قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظلمات﴾ :«جعل» هنا تتعدى لمفعول واحد لأنها بمعنى خلق، هكذا عبارة النحويين، ظاهرها أنهما مترادفان. إلا أن الزمخشري فرَّق بينهما فقال: «الفرق بين الخَلْق والجَعْل أنَّ الخَلْق فيه معنى التقدير و [في] الجعل معنى التصيير كإنشاء شيء من شيء، أو تصييرِ شيءٍ شيئاً، أو نقلِه من كان إلى مكان، ومن ذلك: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [الأعراف: ١٨٩] ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ لأنَّ الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار» انتهى. وقال الطبري: «جَعَل» هنا هي التي تتصرف في طَرَف الكلام كما تقول: جعلت أفعل كذا، فكأنه: «وجعل إظلامَها وإنارتَها» وهذا لا يشبه كلام أهل اللسان. ولكونها عند
523
أبي القاسم ليست بمعنى «خلق» فسَّرها هنا بمعنى أحدث وأنشأ. وكذا الراغب جعلها بمعنى أوجد.
ثم إن الشيخ اعترض عليه هنا لمَّا استطرد، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر، ومثَّل بقوله: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً﴾ [الزخرف: ١٩] فقال: «وما ذَكَره من أنَّ» جَعَل «بمعنى صَيَّر في قوله: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة﴾ لا يَصِحُّ لأنهم لا يُصَيِّرهم إناثاً، وإنما ذكر بعض النحويين أنها هنا بمعنى سمَّى» قلت: ليس المرادُ بالتصيير التصييرَ بالفعل، بل المراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، وسيأتي لهذا - إن شاء الله - مزيدُ بيان في موضعه. وقد ظهر الفرق بين تخصيص السماوات والأرض بالخَلْق والظلمات والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري. وإنما وَحَّد النور وجَمَع الظلمات لأن النورَ مِنْ جنس واحد وهو النار، والظلمات كثيرة، فإنَّ ما من جِرْمٍ إلا وله ظلُّ، وظلُّه هو الظلمة، وحَسَّن هذا أيضاً أن الصلةَ التي قبلها تقدَّم فيها جَمْعٌ ثم مفردٌ فعطفْتَ هذه عليها كذلك وقد تقدَّم في البقرة الحكمة في جمع السماوات وإفراد الأرض. وقُدِّمت «الظلمات» في الذِّكر لأنه مُوافِقٌ في الوجود؛ إذ الظلمة قبل النور عند الجمهور.
قوله: ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ﴾«ثم» هذه ليست للترتيب الزماني، وإنما هي للتراخي بين الرتبتين، والمراد اسبتعادُ أن يَعْدِلوا به غيرَه مع ما أوضح من
524
الدلالات. وهذه عطفٌ: إمَّا على قوله «الحمد لله» وإما على قوله: «خلق السماوات» قال الزمخشري: «فإن قلت: فما معنى» ثم «؟ قلت: استبعاد أن يَمْتَرُوا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم وميتهم وباعثهم» وقال ابن عطية: «ثم» دالة على ما قُبْح فِعْل الذين كفروا؛ فإنَّ خَلْقه للسماوات والأرض وغيرهما قد تَقَّرر، وآياتِه قد سَطَعَتْ، وإنعامه بذلك قد تبيَّن، ثم مع هذا كله يَعْدِلون به غيره «.
قال الشيخ: «ما قالاه من انها للتوبيخ والاستبعاد ليس بصحيح، لأنها لم تُوضَعْ لذلك، والاستبعادُ والتوبيخُ مستفادٌ من السياق لا من» ثم «، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك، بل» ثم «هنا للمُهْلة في الزمان، وهي عاطفةٌ جملةً اسمية على جملة اسمية». يعني على «الحمد لله». ثم اعترض على الزمخشري في تجويزه أن تكون معطوفةً على «خَلَق» بأنَّ «خَلَق» صلة، فالمعطوفُ عليها يُعطى حكمَها، ولكن ليس ثَمَّ رابطٌ يعود منها على الموصول. ثم قال: «إلا أن يكون على رأيِ مَنْ يَرى الرَّبْطَ بالظاهر كقولهم: أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري» وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أن يُحملَ عليه كتابُ الله «. قلت: الزمخشري إنما يريد العطف ب» ثم «لتراخي ما بين الرتبتين، ولا يريد التراخي في الزمان كما قد صرَّح به هو فيكف يَلْزمُه ما ذَكَرَ مِنَ الخلوِّ عن الرابط، وكيف يَتَخيَّل كونَها للمهلة في الزمان كما ذكر الشيخ؟
قوله: ﴿بِرَبِّهِمْ﴾ يجوز أن يتعلَّق ب» كفروا «فيكون» يُعْدِلون «بمعنى يَميلون عنه، من العُدول، ولا مفعولَ له حينئذ، ويجوز أن يتعلَّ ب» يعدِلون «
525
وقُدِّم للفواصل، وفي الباء حينئذ احتمالان، أحدهما: ان تكون بمعنى عن، و» يَعْدِلون «من العُدول وأيضاً، أي يعدِلون عن ربهم إلى غيره. والثاني: أنها للتعدية، ويَعْدِلون من العَدْل وهو التسوية بين الشيئين، أي: ثم الذين كفروا يُسَوُّوْن بربهم غيرَه من المخلوقين، فيكون المفعول محذوفاً.
قوله تعالى: ﴿مِّن طِينٍ﴾ : فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلِّقٌ ب «خَلَقكم» و «مِنْ» لابتداء الغاية. والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حال، وهل يُحتاج في هذا الكلام إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟ خلاف: ذهب جماعة كالمهدويِّ ومكي وجماعة إلى أنه لا حَذْفَ، وأن الإِنسان مخلوقٌ من الطين، وروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من مولودٍ يولد إلا ويُذَرُّ على النطفة من تراب حفرته». وقيل: إن النطفة أصلها الطين. وقال غالب المفسرين: ثمَّ محذوفٌ أي: خَلَقَ أَصْلَكم أو أباكم من طينٍ، يعنون آدم وقصته المشهورة. وقال امرؤ القيس:
١٨٥ - ٩- إلى عِرْقِ الثَّرى رَسَخَتْ عُروقي
وهذا الموتُ يَسْلُبُني شبابي
قالوا: أراد بعِرقْ الثرى آدم عليه السلام لأنه أصلُه.
قوله: ﴿ثُمَّ قضى﴾ إن كان «قضى» بمعنى أظهر ف «ثُمَّ» للترتيب الزماني على أصلها؛ لأنَّ ذلك متأخرٌ عن خَلْقِنا وهي صفة فعل، وإن كان بمعنى كَتَب وقَدَّر فهي للترتيب في الذِّكْر؛ لأنها صفة ذات، وذلك مُقَدَّم على خَلْقِنا.
قوله: ﴿وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ مبتدأ وخبر، وسوَّغ الابتداء هنا شيئان، أحدهما: وَصْفُه، والثاني: عَطْفُه، ومجرَّدُ العطف من المسوغات، قال:
١٨٦ - ٠-
526
عندي اصْطِبارٌ وشَكْوى عند قاتلتي
فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
والتنكير في الأجلين للإِبهام. وهنا مُسَوِّغٌ آخر وهو التفصيل كقوله:
١٨٦ - ١- إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له
بشِقٍ وشِقٌ عندنا لم يُحَوَّلِ
ولم يَجِبْ هنا تقديمُ الخبر وإن كان المبتدأ نكرةً والخبر ظرفاً؛ قال الزمخشري: لأنه تخصَّص بالصفةِ فقارَبَ «المعرفةَ، قال الشيخ:» وهذا الذي ذكره من كَوْنِه مُسَوِّغاً للابتداء بالنكرة لكونها وُصِفَتْ لا يتعيَّن، لجواز أن يكون المسوِّغُ التفصيلَ، ثم أنشد البيت: إذا ما بكى «قلت: الزمخشري لم يقلْ إنه تعيَّن ذلك حتى يُلْزِمَه به، وإنما ذكر أشهرَ المسوِّغات فإنَّ العطفَ والتفصيل قَلَّ مَنْ يذكرُهما في المسوِّغات.
قال الزمخشري:» فإن قلت: الكلامُ السائرُ أن يُقال: «عندي ثوب جيِّدٌ، ولي عبدٌ كيِّس» فما أوجب التقديم؟ قلت: أوجبه أن المعنى: وأيُّ أجل مسمَّى عنده، تعظيماً لشأن الساعة، فلمَّا جرى فيه هذا المعنى أوجب التقديم «. قال الشيخ: وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان التقدير: وأيُّ أجل مسمى عنده كانت» أيّ «صفةً لموصوف محذوف تقديره: وأجلٌ أيُّ أجلٍ مسمَّى عنده، ولا يجوز حَذْفُ الصفةِ إذا كانت» أيَّاً «ولا حَذْفُ موصوفِها وإبقاؤها لو قلت: مررت بأيِّ رجل، تريد برجلٍ أيِّ رجل لم يَجُزْ» قلت: ولم أَدْرِ كيف يُؤاخَذُ مَنْ فسَّر معنى بلفظٍ لم يَدَّعِ أن ذلك اللفظَ هو أصل الكلام المفسَّر، بل قال: معناه كيت وكيت، فكيف يَلزمه أن يكون ذلك
527
الكلام الذي فسَّر به هو أصل ذلك المفسَّر؟ على أنه قد وَرَدَ حذفُ موصوفِ «أيّ» وإبقاؤها كقوله:
١٨٦ - ٢- إذا حارب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ
عَلاه بسيفٍ كلما هَزَّ يقطعُ
قوله: ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ قد تقدَّم الكلامُ على «ثم» هذه. وتمترون تَفْتَعُون من المِرْيَة، وتقدَّم معناها في البقرة عند قوله: ﴿مِنَ الممترين﴾ [الآية: ١٤٧] وجَعَلَ الشيخ هذا من باب الالتفات، أعني قوله: «خَلَقَكم ثم أنتم تَمْتَرون» يعني أن قوله ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ﴾ غائبٌ، فالتفت عنه إلى قوله: «خلقكم ثم أنتم». ثم كأنه اعترض على نفسه بأنَّ خَلْقَكم وقضاءَ الأجلِ لا يختصُّ به الكفار، بل المؤمنون مثلُهم في ذلك. وأجاب بأنه إنما قصد الكفار تنبيهاً لهم على خَلْقِه لهم وقدرتَه وقضائه لأجالهم. قال: «وإنما جَعَلْتُه من الالتفات؛ لأن هذا الخطابَ وهو ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ لايمكن أن يندرجَ فيه مَنْ اصطفاه الله بالنبوَّة والإِيمان».
وأصل مُسَمَّى: مُسَمَّوٌ لأنه من مادة الاسم، وقد تقدَّم ذلك فقلبت الواو ياءً، ثم الياء ألفاً. وتمترون أصله تَمْتَرِيُون فأُعِلَّ كنظائر له تقدَّمَتْ.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الله فِي السموات﴾ : في هذه الآية أقوالٌ كثيرة لخَّصْتُ جميعها في اثني عشر وجهاً؛ وذلك أن «هو» فيه قولان، أحدهما: هو ضمير اسم الله تعالى يعود على ما عادت عليه الضمائر قبله والثاني: أنه ضمير القصة، قال أبو عليّ. قال الشيخ: «وإنما فَرَّ إلى هذا
528
لأنه لو أعاده على الله لصار التقدير: الله الله، فتركَّب الكلام من اسمين متَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى لا نسبةَ بينهما إسنادية» قلت: الضمير إنما هو عائد على ما تقدَّم من الموصوف بتلك الصفاتِ الجليلة وهي خَلْقُ السماوات والأرض، وجَعْلُ الظلمات والنور، وخَلْق الناس من طين إلى آخرها، فصار في الإِخبار بذلك، فائدةٌ من غير شك، فعلى قول الجمهور يكون «هو» مبتدأ و «الله» خبره، و «في السماوات» متعلق بنفس الجلالة لما تَضَمَّنَتْه من معنى العبادة كأنه قيل: وهو المعبود في السماوات، وهذا قول الزجاج وابن عطية والزمخشري.
قال الزمخشري: «في السماوات» متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل: وهو المعبود فيها - ومنه: ﴿وَهُوَ الذي فِي السمآء إله﴾ [الزخرف: ٨٤]- أو هو المعروف بالإِلهيَّة والمتوحِّد بالإِلهيَّة فيها، أو هو الذي يقال له «الله» لا يَشْرَكُه في هذا الاسمِ غيره «. قلت: إنما قال:» أو هو المعروف أو هو الذي يقال له الله «لأن هذا الاسم الشريف تقدَّم لك فيه خلاف: هل هو مشتق أو لا؟ فإن كان مشتقاً ظهر تعلُّق الجار به، وإن كان ليس بمشتق: فإمَّا أن يكون منقولاً أو مرتجلاً، وعلى كلا التقديرين فلا يعمل؛ لأن الأعلام لا تعمل فاحتاج أنْ يَتَأوَّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة، فقوله» المعبود «راجع للاشتقاق، وقوله» المعروف «راجع لكونه عَلَماً منقولاً، وقوله» الذي يقال له اللهُ «راجع إلى كونه مرتجلاً، وكأنه -رَحِمه الله - استشعر بالاعتراض المذكور. والاعتراضُ منقولٌ عن الفارسي، قال:» وإذا جَعَلْتَ الظرف
529
متعلقاً باسم الله جاز عندي على قياس مَنْ يقول إن الله أصله الإِله، ومن ذهب بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب أن لا يتعلق به عنده إلا ان تُقَدِّر فيه ضرباً من معنى الفعل «فكأن الزمخشري - والله أعلم - أخذ هذا من قول الفارسيِّ وبَسَطه. إلا أن أبا البقاء نقل عن أبي علي أنه لا يتعلَّق» في «باسم الله لأنه صار بدخول الألف واللام، والتغييرِ الذي دخله كالعلمَ، ولهذا قال تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٦٥]. فظاهرُ هذا النقلِ أنه يمنع التعلُّق به وإن كان في الأصل مشتقاً.
وقال الزجاجُ: «هو متعلِّقٌ بما تضمَّنه اسم الله من لمعاني كقولك» أميرُ المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب «. قال ابن عطية:» هذا عندي أفضل الأقوال وأكثرُها إحرازاً لفصاحة اللفظ، وجزالة المعنى. وإيضاحُه أنه أراد أن يَدَلَّ على خَلْقه وآثارِ قدرته وإحاطته واستيلائه نحو هذه الصفات، فَجَمع هذه كلِّها في قوله: ﴿وَهُوَ الله﴾ أي: الذي له هذه كلُّها في السماوات وفي الأرض، كأنه قال: وهو الخالق والرازق والمُحْيي والمحيط في السماوت والأرض، كما تقول: «زيد السلطان في الشام والعراق» فلو قصدت ذات زيد لكان محالاً، فإذ كان مقصدُ قولك: [زيد] الآمرُ الناهي الذي يولِّي ويَعْزِل كان فصيحاً صحيحاً، فأقمت السلطنة مُقامَ هذه الصفات، كذلك في الآية الكريمة أقمت «الله» مقام تلك الصفات «.
قال الشيخ:» ما ذكره الزجاج، وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث
530
المعنى، لكن صناعة النحو تساعد عليه؛ لأنهما زعما أن «في السماوات» متعلق باسم الله لِما تَضَمَّنه من تلك المعاني، ولو صرح بتلك المعاني لم تعمل فيه جميعها، بل العمل من حيث اللفظُ لواحدٍ منها، وإن كان «في السماوات» متعلقاً بجميعها من حيث المعنى، بل الأوْلى أن يتعلَّق بلفظ «الله» لِما تضمَّنه من معنى الألوهية، وإن كان عَلَماً لأن العلمَ يَعْمَلُ في الظرف لِما يتضمنه من المعنى كقوله:
١٨٦ - ٣- أنا أبو المِنْهالِ بعضَ الأحيانْ... ف «بعضَ» نصب بالعلمَ لأنه في معنى أنا المشهور «. قلت: قوله» لو صُرِّح بها لم تعمل «ممنوعٌ، بل تعمل ويكون عملُها على سبيل التنازع، مع أنه لو سكت عن الجواب لكان واضحاً، ولما ذكر الشيخ ما قاله الزمخشري قال:» فانظر كيف قَدَّر العاملَ فيها واحداً لا جميعَها «يعني أنه استنصر به فيما رَدَّ به على الزجاج وابن عطية.
الوجه الثاني: أن» في السموات «معلِّقٌ بمحذوف هو صفة لله تعالى حُذِفَتْ لفَهْمِ المعنى، فقدَّرها بعضهم، وهو الله المعبود، وبعضهم: وهو الله المدبِّر، وحَذْفُ الصفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلا موضعُ يسيرةٌ على نَظَرٍ فيها، فمنها ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ﴾ [الأنعام: ٦٦] أي المعانِدون، ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦] أي الناجين فلا ينبغي أن يُحْمَلَ هذا عليه.
الوجه الثالث: قال النحاس:» وهو أحسنُ ما قيل فيه - إن الكلام
531
تمَّ عند قوله: ﴿وَهُوَ الله﴾ والمجرور متعلِّقٌ بمفعول «يَعْلَم» وهو «سِرَّكم وجَهْرَكم» [أي:] يَعْلَم سِرَّكم وجَهْركم فيهما «وهذا ضعيفٌ جداً لِما فيه من تقديم معمول المصدر عليه وقد عرف ما فيه.
الوجه الرابع: أن الكلام تمَّ أيضاً عند الجلالة، ويتعلق الظرف بنفس» يعلم «وهذا ظاهر، و» يعلم «على هذين الوجهين مستأنف.
الوجه الخامس: أن الكلام تمَّ عند قوله ﴿فِي السموات﴾ فيتعلق ﴿فِي السموات﴾ باسم الله، على ما تقدَّم، ويتعلَّق «في الأرض» ب «يعلم». وهو قول الطبري قال أبو البقاء «وهو ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى معبود في السماوات وفي الأرض، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض، فلا تتخصَّص إحدى الصفتين بأحد الظرفين» وهو رَدٌّ جميل.
الوجه السادس: أنَّ «في السماوات» متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من «سرَّكم» ثم قُدِّمَت الحالُ على صاحبها وعلى عاملها.
السابع: أنه متعلق ب «يَكْسِبون» وهذا فاسد من جهة أنه يلزم منه تقديمُ معمولِ الصلةِ على الموصول؛ لأن «ما» موصولة اسمية أو حرفية، وأيضاً فالمخاطبون كيف يكسِبون في السماوات؟ ولو ذهب هذا القائل إلى أن الكلام تمَّ عند قوله «في السماوات» وعلَّق «في الأرض» ب «يَكْسِبون» لسَهُلَ الأمرُ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ.
الثامن: أن «الله» خبر أول، و «في السماوات» خبر ثان. قال الزمخشري: «على معنى: أنَّه الله وأنه في السماوات وفي الأرض، وعلى
532
معنى: أنه عالمٌ بما فيها لا يخفى عليه شيء، كأنه ذاته فيهما» قال الشيخ: «وهذا ضعيفٌ لأن المجرور ب» في «لا يدل على كون مقيد، إنما يدل على كونٍ مُطْلَق» وهذا سهلُ الجواب لتقدُّمِه مراراً.
التاسع: أن يكون «هو» مبتدأ و «الله» بدل منه، و «يَعْلَمُ» خبره، و «في السماوات» على ما تقدَّم.
العاشر: أن يكون «الله» بدلاً أيضاً، و «في السماوات» الخبرُ بالمعنى الذي قال الزمخشري.
الحادي عشر: أن «هو» ضمير الشأن في محل رفع بالابتداء، والجلالة مبتدأ ثان، وخبرها «في السماوات» بالمعنى المتقدَّم أو «يَعْلَمُ» والجملة خبر الأول - وهو الثاني عشر - مفسرةً له.
وأمَّا «يَعْلَمُ» فقد عَرَفْت تفاصيل ما تقدَّم أنه يجوز أن يكون مستأنفاً، فلا محلَّ [له]، أو في محل رفع خبراً، أو في محل نصب على الحال، و «سِرَّكم وجهرَكم» : يجوز أن يكونا على بابهما من المصدرية ويكونان مضافين للفاعل. وأجاز أبو البقاء أن يكونا واقعين موقع المفعول به أي مُسَرَّكم ومَجْهوركم، واستدل بقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: ٧٧] ولا دليلَ [فيه] لأنه يجوز أن تكون «ما» مصدرية. و «ما» في «ما تكسبون» يحتمل أن تكون مصدريةً - وهو الأليق لمناسبة المصدَرَيْن قبلها - وأن تكون بمعنى الذي.
فيه «مِنْ» لوجود الشرطين فلا تَعَلُّق لها. و «من آيات» صفة ل «آية» فهي في محل جرٍّ على اللفظ أو رفعٍ على الموضع. ومعنى «مِنْ» التبعيض.
قوله: ﴿إِلاَّ كَانُواْ﴾ هذه الجملةُ الكونيَّةُ في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه الضمير في «تأتيهم» والثاني: أنه «من آية» وذلك لتخصُّصِها بالوصف. «وتأتيهم» يحتمل أن يكون ماضيَ المعنى لقوله «كانوا» ويحتمل أن يكون «كانوا» مستقبلَ المعنى لقوله «تأتيهمْ». واعلمْ أن الفعل الماضي لا يقع بعد «إلا» إلا بأحد شرطين: إمَّا وقوعِه بعد فعلٍ كهذه الآية الكريمة، أو يقترن ب «قد» نحو: ما زيدٌ إلا قد قام «. وهنا التفات من خطابه بقوله:» خلقكم «إلى آخره إلى الغَيْبة بقوله:» وما تأتيهم «.
قوله تعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُواْ﴾ : الفاء هنا للتعقيب، يعني أن الإِعراض عن الآيات أعقبه التكذيب. وقال الزمخشري: «فقد كذَّبوا» مردودٌ على كلامٍ محذوف، كأنه قيل: إن كانوا مُعْرِضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظمُ آيةٍ وأكبرها «. قال الشيخ:» ولا ضرورةَ تدعو إلى هذا مع انتظام الكلام «، وقوله» بالحق «من إقامة الظاهر مُقام المضمر، إذ الأصل: فقد كذَّبوا بها، أي بالآية. والأنباء جمع نبأ، وهو ما يَعْظُم وَقْعُه من الأخبار. وفي الكلام حذف، أي يأتيهم مضمون الأنباء. و» به «متعلق بخبر» كانوا «و» لمَّا «حرفُ وجوب أو ظرف زمان، والعامل فيه» كَذَّبوا «.
» وما يجوز أن تكون موصولة اسمية، والضمير في «به» عائدٌ عليها،
534
ويجوز أن تكونَ مصدرية، قال ابن عطية، أي أنباء كونهم مستهزئين، وعلى هذا فالضمير لا يعود عليها لأنها حرفية، بل يعود على الحق، وعند الأخفش يعود عليها لأنها اسم عنده.
قوله تعالى: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ : يجوز في «كم» أن تكون استفهامية وخبرية، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلِّقةٌ للرؤية عن العمل، لأن الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في ذلك، ولذلك أُعْطِيت أحكامَها من وجوب التصدير وغيره. والرؤيةُ هنا عِلْميَّة، ويَضْعُفُ كونها بصرية، وعلى كلا التقديرين فهي معلَّقة عن العمل، لأنَّ البَصَرية تجري مجراها، فإن كانت عِلْميَّةً ف «كم» وما في حيِّزها سادَّةٌ مَسدَّ مفعولين، وإن كانت بصرية فمسدَّ واحد.
و «كم» يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص فتكونَ معفولاً بها ناصبها «أَهْلَكْنا» و «مِنْ قَرْنٍ» على هذا تمييز لها، وأن تكون عبارةً عن المصدر فتنتصبَ انتصابَه بأهْلَكْنا، أي إهلاكاً، و «مِنْ قرن» على هذا صفةٌ لمفعول «أَهْلَكْنا» أي أهلكنا قوماً أو فوجاً من القرون؛ لأنَّ قرناً يراد به الجمع، و «مِنْ» تبعيضية، والأُولى لابتداء الغاية. وقال الحوفي: «من» الثانية بدل من «مِنْ» الأولى وهذا لا يُعْقل فهو وَهْمٌ بَيِّنٌ، ويجوز أن تكون «كم» عبارة عن الزمان فتنتصب على الظرف. قال أبو البقاء: «تقديره: كم أزمنةٍ أهلكنا فيها» وجعل أبو البقاء على هذا الوجه «من قرن» هو المفعول به و «مِنْ» مزيدة
535
فيه وجاز ذلك لأن الكلام غير موجب والمجرور نكرة. إلا أن الشيخ منع ذلك بأنه لا يقع إذ ذاك المفردُ موقعَ الجمع لو قلت: [ «كم أزماناً ضربتُ رجلاً، أو كم مرةً ضربتُ رجلاً» لم يكن مدلولُ رجل رجالاً]، لأن السؤال إنما يقع عن عدد الأزمنة أو المرات التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس [موضعَ زيادة «مِنْ» لأنها لا تُزاد في الاستفهام]، إلا وهو استفهام مَحْضٌ أو يكونُ بمعنى النفي، والاستفهام هنا ليس مَحْظَاً ولا مُراداً به النفيُ. [انتهى. والجواب عمَّا قاله: لا نُسَلِّم ذلك].
قوله: ﴿مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض﴾ في موضع جر صفةً ل «قَرْن» وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبار معناه، قاله أبو البقاء والحوفي، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ «مِنْ قرن» تمييز ل «كم» ف «كم» هي المحدِّث عنها بالإِهلاك، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتمكين لا ما بعدها، إذ «من قرن» يجري مجرى التبيين، ولم يُحَدَّثْ عنه. وجَوَّز الشيخ أن تكون هذه الجملة استنئافاً جواباً لسؤالٍ مقدَّر، قال كأنه قيل: ما كان من حالهم؟ فقيل: مكَّنَّاهم، وجعله هو الظاهر. وفي نظر، فإن النكرة مفتقرةٌ للصفة فَجَعْلُها صفةً أَلْيَق.
والفرق بين قوله ﴿مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض﴾ [وقوله] :«ما لم نمكِّن لكم» أنَّ «
536
مَكَّنه في كذا» : أَثْبته فيها، ومنه: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ [الأحقاف: ٢٦] وأمَّا مكَّن له فمعناه جعل له مكاناً ومنه، ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض﴾ [الكهف: ٨٤] ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ﴾ [القصص: ٥٧]، ومثله: «أَرَضَ له» أي جعل له أرضاً، هذا قول الزمخشري. وأمَّا الشيخ فإنه يظهر من كلامه التسوية بينهما فإن قال: «وتَعَدِّي مَكَّن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر، والأكثرُ تعديتُه باللام: ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف: ٢١] ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ﴾ [الكهف: ٨٤] ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ﴾ [القصص: ٥٧]. وقال أبو عبيدة:» مكَّنَّاهم ومكَّنَّاهم لهم: لغتان فصيحتان نحو: نَصَحْتُه ونَصَحْتُ له «. [قلت: وبهذا قال] أبو علي والجرجاني.
قوله: ﴿مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ﴾ في» ما «هذه خمسة أوجه، أحدها: أن تكون موصولةً بمعنى الذي، وهي حينئذ صفة لموصوف محذوف، والتقدير: التمكين الذي لم نمكِّن لكم، والعائد محذوف أي: الذي لم نمكَّنه لكم. الثاني: أنها نكرةٌ صفةٌ لمصدر محذوف تقديره: تمكيناً ما لم نمكِّنه لكم، ذكرهما الحوفي. وردَّ الشيخ الأول بأن» ما «بمعنى الذي لا تكون صفةً لمعرفة وإن
537
كان» الذي «يقع صفة لها، ولو قلت:» ضربت الضرب ما ضَرَبَ زيدٌ «تريد الضربَ الذي ضربه زيد، لم يجز، فإن قلت:» الضرب الذي ضربه زيد «جاز. ورَدَّ الثاني بأن» ما «النكرة التي تقع صفةً لا يجوز حَذْفُ موصوفِها، لو قلت:» قمت ما وضربت ما «وأنت تعني: قمت قياماً ما، وضرباً ما، لم يجز».
الثالث: أن تكون مفعولاً بها ل «مَكَّن» على المعنى، لأن معنى مكَّنَّاهم: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ، ذكره أبو البقاء قال الشيخ: «هذا تضمينٌ، والتضمين لا ينقاس» الرابع: أن تكون «ما» مصدريةً، والزمان محذوف، أي: مدةَ ما لم نمكِّن لكم، والمعنى: مدة انتفاء التمكين لكم. الخامس: أن تكون نكرةً موصوفة بالجملة المنفيَّة بعدها والعائد محذوف، أي: شيئاً لم نمكِّنْه لكم، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال الشيخ في الأخير: «وهذا أقرب إلى الصواب» قلت: ولو قدَّره أبو البقاء بخاص لكان أحسن من تقديره بلفظ شيء فكان يقول: مكنَّاهم تمكيناً لم نمكنه لكم.
والضمير في «يروا» قيل: عائد على المستهزئين، والخطاب في «لكم» راجع إليهم أيضاً فيكون على هذا التفاتاً فائدتُه التعريض بقلَّة تمكُّن هؤلاء ونَقْصِ أحوالهم عن حال أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهلاك فكيف وأنتم أقلُّ منهم تمكيناً وعَدَداً؟ وقال ابن عطية: «والمخاطبة في» لكم «هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم ولسائر الناس كافة، كأنه قيل:
538
ما لم نمكِّن يا أهل هذا العصر لكم، ويحتمل أن يُقَدِّر معنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه قال: يا محمد قل لهم: ألم يروا كم أهلكنا الآية، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أَمَرْتَ أن يقال - فَلَكَ في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيءَ بلفظ المخاطبة، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغيبة دون الخطاب».
