ﰡ
الذي يظهر لي صوابه أن إذا هنا هي الظرفية المضمنة معنى الشرط، وأن قوله الآتي :﴿ إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً ﴾ [ الواقعة : ٤ ] بدل من قوله :﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ وأن جواب إذا هو قوله :﴿ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴾ [ الواقعة : ٨ ]، وهذا هو اختيار أبي حيان خلافاً لمن زعم أنها مسلوبة معنى الشرط هنا، وأنها منصوبة بأذكر مقدرة أو أنها مبتدأ، وخلافاً لمن زعم أنها منصوبة بليس المذكورة بعدها.
والمعروف عند جمهور النحويين أن إذا ظرف مضمن معنى الشرط منصوب بجزائه، وعليه فالمعنى : إذا قامت القيامة وحصلت هذه الأحوال العظيمة ظهرت منزلة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ أي قامت القيامة، فالواقعة من أسماء القيامة كالطامة والصاخة والآزفة والقارعة.
وقد بين جل وعلا أن الواقعة هي القيامة في قوله :﴿ فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأرض وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ فهي يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾ [ الحاقة : ١٣ -١٦ ].
الوجه الأول : أن قوله كاذبة مصدر جاء بصفة اسم الفاعل، فالكاذبة بمعنى الكذب كالعافية بمعنى المعافاة، والعاقبة بمعنى العقبى، ومنه قوله تعالى عند جماعات من العلماء ﴿ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ﴾ قالوا معناه لا تسمع فيها لغواً، وعلى هذا القول، فالمعنى ليس لقيام القيامة كذب ولا تخلف بل هو أمر واقع يقيناً لا محالة.
ومن هذا المعنى، قولهم : حمل الفارس على قرنه فما كذب، أي ما تأخر ولا تخلف ولا جبن.
ومنه قول زهير :
ليث يعثر يصطاد الرجال إذا | ما كذب الليث عن أقرانه صدقا |
الوجه الثاني : أن اللام في قوله :﴿ لِوَقْعَتِهَا ﴾ ظرفية، و﴿ كَاذِبَةٌ ﴾ اسم فاعل صفة لمحذوف أي ليس في وقعة الواقعة نفس كاذبة بل جميع الناس يوم القيامة صادقون بالاعتراف بالقيامة مصدقون بها ليس فيهم نفس كاذبة بإنكارها ولا مكذبة بها.
وهذا المعنى تشهد له في الجملة آيات من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأليم ﴾ [ الشعراء : ٢٠١ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ في مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾ [ الحج : ٥٥ ].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى :﴿ بَلِ ادَارَكَ عِلْمُهُمْ في الآخرة بَلْ هُمْ في شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ﴾ [ النمل : ٦٦ ]، وباقي الأوجه قد يدل على معناه قرآن ولكنه لا يخلو من بعد عندي، ولذا لم أذكره، وأقربها عندي الأول.
خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة رافعة، ومفعول كل من الوصفين محذوف.
قال بعض العلماء : تقديره هي خافضة أقواماً في دركات النار، رافعة أقواماً إلى الدرجات العلى إلى الجنة، وهذا المعنى قد دلت عليه آيات كثيرة كقوله :﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسفل مِنَ النَّارِ ﴾ [ النساء : ١٤٥ ]، وقوله تعالى ﴿ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ [ طه : ٧٥ -٧٦ ] وقوله تعالى :﴿ وللآخرة أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٢١ ] والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وقال بعض العلماء : تقديره خافضة أقواماً كانوا مرتفعين في الدنيا رافعة أقواماً كانوا منخفضين في الدنيا، وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ إلى قوله ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ ﴾ [ المطففين : ٢٩ -٣٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال بعض العلماء : تقديره، خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة كالنجوم التي تسقط وتتناثر يوم القيامة، وذلك خفض لها بعد أن كانت مرتفعة، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴾ وقال تعالى :﴿ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴾.
رافعة : أي رافعة بعض الأجرام التي كانت منخفضة كالجبال التي ترفع من أماكنها وتسير بين السماء والأرض كما قال تعالى :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرض بَارِزَةً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ]، فقوله :﴿ وَتَرَى الأرض بَارِزَةً ﴾، لأنها لم يبق على ظهرها شيء من الجبال، وقال تعالى :﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ [ النمل : ٨٨ ].
وقد قدمنا أن التحقيق الذي دل عليه القرآن، أن ذلك يوم القيامة، وأنها تسير بين السماء والأرض كسير السحاب الذي هو المزن.
وقد صرح بأن الجبال تحمل هي والأرض أيضاً يوم القيامة. وذلك في قوله تعالى :﴿ فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأرض وَالْجِبَالُ ﴾ [ الحاقة : ١٣ – ١٤ ] الآية.
وعلى هذا القول، فالمراد تعظيم شأن يوم القيامة، وأنه يختل فيه نظام العالم، وعلى القولين الأولين، فالمراد الترغيب والترهيب، ليخاف الناس في الدنيا من أسباب الخفض في الآخرة فيطيعوا الله ويرغبوا في أسباب الرفع فيطيعوه أيضاً، وقد قدمنا مراراً أن الصواب في مثل هذا حمل الآية على شمولها للجميع.
قد قدمنا أن الأظهر عندنا أن قوله ﴿ إِذَا رُجَّتِ ﴾. بدل من قوله ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾، والرج : التحريك الشديد، وما دلت عليه هذه الآية من أن الأرض يوم القيامة تحرك تحريكاً شديداً جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا ﴾ [ الزلزلة : ١ ]، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شيء عَظِيمٌ ﴾ [ الحج : ١ ].
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها أوجه كلها حق وكلها يشهد له قرآن، فنذكر جميع الأوجه وأدلتها القرآنية.
قال أكثر المفسرين ﴿ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً ﴾ أي فتت تفتيتاً حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن، ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقاً عنده فخاف أن يعجل عنه، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقاً ملتوتاً، وهو البسيسة.
لا تخبزا خبزاً وبسابسا | ولا تطيلا بمناخ حبسا |
ويوماً على ظهر الكثيب تعذرت | علي وآلت حلفة لم تحلل |
وما دلت عليه هذه الآيات من أنها تسلب عنها قوة الحجرية وتتصف بعد الصلابة والقوة باللين الشديد الذي هو كلين الدقيق، والرمل المتهايل يشهد له في الجملة تشبيهها في بعض الآيات بالصوف المنفوش الذي هو العهن، كقوله تعالى ﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴾ [ القارعة : ٥ ]، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْل ِوَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴾ [ المعارج : ٨ -٩ ] وأصل العهن أخص من مطلق الصوف لأنه الصوف المصبوغ خاصة. ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :
كأن فتاة العهن في كل منزل | نزلن به حب الفنا لم يحطم |
﴿ مُّنبَثّاً ﴾ أي متفرقاً، ووصفها بالهباء المنبث أنسب لتكون البس بمعنى التفتيت والطحن.
الوجه الثاني : أن معنى قوله :﴿ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً ﴾ أي سيرت بين السماء والأرض، وعلى هذا فالمراد ببسها سوقها وتسييرها من قول العرب : بسست الإبل أبسها، بضم الباء وأبستها أبسها بضم الهمزة وكسر الباء، لغتان بمعنى سقتها، ومنه حديث :«يخرج أقوام من المدينة إلى اليمن والشام، والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ».
وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ﴾ [ الكهف : ٤٧ ] الآية، وقوله ﴿ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ﴾ [ الطور : ١٠ ].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله :﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ [ النمل : ٨٨ ].
الوجه الثالث : أن معنى قوله :﴿ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً ﴾ نزعت من أماكنها وقلعت، وقد أوضحنا أن هذا الوجه راجع للوجه الأول مع الإيضاح التام لأحوال الجبال يوم القيامة، وأطوارها، بالآيات القرآنية، وفي سورة طه في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفاً ﴾ [ طه : ١٠٥ ].
