْدَةِ
" الأولى " - بضم اللام وطرح الهَمْزَةِ، وكان يجب في القياس إذا تحركت اللام أن تسقطَ ألف الوَصْلِ، لأن ألِفَ الوَصْلِ اجْتُلِبَتْ لسكون اللام، ولكن جاز ثُبُوتهَا لأن ألف لَامِ المَعْرِفَةِ لا تسقط مع ألف الاستفهام "، فخالفت ألفات الوَصْلِ.
ومن العرب من يقول: لُولي - يريد الأولى - فطرح الهمزة لتحرك
اللام.
وَقَدْ قُرِئ (عاداً لُّوْلى). على هذه اللغَةِ، وأُدغِمَ التنوين في اللام.
والأكثرْ عاداً الأولى بكسر التنوين (٢).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥١)
ثمود نسق على عادٍ، ولا يجوز أن ينصب بقوله (فَمَا أَبْقَى) لأنَّ مَا بَعْدَ
الفاء لا يعمل فيما قبلها، لا تقول: زيداً فضربت.
فكيف وَقَدْ أتت " ما " بعد الفاء.
وأكثر النحويين لا ينصب ما قبل الفاء بما بعدها.
والمعنى وأهلك ثمود فما أبقاهم.
* * *
(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣)
المؤتفكة المخسوفُ بهَا، أي ائتفكت بأهلها، ومعنى أهوى، أي رُفِعَتْ
حِينَْ خُسِفَ بهم إلى نحو السماء حتى سمع من في السماء أصوات أهل مدينة
قوم لوط ثم أهويت أي ألقِيَتْ في الهاوية.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿رَبُّ الشعرى﴾: الشِّعْرى في لسان العرب كوكبان يُسَمَّى أحدُهما: الشِّعْرى العَبُور، وهو المرادُ في الآيةِ الكريمةِ فإنَّ خُزاعةَ كانت تَعْبُدها، وسَنَّ عبادتَها أبو كبشةَ رجلٌ مِنْ ساداتِهم، وكانت قريشٌ تقولُ لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أبو كبشَة تشبيهاً بذلك الرجل، في أنه أَحْدَثَ ديناً غيرَ دينهم. والشِّعْرى العَبُور تَطْلُعُ بعد الجوزاءِ في شدَّةِ الحرِّ، ويُقال لها: مِرْزَمُ الجَوْزاء ويُسَمَّى كلبَ الجبَّار. والثاني: / الشِّعْرَى الغُمَيْصاء، وهي التي في الذِّراع. وسبب تَسْميتها بذلك ما زَعَمَتْه العربُ: مِنْ أنَّهما كانا أخْتَيْن أو زوجَيْن لسُهَيْل، فانحدر سهيلٌ إلى اليمنِ، فاتَّبَعْته الشِّعْرى العَبُوْر فعبَرَتْ المَجَرَّة فسُمِّيَتِ العَبورَ، وأقامَتِ الغُمَيْصاءُ، وبَكَتْ لفَقْدِه حتى غَمَصَتْ عَيْنُها، ولذلك كانت أَخْفَى من العَبُوْر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿عَاداً الأولى﴾: اعلَمْ أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ مِنْ أشكلِ الآياتِ نَقْلاً وتوجيهاً، وقد يَسَّر اللَّهُ تعالى تحريرَ ذلك كلِّه بحولِه وقوتِه فأقول: إنَّ القرَّاءَ اختلفوا في ذلك على أربعِ رُتَبٍ، إحداها: قرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون «عادَاً الأُولى» بالتنوين مكسوراً وسكونِ اللام وتحقيقِ الهمزةِ بعدها، هذا كلُّه في الوصلِ فإذا وقفوا على «عاداً» وابتدؤوا ب «الأُوْلى» فقياسُهم أَنْ يقولوا «الأولى» بهمزةِ الوصلِ وسكونِ اللامِ وتحقيقِ الهمزة.
الثانيةُ: قرأ قالون «عاداً لُّؤْلَى» بإدغامِ التنوين في اللامِ، ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى لام التعريفِ، وهمزِ الواوِ، هذا في الوصل. وأمَّا في الابتداءِ بالأولى فله ثلاثةُ أوجهٍ، الأولُ: «الُّؤْلَى» بهمزةِ وصل، ثم بلامٍ مضمومة، ثم بهمزةٍ ساكنة. الثاني: «لُؤْلَى» بلامٍ مضمومةٍ ثم بهمزةٍ ساكنةٍ. الثالث: كابتداءِ ابنِ كثير ومَنْ معه.
