تفسير سورة الحشر

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة :
هذه السورة مدينة وآياتها أربع وعشرون. وهي سورة بني النضير، وذلك لكبير المجال الذي احتله الحديث عنهم في السورة، على أن بني النضير فئة من اليهود أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى خارج المدينة، إذ ذهب بعضهم إلى خيبر، وذهب آخرون إلى أرض الشام وهي من أرض المحشر يوم القيامة. ولقد أخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم بما نقضوه من المواثيق وخيانتهم للعهود.
وفي السورة بيان بالفيء من حيث معناه وحكمه وكيفية تقسيمه. وهو المال المأخوذ من المشركين من غير قتال، إذ ينتزع المسلمون منهم المال الفاضل عن حاجتهم عقب قتالهم والتغلب عليهم. وذلك لإضعافهم وثنيهم عن قتال المسلمين، ذلك أن الظالمين يتقوون بالمال على حرب الإسلام والمسلمين. فهم بالمال يستطيعون أن يملكوا وسائل الحرب والقتال من السلاح بمختلف أصنافه وغير ذلك من أسباب القتال ولوازمه لا جرم أن المال في أيدي المشركين الظالمين لهو وسيلة أساسية وكبرى تمكنهم من العدوان على المسلمين وإشاعة الشر والأذى والإرهاب والأراجيف في الأرض، فإذا انتزعت منهم هذه الوسيلة المؤثرة الخطيرة، قبعوا خاسئين خاضعين خانعين وقد سكنت فيهم بواعث الشر وأخرست فيهم ألسنة السوء من الدعاية الفاجرة الظالمة، والتحريض المدمّر الشرير ومن أجل ذلك كله شرع الإسلام انتزاع المال من أيديهم إلا ما كانوا يحتاجون إليه ليعيشوا في ظل الإسلام آمنين سالمين.

بسم الله الراحمان الرحيم :
﴿ سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ١ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولى الأبصار ٢ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ٣ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ٤ ما قطعتم من لّينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ﴾.
يبين للناس أن كل شيء في السماوات أو في الأرض يعظمه تعظيما ويمجّده تمجيدا، وهو مذعن له بالوحدانية والإلهية وأنه الرب القادر ذو الملكوت، ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ العزيز يعني القوي القاهر المنتقم من الظالمين المتجبرين، وهو الحكيم في تدبير أمور خلقه، وهو قوله سبحانه :﴿ سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ﴾.
قوله :﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ﴾ قال المفسرون : نزلت هذه الآية في بني النضير. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وظهر على المشركين قالت بني النضير : والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية. فلما غزا أحدا وهزم المسلمون نقضوا العهد وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صالحهم على الجلاء من المدينة.
وذكر محمد بن إسحاق في كتابه السيرة : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في ديه ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما. وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا : نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم- فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه. فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال : أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي، ( رضي الله عنهم ) فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى المدينة.
فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال : رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكفّ عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة - يعني السلاح - ففعلوا فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل. فكان الرجل منهم يهدم بيته على نجاف١ بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام ٢.
قوله :﴿ لأول الحشر ﴾ يعني أخرجهم عند أول الحشر فكان هذا أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام، فقد كانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط. وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام. قال ابن عباس : من شك في أن أرض المحشر ههنا الشام فليقرأ هذه الآية ﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ﴾ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " اخرجوا " قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرض المحشر " وقيل : آخر حشرهم حشر يوم القيامة، لأن المحشر يكون بالشام.
قوله :﴿ ما ظننتم أن يخرجوا ﴾ ما ظن المسلمون أن تخرج يهود بهذه السهولة في هذه المدة القصيرة من محاربتهم وهي ستة أيام ومع تمكنهم في حصونهم المنيعة ﴿ وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ﴾ ظنت يهود - واهمين - أن حصونهم القوية البنيان تمنعهم من أمر الله إن نزل بهم بأسه. وقد كان المنافقون بقيادة عبد الله بن أبي ابن سلول يحرّضونهم على الثبات في وجه المسلمين وقد وعدوهم بالتأييد والمناصرة لكنهم سرعان ما تخلوا عنهم فلم يغنوا عنهم من بأس الله شيئا ﴿ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ﴾ أي أتاهم من بأس الله وشديد بلائه ما لم يخطر لهم على بال ﴿ وقذف في قلوبهم الرعب ﴾ ألقى الله في قلوبهم الجزع والفزع وغشيهم من الترعيب والهلع ما غشيهم.