أي صرتم أزواجاً ثلاثة، والعرب تطلق كان بمعنى صار، ومنه ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ﴾ [ البقرة : ٣٥ ] أي فتصيرا من الظالمين.
ومنه قول الشاعر :
بتيهاء قفر والمطي كأنها | قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها |
قال بعض العلماء : قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم.
وقيل : لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة.
وقيل : لأنهم عن يمين أبيهم آدم، كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ليلة الإسراء.
وقيل سموا أصحاب اليمين، وأصحاب الميمنة لأنهم ميامين، أي مباركون على أنفسهم، لأنهم أطاعوا ربهم فدخلوا الجنة، واليمن البركة.
وهذا الأسلوب يكثر في القرآن نحو ﴿ الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ ﴾، ﴿ الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ ﴾. والرابط في جملة الخبر في جميع الآيات المذكورة هو إعادة لفظ المبتدأ في جملة الخبر كما لا يخفى، وقوله :﴿ وَالسَّـابِقُونَ ﴾ لم يذكر فيه استفهام تعجب كما ذكره فيما قبله، ولكنه ذكر في مقابلة تكرير لفظ السابقين.
والأظهر في إعرابه أنه مبتدأ وخبر على عادة العرب في تكريرهم اللفظ وقصدهم الإخبار بالثاني عن الأول، يعنون أن اللفظ المخبر عنه هو المعروف خبره الذي لا يحتاج إلى تعريف ومنه قول أبي النجم :
أنا أبو النجم وشعري شعري | لله درى ما أجن صدري |
وقيل : لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار، والعرب تسمي الشمال شؤماً، كما تسمي اليمين يميناً، ومن هنا قيل لهم أصحاب المشأمة أو لأنهم مشائيم على أنفسهم : فعصوا الله فأدخلهم النار، والمشائيم ضد الميامين، ومنه قول الشاعر :
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة | ولا ناعب إلا بين غرابها |
وهذا الأسلوب يكثر في القرآن نحو ﴿ الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ ﴾، ﴿ الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ ﴾. والرابط في جملة الخبر في جميع الآيات المذكورة هو إعادة لفظ المبتدأ في جملة الخبر كما لا يخفى، وقوله :﴿ وَالسَّـابِقُونَ ﴾ لم يذكر فيه استفهام تعجب كما ذكره فيما قبله، ولكنه ذكر في مقابلة تكرير لفظ السابقين.
والأظهر في إعرابه أنه مبتدأ وخبر على عادة العرب في تكريرهم اللفظ وقصدهم الإخبار بالثاني عن الأول، يعنون أن اللفظ المخبر عنه هو المعروف خبره الذي لا يحتاج إلى تعريف ومنه قول أبي النجم :
أنا أبو النجم وشعري شعري | لله درى ما أجن صدري |
والمكذبون هم أصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال.
وذكر تعالى بعض صفات أصحاب الميمنة والمشأمة في البلد في قوله تعالى :﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ ﴾ [ البلد : ١٣ -٢٠ ].
وهذا الأسلوب يكثر في القرآن نحو ﴿ الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ ﴾، ﴿ الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ ﴾. والرابط في جملة الخبر في جميع الآيات المذكورة هو إعادة لفظ المبتدأ في جملة الخبر كما لا يخفى، وقوله :﴿ وَالسَّـابِقُونَ ﴾ لم يذكر فيه استفهام تعجب كما ذكره فيما قبله، ولكنه ذكر في مقابلة تكرير لفظ السابقين.
والأظهر في إعرابه أنه مبتدأ وخبر على عادة العرب في تكريرهم اللفظ وقصدهم الإخبار بالثاني عن الأول، يعنون أن اللفظ المخبر عنه هو المعروف خبره الذي لا يحتاج إلى تعريف ومنه قول أبي النجم :
أنا أبو النجم وشعري شعري | لله درى ما أجن صدري |
وقوله : ثلة : خبر مبتدأ محذوف، والتقدير، هم ثلة، والثلة الجماعة من الناس، وأصلها القطعة من الشيء وهي الثل، وهو الكسر.
وقال الزمخشري : والثلة من الثل، وهو الكسر، كما أن الأمة من الأم وهو الشبح، كأنها جماعة كسرت من الناس، وقطعت منهم. ا ه. منه.
واعلم أن الثلة تشمل الجماعة الكثيرة، ومنه قول الشاعر :
فجاءت إليهم ثلة خندفية | بجيش كتيار من السيل مزيد |
وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا، كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾ [ الواقعة : ٣٩ -٤٠ ]. فقال بعض أهل العلم : كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة، وأن المراد بالأولين منهم الصحابة.
وبعض العلماء يذكر معهم القرون المشهود لهم بالخير في قوله صلى الله عليه وسلم «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم » الحديث. والذين قالوا : هم كلهم من هذه الأمة، قالوا : إنما المراد بالقليل، وثلة من الآخرين، وهم من بعد ذلك إلى قيام الساعة.
وقال بعض العلماء : المراد بالأولين في الموضعين الأمم الماضية قبل هذه الأمة، فالمراد بالآخرين فيهما هو هذه الأمة.
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له : ظاهر القرآن في هذا المقام : أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية، والآخرين فيهما من هذه الأمة، وأن قوله تعالى :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين َوَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ﴾ في السابقين خاصة، وأن قوله :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾ [ الواقعة : ٣٩ -٤٠ ] في أصحاب اليمين خاصة.
وإنما قلنا : إن هذا هو ظاهر القرآن في الأمور الثلاثة، التي هي شمول الآيات لجميع الأمم، وكون قليل من الآخرين في خصوص السابقين، وكون ثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين لأنه واضح من سياق الآيات.
أما شمول الآيات لجميع الأمم فقد دل عليه أول السورة، لأن قوله :﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ إلى قوله ﴿ فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً ﴾ [ الواقعة : ١ -٦ ] لا شك أنه لا يخص أمة دون أمة، وأن الجميع مستوون في الأهوال والحساب والجزاء.
فدل ذلك على أن قوله :﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً ﴾ [ الواقعة : ٧ ] عام في جميع أهل المحشر، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين منهم من هو من الأمم السابقة، ومنهم من هو من هذه الأمة.
وعلى هذا، فظاهر القرآن، أن السابقين من الأمم الماضية أكثر من السابقين من هذه الأمة، وأن أصحاب اليمين من الأمم السابقة ليست أكثر من أصحاب اليمين من هذه الأمة، لأنه عبر في السابقين من هذه الأمة بقوله :﴿ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ﴾ وعبر عن أصحاب اليمين من هذه الأمة ﴿ وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾.
ولا غرابة في هذا، لأن الأمم الماضية أمم كثيرة. وفيها أنبياء كثيرة ورسل، فلا مانع من أن يجتمع من سابقيها من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من سابقي هذه الأمة وحدها.
أما أصحاب اليمين من هذه الأمة فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جميع الأمم، لأن الثلة تتناول العدد الكثير، وقد يكون أحد العددين الكثيرين أكثر من الآخر، مع أنهما كلاهما كثير.
ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير، لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة.
فأما كون قوله ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ﴾ دل ظاهر القرآن على أنه في خصوص السابقين، فلأن الله قال ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُون في جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ ثم قال تعالى مخبراً عن هؤلاء السابقين المقربين ﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين َوَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ﴾.
وأما كون قوله :﴿ وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾ في خصوص أصحاب اليمين، فلأن الله تعالى قال ﴿ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لأصحاب الْيَمِين ِثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾ [ الواقعة : ٣٦ -٤٠ ]، والمعنى هم أي أصحاب اليمين : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، وهذا واضح كما ترى.
وقوله : ثلة : خبر مبتدأ محذوف، والتقدير، هم ثلة، والثلة الجماعة من الناس، وأصلها القطعة من الشيء وهي الثل، وهو الكسر.