انتهى ومثاله: «قلت لزيد: ما أكرمك، أو ما أكرمه».
والقَرْن: لفظ يقع على معانٍ كثيرة، فالقرن: الأمَّة من الناس، سمُّوا بذلك لاقترانهم في مدة من الزمان، ومنه قوله عليه السلام: «خيرُ القرون قرني». وقال الشاعر:
١٨٦ - ٤- أُخَبِّرُ أخبارَ القُرونِ التي مَضَتْ
أَدِبُّ كاني كلما قُمْتُ راكِعُ
وقال قس بن ساعدة:
١٨٦ - ٥- في الذاهبين الأوَّلِي
نَ من القرون لنا بصائِرْ
وقيل: أصله الارتفاع، ومنه قَرْنُ الثور وغيره، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السنِّ. وقيل: لأن بعضهم يُقْرَن ببعض ويُجعل مجتمعاً معه، ومنه القَرَن للحَبْلِ يُجمع به بين البعيرين، ويُطلق على المدة من الزمان أيضاً.
وهل إطلاقه على الناس والزمان بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز؟ الراجح الثاني؛ لأن المجازَ خيرٌ من الاشتراك. وإذا قلنا بالراجح فإنها الحقيقة، الظاهر أنه القوم لأنَّ غالبَ ما يُطلق عليهم، والغَلَبة مؤذنةٌ بالأصالة
539
غالباً. وقال ابن عطية: «القرن أن يكون وفاة الأشياخ وولادة الأطفال، ويَظْهر ذلك من قوله تعالى: ﴿وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾ فجعله معنى، وليس بواضح. وقيل: القرن: الناس المجتمعون، قلَّت السنون أو كَثُرت، واستدلوا بقوله عليه السلام:» خيرُ القرونِ قَرْني «وبقوله:
١٨٦ - ٦- في الذاهبين الأوَّلي
نَ من القرون لنا بصائرْ
وبقوله:
١٨٦ - ٧- إذا ذَهَبَ القومُ الذي كنتَ فيهمُ
وخُلِّفْتَ في قَرْن فأنت غريبُ
فأطلقوه على الناس بقيد الاجتماع. ثم اختلف الناس في كمية القرن حالة إطلاقه على الزمان فالجمهور أنه مئة سنة، واستدلوا له بقوله عليه السلام:» يعيش قرناً «فعاش مائة سنة. وقيل: مئة وعشرون قاله إياس بن معاوية وزارة بن أبي أوفى. وقيل: ثمانون نقله صالح عن ابن
540
عباس: وقيل: سبعون قاله الفراء. وقيل: ستون لقوله عليه السلام:» معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين «وقيل: أربعون، حكاه محمد بن سيرين، يرفعه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك الزهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: ثلاثون حكان النقاش عن أبي عبيدة، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة. وقيل: عشرون، وهو رأي الحسن البصري. وقيل: ثمانية عشر عاماً. وقيل: هو المقدار الوسط من أعمار أهل ذلك الزمان، واستحسن هذا بأنَّ أهل الزمن القديم كانوا يعيشون أربع مئة سنة وثلاث مائه وألفاً وأكثر وأقل.
وقدَّر بعض الناس في قوله تعالى: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾ أهلاً، أي: أهل قرن؛ لأنَّ القرنَ الزمانُ، ولا حاجة إلى ذلك إلا على اعتقاد أنه حقيقةٌ فيه، مجاز في الناس، وقد قدَّمْتُ أن الراجحَ خلافُه.
قوله: ﴿مَّدْرَاراً﴾ حال من «السماء» إن أريد بها السحابُ، فإنَّ السحابَ يوصفُ بكثرة التتابع أيضاً، وإن أريد به الماء فكذلك. ويدلُّ على أنه يراد به الماءُ قولُه في الحديث «في أثر سماء كانت من الليل» ويقولون: ما نزلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، ومنه:
١٨٦ - ٨- إذا نَزَل السماءُ بأرضِ قومٍ
رَعَيْناه وإن كانوا غضابا
أي: رَعَيْنا ما ينشأ عنه. وإن أريد بها هذه المِظَلَّةُ فلا بد من حذف مضافٍ حينئذ أي: مطر السماء، ويكون «مدراراً» حالاً منه. ومدرار مِفْعال
541
وهو للمبالغة كامرأة مِذْكار ومِئْناث. قالوا: وأصله مِن «دَرِّ اللبن» وهو كثرةُ ورودِه على الحالِب ومنه: «لا درَّ درُّه» في الدعاء عليه بقلة الخير. وفي المثل: «سبقَتْ دِرَّتُ غِرارَه» وهي مثلُ قولهم: «سبقَ سيلُه مَطَرَه». واستدَّرت المِعْزى كناية عن طلبها الفحل، قالوا: لأنَّها إذا طَلَبَتْه حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّت.
قوله: ﴿تَجْرِي﴾ إنْ جعلنا «جَعَلَ» تصييرية كان «تجري» مفعولاً ثانياً، وإن جعلناها إيجادية كان حالاً. و «من تحتهم» يجوز فيه أوجه: أن يكون متعلقاً ب «تجري»، وهذا هو الذي ينبغي أن لا يُعْدَلَ عنه، وأن يكون حالاً: إمَّا من فاعل «تجري» أو من «الأنهار» وأن يكون مفعولاً ثانياً ل «جعلنا»، و «تجري» على هذا حال من الضمير في الجار، وفيه ضعف لتقدُّمها على العامل المعنوي، ويجوز أن يكون «من تحتهم» حالاً من «الأنهار» كما تقدَّم، و «تجري» حال من الضمير المستكنِّ فيه، وفيه الضعف المتقدم.
قوله: ﴿مِن بَعْدِهِمْ﴾ متعلق ب «أنشأنا» قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون حالاً من» قرن «لأنه ظرف زمان» يعني أنه لو تأخر عن قرن لكان يُتَوَهَّم جوازُ كونه صفةً له، فلما قُدِّم عليه قد يوهم أن يكون حالاً منه، لكنه منع ذلك كونُه ظرفَ زمان، والزمان لا يُخبر به عن الجثث ولا يوصف به، وقد تقدم لك أنه يصِحُّ ذلك بتأويلٍ ذكرته في البقرة عند قوله: ﴿والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ [الآية: ٢١]. و «آخرين» صفة ل «قَرْن» لأنه اسم جمعٍ كقوم ورهط، فلذلك
542
اعتُبر معناه، ومن قال: إنه الزمان قَدَّر مضافاً أي: أهل قرن آخرين، وقد قَدَّمْتُ أنَّه مرجوح.
قوله تعالى: ﴿فِي قِرْطَاسٍ﴾ : يجوز أن يتعلق بمحذوف على انه صفة لكتاب، سواء أريد بكتاب المصدرُ أم الشيء المكتوب. ويجوز أن يتعلَّق بنفس «كتاباً» سواء أريد به المصدر أم الشيء المكتوب. ومن مجيء الكتاب بمعنى مكتوب قوله:
١٨٦ - ٩-............... صحيفةً
أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها
وفي النفس مِنْ جَعْلِ «كتاباً» في الآية الكريمة مصدراً شيء؛ لأن نفس الكتاب لا تُوصف بالإِنزال إلا بتجوُّز بعيد، ولكنهم قد قالوه هنا، ويجوز أن يتعلَّق «في قرطاس» ب «نَزَّلْنا».
والقِرْطاس: الصحيفة يُكتب فيها تكون من رَقَّ وكاغد، بكسر القاف وضمها، والفصيح الكسر، وقرئ بالضم شاذاً نقله أبو البقاء والقِرْطاس: اسم أعجمي معرَّب، ولا يقال قرطاس إلا إذا كان مكتوباً وإلا فهو طِرْس وكاغَد، وقال زهير:
١٨٧ - ٠- لها أخاديدُ مِنْ آثارِ ساكنها
كما تردَّدَ في قِرْطاسِه القلمُ
قوله: ﴿فَلَمَسُوهُ﴾ الضمير المنصوب يجوز أن يعود على القِرْطاس، وان يعود على «كتاب» بمعنى مكتوب. و «بأيديهم» متعلق ب «لَمَسَ». والباء للاستعانة كعملت بالقَدُوم. و «لقال» جواب لو، جاء على الأفصح من اقتران جوابها المثبت باللام.
قوله: ﴿إِنْ هاذآ﴾«إنْ» نافية، و «هذا» مبتدأ، و «إلا سحرٌ» خبره
543
فهو استثناء مفرغ، والجملةُ المنفيَّة في محل نصب بالقول، وأوقع الظاهرَ موقع المضمر في قوله «لقال الذين كفروا» شهادةً عليهم «بالكفر. والجملة الامتناعية لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافها.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لولا﴾ : الظاهر أن هذه الجملة مستأنفة سِيْقَتْ للإِخبار عنهم بفرط تعنُّتِهم وتصلُّبهم في كفرهم. قيل: ويجوز أن تكون معطوفةً على جواب «لو» أي: لو نَزَّلْنا عليك كتاباً لقالو كذا، ولقالوا: لولا أُنْزِل عليه مَلَك. وجيء بالجواب على أحد الجائزين، أعني حذف اللام من المثبت. وفيه بُعْدٌ؛ لأن قولهم «لولا أُنْزل» ليس مترتباً على قوله: ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا﴾ و «لولا» هنا تحضيضية. والضمير في «عليه» الظاهر عودُه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: يجوز أن يعود على الكتاب أو القرطاس، والمعنى: لولا أُنْزل على الكتاب مَلَك لشهد بصحته، كما يُرْوى في القصة أنه قيل: له لن نؤمن حتى تعرجَ فتأتي بكتاب، ومعه أربعة ملائكة يشهدون، وهذا يَظْهر على رأي مَنْ يقول: إن الجملة من قوله: ﴿وقالوا: لولا أُنْزل﴾ معطوفةٌ على جواب لو، فإنه يتعلق به من حيث المعنى حينئذ.
قوله تعالى: ﴿مَّا يَلْبِسُونَ﴾ : في «ما» قولان، أحدهما: أنها موصولة بمعنى الذي أي: ولَخَلَطْنَا عليهم ما يخلطون على أنفسهم أو على غيرهم، قاله أبو البقاء وتكون «ما» حينئذ مفعولاً بها. الثاني: أنها مصدرية أي: ولَلَبَسْنا عليهم مثل ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم. وقرأ ابن محيصن: «ولَبَسْنا» بلام واحدة هي فاء الفعل، ولم يأت بلام في الجواب اكتفاءً بها في المعطوف عليه. وقرأ الزُّهري «ولَلَبَّسْنا» بلامين وتشديد الفعل على التكثير.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ استهزىء﴾ : قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو بكسر الذال على أصل التقاء الساكنين، والباقون بالضم على الإِتباع، ولم يبالَ بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصين، وقد قرَّرْتُ هذه القاعدة بدلائلها في البقرة عند قوله: ﴿فَمَنِ اضطر﴾ [الآية: ١٧٣]. و «برسلٍ» متعلق ب «استهزئ». و «مِنْ قبلك» صفة لرسل، وتأويلُه ما تقدَّم في وقوع «من قبل» صلة.
قوله: ﴿فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ﴾ فاعل حاق: «ما كانوا» و «ما» يجوز أن تكون موصولةً اسمية، والعائد الهاء في «به» و «به» يتعلق ب «يستهزئون» و «يستهزئون» خبر ل «كان»، و «منهم» متعلق بسخروا، على أنَّ الضمير يعود على الرسل، قال تعالى: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ﴾ [هود: ٣٨]، ويجوز أن يتعدَّى بالباء نحو: سَخِرْت به، ويجوز أن يتعلَّق «منهم» بمحذوف أنَّه حال من فاعل «سَخِروا»، والضمير في «منهم» يعود على الساخرين. وقال أبو البقاء: «على المستهزئين» وقال الحوفي: «على أُمَمِ الرسلِ».
وقد رَدَّ الشيخ على الحوفي بأنه يلزم إعادته على غير مذكور وجوابُه أنه في قوة المذكور، وردَّ على أبي البقاء بأنه يصير المعنى: فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين، فلا حاجةَ إلى هذه الحال لأنها مفهومةٌ من
545
قوله «سخروا» وجوَّزوا أن تكون «ما» مصدرية، ذكره الشيخ، ولم يتعرَّض للضمير في «به» والذي يظهر أنه يعود على الرسل الذي يتضمَّنه الجمع، فكأنه قيل: فحاق بهم عاقبةُ استهزائهم بالرسول المندرج في جملة الرسل، وأمَّا على رأي الأخفش وابن السراج فتعود على «ما» مصدرية لأنها اسم عندهما.
وحاق ألفه منقلبة عن ياء بدليل يَحِيق، كباع يبيع، والمصدر حَيْق وحُيُوق وحَيَقان كالغَلَيان والنَّزَوان. وزعم بعضهم أنه من الحَوْق، وهو المستدير بالشيء، وبعضهم أنه من الحقّ، فأُبْدِلت إحدى القافين ياءً كتظنَّنْتُ، وهذان ليسا بشيء، أمَّا الأول فلاختلاف المادة إلا أن يريدوا الاشتقاق الأكبر، وأما الثاني فلأنها دعوى مجردة من غير دليل. ومعنى حاق أحاط، وقيل: عاد عليه وبالُ مَكْرِه، قال الفراء. وقيل: دار، والمعنى يدور على الإِحاطة والشمول، ولا تستعمل إلا في الشر. قال الشاعر:
١٨٧ - ١- فأوطأ جُرْدُ الخيلِ عُقْرَ ديارهمْ
وحاقَ بهم من بأسِ ضَبَّةَ حائقُ
وقال الراغب: «قيل وأصله حَقَّ، فقلب نحو: زلَّ وزال، وقد قرئ:» فأزلَّهما وأزلَهما «وعلى هذا ذمَّة وذامه» وقال الأزهري: «جعل أبو إسحاق»«حاق» بمعنى أحاط، وكأن مأخذه من الحَوْق وهو ما استدار بالكَمَرَة «قال:» وجائز أن يكون الحَوْق فعلاً من حاق يحيق، كأنه في
546
الأصل: حُيْق، فقلبت الياء واواً لانضمام ما قبلها «وهل يحتاج إلى تقدير مضاف قبل» ما كانوا «؟ نقل الواحدي عن أكثر المفسرين ذلك أي: عقوبة ما كانوا، أو جزاء ما كانوا، ثم قال:» وهذا إذا جعلت «ما» عبارة عن القرآن والشريعة وما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن جعلْتَ «ما» عبارةً عن العذاب الذي كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوعدهم به إن لم يؤمنوا استغْنَيْتَ عن تقدير المضاف، والمعنى: فحاق بهم العذابُ الذي يستهزئون به وينكرونه.
والسُّخْرِيَّة: الاستهزاء والتهكم، يقال: سَخِر منه وبه، ولا يقال إلا استهزاءً به فلا يتعدَّى ب «مِنْ» وقال الراغب: «سَخَرْتُهُ إذا سَخَّرْتَه للهُزْء منه، يقال: رجل سُخَرَة بفتح الخاء إذا كان يَسْخَر من غيره، وسُخْرة بسكونها إذا كان يُسْخر منه، ومثله: ضُحَكة وضُحْكة، ولا ينقاس. وقوله: ﴿فاتخذتموهم سِخْرِيّاً﴾ [المؤمنون: ١١٠] يحتمل أن يكون من التسخير، وأن يكون من السُّخْرية». وقد قرئ سُخرياً وسِخرياً بضمِّ السين وكسرها. وسيأتي له مزيد بيان في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ انظروا﴾ : عطف على «سيروا» ولم يجئ في القرآن العطفُ في مثل هذا الموضع إلا بالفاء، وهنا جاء ب «ثم» فيحتاج إلى فرق، فذكر الزمخشري الفرق وهو: أَنْ جَعَل النظر مسبِّباً عن السير في قوله: ﴿انظروا﴾ كأنه قيل: «سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سيرَ الغافلين» وهنا معناه إباحةُ السَّيْر في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبَّه على ذلك ب «ثم» لتباعد ما بين الواجب «والمباح».
547
قال الشيخ: «وما ذكره أولاً متناقض لأنه جعل النظر مُتَسَبِّباً عن السير، فكان السير سبباً للنظر، ثم قال: فكأنه قيل: سيروا لأجلِ النظر، فجعل السيرَ معلولاً بالنظر، والنظرُ سببٌ له فتناقضا، ودعوى أن الفاء سببية دعوى لا دليلَ عليها، وإنما معناها التعقيب فقط، وأمَّا:» زنى ماعِزٌ فَرُجم «ففَهْمُ السببية من قرينةٍ غيرِها» قال: «وعلى تقدير تسليم إفادتها السببَ فلِمَ كان السيرُ هنا سيرَ إباحة وفي غيره سيرَ إيجاب؟ قلت: هذا اعتراضٌ صحيح إلا قولَه» إن الفاء لا تفيد السببية «فإنه غير مُرْضٍ، ودليلُه في غير هذا الموضوع. ومثل هذا المكان في كون الزمخشري جعل شيئاً علة ثم جعله معلولاً ما سيأتي إن شاء الله في أول الفتح ويأتي هناك جوابه.
قوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ » كيف «خبر مقدَّم و» عاقبة «اسمها، ولم يُؤَنَّثْ فعلُها لأن تأنيثها غير حقيقي، ولأنها بتأويل المآل والمنتهى، فإنَّ العاقبة مصدرٌ على وزن فاعِله، وهو محفوظ في ألفاظ تقدَّم ذِكْرُها وهي منتهى الشيء وما يصير إليه. والعاقبة إذا أُطْلِقَتْ اختصت بالثواب. قال تعالى: ﴿والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨]، وبالإِضافة قد تستعمل في العقوبة كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواأى﴾ [الروم: ١٠] ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار﴾ [الحشر: ١٧] فصَحَّ أن تكون استعارة مِنْ ضدِّه كقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]. و» كيف «معلِّقة للنظر فيه في محل نصب على إسقاط الخافض؛ لأنَّ معناه هنا التفكُّر والتدبُّر.
قوله تعالى: ﴿لِّمَن مَّا فِي السموات﴾ :«لمَنْ» خبرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم؛ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام فإنَّ «مَنْ» استفهامية والمبتدأ «ما» وهي بمعنى الذي، والمعنى: لمن استقر الذي في السماوات. وقوله: ﴿قُل للَّهِ﴾ قيل: إنما أمَرَه أن يجيب وإن كان المقصود أن يُجيب غيرُه؛ ليكون أولَ مَنْ بادر الاعتراف بذلك، وقيل: لمَّا سألهم كأنهم قالوا: لمن هو؟ فقال الله: قل لله، ذكره الجرجاني. فعلى هذا قوله: «قل لله» جواب للسؤال المضمر الصادر من جهة الكفار، وهذا بعيدٌ، لأنهم لم يكونوا يشكُّون في أنه لله، وإنما هذا سؤال تبكيت وتوبيخ، ولو أجابوا لم يَسَعْهم أن يُجيبوا إلا بذلك. وقوله «لله» خبر مبتدأ محذوف، أي هو أو ذلك لله.
قوله: ﴿كَتَبَ على نَفْسِهِ﴾ أي قضى وأوجب إيجابَ تَفَضُّلٍ لا أنه مستحق عليه تعالى. وقيل: معناه القسم، وعلى هذا فقوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ جوابُه؛ لِما تضمن من معنى القسم، وعلى هذا فلا توقُّفَ على قوله «الرحمة» قال الزجاج: «إن الجملة من قوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ في محل النصب على أنها بدل من» الرحمة «، لأن فَسَّر قوله ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ بأنه أمهلكم وأمدَّ لكم في العمر والرزق مع كفركم، فهو تفسير للرحمة. وقد ذكر الفراء هذين الوجهين: أعني أن الجملة تَمَّتْ عند قوله» الرحمة «أو أن» ليجمعنكم «بدلٌ منها فقال:» إن شئت جعلت الرحمة غايةَ الكلام ثم استأنفت بعدها «ليجمعنكم» وإن شِئْتَ جَعَلْتَها في موضع نصب كما قال: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤]. قلت: واستشهاده بهذه الآيةِ حسن جداً.
549
ورَدَّ ابن عطية هذا بأنه يلزم دخولُ نونِ التوكيد في الإِيجاب قال: «وإنما تدخل على الأمر والنهي وجواب القسم». ورَدَّ الشيخ حصر ابن عطية وردَ نون التوكيد فيما ذكر. وهو صحيح، وردَّ كونَ «ليجمعنَّكم» بدلاً من الرحمة بوجه آخر، وهو أنَّ «ليجمعنَّكم» جوابُ قسمٍ، وجملة الجواب وحدها لا موضع لها من الإِعراب، إنما يُحْكَمُ على موضع جملتي القسم والجواب بمحلِّ الإِعراب «. قلت: وقد خلط مكي المذهبين وجعلهما مذهباً واحداً فقال:» ليجمعنَّكم «في موضع نصبٍ على البدل من» الرحمة «واللام لام القسم. فهي جواب» كتب «لأنه بمعنى: أوجب ذلك على نفسه، ففيه معنى القسم، وقد يظهر جوابٌ عما أورده الشيخ على غير مكي، وذلك أنهم جعلوا» ليجمعنَّكم «بدلاً من» الرحمة «، يعني هي وقسيمها المحذوف، واستغنوا عن ذكر القسم بها؛ لأنها مذكورةٌ في اللفظ، فكأنهم قالوا: وجملة القسم في محل نصب بدلاً من الرحمة، وكما يقولون جملة القسم ويستغنون به عن ذِكْرِهم جملةَ الجواب كذلك يستغنون بالجواب عن ذكر القسم لاسيما وهو غير مذكور.
وأمَّا مكي فلا يظهر هذا جواباً له؛ لأنه نصَّ على أنه جوابٌ ل «كَتَبَ» فَمِنْ حيث جعله جواباً لكَتَبَ لا محلَّ له، ومن حيث جَعَلَه بدلاً كان مَحَلُّه النصب فتنافيا. والذي ينبغي في هذه الآية أن يكون الوقفُ عند قوله «الرحمة، وقوله» ليجمعنَّكم «جواب قسم محذوف، اي: والله ليجمعنكم، والجملة القسمية لا تعلُّق لها بما قبلها من حيث الإِعراب، وإن تعلَّقَتْ به من حيث المعنى.
و» إلى «على بابها أي: ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة. وقيل: هي
550
بمعنى اللام كقوله: ﴿إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ﴾ [آل عمران: ٩] وقيل: بمعنى» في «أي: ليجمعنَّكم في يوم القيامة. وقيل: هي زائدة أي: ليجمعنكم يوم القيامة، وقد يشهد له قراءة من قرأ ﴿تهوى إليهم﴾ بفتح الواو أنه ضرورةَ هنا إلى ذلك.
قوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ تقدم نظيره في أول البقرة. والجملة حال من» يوم «، والضمير في» فيه «يعود على اليوم، وقيل: يعود على الجمع المدلول عليه بالفعل لأنه رَدٌّ على منكري الحشر.
قوله: ﴿الذين خسروا﴾ فيه ستة أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ بإضمار» أذمُّ «وقدَّره الزمخشري ب أريد، وليس بظاهر. الثاني: أنه مبتدأ أخبر عنه بقوله ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ وزيدت الفاءُ في خبره لِما تضمَّن من معنى الشرط، قاله الزجاج كأنه قيل: مَنْ يخسرْ نفسه فهو لا يؤمن. الثالث: أنه مجرور على أنه نعت للمكذبين. الرابع: أنه بدل منهم، وهذان الوجهان بعيدان. الخامس: أنه منصوبٌ على البدل من ضمير المخاطب، وهذا قد عَرْفْتَ ما فيه غيرَ مرَّةٍ، وهو أنه هل يُبْدَل من ضمير الحاضر بدلُ كل من كل في غير إحاطة ولا شمول أم لا؟ ومذهب الأخفش جوازه، وقد ذكرْنا دليل الجمهور ودلائله وما أُجيب عنها فأغنى عن إعادتها. وردَّ المبرد عليه مذهبه بأنه البدل من ضمير الخطاب لا يجوز، كما لا يجوز:» مررت بك زيدٍ «وهذا عجيب؛ لأنه استشهد بمحل النزاع وهو: مررت بك زيدٍ. ورَدَّ ابنُ عطية ردَّه فقال:»
551
ما في الآية مخالفٌ للمثال؛ لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني، فإذا قلت: «مررت بك زيدٍ» فلا فائدة في الثاني، وقوله ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ يصلح لمخاطبة الناس كافةً فيفيدنا إبدال «الذين» من الضمير أنهم هم المختصُّون بالخطاب، وخُصُّوا على جهة الوعيد، ويجيء هذا إبدالَ البعض من الكل «.
قال الشيخ:» هذا الردُّ ليس بجيد لأنه إذا جَعَلْنا «ليجمعنَّكم» صالحاً لخطاب جميع الناس كان «الذين» بدل بعض، ويحتاج إذ ذاك إلى ضميرٍ، تقديره: خسروا أنفسهم منهم.
وقوله «فيفيدنا إبدال الذين من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخُصُّوا على جهة الوعيد» وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل، فتناقض أول كلامه مع آخره؛ لأنه من حيث الصلاحيةُ بدل بعض، ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدلَ كل فتناقضا «. قلت: ما أبعدَه عن التناقض، لأن بدل البعض من الكل من جملة المخصِّصات كالتخصُّص بالصفة والغاية والشرط، نصَّ أهل العلم على ذلك، فإذا تقرر هذا فالمبدل منه بالنسبة إلى اللفظ في الظاهر عام، وفي المعنى ليس المراد به إلا ما أراده المتكلم فإذا ورد:» اقتلوا المشركين بني فلان «مثلاً فالمشركون صالح لكل مشرك من حيث اللفظ، ولكنَّ المراد به بنو فلان، فالعموم في اللفظ والخصوص في المعنى، فكذا قول أبي محمد يَصْلُح لمخاطبة الناس، معناه أنه يَعُمُّهم لفظاً. وقوله» فيفيدنا إبدال الضمير إلى آخره «هذا هو المخصِّص فلا يجيء تناقضٌ البتةَ، وهذا مقرر في علم أصول الفقه.
السادس: أنه مرفوع على الذمِّ، قاله الزمخشري، وعبارته فيه وفي الوجه الأول:» نصبٌ على الذمِّ أو رفعٌ، أي: أريد الذين خسروا أنفسهم،
552
أو أنتم خسروا أنفسهم «انتهى. قلت: إنما قَدَّر المبتدأ» أنتم «ليرتبط مع قوله» ليجمعنَّكم «وقوله» خسروا أنفسهم «من مراعاة الموصول، ولو قال:» أنتم الذين خسروا أنفسهم «مراعاةً للخطاب لجاز، تقول: أنت الذي قعد، وإن شئت: قَعَدْت.
قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ﴾ : جملة من مبتدأ وخبر، وفيها قولان، أظهرهما: أنها استئناف إخبار بذلك. والثاني: أنها في محل نصب نسقاً على قوله «لله» أي على الجملة المحكية ب قل أي: قل: هو لله وقل: له ما سكن. و «ما» موصولة بمعنى الذي، ولا يجوز غيرُ / ذلك. و «سَكَنْ» قيل: معناه ثبت واستقر، ولم يذكر الزمخشري غيره. وقيل: هو مِنْ سَكَن مقابل تَحَرَّك، فعلى الأول لا حَذْفَ في الآية الكريمة، قال الزمخشري: «وتَعَدِّيه ب في كما في قوله: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤٥]. ورجَّح هذا التفسيرَ ابن عطية. وعلى الثاني اختلفوا، فمنهم مَنْ قال: لا بد من محذوفٍ لفهم المعنى، وقدَّر ذلك المحذوفَ معطوفاً فقال: تقديره: وله ما سكن وما تحرك، كقوله في موضع آخر: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] أي: والبرد، وحَذْفُ المعطوف فاشٍ في كلامهم، وأنشد:
١٨٧ - ٢- كأنَّ الحصى مِنْ خلفِها وأمامِها
إذا نَجَلَتْهُ رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرا
١٨٧ - ٣- فما كان بين الخيرِ لو جاء سالماً
أبو حُجُرٍ إلا ليلٍ قلائلُ
553
يريد: رجلها ويدها، وبين الخير وبيني. ومنهم مَنْ قال: لا حَذْفَ؛ لأنَّ كل متحرك قد يُسَكَّن. وقيل: لأن المتحرك أقلُّ والساكن أكثر، فلذلك أوثر بالذكر.