قوله :﴿ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ﴾ كان المسلمون يهدمون ما يليهم من حصون يهود للدخول عليهم. وكان اليهود يخربونها من داخلها قبل رحيلهم عنها. فكان أحدهم ينظر إلى ما يستحسنه في بيته من الخشبة أو العمود أو الباب فينزعه. فاحتملوا من أموالهم وأمتعتهم ما أقلّته افبل فكانوا بذلك يهدمون بيوتهم عن نجاف أبوابها فيضعونها على ظهور الإبل ثم ينطلقون بها راحلين. وذلكم تخريبهم بيوتهم بأيديهم.
قوله :﴿ فاعتبروا ياأولي الأبصار ﴾ يعني اتعظوا يا أهل العقول والنهى واعتبروا مما حل بهؤلاء الظالمين، إذ لم تغنهم حصونهم المنيعة شيئا من بأس الله لما نزل بهم. وقد هدموا بيوتهم فخربوها بأيديهم تخريبا. والله عز وعلا ولي عباده المتقين فهو ناصرهم ومؤيدهم ومخزي الظالمين.
١ نجاف: جمع نجف بالتحريك وهي أرض مستديرة مشرفة على ما حولها. أو التل والنجفة هي أسكفة الباب. انظر القاموس المحيط جـ ٣ ص ٢٠٤..
٢ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٧٨ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣٣١..
قوله :﴿ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ﴾ لولا أن الله كتب على هؤلاء اليهود من بني النضير الجلاء وهو الانتقال أو إخراجهم من أرضهم إلى أرض أخرى لعذبهم في الدنيا بالقتل، ولكن الله رفع عنهم العذاب بالقتل في الدنيا وجعل بدلا منه الجلاء، ﴿ ولهم في الأخرة عذاب النار ﴾ وذلك وعيد من الله لهم بأنهم صائرون إلى النار وبئس المستقر والنّزل.
قوله :﴿ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ﴾ الإشارة عائدة إلى ما حل بهم من قذف الرعب في قلوبهم وإخراجهم من أرضهم وتعذيبهم بالنار في الآخرة، فقد جعل الله ذلك جزاء لهم بسبب مشاقتهم لله ولرسوله بضلالهم وعصيانهم وفسقهم عن سبيل الحق، ﴿ ومن يشاقّ الله فإن الله شديد العقاب ﴾ يشاق بالتشديد أو يشاقق بالتخفيف. والمشاقة والشقاق بمعنى الخلاف والعداوة ١ أي من يعص الله ويخالف أمره ويعاد أولياءه المؤمنين، ﴿ فإن الله شديد العقاب ﴾ توعد الله الذين يخالفون أمره ويسلكون سبيل الضلال والباطل بأن لهم شديد العقاب في النار.
١ مختار الصحاح ص ٣٤٣..
قوله :﴿ ما قطعتم من لّينة أو تركتموها قائمة على أصولها ﴾ اللينة مفرد وجمعه اللين. وهو كل نوع من أنواع النخل سوى العجوة١ والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل حصون بني النضير عقب نقضهم العهد أمر بقطع نخيلهم وإحراقها. واختلفوا في عدد النخلات التي قطعت أو حرقت. فقيل : إن مجموع ما قطعه المسلمون من نخيلهم وأحرقوه ست نخلات. وقيل : قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة وقد أقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
على أن المقصود من قطع النخيل لبني النضير، هو إضعافهم والتضييق عليهم من أجل الخروج. فأخبر الله بعد ذلك أن قطع النخل إنما كان بإذن الله أي بأمره وقدره. وقد كان ذلك ردا لمقالة يهود، إذ بعثوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك تنهى عن الفساد فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله الآية ﴿ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ﴾ أي أن قطعها لم يكن فسادا وإنما كان بأمر الله ليذل الخارجين عن طاعته وهم بنو النضير٢.
١ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٥٠..
٢ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣٣١ –٣٣٣ وتفسير الطبري جـ ٢٨ ص ٢٣، ٢٤..
قوله تعالى :﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ٦ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ﴾.