وقال الزمخشري : والثلة من الثل، وهو الكسر، كما أن الأمة من الأم وهو الشبح، كأنها جماعة كسرت من الناس، وقطعت منهم. ا ه. منه.
واعلم أن الثلة تشمل الجماعة الكثيرة، ومنه قول الشاعر :
فجاءت إليهم ثلة خندفية | بجيش كتيار من السيل مزيد |
وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا، كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾ [ الواقعة : ٣٩ -٤٠ ]. فقال بعض أهل العلم : كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة، وأن المراد بالأولين منهم الصحابة.
وبعض العلماء يذكر معهم القرون المشهود لهم بالخير في قوله صلى الله عليه وسلم «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم » الحديث. والذين قالوا : هم كلهم من هذه الأمة، قالوا : إنما المراد بالقليل، وثلة من الآخرين، وهم من بعد ذلك إلى قيام الساعة.
وقال بعض العلماء : المراد بالأولين في الموضعين الأمم الماضية قبل هذه الأمة، فالمراد بالآخرين فيهما هو هذه الأمة.
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له : ظاهر القرآن في هذا المقام : أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية، والآخرين فيهما من هذه الأمة، وأن قوله تعالى :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين َوَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ﴾ في السابقين خاصة، وأن قوله :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾ [ الواقعة : ٣٩ -٤٠ ] في أصحاب اليمين خاصة.
وإنما قلنا : إن هذا هو ظاهر القرآن في الأمور الثلاثة، التي هي شمول الآيات لجميع الأمم، وكون قليل من الآخرين في خصوص السابقين، وكون ثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين لأنه واضح من سياق الآيات.
أما شمول الآيات لجميع الأمم فقد دل عليه أول السورة، لأن قوله :﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ إلى قوله ﴿ فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً ﴾ [ الواقعة : ١ -٦ ] لا شك أنه لا يخص أمة دون أمة، وأن الجميع مستوون في الأهوال والحساب والجزاء.
فدل ذلك على أن قوله :﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً ﴾ [ الواقعة : ٧ ] عام في جميع أهل المحشر، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين منهم من هو من الأمم السابقة، ومنهم من هو من هذه الأمة.
وعلى هذا، فظاهر القرآن، أن السابقين من الأمم الماضية أكثر من السابقين من هذه الأمة، وأن أصحاب اليمين من الأمم السابقة ليست أكثر من أصحاب اليمين من هذه الأمة، لأنه عبر في السابقين من هذه الأمة بقوله :﴿ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ﴾ وعبر عن أصحاب اليمين من هذه الأمة ﴿ وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾.
ولا غرابة في هذا، لأن الأمم الماضية أمم كثيرة. وفيها أنبياء كثيرة ورسل، فلا مانع من أن يجتمع من سابقيها من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من سابقي هذه الأمة وحدها.
أما أصحاب اليمين من هذه الأمة فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جميع الأمم، لأن الثلة تتناول العدد الكثير، وقد يكون أحد العددين الكثيرين أكثر من الآخر، مع أنهما كلاهما كثير.
ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير، لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة.
فأما كون قوله ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ﴾ دل ظاهر القرآن على أنه في خصوص السابقين، فلأن الله قال ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُون في جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ ثم قال تعالى مخبراً عن هؤلاء السابقين المقربين ﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين َوَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ﴾.
وأما كون قوله :﴿ وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾ في خصوص أصحاب اليمين، فلأن الله تعالى قال ﴿ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لأصحاب الْيَمِين ِثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾ [ الواقعة : ٣٦ -٤٠ ]، والمعنى هم أي أصحاب اليمين : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، وهذا واضح كما ترى.
ومنه قول الأعشى :
ومن نسج داود موضونة | تساق مع الحي عيرا فعيرا |
وبيضاء كالنهى موضونة | لها قونس فوق جيب البدن |
ومنه قول الراجز :
ليك تعدو قلقا وضينها | معترضا في بطنها جنينها |
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونهم على سرر متقابلين، أي ينظر بعضهم إلى وجه بعض، كلهم يقابل الآخر بوجهه، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى في الحجر ﴿ وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٧ ] وقوله في الصافات ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُوم ٌفَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ في جَنَّاتِ النَّعِيم ِعَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ [ الصافات : ٤١ -٤٤ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ﴾ [ الطور : ٢٤ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى ﴿ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ﴾ [ الطور : ٢٣ ] وفي المائدة في الكلام على قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى ﴿ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ﴾ [ الطور : ٢٣ ] وفي المائدة في الكلام على قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ].
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور، في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ الطور : ٢٢ ].
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور، في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ الطور : ٢٢ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] الآية، وفي الصافات في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴾ [ الصافات : ٤٨ ] وفي غير ذلك من المواضع.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] الآية، وفي الصافات في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴾ [ الصافات : ٤٨ ] وفي غير ذلك من المواضع.
قد قدمنا الكلام عليه بإيضاح في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى ﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٢ ] وتكلمنا هناك على الاستثناء المنقطع وذكرنا شواهده من القرآن وكلام العرب، وبينا كلام أهل العلم في حكمه شرعاً.
قد قدمنا الكلام عليه بإيضاح في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى ﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٢ ] وتكلمنا هناك على الاستثناء المنقطع وذكرنا شواهده من القرآن وكلام العرب، وبينا كلام أهل العلم في حكمه شرعاً.
أما قوله ﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ﴾ [ النساء : ٥٧ ]
والمسكوب اسم مفعول سكب الماء ونحوه إذا صبه بكثرة، والمفسرون يقولون : إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وأن الماء يصل إليهم أينما كانوا كيف شاءوا، كما قال تعالى ﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾ [ الإنسان : ٦ ]
فمن قال إنه راجع إلى مذكور، قال هو راجع إلى قوله ﴿ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ﴾ قال : لأن المراد بالفرش النساء، والعرب تسمي المرأة لباساً وإزاراً وفراشاً ونعلاً، وعلى هذا فالمراد بالرفع في قوله ﴿ مَّرْفُوعَةٍ ﴾ رفع المنزلة والمكانة.
ومن قال : إنه راجع إلى غير مذكور، قال : إنه راجع إلى نساء لم يذكرن، ولكن ذكر الفرش دل عليهن. لأنهن يتكئن عليها مع أزواجهن.
وقال بعض العلماء : المراد بهن الحور العين، واستدل من قال ذلك بقوله ﴿ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً ﴾ لأن الإنشاء هو الاختراع والابتداع.
وقالت جماعة من أهل العلم : أن المراد بهن بنات آدم التي كن في الدنيا عجائز شمطاً رمصاً، وجاءت في ذلك آثار مرفوعة عنه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا القول : فمعنى أنشأناهن إنشاء أي خلقناهن خلقاً جديداً.
ومنه قول لبيد :
وفي الخباء عروب غير فاحشة | ريا الروادف يعشى دونها البصر |
وبعض العلماء يقول : إنهن ينشأن مستويات في السن على قدر بنات ثلاثة وثلاثين سنة، وجاءت بذلك آثار مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكون الأتراب بمعنى المستويات في السن مشهور في كلام العرب.
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
أبرزوها مثل المهاة تهادى | بين خمس كواعب أتراب |
أما كونهن يوم القيامة أبكاراً، فقد أوضحه في سورة الرحمان في قوله تعالى :﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ [ الرحمان : ٥٦ ] في الموضعين لأن قوله :﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ نص في عدم زوال بكارتهن، وأما كونهن عرباً أي متحببات إلى أزواجهن، فقد دل عليه قوله في الصافات :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴾ [ الصافات : ٤٨ ] لأن معناه أنهن قاصرات العيون على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لشدة محبتهن لهم واقتناعهن بهم، كما قدمنا إيضاحه، ولا شك أن المرأة التي لا ينظر إلى غير زوجها متحببة إليه حسنة التبعل معه.