قوله تعالى: ﴿أَغَيْرَ الله﴾ : مفعول أول ل «أتَّخِذُ» و «وليَّاً» مفعولٌ ثاني، وإنما قَدَّم المفعول الأول على فعله لمعنى: وهو إنكار أن يُتَّخَذَ غيرُ اللَّهِ ولياً لا اتخاذ الوليّ، ونحوُه قولك لمن يهين زيداً وهو مستحقٌّ للإِكرام: «أزيداً أهنت»، أَنْكَرْتَ أن يكون مثله مُهاناً. وقد تقدَّم هذا موضحاً في قوله: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] ومثله: ﴿أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً﴾ [الأنعام: ١١٤] ﴿أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ﴾ [الزمر: ٦٤] ﴿ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ [يونس: ٥٩] ﴿ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ﴾ [الأنعام: ١٣] وهو كثير. ويجوز أن يكون «أتخذ» متعدياً لواحد فيكون «غيرَ» منصوباً على الحال من «وليَّاً» لأنه في الأصل صفة له، ولا يجوز أن يكون استثناءً البتة، كذا منعه أبو البقاء، ولم يُبَيِّنْ وجهَه. والذي يظهر أنَّ المانع تقدُّمه على المستثنى منه في لامعنى وهو «وليَّاً»، وأما المعنى فلا يأبى الاستثناء، لأن الاستفهام لا يُراد به حقيقته، بل يُراد به الإِنكار، فكأنه قيل: لا أتَّخذ ولياً غير الله، ولو قيل كذا لكان صحيحاً، فظهر أن المانع عنده إنما هو التقديم على المستثنى منه، لكن ذلك جائز، وإن كان قليلاً ومنه:
١٨٧ - ٤- وما ليَ آل أحمدَ شيعةٌ
وما لي إلا مَشْعبَ الحقِّ مَشْعَبُ
554
وقرأ الجمهور «فاطرِ» بالجر، وفيها تخريجان، أحدهما - وبه قال الزمخشري والحوفي وابن عطية - صفة للجلالة المجرورة ب «غير»، ولا يَضُرُّ الفصل بين الصفة والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها؛ لأنها ليست بأجنبية، إذ هي عاملة في عامل الموصوف. والثاني - وإليه نحا أبو البقاء - أنه بدلٌ من اسمِ الله، وكأنه فرَّ من الفصل بين الصفة وموصوفها، فإن قيل: هذا لازمٌ له في البدل، فإنه فَصَل بين التابع ومتبوعِه أيضاً. فيقال: إن الفصل بين البدلِ والمبدلِ أسهلُ؛ لأنَّ البدل على نية تكرار العامل فهو أقرب إلى الفصل، وقد ترجَّح تخريجُه بوجهٍ آخرَ: وهو أنَّ «فاطر» اسم فاعل، والمعنى ليس على المضيِّ حتى تكون إضافتُه غيرَ محضة فيلزم وَصْفُ المعرفة بالنكرة لأنه في نية الانفصال من الإِضافة، ولا يقال: الله فاطر السماوات والأرض فيما مضى، فلا يُراد حال ولا استقبال؛ لأن كلام الله تعالى قديم متقدِّمٌ على خلق السماوات، فيكون المراد به الاستقبال قطعاً، ويدلُّ على جواز كونه في نية التنوين ما سأذكره عن أبي البقاء قريباً.
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، وتخريجه سهل، وهو أنه خبر مبتدأ محذوف. وخَرَّجه ابن عطية على أنه مبتدأ فيحتاج إلى تقدير خبر، الدلالةُ عليه خفيةٌ بخلاف تقدير المبتدأ فإنه ضمير الأول أي: هو فاطر: وقرئ شاذاً بنصبه، وخرَّجه أبو البقاء على وجهين، أحدهما: أنه بدل من «وليَّاً» قال: «والمعنى على هذا أجعلُ فاطر السماوات والأرض غيرَ الله» كذا قدَّر وفيه نظر؛ فإنه جعل المفعول الأول وهو «غير الله» مفعولاً ثانياً، وجعل البدل المفعول الثاني مفعولاً أول، فالتقدير عكسُ التركيب الأصلي.
والثاني: أنه صفةٌ ل «وليَّاً» قال: «
555
ويجوز أن يكون صفة ل» وليَّاً «والتنوينُ مرادٌ» قلت: يعني بقوله: «التنوين مراد» أن اسم الفاعل عامل تقديراً / فهو في نية الانفصال، ولذلك وقع وصفاً للنكرة كقوله: ﴿هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤].
وهذا الوجه لا يكاد يَصِحُّ إذ يصير المعنى: أأتخذ غيرَ الله وليَّاً فاطر السماوات إلى آخره، فيصفُ ذلك الولي بأنه فاطر السماوات. وقرأ الزهري: «فَطَر» على أنه فعل ماضٍ وهي جملة في محل نصب على الحال من الجلالة كما كان «فاطر» صفتها في قراءة الجمهور. ويجوز على رأي أبي البقاء أن تكون صفة ل «ولياً. ولا يجوز أن تكون صفةً للجلالة، لأن الجملة نكرة.
والفَطْر: الشَّقُّ مطلقاً، وقيَّده الراغب بالشق وقيَّده الواحدي بشَقِّ الشي عند ابتدائه. والفَطْر: الإِبداع والاتخاذ على غير مثال، ومنه» فاطر السماوات «أي أوجدها على غير مثالٍ يُحتذى. وعن ابن عباس:» ما كنت أدري ما معنى فَطَر وفاطِر، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: «أنا فَطَرْتُها» أي: أنشأتها وابتدأتها. ويقال: فَطَرْتُ كذا فَطْر هو فُطوراً، وانفطر انفطاراً وفَطَرْتُ الشاة: حَلَبْتُها بأصبعين، وفَطَرْت العجين: خبزته مِنْ وقته، وقوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠] إشارةً منه إلى ما فَطَر أي أبدع وركَّز في الناس من معرفته، ففطرةُ الله ما رُكِّز من القوة المُدْرِكة لمعرفته، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزخرف: ٨٧]، وعليه: «كلُّ مولودٍ يَوْلَدُ على الفطرة...» الحديث، وهذا أحسنُ ما سمعت في تفسير «فطرة الله» في الكتاب والسنة.
556
قوله: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ القراءة المشهورة ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول، والضمير لله تعالى، والمعنى: وهو يَرْزق ولا يُرْزَق، وهو موافقٌ لقوله تعالى: ﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: ٥٧]. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه: «ولا يَطْعَمُ» بفتح الياء والعين بمعنى ولا يأكل، والضمير لله تعالى.
وقرأ ابن أبي عبلة ويمان العماني: ولا يُطْعِم، بضم الياء وكسر العين كالأول، فالضميران - أعني هو والمستكنُّ في «يطعم» - عائدان على الله تعالى، والضمير في ولا يُطْعِم للوليّ. وقرأ يعقوب في رواية ابن المأمون. «وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم» ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، على عكس القراءة المشهورة، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترَيْنِ في الفعلين للولي فقط، أي: وذلك الوليُّ يُطْعمه غيره ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزه.
وقرأ الأشهب: ﴿وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم﴾ ببنائهما للفاعل. وذكر الزمخشري فيها تخريجين ثانيهما لنفسه، فإنه قال - بعد أن حكى القراءة -: «وفُسِّر بأن معناه وهو يُطْعِم ولا يَسْتَطْعِم». وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى استطعمت، ونحوه: أَفَدْت، ويجوز أن يكون المعنى: وهو يُطْعِم تارة ولا يُطْعم أخرى على حسب المصالح كقولك: هو يعطي ويمنع ويَقْدِر ويبسط ويغني ويفقر «قلت: [هكذا ذكر الشيخ هذه القراءة، وقراءةُ الأشهب هي] كقراءة ابن أبي عبلة والعماني سواء، لا تخالُفَ بينهما،
557
فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كلِّهم، وإلاَّ يوهمْ هذا أنهما قراءتان متغايرتان وليس كذلك.
وقرئ شاذاً: ﴿يَطْعَم﴾ بفتح الياء والعين، ولا يُطْعِم بضم الياء وكسر العين أي: وهو يأكل ولا يُطْعِم غيره، ذكر هذه القراءةَ أبو البقاء وقال:» والضمير راجع على الولي الذي هو غير الله. فهذه ست قراءات وفي بعضها - وهي تَخَالُفُ الفعلين - من صناعة البديع تجنيس التشكيل: وهو أن يكون الشكل فارقاً بين الكلمتين، وسمَّاه أسامة بن منقذ تجنيس التحريف، وهو تسمية فظيعة، فتسميتُه بتجنيس التشكيل أَوْلى.
قوله: ﴿مَنْ أَسْلَمَ﴾«مَنْ» يجوز أن تكون نكرةً موصوفة واقعةً موقعَ اسمِ جمع، أي: أول فريق أسلم، وأن تكون موصولة أي: أول الفريق الذي أسلم. وأفرد الضمير في «اسلم» إمَّا باعتبار لفظ «فريق» المقدَّر، وإمَّا باعتبار لفظ «مَنْ» وقد تقدَّم الكلام على «أول» وكيف يُضاف إلى مفرد بالتأويل المذكور في البقرة.
قوله: ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ﴾ فيه تأويلان، أحدهما على إضمار القول أي: وقيل لي: لا تكونَنَّ، قال أبو البقاء: «ولو كان معطوفاً على ما قبله لفظاً لقال: و» أنْ لا أكون «وإليه نحا أبو القاسم الزمخشري فإنه قال:» ولا تكونَنَّ: وقيل لي لا تكونَنَّ ومعناه: وأُمرت بالإِسلام ونُهيت عن الشرك «والثاني: أنه معطوف على معمول» قل «حملاً على المعنى، والمعنى: قل إني قيل لي:
558
كن أولَ مَنْ أسلم ولا تكونن من المشركين [فهما] جميعاً محملان على القول، لكن أتى الأول بغير لفظ القول وفيه معناه، فحمل الثاني على المعنى. وقيل] : هو عطف على» قل «أُمِرَ بأن يقول كذا ونهى عن كذا.
قوله تعالى: ﴿إِنْ عَصَيْتُ﴾ : شرط حُذِفَ جوابه لدلالة ما قبله عليه، ولذلك جيء بفعل الشرط ماضياً، وهذه الجملة الشرطية فيها وجهان، أحدهما: أنه معترضٌ بين الفعل وهو «أخاف» وبين مفعوله وهو «عذاب». والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال. قال الشيخ: «كأنه قيل: إني أخاف عاصياً ربِّي» وفيه نظرٌ، إذ المعنى يأباه. و «أخاف» وما في حَيِّزه. خبر ل «إنَّ» وما في حيزها في محل نصب ب «قل».
قوله تعالى: ﴿مَّن يُصْرَفْ﴾ :«مَنْ» شرطية، ومحلُّها يحتمل الرفع والنصب كما سيأتي بيانه بعد ذِكْر القراءتين فنقول: قرأ الأخوان وأبو بكر عن عاصم: «يَصْرِف» بفتح الياء وكسر الراء على تسمية الفاعل. والباقون بضمِّ الياء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله.
فأمَّا القراءة الأولى ف «مَنْ» فيها تحتمل الرفع والنصب: فالرفع من وجه واحد وهو الابتداء، وخبرها فعل الشرط أو الجواب أو هما، على حسب الخلاف، وفي مفعول «يَصْرِف» حينئذ احتمالان، أحدهما: أنه مذكور وهو «يومئذ»، ولا بد من حذف مضاف أي: يَصْرِف الله عنه هَوْل يؤمئذ - أو عذاب يومئذ - فقد رحمه، فالضمير في «يَصْرِف» يعود على الله تعالى، ويدلُّ عليه قارءة أُبَيّ بن كعب «مَنْ يَصْرِف اللَّهُ» بالتصريح به. والضميران في «عنه» و «رَحِمَة» ل «مَنْ» والثاني: أنه محذوف لدلالة ما ذكر
559
عليه قبل ذلك أي: مَنْ يَصْرف اللَّهُ عنه العذابَ. و «يومئذ» منصوبٌ على الظرف. وقال مكي: «ولا يَحْسُن أن تقدَّرَ هاءً؛ لأن الهاء إنما تُحْذف من الصلات». قلت: يعني أنه لا يُقَدَّرُ المفعولُ ضميراً عائداً على عذاب يوم؛ لأن الجملة الشرطية عنده صفةٌ ل «عذاب» والعائد منها محذوف، لكنَّ الحذف إنما يكون من الصلة لا من الصفة، وهذا معنى قول الواحدي أيضاً، إلا أنَّ قولَ مكيّ «إنما يُحْذف من الصلات» يريد في الأحسن، وإلاَّ فيحذف من الصفات والأخبار والأحوال، ولكنه دون الصلة.
والنصب من وجهين أحدهما: أنه مفعول مقدَّمٌ ل «يَصْرِف» والضمير في «عنه» على هذا يتعيَّن عَوْدُه على العذاب المتقدم، والتقدير: أيَّ شخص يَصْرِف اللَّهُ عن العذاب. والثاني: أنه منصوب على الاشتغال بفعل مضمر لا يبرز، يفسره هذا الظاهر من معناه لا من لفظه، والتقدير: مَنْ نُكْرِمْ أو مَنْ نُنَجِّ يَصْرِفِ الله. والضمير في «عنه» للشرطية. وأمَّا مفعول «يَصْرِفْ» على هذا فيحتمل الوجهين المتقدمين، أعني كونه مذكوراً وهو «يومئذ» على حذفِ مضاف، أو محذوفاً اختصاراً.
وأمَّا القراءة الثانية ف «مَنْ» تحتمل وجهين، أحدهما: أنها في محل رفعٍ بالابتداء، وخبره ما بعده على ما تقدَّم، والفاعل المحذوف هو الله تعالى، يدلُّ عليه قراءة أبي المتقدمة، وفي القائمِ مَقامَه أربعةُ أوجه، أحدهما: أنه ضمير العذاب، والضمير في «عنه» يعود على «مَنْ» فقط، والظرف فيه حينئذ ثلاثة أوجه، أحدها: أنه منصوب ب «يُصْرَف» الثاني: أنه منصوب بالعذاب أي: الذي قام ضميره مقام الفاعل، قاله أبو البقاء، ويلزم
560
منه إعمال المصدر مضمراً، وقد يقال: يُغْتفر ذلك في الظروف.
الثالث: قال أبو البقاء: «إنه حال من الضمير» قلت: يعني الضمير الذي قام مقام الفاعل، وجاز وقوعُ الحال ظرف زمان لأنها عن معنًى لا عن جثة.
الثاني من الأوجه الأربعة: أن القائم الفاعل ضمير «مَنْ» والضمير في «عنه» يعود على العذاب، والظرف منصوب: إمَّا ب «يُصْرف»، وإمَّا على الحال من هاء «عنه». والثالث من أوجه العامل في «يومئذ» متعذَّر هنا وهو واضح، والتقدير: أي شخصٍ يُصْرف هو عن العذاب. الثالث: أن القائم مقام الفاعل «يومئذ» إمَّا على حذف مضاف أي: من يُصرف عنه فَزَعُ يومئذ أو هول يومئذ، وإمَّا على قيام الظرف دون مضاف كقولك: «سير يوم الجمعة» وإنما بُني «يومئذ» على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن، ولو قرئ بالرفع لكان جائزاً في الكلام، وقد قرئ: ﴿ومِنْ خزي يؤمئذ﴾ فتحاً وجراً بلاعتبارين، وهما اعتباران متعايران، فإن قيل: يلزمُ على عدم تقدير حذف المضاف إقامةُ الظرف غير التام مقامَ الفاعل، وقد نصُّوا على أن الظرف المقطوع عن الإِضافة لا يُخبر به ولا يقوم مقام فاعل، لو قلت: «ضُرب قبلُ» لم يجز، والظرف هنا في حكم المقطوع عن الإِضافة فلا يجوز قيامه مقام / الفاعل إلا على حذف مضاف، فالجواب أن هذا في قوة الظرف المضاف، إذ التنوين عوضٌ عنه، وهذا ينتهض على رأي الجمهور، أما الأخفش فلا، لأن التنوين عنده تنوين صَرْفٍ والكسر كسر إعراب، وقد أوضحت ذلك إيضاحاً شافياً في غير هذا الموضوع.
561
الرابع: أن القائم مَقامَه «عنه» والضمير في «عنه» يعود على «مَنْ» و «يومئذ» منصوب على الظرف، والعامل فيه «يُصْرَفْ» ولا يجوز الوجهان الأخيران، أعني نصبَه على الحال؛ لأنَّ الضميرَ للجُثَّة، والزمانُ لا يقع حالاً عنهما كما لا يقع خبراً، وأعني كونَه معمولاً للعذاب، إذ ليس هو قائماً مقام الفاعل.
والثاني من وجهي «مَنْ» : أنها في محل نصب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده، وهذا إذا جعلنا «عنه» في محل نصب بأَنْ يُجْعَلَ القائم مقام الفاعل: إمَّا ضميرَ العذاب وإمَّا «يومئذ» والتقدير: مَنْ يكرم اللَّهُ أو من يُنَجِّ يُصْرف عنه العذابُ أو هولُ يومئذ، ونظيره: «زيدٌ مُرَّ به مرورٌ حسن»، أقمت المصدر فبقي «عنه» منصوب المحل، والتقدير: جاوزت زيداً مُرَّ به مرورٌ حسن. وأمَّا إذا جُعل «عنه» قائماً مقام الفاعل تعيَّن رَفْعُه بالابتداء.
واعلم أنه متى قلت: منصوب على الاشتغال فإنما يُقَدَّر بعد «مَنْ» لأنَّ لها صدر الكلام، ولذلك لم أُظْهِره إلا مؤخراً، ولهذه العلَّةِ منه بعضهم الاشتغالَ فيما له صدر الكلام كالاستفهام والشرط. والتنوين في «يومئذ» عوض عن جملة محذوفة تضمَّنها الكلام السابق، التقدير: يوم إذ يكون الجزاء، وإنما قلت كذلك لأنه لم يتقدَّم في الكلام جملةٌ مُصَرَّحٌ بها يكون التنوين عوضاً منها، وقد تقدَّم خلاف الأخفش.
وهذه الجملة الشرطية يجوز فيها وجهان: الاستئناف والوصف ل «عذاب يوم»، فحيث جعلنا فيها ضميراً يعود على عذاب يوم إمَّا مِنْ «يُصْرف» وإمَّا مِنْ «عنه» جاز أن تكونَ صفةً وهو الظاهر، وأن تكونَ مستأنفةً، وحيث لم نجعلْ فيها ضميراً يعود عليه - وقد عرفت كيفية ذلك - تَعَيَّن أن تكون مستأنفة، ولا يجوز أن تكون صفةً لخلوِّها من الضمير.
وقد تكلَّم الناس في ترجيح إحدى هاتين القراءتين على الأخرى، وذلك
562
على عادتهم، فقال أبو علي الفارسي: «قراءة» يَصْرِفْ «يعني المبنيَّ للفاعل أحسن لمناسبة قوله» رحمه «. يعني أن كلاً منهما مبني للفاعل ولم يقل» فقط رُحِمَ «. واختارها أبو حاتم وأبو عبيد، ورجَّح بعضهم قراءة المبني للمفعول بإجماعهم على قراءة قوله: ﴿ليس مصروفاً عنهم﴾ يعني في كونه أتى بصيغة اسم المفعول المسند إلى ضمير العذاب المذكور أولاً. ورجَّحها محمد بن جرير بأنها أقلُّ إضماراً ومكي - رحمه الله - تلعثهم في كلامه في ترجيحه لقراءة الأخوين وأتى بأمثلةٍ فاسدةٍ في كتاب» الهداية «له، قاله ابن عطية. وقد قدَّمْتُ أول الكتاب عن العلماء ثعلب وغيره أن ذلك - أعني ترجيحَ إحدى القراءات المتواترة على الأخرى بحيث تُضَعَّفُ الأخرى - ولا يجوز. والجملة من قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ في محل جزم على جواب الشرط، والفاء واجبة.
قوله: ﴿وَذَلِكَ الفوز﴾ مبتدأ وخبر جيء بهذه الجملة مقرِّره لما تقدَّم من مضمون الجملةِ قبلها، والإِشارة ب» ذلك «إلى المصدر المفهوم من قوله» يُصْرف «أي ذلك الصرف. و» المبين «يحتمل أن يكون متعدِّياً فيكون المفعول محذوفاً أي: المبين غيرَه، وأن يكون قاصراً بمعنى يبين، وقد تقدَّم أن» أبان «يكون قاصراً بمعنى ظهر، ومتعدياً بمعنى أظهر.
قوله تعالى: ﴿بِضُرٍّ﴾ : الباء هنا للتعدية وكذا في «بخير» والمعنى: وإن يمسسك الله الضرَّ أي: يجعلك ماسَّاً له، وإذا مسست الضر
563
فقد مَسَّك، إلا أنَّ التعدية بالباء في الفعل المتعدي قليلة جداً، ومنه قولهم: صَكَكْتُ أحد الحجرين بالآخر. وقال الشيخ: «ومنها قوله:» ومنها قوله: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٢٥١]. وقال الواحدي: «إن قيل: إنَّ المسَّ من صفة الأجسام فكيف قال: وإن يمسَسْك الله؟ فالجواب أن الباء للتعدية والباء والألف يتعاقبان في التعدية، والمعنى: إن أَمَسَّك الله ضراً أي: جعله ماسَّك فالفعل للضرّ وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى كقولك:» ذهب زيد بعمرو «وكان الذهاب فعلاً لعمرو، غير أنَّ زيداً هو المسبب له والحامل عليه، كذلك ههنا المسُّ للضرِّ والله تعالى جعله ماسَّاً.
قوله: ﴿فَلاَ كَاشِفَ لَهُ﴾ » له «: خبر لا، وثَمَّ محذوف تقديره: فلا كاشفَ له عنك، وهذا المحذوفُ ليس متعلقاً ب» كاشف «إذ كان يلزم تنوينه وإعرابه بل يتعلق بمحذوف أي: أعني عنه.
و» إلا هو «فيه وجهان: أحدهما: أنه بدل من محل» لاكاشف «فإن محله الرفع على الابتداء، والثاني: أنه بدل من الضمير المستكنِّ في الخبر، ولا يجوز أن/ يرتفع باسم الفاعل وهو» كاشف «لأنه يصير مطولاً ومتى كان مطوَّلاً أُعْرب نصباً، وكذلك لا يجوزُ أن يكونَ بدلاً من الضمير المستكنِّ في» كاشف «للعلة المتقدمة، إذ البدل يحلُّ محل المبدل منه.
فإن قيل: المقابل للخير هو الشر فكيف عَدَلَ عن لفظ الشر؟ والجواب أنه أراد تغليب الرحمة على ضدها فأتى في جانب الشر بأخص منه وهو الضرُّ، وفي جانب بالعام الذي هو الخير تغليباً لهذا الجانب. قال
564
ابن عطية:» ناب الضرُّ هنا مناب الشرُّ وإن كان الشر أعمَّ منه فقابل الخير، وهذا من الفصاحة عدول عن [قانون التكليف والصيغة، فإن باب التكليف وصيغ الكلام] أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقةً أو مضاهاة، فمن ذلك: ﴿إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى﴾ [طه: ١١٨١١٩] فجاء بالجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس:
١٨٧ - ٥- كأنّيَ لم أركبْ جواداً لِلَّذةٍ
ولم أَتَبَطَّنْ كاعِباً ذاتَ خَلْخال
ولم أَسْبَأ الزِّقَّ الرَّويَّ ولم أقْلْ
لخيلي كُرِّي كَرَّةً بعد إجْفالِ
ولم يوضح ابن عطية ذلك. وإيضاحه في آية طه اشتراك الجوع والعري في شيء خاص وهو الخلوُّ، فالجوع خلوٌّ وفراغ في الباطن، والعريُّ خلوٌّ وفراغ في الظاهر، واشتراك الظمأ والضحى في الاحتراق، فالظمأ احتراق في الباطن ولذلك تقول: «بَرَّد الماء حرارة كبدي وأوام عطشي»، والضحى: احتراق الظاهر.
وأمَّا البيتان فالجماع بين الركوب للَّذة وهو الصيد وتبطُّن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والقهر والاقتناص والظفر بمثل هذا المركوب، ألا ترى تسميتهم هَنَ المرأة «رَكَباً» بفتح الراء والكاف وهو فَعَل بمعنى مَفْعول كقوله:
١٨٧ - ٦- إنَّ لها لَرَكَباً إرْزَبَّا
كأنه جبهةُ ذَرَّى حَبَّا
565
وأما البيت الثاني فالجامعُ بين سبأ الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل، فشراء الخمر بَذْل المال، والرجوع بعد الانهزام بذل الروح. وقدَّم تبارك وتعالى مَسَّ الضرِّ على مسِّ الخير لمناسبة اتصال مسِّ الضر بما قبله من الترهيب المدلول عليه بقوله: إن أخاف. وجاء جواب الشرط الأول بالحصر إشارةً إلى استقلاله بكشف الضر دون غيره، وجاء الثاني بقوله ﴿فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ﴾ إشارةً إلى قدرته الباهرة فيندرجُ فيها المَسُّ بخير وغيره، على أنه لو قيل: إن جواب الثاني محذوف لكان وجهاً أي: وإنْ يَمْسَسْك فلا رادَّ لفضله للتصريح بمثله في موضع آخرَ.
قوله: ﴿فَوْقَ﴾ : فيه أوجه أظهرها: أنه منصوب باسم الفاعل قبله. والفوقيَّةُ هنا عبارة عن الاستعلاء والغلبة. والثاني: أنه مرفوع على أنه خبر ثان، أخبر عنه بشيئين أحدهما: أنه قاهرٌ، والثاني: أنه فوق عباده بالغلبة والقهر. الثالث: أنه بدلٌ من الخبر. الرابع: أنه منصوبٌ على الحالِ من الضمير في «القاهر» كأنه قيل: وهو القاهرُ مُسْتعلياً أو غالباً، ذكره المهدوي وأبو البقاء الخامس: أنها زائدةٌ، والتقدير وهو: القاهر عباده، ومثلُه: ﴿فاضربوا فَوْقَ الأعناق﴾ [الأنفال: ١٢] وهذا مردودٌ، لأن الأسماء لا تُزاد.
قوله تعالى: ﴿أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ﴾ : مبتدأ وخبر، وقد عَرَفْتَ مما مرَّ «أيَّاً» بعضُ ما تضاف إليه، فإذا كانت استفهاميةً اقتضى الظاهرُ أن تكون مسمَّى باسم ما أضيفت إليه. قال أبو البقاء: «وهذا يوجب أن يُسَمَّى الله تعالى» شيئاً «فعلى هذا تكون الجلالةُ خبرَ مبتدأ محذوف أي: ذلك الشيء
566
هو الله تعالى. ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: الله أكبر شهادة. و» شهيد «على هذين القولين خبرُ مبتدأ محذوف أي: هو شهيد بيني وبينكم. والجملة من قوله: ﴿قُلِ الله﴾ على الوجهين المتقدمين جواب ل» أيّ «من حيث اللفظ والمعنى. ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ، و» شهيد «خبرها، والجملة على هذا جوابٌ ل» أيّ «من حيث المعنى أي: إنها دالة على الجواب وليست به.
قوله: ﴿شَهَادةً﴾ نصبٌ على التمييز، وهذا هو الذي لا يَعْرِفُ النحاةُ غيرَه. وقال ابن عطية:» ويَصِحُّ على المفعول بأن يُحْمَلَ «أكبر» على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل «. وهذا ساقطٌ جداً. إذ نصَّ النحويون على أن معنى شبهها باسم الفاعل في كونها تؤنث وتثنَّى وتجمع، وأفعلُ مِنْ لا يؤنَّثُ ولا يُثَنَّى ولا يُجْمع فلم يُشْبِه اسم الفاعل، حتى إن الشيخ نسب هذا الخِباط إلى الناسخ دون أبي محمد.
قوله: ﴿بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ متعلِّقٌ ب» شيهد «وكان الأصل: قل الله شهيد بيننا فكُرِّرَتْ» بين «توكيداً، وهو نظير قوله:
١٨٧ - ٧- فأيِّي ما وأيُّك كان شراً
فَسِيقَ إلى المَقامةِ لا يراها
وقوله:
١٨٧ - ٨- يا ربَّ موسَى أظلمي وأَظْلَمُهْ
فاصْبُبْ عليه ملِكاً لا يَرْحَمُهْ
وقوله:
١٨٧ - ٩-
567
فلئِنْ لَقِيْتُك خالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ
أيِّي وأيُّك فارسُ الأحزابِ
والجامع بينها أنه لَمَّا أضاف إلى الياء وحدها احتاج إلى تكرير ذلك المضاف. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون» بيني «متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفة لشهيد فيكون في محل رفع، والظاهر خلافه.
قوله: ﴿وَأُوحِيَ﴾ الجمهور على بنائه للمفعول وحُذِف الفاعلُ للعِلْمِ به وهو الله تعالى.» والقرآن «رفع به. وقرأ أبو نهيك والجحدري وعكرمة وابن السَّمَيْفَع.» وأَوْحَى «ببنائه للفاعل،» القرآن «نصباً على المفعول به. و» لأنذركم «متعلِّقٌ ب» أُوحِي «قيل: وثَمَّ معطوف حُذف لدلالة الكلام عليه أي: لأنذركم به وأبَشِّركم به، كقوله: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] وتقدَّم منه جملةٌ صالحة. وقيل: لا حاجة إليه لأن المَقام مَقامُ تخويف.
قوله: ﴿وَمَن بَلَغَ﴾ فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه في محل نصب عطفاً على المنصوب في» لأُنْذِرَكم «وتكون» مَنْ «موصولة والعائدُ عليها مِنْ صلتها محذوف أي: ولأنذَر الذي بلغه القرآن.
والثاني: أنَّ في «بَلَغ» ضميراً مرفوعاً يعود على «مَنْ» ويكون المفعولُ محذوفاً، وهو منصوب المحل أيضاً نسقاً على مفعول «لأنذركم»، والتقدير: ولأنذر الذي بَلَغ الحُلُمَ، فالعائد هنا مستتر في الفعل. والثالث: أن «مَنْ» مرفوعةُ المحلِّ نَسَقاً على الضمير المرفوع في «لأنذرَكم» وجاز ذلك لأنَّ الفصلَ بالمفعول والجارِّ والمجرور أغنى عن تأكيده، والتقدير: لأنذركم به ولينذركم الذي بلغه القرآن.