الثالثة: قرأ ورش «عاداً لُّوْلى» بإدغامِ التنوين في اللام ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إليها كقالون، إلاَّ أنه أبقى الواوَ على حالِها غيرَ مبدلةٍ همزةً هذا في الوصل. وأمَّا في الابتداءِ بها فله وجهان: «ألُّوْلَى» بالهمزةِ والنقلِ، و «لُوْلَى» بالنقلِ دونَ همزِ وصلٍ، والواوُ ساكنةٌ على حالِها في هذَيْن الوجهَيْن.
الرابعة: قرأ أبو عمروٍ كوَرْشٍ وَصْلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ، إلاَّ أنه يزيدُ عليه في الابتداءِ بوجهٍ ثالثٍ، وهو وجهُ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه، فقد تحصَّل أنَّ لكلّ مِنْ قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ، وأنَّ لورشٍ وجهين. فتأمَّلْ ذلك فإنَّ تحريرَه صعبُ المأخذِ من كتب القراءات هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات.
وأمَّا توجيهُها فيُوقف على معرفةِ ثلاثةِ أصولٍ، الأول: حكمُ التنوينِ إذا وقع بعدَه ساكنٌ. الثاني: حكمُ حركةِ النقلِ. الثالث: أصلُ «أُوْلَى» ما هو؟ إمَّا الأولُ فحكمُ التنوينِ الملاقي أنْ يُكْسَرَ لالتقاءِ الساكنين نحو: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإِخلاص: ١] أو يُحْذَفَ تشبيهاً بحرفِ العلةِ كقراءةِ ﴿أَحَدٌ الله الصمد﴾، وكقولِ الشاعر:
٤١٤٠............................ ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً
وهو قليلٌ جداً، وقد مضى تحقيقُه. وأمَّا الثاني فإنَّ للعرب في الحركة المنقولةِ مذهبين: الاعتدادَ بالحركةِ، وعدمَ الاعتدادِ بها، وهي اللغةُ العالية. وأمَّا الثالثُ فأُوْلَى تأنيثُ أَوَّل، وقد تقدَّم الخلافُ في أصلِه مستوفى في أولِ هذا التصنيفِ فعليك باعتبارِه. إذا تقرَّرَتْ هذه الأصولُ الثلاثةُ فأقولُ:
أمَّا قراءةُ ابنِ كثير ومَنْ معه فإنهم صرفوا «عاداً»: إمَّا لأنه اسمٌ للحيِّ أو الأبِ فليس فيه ما يمنعُه، وإمَّا لأنَّه كان مؤنثاً اسماً للقبيلةِ أو الأمِّ، إلاَّ أنَّه مثلُ هِنْد ودَعْد فيجوزُ فيه الصرفُ وعدمُه فيكونُ كقوله:
٤١٤١ لم تَتَلَفَّعْ بفَضْلِ مِئْزَرِها... دَعْدٌ ولم تُسْقَ دعدُ في العُلَب
فصرفَها أولاً ومَنَعَها ثانياً، ولَم يَنْقُلوا حركةَ الهمزةِ إلى لام التعريف فالتقى ساكنان، فكسروا التنوينَ لالتقائِهما على ما هو المعروفُ من اللغتين وحذفوا همزةَ الوصلِ من «الأُوْلى» للاستغناءِ عنها بحركة التنوين وَصْلاً فإذا ابتدَؤوا بها احتاجُوا إلى همزة الوصل فأَتَوْا بها فقالوا: الأُوْلى كنظيرِها/ من هَمَزاتِ الوصلِ. وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الغَفيرُ.