وقوله في ص :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴾ [ ص : ٥٢ ]، وقوله في الرحمان :﴿ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ [ الرحمان : ٥٦ ]، وأما كونهن أتراباً فقد بينه تعالى في قوله في آية ص هذه، ﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴾، وفي سورة النبأ في قوله تعالى :﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَابا ًوَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً ﴾ [ النبأ : ٣١ -٣٣ ].
قد قدمنا معنى أصحاب الشمال في هذه السورة الكريمة، وأوضحنا معنى السموم في الآيات القرآنية التي يذكر فيها في سورة الطور، في الكلام على قوله تعالى ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [ الطور : ٢٧ ].
قد قدمنا معنى أصحاب الشمال في هذه السورة الكريمة، وأوضحنا معنى السموم في الآيات القرآنية التي يذكر فيها في سورة الطور، في الكلام على قوله تعالى ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [ الطور : ٢٧ ].
وقوله :﴿ مِّن يَحْمُومٍ ﴾ أي من دخان أسود شديد السواد ووزن اليحموم يفعول، وأصله من الحمم وهو الفحم، وقيل : من الحم، وهو الشحم المسود لاحتراقه بالنار.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِين َفَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِين َفَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾.
لما ذكر جل وعلا ما أعد لأصحاب الشمال من العذاب، بين بعض أسبابه، فذكر منها أنهم كانوا قبل ذلك في دار الدنيا مترفين أي متنعمين، وقد قدمنا أن القرآن دل على أن الإتراف والتنعم والسرور في الدنيا من أسباب العذاب يوم القيامة، لأن صاحبه معرض عن الله لا يؤمن به ولا برسله، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وقوله تعالى :﴿ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ﴾ [ الانشقاق : ١١-١٣ ]، وقد أوضحنا هذا في الكلام على آية الطور المذكورة آنفاً.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون إنكار البعث سبباً لدخول النار، لأن قوله تعالى لما ذكر أنهم في سموم وحميم وظل من يحموم، بين أن من أسباب ذلك أنهم قالوا ﴿ أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً ﴾ جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئذَا كُنَّا تُرَابًا أَئنَّا لفي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ ﴾ [ الرعد : ٥ ].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾ [ الفرقان : ١١ ].
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من إنكارهم بعث آبائهم الأولين في قوله ﴿ أَوَ ءَابَآؤُنَا الأولون ﴾.
وأنه تعالى بين لهم أنه يبعث الأولين والآخرين في قوله، ﴿ قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين َلَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الواقعة : ٤٩ -٥٠ ] جاء موضحاً في غير هذا الموضع، فبينا فيه أن البعث الذي أنكروا، سيتحقق في حال كونهم أذلاء صاغرين، وذلك في قوله تعالى في الصافات ﴿ وَقَالُواْ إِن هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءَابَآؤُنَا الأولون قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هي زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ﴾ [ الصافات : ١٥ -١٩ ].
﴿ أَئنَّا ﴾ وقرأه نافع والكسائي ﴿ أَئنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾، بهمزة واحدة مكسورة على الخبر، كما عقده صاحب الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع بقوله :
فصل واستفهام إن تكررا | فصير الثاني منه خبرا |
واعكسه في النمل وفوق الروم | الخ........ |
ورواية قالون هذه عن نافع بالتسهيل والإدخال مطابقة لقراءة أبي عمرو، فأبو عمرو وقالون عن نافع يسهلان ويدخلان، ورواية ورش عن نافع هي تسهيل الأخيرة منهما بين بين من غير إدخال ألف. وهذه هي قراءة ابن كثير وورش فابن كثير وورش يسهلان ولا يدخلان.
وقرأ هشام عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين، وبينهما ألف الإدخال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين من غير ألف الإدخال، هذه هي القراءات الصحيحة، في مثل ﴿ أَإذَا ﴾ و ﴿ أإنا ﴾ ونحو ذلك في القرآن.
تنبيه
اعلم وفقني الله وإياك أن ما جرى في الأقطار الإفريقية من إبدال الأخيرة من هذه الهمزة المذكورة وأمثالها في القرآن هاء خالصة من أشنع المنكر وأعظم الباطل، وهو انتهاك لحرمة القرآن العظيم، وتعد لحدود الله، ولا يعذر فيه إلا الجاهل الذي لا يدري، الذي يظن أن القراءة بالهاء الخالصة صحيحة، وإنما قلنا هذا لأن إبدال الهمزة فيما ذكر هاء خالصة لم يروه أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل عليه به جبريل البتة، ولم يرو عن صحابي ولم يقرأ به أحد من القراء، ولا يجوز بحال من الأحوال، فالتجرؤ على الله بزيادة حرف في كتابه، وهو هذه الهاء التي لم ينزل بها الملك من السماء البتة، هو كما ترى، وكون اللغة العربية قد سمع فيها إبدال الهمزة هاء لا يسوغ التجرؤ على الله بإدخال حرف في كتابه. لم يأذن بإدخاله الله ولا رسوله.
ودعوى أن العمل جرى بالقراءة بالهاء لا يعول عليها، لأن جريان العمل بالباطل باطل، ولا أسوة في الباطل بإجماع المسلمين، وإنما الأسوة في الحق، والقراءة سنة متبعة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا خلاف فيه.
وقوله تعالى :﴿ مِتْنَا ﴾، وقرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو وشعبة عن عاصم متنا بضم الميم وقرأه نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿ مِتْنَا ﴾ بكسر الميم، وقد قدمنا مسوغ كسر الميم لغة في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى :﴿ يا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَـذَا ﴾.
والمعنى على هذا واضح وهو أنهم أنكروا بعثهم أنفسهم بأداة الإنكار التي هي الهمزة، وعطفوا على ذلك بالواو إنكارهم بعث آبائهم الأولين، بأداة الإنكار التي هي الهمزة المقدمة عن محلها لفظاً لا رتبة، وهذا القول هو قول الأقدمين من علماء العربية، واختاره أبو حيان في البحر المحيط وابن هشام في مغني اللبيب،
وهو الذي صرنا نميل إليه أخيراً بعد أن كنا نميل إلى غيره. الوجه الثاني : هو أن همزة الاستفهام في محلها الأصلي، وأنها متعلقة بجملة محذوفة، والجملة المصدرية بالاستفهام معطوفة على المحذوفة بحرف العطف الذي بعد الهمزة، وهذا الوجه يميل إليه الزمخشري في أكثر المواضع من كشافه، وربما مال إلى غيره.
وعلى هذا القول، فالتقدير : أمبعوثون نحن وآباؤنا الأولون ؟ وما ذكره الزمخشري هنا من أن قوله :﴿ ءَابَآؤُنَا ﴾ [ الواقعة : ٤٨ ] معطوف على واو الرفع في قوله :﴿ لَمَبْعُوثُونَ ﴾، وأنه ساغ العطف على ضمير رفع متصل من غير توكيد بالضمير المنفصل لأجل الفصل بالهمزة لا يصح، وقد رده عليه أبو حيان وابن هشام وغيرهما.