قوله: ﴿أَئِنَّكُمْ﴾ الجمهور على القراءة بهمزتين أولاهما للاستفهام، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخ، وقد تقدَّم الكلام في قراءاتٍ مثلِ هذا. قال
568
الشيخ: «وبتسهيل الثانية وبإدخال ألفٍ بين الهمزة الأولى والهمزةِ المُسَهَّلَة، روى هذا الأخيرةَ الأصمعيُّ عن أبي عمرو ونافع». انتهى. وهذا الكلام يُؤذن بأنها قراءة مستغربة وليس كذلك، بل المرويُّ عن أبي عمرو المدُّ بين الهمزتين، ولم يُخْتَلَفْ عن قالون في ذلك. وقرئ بهمزة واحدة وهي محتملة للاستفهام وإنما حُذفت لفهم المعنى، ودلالة القراءة الشهيرة عليها، وتحتمل الخبر المحض.
ثم هذه الجملة الاستفهامية يحتمل أن تكون منصوبةَ المحلِّ لكونها في حيز القول وهو الظاهر، كأنه أُمِرَ أن يقول: أيُّ شيء أكبرُ شهادةً، وأن يقول: أإنكم لتشهدون. ويحتمل أن لا تكونَ داخلةً في حيِّزه فلا محلَّ لها حينئذ. و «أخرى» صفةٌ ل «آلهة» لأنَّ ما لا يَعْقِل يُعامَل جمعُه معاملةَ الواحدةِ المؤنثة كقوله: ﴿مَآرِبُ أخرى﴾ [طه: ١٨] و ﴿الأسمآء الحسنى﴾ [الأعراف: ١٨٠].
قوله: ﴿إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ يجوز في «ما» هذه وجهان، أظهرهما: أنها كافة ل «إنَّ» عن عملها، و «هو» مبتدأ، و «إله» خبر و «واحد» صفته. والثاني: أنها موصولة بمعنى الذي و «هو» مبتدأ «وإليه» خبره، وهذه الجملةُ صلةٌ وعائد، والموصول في محل نصب اسماً ل «إن»، و «واحد» خبرها. والتقدير: إن الذي هو إله واحد، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيفٌ، ويدلُّ على صحة الوجه الأولِ تعيُّنُه في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ﴾ [النساء: ١٧١]، إذ لا يجوز فيه أن تكون موصولة لخلوِّ الجملة من ضمير الموصول. وقال أبو البقاء: - في هذا الوجه - «وهو أليقُ مما قبله» ولا أدري ما وجه ذلك؟.
قوله تعالى: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ : الموصول مبتدأ، و «يَعْرِفونه» خبره والضميرُ المنصوبُ يجوز عَوْدُه على / الرسول أو على القرآن لتقدُّمه في قوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن﴾ أو على التوحيد لدلالة قوله: ﴿إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ أو على كتابهم أو على جميع ذلك. وأَفْرد الضمير باعتبار المعنى كأنه قيل: يعرفون ما ذَكَرْنا وقصصنا. وقد تقدَّم إعراب هذه الجملة في البقرة.
قوله: ﴿الذين خسروا﴾ في محله أربعة أوجه، أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره الجملة من قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ودخلت الفاء لما عَرَفْتَ من شبه الموصول بالشرط. الثاني: أنه نعت للذين آتيناهم الكتاب. قال الزجاج الثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين خسروا. الرابع: أنه منصوبٌ على الذم، وهذان الوجهان فرعان على النعت لأنهما مقطوعان عنه، وعلى الأقوال الثلاثة الأخيرة يكون ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ من باب عَطْفِ جملة اسمية على مثلها، ويجوز أن يكونَ عطفاً على «خسروا» وفيه نظرٌ من حيث إنَّه يؤدِّي إلى ترتُّب عدم الإِيمان على خسرانهم. والظاهر أن الخُسْران هو المترتِّبُ على عدم الإِيمان، وعلى الوجه الأول يكون الذين خسروا أعمَّ من أهل الجاحدين من المشركين، وعلى غيره خاصاً بأهل الكتاب، والتقدير: الذين خسروا أنفسهم منهم أي: من أهل الكتاب.
واسْتُشْكِل على كونه نعتاً الاستشهادُ بهم على كفار قريش وغيرهم من العرب، يعني كيف يُسْتشهد بهم ويُذَمُّون في آية واحدة؟ فقيل: إن هذا سِيق للذمِّ لا للاستشهاد. وقيل: بل سيق للاستشهاد وإن كان في بعض الكلام ذمٌّ
570
لهم، لأن ذلك بوجيهن واعتبارين. قال ابن عطية: «فصَحَّ ذلك لاختلاف ما استشهد بهم فيه وما ذُمُّوا فيه، وأنَّ الذمَّ والاستشهاد ليسا من جهة واحدة».
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾ فيه خمسة أوجه، احدها: أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ بعده، وهو على ظرفيَّته، أي: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، وحُذِفَ ليكونَ أبلغَ في التخويف. والثاني: أنه معطوف على ظرفٍ محذوف، وذلك الظرف معمول لقوله: ﴿لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ والتقدير: إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم، قاله محمد بن جرير. الثالث: أنه منصوب بقوله: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ وفيه بُعْدٌ لعبده من عامله بكثرة الفواصل. الرابع: أنه مفعول به باذكر مقدراً. الخامس. أنه مفعول به أيضاً، وناصبه احذروا أو اتقوا يوم نحشرهم، كقوله: ﴿واخشوا يَوْماً﴾ [لقمان: ٣٣] وهو كالذي قبله فلا يُعَدُّ خامساً.
وقرأ الجمهور «نَحْشرهم» بنون العظمة وكذا «ثم نقول» وقرأ حميد ويعقوب بياء الغيبة فيهما وهو الله تعالى. والجمهور على ضم الشين من «نَحْشُرهم» وأبو هريرة بكسرها، وهما لغتان في المضارع. والضمير المنصوب في «نحشرهم» يعود على المفترين الكذب، وقيل: على الناس كلهم فيندرج هؤلاء فيهم، والتوبيخ مختص بهم. وقيل: يعود على المشركين وأصنامهم، ويدل عليه قوله: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [الصافات: ٢٢]. و «جميعاً» حال من مفعول «نحشُرهم». ويجوز أن يكونَ توكيداً عند مَنْ أثبته من النحويين كأجمعين. وعطف هنا ب «ثُمَّ» للتراخي الحاصل
571
بين الحشر والقول. ومفعولا «تَزْعُمون» محذوفان للعِلْمِ بهما أي: تزعمونهم شركاء أو تزعمون أنهما شفعاؤكم.
وقوله: ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ﴾ إن جَعَلْنا الضمير في «نحشرهم» عائداً على المفترين الكذبَ كان ذلك من باب إقامة الظاهرِ مُقام المضمر، إذ الأصل: ثم نقول لهم وإنما أُظِهِرَ تنبيهاً على قبح الشرك.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ : قرأ حمزة والكسائي: «يكن» بالياء من تحت، «فتنتهم» نصباً، وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم: «تكن» بالتاء من فوق، «فتنتُهم» رفعاً. والباقون بالتاء من فوق أيضاً، «فتنتهم» نصباً. فأمَّا قراءة الأخوين فهي أفصحُ هذه القراءات لإِجرائها على القواعد من غير تأويل، وستعرفه في القراءتين الأُخْرَيَيْن، وإعرابها ظاهر. وذلك أن «فتنتهم» خبر مقدم، و «أَنْ قالوا» بتأويل اسم مؤخر، والتقدير: ثم لم تكن فتنتهم إلا قولُهم، وإنما كانت أفصحَ لأنه إذا اجتمع اسمان، أحدهما: أعرفُ، فالأحسنُ جَعْلُه اسماً مُحَدَّثاً عنه والآخر خبراً حديثاً عنه، و «أَنْ قالوا» يشبه المضمر، والمضمر أعرف المعارف، وهذه القراءة جُعِل الأعرفُ/ فيها اسماً ل «كان» وغيرُ الأعرف خبرَها، ولم يؤنَّث الفعل لإِسناده إلى مذكر. وأما قراءة ابن كثير ومَنْ تبعه ف «فتنتُهم» اسمها، ولذلك أُنِّثَ الفعلُ لإِسناده إلى مؤنث. و «إلا أَنْ قالوا» خبرها، وفيه أنك جعلت غير الأعرف اسماً والأعرفَ خبراً، فليست في قوة الأولى.
وأمَّا قراءةُ الباقين ف «فتنتَهم» خبر مقدم، و «إلا أن قالوا» اسمٌ مؤخَّرٌ، وهذه القراءةُ - وإن كان فيها جَعْلُ الأعرفِ اسماً - كالقراءة الأولى، إلا أن
572
فيها لَحاقَ علامة تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل ولكنه بتأويل. فقيل: لأن قوله: ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ في قوة مقالتهم. وقيل: لأنه هو الفتنة في المعنى، وإذا أخبر عن الشيء بمؤنَّثٍ اكتسب تأنيثاً فعومل معاملته، وجعل أبو علي منه ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠] لما كانت الأمثال هي الحسنات في المعنى عومل معاملةَ المؤنث فسقطت التاء من عدده. ومثلُ الآيةِ قولُه:
١٨٨ - ٠- ألم يكُ غَدْراً ما فَعَلْتُم بسَمْعَلٍ
وقد خاب مَنْ كانَتْ سريرتَه الغَدْرُ
ف «كانت» مسند إلى الغدر وهو مذكَّر، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنَّث فِعْلَه، ومثله قول لبيد:
١٨٨ - ١- فمضى وقدَّمها وكانت عادةً
إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها
قال أبو علي: «فأنَّث الإِقدام لما كان العادة في المعنى» قال: «وقد جاء في الكلام:» ما جاءت حاجتَك «فأنّث ضمير» ما «حيث كانت الحاجة في المعنى، ولذلك نصب» حاجتك «. وقال الزمشخري:» وإنما أنَّث «أن قالوا» لوقوع الخبر مؤنثاً كقولهم: من كانت أمَّك «.
وقال الشيخ:» وكلام الزمخشري مُلَفَّقٌ من كلام أبي علي، وأمَّا «من كانت أمَّك» فإنه حَمَلَ اسمَ «كان» على معنى «مَنْ» فإن لها لفظاً مفرداً مذكراً، ولها معنى بحسب ما تريد من إفارد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، وليس الحَمْلُ
573
على المعنى لمراعاة الخبر، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر، كقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [يونس: ٤٢] [وقوله] :
١٨٨ - ٢-...............
نكن مثلَ مَنْ يا ذئب يَصْطحبان
قلت: ليت شعري ولأي معنى خصَّ الزمخشريَّ بهذا الاعتراض فإنه وارد على أبي علي أيضاً؟ إذ لقائلٍ أن يقول: التأنيث في «جاءت» للحمل على معنى «ما» فإن لها هي أيضاً لفظاً ومعنى مثل «مَنْ» على أنه يقال: للتأنيث علَّتان، فذكرا إحداهما.
ورجَّح أبو عبيد قراءَة الأخوين بقراءة أُبَيّ وبان مسعود: «وما كان فتنتُهم إلا أن قالوا» فلم يُلْحِقْ الفعلَ علامةَ تأنيث. ورجَّحها غيره بإجماعهم على نصب «حُجَّتَهم» من قوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [الجاثية: ٢٥]. وقرئ شاذاً: ﴿ثم لم يكنْ فتنتُهم إلا أن قالوا «بتذكير» يكنْ «ورفع» فتنتهم «ووجهُ شذوذِها سقوطُ علامةِ التأنيثِ والفاعلُ مؤنثٌ لفظاً وإن كان غيرَ حقيقي، وجَعْلُ غير الأعرف اسماً والأعرفِ خبراً، فهي عكس القراءة الأولى من الطرفين، و» أن قالوا «ممَّا يجب تأخيرُه لحَصْره سواء أجُعِلَ اسماً أم خبراً.
قوله: {رَبِّنَا﴾ قرأ الأخَوان: ﴿ربَّنا﴾ نصباً والباقون جراً. ونصبه: إمَّا على النداء وإمَّا على المدح، قاله ابن عطية، وإمَّا على إضمار» أعني «قاله
574
أبو البقاء والتقدير: يا ربنا. وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملة معترضةٌ بين القسم وجوابه وهو قوله ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ وخفضُه في ثلاثةِ أوجهٍ: النعتِ والبدلِ وعطفِ البيان. وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين: ﴿واللَّهُ ربُّنا﴾ برفعهما على المبتدأ والخبر. قال ابن عطية:» وهذا على تقديمٍ وتأخير، كأنهم قالوا: واللَّهِ ما كنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنا «قلت: يعني أن ثَمَّ قَسَماً مضمراً.
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ :«كيف» منصوب على حدِّ نَصْبها في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ [البقرة: ٢٨] وقد تقدَّم بيانه. و «كيف» وما بعدها في محل نصب ب «انظر» لأنها معلِّقة بها عن العمل. و «كَذَبوا» وإن كان معناه مستقبلاً لأنه في يوم القيامة، فهو لتحقُّقِه أبرزه في صورة الماضي. وقوله: «وضَلَّ» يجوز أن يكونَ نَسَقاً على «كَذَبوا» فيكون داخلاً في حَيِّز النظر، ويجوز أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ فلا يندرجُ في حَيِّزِ المنظور إليه، وقوله: «ما كانوا» يجوز في «ما» أن تكون مصدرية أي: وضلَّ عنهم افتراؤهم، وهو قولُ ابن عطية. ويجوز أن تكونَ موصولةً اسمية، أي: وضَلَّ عنهم الذين كانوا يفترونه، فعلى الأول لا يُحْتاج إلى ضمير عائد على «ما» عند الجمهور، وعلى الثاني لا بد من ضمير عند الجميع.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ﴾ : راعى لفظَ «مَنْ» فأفردَ، ولو راعى المعنى لَجَمَع كقوله في موضع آخر: {وَمِنْهُمْ مَّن
575
يَسْتَمِعُونَ} [يونس: ٤٢] وقوله: ﴿وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾ إلى آخره، حُمِل على معناها.
قوله: ﴿وَجَعَلْنَا﴾«جَعَلَ» هنا يحتمل أن يكونَ للتصيير فيتعدى لاثنين، أَوَّلُهما «أكنَّةً»، والثاني الجار قبله، فيتعلَّق بمحذوف، أي: صَيَّرنا الأكِنَّةَ مستقرَّةً على قلوبهم. ويحتمل أن يكون بمعنى خلق فيتعدَّى لواحد، ويكون الجارُّ قبله حالاً فيتعلَّق بمحذوف، لأنه لو تأخر لوقع صفةً ل «أَكِنَّة» ويُحتمل أن يكونَ بمعنى «ألقى» فتتعلق «على» بها كقولك: «ألقيت على زيدٍ كذا» وقوله: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾ [طه: ٣٩].
وهذه الجملةُ تحتمل وجهين، أظهرهما: أنها مستأنفة سيقت للإِخبار بما تضمَّنَتْه من الخَتْم على قلوبهم وسمعهم. ويُحْتمل أن تكون في محلِّ نصب على الحال، والتقدير: مَنْ يستمع في حال كونه مجعولاً على قلبه كِنانٌ وفي أذنه وَقْرٌ، فعلى الأول يكون قد عطف جملةً فعلية على اسمية، وعلى الثاني تكون الواو للحال، و «قد» مضمرة، بعدها عند مَنْ يقدِّرها قبل الماضي الواقع حالاً.
والأَكِنَّة: جمع كِنان وهو الوعاء الجامع. قال:
١٨٨ - ٣- إذا ما انْتَضْوها في الوغَى مِنْ أكنَّةٍ
حَسِبْتَ بروقَ الغيث تأتي غيومُها
وقال بعضهم: «الكِنُّ - بالكسر - ما يُحْفَظُ فيه الشي، وبالفتح المصدر. يقال: كنَّنْتُه كِنَّاً أي: جعلتُه في كِنّ، وجُمِعَ على أَكْنان قال تعالى: ﴿مِّنَ الجبال أَكْنَاناً﴾ [النحل: ٨١]. والكِنانُ: الغِطاء الساتر، والفعل من هذه المادة
576
يُستعمل ثلاثياً ورباعياً، يقال: كَنَنْتُ الشيء وأكنَنْتُه كِنَّاً وأكناناً، إلا أنَّ الراغبَ فرَّقَ بين فَعَل وأَفْعل فقال:» وخُصَّ كَنَنْتُ بما يَسْتُرُ من بيتٍ أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام، قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ [الصافات: ٤٩] وأكنَنْتُ بما يُسْتَرُ في النفس، قال تعالى: ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٥]. قلت: ويَشْهد لما قال قوله أيضاً: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾ [الواقعة: ٧٧٧٨] وقوله تعالى: ﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾ [القصص: ٦٩]. وكِنانُ يُجْمع على أكِنَّة في القلة والكثرة لتضعيفه، وذلك أن فَعالاً وفِعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمع في القلة على أَفْعِله كأَحْمِرَة واقْذِلة وفي الكثرة على فُعُل كحُمُر وقُذُل، إلا أن يكونَ مضاعفاً ك «بَتَات» و «كِنان» أو معتلَّ اللام كخِباء وقَباء فيُلْتَزَمَ جَمْعُه على أَفْعِلة، ولا يجوز على فُعُل إلا في قليلٍ من الكلام كقولهم عُنُن وحُجُج في جمع عِنان وحِجاج.
قوله: ﴿أَن يَفْقَهُوهُ﴾ في محلِّ نصب على المفعول من أجله، وفيه تأويلان سَبَقا، أحدهما: كراهةَ أن يفقهوه، وهو رأيُ البصريين، والثاني: حَذْفُ «لا» أي: أن لا يفقهوه، وهو رأيُ الكوفيين.
577
قوله: ﴿وَقْراً﴾ عطفٌ على «أَكِنَّة» فينصبُ انتصابَه، أي: وجَعَلْنا في آذانهم وقراً. و «في آذانهم» كقوله «على قلوبهم» وقد تقدَّم أنَّ «جَعَل» يَحْتمل معانيَ ثلاثةً فيكونُ هذا الجار مبنيَّاً عليها مِنْ كونه مفعولاً ثانياً قُدِّمَ، أو متعلقاً بها نفسِها أو حالاً.
والجمهور على فتح الواو من «وَقْراً» وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها والفرق بين الوَقْر والوِقْر أنَّ المفتوح هو الثِّقل في الأذن، يُقال منه: وَقَرِتْ أذنه بفتح القاف وكَسْرِها، والمضارع تَقِر وتَوْقَر بحسب الفعلين ك تَعِد وتَوْجَل. وحكى أبو زيد: أذنٌ مَوْقورة، وهو جارٍ على القياس، ويكون فيه دليلٌ على أن وَقَر الثلاثي يكون متعدِّياً، وسُمِع «أذن مُوْقَرَة» والفعل على هذا أَوْقَرْتُ رباعياً كأكرم. والوِقْر - بالكسر - الحِمْل للحمار والبغل ونحوهما، كالوسَق للبعير، قال تعالى: ﴿فالحاملات وِقْراً﴾ [الذاريات: ٢] فعلى هذا قراءةُ الجمهور واضحة أي: وجَعَلْنا في آذانهم ثِقَلاً أي: صَمَماً. وأمَّا قراءةُ طلحة فكأنه جَعَلَ آذانهم وَقِرت من/ الصَّمَم كما تُوْقَرُ الدابة بالحِمْل، والحاصل أن المادَّة تدلُّ على الثِّقَل والرِّزانة، ومنه الوَقار للتُّؤَدة والسَّكينة، وقوله تعالى: ﴿وفي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ فيه الفصلُ بين حَرْفِ العطف وما عَطَفه بالجار مع كونِ العاطف على حرفٍ واحد وهي مسألة خلافٍ تقدَّم تحقيقُها في قوله: ﴿أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٥٨] والظاهر أن هذه الآيةَ ونظائرها مثلُ قوله: ﴿آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] ليس مما فُصِل فيه بين العاطِف ومعطوفِه. وقد حقَّقْتُ جميع ذلك في الموضعِ المُشارِ إليه.
قوله: ﴿حتى إِذَا جَآءُوكَ﴾ قد تقدَّم الكلام في «حتى» الداخلة على «إذا»
578
في أول النساء. وقال أبو البقاء هنا: «إذا» في موضع نصب بجوابها وهو «يقول» وليس ل «حتى» هنا عملٌ وإنما أفادَتْ معنى الغاية كما لا تعمل في الجمل «. وقال الحوفي:» حتى «غاية، و» يُجادلونك «حال، و» تقولُ «جوابُ» إذا «وهو العامل في» إذا «وقال الزمخشري:» هي «حتى» التي تقع بعدها الجمل، والجملةُ قولُه: ﴿حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ﴾، و «يجادلونك» في موضع الحال، ويجوزُ أن تكونَ الجارَّةَ، ويكون «إذا جاؤوك» في محل الجَرِّ بمعنى: حتى وقت مجيئهم، ويجادلونك حال، وقوله: ﴿يَقُولُ الذين كفروا﴾ تفسير له، والمعنى: أنه بلغ تكذيبُهم الآياتِ إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك، وفسَّر مجادلتهم بأنهم يقولون: إنْ هذا إلا أساطير الأولين.
قال الشيخ: «وقد وُفِّق الحوفي وأبو البقاء وغيرُهما للصواب في ذلك، ثم ذكر عبارة أبي البقاء والحوفي. وقال أيضاً:» و «حتى» إذا وقع بعدها «إذا» يُحْتمل أن تكونَ بمعنى الفاء، ويُحتمل أن تكون بمعنى إلى أن، فيكون التقدير: فإذا جاؤوك يجادلونك يقول، أو يكون التقدير: وجَعَلْنا على قلوبهم أَكِنَّة، وكذا إلى أَنْ قالوا: إنْ هذا إلا أساطير الأولين، وقد تقدَّم أن «يُجادِلونك» حالٌ من فاعل «جاؤوك» و «يقول» : إمَّا جواب «إذا» وإمَّا مفسِّرةٌ للمجيء كما تقدَّم تقريره.
و «أساطير» فيه أقوال، أحدها: أنه جمع لواحد مقدر، واختُلِفَ في ذلك المقدَّر فقيل: أُسْطورة، وقيل: أَسْطارة، وقيل: أُسْطور، وقيل: أَسْطار،
579
وقيل: إسْطير وقال بعضهم: بل لُفِظَ بهذه المفردات. والثاني: أنه جمعُ جمعٍ، فأساطير جمع أَسْطار، وأَسْطار جمع سطَر بفتح الطاء، وأما سَطْر بسكونها فجمعُه في القلة على أَسْطُر، وفي الكثرة على سُطور كفَلْس وأَفْلُس وفُلوس. والثالث: أنه جَمْعُ جَمْعِ الجمع، فأساطير جمع أَسْطار، وأَسْطار جمع أَسْطُر، وأَسْطُر جمع سَطْر. وهذا مرويٌّ عن الزجاج. وهذا ليس بشيء، فإنَّ «أَسْطار» ليس جمعَ أَسْطُر، بل هما مثالا جمع قلة. الرابع: أنه اسم جمع، قال ابن عطية: «وقيل: هو اسم جمعٍ لا واحد له من لفظه» وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ النحويين قد نصُّوا على أذا كان على صيغة تَخُصُّ الجموعَ لم يُسمُّوه اسم جمع بل يقولون هو جمعٌ كعباديد وشماطيط. وظاهر كلام الراغب أن أساطير جمع سَطَر بفتح الطاءِ فإنه قال: «وجمعُ سَطَر - يعني بالفتح - أسطار وأساطير» ووقال المبرد: «هي جمع أُسْطورة نحو أُرْجوحة وأراجيح وأُحْدُوثه وأحاديث» ومعنى الأساطير الأحاديث الباطلة والتُرَّهات ممَّا لا حقيقةَ له.
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ : في الضميرين - أعني هم وهاء «عنه» - أوجه، أحدها: أن المرفوع يعود على الكفار، والمجرور يعود على القرآن، وهو أيضاً الذي عاد عليه الضميرُ المنصوب من «يَفْقهوه»، والمشارُ إليه بقولهم: «إنْ هذا» والثاني: أنَّ «هم» يعود على مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم مِن الكفار، وفي «عنه» يعود على الرسول، وعلى هذا فقيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة، فإن قوله: ﴿جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ﴾ خطاب للرسول، فخرج
580
من هذا الخطاب إلى الغَيْبة. وقيل: يعود على المرفوع على أبي طالب وأتباعه.
وفي قوله ﴿يَنْهَوْنَ﴾ و ﴿وَيَنْأَوْنَ﴾ تجنيس التصريف، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهَوْن انفردت بالهاء، ويَنْأَوْن بالهمزة، ومثله قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ﴾ [الكهف: ١٠٤] ﴿بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ...... وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [غافر: ٧٥] وقوله عليه السلام: «الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ» وبعضهم يسمِّيه «تجنيس التحريف» وهو الفرق بين كلمتين بحرف، وأنشدوا:
١٨٨ - ٤- إنْ لم أشُنَّ على أبن حرب غارةً
لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ
وذكر غيره أن تجنيسَ التحريف هو أن يكون الشكل فرقاً بين كلمتين، وجعل منه «اللُّهى تفتح اللَّهى» وقد تقدم تحقيق ذلك. وقرأ الحسن البصري «ويَنَوْن» بإلقاء حركة الهمزة على النون وحذفها، وهو تخفيف قياسي. والنَّأيُ: البُعْد، قال:
١٨٨ - ٥- إذا غيَّر النأيُ المُحِبِّين لم يَزَلْ
رَسِيسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يبرحُ
وقال آخر:
١٨٨ - ٦- ألا حَبَّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ
وهندٌ أتى مِنْ دونها النأيُ البعدُ
581
عطف الشيء على نفسه للمغايرة اللفظية، يقال: نأى زيد يَنْأى نأياً، ويتعدَّى بالهمزة فيقال: أَنْأيْتُه، ولا يُعَدَّى بالتضعيف، وكذا كلُّ ما كان عينه همزة. ونقل الواحدي أنه يقال: نَأَيْتُه بمعنى نَأَيْتُ عنه، أنشد المبردِ:
فبناه للمفعول أي: يُنَحَّى ويُبْعَد. والحاصلُ أن هذه المادةَ تدلُّ على البُعْد، ومنه: أَتَنَأَّى أي: أفتعلُ النَّأيَ. والمَنْأى: الموضع البعيد، قال النابغة:
١٨٨ - ٩- فإنَّك كالموتِ الذي هو مُدْرِكي
وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتأى عنك واسعُ
وتناءَى: تباعَدَ، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرة التي حول الخِباء لتُبْعِدَ عنه الماء. وقُرِئ: ﴿وناءَ بجانبه﴾ وهو مقلوبٌ مِنْ نأى، ويدل على ذلك أن الأصلَ هو المصدرُ وهو النَّأْيُ بتقديم الهمزة على حرف العلة.
قوله: ﴿وَإِن يُهْلِكُونَ﴾«إنْ» نافيةٌ كالتي في قوله: ﴿إِنْ هاذآ﴾ [الأنعام: ٢٥]، و «أنفسهم» مفعولٌ، وهو استثناء مفرغ، ومفعول «يَشْعرون» محذوف: إمَّا اقتصاراً وإمَّا اختصاراً، أي: وما يشعرون أنهم يُهْلكون أنفسَهم.
وحَذْفُ الجواب أبلغُ: قالوا: لأنَّ السَّامع تَذْهَبُ نفسُه كلَّ مذهب، فلو صُرِّح له بالجواب وَطَّن نفسَه عليه فلم يَخْشَ منه [كثيراً، ولذلك قال كثير:
١٨٩ - ٣- فقلتُ لها يا عَزُّ كلُّ مصيبةٍ
إذا وُطِّنَتْ لها النفسُ ذَلَّتِ]
و «ترى» يجوز أن تكونَ بَصَريةً ومفعولُها محذوف، أي: ولو ترى حالَهم، ويجوز أن تكونَ القلبيةَ، والمعنى: ولو صَرَفْتَ فكرَك الصحيح لأن تَتَدبَّر حالَهم لازْدَدْتَ يقيناً.
وفي «لو» هذه وجهان، أظهرهما: أنها الامتناعية فينصرف المضارع بعدها للمضيِّ، ف «إذ» باقية على أصلها من دلالتها على الزمن الماضي،
583
وهذا وإن كان لم يقعْ بعدُ لأنه سيأتي يوم القيامة إلا أنه أُبْرِزَ في صورة الماضي لتحَقُّقِ الوعد. والثاني: أنها بمعنى «إنْ» الشرطية «و» إنْ «هنا تكون بمعنى» إذا «والذي حَمَلَ هذا القائلَ على ذلك كونُه لم يقعْ بعدُ، وقد تقدَّم تأويله.
وقرأ الجمهور: ﴿وُقِفُوا﴾ مبنياً للمفعول من وقف ثلاثياً. و» على «يُحْتمل أن تكونَ على بابها وهو الظاهر أي: حُبِسوا عليها، وقيل: يجوز أن تكون بمعنى في، وليس بذاك. وقرأ ابن السَّمَيْفَع وزيد بن علي:» وَقَفوا «مبنياً للفاعل. و» وقف «يتعدَّى ولا يتعدَّى، وفرَّقَتِ العرب بينهما بالمصدر، فمصدرُ اللازم على فُعول، ومصدرُ المتعدِّي على فَعْل، ولا يقال: أَوْقَفْتُ. قال أبو عمرو بن العلاء:» لم أسمعْ شيئاً في كلام العرب: أوقفت فلاناً، إلا أَنِّي لو رأيت رجلاً واقفاً فقلت: له: «ما أوقفك ههنا» لكان عندي حسناً «وإنما قال كذلك لأنَّ تعدِّيَ الفعل بالهمزة مقيس نحو: ضحك زيد وأضحكته أنا، ولكن سَمِعَ غيره في» وقف «المتعدي أوقفته. قال الراغب:» ومنه - يعني من لفظِ وَقَفْتُ القومَ - استُعير وَقَفْتُ الدابة إذا سَبَلْتُها «فَجَعَل الوقفَ حقيقةً في مَنْع المشي وفي التسبيل مجازاً على سبيل الاستعارة، وذلك أن الشيء المُسْبَل كأنه ممنوع من الحركة، والوَقْفُ لفظُ مشترك بين ما تقدَّم وبين سِوار من عاج، ومنه:» حمار مُوَقَّفٌ بأرساغه مِثْلُ الوَقْف من البياض «.