يبين الله في هذه الآية حقيقة الفيء وحكمه، فهو المال المأخوذ من الكافرين من غير قتال كأموال بني النضير فإن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ولم يقاتلوهم عليها بالمبارزة أو اللقاء، بل خرج بنو النضير إلى الشام وخيبر بعد أن قذف الله في قلوبهم الرعب فتولوا تاركين وراءهم أموالهم. وبذلك لم يأخذها المسلمون بالحرب والقتال والشدة. فهذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمها في وجوه الخير من مصالح المسلمين ويأخذ هو منها ما يكفيه وعياله قوت عامه. وهذا الضرب من المال المأخوذ، بخلاف الغنائم التي يستولي عليها المسلمون بالحرب والقتال.
قوله :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾، سأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم أموال بني النضير لهم فنزلت هذه الآية. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير لنفسه خاصة يضعها حيث شاء في مصالح المسلمين فقسمها ( عليه الصلاة والسلام ) بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين وهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمّة. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان وهما : سفيان بن عمير وسعد بن وهب، فقد أسلما على أموالهما فأحرزاها.
وروى مسلم في صحيحه عن عمر قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب وكانت للنبي خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله تعالى ويستدل من الآية أن الفيء هو المال الذي رده الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أو رجعه عليه من بني النضير وأمثالهم من غير إيجاف ولا قتال فحكمه أن يصرف في وجوهه التي بينتها الآية، فهي لله، وهو سبحانه مالك كل شيء، يحكم في ملكوته كما يشاء، ثم للرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه في قوت نفسه وعياله. ثم لذي القربى، وهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب، لأنهم قد منعوا من الصدقات فجعل لهم الحق في الفيء. ثم اليتامى وهم المحاويج من أطفال المسلمين. ثم المساكين وهم أهل الفاقة الذين لا يملكون شيئا. ثم ابن السبيل وهو المنقطع في بلاد الله من المسافرين في غير معصية لله سبحانه. وقيل : ثمة سهم لله سادس، يصرف في وجوه القرب كعمارة المساجد وبناء القناطر و الجسور وغير ذلك من مصالح المسلمين.
قوله :﴿ كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ﴾ يعني قسمنا هذا الفيء الذي أخذتموه من غير قتال لهذه الأصناف المبيّنة في الآية كيلا يكون هذا الفيء متداولا بين الأغنياء من الناس يستأثرون به لأنفسهم دون غيرهم من الفقراء والعالة والمحاويج.
ويستدل من ذلك : كراهة الحصر للأموال فتكون كثيرة مركومة لدى قلة قليلة من الناس دون الأكثرين الفقراء الذين يكابدون القلة والجوع والمسألة. وذلكم تشريع عظيم ومميز لسياسة المال في الإسلام، إذ يستطيع الحاكم بموجبه أن يصطنع من الأساليب في الاقتصاد وتوزيع الثروة ما يحول دون حصر المال والثراء لدى فئة قليلة في المجتمع. لا جرم أن نظام الإسلام في هذه المسألة وغيرها من المسائل، مغاير كليا للنظام الرأسمالي، الذي يقيم الحياة على الحرية المطلقة أو الانمياع في التصرف والسلوك والعلاقات الاجتماعية برمتها. وهو في تصوره للمال يعتمد النظام الربوي أسلوبا أساسيا للكسب وجمع الثروة.
قوله :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ وهذا بعمومه يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو أمر من الله، وأن ما نهى عنه فهو نهي من الله كذلك. وعلى هذا مهما أمر به النبي فإنه يجب فعله، ومهما نهى عنه فإنه يجب اجتنابه. فلا يأمر النبي إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر. وهو ( عليه السلام ) مخوّل من ربه أن يبين للناس ما نزل إليهم من عند الله. فما يصدر عنه من شيء في ذلك إلا هو وحي أوحى الله به إليه، فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل " فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت إليه فقالت : بلغني أنك قلت كيت وكيت. قال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله. فقالت : إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته. فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ قالت : بلى. قال : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ".
قوله :﴿ واتقوا الله إن الله شديد العقاب ﴾ أي خافوا الله في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وزواجره، فإن عقابه شديد، وأخذه أليم وجيع لمن عصاه ونكل عن طاعته فخالف أمره١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٣٦ وتفسير القرطبي جـ ١٨ ص ١٢- ١٥ وأحكام القرآن للجصاص جـ ٥ ص ٣٢٠ -٣١٧ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٥ ص ١٧٥٦- ١٧٦١..