وهذا الوجه الأخير مال إليه ابن مالك في الخلاصة في قوله :
وحذف متبوع بداهنا استبح *** وعطفك الفعل على الفعل يصح
وقرأ هذا الحرف قالون وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو، والذي يظهر لي على قراءتهما أو بمعنى الواو العاطفة، وأن قوله :﴿ ءَابَآؤُنَا ﴾، معطوف على محل المنصوب الذي هو اسم إن، لأن عطف المرفوع على منصوب إن بعد ذكر خبرها جائز بلا نزاع، لأن اسمها وإن كان منصوباً فأصله الرفع لأنه مبتدأ في الأصل، كما قال ابن مالك في الخلاصة :
وجائز رفعك معطوفاً على *** منصوب إن بعد أن تستكملا
وإنما قلنا إن أو بمعنى الواو، لأن إتيانها بمعنى الواو معروف في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن :﴿ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً ﴾ [ المرسلات : ٥ -٦ ] لأن الذكر الملقى للعذر، والنذر معاً لا لأحدهما، لأن المعنى أنها أتت الذكر إعذاراً وإنذاراً، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٤ ] أي ولا كفوراً، وهو كثير في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معد يكرب :
قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم *** ما بين ملجم مهرة أو سافع
فالمعنى ما بين الملجم مهره وسافع : أي آخذ بناصيته ليلجمه، وقول نابغة ذبيان : قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا *** لى حمامتنا أو نصفه فقد
فحسبوه فألفوه كما زعمت *** ستا وستين لم تنقص ولم تزد
فقوله : أو نصفه بمعنى ونصفه كما هو ظاهر من معنى البيتين المذكورين، لأن مرادها أنها تمنت أن يكون الحمام المار بها هو ونصفه معه لها مع حمامتها التي معها، ليكون الجميع مائة حمامة، فوجدوه ستاً وستين ونصفها ثلاث وثلاثون، فيكون المجموع تسعاً وتسعين، والمروي في ذلك عنها أنها قالت :
ليت الحمام ليه *** إلى حمامتيه
ونصفه قديه *** تم الحمام مايه
وقول توبة بن الحمير :
قد زعمت ليلى بأني فاجر *** لنفسي تقاها أو عليها فجورها
﴿ أَئنَّا ﴾ وقرأه نافع والكسائي ﴿ أَئنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾، بهمزة واحدة مكسورة على الخبر، كما عقده صاحب الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع بقوله :
فصل واستفهام إن تكررا | فصير الثاني منه خبرا |
واعكسه في النمل وفوق الروم | الخ........ |
ورواية قالون هذه عن نافع بالتسهيل والإدخال مطابقة لقراءة أبي عمرو، فأبو عمرو وقالون عن نافع يسهلان ويدخلان، ورواية ورش عن نافع هي تسهيل الأخيرة منهما بين بين من غير إدخال ألف. وهذه هي قراءة ابن كثير وورش فابن كثير وورش يسهلان ولا يدخلان.
وقرأ هشام عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين، وبينهما ألف الإدخال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين من غير ألف الإدخال، هذه هي القراءات الصحيحة، في مثل ﴿ أَإذَا ﴾ و ﴿ أإنا ﴾ ونحو ذلك في القرآن.
تنبيه
اعلم وفقني الله وإياك أن ما جرى في الأقطار الإفريقية من إبدال الأخيرة من هذه الهمزة المذكورة وأمثالها في القرآن هاء خالصة من أشنع المنكر وأعظم الباطل، وهو انتهاك لحرمة القرآن العظيم، وتعد لحدود الله، ولا يعذر فيه إلا الجاهل الذي لا يدري، الذي يظن أن القراءة بالهاء الخالصة صحيحة، وإنما قلنا هذا لأن إبدال الهمزة فيما ذكر هاء خالصة لم يروه أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل عليه به جبريل البتة، ولم يرو عن صحابي ولم يقرأ به أحد من القراء، ولا يجوز بحال من الأحوال، فالتجرؤ على الله بزيادة حرف في كتابه، وهو هذه الهاء التي لم ينزل بها الملك من السماء البتة، هو كما ترى، وكون اللغة العربية قد سمع فيها إبدال الهمزة هاء لا يسوغ التجرؤ على الله بإدخال حرف في كتابه. لم يأذن بإدخاله الله ولا رسوله.
ودعوى أن العمل جرى بالقراءة بالهاء لا يعول عليها، لأن جريان العمل بالباطل باطل، ولا أسوة في الباطل بإجماع المسلمين، وإنما الأسوة في الحق، والقراءة سنة متبعة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا خلاف فيه.
وقوله تعالى :﴿ مِتْنَا ﴾، وقرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو وشعبة عن عاصم متنا بضم الميم وقرأه نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿ مِتْنَا ﴾ بكسر الميم، وقد قدمنا مسوغ كسر الميم لغة في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى :﴿ يا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَـذَا ﴾.
لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين في الآية المتقدمة، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبراً مؤكداً بأن الأولين والآخرين كلهم مجموعون يوم القيامة للحساب والجزاء بعد بعثهم.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من بعث الأولين والآخرين وجمعهم يوم القيامة جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [ التغابن : ٩ ]، وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [ النساء : ٨٧ ] وقوله تعالى :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ آل عمران : ٩ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ ﴾ [ هود : ١٠٣ ] وقوله تعالى :﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ والأولين ﴾ [ المرسلات : ٣٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ].
وقد قدمنا هذا موضحاً في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ [ الحجر : ١٧ ].
لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين في الآية المتقدمة، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبراً مؤكداً بأن الأولين والآخرين كلهم مجموعون يوم القيامة للحساب والجزاء بعد بعثهم.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من بعث الأولين والآخرين وجمعهم يوم القيامة جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [ التغابن : ٩ ]، وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [ النساء : ٨٧ ] وقوله تعالى :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ آل عمران : ٩ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ ﴾ [ هود : ١٠٣ ] وقوله تعالى :﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ والأولين ﴾ [ المرسلات : ٣٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ].
وقد قدمنا هذا موضحاً في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ [ الحجر : ١٧ ].
قد قدمنا إيضاح هذا وتفسير في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾ [ الصافات : ٦٧ ].
قد قدمنا إيضاح هذا وتفسير في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾ [ الصافات : ٦٧ ].
قد قدمنا إيضاح هذا وتفسير في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾ [ الصافات : ٦٧ ].
قد قدمنا إيضاح هذا وتفسير في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾ [ الصافات : ٦٧ ].
قد قدمنا إيضاح هذا وتفسير في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾ [ الصافات : ٦٧ ].
النزل بضمتين : هو رزق الضيف الذي يقدم له عند نزوله إكراماً له، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ﴾ [ الكهف : ١٠٧ ]، وربما استعملت العرب النزول في ضد ذلك على سبيل التهكم والاحتقار، وجاء القرآن باستعمال النزول فيما يقدم لأهل النار من العذاب كقوله هنا : في عذابهم المذكور في قولهم :﴿ لآكلون مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ ﴾ إلى قوله ﴿ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ ﴾ [ الواقعة : ٥٢ -٥٦ ] أي هذا العذاب المذكور هو ضيافتهم ورزقهم المقدم لهم عند نزولهم في دارهم التي هي النار، كقوله تعالى للكافر الحقير الذليل :﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ [ الدخان : ٤٩ ].
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إطلاق النزول على عذاب أهل النار، جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله في آخر هذه السورة الكريمة :﴿ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيم ٍوَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴾ [ الواقعة : ٩٣ -٩٤ ]، وقوله تعالى في آخر الكهف :﴿ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً ﴾ [ الكهف : ١٠٢ ]، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي السعد الضبي :
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا | جعلنا القنا والمرهفات له نزلاً |
لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين، وأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه تعالى باعث جميع الأولين والآخرين، وذكر جزاء منكري البعث بأكل الزقوم وشرب الحميم، أتبع ذلك بالبراهين القاطعة الدالة على البعث فقال : نحن خلقناكم هذا الخلق الأول فلولا تصدقون. أي فهل لا تصدقون بالبعث الذي هو الخلق الثاني، لأن إعادة الخلق لا يمكن أن تكون أصعب من ابتدائه كما لا يخفى.