قوله: ﴿ياليتنا﴾ قد تقدَّم الكلام في» يا «المباشِرة للحرف والفعل.
وقرأ: «ولا نُكَذِّبُ» و «نكونُ» برفعهما نافع وأبو عمرو وابن كثير والكسائي،
584
وبنصبهما حمزةُ عن عاصم، وبرفع الأول ونصب الثاني ابن عامر وأبو بكر. ونقل الشيخ عن ابن عامر أنه نصبَ الفعلين، ثم قال بعد كلام طويل «قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر/ في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر: ﴿ولا نكذِّبُ﴾ بالرفع، و» نكون «بالنصب». فأما قراءة الرفع فيهما ففيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن الرفع فيهما على العطف على الفعل قبلهما وهو «نُرَدُّ»، ويكونون قد تمنَّوا ثلاثة اشياء: الردَّ إلى دار الدنيا، وعدمَ تكذيبهم بآيات ربهم، وكونَهم من المؤمنين. والثاني: أن الواو واو الحال، والمضارع خبر مبتدأ مضمر، والجملة الاسمية في محصل نصب على الحال من مرفوع «نُرَدُّ»، والتقدير: يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين وكائنين من المؤمنين، فيكونُ تمنِّي الرد مقيَّداً بهاتين الحالَيْن، فيكونُ الفعلان أيضاً داخلَيْن في التمني.
وقد استشكل الناسُ هذين الوجهين: بأن التمني إنشاء، والإِنشاء لا يدخله الصدق ولا الكذب، وإنما يدخلان في الإِخبار، وهذا قد دخله الكذبُ لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه أحدها - ذكره الزمشخري - قال: «هذا تمنِّ تضمَّنَ معنى العِدَة فجاز أن يدخلَه التكذيبُ كما يقول الرجل:» ليت اللَّهَ يرزقني مالاً فأُحْسِنَ إليك، وأكافئَك على صنيعك «فهذا مَتَمَنِّ في معنى الواعد، فلو رُزِق مالاً ولم يُحْسِنْ إلى صاحبه ولم يكافئه كذَّبَ، وصَحَّ أن يقال له كاذب، كأنه قال: إن رزقني الله مالاً أحسنت إليك.
585
والثاني: أن قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ليس متعلِّقاً بالمتمنَّى، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تعالى بأنهم دَيْدَنهم الكذب وهِجِّيراهم ذلك، فلم يدخل الكذب في التمني. وهذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح.
والثالث: أنَّا لا نُسَلِّم أن التمنِّي لا يَدْخُله الصدق والا الكذب، بل يدخلانه، وعُزِي ذلك إلى عيسى بن عمر. واحتجَّ على ذلك بقول الشاعر:
١٨٩ - ٤- مُنَىً إن تكن حقاً يكنْ أحسنَ المنى
وإلاَّ فقد عِشنا بها زمناً رغْدا
قال:» وإذا جاز أن توصف المنى بكونها حقاً بجاز أن توصف بكونها باطلاً وكذباً «وهذا الجواب ساقط جداً، فإن الذي وُصِفَ بالحق إنما هو المنى، والمُنى جمع مُنْيَة والمُنْيَةُ توصف بالصدق والكذب مجازاً؛ لأنها كأنها تَعِد النفس بوقوعها فيُقال لِما وقع منها صادق ولِما لم يقع منها كاذب، فالصدق والكذب إنما دخلا في المُنْيَةِ لا في التمني.
والثالث من الأوجه المتقدمة ان قوله» ولا نكذِّبُ «خبر لمبتدأ محذوف، والجملة استنافية لا تعلُّقَ لها بما قبلها، وإنما عُطِفَتْ هاتان الجملتان الفعليَّتان على الجملة المشتملة على أداة التمني وما في حَيِّزها فليسَتْ داخلةً في التمني أصلاً، وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم أَخْبروا عن أنفسهم بأنهم لا يُكَذِّبون بآيات ربهم، وأنَّهم يكونون من المؤمنين، فتكون هذه الجملة وما عُطِف عليها في محل نصبٍ بالقول، كأنَّ التقديرَ: فقالوا: يا ليتنا نُرَدُّ وقالوا: نحن لا نُكَذِّبُ ونكونُ من المؤمنين واختار سيبويه هذا الوجه، وشبَّهه بقولهم:» دعني ولا أعودُ «أي وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني، أي: لا أعود على كل حال، كذلك معنى الآية أَخْبروا أنهم لا يُكَذِّبون بآيات ربهم وأنهم يكونون من المؤمنين على كل حال، رُدُّوا أو لم يُرَدوا.
586
وهذا الوجه وإن كان الناسُ قد ذكروه ورجَّحوه واختار سيبويه - كما مرَّ - فن بعضهم استشكل عليه إشكالاً وهو: أنَّ الكذبَ لا يقع في الآخرة فكيف وُصِفوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم «ولا نكذِّب ونكون» ؟ وقد أُجيب عنه بوجهين، أحدهما: أن قوله ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ استيثاقٌ لذَمِّهم بالكذب، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّم ذلك آنفاً. والثاني: أنهم صَمَّموا في تلك الحال على أنهم لو رُدُّوا لَمَا عادوا إلى الكفر لِما شاهدوا من الأهوال والعقوبات، فأخبر الله تعالى أنَّ قولَهم في تلك الحال: «ولا نكذِّبُ» وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغيَّر على تقدير الرد ووقوع العَوْد، فيصير قولهم: «ولا نكذب» كذباً، كما يقول اللص عند ألم العقوبة: «لا أعود»، ويعتقد ذلك ويصمم عليه، فإذا خُلِّص وعادَ كان كاذباً.
[وقد أجاب مكي أيضاً بجوابين، أحدهما] قريبٌ مما تقدَّم، والثاني لغيره، فقال: «أي: لكاذبون في الدنيا في تكذيبهم الرسل وإنكارهم البعثَ للحال التي كانوا عليها وقد أجاز أبو عمرو وغيره وقوعَ التكذيب في الآخرة لأنهم ادَّعَوا أنهم لو رُدُّوا لم يكذِّبوا بآيات الله، فعلمَ اللَّهُ ما لا يكون لو كان كيف يكون، وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكذَّبوا بآيات الله، فأكذبهم الله في دعواهم».
وأمَّا نَصْبُهما فبإضمار «أَنْ» بعد الواو التي بمعنى مع، كقولك: «ليت لي مالاً وأنفقَ منه» فالفعل منصوب بإضمار «أن» و «أنْ» مصدرية ينسبك منها ومن الفعل بعدها مصدرٌ، والواوُ حرف عطف فيستدعى معطوفاً عليه، وليس قبلها في الآية إلا فعلٌ فكيف يُعْطَفُ اسمٌ على فعل؟ فلا جَرَمَ أنَّا نقدِّر مصدراً
587
متوهماً يُعْطَفُ هذا المصدر المنسبك من «أَنْ» وما بعدها عليه، والتقدير: يا ليتنا لنا رَدُّ وانتفاءُ تكذيب بآيات ربنا وكون من المؤمنين، أي: ليتنا لنا ردُّ مع هذين الشيئين، فيكون عدمُ التكذيب والكونُ من المؤمنين مُتَمَنَّيَيْنِ أيضاً، فهذه الثلاثةُ الأشياءِ: أعني الردَّ وعدمَ التكذيب والكونَ من المؤمنين متمنَّاةٌ بقيد الاجتماع، لا أنَّ كلَّ واحدٍ متمنَّى وحدَه؛ لأنه كما قَدَّمْتُ لك: هذه الواوُ شرطُ إضمار «أنْ» بعدها: أن تصلح «مع» في مكانها، فالنصبُ يُعَيِّنُ أحدَ محتملاِتها في قولك «لا تأكلِ السمك وتشرب اللبن» وشبهه، والإِشكالُ المتقدم وهو إدخال التكذيب على التمني واردٌ هنا، وقد تقدم جواب ذلك، إلا أن بعضَه يتعذَّر ههنا: وهو كون لا نكذِّبُ، ونكونُ «متسأنَفَيْن سِيقا لمجرد الإِخبار، فبقي: إمَّا لكون التمني دخله معنى الوعد، وإمَّا أن قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ليس راجعاً إلى تمنِّيهم، وإمَّا لأنَّ التمنِّي يدخله التكذيب، وقد تقدَّم فساده.
وقال ابن الأنباري: «أَكْذَبَهم في معنى التمني؛ لأن تمنِّيَهم راجعٌ إلى معنى:» نحن لا نكذِّب إذا رُدِدْنا «فغلَّب عزَّ وجل تأويلَ الكلام فأكذبهم، ولم يُسْتعمل لفظ التمني» وهذا الذي قاله ابن الأنباري تقدَّم معناه بأوضح من هذا. قال الشيخ: «وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أنَّ هذه الواوَ المنصوبُ بعدها هو على جواب التمني، كما قال الزمخشري:» وقرئ: ولا نكذِّبَ ونكونَ بالنصب بإضمار أَنْ على جواب التمني، ومعناه: إنْ رُدِدْنا لم نكذِّبْ ونكنْ من المؤمنين «. قال:» وليس كما ذكر، فإنَّ نَصْبَ الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب؛ لأنَّ الواوَ لا تقع [في] جواب الشرط فلا ينعقد
588
ممَّا قبلها ولا ممَّا بعدها شرط وجواب، وإنما هي واو «مع» يُعْطَفُ ما بعدها على المصدر المتوهَّم قبلها، وهي واو العطف يتعيَّنُ مع النصب أحدُ محامِلها الثلاثة: وهي المعيَّةُ ويُمَيِّزها من الفاء تقديرُ «مع» موضعها، كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعلٌ منصوب ميِّزها تقدير شرطٍ قبلها أو حال مكانها. وشُبْهَةُ مَنْ قال إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهَّم أنها جواب. وقال سيبويه: «والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء، والواو والفاء معناهما مختلفان، ألا ترى:
١٨٩ - ٥- لا تَنْهَ عن خلق وتأتيَ مثله
.......................
لو دخلت الفاءُ هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد: لا تجمع النهيَ والإِتيان وتقول:» لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبن «لو أَدْخَلْتَ الفاء فَسَدَ المعنى» قال الشيخ: «ويوضِّح لك أنها ليست بجوابٍ انفرادُ الفاءِ دونها بأنها إذا حُذِفت انجزم الفعلُ بعدها بما قبلها لِما تضمَّنه من معنى الشرط إلا في النفي، فإن ذلك لا يجوز». قلت: قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج شيخُ الجماعة. قال أبو إسحاق: «نصبٌ على الجواب بالواو في التمني كما تقول:» ليتك تصير إلينا ونكرمَك «المعنى: ليت مصيرَك يقع وإكرامَنا، ويكون المعنى: ليت ردَّنا وقع وأن لا نكذِّب».
وأمَّا كونُ الواو ليست بمعنى الفاء فصحيحٌ، على ذلك جمهورُ النحاة. إلى أني رأيت أبا بكر ابن الأنباري خرَّج النصب على وجهين، أحدهما: أن
589
الواو بمعنى الفاء. قال أبو بكر: «في نصب» نكذِّبَ «وجهان، أحدهما: أن الواو مُبْدَلةٌ من الفاء، والتقدير: يا ليتنا نُرَدُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ، فتكون الواو هنا بمنزلة الفاء في قوله: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين﴾ [الزمر: ٥٨] يؤكد هذا قراءةُ ابنِ مسعود وابن أبي إسحاق:» يا ليتنا نردُّ فلا نكذبَ «بالفاء منصوباً. والوجه الآخر: النصب على الصرف ومعناه الحال، أي: يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين/.
وأمَّا قراءة ابن عامر - برفع الأول ونصب الثاني - فظاهرةٌ بما تقدَّم؛ لأنَّ الأولَ يرتفع على حدِّ ما تقدَّم من التأويلات، وكذلك نصبُ الثاني يتخرَّج على ما تقدَّم، ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التمني أو استأنفه، إلا أنَّ المنصوبَ يحتمل أن يكون من تمام قوله» نُرَدُّ «أي: تَمَنَّوا الردَّ مع كونهم من المؤمنين، وهذا ظاهر إذا جَعَلْنا» ولا نكذِّب «معطوفاً على» نردُّ «أو حالاً منه. وأما إذا جَعَلْنا» ولا نكذِّبُ «مستأنفاً فيجوز ذلك أيضاً ولكن على سبيل الاعتراض، ويحتمل أن يكونَ من تمامِ» ولا نكذِّب «أي: لا يكونُ منا تكذيب مع كوننا من المؤمنين، ويكون قوله» ولا نكذب «حينئذ على حاله، أعني مِنْ احتماله العطفَ على» نُرَدُّ «أو الحالية أو الاستئناف، ولا يخفى حينئذٍ دخولُ كونِهم مع المؤمنين في التمني وخروجُه منه بما قرَّرْتُه لك.
وقُرئ شاذاً عكسَ قراءة ابن عامر، أي: بنصب» نكذبَ «ورفع» نكون «وتخريجها على ما تقدم، إلا أنها يضعف فيها جَعْلُ» ونكونُ من المؤمنين «حالاً لكونه مضارعاً مُثْبَتاً إلا بتأويل بعيد كقوله:
١٨٩ - ٦-.......................
نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم مالكاً
أي: وأنا أَرْهَنُهم، وقولهم:» قمتُ وأصكُّ عينه «، ويدل على حذف هذا المبتدأ قراءةُ أُبيٍّ:» ونحن نكونُ من المؤمنين «.
قوله تعالى: ﴿بَلْ بَدَا﴾ :«بل» هنا لانتقالٍ من قصة إلى أخرى وليست للإِبطالِ، وعبارةُ بعضهم توهم أن فيها إبطالاً لكلام الكفرة فإنه قال: «بل» رَدٌّ لِما تمنَّوه، أي: ليس الأمر على ما قالوه لأنهم لم يقولوا ذلك رغبةً في الإِيمان، بل قالوه إشفاقاً من العذاب وطمعاً في الرحمة. قال الشيخ: «ولا أدري ما هذا الكلام؟». قلت: ولا أدري ما وَجْهُ عدمِ الدراية منه؟ وهو كلام صحيح في نفسه، فإنهم لمَّا قالوا: يا ليتنا كأنهم قالوا تمنَّيْنا، ولكن هذا التمنِّيَ ليس بصحيح، لأنهم إنما قالوه تقيَّةً، فقد يتمنى الإِنسان شيئاً بلسانه وقلبه فارغ منه. وقال الزجَّاج «بل» هنا استدراكٌ وإيجابُ نفي كقولهم: ما قام زيد بل قام عمرو «. قال الشيخ:» ولا أدري ما النفيُ الذي سَبَق حتى توجَبه «بل» ؟ قلت: الظاهرُ أنَّ النفي الذي أراده الزجاج هو الذي في قوله: ﴿وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾ إذا جعلناه مستأنفاً على تقدير: ونحن لا نكذِّبُ، والمعنى: بل إنهم مُكَذِّبون.
وفاعلُ «بدا» قوله: ﴿مَّا كَانُواْ﴾ و «ما» يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً وهو الظاهر، أي: ظهر لهم الذي كانوا يُخْفونه. والعائد محذوف. ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي ظهر لهم إخفاؤهم، أي: عاقبته، أو أُطْلِق المصدرُ على اسم المفعول، وهو بعيد، والظاهر أن الضميرين: أعني المجرورَ والمرفوعَ في قوله ﴿بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ﴾ عائدان على شيء واحد، وهم الكفار أو اليهود والنصارى خاصة، وقيل: المجرورُ للأتباع والمرفوعُ للرؤساء، أي: بل بدا للأتباع ما كان الوجهاء المتبعون يُخْفُونه.
قوله: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ﴾ قرأ الجمهور بضم الراء خالصاً. وقرأ الأعمش
591
ويحيى بن وثاب وإبراهيم: «رِدُّوا» بكسرها خالصاً. وقد عَرَفْتَ أن الفعلَ الثلاثي المضاعف العين واللام يجوز في فائه إذا بُني للمفعول ثلاثة الأوجه المذكورة في فاء المعتل العين إذا بُني للمفعول نحو: قيل وبيع، وقد تقدَّم ذلك. وقال الشاعر:
١٨٩ - ٧- وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبا حُلمائِنا
ولا قائلُ المعروف فينا يُعَنَّفُ
بكسر الحاء.
قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ تقدَّم الكلام على هذه الجملة: هل هي مستأنفة أو راجعة إلى قوله ﴿يا ليتنا﴾ ؟
قوله تعالى: ﴿وقالوا﴾ : هل هذه الجملة معطوفة على جواب «لو» والتقدير: ولو رُدُّوا لعادوا ولقالوا، أو هي مستأنفة ليست داخلةً في حَيِّز «لو»، / أو هي معطوفةٌ على قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ؟ ثلاثة أوجه، ذكر الزمخشري الوجهين الأول والآخِر فإنه قال: «وقالوا عطف على» لعادوا «أي: لو رُدُّوا لكفروا ولقالوا: إنْ هي إلا حياتنا الدنيا، كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة، ويجوز أن يُعْطف على قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ على معنى: وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء». والوجهُ الأولُ منقول عن ابن زيد، إلا أن ابن عطية ردَّه فقال: «وتوقيفُ اللَّهِ لهم في الآية بعدها على البعث والإِشارة إليه في قوله ﴿أَلَيْسَ هذا بالحق﴾ [آل عمران: ٣٠] يردُّ على هذا التأويل». وقد يُجاب عن هذا باختلاف حالين: فإنَّ إقرارَهم بالبعث حقيقةً إنما هو في الآخرة، وإنكارَهم ذلك إنما هو الدنيا بتقدير عَوْدِهم إلى الدنيا، فاعترافهم به في الدار الآخرة غيرُ منافٍ لإِنكارهم إياه في الدنيا.
592
قوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا﴾«إنْ» نافية و «هي» مبتدأ، و «حياتُنا» خبرها، ولم يكتفُوا بمجرَّد الإِخبار بذلك حتى أبرزوها محصورةً في نفيٍ وإثبات، و «هي» ضمير مُبْهَم يفسِّره خبره، أي: ولا نعلم ما يُراد به إلا بذكر خبره، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظاً ورتبة، وقد قَدَّمْتُ ذلك عند قوله: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٩]، وكونُ هذا ممَّا يفسِّره ما بعده لفظاً ورتبةً فيه نظرٌ، إذ لقائل أن يقول «هي» تعود على شيء دلَّ عليه سياقُ الكلام، كأنهم قالوا: إنَّ العادةَ المستمرة أو إن حالتنا وما عَهِدْنا إلا حياتنا الدنيا، واستند هذا القائل إلى قولِ الزمخشري: «هذا ضميرٌ لا يُعْلَمُ ما يُراد به إلا بِذِكْر ما بعده» ومثَّل الزمخشري بقول العرب: «هي النفس تتحمَّل ما حَمَلَتْ» و «هي العرب تقول ما شاءت».
وليس فيما قاله الزمخشري دليل له؛ لأنه يعني أنه لا يُعلم ما يعود عليه الضمير إلا بذكر ما بعده، وليس في هذا ما يدلُّ على أن الخبر مفسِّرٌ للضمير، ويجوز أن يكون المعنى: إنِ الحياة إلا حياتنا الدنيا، فقوله ﴿إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾ دالٌّ على ما يفسِّر الضمير وهو الحياة مطلقاً، فَصَدَقَ عليه أنه لا يعمل ما يُراد به إلا بذكر ما بعده من هذه الحيثية لا من حيثيَّة التفسيرِ، ويدلُّ على ما قلتُه قولُ أبي البقاء: «هي كنايةٌ عن الحياة، ويجوز أن يكون ضميرَ القصة».
قلت: أمَّا أولُ كلامِه فصحيحٌ، وأمَّا آخرُه وهو قوله: «إن هي ضمير القصة» فليس بشيء؛ لأن ضمير القصة لا يفسِّر إلا بجملةٍ مصرَّحٍ بجزْأَيْها. فإن قلت: الكوفي يجوِّزُ تفسيره بالمفرد فيكون نحا نحوَهم. فالجوابُ أن الكوفيَّ إنما يُجَوِّزه بمفرد عامل عملَ الفعل نحو: «إنه قائم زيد»«وظنتُه قائِماً زيدٌ» لأنه في صورة الجملة، إذ في الكلام مسندٌ ومسندٌ إليه. أما نحو «
593
هو زيد» فلا يُجيزه أحدٌ، على أن يكونَ «هو» ضميرَ شأنٍ ولا قصة، والدنيا صفة الحياة، وليست صفةً مزيلةً اشتراكاً عارضاً، يعني أن ثَمَّ حياةً غيرَ دنيا يُقِرُّون بها، لأنهم لا يَعْرفون إلا هذه، فهي صفةٌ لمجرد التوكيد، كذا قيل، ويَعْنون بذلك أنها لا مفهومَ لها، وإلاَّ فحقيقةُ التوكيد غير ظاهرةٍ بخلاف ﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [الحاقة: ١٣]. والباء في قوله «بمبعوثين» زائدةٌ لتأكيد الخبر المنفي، ويحتمل مجرورها أن يكونَ منصوبً المحلِّ على أنَّ «ما» حجازيةٌ، أو مرفوعةٌ على أنها تميمية.
قوله تعالى: ﴿على رَبِّهِمْ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه من باب الحذف، تقديره: على سؤال ربهم أو ملك ربهم أو جزاء ربهم. والثاني: أنه من باب المجاز؛ لأنه كنايةٌ عن الحَبْسِ للتوبيخ، كما يوقَفُ العبدُ بين يدي سيِّده ليعاتبَه، ذكر ذلك الزمخشري، ورجَّح المجاز على الحذف لأنه بدأ بالمجاز، ثم قال: «وقيل [وقُفوا] على جزاء ربهم». وللناس خلافٌ في ترجيح أحدهما على الآخر. وجملة القول فيه أن فيه ثلاثةَ مذاهب، أشهرُها: ترجيحُ المجاز على الإِضمار، والثاني عكسُه، والثالث: هما سواء.
قوله: ﴿قَالَ أَلَيْسَ﴾ في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها استفهاميةٌ أي: جواب سؤال مقدر، قال الزمشخري: «قال» مردودٌ على قولِ قائلٍ قال: ماذا قال لهم ربُّهم إذا وُقِفوا عليه؟ فقيل: قال لهم: أليس هذا بالحق «. والثاني: أن تكون الجملة حالية، وصاحبُ الحال» ربُّهم «كأنه قيل: وُقِفوا عليه قائلاً: أليس هذا بالحق. والمشارُ إليه قيل: هو ما كانوا يكذِّبون به من البعث. وقيل: هو العذاب يدلُّ عليه ﴿فَذُوقُواْ العذاب﴾.
594
وقوله: ﴿بِمَا كُنتُمْ﴾ يجوز أن تكونَ» ما «موصولةً اسميةً والتقدير: تكفرونه، والأصل: تكفرون به، فاتصل الضمير بالفعل بعد حذف الواسطةِ، ولا جائزٌ أن يُحْذَف وهو مجرور بحاله، وإن كان مجروراً بحرفٍ جُرَّ بمثله الموصولُ لاختلاف المتعلَّق، وقد تقدَّم إيضاحُه غيرَ مرة. والأَوْلَى أن تُجْعَلَ» ما «مصدرية ويكون متعلَّق الكفر محذوفاً، والتقدير: بما كنتم تكفرون بالعبث أو بالعذاب أي بملاقاته أي بكفركم بذلك.
قوله تعالى: ﴿بَغْتَةً﴾ : في نصبها أربعة أوجه، أحدها: أنها مصدرٌ في موضع الحال من فاعل «جاءَتْهم» أي: مباغتةً، وإمَّا من مفعوله أي: مَبْغوتين. الثاني: أنها مصدرٌ على غير الصدر؛ لأنَّ معنى «جاءتهم» بَغَتَتْهُمْ بغتة، فهو كقولهم: «أتيته رَكْضاً». الثالث: أنَّها منصوبةٌ بفعلٍ محذوف من لفظها، أي: تَبْغَتُهم بَغْتة. الرابع: بفعلٍ من غير لفظها، أي: أتتهم بغتة.
والبَغْتُ والبَغْتةُ مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتدادٍ به ولا جَعْلِ بالٍ منه حتى لو استشعر الإِنسانُ به ثم جاءه بسرعةٍ لا يُقال فيه بَغْتَة، ولذلك قال الشاعر:
١٨٩ - ٨- إذا بَغَتَتْ أشياءُ قد كان قبلها
قديماً فلا تَعْتَدَّها بَغَتَاتِ
والألف واللام في «الساعة» للغلبة كالنجم والثريا، لأنها غلبت على يوم القيامة، وسمِّيَتِ القيامةُ ساعةً لسرعة الحساب فيها على الباري تعالى. وقوله «قالوا» هو جواب «إذا».
قوله: ﴿ياحسرتنا﴾ هذا مجازٌ، لأنَّ الحسرةَ لا يتأتَّى منها الإِقبال، وإنَّما
595
المعنى على المبالغة في شدة التحرُّ، وكأنهم نادوا التحسُّر، وقالوا: إن كان لكِ وقتٌ فهذا أوان حضورك. ومثله: «يا ويلتا»، والمقصودُ التنبيهُ على خطأ المنادي حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء.
قوله: ﴿على مَا فَرَّطْنَا﴾ متعلقٌ بالحَسْرة، و «ما» مصدريةٌ، أي: على تفريطنا. والضمير في «فيها» يجوز أن يعود على الساعة، ولا بد من مضاف أي: في شأنها والإِيمان بها، وأن يعود على الصفقة المتضمَّنة في قوله: ﴿قَدْ خَسِرَ الذين﴾ قاله الحسن، أو يعود على الحياة الدنيا وإن لم [يَجْرِ] لها ذِكْرٌ لكونها مَعْلومةً، قاله الزمخشري. وقيل: يعود على مازلهم في الجنة إذا رأَوْها. وهو بعيدٌ.
والتفريطُ: التقصيرُ في الشيء مع القدرة على فعله. وقال أبو عبيد: «هو التضييع» وقال ابن بحر: «هو السَّبْق، منه الفارط أي السابق للقوم، فمعنى فرَّط بالتشديد خلَّى السبق لغيره، فالتضعيف فيه للسَّلْب كجلَّدْتُ البعير ومنه ﴿فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً﴾ [الإِسراء: ٧٩].
قوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ﴾ الواو للحال، وصاحب الحال الواو في» قالوا «أي: قالوا: يا حَسْرَتَنا في حالةِ حَمْلِهم أوزارَهم. وصُدِّرت هذه الجملة بضمير مبتدأ ليكون ذِكْرُه مرتين فهو أبلغُ، والحَمْلُ هنا قيل: مجازٌ عن مقاساتهم العذابَ الذي سببُّه الأوزارُ، وقيل: هو حقيقةٌ. وفي الحديث:» إنه يُمَثَّل له عملُه بصورةٍ قبيحةٍ مُنْتِنَةِ الريح فيحملها «وخُصَّ الظهرُ لأنه يُطِيق من الحمل ما لا يُطِيقه غيره من الأعضاء كالرأس والكاهل، وهذا كما تقدَّم في {
596
فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: ٧] ؛ لأن اليدَ أقوى في الإِدراك اللمسي من غيرها.
الأوزار: جمع وِزْر كحِمْل وأَحْمال وعِدْل وأعدال.
والوِزْر في الأصل الثقل، ومنه: وَزِرْتُهُ أي: حَمَّلْته شيئاً ثقيلاً، ووزير المَلِك من هذا لأنه يتحمَّل أعباءَ ما قلَّده الملك من مؤونة رعيتَّه وحَشَمَتِه، ومنه أوزار الحرب لسلاحها وآلاتها، قال:
١٨٩ - ٩- وأعدَدْتُ للحرب أوزارَها
رماحاً طِوالاً وخيلاً ذُكروا
وقيل: الأصل في ذلك الوَزَر بفتح الواو الزاي، وهو الملجأ الذي يُلْتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: ﴿كَلاَّ لاَ وَزَرَ﴾ [القيامة: ١١] ثم قيل للثقل وِزْرٌ تشبيهاً بالجبل، ثم استُعير الوِزْرُ للذَّنبِ تشبيهاً به في ملاقاة المشقة منه، والحاصل أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على الرَّزانةِ والعِصْمة.
قوله: ﴿أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾«ساء» هنا تحتمل أوجهاً ثلاثة، أحدُها: أنها «ساء» المتصرفةُ المتعدِّية، ووزنها حينئذ فَعَل فتح العين، ومفعولُها حينئذ محذوف، وفاعلها «ما»، و «ما» تحتمل ثلاثة أوجه: أن تكونَ موصلةً اسمية أو حرفية أو نكرة موصوفة وهو بعيدٌ، وعلى جَعْلِها اسميةً أو نكرة موصوفة تُقَدِّر لها عائداً، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور. والتقدير: ألا ساءَهم الذي يَزِرُونه أو شيء يزرونه أو وِزْرُهم. وبدأ ابن عطية بهذا الوجه قال: «كما تقول: ساءني هذا الأمر، والكلام خبر مجرد كقوله:
١٩٠ - ٠- رَضِيْتَ خِطَّةَ خَسْفٍ غيرَ طائلةٍ
فساءَ هذا رِضَىً يا قيسَ عيلانا
597
قال الشيخ:» ولا يتعيَّن أن تكون «ما» في البيت خبراً مجرداً بل تحتمل الأوجهَ الثلالثة «انتهى وهو ظاهر.