قوله تعالى :﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ٨ والذين تبوّءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتو ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ٩ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ١٠ ﴾.
ذلك ثناء من الله وإطراء للمهاجرين والأنصار. فالأولون تركوا الأهل والديار طلبا لمرضاة ربهم، والآخرون استقبلوهم في دارهم وأحسنوا استقبالهم فكانوا بعظيم تكريمهم لهم وبالغ إتحافهم إياهم، مثالا للكرم والتواضع والإيثار والمناصرة مما ليس له في تاريخ الأمم والشعوب نظير.
وههنا يقول الله عز وجل وعلا : ائتمروا بما أمركم به الله من صرف الفيء وجوهه المذكورة كيلا يكون متداولا بين الأغنياء منكم بل يكون للفقراء المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم وعشيرتهم. وإنما خرجوا من ديارهم ابتغاء مرضاة الله وحبا في الله ورسوله واستنقاذا لأنفسهم من الشرك والفتنة وظلم الظالمين.
قوله :﴿ أولئك هم الصادقون ﴾ أي الصادقون في أقوالهم وأفعالهم، ذلك أنهم التزموا عقيدة التوحيد قولا وإيمانا واتخذوا دين الله شرعة لهم ومنهاجا.
قوله :﴿ والذين تبوّءو الدار والإيمان من قبلهم ﴾ التبوؤ معناه النزول. أي والذين سكنوا المدينة واتخذوها لهم منازل ﴿ والإيمان ﴾ منصوب بفعل مقدر. أي وقبلوا الإيمان١ وأخلصوا لله دينهم وإيمانهم. والمراد بهم الأنصار، فهم الذين استوطنوا المدينة من قبل أن يهاجر إليها المؤمنون من أهل مكة. ثم وصف الله هؤلاء الأنصار بصفات مميزة ثلاث على سبيل الإطراء لهم والثناء عليهم بما هم أهله من الصدق والبر والسخاء وبذل العون والمساعدة لإخوانهم المهاجرين فقال :﴿ يحبون من هاجر إليهم ﴾ أي أن الأنصار يحبون الذين أتوهم مهاجرين من مكة وقد تركوا وراءهم المال والأهل والوطن. فهم يحبونهم حبا خالصا لوجه الله وذلكم هو الحب الكريم الذي يخالج قلوب المؤمنين الصادقين وهم يحب بعضهم بعضا في الله.
وقال :﴿ ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ﴾ يعني لا يجد الأنصار وهم الذين نزلوا المدينة من قبل المهاجرين شيئا من الحسد في قلوبهم مما أعطي المهاجرون من الفيء، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الفيء بين المهاجرين دون غيرهم من الأنصار باستثناء اثنين أعطاهما لفقرهما، وقيل : باستثناء ثلاثة.
وقال :﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان ربهم خصاصة ﴾ الخصاصة والخصاص بمعنى الفقر٢، أي يقدمون الفقراء والمحاويج على حاجة أنفسهم ﴿ ولو كان بهم خصاصة ﴾ يعني ولو كان بهم حاجة أو فاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم. وقد روى الترميذي عن أبي هريرة : أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته : نوّمي الصّبية وأطفئي السراج وقرّبي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية ﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾. وروي عن أبي هريرة أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى رجل من الأنصار رجلا من أهل الصّفّة فذهب به الأنصاري إلى أهله فقال للمرأة : هل من شيء ؟ قالت : لا، إلا قوت الصبية. قال : فنوّميهم، فإذا ناموا فأتيني فإذا وضعت فاطفيء السراج، ففعلت، وجعل الأنصاري يقدم إلى ضيفه ما بين يديه، ثم غدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لقد عجب من فعالكما أهل السماء " ونزلت الآية٣.
تلك هي شيمة الإيثار المرغوب التي تتجلى في خلق المؤمنين الأتقياء الصادقين الذين أخلصوا دينهم لله وحده فغشي قلوبهم من برد اليقين ما كانوا به أوفياء مخلصين أبرار. إن هذه الفضلية الكريمة، فضيلة الإيثار على النفس إنما تتجلى في خلق المسلمين الغيورين من الطيبين. أولئك الذين صنعهم الإسلام بعقيدته الراسخة السمحة، وتشريعه الوارف المبارك.