وهذا البرهان على البعث بدلالة الخلق الأول على الخلق الثاني، جاء موضحاً في آيات كثيرة جداً كقوله تعالى ﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ]، وقوله :﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ]، وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحج : ٥ ] وقوله تعالى :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ يس : ٧٩ ]، وقوله تعالى :﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الإسراء : ٥١ ]، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقد ذكرناها بإيضاح وكثرة في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة والنحل والحج والجاثية، وغير ذلك من المواضع وأحلنا عليها كثيراً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ ﴾، لولا حرف تحضيض، ومعناه الطلب بحث وشدة، فالآية تدل على شدة حث الله للكفار وحضه لهم على التصديق بالبعث لظهور برهانه القاطع الذي هو خلقه لهم أولاً.
قد قدمنا قريباً كلام أهل العلم في همزة الاستفهام المتبوعة بأداة عطف، وذكرنا قبل هذا مراراً، وقوله تعالى :﴿ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ ﴾ يعني أفرأيتم ما تصبونه من المني في أرحام النساء، فلفظة ما موصولة، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد إلى الصفة محذوف، لأنه منصوب بفعل، والتقدير : أفرأيتم ما تمنونه، والعرب تقول : أمنى النطفة بصيغة الرباعي، يمنيها بضم حرف المضارعة، إذا أراقها في رحم المرأة، ومنه قوله تعالى :﴿ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ﴾ [ النجم : ٤٦ ] ومنى يمنى بصيغة الثلاثي لغة صحيحة. إلا أن القراءة بها شاذة.
وممن قرأ تمنون بفتح التاء مضارع في الثلاثي المجرد، أبو السمال وابن السميقع،
هذا البرهان الدال على البعث الذي هو خلق الإنسان من نطفة مني تمنى، يجب على كل إنسان النظر فيه، لأن الله جل وعلا وجه صفة الأمر بالنظر فيه إلى مني الإنسان، والأصل في صيغة الأمر على التحقيق الوجوب إلا لدليل صارف عنه، وذلك في قوله تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَـانُ مِمَّ خُلِق َخُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ ﴾ [ الطارق : ٥ -٦ ]، وقد قدمنا شرحها في أول سورة النحل، وقرأ هذا الحرف نافع، ﴿ أَفَرَأيْتُمْ ﴾ بتسهيل الهمزة بعد الراء بين بين.
والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عنه إبدال الهمزة ألفاً وإشباعها لسكون الياء بعدها.
وقرأ الكسائي :﴿ أَفَرَأيْتُمْ ﴾ بحذف الهمزة، وقرأه باقي السبعة بتحقيق الهمزة.
وقوله تعالى :﴿ أَأنتُمْ ﴾ قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر في إحدى الروايتين بتسهيل الهمزة الثانية، والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عن نافع إبدال الثانية ألفاً مشبعاً مدها لسكون النون بعدها، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وهشام عن ابن عامر في الرواية الأخرى بتحقيق الهمزتين، وقالون، وأبو عمرو وهشام بألف الإدخال بين الهمزتين والباقون بدونها.
وهذا الذي تضمنته هذه الآية من البراهين القاطعة على كمال قدرة الله على البعث وغيره، وعلى أنه المعبود وحده، ببيان أطوار خلق الإنسان، جاء موضحاً في آيات أخر، وقد قدمنا الكلام على ذلك مستوفىً بالآيات القرآنية، وبينا ما يتعلق بكل طور من أطواره من الأحكام الشرعية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحج : ٥ ] الآية.
وذكرنا أطوار خلق الإنسان في سورة الرحمان أيضاً في الكلام على قوله تعالى :﴿ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾ [ الرحمان : ٣ -٤ ] وفي غير ذلك من المواضع.
وبينا الآيات الدالة على أطوار خلقه جملة وتفصيلاً في الحج.
هذا البرهان الدال على البعث الذي هو خلق الإنسان من نطفة مني تمنى، يجب على كل إنسان النظر فيه، لأن الله جل وعلا وجه صفة الأمر بالنظر فيه إلى مني الإنسان، والأصل في صيغة الأمر على التحقيق الوجوب إلا لدليل صارف عنه، وذلك في قوله تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَـانُ مِمَّ خُلِق َخُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ ﴾ [ الطارق : ٥ -٦ ]، وقد قدمنا شرحها في أول سورة النحل، وقرأ هذا الحرف نافع، ﴿ أَفَرَأيْتُمْ ﴾ بتسهيل الهمزة بعد الراء بين بين.
والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عنه إبدال الهمزة ألفاً وإشباعها لسكون الياء بعدها.
وقرأ الكسائي :﴿ أَفَرَأيْتُمْ ﴾ بحذف الهمزة، وقرأه باقي السبعة بتحقيق الهمزة.
وقوله تعالى :﴿ أَأنتُمْ ﴾ قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر في إحدى الروايتين بتسهيل الهمزة الثانية، والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عن نافع إبدال الثانية ألفاً مشبعاً مدها لسكون النون بعدها، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وهشام عن ابن عامر في الرواية الأخرى بتحقيق الهمزتين، وقالون، وأبو عمرو وهشام بألف الإدخال بين الهمزتين والباقون بدونها.
قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير ابن كثير
﴿ قَدَّرْنَا ﴾ بتشديد الدال، وقرأه ابن كثير بتخفيفها، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها وجهان أو أكثر من التفسير، ويكون كل ذلك صحيحاً، وكله يشهد له قرآن، فنذكر الجميع وأدلته من القرآن، ومن ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك أن قوله ﴿ قَدَّرْنَا ﴾ وجهين من التفسير وفيما تتعلق به ﴿ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ ﴾ وجهان أيضاً، فقال بعض العلماء : وهو اختيار ابن جرير أن قوله ﴿ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ﴾ أي قدرنا لموتكم آجالاً مختلفة وأعماراً متفاوتة فمنكم من يموت صغيراً ومنكم من يموت شاباً، ومنكم من يموت شيخاً.
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى ﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾ [ الحج : ٥ ] وقوله تعالى ﴿ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [ غافر : ٦٧ ] وقوله تعالى ﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ في كِتَابٍ ﴾ [ فاطر : ١١ ] وقوله تعالى ﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ ﴾ [ المنافقون : ١١ ] وقوله ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ أي ما نحن بمغلوبين، والعرب تقول : سبقه على كذا أي غلبه عليه وأعجزه عن إدراكه أي وما نحن بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددناه من أعماركم فلا يقدر أحد أن يقدم أجلاً أخرناه ولا يؤخر أجلاً قدمناه.
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ] وقوله تعالى ﴿ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ ﴾ [ نوح : ٤ ] الآية، وقوله تعالى ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ﴾ [ آل عمران : ١٤٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول، فقوله تعالى :﴿ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ﴾ ليس متعلقاً بمسبوقين بل بقوله تعالى :﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ﴾ والمعنى : نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم، أي نبدل من الذين ماتوا أمثالاً لهم نوجدهم.
وعلى هذا، فمعنى تبديل أمثالهم إيجاد آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٣٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير، وقراءة قدرنا بالتشديد مناسبة لهذا الوجه، وكذلك لفظة بينكم.
الوجه الثاني : أن قدرنا بمعنى قضينا وكتبنا أي كتبنا الموت وقدرناه على جميع الخلق، وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]، وقوله تعالى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [ آل عمران : ١٨٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ ﴾ [ الفرقان : ٥٨ ]، وعلى هذا القول فقوله :﴿ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ ﴾ : متعلق بمسبوقين أي ما نحن مغلوبين والمعنى وما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناكم لو شئنا فنحن قادرون على إهلاككم، ولا يوجد أحد يغلبنا ويمنعنا من خلق أمثالكم بدلاً منكم.
وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بآخرين وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً ﴾ [ النساء : ١٣٣ ] وقوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ ﴾ [ الأنعام : ١٣٣ ]، وقوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٩ -٢٠ ]. وقوله تعالى :﴿ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ٣٨ ]، وقد قدمنا هذا في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ الآية. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَنُنشِئَكُمْ في مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، فيه للعلماء أقوال متقاربة.