الثاني: أن تكون للتعجُّبِ فتنتقل من فَعَل بفتح العين إلى فَعُل بضمها، فتُعْطى حكمَ فعل التعجب: من عدم التصرُّفِ والخروج من الخبر المحض إلا الإِنشاء، إن قلنا: إن التعجب إنشاءٌ وهو الصحيح، والمعنى: ما أسوأ - أي أقبح- الذي يَزِرُونه أو شيئاً يَزِرُونه أو وِزْرُهم، الثالث: أنها بمعنى بئس فتكون للمبالغةِ في الذم فتُعْطى أحكامَها أيضاً، ويجري الخلاف في» ما «الواقعةِ بعدها حَسْبما ذكر في ﴿بِئْسَمَا اشتروا﴾ [البقرة: ٩٠]. وقد ظهرالفرقُ بين هذه الأوجه الثلاثة فإنها في الأول متعدية متصرفة والكلام معها خبرٌ محض، وفي الأخيرين قاصرة جامدة إنشائية. والفرق بين الوجهين الأخيرين أنَّ التعجبيَّة لا يُشْترط في فاعلها ما يشترط في فاعل بئس. وقال الشيخ:» والفرقُ بين هذا الوجهِ - يعني كونها بمعنى بئس - والوجه الذي قبله - يعني كونَها تعجبيَّةً - أنه لا يُشترط فيه ما يُشترط في فاعل «بئس» من الأحكام ولا هو جملةٌ منعقدةٌ من مبتدأ وخبر، وإنما هو منعقدٌ من فعل وفاعل «. انتهى.
وظاهرهُ لا يَظْهر إلا بتأويل وهو أن الذمَّ لا بد فيه من مخصوصٍ بالذم وهو مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقدَ من هذه الجملةِ متبدأٌ وخبر، إلا أنَّ لقائلٍ أن يقول: إنما يتأتَّى هذا على أحد الأعاريب في المخصوص، وعلى تقدير التسليم فلا مَدْخَل للمخصوص بالذم في جملة الذم بالنسبة إلى كونها فعليةً فحينئذ لا يظهر فرقٌ بينهم وبين التعجبية في أنَّ كلاً منها منعقدة في فعلٍ وفاعل.
قوله تعالى: ﴿وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ﴾ : يجوز أن يَكون من المبالغة جَعْلُ الحياة نفس اللعب واللهو كقولها:
١٩٠ - ١-..............
فإنما هي إقبالٌ وإدبار
وهذا أحسن، ويجوز أن يكون في الكلام حذف أي: وما أعمال الحياة، وقال الحسن البصري: «وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب» فقدَّر شيئين محذوفين.
واللَّهْو: صَرْفُ النفس عن الجدِّ إلى الهزل. ومنه لو يلهو. وأمَّا لَهِي عن كذا فمعناه صَرَفَ نفسَه، والمادةُ واحدةٌ انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها نحو: شَقِي ورضي. وقال المهدوي: «الذي معناه الصرفُ لامُه ياء بدليل قولهم لَهْيان، ولام الأول واو». قال الشيخ: «وليس بشيء؛ لأن الواو في التثنية انقلبت ياءً فليس أصلها الياء، ألا ترى إلى تثنية شَجٍ: شَجِيان وهو مِن الشَّجْوِ» انتهى. يعني أنهم يقولون في اسم فاعله: لَهٍ كشجٍ، والتثنيةُ مبنيَّةٌ على المفرد، وقد أنقلبت في المفرد فَلْتنقلب في المثنى [ولنا فيه بحثٌ أَوْدَعْناه في «التفسير الكبير» ولله الحمد] وبهذا يَظْهَرُ فسادُ رَدِّ المهدوي على الرماني، فإنَّ الرماني قال: «اللعب عَمَلٌ يُشْغِلُ النفسَ عما تنتفعُ به، واللَّهْوُ صَرْفُ النفسِ من الجدِّ إلى الهزل، يقال: لَهَيْتُ عنه أي صرفْتُ نفسي عنه» قال المهدوي: «وفيه ضعفٌ وبُعْدٌ؛ لأنَّ الذي فيه معنى الصرف لامه ياء، بدليل قولهم في التثنية ليهان» انتهى. وقد تقدَّم فسادُ هذا الردِّ وقال الراغب: «اللَّهْوُ ما يَشْغَلُ الإِنسانَ عما يَعْنيه ويَهُمُّه، يقال: لَهَوْتُ بكذا
599
أو لهيت عن كذا اشتغلْتُ عنه بلَهْوٍ» وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حَمَلَ المهدوي على التفرقة بين المادتين.
قوله: ﴿وَلَلدَّارُ الآخرة﴾ قرأ الجمهور بلامَيْن، الأُوْلى لام الابتداء، والثانية للتعريفِ، وقرؤوا «الآخرةُ» رفعاً على أنها صفةٌ للدار، و «خيرٌ» خبرُها. وقرأ ابن عامر: «ولَدارُ» بلامٍ واحدة هي لامُ الابتداء، و «الآخرةِ» جرٌّ بالإِضافة. وفي هذه القراءة تأويلان أحدُهما قولُ البصريين وهو انه من باب حَذْف الموصوف وإقامةِ الصفةِ مُقامه، والتقدير: ولَدارُ الساعةِ الآخرة، أو لَدار الحياة الآخرة، يدلُّ عليه «وما الحياة الدنيا» ومثله قولهم: «حبة الحمقاء ومسجد الجامع وصلاة الأولى ومكان الغربي» التقدير: حبة البقلة الحمقاء، ومسجد المكان الجامع، وصلاة الساعة الأولى، ومكان الجانب الغربي. وحَسَّن ذلك أيضاً في الآية كونُ هذه الصفةِ جَرَتْ مَجْرى الجوامد في إيلائِها العواملَ كثيراً، وكذلك كلُّ ما جاء مما تُوُهِّم فيه إضافةُ الموصوفِ إلى صفته، وإنما احتاجوا إلى ذلك لِئلاً يَلْزَمَ إضافةُ الشيء إلى نفسه وهو ممتنع؛ لأن الإِضافة: إمَّا للتعريف أو للتخصيص، والشيء لا يُعْرِّف نفسه ولا يخصِّصُها.
والثاني: وهو قول الكوفيين - أنه إذا اختلف لفظ الموصوف وصفته جازت إضافته إليها، وأوردوا ما قدَّمْته من الأمثلة قال الفراء: «هي إضافةُ الشيء إلى نفسِه كقولك: بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين». وقراءةُ ابن عامر موافقةٌ لمصحفه؛ فإنها رُسِمَتْ في مصاحف الشاميين بلامٍ واحدة، واختارها بعضُهم لموافقتها لما أُجْمِع عليه
600
في يوسف: ﴿وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ﴾ [يوسف: ١٠٩]، وفي مصاحف الناسِ بلامَيْنِ.
و «خيرٌ» يجوز أن يكون للتفضيل، وحُذِف المفضَّلُ عليه للعلم به أي: خيرٌ من الحياة الدنيا، ويجوز أن يكونَ لمجرَّدِ الوَصْف بالخَيْرية كقوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً﴾ [الفرقان: ٢٤]. و ﴿لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «خير» والذي ينبغي - أو يتعيَّن- أن تكونَ اللامُ للبيان، أي: أعني للذين، وكذا كلُّ ما جاء مِنْ نحوه، نحو: ﴿خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى﴾ [الضحى: ٤].
قوله: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ قد تقدَّم الكلامُ في مثل هذه الهمزةِ الداخلةِ على الفاء وأختِها الواوِ وثم وقرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم: ﴿تَعْقِلُون﴾ خطاباً لمن كان بحضرته عليه السلام وفي زمانه. والباقون بياء الغيبة رَدَّاً على ما تقدَّم من الأسماء الغائبة، وحُذِفَ مفعول «تَعْقِلون» للعلمِ به، أي: فلا تَعْقلون أنَّ الأمرَ كما ذكر فتزهَّدوا في الدنيا، أو أنها خير من الدنيا.
قوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ﴾ :«قد» هنا حرف تحقيق. وقال الزمخشري والتبريزي: «قد نعلم: بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله:
١٩٠ - ٢-................
............. قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
601
قال الشيخ:» وهذا القول غير مشهور للنحاة، وإن قال به بعضهم مستدلاً بقوله:
١٩٠ - ٣- قد أَتْرُكُ القِرْن مُصْفرَّاً أناملُه
كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفِرصادِ
وقول الآخر:
أخي ثقةٍ لا تُتْلِفُ الخمرُ مالَه
ولكنه قد يُهْلك المالَ نائلُه
والذي يَظْهر أن التكثيرَ لا يُفْهَمُ من «قد» إنما فُهم من سياق الكلام؛ إذ التمدُّحُ بقتل قِرْن واحد غيرُ طائل، وعلى تقدير ذلك هو متعذِّر في الآية؛ لأنَّ علمه تعالى لا يقبل التكثير «. قلت: قد يُجاب عنه بأنَّ التكثير في متعلَّقات العلم لا في العلم، ثم قال:» وقولُه بمعنى «ربما» التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهورُ أنَّ «رُبَّ» للتقليل لا للتكثير، وزيادةُ «ما» عليها لا يُخْرجها عن ذلك بل هي مهيِّئة لدخولِها على الفعل، و «ما» المهيِّئة لا تزيلُ الكلمة عن معناها الأصلي، كما لا تزيل «لعلَّ» عن الترجِّي ولا «كأنَّ» عن التشبيه ولا «ليت» عن التمني. وقال ابن مالك «» قد «ك» ربما «في التقليل والصَّرف إلى معنى المضيّ، وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾﴿وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله﴾ [الصف: ٥] وقوله:
١٩٠ - ٤- وقد تُدْرِكُ الإِنسانَ رحمةُ ربِّه
ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
وقد تخلُو من التقليل وهي صارفةٌ لمعنى المضيِّ نحو قوله: {قَدْ نرى
602
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} [البقرة: ١٤٤].
وقال مكي:» قد «هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه. و» نعلم «بمعنى عَلِمْنا، وقد تقدَّم الكلام في هذا الحرف وأنها متردِّدةٌ بين الحرفيةِ والاسميةِ. وقال الشيخ هنا:» قد حرف توقع، إذا دخلت على مستقبلِ الزمان كان التوقُّعُ من المتكلم كقولك: «قد ينزل المطرُ شهرَ كذا»، وإذا كان ماضياً أو فعل حال بمعنى المضيِّ كان التوقُّع عند السامع، وأمَّا المتكلمُ فهو موجِبُ ما أخبر به، وعَبَّر هنا بالمضارع إذا المرادُ الاتِّصافُ بالعلم واستمراره، ولم يَلْحَظْ فيه الزمانَ كقولهم: «هو يعطي ويمنع».
و ﴿إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾ سادٌّ مَسَدَّ المفعولين فإنها معلِّقة عن العمل، وكُسِرت لدخول اللام في خبرها. وتقدَّم الكلامُ في «لَيَحْزُنك» وأنه قرئ بفتح الياء وضمِّها من حَزَنه وأَحْزنه في آل عمران. «والذي يقولون» فاعلٌ وعائده محذوف، أي: الذي يقولونه مِنْ نسبتهم إلى ما لا يليق به، والضمير في «إنه» ضمير الشأن والحديث، والجملة بعده خبر مفسِّرةً له، ولا يجوزُ في هذا المضارعِ أن يُقَدَّر باسم فاعلٍ رافعٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّرُ في قولك: «إنَّ زيداً يقوم أبوه» لئلا يلزمَ تفسير ضمير الشأن بمفرد، وقد تقدَّم أنَّه ممنوعٌ عند البصريين.
قوله: ﴿لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾ قرأ نافع والكسائي: ﴿لا يَكْذِبُونك﴾ مخففاً من أَكْذَبَ، والباقون مثقَّلاً مِنْ كذَّب، وهي قراءة علي وابن عباس. واختلف الناس في ذلك، فقيل: هما بمعنى واحد مثل: أَكْثَر وكثَّر ونَزَّل وأنزل،
603
وقيل: بينهما فرق، قال الكسائي: العرب تقول «كذَّبْتُ الرجلَ» بالتشديد، إذا نَسَبْتَ الكذبَ إليه، و «أَكْذَبْتُه» إذا نسبْتَ الكذبَ إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه، ويقولون أيضاً: أَكْذَبْتُ الرجل إذا وجدْتُه كاذباً كأَحْمَدْتُه إذا وجدته محموداً، فمعنى «لا يُكْذِبونك» مخفَّفاً: لا يَنْسِبون الكذبَ إليك ولا يجدونك كاذباً، وهو واضحٌ.
وأمَّا التشديدُ فيكونُ خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه. فإن قيل: هذا مُحالٌ؛ لأنَّ بعضهم قد وُجِد منه تكذيبٌ ضرورةً. فالجاب أن هذا وإن كان منسوباً إلى جمعيهم، أعني عدمَ التكذيب فهو إنما يراد به بعضُهم مجازاً كقوله: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [الشعراء: ١٠٥] ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ﴾ [الشعراء: ١٦] وإن كان فيهم مَنْ لم يُكَذِّبْه فهو عامٌّ يُرادُ به الخاص. والثاني: أنه نفى التكذيب لانتقاء ما يترتَّب عليه من المَضَارِّ، فكأنه قيل: فإنهم لا يُكَذِّبونك تكذيباً يُبالى به ويَضُرَّك لأنك لست بكاذب، فتكذيبُهم كلا تكذيب، فهو مِنْ نفي السبب لانتفاءِ مُسَبِّبه. وقال الزمخشري: «والمعنى أنَّ تَكْذيبَك أمرٌ راجع إلى الله لأنك رسولُه المصدَّق، فهم لا يكذِّبونك في الحقيقة، إنما يكذبون الله بجحود آياته فانْتَهِ عن حزنك كقول السيدِ لغلامه: - وقد أهانه بعض الناس - لن يُهِينُوك وإنما أهانوني، وعلى هذه الطريقة: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠].
قوله: ﴿بِآيَاتِ الله﴾ يجوز في هذا الجارِّ وجهان، أحدهما: أنه متعلِّقٌ ب» يَجْحَدون «، وهو الظاهرُ الذي لاينبغي أن يُعْدَلَ عنه وجَوَّز أبو البقاء أن
604
يتعلَّق بالظالمين، قال:» كقوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ [الإِسراء: ٥٩] وهذا الذي قاله ليس بجيد، لأن الباءَ هناك سببيةٌ، أي: ظلموا بسببها، والباء هنا معناها التعدية، وهنا شيءٌ يتعلق به تعلُّقاً واضحاً، فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه. وفي هذه الآية إقامةُ الظاهرِ مُقامَ المضمر، إذ الأصل: ولكنهم يَجْحدون بآيات الله، ولكنه نَبَّه على أن الظلمَ هو الحاملُ لهم على الجُحود.
والجُحود والجَحْد نَفْيُ ما في القلب ثباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه. وقيل: الجَحْد: إنكار المعرفة فليس مرادفاً للنفي من كل وجه.
قوله تعالى: ﴿مِّن قَبْلِكَ﴾ : متعلَّقٌ ب «كَذَّبَتْ» ومنع أبو البقاء أن يكون صفةً لرسل لأنه زمانٌ، والزمان لا يُوصف به الجثث، وقد تقدَّم البحث في ذلك غيرَ مرةٍ وأَتْقَنْتُه في البقرة وذكرته قريباً هنا في قوله: ﴿وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً﴾ [الأنعام: ٦].
قوله: ﴿وَأُوذُواْ﴾ يجوز/ فيه أربعة أوجه أظهرها: أنه عطفٌ على قوله «كُذِّبَتْ» أي: كُذِّبَت الرسلُ وأُوْذُوا فصبروا على كل ذلك. والثاني: أنه معطوفٌ على «صَبَروا» أي: فصبروا وأُوْذُوا. والثالث: - وهو بعيدٌ- أن يكونَ معطوفاً على «كُذِّبوا» فيكون داخلاً في صلة الحرف المصدري والتقدير: فصَبروا على تكذيبهم وإيذائهم. والرابع: أن يكون مستأنفاً قال أبو البقاء: «ويجوز أن يكون القف تَمَّ على قوله» كُذِّبوا «ثم استأنف فقال:» أُوْذوا «.
605
وقرأ الجمهور: ﴿وأُوْذُوا﴾ بواو بعدَ الهمزةِ من آذى يؤذي رباعياً. وقرأ ابن عامر في روايةٍ شاذةٍ:» وأُذوا «من غير واو بعد الهمزة، وهو من أَذَيْتُ الرجل ثلاثياً لا من» آذيت «رباعياً.
قوله: ﴿حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ الظاهر أن هذه الغايةَ متعلقةٌ بقوله:» فصبروا «أي: كان غايةُ صبرهم نَصْرَ الله إياهم، وإن جَعَلْنا» وأوذوا «عطفاً عليه كانت غايةً لهما، وهو واضح جداً. وإن جعلناه مستأنفاً كانت غايةً له فقط، وإن جَعَلْناه معطوفاً على» كُذِّبَتْ «فتكون الغاية للثلاثة. والنصر مضافٌ لفاعله ومفعوله محذوف، أي: نَصْرُنا إياهم. وفيه التفاتٌ من ضمير الغيبة إلى التكلُّم، إذ قلبه» بآيات الله «فلو جاء على ذلك لقيل: نَصْرُه. وفائدةُ الالتفات إسناد النصر إلى ضمير المتكلم المُشْعر بالعظمة.
قوله: ﴿وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين﴾ في فاعل» جاء «وجهان، أحدهما: هو مضمر، واختلفوا فيما يعود عليه هذا الضمير، فقال ابن عطية:» الصواب عندي أن يقدر: «جَلاء، وبيان». وقال الرماني: «تقديره: ولقد جاءك نبأ» وقال الشيخ: «الذي يظهر لي أنه يعود على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة، أي: ولقد جاءك هذا الخبرُ من تكذيبِ أَتْباع الرسل للرسل والصبر والإِيذاء إلى أن نُصِروا». وعلى هذه الأقوال يكون «من نبأ المرسلين» في محل نصب على الحال من ذلك الضمير، وعاملها هو «جاء» لأنه عاملٌ في صاحبها. والثاني: أنَّ «من نبأ» هو الفاعل، ذكره الفارسي، وهذا إنما يتمشَّى له على رأي الأخفش؛ لأنه
606
لا يَشْترط في زيادتها شيئاً وهذا - كما رأيت - كلامٌ موجَبْ، والمجرور ب «مِنْ» معرفة. وضُعِّفَ أيضاً من جهة المعنى بأنه لم يَجِئْه كلُّ نبأ للمرسلين لقوله: ﴿مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: ٧٨]، وزيادة «مِنْ» تؤدي إلى أنه جاءه جميع الأنباء؛ لأنه اسم جنس مضاف، والأمر بخلافِه.
ولم يتعرَّض الزمخشري للفاعل إلا أنه قال: «ولقد جاءك من نبأ المرسلين بعضُ أبنائهم وقصصهم» وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، إذ «مِنْ» لا تكون فاعلة، ولا يجوز أن يكون «من نبأ» صفةً لمحذوف هو الفاعل، أي: ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين، لأن الفاعلَ لا يُحْذَفُ بحالٍ إلا في مواضع ذُكِرت، كذا قالوا. قال أبو البقاء: «ولا يجوز عند الجميع أن تكون» مِنْ «صفةً لمحذوف، لأن الفاعلَ لا يُحْذف، وحرف الجر إذا لم يكن زائداً لم يصحِّ أن يكون فاعلاً لأنَّ حرف لاجر يُعَدِّي، وكل فعل يعمل في الفاعل من غير تعدٍّ» يعني بقولِهِ «لم يصحَّ أن يكونَ فاعلاً» لم يَصِحَّ أن يكون المجرور بذلك الحرف، وإلاَّ فالحرفُ لا يكونُ فاعلاً البتة.
قوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ﴾ : هذا شرطٌ، جوابه الفاء الداخلة على الشرط الثاني، وجواب الثاني محذوف تقديره: فإن استطعت أن تبتغي فافعلْ، ثم جُعِل الشرطُ الثاني وجوابُه جواباً للشرط الأول، وقد تقدَّم مِثْلُ ذلك في قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم..... فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ﴾ [البقرة: ٣٨]. وتقدَّم تحرير القول فيه، إلا أن جواب الثاني هناك مُظْهَرٌ. و «كان» في اسمها وجهان، أحدهما: أنه «إعراضهم» و «كَبُرَ» جملة فعلية في محل نصب خبراً
607
مقدماً على الاسم، وهي مسألة خلاف: هل يجوزُ تقديمُ خبرِ كان على اسمها إذا كان فعلاً رافعاً لضمير مستتر أم لا؟ وأمَّا إذا كان خبراً للمبتدأ فلا يجوزُ البتةَ، لئلا يلتبسَ بباب الفاعل واللَّبْسُ هنا مَأْمون. وَوَجْهُ المَنْع استصحابُ الأصل. و «كَبُر» إذا قيل: إنه خبر «كان» فهل يُحتاج إلى إضمار «قد» أم لا؟ والظاهر أنه لا يحتاج، لأنه كثر وقع الماضي خبراً لها من غير «قد» نظماً ونثراً بعضهم يَخُصُّ ذلك ب «كان» ويمنعه في غيرها من أخواتها إلا ب «قد» ظاهرةً أو مضمرةً ومن مجيء ذلك في خبر أخواتها قولُ النابغة:
١٩٠ - ٥- أمسَتْ خَلاءً وأمسى أهلُها احَتَمَلُوا
أَخْنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ
والثاني: أن يكونَ اسمُها ضميرَ الأمر والشأن، والجملة الفعلية مفسِّرةٌ له في محل نصب على الخبر، فإعراضُهم مرفوعٌ ب «كَبُر» وفي الوجه الأول ب «كان»، ولا ضمير في «كَبُر» على الثاني، وفيه ضمير على الأول. ومثلُ ذلك في جواز هذين الوجهين قوله تعالى: ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ﴾ [الأعراف: ١٣٧] ﴿وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا﴾ [الجن: ٤]، ففرعون يحتمل أن يكون اسماً، وأن يكون فاعلاً وكذلك «سفيهُنا» ومثلُه أيضاً قولُ امرئ القيس.
١٩٠ - ٦- وإنْ تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ
فَسُلِّي ثيابي مِنْ ثيابك تَنْسُلِ
فخليقة يحتمل الأمرين. وإظهار «قد» هنا يرجَّح قولَ مَنْ يشترطها، وهل يجوز في مثل هذا التركيب التنازعُ؟ وذلك أن كلاً من «كان» وما بعدها من الأفعال المذكورة في هذه الأمثلةِ يطلب المرفوع من جهة المعنى، وشروط الإِعمال موجودة. وكنت قديماً سألت الشيخ عن ذلك فأجابَ بالمنع، محتَّجاً
608
بأنَّ شرط الإِعمال أن لا يكونَ أحدُ المتنازعين مفتقراً إلى الآخر، وأن يكونَ من تمام معناه، و «كان» مفتقرةٌ إلى خبرها وهو من تمام معناها. وهذا الذي ذكره من المنع وترجيحِه ظاهرٌ، إلا أن النَّحْويين لم يذكروه في شروط الإِعمال.
وقوله: ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ﴾ مؤولٌ بالاستقبال وهو التَبيُّن والظهور فهو كقوله: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ [يوسف: ٢٦] أي: إنْ تبيَّن وظَهَر، وإلاَّ فهذه الأفعالُ قد وقعتْ وانقضتْ فكيف تقع شرطاً؟ وقد تقدَّم أنَّ المبردَ يُبْقي «كان» خاصةً على مضيِِّها في المعنى مع أدوات الشرط، وليس بشيء. وأمَّا: «فإن استطعتَ» فهو مستقبلٌ معنى لأنه لم يقعْ بخلافِ كونه كَبُر عليه إعراضُهم وقَدِّ القميص «وأن تبتغي» مفعولُ الاستطاعة. «ونَفَقاً» مفعول الابتغاء.
والنَّفَقُ: السَّرَب النافذ في الأرض وأصله في جُحْرة اليربوع ومنه النافقاء والقاصِعاء، وذلك أن اليربوعَ يَحْفِر [في] الأرض سَرَباً ويجعل له بابين، وقيل: ثلاثة؛ النَّافِقاء والقاصعاء والدَّابِقاء، ثم يَرِقُّ بالحفر ما تقارب وجه الأرض، فإذا نابه أمرٌ دفع تلك القشرةَ الرقيقةَ وخرجَ، وقد تقدَّم لك استيفاء هذه المادة عند ذكر ﴿يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] و ﴿المنافقين﴾ [النساء: ٦١].
وقوله ﴿فِي الأرض﴾ ظاهرُه أنه متعلقٌ بالفعل قبله، ويجوز أن يكون صفةً ل «نَفَقاً» فيتعلَّقَ بمحذوف، وهي صفة لمجرد التوكيد إذ النفق لا يكون إلا في الأرض. وجوَّز أبو البقاء مع هذين الوجهين أن يكونَ حالاً من فاعل «تَبْتغي» أي: وأنت في الأرض، قال: «وكذلك في السماء» يعني مِنْ جوازِ الأوجه الثلاثة، وهذا الوجهُ الثالث ينبغي أن لا يجوز لخُلُوِّه عن الفائدة.
609
والسُّلَّم: قيل: المِصْعَد، وقيل: الدَّرَج، وقيل: السبب، تقول العرب: اتَّخِذْني سُلَّماً لحاجتك أي: سبباً، قال كعب بن زهير:
١٩٠ - ٧- ولا لكما مَنْجَىً من الأرض فابغِيا
بها نَفَقاً أو في السماوات سُلَّماً
وهو مشتقٌّ من السَّلامة، قالوا: لأنه يُسْلَمُ به إلى المصعد. والسُّلَّم مذكر، وحكى الفراء تأنيثه، قال بعضهم، ليس ذلك بالوضع، بل لأنه بمعنى المِرْقاة كما أنَّث بعضهم الصوت في قوله:
قوله تعالى: ﴿والموتى يَبْعَثُهُمُ الله﴾ : فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرها: أنها جملة من مبتدأ وخبر سِيْقَتْ للإِخبار بقدرته، وأنَّ مَنْ قَدَرَ على بعث الموتى يَقِدْرُ على إحياء قلوب الكفرة بالإِيمان فلا تتأسَّفْ على مَنْ كفر. والثاني: أن «الموتى» منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده، ورُجِّح هذا الوجهُ على الرفع بالابتداء لعطف جملة الاشتغال على جملةٍ فعلية قبلها فو نظير: ﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الإِنسان: ٣١] بعد قوله: ﴿يُدْخِل﴾ والثالث: أنه مرفوع نسقاً على الموصول قبله، والمراد بالموتى الكفار أي: إنما يَسْتجيب المؤمنون السامعون من أول وهلة، والكافرون الذين يُجيبهم الله تعالى بالإِيمان ويوفقهم له، وعلى هذا فتكون الجملة من قوله: ﴿يَبْعَثُهُمُ الله﴾ في محل نصب على الحال، إلا أن هذا القولَ يُبْعده قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ إلا أن يكون من ترشيح المجاز. وتقدَّمت له نظائر.
قوله تعالى: ﴿مِّن رَّبِّهِ﴾ : فيها وجهان، أحدهما: أنها متعلقة ب «نُزِّل» والثاني: أنها متعلِّقةٌ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ ل «آية» أي: آية كائنة من ربه. وتقدَّم الكلام على «لولا» وأنها تحضيضية.
قوله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ﴾ :«مِنْ» زائدة لوجود الشرطين وهي مبتدأ، و «إلا أممٌ» خَبُروها مع ما عُطِفَ عليها. وقوله «في الأرض» صفةٌ لدابَّة، فيجوز لك أن تجعلَها في محلِّ جر باعتبار اللفظ، وأن تجعلها في محصل رفع باعتبار الموضع.
قوله: ﴿وَلاَ طَائِرٍ﴾ الجمهور على جرِّه نسقاً على لفظ «دابة»، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه نسقاً على موضعها. وقرأ ابن عباس: «ولا طيرٍ» من غير ألف. وقد تقدَّم الكلامُ فيه: هل هو جمع أو اسم جمع؟ وقوله: ﴿يطير﴾ في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون في محلِّ جر باعتبار لفظه، ويحتمل أن يكون في محل رفع باعتبار موضعه. وأمَّا على قراءة ابن أبي عبلة ففي محل رفع ليس إلا. وفي قوله «ولا طائر» ذكرُ خاصٍ بعد عام، لأنَّ الدابَّةَ تَشْمل كلَّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره فهو كقوله: ﴿وملائكته..... وَجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٨] وفيه نظر إذ المقابلة هنا تنفي أن تكون الدابة تشمل الطائر.
قوله: ﴿بِجَنَاحَيْهِ﴾ فيه قولان، أحدهما: أن الباء متعلقة ب «يطير» وتكونُ الباءُ للاستعانة. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوف على أنها حال وهي حال مؤكدة، وفيها رفعُ مَجازٍ يُتَوَهَّم؛ لأنَّ الطيران يُستعار في السرعة قال:
١٩٠ - ٩-
611
قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم
طاروا إليه زَرافاتٍ ووِحْدانا
ويُطلق الطيرُ على العمل، قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإِسراء: ١٣].
وقوله: ﴿إِلاَّ أُمَمٌ﴾ خبر المبتدأ، وجُمع وإن لم يتقدَّمْهُ إلا شيئان، لأن المراد بها الجنس. و «أمثالكم» صفة لأُمَم، يعني أمثالهم في الأرزاق والآجال والموت والحياة والحشر والاقتصاص لمظلومها من ظالمها. وقيل: في معرفة الله وعبادته.