إن ذلكم هو الإسلام العظيم الذي يصنع الإنسان الصالح الرفّاف ويخلق الحياة الكريمة الطاهرة الفضلى.
قوله :﴿ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾ يوق، من الوقاية والشح، في اللغة بمعنى البخل من حرص٤. على أن المراد بالشح ههنا في قول العلماء أنه أكل أموال الناس بغير حق. قال ابن مسعود : الشح أن تأكل مال أخيك ظلما أو بغير حقه. وقيل : معناه الظلم. وقيل : ترك الفرائض وانتهاك المحارم. والأظهر من الآية أن المراد بالشح : الضّنّ بالخير وعدم أدائه في وجوهه كالزكاة والصدقة وقرى الضيف وغير ذلك من وجوه الأداء والبذل فيما ينفع الناس أو يدفع عنهم الكروب والحوائج. وفي الخبر عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة " : وفي التنديد بالشح روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " وروى عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش، فإن الله لا يحب الفحش، وإياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ".
قوله :﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ وهم الذين تبرأوا من ذميمة الشح فغلبوا ما أمرتهم به أنفسهم وخالفوا هواهم بإذن الله وتوفيقه فأولئك هم الظافرون الفائزون.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٢٨..
٢ مختار الصحيح ص ١٧٧..
٣ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٨١..
٤ مختار الصحاح ص ٣٣١..
قوله :﴿ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ﴾ وهؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم التابعون للمهاجرين والأنصار بإحسان إلى يوم الدين، فهم المسلمون الذين يدخلون في الإسلام إلى يوم القيامة. وقد قيل : الناس على ثلاثة منازل : المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان أي الأنصار، ثم الذين جاءوا من بعدهم. وهؤلاء قد مدحهم الله بدعائهم لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان. وهو قوله :﴿ يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ﴾ فهم يستغفرون لأنفسهم وللسابقين من المؤمنين. قال ابن عباس : أمر الله بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وقالت عائشة ( رضي الله عنها ) : أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسببتموهم. سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " لاتذهب هذه الأمة حتى يعلن آخرها أولها ".
وعلى هذا فإنه لا يسب الصحابة أو أحدهم إلا فاسق ضال أو كاذب مغرور، فإن من تقوى القلوب أن تذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وألا يذكر ما شجر بينهم على سبيل التجريح أو التنديد أو التشهير.
قوله :﴿ ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ﴾ يعني طهر قلوبنا من الحقد والحسد فلا تجعل فيها بغضا أو حسدا لأحد من المؤمنين ﴿ ربنا إنك رؤوف رحيم ﴾ إنك يا ربنا شديد الرحمة بعبادك ترحم التائبين منهم والمستغفرين١.
١ تفسير القرطبي جـ ١٨ ص ٣١، ٣٢ وتفسير الطبري جـ ٨ ص ٣٠ والكشاف جـ ٤ ص ٨٤..
قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنّكم والله يشهد إنهم لكاذبون ١١ لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار ثم لا ينصرون ١٢ لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ١٣ لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ١٤ كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ١٥ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ١٦ فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاؤا الظالمين ﴾.
يبين الله في ذلك حقيقة المنافقين الكاذبين الذين يكنون في صدورهم الغيظ والكراهية للإسلام والمسلمين فهم يحرّضون الكافرين من أهل الكتب على قتال الرسول والمسلمين، ويعدونهم بالنصرة والتأييد ويحلفون لهم أنهم لن يتخلوا عنهم إذا حوربوا، والله يشهد إنهم لكاذبون. أولئك هم المنافقون المذبذبون الذين يتدسّسون في الظلام ليكيدوا للإسلام والمسلمين كيدا. وهم في كل الأحوال مخذولون مفضوحون، فما يلبثون أن يظهروا وينكشفوا فيعلمهم الناس. فقال سبحانه :﴿ ألم تر الى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ يبين الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن المنافقين وفي طليعتهم عبد الله بن أبي ابن سلول - بعثوا ليهود بني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتالهم - أن اثبتوا لقتال محمد والمسلمين فإنا مؤيدوكم وناصروكم ولن نتخلى عنكم. فلئن قاتلكم المسلمون قاتلنا معكم ولئن أخرجوكم فإنا خارجون معكم. فاغترّ اليهود بهذا القول من المنافقين وانتظروا منهم أن يعينوهم ويقاتلوا معهم لكنهم لم يجدوا منهم شيئا وقد قذف الله في قلوبهم الرعب فتولوا هاربين. وهو قوله :﴿ لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ﴾ يعني لا نطيع أحدا يسألنا أن نخذلكم ونتخلى عنكم، ولكننا معكم في التأييد والمناصرة، ﴿ وإن قوتلتم لننصرنكم ﴾ يعني إن قاتلكم محمد والمسلمون فلسوف نكون معكم لمناصرتكم وتأييدكم. ﴿ والله يشهد إنهم لكاذبون ﴾ الله جل جلاله يشهد أن هؤلاء المنافقين كاذبون فيما وعدوا به بني النضير من العون والنصر.