قال بعضهم : ننشئكم بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور والهيئات، كأن ننشئكم قردة وخنازير، كما فعلنا ببعض المجرمين قبلكم.
وقال بعضهم : ننشئكم فيما لا تعلمونه من الصفات، فنغير صفاتكم ونجمل المؤمنين ببياض الوجوه، ونقبح الكافرين بسواد الوجوه وزرقة العيون. إلى غير ذلك من الأقوال.
تضمنت هذه الآية الكريمة برهاناً قاطعاً ثانياً على البعث وامتناناً عظيماً على الخلق بخلق أرزاقهم لهم، فقوله تعالى :﴿ أَفَرَأيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ﴾، يعني أفرأيتم البذر الذي تجعلونه في الأرض بعد حرثها أي تحريكها وتسويتها.
اعلم أنه يجب على كل إنسان أن ينظر في هذا البرهان الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، لأن الله جل وعلا وجه في كتابه صيغة أمر صريحة عامة في كل ما يصدق عليه مسمى الإنسان بالنظر في هذا البرهان العظيم المتضمن للامتنان، لأعظم النعم على الخلق، وللدلالة على عظم الله وقدرته على البعث وغيره، وشدة حاجة خلقه إليه مع غناه عنهم، وذلك قوله تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَـانُ إِلَى طَعَامِهِ أنا صببنا الماء صبا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّا ًفَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّا ًوَعِنَباً وَقَضْبا ًوَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْبا ًوَفَـاكِهَةً وَأَبّا ًمَّتَـاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم ﴾ [ عبس : ٢٤ -٣٢ ].
والمعنى : انظر أيها الإنسان الضعيف إلى طعامك كالخبز الذي تأكله ولا غنى لك عنه، من هو الذي خلق الماء الذي صار سبباً لإنباته هل يقدر أحد غير الله على خلق الماء ؟ أي إبرازه من أصل العدم إلى الوجود. ثم هب أن الماء خلق، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله على هذا الأسلوب الهائل العظيم الذي يسقى به الأرض من غير هدم ولا غرق ؟ ثم هب أن الماء نزل في الأرض من هو الذي يقدر على شق الأرض عن مسار الزرع ؟ ثم هب أن الزرع طلع، فمن هو الذي يقدر على إخراج السنبل منه ؟ ثم هب أن السنبل خرج منه، فمن هو الذي يقدر على إنبات الحب فيه وتنميته حتى يدرك صالحاً للأكل ؟ ﴿ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ في ذلِكُمْ لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩٩ ]، والمعنى : انظروا إلى الثمر وقت طلوعه ضعيفاً لا يصلح للأكل، وانظروا إلى ينعه، أي انظروا إليه بعد أن صار يانعاً مدركاً صالحاً للأكل، تعلموا أن الذي رباه ونماه حتى صار كما ترونه وقت ينعه قادر على كل شيء منعم عليكم عظيم الأنعام، ولذا قال :﴿ إِنَّ في ذلِكُمْ لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾، فاللازم أن يتأمل الإنسان وينظر في طعامه ويتدبر قوله تعالى :﴿ ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض ﴾ أي عن النبات شقاً إلى آخر ما بينا.
والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقد قدمناها مستوفاة مع سائر آيات براهين البعث في مواضع كثيرة في سورة البقرة والنحل والجاثية، وغير ذلك من المواضع، وأحلنا عليها مراراً.
اعلم أنه يجب على كل إنسان أن ينظر في هذا البرهان الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، لأن الله جل وعلا وجه في كتابه صيغة أمر صريحة عامة في كل ما يصدق عليه مسمى الإنسان بالنظر في هذا البرهان العظيم المتضمن للامتنان، لأعظم النعم على الخلق، وللدلالة على عظم الله وقدرته على البعث وغيره، وشدة حاجة خلقه إليه مع غناه عنهم، وذلك قوله تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَـانُ إِلَى طَعَامِهِ أنا صببنا الماء صبا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّا ًفَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّا ًوَعِنَباً وَقَضْبا ًوَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْبا ًوَفَـاكِهَةً وَأَبّا ًمَّتَـاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم ﴾ [ عبس : ٢٤ -٣٢ ].
والمعنى : انظر أيها الإنسان الضعيف إلى طعامك كالخبز الذي تأكله ولا غنى لك عنه، من هو الذي خلق الماء الذي صار سبباً لإنباته هل يقدر أحد غير الله على خلق الماء ؟ أي إبرازه من أصل العدم إلى الوجود. ثم هب أن الماء خلق، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله على هذا الأسلوب الهائل العظيم الذي يسقى به الأرض من غير هدم ولا غرق ؟ ثم هب أن الماء نزل في الأرض من هو الذي يقدر على شق الأرض عن مسار الزرع ؟ ثم هب أن الزرع طلع، فمن هو الذي يقدر على إخراج السنبل منه ؟ ثم هب أن السنبل خرج منه، فمن هو الذي يقدر على إنبات الحب فيه وتنميته حتى يدرك صالحاً للأكل ؟ ﴿ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ في ذلِكُمْ لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩٩ ]، والمعنى : انظروا إلى الثمر وقت طلوعه ضعيفاً لا يصلح للأكل، وانظروا إلى ينعه، أي انظروا إليه بعد أن صار يانعاً مدركاً صالحاً للأكل، تعلموا أن الذي رباه ونماه حتى صار كما ترونه وقت ينعه قادر على كل شيء منعم عليكم عظيم الأنعام، ولذا قال :﴿ إِنَّ في ذلِكُمْ لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾، فاللازم أن يتأمل الإنسان وينظر في طعامه ويتدبر قوله تعالى :﴿ ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض ﴾ أي عن النبات شقاً إلى آخر ما بينا.
قال بعض العلماء : المعنى فظلتم تعجبون من تحطيم زرعكم.
وقال بعض العلماء : تفكهون بمعنى تندمون على ما خسرتم من الإنفاق عليه كقوله تعالى :﴿ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا ﴾ [ الكهف : ٤٢ ].
وقال بعض العلماء : تندمون على معصية الله التي كانت سبباً لتحطيم زرعكم، والأول من الوجهين في سبب الندم هو الأظهر.
تضمنت هذه الآية الكريمة امتناناً عظيماً على خلقه بالماء الذي يشربونه، وذلك أيضاً آية من آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته وشدة حاجة خلقه إليه، والمعنى : أفرأيتم الماء الذين تشربون الذي لا غنى لكم عنه لحظة ولو أعدمناه لهلكتم جميعاً في أقرب وقت.
والجواب الذي لا جواب غيره هو أنت يا ربنا هو منزله من المزن، ونحن لا قدرة لنا على ذلك. فيقال لهم : إذا كنتم في هذا القدر من شدة الحاجة إليه تعالى فلم تكفرون به وتشربون ماءه وتأكلون رزقه وتعبدون غيره، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الامتنان على الخلق بالماء وأنهم يلزمهم الإيمان بالله وطاعته شكراً لنعمة هذا الماء، كما أشار له هنا بقوله :﴿ فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾ جاء في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٢٢ ]، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِي كَثِيراً ﴾ [ الفرقان : ٤٨ -٤٩ ]. وقوله تعالى :﴿ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً ﴾ [ المرسلات : ٢٧ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ في الأرض ﴾ وقوله تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرض ﴾ [ الزمر : ٢١ ] وقد قدمنا هذا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى ﴿ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَـازِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٢٢ ] وفي سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ [ سبأ : ٢ ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾ فلولا بمعنى هلا، وهي حرف تحضيض، وهو الطلب بحث وحض والمعنى أنهم يطلب منهم شكر هذا المنعم العظيم بحث وحض.
واعلم أن الشكر يطلق من العبد لربه ومن الرب لعبده.