قوله: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن «مِنْ» زائدة في المفعول به والتقدير: ما فرَّطْنا شيئاً، وتضمَّنه «فرَّطنا» معنى تركنا وأغفلنا، والمعنى: ما أَغْفَلْنا ولا تَرَكْنا شيئاً. ثم اختلفوا في الكتاب: ما المراد به؟ فقيل: اللوح المحفوظ، وعلى هذا فالعموم ظاهر لأن الله تعالى أثبت ما كان وما يكون فيه. وقيل: القرآن، وعلى هذا فهل العمومُ باقٍ؟ منهم من قال: نعم، وأن جميع الأشياء مثبتة في القرآن. إمَّا بالصريح وإمَّا بالإِيماء، ومنهم من قال: إنه يُراد به الخصوص، والمعنى: من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفون. والثاني: أن «مِنْ» تبعيضيةٌ أي: ما تركْنا ولا أَغْفَلْنا في الكتاب بعضَ شيء يَحْتاج إليه المكلَّف. الثالث: أنَّ «من شيء» في محل نصب على المصدر و «من» زائدة فيه أيضاً. ولم يُجِزْ أبو البقاء غيره، فإنه قال: «مِنْ» زائدة، و «شيء» هنا واقع موقع المصدر أي تفريطاً.
وعلى هذا التأويل لا يَبْقى في الآية حجةٌ لمن ظنَّ أن الكتابَ يَحْتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً. ونظير ذلك: ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ [آل عمران: ١٢٠]، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لأنَّ «فرَّطْنا» لا يتعدى بنفسه بل
612
بحرف الجر، وقد عُدِّيَتْ إلى الكتاب ب «في» فلا يتعدَّى بحرف آخر، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: ما تركنا في الكتاب من شيء، لأن المعنى على خلاف فبان التأويل بما ذكرنا «انتهى. قوله:» يحتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً «لم يَقُلْ به أحدٌ لأنَّه مكابرة في الضروريات. وقرأ الأعرج وعلقمة:» فَرَطْنا «مخفَّفاً، فقيل: هما بمعنى. وعن النقاش: فَرَطْنا: أخَّرْنا كما قالوا:» فَرَط الله عنك المرض «أي: أزاله.
قوله تعالى: ﴿والذين كَذَّبُواْ﴾ : مبتدأٌ وما بعده الخبرُ. ويجوز أن يكون «صمٌّ» خبرَ مبتدأ محذوف، والجملة خبر الأول، والتقدير: والذين كذَّبوا بعضُهم صمٌّ وبعضُهم بُكْمٌ، وقال أبو البقاء: «صمٌّ وبُكْمٌ الخبرُ، مثل حلو حامض، والواو لا تمنع من ذلك». قلت: هذا الذي قاله لا يجوزُ مِنْ وجهين، أحدهما: أنَّ ذلك إنما يكون إذا كان الخبران في معنى خبر واحد لأنهما في معنى مُزّ، وهو أَعْسَرُ يَسَرٌ بمعنى أضبط، وأمَّا هذان الخبران فكلُّ منهما مستقلٌّ بالفائدة. والثاني: أن الواو لا تجوز في مثل هذا إلا عند أبي علي الفارسي وهو وجه ضعيف.
قوله: ﴿فِي الظلمات﴾ فيه أوجهٌ، أحدها: أن يكون خبراً ثانياً لقوله: ﴿والذين كَذَّبُواْ﴾ ويكون ذلك عبارةً عن العَمَى، ويصير نظيرَ الآيةِ الأخرى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] فَعَبَّر عن العمى بلازمه، والمراد بذلك عَمَى البصيرة. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ في الخبر تقديرُه: ضالُّون حال كونهم مستقرين في الظلمات. الثالث: أنه صفةٌ ل «بُكْم» فيتعلَّق أيضاً بمحذوف أي بُكم كائنون في الظلمات. الرابع: أن يكون ظرفاً
613
على حقيقته وهو ظرف ل «صُمُّ» أو ل «بُكْم» قال أبو البقاء: «أو لِما ينوبُ عنهما في الفعل» أي: لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل.
قوله: ﴿مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ﴾ في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أنها مبتدأ وخبرها ما بعدها، وقد عُرِف غير مرة. ومفعول «يشأ» محذوف أي: مَنْ يشأ الله إضلاله. والثاني: أنه منصوب بفعل مضمر يفسِّره ما بعده من حيث المعنى، ويقدِّر ذلك الفعل متأخراً عن اسم الشرط لئلا يلزمَ خروجه عن الصدر، وقد تقدَّم التنبيهُ على ذلك وأن فيه خلافاً، والتقدير: مَنْ يُشْقِ اللهُ يَشَأْ إضلاله ومن يُسْعِدْ يَشَأ هدايته. فإن قلت: هل يجوز أن تكون «مَنْ» مفعولاً مقدَّماً ل «يشأ» ؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز لفساد المعنى. فإن قلت: أُقَدِّرُ مضافاً هو المفعول حُذِفَ وأقيمت «مَنْ» مُقامه تقديره: إضلال مَنْ يشاء وهداية من يشاء، ودلَّ على هذا المضاف جوابُ الشرط. فالجوابُ أنَّ الأخفشَ حكى عن العرب أنَّ اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى سام الشرط لا بد أن يكون في الجزاء ضمير يعود عليه أو على ما أُضيف إليه، فالضمير في «يُضْلِلْه» و «يِجْعَلُه» إمَّا أن يعود على المضاف المحذوف ويكونَ كقوله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ﴾ [النور: ٤٠] فالهاء في «يغشاه» تعود على المضاف أي: كذي ظلمات يَغْشاه، وإمَّا أن يعود على اسم الشرط، والأول ممتنع، إذ يصير التقدير: إضلال مَنْ يشأ الله يُضْلِلْه أي: يُضِلُّ الإِضلال، وهو فاسدٌ.
والثاني: أيضاً ممتنعٌ لخلوِّ الجوابِ من ضمير يعود على المضاف إلى اسم الشرط. فإن قيل: يجوز أن يكون المعنى: مَنْ يشأ الله بالإِضلال وتكون «مَنْ» مفعولاً مقدماً؛ لأنَّ «شاء» بمعنى أراد، و «أراد» يتعدى بالباء قال:
١٩١ - ٠-
614
أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ
عَراراً لعَمْري بالهَوان فقد ظَلَمْ
قيل: لا يلزم من كون «شاء» بمعنى «أراد» أن يتعدَّى تعديته، ولذلك نجد اللفظ الواحد تختلف تعديتُه باختلافِ متعلَّقِه تقول: دخلت الدار ودخلت في الأمر، ولا تقول: دخلتُ الأمرَ، فإذا كان ذلك في اللفظ الواحد فما بالك بلفظين؟ ولم يُحفظ عن العرب تعديةُ «شاء» بالباء وإن كانت في معنى أراد.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم﴾ : يجوز نَقْلُ حركة همزة الاستفهام إلى لام «قُلْ» وتحذف الهمزة تخفيفاً وهي قراءة ورش، وهو تسهيل مطرَّد، وأرأيتكم هذه بمعنى أَخْبِرْني، ولها أحكام تختص بها، اضطربت أقوال الناس فيها، وانتشر خلافهم فلا بد من التعرُّض لذلك فأقول: «أرأيْتَ» إن كانت البصَريَة أو العِلْميةَ الباقيةَ على معناها أو التي لإِصابة الرئة كقولهم: «رَأَيْتُ الطائر» أي: أصبت رِئَته، لم يَجُزْ فها تخفيفُ الهمزةِ التي هي عينُها، بل تُحَقَّق ليس إلا، أو تُسَهَّل بينَ بينَ من غير إبدال ولا حذف، ولا يجوز أن تَلْحَقَها كافٌ على أنها حرف خطاب، بل إن لحقها كاف كانت ضميراً مفعولاً أولَ ويكون مطابقاً لما يُراد به من تذكير وتأنيثٍ وإفراد وتثنية وجمع، وإذا اتَّصَلَتْ بها تاءُ خطاب لَزِم مطابقتُها لما يُراد بها ممَّا ذُكِر، ويكون ضميراً فاعلاً نحو: أرأيتم، أرأيتما أرأيتنَّ، ويدخلها التعليق والإِلغاء.
وإن كانت العِلْميَّةَ التي ضُمِّنَتْ معنى «أخبرني» اختصَّتْ بأحكامٍ أُخَرَ منها: أنه يجوز تسهيل همزتها بإبدالها ألفاً، وهي مَرْوِيَّةٌ عن نافع من طريق ورش، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُون إبدالَ هذه الهمزةِ ألفاً، بل المشهورُ عندهم تسهيلُها بين بين، وهي الرواية المشهورة عن نافع، لكنه قد نَقَل الإِبدالَ
615
المحض قطربٌ وغيرُه من اللغويين. قال بعضهم: «هذا غَلَطٌ غُلِطَ عليه» أي على نافع. وسببُ ذلك أن يؤدِّي إلى الجمع بين ساكنين فإن الياء بعدها ساكنة. ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر ونافع وغيرهما من أهل المدينة أنهم يُسْقطون الهمزة، ويَدِّعون أن الألف خَلَفٌ منها. قلت: وهذه العبارة تُشْعر أن هذه الألف ليست بدلاً عن الهمزة، بل جيء بها عوضاً عن الهمزة الساقطة.
وقال مكي، بن أبي طالب: «وقد رُوي عن ورش إبدالُ الهمزة ألفاً، لأن الرواية عنه أنه يَمُدُّ الثانية، والمدُّ لا يتمكَّن، إلا مع البدل، وحسَّن جوازُ البدلِ في الهمزة وبعدها ساكنٌ أنَّ الأولَ حرفُ مَدٍّ ولين، فإن هذا الذي يحدث مع السكون يقومُ مقامَ حركةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى النطق بالساكن» وقد تقدَّم لك شيءٌ من هذا عند قوله «أأنذرتهم». ومنها: أن تُخْذَفَ الهمزة التي هي عين الكلمة، وبها قرأ الكسائي، وهي فاشيةٌ نظماً ونثراً، فَمِنَ النظم قوله:
١٩١ - ١- أرَيْتَ ما جاءت به أُمْلُودا
مُرَجَّلاً ويلبسُ البُرودا
أقائِلُنَّ أحضِروا الشهودا... وقال آخر:
١٩١ - ٢- أرَيْتُكَ إذ هُنَّا عليك الم تَخَفْ
رقيباً وحولي مِنْ عَدُوِّك حُضَّرُ
616
وأنشد الكسائي لأبي الأسود:
١٩١ - ٣- أَرَيْتَ امرَأً كنت لم أَبْلُهُ
أتاني فقال اتَّخِذْني خليلا
وزعم الفراء أن هذه اللغة لغة أكثر العرب، قال: «في أَرَأيْتَ لغتان ومعنيان، أحدهما: أن يسأل الرجل: أرأيت زيداً، أي: أعلمت، فهذه مهموزة، وثانيهما: أن تقول: أرأيت بمعنى أَخْبِرْني، فههنا تُتْرك الهمزة إن شِئْتَ وهو اكثرُ كلامِ العرب، تُوْمِئ إلى تَرْك الهمزِ للفرق بين المعنيين» انتهى.
وفي كيفيَّةِ حَذْفِ هذه الهمزة ثلاثةُ أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أنه اسْتُثْقِلَ الجمعُ بين همزتين في فِعْلٍ اتصل به ضمير، فَخَفَّفَه بإسقاط إحدى الهمزتين، وكانت الثانيةُ أَوْلى لأنها حَصَل بها الثقلُ، ولأنَّ حَذْفَها ثابتٌ في مضارع هذا الفعل نحو أرى، ويرى، ونرى، وترى، ولأنَّ حذف الأولى يُخلُّ بالتفاهم إذ هي للاستفهام والثاني: أنه أبدل الهمزة ألفاً كما فَعَلأ نافعٌ في رواية ورش فالتقى ساكنان فحذف أولهما وهو الألف، والثالث: أنه أبدلها ياءً ثم سكَّنها ثم حَذَفَها لالتقاء الساكنين، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ، ثم قال: «وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها في مستقبل هذا الفعل» يعني في يرى وبابه. ورجَّح بعضُهم مذهبَ الكسائيّ بأن الهمزة قد اجتُرِئ عليها بالحذف، وأنشد:
١٩١ - ٤- إنْ لم أُقاتِلْ فالبِسَوني بُرْقُعا... وأنشد لأبي الأسود:
١٩١ - ٥- يابا المُغِيرةِ رُبَّ أمرٍ مُعْضِلٍ
فرَّجْتُه بالمَكْرِ مني والدَّها
وقولهم: ﴿وَيْلُمِّه﴾ وقوله:
١٩١ - ٦-
617
وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دَمِها
فَجْعٌ وَوَلْعٌ وأخلافٌ وتَبْديلُ
وأنشد أيضاً:
١٩١ - ٧- ومَنْ رَاْ مثلَ مَعْدانَ بِن سعدٍ
إذا ما النِّسْعُ طال على المَطِيَّةْ
أي: ومن رأى
ومنها: أنه لا يدخلها تعليقٌ ولا إلغاء لأنها بمعنى أخبرني، و «أخبرني» لا يُعَلَّقُ عند الجمهور. قال سيبويه: «وتقول: أَرَأَيْتَك زيداً أو مَنْ هو؟ لا يَحْسُنُ فيه إلا النصبُ في» زيد «ألا ترى أنك لو قلت:» أرأيت أو مَنْ انت؟ «لم يحسن، لأن فيه معنى أخبرني عن زيد، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني» وقد خالف سيبويه غيرَه من النحويين وقالوا: كثيراً ما تُعَلَّق «أرأيت» وفي القرآن من ذلك كثيرٌ، واستدلُّوا بهذه الآيةِ التي نحن فيها، وبقوله: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يَعْلَم﴾ [العلق: ١٣١٤]، وبقوله:
١٩١ - ٨- أرَيْتَ ما جاءَتْ به أملودا
وهذا لا يَرِد على سيبويه، وسيأتي تأويل ذلك قريباً.
ومنها: أنها تَلْحَقُها التاءُ فَيُلْتَزَمُ إفرادها وتذكيرها ويستغنى عن لحاق علامة الفروع بها بلحاقها بالكاف بخلاف التي لم تُضَمَّن معنى «أخبرني» فإنها تطابق فيها - كما تقدَّم - ما يُراد بها.
ومنها: أنه يَلْحَقُها كافٌ هي حرفُ خطاب تطابق ما يُراد بها من إفراد وتذكير وضدَّيهما. وهل هذه التاء فاعل والكاف حرف خطاب تُبَيِّن أحوالَ
618
التاء، كما تُبَيِّنه إذا كانت ضميراً، أو التاء حرف خطاب والكاف هي الفاعل، واستعير ضميرُ النصبِ في مكان ضمير الرفع، أو التاءُ فاعلٌ أيضاً، والكاف ضمير في مضوع المفعول الأول؟ ثلاثة مذاهبَ مشهورة، الأولُ قولُ البصريِّين، والثاني قول الفراء، والثالثُ قولُ الكسائي.
ولنقتصر على بعضِ أدلةِ كلِّ فريق.
قال أبو علي: «قولهم» :«أَرَأَيْتَكَ زيداً ما فعل» بفتح التاء في جميع الأحوال، فالكافُ لا يَخْلو أن يكون للخطاب مجرداً، ومعنى الاسميةِ مخلوعٌ منه، أو يكون دالاً على الاسم مع دلالته على الخطاب، ولو كان اسماً لوجبَ أن يكونَ الاسمُ الذي بعده هو هو، لأن هذه الأفعالَ مفعولُها الثاني هو الأول في المعنى، لكنه ليس به، فتعيَّنَ أن يكون مخلوعاً منه الاسميةُ، وإذا ثبت أنه للخطاب مُعرَّى من الاسمية ثبت أن التاء لا تكون لمجرَّد الخطاب. ألا ترى أنه ينبغي أن يَلْحق الكلمةَ علامتا خطاب، كما لا يلحقها علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام، فلمَّا لم يَجُز ذلك أُفْرِدَت التاء في جميع الأحوال لَمَّا كان الفعل لا بد له من فاعل، وجُعِل في جميع الأحوال على لفظ واحد استغناءً بما يلحق الكاف، ولو لحق التاءَ علامةُ الفروع لاجتمع علامتان للخطاب مما كان يلحق التاء، وممَّا كان يلحق الكاف، فلما كان ذلك يؤدِّي إلى ما لا نظيرَ له رُفِضَ وأُجْري على ما عليه سائر كلامهم «.
وقال الزجاج عبد حكايته مذهبَ الفراء:» وهذا القول لم يَقْبله النحويون القدماء وهو خطأٌ؛ لأنَّ قولَك: «أرأيتك زيداً ما شأنه» لو تَعَدَّت الرؤية إلى الكاف وإلى زيد لصار المعنى: أَرَأَتْ نَفْسُك زيداً ما شأنُه،
619
وهذا مُحالٌ «ثم ذكر مذهبَ البصريين. وقال مكي بن أبي طالب بعد حكايته مذهبَ الفراء:» وهذا مُحالٌ؛ لأنَّ التاءَ هي الكاف في أرأيتكم، فكان يجب أن تَظْهر علامةُ جمع التاء، وكان يجب أن يكون فاعلاً لفعلٍ واحد وهما لشيء واحد، ويجب أن يكون معنى قولك أرأيتَك زيداً ما صنع: أرأيْتَ نفسَك زيداً ما صنع، لأن الكاف هو المخاطب، وهذا مُحَالٌ في المعنى ومتناقض في الإِعراب والمعنى، لأنك تستفهم عن نفسه في صدر السؤال، ثم تَرُدُّ السؤالَ إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً، ثم تأتي بغائب آخر، أو لأنه يصير ثلاثة مفعولين لرأيت، وهذا كلُّه لا يجوزُ، ولو قلت: «أرأيتك عالماً بزيد» لكان كلاماً صحيحاً وقد تعدَّى «رأى» إلى مفعولين «.
وقال ابو البقاء بعدما حكى مذهب البصريين:» والدليل على ذلك أنها - أي الكاف - لو كانت اسماً لكانت: إمَّا مجرورةً - وهو باطل، إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا مرفوعةً، وهو باطلٌ أيضاً لأمرين، أحدهما: أن الكافَ ليسَتْ من ضمائرِ الرفع، والثاني: أنها لا رافعَ لها، إذ ليست فاعلاً لأن التاء فاعل، ولا يكون لفعلٍ واحد فاعلان، وإمَّا أن تكون منصوبةً وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه، أحدُها: أن هذا الفعلَ يتعدَّى إلى مفعولين كقولك: «أرأيت زيداً ما فعلَ» فلو جُعِلَت الكافُ مفعولاً لكان ثالثاً.
والثاني: أنه لو كان مفعولاً لكان هو الفاعل في المعنى، وليس المعنى على ذلك، إذ ليس الغرضُ أرأيت نفسك، بل أرأيت غيرك. ولذلك قلت: أرأيت زيداً، وزيداً غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث: أنه لو كان منصوباً على أنه مفعول لظهرَتْ علامةُ التثنية والجمعِ والتأنيث في التاء فكنت تقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم،
620
أرأيتكنَّ «ثم ذكر مذهبَ الفراء ثم قال:» وفيما ذَكَرْنا إبطالٌ لمذهبه «.
وقد انتصر أبو بكر بن الأنباري لمذهب الفراء بأن قال:» لو كانت الكاف توكيداً لوقعت التثنية والجمع بالتاء، كما يقعان بها عند عدم الكاف، فلمَّا فُتِحت التاءُ في خطاب الجمع ووقع مِيْسَم الجمع لغيرها كان ذلك دليلاً على أن الكافَ غيرُ توكيد. ألا ترى أن الكاف لو سَقَطَت لم يَصْلُحْ أن يُقال لجماعة: أرأيت، فوضح بهذا انصرافُ الفعلِ إلى الكاف وأنها واجبةٌ لازمةٌ مفتقر إليها «. وهذا الذي قاله أبو بكر باطل بالكاف اللاحقةِ لاسمِ الإِشارة، فإنها يقع عليها مِيْسَمُ الجمعِ، ومع ذلك هي حرف.
وقال الفراء:» موضعُ الكاف نصب، وتأويلها رفع؛ لأن الفعل يتحول عن التاء إليها، وهي بمنزلة الكاف في «دونك» إذا أغري بها، كما تقول: «دونكَ زيداً» فتجد الكاف في اللفظ خَفْضاً وفي المعنى رفعاً، لأنها مأمورةٌ، فكذلك هذه الكافُ موضعُها نصبٌ وتأويلها رفع «. قلت: وهذه الشبهةُ باطلةُ مما تقدم، والخلاف في» دونك «و» إليك «وبابِهما مشهورٌ تقدَّم التنبيهُ عليه غيرَ مرة.
وقال الفراء أيضاً كلاماً حسناً رأيت أن أذكره فإنه مُبين نافع، قال:» للعرب في «أرأيْتَ» لغتان ومعنيان، أحدُهما رؤيةُ العين، فإذا أردت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المخطاب ويتصرَّف تصرُّفَ سائرِ الأفعال، تقول للرجل: «أرأيتك على غير هذه الحال» تريد: هل رأيتَ نفسَك، ثم تثنِّي وتجمع فتقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم، أرأيتكنَّ، والمعنى الآخر: أن تقول «أرأيتك» وأنت تريد معنى أخبرني، كقولك: أرأيتك إنْ فَعَلْتَ كذا ماذا تفعل أي: أخبرني، وتترك التاء - إذا أردت هذا المعنى - موحدةً على كل حال تقول:
621
أرأيتكما، أرأيتكم، أرأيتكنَّ، وإنما تركَتِ العربُ التاءَ واحدةً؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعاً من المخاطب على نفسه فاكتفوا من علامة المخاطب بذكره في المكان، وتركوا التاء على التذكير والتوحيد إذا لم يكن الفعل واقعاً «؟
قال: والرؤيةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المخاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل: ظنتُني وأريتُني، ولا يقولون ذلك في الأفعال التامة، لا يقولون للرجل: قتلتَك بمعنى: قتلتَ نفسَك، ولا أحسنتَ إليك، كما يقولون: متى تظنُّك خارجاً؟ وذلك أنَّهم أرادوا الفصلَ بين الفعل الذي قد يُلغى وبين الفعلِ الذي لا يجوزُ إلغاؤه، ألا ترى أنك تقول:» أنا أظنُّ خارجٌ «فتلغي» أظن «وقال الله تعالى: ﴿أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٧] ولم يَقُلْ: رأى نفسه. وقد جاء في ضرورة الشعر إجراءُ الأفعال التامة مُجْرى النواقص:
قال جران العود:
١٩١ - ٩- لقد كان لي عن ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُني
وعَمَّا أُلاقي منهما مُتَزَحْزِحُ
والعرب تقول: عَدِمْتني ووَجَدْتُني وفَقَدْتُني وليس بوجه الكلام «انتهى.
واعلم أن الناس اختلفوا في الجملة الاستفهامية الواقعة بعد المنصوب بأرأيتك نحو: أرأيتك زيداً ما صنع؟ فالجمهور على أن» زيداً «مفعول أول، والجملة بعده في محصل نصب سادَّةً مَسَدَّ المفعول الثاني. وقد تقدم أنه لا يجوز التعليق فيه هذه وإن جاز في غيرها من أخواتها نحو: علمت زيداً أبو مَنْ هو؟ وقال ابن كَيْسان:» إن الجملة الاستفهامية في رأيتك زيداً ما صنع بدل من أرأيتك «وقال الأخفش:» إن لا بد بعد «أرأيت» التي بمعنى أخبرني من الاسم المستَخْبَرِ عنه، ويلزمُ الجملةَ التي بعده الاستفهامُ لأن «
622
أخبرني» موافق لمعنى الاستفهام «وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها فتكون بمعنى» أما «أو» تنبَّه «، وحينئذ لا يكون لها مفعولان ولا مفعول واحد، وجعل من ذلك: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت﴾ [الكهف: ٦٣]. وهذا ينبغي أن لا يجوز لأنه إخراج للَّفْظَة عن موضوعها من غير داعٍ إلى ذلك.
إذا تقرَّر هذا فليُرْجع إلى الآية الكريمة فنقول وبالله التوفيق: اختلف الناس في هذه الآية على ثلاثة أقوال، أحدُها: أن المفعولَ الأولَ والجملةَ الاستفهامية التي سَدَّت مَسَدَّ الثاني محذوفان لفهم المعنى، والتقدير: أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعُكم» أو اتِّخاذَكم غيرَ الله إلهاً هل يَكْشِفُ ضُرَّكم؟ ونحو ذلك: فعبادَتَكُمْ أو اتِّخاذَكم مفعول أول، والجملة الاستفهامية سادَّةٌ مَسَدَّ الثاني: والتاء هي الفاعل، والكاف حرف خطاب.
الثاني: أن الشرط وجوابه - سيأتي بيانه - قد سَدَّا مَسَدَّ المعفولين لأنهما قد حَصَّلا المعنى المقصود، فلم يَحْتج هذا الفعل إلى مفعولٍ، وليس بشيء؛ لأن الشرط وجوابه لم يُعْهد فيهما أن يَسُدَّا مَسَدَّ مفعولي ظن، وكونُ الفعلِ غيرَ محتاجٍ لمفعولٍ إخراجٌ له عن وضعه، فإنْ عَنَى بقوله: «سَدَّا مَسَدَّه» أنَّهما دالاَّن عليه فهو المدَّعى.
والثالث: أن المفعول الأول محذوفٌ، والمسألةُ من باب التنازع بين أرأيتكم وأتاكم، والمتنازَعُ فيه هو لفظُ «العذاب». وهذا اختيار الشيخ، ولنوردْ كلامه ليظهرَ فإنَّه كلامٌ حسن قال: «فنقول: الذي نختاره: أنها باقية على حكمها في التعدِّي إلى اثنين، فالأول منصوب والثاني لم نجده بالاستقراء إلا جلمة استفهامية أو قسمية.
فإذا تقرَّر هذا فنقول: المفعول الأول في هذه الآية محذوف، والمسألة من باب التنازع، تنازع «أرأيتكم» والشرط
623
على «عذاب الله»، فأعمل الثاني وهو «أتاكم» فارتفع «عذاب» به، ولو أعمل الأول لكان التركيب: «عذاب» بالنصب، ونظير ذلك: «اضرب إنْ جاءك زيد» على إعمال «جاءك» ولو نصب لجاز، وكان من إعمال الأول. وأمَّا المفعول الثاني فهو الجملة من الاستفهام: «أغيرَ الله تَدْعُون» والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول المحذوف محذوف تقديره: أغيرَ الله تَدْعُنن لكَشْفِه، والمعنى: قل أرأيتكم عذابَ الله إنْ أتاكم - أو الساعة إن أتتكم - أغيرَ الله تَدْعُون لكشفه أو لكشف نوازلها «انتها. والتقدير الإِعرابيُّ الذي ذكره يحتاج إلى بعض إيضاح، وتقديره: قل أرأيتَكموه أو أرأيتَكم إياه إن أتاكم عذاب الله، فلذلك الضمير هو ضمير العذاب لمَّا عمل الثاني في ظاهره أُعطي المُلْغَى ضميرَه، وإذا أُضْمِرَ في الأول حُذِف ما لم يكن مرفوعاً أو خبراً في الأصل، وهذا الضمير ليس مرفوعاً ولا خبراً في الأصل، فلأجل ذلك حُذِف ولا يَثْبُتُ إلا ضرورةً.
وأمَّا جوابُ الشرط ففيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه محذوفٌ، فقدَّره الزمخشري:» إن أتاكم عذابُ الله مَنْ تدعون «قال الشيخ:» وإصلاحُه أن يقول: «فَمَنْ تدعون» بالفاء، لأن جوابَ الشرطِ إذا وقع جملةً استفهاميةً فلا بتد فيه من الفاء. الثاني: أنه «أرأيتكم»، قاله الحوفي، وهو فاسِدٌ لوجهين، أحدهما: أن جوابَ الشرط لا يتقدَّمُ عند جمهور البصريين، إنما جوَّزَه الكوفيون وأبو زيدٍ والمبردُ والثاني: أن الجملةَ المصدَّرَةَ بالهمزة لا تقع جواباً للشرط البتة، إنما يقع من الاستفهام ما كان ب «هل» أو اسمٍ من أسماء الاستفهام، وإنما لم تقع الجملة المصدرة بالهمزة جوباً لأنه لا يخلو: أن تأتي معها بالفاء أو لا تأتي بها، لا جائز أن لا تأتي بها؛ لأنَّ كلَّ ما لا يَصْلح شرطاً
624
يجب اقترانه بالفاء إذا وقع جواباً، ولا جائز أن تأتي بها لأنك: إمَّا أن تأتي بها قبل الهمزة نحو: إن قمت فأزيد منطلق «، أو بعدها نحو:» أفزيد منطلق «، وكلاهما ممتنعٌ، أمَّا الأول فلتصدُّر الفاء على الهمزة، وأما الثاني فلأنه يؤدي إلى عدم الجواب بالفاء في موضع كان يجب فيه الإِتيانُ بها، وهذا بخلاف» هل «فإنك تأتي بالفاء قبلها فتقول: إن قمت فهل زيد قائم، لأنه ليس لها تامُ التصدير الذي تستحقُّه الهمزةُ، ولذلك تَصَدَّرَتْ على بعضِ حروف العطف وقد تقدَّم مشروحاً غير مرة.