وأمَّا قراءة مَنْ أدغم التنوينَ في لامِ التعريفِ وهما نافعٌ وأبو عمرو مع اختلافِهما في أشياءَ كما تقدَّم بيانُه فوجْهُه الاعتدادُ بحركةِ النقل؛ وذلك أنَّ مِنَ العربِ مَنْ إذا نَقَل حركة الهمزةِ إلى ساكنٍ قبلَها كلامِ التعريفِ عامَلَها معاملَتَها ساكنةً، ولا يَعْتَدُّ بحركةِ النقلِ، فيكسرُ الساكَنَ الواقعَ قبلَها، ولا يُدْغِم فيها التنوينَ، ويأتي قبلها بهمزةِ الوصلِ فيقول: لم يَذْهَبِ لَحْمَرُ، ورأيت زياداً لَعْجَم، من غيرِ إدغام التنوينِ، والَحْمَرُ والَعْجَمُ بهمزة الوصلِ لأن اللامَ في حكمِ السكونِ، وهذه هي اللغةُ المشهورة. ومنهم مَنْ يَعْتَدُّ بها، فلا يكسِر الساكنَ الأولَ، ولا يأتي بهمزةِ الوصلِ، ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقولُ: لم يَذْهَبْ لَحْمر بسكون الباء، ولَحْمَرُ ولَعْجَمُ من غيرِ همزٍ، وزيادُ لّعجم بتشديدِ اللامِ، وعلى هذه اللغةِ جاءَتْ هذه القراءةُ، هذا من حيث الإِجمال.
وأمَّا من حيث التفصيلُ فأقول: أمَّا قالون فإنه نَقَلَ حركة الهمزةِ إلى لام التعريف، وإنْ لم يكنْ من أصلِه النقلُ لأجل قَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام، ولَمَّا نقل الحركةَ اعْتَدَّ بها، إذ لا يمكن الإِدغامُ في ساكنٍ ولا ما هو في حُكْمِه.
وأمَّا همزُه الواوُ ففيه وجهان منقولان، أحدُهما: أَنْ تكونَ أُوْلى أصلُها عنده وُؤْلَى مِنْ وَأَل أي: نجا، كما هو قولُ الكوفيين، ثم أَبْدَلَ الواوَ همزةً لأنها واوٌ مضمومةٌ، وقد تقدَّم لك أنها لغةٌ مطردةٌ، فاجتمع همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ فَوَجَبَ قلبُها واواً نحو: «أُوْمِنُ»، فلمَّا حُذِفَتْ الهمزةُ الأولى بسببِ نَقْلِ حركتِها رَجَعَتْ الثانيةُ إلى أصلِها من الهمزةِ لأنَّها إنما قُلِبت واواً من أجلِ الأُولى، وقد زالَتْ، وهذا كما رأيتَ تكلُّفٌ لا دليلَ عليه. والثاني: أنَّه لَمَّا نَقَلَ الحركةَ إلى اللامِ صارَت الضمةُ قبل الواوِ كأنَّها عليها، لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه، فأبدل الواوَ همزةً كقولِه:
٤١٤٢ أَحَبُّ المُؤْقِدِيْنَ إليَّ موسى..........................
وكقراءةِ «يُؤْقنون» وهمزِ «السُّؤْقِ» و «سُؤْقِه» وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، وهذا بناءً منه على الاعتدادِ بالحركةِ أيضاً. وليس في هذا الوجهِ دليلٌ على أصلِ «أُوْلى» عنده ما هو؟ فيُحتمل الخلافُ المذكورُ جميعُه. وأمَّا ابتداؤُه الكلمةَ من غير نَقْلٍ فإنه الأصلُ، ولأنه إنما نَقَلَ في الوصلِ لقَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام، ولا إدغامَ في الابتداءِ فلا حاجةَ إلى النقلِ. وأمَّا الابتداءُ له بالنقلِ فلأنه محمولٌ على الوصل ليجريَ اللفظُ فيهما على سَنَنٍ واحدٍ.
وعلةُ إثباتِ ألفِ الوصلِ مع النقلِ في أحدِ الوجهَينِ: تَرْكُ الاعتدادِ بحركةِ اللامِ على ما عليه القراءةُ في نظائرِه ممَّا وُجِدَ فيه النقلُ؛ إذ الغَرَضُ إنما هو جَرْيُ اللفظِ في الابتداءِ والوصلِ على سَنَنٍ واحدٍ، وذلك يَحْصُل بمجرد النقلِ وإنْ اختلفا في تقديرِ الاعتدادِ بالحركةِ وتركِه. وعلةُ تَرْكِ الإِتيانِ بالألفِ في الوجهِ الثاني حَمْلُ الابتداءِ على الوصلِ في النقلِ والاعتدادِ بالحركةِ جميعاً. ويُقَوِّي هذا الوجهَ رسمُ «الأولى» في هذا الموضع بغيرِ ألفٍ. والكلامُ في همز الواوِ مع النقل في الابتداءِ كالكلامِ عليه في الوَصْل كما تقدَّم.