فشكر العبد لربه، ينحصر معناه في استعماله جميع نعمه فيما يرضيه تعالى، فشكر نعمة العين ألا ينظر بها إلا ما يرضي من خلقها، وهكذا في جميع الجوارح، وشكر نعمة المال أن يقيم فيه أوامر ربه ويكون مع ذلك شاكر القلب واللسان، وشكر العبد لربه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى هنا :﴿ فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾ وقوله تعالى ﴿ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [ البقرة : ١٥٢ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما شكر الرب لعبده فهو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، ومنه قوله تعالى ﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ١٥٨ ] وقوله تعالى ﴿ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [ فاطر : ٣٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه تعالى. لو شاء لجعل الماء غير صالح للشراب، جاء معناه في آيات أخر كقوله تعالى ﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ﴾ [ الملك : ٣٠ ] وقوله تعالى ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ في الأرض وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٨ ] لأن الذهاب بالماء وجعله غوراً لم يصل إليه وجعله أجاجاً، كل ذلك في المعنى سواء بجامع عدم تأتي شرب الماء، وهذه الآيات المذكورة تدل على شدة حاجة الخلق إلى خالقهم كما ترى.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ في الأرض ﴾ وقوله تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرض ﴾ [ الزمر : ٢١ ] وقد قدمنا هذا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى ﴿ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَـازِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٢٢ ] وفي سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ [ سبأ : ٢ ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾ فلولا بمعنى هلا، وهي حرف تحضيض، وهو الطلب بحث وحض والمعنى أنهم يطلب منهم شكر هذا المنعم العظيم بحث وحض.
واعلم أن الشكر يطلق من العبد لربه ومن الرب لعبده.
فشكر العبد لربه، ينحصر معناه في استعماله جميع نعمه فيما يرضيه تعالى، فشكر نعمة العين ألا ينظر بها إلا ما يرضي من خلقها، وهكذا في جميع الجوارح، وشكر نعمة المال أن يقيم فيه أوامر ربه ويكون مع ذلك شاكر القلب واللسان، وشكر العبد لربه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى هنا :﴿ فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾ وقوله تعالى ﴿ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [ البقرة : ١٥٢ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما شكر الرب لعبده فهو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، ومنه قوله تعالى ﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ١٥٨ ] وقوله تعالى ﴿ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [ فاطر : ٣٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه لغوي
اعلم أن مادة الشكر تتعدى إلى النعمة تارة، وإلى المنعم أخرى، فإن عديت إلى النعمة تعدت إليها بنفسها دون حرف الجر كقوله تعالى ﴿ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ ﴾ [ النحل : ١٩ ] الآية، وإن عديت إلى المنعم تعدت إليه بحرف الجر الذي هو اللام كقولك : نحمد الله ونشكر له، ولم تأت في القرآن معداة إلا باللام، كقوله ﴿ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ وقوله ﴿ أَنِ اشْكُرْ لي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ [ لقمان : ١٤ ] وقوله ﴿ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧٢ ] وقوله ﴿ فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٧ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه هي اللغة الفصحى، وتعديتها للمفعول بدون اللام لغة لا لحن، ومن ذلك قول أبي نخيلة :
شكرتك إن الشكر حبل من اتقى | وما كل من أوليته نعمة يقضى |
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما | على عذبة الأنياب طيبة النشر |
فإنكما إن عجتما لي ساعة | شكرتكما حتى أغيب في قبري |
قوله تعالى :﴿ التي تُورُونَ ﴾ أي توقدونها من قولهم : أورى النار إذا قدحها وأوقدها، والمعنى : أفرأيتم النار التي توقدونها من الشجر أأنتم أنشأتم شجرتها التي توقد منها، أي أوجدتموها من العدم ؟
والجواب الذي لا جواب غيره : أنت يا ربنا هو الذي أنشأت شجرتها، ونحن لا قدرة لنا بذلك فيقال : كيف تنكرون البعث وأنتم تعلمون أن من أنشأ شجرة النار وأخرجها منها قادر على كل شيء ؟ وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون خلق النار من أدلة البعث، وجاء موضحاً في يس في قوله تعالى ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأخضر نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ ﴾ [ يس : ٧٩ – ٨٠ ] فقوله في آخر يس ﴿ تُوقِدُونَ ﴾ هو معنى قوله في الواقعة :﴿ تُورُونَ ﴾ وقوله في آية يس ﴿ الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأخضر نَاراً ﴾ بعد قوله ﴿ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ دليل واضح على أن خلق النار من أدلة البعث.
وقوله تعالى ﴿ وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ ﴾ أي منفعة للنازلين بالقواء من الأرض، وهو الخلاء والفلاة التي ليس بها أحد، وهم المسافرون، لأنهم ينتفعون بالنار انتفاعاً عظيماً في الاستدفاء بها والاستضاءة وإصلاح الزاد.
وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون اللفظ وارداً للامتنان. وبه تعلم أنه لا يعتبر مفهوماً للمقوين، لأنه جيء به للامتنان أي وهي متاع أيضاً لغير المقوين من الحاضرين بالعمران، وكل شيء خلا من الناس يقال له أقوى، فالرجال إذا كان في الخلا قيل له : أقوى. والدار إذا خلت من أهلها قيل لها أقوت.
ومنه قول نابغة ذبيان :
يا دار مية بالعلياء فالسند | أقوت وطال عليها سالف الأبد |
حيت من طلل تقادم عهده | أقوى وأقفر بعد أم الهيثم |
قد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم.
قد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم.
أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة، وأكد إخباره بأن هذا القرآن العظيم هو حق اليقين، وأمر نبيه بعد ذلك بأن يسبح باسم ربه العظيم.
وهذا الذي تضمنته هذه الآية ذكره الله جل وعلا في آخر سورة الحاقة في قوله في وصفه للقرآن ﴿ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِين َوَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِين ِفَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [ الحاقة : ٥٠- ٥٢ ]، والحق هو اليقين.
وقد قدمنا أن إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين أسلوب عربي، وذكرنا كثرة وروده في القرآن وفي كلام العرب، ومنه في القرآن قوله تعالى ﴿ وَلَدَارُ الآخرة ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] ولدار هي الآخرة وقوله ﴿ وَمَكْرَ السَّيِّيءِ ﴾ [ فاطر : ٤٣ ]، والمكر هو السييء بدليل قوله بعده :﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّيءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ [ فاطر : ٤٣ ].
وقوله :﴿ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ ق : ١٦ ] والحبل هو الوريد، وقوله :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] والشهر هو رمضان.
ونظير ذلك من كلام العرب قول امرىء القيس.
كبكر المقانات البياض بصفرة | غذاها نمير الماء غير المخلل |
وقول عنترة :
ومشك سابغة هتكت فروجها | بالسيف عن حامي الحقيقة معلم |
وإن يكونا مفردين فأضف | حتماً وإلا أتبع الذي ردف |
ولا يضاف اسم لما به اتحد | معنى وأول موهما إذا ورد |
ويدل له تصريحهم بلزوم إضافة الاسم إلى اللقب إن كانا مفردين نحو سعيد كرز، لأن ما لا بد له من تأويل لا يمكن أن يكون هو اللازم كما ترى، فكونه أسلوباً أظهر.
وقوله :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ﴾ [ الحج : ٢٥ ] أي إلحاداً إلى آخر ما قدمنا من الأدلة الكثيرة، وعليه، فالمعنى : سبح اسم ربك العظيم كما يوضحه قوله في الأعلى ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى ﴾ [ الأعلى : ١ ].
وقال القرطبي : الاسم هنا بمعنى المسمى، أي سبح ربك، وإطلاق الاسم بمعنى المسمى معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما | ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر |
ولسنا نريد أن نذكر كلام المتكلمين في الاسم والمسمى، هل الاسم هو المسمى أو لا ؟ لأن مرادنا هنا بيان معنى الآية، والعلم عند الله تعالى.