قوله :﴿ لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ﴾ يعني : لئن أخرج بنو النضير من ديارهم فأجلاهم المسلمون عنها فإن المنافقين غير خارجين معهم. ولئن قاتلهم النبي والمسلمون فإن المنافقين لا يقاتلونهم فينصرون بني النضير. بل إنهم كاذبون فيما وعدوهم به من الخروج معهم والقتال في صفهم ﴿ ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار ﴾ أي لئن نصر المنافقون بني النضير فقاتلوا معهم فلسوف يولون الأدبار هاربين مهزومين ﴿ ثم لا ينصرون ﴾ أي لا ينصر الله بني النضير وإنما الله خادلهم وهازمهم. وقد حصل ذلك كله، إذ لم ينصرهم المنافقون ولم يقدموا لهم نفعا بل أسلموهم وخذلوهم وتخلوا عنهم فكان عاقبتهم الهزيمة والجلاء.
قوله :﴿ لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ﴾ يعني لأنتم أيها المسلمون أعظم خشية وخوفا في قلوب بني النضير من الله. فهم لقلة يقينهم وهوان عقيدتهم وخور عزائمهم يخشونكم أنتم يا معشر المسلمين أكثر مما يخشون ربهم ﴿ ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ وسبب ذلك أنهم لا يقدرون الله حق قدره ولا يجدون لله سلطانا ومهابة في قلوبهم وإنما هم يستخفون بعظمة الله وكبير شأنه وجلاله.
قوله :﴿ لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة ﴾ يعني لا يقاتلكم اليهود مجتمعين إلا وهم متمكنون في حصونهم المنيعة التي يصعب اقتحامها أو اختراقها والسيطرة عليها إلا بسلطان من الله وعونه ومدده ﴿ أو من وراء جدر ﴾ يعني أو يقاتلونكم من خلف حواجز قوية مكينة، يستترون بها ليقاتلوكم من ورائها.
وفي قوله ههنا ﴿ جدر ﴾ بالتنكير لا التعريف ما يثير الانتباه ويلفت النظر.
فهؤلاء القوم لا يجرؤون على قتال المسلمين إلا من خلف جدر صلبة تقيهم الضربات من أمامهم. ولئن كانت الجدر الواقية فيما مضى تعني الحيطان الواقية، فهي في العصر الراهن صفائح سميكة ومتينة من الحديد الصلب الذي تتركب منه الحافلات والناقلات والدبابات. فما كان ليهود أن يجرؤوا على قتال المسلمين في معركة من المعارك إلا أن يحسبوا لذلك كل حساب ثم يقاتلون وهم محصنون في أجواف الدبابات المنيعة الصلبة، يستترون بجدرها الواقية القوية.
قوله :﴿ بأسهم بينهم شديد ﴾ يعني عداوة بعضهم لبعض شديدة فهم فيما بينهم متدابرون وإنما يتناسبون مباغضاتهم فيما بينهم إذا دهمهم العدو لقتالهم أو حزبتهم الشدائد من الخارج.
قوله :﴿ تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ﴾ أي تحسب أن هؤلاء اليهود مؤتلفون متوادون فيما بينهم ولكنهم في الحقيقة، قلوبهم متنافرة متباغضة. فهم أولو أهواء كثيرة ومختلفة فتختلف بذلك قلوبهم. وهم لا يجتمعون إلا ليواجهوا المسلمين في قتال أو حرب وحينئذ يتعارفون ويتلاقون ثم تنقلب قلوبهم في أحوال السلم لتكون متفرقة شتى.