وأمَّا ورشٌ فإنَّ أصلَه أن ينقلَ حركةَ الهمزةِ على اللام في الوصلِ فنقل على أصلِه، إلاَّ أنه اعتدَّ بالحركةِ ليصِحَّ ما قَصَدَه في التخفيفِ بالإِدغامِ، وليس من أصله الاعتدادُ بالحركة في نحو ذلك. ألا ترى أنه يَحْذِفُ الألفَ في ﴿سِيَرتَهَا الأولى﴾ [طه: ٢١] و ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى﴾ [الأعلى: ١١] ولو اعْتَدَّ بالحركةِ لم يَحْذِفْها. وأمَّا ما جاء عنه في بعضِ الرواياتِ: ﴿قَالُواْ لآنَ جِئْتَ بالحق﴾ [البقرة: ٧١] فإنه وجهٌ نادرٌ مُعَلَّلٌ باتِّباعِ الأثرِ والجَمْعِ بين اللغتين. والابتداءُ له بالنَّقْلِ على أصلِه في ذلك أيضاً، والابتداءُ له بألفِ الوصلِ على تَرْكِ الاعتدادِ بالحركةٍِ، إذْ لا حاجةَ إلى قَصْد ذلك في/ الابتداءِ، وتَرْكِ الإِتْيانِ له بالألف على الاعتدادِ له بالحركة حَمْلاً للابتداءِ على الوصل وموافقةَ الرسمِ أيضاً، لا يُبْتَدأ له بالأصل، إذ ليس مِنْ أصلِه ذلك، و «الأُوْلَى» في قراءتِه تَحْتَمل الخلافَ المذكورَ في أصلِها.
وأمَّا أبو عمروٍ فالعلةُ له في قراءتِه في الوصلِ والابتداءِ كالعلةِ المتقدمةِ لقالون، إلاَّ أنَّه يُخالفه في همزِ الواو لأنه لم يُعْطِها حكمَ ما جاوَرَها، وليسَتْ عنده مِنْ وَأل بل مِنْ غيرِ هذا الوجهِ، كما تقدَّم لكَ الخلافُ فيه أولَ هذا الموضوع، ويجوز أَنْ يكونَ أصلُها عندَه مِنْ وَأَل أيضاً إلاَّ أنه أَبْدَلَ في حالِ النقلِ مبالغةً في التخفيف، أو موافَقَةً لحالِ تَرْكِ النَّقلِ، وقد عاب هذه القراءةَ أعني قراءةَ الإِدغامِ أبو عثمانَ، وأبو العباس، ذهاباً منهما إلى أنَّ اللغةَ الفَصيحة عدمُ الاعتدادِ بالعارِض
(فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤)
معناه فغشاها اللَّه - عزَّ وجلَّ - من العذاب ما غَشَّى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥)
هذا - واللَّه أعلم - خطاب للِإنسانِ. لما عدَّدَ عليه مما فعله الله به، مما
يدل على وحدانيته.
كان المعنى أيها الإنسان فبأيِّ نِعم ربِّك التي تدُلُّك على أنه واحدٌ تتشكَّك؟، لأن [المراد به الشَكُّ].
* * *
وقوله: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦)
أي النبي - ﷺ - مجراه في الِإنذار مجرى مَنْ تَقَدَّمَة من الأنبياء، صلوات اللَّه عَلَيْهم، وجائز أن يكون في معنى هذا إنذار لكم، كما أنذر من قبلكم وقد أعلمتم بما قص الله عليكم من حال من كذب بالرُسُلِ، وما وقع بهم من الإهلاك.
* * *
وقوله: (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧)
معناه قربَ القريبة، تقول: قد أزف الشيء إذا قرب ودنا، وهذا مثل
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ).
* * *
ومعنى (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (٥٨)
معناه لا يكشف علمها متى تكون أحَدٌ إلا الله عزَّ وجلَّ، كما قال -
- عزَّ وجلَّ - (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ).
* * *
(أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩)
أي مما يتلى عليكم من كتاب اللَّه، (تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١).
تفسيره: لاهون.
وقوله: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
معناه فاسجدوا للَّهِ الذي خلق السماوات والأرَضِين، ولا تعبدوا اللَّاتَ
والعُزى ومناة الثالثة الأخرى، والشِّعْرَى، لأنه قَدْ جرى ذكر معبوداتهم في
هذه السورة.
Icon