قوله :﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ سبب ضلالهم وفسقهم وما بينهم من المباغضات وتفرق القلوب أنهم ﴿ قوم لا يعقلون ﴾ لا يعلمون أن الصواب في منهج الله الحق وفي سبيله المستقيم. وإنما يتبعون أهواءهم وما تحفزهم إليه شهواتهم ومصالحهم.
قوله :﴿ كمثل الذين من قبلهم قريبا ﴾ كمثل، جار ومجرور، في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره : مثلهم كمثل الذين من قبلهم١. والمراد بالذين من قبلهم بنو قينقاع فقد أمكن الله منهم. وقيل : مشركو قريش، فقد أمكن الله منهم ببدر، أو غيرهم ممن أذاقهم الله العقاب بسبب كفرهم وعدوانهم على المسلمين. فالله فاعل ببني النضير ما فعله بمن قبلهم من الذين أهلكهم الله. فقد ﴿ ذاقوا وبال أمرهم ﴾ أي نكّل الله بهم جزاء كفرهم وعصيانهم ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أعد الله لهم عذاب النار يصلونها يوم القيامة.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٢٩..
قوله :﴿ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ﴾ هذا مثل ضربه الله لليهود ومن وعدهم بالعون والنصرة من المنافقين. حتى إذا ألمت باليهود الصعاب والشدائد وأحاط بهم الحصار من كل جانب تركهم أعوانهم من المنافقين والمنتفعين والعملاء والأتباع، فتخلوا عنهم وأسلموهم لقدرهم القادم المحتوم وأدبروا عنهم إدبارا. وهم في ذلك كمثل الشيطان، إذ يسول للإنسان الشرك والباطل والعصيان وفعل المنكرات حتى إذا دخل هذا الإنسان المغرور فيما سوّله له الشيطان من الكفر والمعاصي تبرأ منه الشيطان وقال :﴿ إني أخاف الله رب العالمين ﴾ يعني أخافه في عونك ونصرتك وتنجيتك مما وقعت فيه من الضلال والعصيان.
قوله :﴿ فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ﴾ أي عقبى الشيطان والإنسان المغرور الذي أضله الله وأغواه فأطاعه وغوى أنهما ماكثان في النار أبدا ﴿ وذلك جزاؤا الظالمين ﴾ الإشارة عائدة إلى خلود الفريقين في النار جزاء كفرهم وإضلالهم. أو جزاء كفر أهل الكتاب وإضلال المنافقين وإغوائهم١.
١ تفسير الطبري جـ ٢٨ ص ٣٣، ٣٤ والكشاف جـ ٤ ص ٨٥..
قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ١٨ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ١٩ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ﴾.
يأمر الله عباده المؤمنين أن يخشوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه والعمل لما بعد الموت وهو قوله :﴿ ولتنظر نفس ما قدمت لغد ﴾ والمراد بغد، يوم القيامة. وقد ذكرت القيامة بغد لشدة قربها ودنو أجلها. وهذه حقيقة لا ريب فيها، فإن الموت آت لا محالة. وإن كل ما هو آت آت. وما على الناس - وهم موقنون بهذه الحقيقة- إلا أن يتقوا ربهم بالتزام شرعه والإذعان لجلاله بالطاعة والامتثال وأن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
قوله :﴿ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ﴾ كرر الأمر بالتقوى لعظيم أهميته وتأثيره ليبين لهم بعد ذلك أنه يعلم ما يفعلون أو يقولون وهو يعلم سرهم ونجواهم.
قوله :﴿ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ﴾ نسوا الله أي تركوا حقه الذي أوجبه عليهم ﴿ فأنساهم أنفسهم ﴾ أي أنساهم حق أنفسهم، إذ لم يسعوا لها بما ينجيها أو يستنقذها من سوء المصير ﴿ أولئك هم الفاسقون ﴾ أي العاصون الخارجون عن طاعة الله١.
١ تفسير الطبري جـ ٢٨ ص ٣٤ والكشاف جـ ٤ ص٨٦..
قوله :﴿ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ﴾ أصحاب النار كافرون فاسقون عصاة، وأصحاب الجنة مؤمنون، ولا يستوي الفريقان. أي لا يستوي هذا وهذا ﴿ أصحاب الجنة هم الفائزون ﴾ الناجون من النار، المكرمون بالجنة.
قوله تعالى :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ٢١ هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم ٢٢ هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشكرون ٢٣ هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ﴾.
يبين الله علو قدر القرآن وعظيم شأنه وأنه ينبغي أن تتدبره العقول وتخشع منه القلوب. فهو الكلام الرباني المعجز بعجيب أسلوبه ونظمه، وجمال وصفه وتركيبه، وكمال مضمونه ومعناه، وحلاوة جرسه وإيقاعه ما يشده البال ويأخذ بالقلوب، ويملك الأسماع. فقال سبحانه :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ﴾ خاشعا متصدعا، منصوبان على الحال، لأن ( رأيت ) ههنا من رؤية البصر١ المعنى : لو أننا أنزلنا هذا القرآن. بجلال قدره وعظيم شأنه وسمو معناه على جبل ذي عقل وفهم لخشع هذا الجبل وتشقق بالرغم من كبير حجمه وصلابة صخره. وذلك مما يجده في القرآن من عجائب تثير في النفس الخشوع والرهبة والورع. فخليق بالإنسان ذي العقل والفهم أن يتفكر في هذا القرآن ليتدبر معانيه فيتعظ ويخشع.
قوله :﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾ المراد بالأمثال، تعريفه جل وعلا بأن الجبال شديدة التعظيم للقرآن وأنها لو أنزل عليها هذا الكتاب الحكيم لخشعت وتصدعت خوفا ورهبة من الله ﴿ لعلهم يتفكرون ﴾ أي ليتفكروا في مثل هذه الأمثال فينيبوا إلى الله مذعنين منقادين.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٣٠..
قوله :﴿ هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ﴾ الذي يخشع ويتصدع من خشيته الجبل هو الله المعبود الذي ليس من إله معبود سواه. وهو سبحانه الذي يعلم السر والعلن، ويعلم المستور والمشهود، ﴿ هو الرحمان الرحيم ﴾ الله رحيم بالخلق، عظيم الرحمة بعباده المؤمنين وهو سبحانه رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
قوله :﴿ هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ﴾ هذه جملة من أسماء الله الحسنى. فهو الله الذي لا معبود سواه وهو، ﴿ الملك ﴾ أي المالك كل شيء ودونه الملوك والجبابرة، ﴿ القدوس ﴾ أي المبارك، الطاهر، ﴿ السلام ﴾ السالم من كل النقائص والعيوب. أو الذي سلم الخلق من ظلمه، ﴿ المؤمن ﴾ الذي يؤمّن المؤمنين من العذاب ويؤمّن خلقه من الظلم، ﴿ المهيمن ﴾ الشهيد على عباده بأعمالهم أو الرقيب عليهم، ﴿ العزيز ﴾ أي القوي الذي لا يغلب ﴿ الجبار ﴾ أي ذو الجبروت والعظمة. أو الذي يجبر خلقه على ما يشاء ﴿ المتكبر ﴾ الذي لا تنبغي الكبرياء لأحد غيره ﴿ سبحان الله عما يشركون ﴾ ينزه الله نفسه عن شرك المشركين.
قوله :﴿ هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى ﴾ الخالق، من الخلق ومعناه التقدير١ فالله الذي يقدر الأشياء على نحو ما يشاء. وهو سبحانه ﴿ البارئ ﴾ يعني المنشئ الموجد. وهو ﴿ المصور ﴾ من التصوير وهو التخطيط والتشكيل. فالمصور الذي يجعل صور الخلق على هيئات مختلفة، ﴿ له الأسماء الحسنى ﴾ وهي الأسماء التي سمى الله بها نفسه. وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله تسعا وتسعين اسما، مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة. وهو وتر يحب الوتر ".
قوله :﴿ يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ﴾ كل شيء في الوجود يسبح بحمد الله فينزهه عن النقائص والعيوب. وهو سبحانه ﴿ العزيز الحكيم ﴾ أي القوي الذي لا يغلب، والحكيم في أفعاله وأقواله وتدبير خلقه٢.
١ المصباح جـ ١ ص ١٩٣..
٢ تفسير الطبري جـ ٢٨ ص ٣٥ – ٣٧ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣٤٤ وفتح القدير جـ ٥ ص ٢٠٨..
Icon