الثالث: أنه» أغير الله «وهو ظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال:» ويجوز أن يتعلَّق الشرطُ بقولِه: ﴿أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ﴾ كأنه قيل: أغير الله تَدْعُون إن أتاكم عذاب الله «قال الشيخ:» ولا يجوز أن يتعلَّق الشرط بقوله: «أغير الله» ؛ لأنه لو تعلَّق به لكان جواباً له، لكنه لا يقع جواباً؛ لأنَّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يقع إلا ب «هل» وذَكَر ما قدَّمْتُه إلى آخره، وعزاه الأخفش عن العرب ثم قال: «ولا يجوز أيضاً من وجه آخر، لأنَّا قد قَرَّرْنا أنَّ» أرأيتك «متعدِّية إلى اثنين، أحدهما في هذه الاية محذوفٌ، وأنه من باب التنازع، والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعَة، فلو جَعَلْتها جواب الشرط لبقيَتْ» أرأيتَكم «متعدية إلى واحد وذلك لا يجوز» قلت: وهذا لا يلزم الزمخشري فإنه لا يرتضى ما قاله من الإِعراب المشار إليه.
قوله «يلزم تعدِّيها لواحد» قلنا: لا نسلِّم بل يتعدَّى لاثنين محذوفين ثانيهما جملة استفهام، كما قدَّره غيرُه: بأرأيتكم عبادتَكم هل تنفعكم، ثم قال: «وأيضاً التزامُ العرب في الشرط الجائي بعد» أرأيت «مُضِيَّ الفعل دليلٌ على أن جواب الشرط محذوف، لأنه لا يُحْذَفُ جوابُ الشرط إلا عند مُضِيِّ فِعْلِه، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله﴾ [الأنعام: ٤٧] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله﴾ [الأنعام: ٤٦] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله﴾ [القصص: ٧١] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله﴾ [القصص: ٧٢] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ﴾ [يونس: ٥٠] ﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾ [الشعراء: ٢٠٥] ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى﴾ [العلق: ١٣] إلى غير ذلك من الآيات. وقال الشاعر:
١٩٢ - ٠- أَرَيْتَ إنْ جاءت به أمْلودا... وأيضاً مجيءُ الجملة الاستفهامية مُصَدَّرةً بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جوابَ الشرط، إذ لا يَصحُّ وقوعُها جواباً للشرط». انتهى.
ولما جَوَّزَ الزمخشري أن الشرطَ متعلِّقٌ بقوله: ﴿أغير الله﴾ سأل سؤالاً وأجابَ عنه، قال: «فإنْ قلت: إنْ عَلَّقْتَ الشرطَ بِه فما تصنعُ بقوله:» فيكشِفُ ما تَدْعُون إليه «مع قوله: ﴿أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة﴾ وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الكشفِ المشيئةَ وهو قوله» إنْ شاء «إيذاناً بأنه إنْ فَعَلَ كان له وجهٌ من الحكمة، إلا أنه لا يَفْعلُ لوجهٍ آخرَ من الحكمةِ أرجحَ منه» قال الشيخ: «وهذا مبنيٌّ على أن
625
الشرط متعلقٌ ب» أغير الله «. وقد استَدْلَلْنا على أنه لا يجوز» قلت: تَرَك الشيخُ التبنيهَ على ماهو أهمُّ من
626
ذلك وهو قوله: «إلا أنه لا يفعل لوجهٍ آخر من الحكمة أرجحَ منه» وهذا أصل فاسد من أصول المعتزلة يزعمون أن أفعاله تعالى تابعةٌ لمصالحَ وحِكمٍ يترجَّح مع بعضها الفعلُ ومع بعضها التركُ، ومع بعضها يجب الفعل أو الترك، تعالى الله عن ذلك بل أفعاله لا تُعَلَّلُ بغرضٍ من الأغراض، لا يُسأل عما يَفعل، وموضوع هذه المسألةِ غيرُ هذا الموضوع، ولكني نبَّهْتُك علهيا إجمالاً.
الرابع: أنَّ جواب الشرط محذوف تقديره: إن أتاكم عذابُ الله أو أَتَتْكم الساعةُ دَعَوْتم، ودَلَّ عليه قوله: ﴿أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ﴾ الخامس: أن محذوف أيضاً، ولكنه مقدَّرٌ من جنس ما تقدَّم في المعنى، تقديرُه: إنْ أتاكم عذاب الله أو أَتَتْكم الساعة فأخبروني عنه أَتَدْعُون غير الله لكشفِه كما تقول: «أخبرني عن زيدٍ إن جاءك ما تصنعُ به» أي: إن جاءَك فأخبرني عنه، فحُذِفَ الجوابُ لدلالة «أخبرني» عليه، ونظيرُه: أنت ظالمُ إن فعلت، أي: فأنت ظالم، فحذف «فأنت ظالمٌ» لدلالةِ ما تقدَّم عليه. وهذا ما اختاره الشيخ. قال: «وهو جارٍ على قواعد العربية» وادَّعى أنه لم يَرَه لغيره.
قوله: ﴿أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ﴾«غيرَ» مفعول مقدم ل «تَدْعون» وتقديمُه: إمَّا للاختصاص كما قال الزمشخري: «بَكَّتهم بقوله: أغير الله تَدْعُون، بمعنى، أَتَخُصُّون آلهتَكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرٌّ أم تدعون اللَّهَ دونها، وإمَّا للإِنكارِ عليهم في دعائهم للأصنام؛ لأن المُنْكَرَ إنما هو دعاءُ الأصنامِ لا نفسُ الدعاء، ألا ترى أنك إذا قلت» أزيداً تضربُ «إنما تُنْكِرُ كونَ» زيد «مَحَلاً للضرب ولا تُنْكر نفسَ الضرب، وهذا من قاعدةٍ بيانية قَدَّمْتُ التنبيهَ عليها عند قوله تعالى: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني﴾ [المائدة: ١١٦].
627
قوله: ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ جوابُه محذوف لدلالة الكلام عليه وكذلك معمولُ» صادقين «والتقدير: إن كنتم صادقين في دعواكم أنَّ غيرَ الله إلهٌ فهل تَدْعُونه لكشْف ما يَحُلُّ بكم من العذاب؟
قوله تعالى: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ :«بل» حرفُ إضرابٍ وانتقال لا إبطالٍ، لِما عَرَفْتَ غيرَ مرة من أنها في كلام الله كذلك. و «إياه» مفعول مقدَّم للاختصاص عند الزمخشري، ولذلك قال: «بل تَخُصُّونه بالدعاء، وعند غيره للاعتناء، وإن كان ثَمَّ حَصْرٌ واختصاص فِمِنْ قرينة أخرى.» وإياه «ضمير منصوب منفصل تقدَّم الكلامُ عليه مشبعاً في الفاتحة وقال ابن عطية:» هنا «إيَّا» اسم مضمر أُجري مُجرى المظهرات في أنه مضاف أبداً «قال الشيخ:» وهذا خلافُ مذهبِ سيبويه، فإنَّ مذهب سيبويه أن ما بعد «إيَّا» حرفٌ يُبَيِّن أحوال الضمير، وليس مضافاً لما بعده، لئلاَّ يلزمَ تعريفُ الإِضافةِ، وذلك يستدعي تنكيره، والضمائر لا تَقْبَلُ التنكير فلا تقبل الإِضافة.
قوله: ﴿مَا تَدْعُونَ﴾ يجوز في «ما» أربعةُ أوجه، أظهرها: أنها موصولة بمعنى الذي أي: فتكشف الذي تَدْعون، والعائد محذوف لاستكمال الشروط أي: تَدْعونه. الثاني: أنها ظرفية، قال ابن عطية. وعلى هذا فيكون مفعول «يكشفُ» محذوفاً تقديره: فيكشف العذاب مدةَ دعائكم أي: ما دُمْتُمْ داعِيه.
628
قال الشيخ: «وهذا ما لا حاجةَ إليه مع أنَّ فيه وَصْلَها بمضارعٍ، وهو قليلٌ جداً تقولُ:» لا أُكَلِّمك ما طلَعت الشمس «ويضعف: ما تطلع الشمس» قلت: قوله بمضارع «كان ينبغي أن يقول مثبت؛ لأنه متى كان منفياً ب» لم «كَثُر وَصْلُها به نحو قوله:
١٩٢ - ١- ولَنْ يَلْبَثَ الجُهَّالُ أن يَتَهَضَّموا
أخا الحلم ما لم يَسْتَعِنْ بجَهول
ومِنْ وَصْلها بمضارعٍ مثبت قولُه:
١٩٢ - ٢- أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ ثم آوي
إلى أمَّا ويَرْويني النقيعُ
وقول الآخر:
١٩٢ - ٣- أُطَوِّفُ ما أُطّوِّفُ ثم أوي
إلى بيتٍ قعيدَتُهُ لَكاعِ
ف» أُطَوِّفُ «صلةُ ل» ما «الظرفية.
الثالث: أنها نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء، والعائد أيضاً محذوف أي: فيكشفُ شيئاً تَدْعونه أي: تَدْعون كَشْفَه، والحذفُ من الصفةِ أقلُّ منه من الصلة. الرابع: أنها مصدرية، قال ابن عطية:» ويَصِحُّ أن تكون مصدرية على حذف في الكلام «قال الزجاج:» وهو مثل: {وَسْئَلِ
629
القرية} [يوسف: ٨٢]. قلت: والتقدير: فيكشف سبب دعائكم وموجبه قال الشيخ «وهذه دعوى محذوف غيرِ معين وهو خلاف الظاهر» وقال أبو البقاء: «وليست مصدرية إلا أَنْ تجعلَها مصدراً بمعنى المفعول» يعني يصير تقديره: فيكشف مَدْعُوَّكم أي: الذي تَدْعُون لأجله، وهو الضُّرُّ ونحوه.
قوله: ﴿إِلَيْهِ﴾ فيما يتعلق به وجهان، أحدهما: أن يتعلق ب «تَدْعون»، والضمير حينئذ يعود على «ما» الموصولة أي: الذي تدعون إلى كَشْفِه، و «دعا» بالنسبة إلى متعلِّق الدعاء يتعدى ب «إلى» أو اللام.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله﴾ [فصلت: ٣٣] ﴿وَإِذَا دعوا إِلَى الله﴾ [النور: ٤٨] وقال:
١٩٢ - ٤- وإن أُدْعَ للجُلَّى أكنْ مِنْ حُماتها
........................
وقال:
١٩٢ - ٥- وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ
يوماً سَراةَ كرامِ الناس فادْعِينا
وقال:
١٩٢ - ٦- دعوتُ لِما نابني مِسْوَراً
فَلَبِّيْ فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
والثاني: أن يتلعَّق ب «يَكْشِفُ» قال أبو البقاء: «أي: يرفعه
630
إليه» انتهى. والضميرُ على هذا عائد على الله تعالى، وذكر ابو البقاء وجهَي التعلق ولم يَتَعرَّضْ للضمير وقد عَرَفْتَه. وقال ابن عطية: «والضمير في» إليه «يُحتمل أن يعودَ إلى الله بتقدير: فيكشف ما تدعون فيه إليه» قال الشيخ: «وهذا ليس بجيد؛ لأنَّ» دعا «يتعدى لمفعول به دون حرف جر: ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠] ﴿إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: ١٨٦] ومن كلام العرب:» دعوتُ الله سميعاً «قلت: ومثلُه: ﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ﴾ [الإِسراء: ١١٠] ﴿ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً﴾ [الأعراف: ٥٥] قال: ولا تقول بهذا المعنى:» دعوت إلى الله «بمعنى: دعوت الله، إلا أنه يمكن أن يُصَحَّح كلامُه بمعنى التضمين، ضمَّن» تدعون «معنى» تلجَؤون فيه إلى الله «إلا أنَّ التضمين ليس بقياس، لا يُصارُ إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورةَ تدعو إليه هنا».
قلت: ليس التضمين مقصوراً على الضرورة، وهو في القرآن أكثر من أن يُحْصَر، تقدَّم لك منه جملةٌ صالحة، وسيأتي لك إن شاء الله مثلُها، على أنه قد يقال تجويزُ أبي محمد عَوْدَ الضمير إلى الله تعالى محمولٌ على أن «إليه» متعلق بيكشف، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء وأن معناه «يرفعه» فلا يلزم المحذورُ المذكور، لولا أنه يُعَكِّر عليه تقديرُه بقوله «تدعون فيه إليه» فتقديره «فيه» ظاهره أنه يزعمُ تعلُّقَه ب «تَدْعُون».
قوله: ﴿إِنْ شَآءَ﴾ جوابه محذوف لفهم المعنى، ودلالة ما قبله عليه، أي: إنْ شاء أن يكشِفَ كشف، وادِّعاءُ تقديمِ جواب الشرط هنا واضحٌ
631
لاقترانه بالفاء، فهو أحسنُ مِنْ قوله: «أنت ظالم إن فعلت» لكن يمنع مِنْ كونها جواباً هنا أنها سببيَّةٌ مرتبة أي: أنها أفادَتْ ترتُّبَ الكشفِ على الدعاء، وأن الدعاءَ سببٌ فيه، على أن لنا خلافاً في فاء الجزاء: هل تفي السببيَّة أو لا؟
قوله: ﴿وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ الظاهر في «ما» أن تكون موصولةً اسمية، والمرادُ بها ما عُبِد مِنْ دون الله مطلقاً: العقلاءُ وغيرُهم، إلا أنه غَلَّب غيرَ العقلاء عليهم كقوله: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات﴾ [النحل: ٤٩] والعائدُ محذوفٌ أي ما تُشْركونه مع الله في العبادة. وقال الفارسي: «الأصلُ: وتَنْسَون دعاءَ ما تشركون، فحذف المضاف» ويجوز أن تكونَ مصدريةً، وحينئذ لا تحتاج إلى عائد عند الجمهور. ثم هل هذا المصدر باق على حقيقته؟ أي: تَنْسَون الإِشراكَ نفسَه لِما يلحقُكم من الدَّهْشَة والحَيْرة، أو هو واقعٌ موقعَ المعفول به، أي: وتنسَوْن المُشْرَك به وهي الأصنام وغيرها، وعلى هذا فمعناه كالأول وحينئذٍ يحتمل السياقُ أن يكون على بابه من الغفلة، وأن يكون بمعنى الترك، وإن كانوا ذاكرين لها أي للأصنام وغيرها.
قوله تعالى: ﴿فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ﴾ :«إذ» منصوب ب «تَضرَّعوا» فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه، وهو جائز
632
حتى في المفعول به، تقول: «لولا زيداً ضَرَبْتَ» وتقدَّم أن حرف التحضيض مع الماضي يكون معناه التوبيخ.
والتضرُّع: تفعُّل من الضَّراعة، وهي الذِّلَّة والهيئة المسبِّبة عن الانقياد إلى الطاعة يقال: ضَرَع يَضْرَعُ ضَراعة فهو ضارعٌ وضَرِع قال:
١٩٢ - ٧- لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومَةٍ
ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائِحُ
وللسهولة والتذلُّل المفهومة من هذه المادة اشتقُّوا منها للثدي اسماً فقالوا له «ضَرْعاً»
قوله: ﴿ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾«لكنْ» هنا واقعة بين ضدين، وهما اللين والقسوة؛ وذلك أن قولَه «تَضَرَّعوا» مُشْعِرٌ باللين والسهولة، وكذلك إذا جَعَلْتَ الضراعةَ عبارة عن الإِيمان، والقسوة عبارة عن الكفر، وعَبَّرت عن السبب بالمسبِّب وعن المسبِّب بالسبب، ألا ترى أنك تقول: «آمَنَ قلبُه فتضرَّع، وقسا قلبه فكفر» وهذا أحسن من قول أبي البقاء: «ولكن» استدراك على المعنى، أي ما تضرَّعوا ولكن «يعني أن التحضيض في معنى النفي، وقد يترجَّح هذا بما قاله الزمخشري فإنه قال:» معناه نَفْيُ التضرُّعِ كأنه قيل: لم يتضرعوا إذ جاءهم بأْسُنا، ولكنه جاء ب «لولا» ليفيد أنه لم يكنْ لهم عذرٌ في ترْك التضرُّع إلا قسوةُ قلوبِهم وإعجابُهم بأعمالهم التي زيَّنها الشيطان لهم «.
قوله: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ﴾ هذه الجملة تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون استنافيةً، أخبر تعالى عنهم بذلك.» والثاني: وهو الظاهر -: أنها داخلةٌ في حَيِّز
633
الاستدارك فهي نسقٌ على قوله: ﴿قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ وهذا رأيُ الزمخشري فإنه قال: «لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التضرع إلا قسوةُ قلوبهم وإعجابُهم بأعمالهم» وقد تقدَّم ذلك. و «ما» في قوله: ﴿مَا كَانُواّ﴾ يحتمل أن تكونَ موصولةً اسمية أي: الذي كانوا يعملونه وأن تكونَ مصدرية، أي: زَيَّن لهم عملَهم، كقوله: ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النمل: ٤] ويَبْعُد جَعْلُها نكرةً موصوفة.
قوله تعالى: ﴿فَتَحْنَا﴾ : قرأ الجمهور «فَتَحْنا» مخفَّفاً، وابن عامر «فتَّحنا» مثقلاً، والتثقيلُ مُؤْذِنٌ بالتكثير؛ لأنَّ بعده «أبواب» فناسب التكثير، والتخفيف هو الأصل. وقرأ ابنُ عامر أيضاً في الأعراف: ﴿لَفَتَحْنَا﴾ [الآية: ٩٦] وفي القمر: ﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ﴾ [الآية: ١١] بالتشديد أيضاً، وشدَّد أيضاً ﴿فُتِحَتْ يَأْجُوجُ﴾ [الأنبياء: ٩٦] والخلاف أيضاً في ﴿فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الآيتين: ٧١، ٧٣] في الزمر في الموضعين، ﴿وَفُتِحَتِ السمآء﴾ [الآية: ١٩] في النبأ، فإن الجماعة وافقوا ابن عامر على تشديدها، ولم يَقْرَأْها بالتخفيف إلا الكوفيون، فقد جرى ابن عامر على نمطٍ واحد في هذا الفعل، والباقون شدَّدوا في المواضع الثلاثة المشارِ إليها، وخفَّفوا في الباقي جَمْعاً بين اللغتين.
قوله: ﴿فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ﴾«إذا» هي الفجائية وفيها ثلاثة مذاهب
634
مذهب سيبويه أنها ظرف مكان، ومذهب جماعة منهم والرياشي أنها ظرفُ زمانٍ، ومذهب الكوفيين أنها حرف. فعلى تقدير كونها ظرفاً مكاناً أو زماناً الناصبُ لها خبر المبتدأ، أي أُبْلِسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها.
والإِبلاسُ: الإِطراق، وقيل: هو الحُزْن المعترض من شدة البأس، ومنه اشْتُقَّ «إبليس» وقد تقدَّم في موضعه وأنه هل هو أعجمي أم لا؟
قوله: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ﴾ الجمهور على «فَقُطِع» مبنيّاً للمفعول. «دابر» مرفوع به. وقرأ عكرمة: «قطع» مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، «دابر» مفعول به، وفيه التفاتٌ، إذ هو خروج من تكلم في قوله: «أخذناهم» إلى غيبة. والدابِرُ: التابع من خلف، يقال: دَبَر الولدُ والدَه، ودَبَر فلان القوم يَدْبُرُهم دُبُوراً ودَبْراً. وقيل: الدابِر: الأصل، يقال: قطع الله دابِرَه أي: أصله، قال الأصمعي. وقال أبو عبيد: «دابرُ القوم آخرُهم»، وأنشدوا لأميَّة بن ابي الصلت:
قوله :﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ ﴾ الجمهور على " فَقُطِع " مبنيّاً للمفعول. " دابر " مرفوع به. وقرأ عكرمة :" قطع " مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، " دابر " مفعول به، وفيه التفاتٌ، إذ هو خروج من تكلم في قوله :" أخذناهم " إلى غيبة. والدابِرُ : التابع من خلف، يقال : دَبَر الولدُ والدَه، ودَبَر فلان القوم يَدْبُرُهم دُبُوراً ودَبْراً. وقيل : الدابِر : الأصل، يقال : قطع الله دابِرَه أي : أصله، قال الأصمعي. وقال أبو عبيد :" دابرُ القوم آخرُهم "، وأنشدوا لأميَّة بن ابي الصلت :
قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله﴾ : المفعول الأول محذوف تقديره: أرأيتم سَمْعَكم وأبصاركم إن أخذها الله، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني، وقد تقدم أنَّ الشيخ يجعلُه من التنازع، وجواب الشرط محذوف على نحو ما مرَّ. وقال الحوفي: «وحرفُ الشرط وما اتصل به في موضع نصبٍ على الحال، والعالمُ في الحال» أرأيتم «كقولك:» اضربه إن خرج «أي خارجاً، وجواب الشرط ما تقدَّم مِمَّا دخلَتْ عليه همزة
635
الاستفهام» وهذا إعرابٌ لا يَظْهر. ولم يُؤْتَ هنا بكاف الخطاب وأُتي به هناك؛ لأنَّ التهديدَ هناك أعظم فناسب التأكيد بالإِتيان بكاف الخطاب، ولمَّا لم يُؤْتَ بالكافِ وجب بروزُ علامةِ الجمع في التاء لئلا يلتبسَ، ولو جيء معها بالكاف لا ستُغْنِي بها كما تقدَّم، وتوحيد السمع وجَمْعُ الأبصارِ مفهومٌ ممَّا تقدَّم في البقرة.
قوله: ﴿مَّنْ إله﴾ مبتدأ وخبر، و «مَنْ» استفهامية، «وغيرُ الله» صفةٌ ب «إلهٌ» و «يأتيكم» صفةٌ ثانية، والهاء في «به» على سمعكم. وقيل: تعود على الجميع. وَوُحِّد ذهاباً به مذهب اسم الإِشارة وقيل: تعود على الهَدْي المدلول عليه بالمعنى. وقيل: يَعودُ على المأخوذ والمختوم المدلول عليهما بالأَخْذ والخَتْم. والاستفهام هنا للإِنكار.
قوله: ﴿انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ﴾«كيف» معمولةٌ لنصرِّف، ونصبُها: إمَّا على التشبيه بالحال أو التشبيه بالظرف، وهي مُعَلِّقةٌ ل «انظر» فهي في محل نصب بإسقاط حرف الجر، وهذا كله ظاهر مِمَّا تقدم. «ويَصْدِفون» معناه يُعْرِضُون، يقال: صَدَف عن الشيء صَدْفاً وصُدُوفاً وصدافِيَةً قال عدي بن الرقاع:
١٩٢ - ٩- إذا ذكرْنَ حديثاً قُلْنَ أحسنَه
وهُنَّ عن كل سوءٍ يُتَّقى صُدُفُ
«صُدُف» جمع صَدُوف ك صُبُر في جمع صبور، وقيل: معنى صدف: مالَ، مأخوذ من الصَّدَف في البعير وهو أن يَميل خِفُّه من اليد إلى الرِّجْل من الجانب الوحشي. والصَّدَف جمع صَدَفة وهي المَحارة التي تكون فيها الدُّرَّة قال:
١٩٣ - ٠-
636
وزادَها عَجَباً أَنْ رُحْتُ في سُبُلٍ
وما دَرَتْ دَوَرَان الدُّرِّ في الصَّدَفِ
والصَّدَف والصُّدُف بفتح الصاد والدال وضمهما، وضم الصاد وسكون الدال ناحية الجبل المرتفع، وسيأتي لهذا مزيدُ بيان.
والجمهور: «به انظر» بكسر الهاءِ على الاصل، وروى المُسَيِّبي عن نافع: «بهُ انظر» بضمها نظراً إلى الأصل: وقرأ الجمهور أيضاً: ﴿نُصَرِّف﴾ مضعَّفاً، وقُرِئ شاذاً: «نَصْرِف» بكسر الراء من صرف ثلاثياً.
قوله: ﴿هَلْ يُهْلَكُ﴾ هذا استفهامٌ بمعنى النفي؛ ولذلك دخلت «إلاَّ»، وهو استثناءٌ مفرَّغٌ، والتقدير: ما يُهْلك إلا القوم الظالمون. وهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ل «أرأيتكم» والأولُ محذوفٌ، وهذا من التنازع على رأي الشيخ كما تقدَّم تقريره. وقال أبو البقاء: «الاستفهامُ ههنا بمعنى التقرير، فلذلك ناب عن جواب الشرط أي: إن أتاكمْ هَلَكْتم، والظاهرُ ما قَدَّمْتُه، ويجيء هنا قول الحوفي المتقدم في الآية قبلها من كون الشرط حالاً. وقرأ ابن محيصن: ﴿هل يَهْلَكُ﴾ مبنياً للفاعل. وتَقَدَّم الكلام أيضاً على» بَغْتة «اشتقاقاً وإعراباً».
قوله :﴿ هَلْ يُهْلَكُ ﴾ هذا استفهامٌ بمعنى النفي ؛ ولذلك دخلت " إلاَّ "، وهو استثناءٌ مفرَّغٌ، والتقدير : ما يُهْلك إلا القوم الظالمون. وهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ل " أرأيتكم " والأولُ محذوفٌ، وهذا من التنازع على رأي الشيخ كما تقدَّم تقريره. وقال أبو البقاء :" الاستفهامُ ههنا بمعنى التقرير، فلذلك ناب عن جواب الشرط أي : إن أتاكمْ هَلَكْتم، والظاهرُ ما قَدَّمْتُه، ويجيء هنا قول الحوفي المتقدم في الآية قبلها من كون الشرط حالاً. وقرأ ابن محيصن :﴿ هل يَهْلَكُ ﴾ مبنياً للفاعل. وتَقَدَّم الكلام أيضاً على " بَغْتة " اشتقاقاً وإعراباً ".
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ : حال من «المرسلين» وفي هذه الحال معنى الغَلَبة أي: لم نُرْسِلْهم لأن تُقْتَرَحَ عليهم
637
الآيات، بل لأن يُبَشِّروا ويُنْذِرُوا. وقرأ إبراهيم ويحيى: «مُبْشِرين» بالتخفيف وقد تقدَّم أن «أَبْشَر» لغةٌ في «بَشَّر».
قوله: ﴿فَمَنْ آمَنَ﴾ يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطية، وأن تكونَ موصولةً، وعلى كلا التقديرين فمحلُّها رفعٌ بالابتداء والخبر: «فلا خوف» : فإن كانت شرطية فالفاء جواب الشرط، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط، وعلى الأول يكون محلُّ الجملتين الجزمَ، وعلى الثاني لا محلَّ للأولى، ومحلُّ الثانية الرفع، وحُمِل على اللفظ فأفردَ في «آمن» و «اصلَح»، وعلى المعنى فجمع في ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ويُقَوِّي كونَها موصولةً مقابلتُها بالموصول بعدها في قوله: ﴿والذين كَذَّبوا﴾.
وقرأ علقمة: ﴿نُمسُّهم﴾ : بنونٍ مضمومة من «أَمَسَّه كذا»«العذابَ» نصباً، والأعمش ويحيى بن وثاب: «يَفْسِقون» بكسر السين، وقد تقدَّم أنها لغة. و «ما» مصدريةٌ على الأظهر، أي: بفِسْقِهم.
قوله: ﴿ولا أَعْلَمُ الغيب﴾ في محلِّ هذه الجملة وجهان، أحدهما: النصب عطفاً على قوله «عندي خزائنُ الله» لأنه من جملة المقول، كأنه قال: لا أقول لكم هذا القولَ ولا هذا القولَ، قاله الزمشخري، وفيه نظرٌ من حيث إنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير: ولا أقول لكم لا أَعْلَمُ الغيب، وليس بصحيحٍ. والثاني: أنه معطوف على «لا أقول» لا معمولٌ له، فهو أمَرَ أن يُخْبِرَ عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة
638
للأمر الذي هو «قل»، وهذا تخريجُ الشيخ، قال بعد أن حكى قول الزمخشري: «ولا يتعيَّنُ ما قاله، بل الظاهرُ أنه معطوفٌ على» ألاَّ أقول «إلى آخره».
قوله: ﴿بالغداة﴾ : قرأ الجمهور: «بالغداة» هنا وفي الكهف وابن عامر: ﴿بالغُدْوة﴾ بضم الغين وسكون الدال وفتح الواو في الموضعين، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومالك بن دينار وأبو رجاء العطاردي ونصر بن عاصم الليثي. والأشهر في «الغُدْوة» أنها معرفة بالعلمية، وهي علميَّة الجنس كأسامة في الأشخاص ولذلك مُنِعت من الصرف قال الفراء: «سمعت أبا الجراح يقول: ما رأيت كغدوة قط، يريد: غداة يومه» قال: «ألا ترى أن العرب لا تضيفها، فكذا لا يدخلها الألف واللام، إنما يقولون: جئتك غداة الخميس» وقال الفراء في كتاب «المعاني» في سورة الكهف: «قرأ عبد الرحمن السلمي: ﴿بالغُدْوَة والعَشِي﴾ ولا أعلم أحداً قرأ بها غيره، والعرب لا تُدْخل الألف واللام في» الغدوة «لأنها معرفة بغير ألف ولام» فذكره إلى آخره.
639
وقد طعن أبو عبيد القاسم بن سلام على هذه القراءة فقال: «إنما نرى ابن عامر والسلمي قرآ تلك القراءة إتباعاً للخط، وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولفظُهما على تَرْكها، وكذلك الغداة، على هذا وجدنا العرب». وقال الفارسيُّ: «الوجه قراءة العامة بالغداة، لأنها تستعمل نكرة ومعرفة بالام، فأمَّا» غُدْوَة «فمعرفة وهو عَلَمٌ وُضِع للتعريف، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف، كما لا تَدْخُل على سائر الأعلام، وإن كانت قد كُتِبَتْ بالواو لأنها لا تدلُّ على ذلك. ألا ترى الصلاة والزكاة بالواو ولا تُقرآن بها، فكذلك الغداة. قال سيبويه:» غُدْوة وبُكْرة جُعِل كلُّ واحد منهما اسماً للحين، كما جعلوا «أم حُبَيْن» اسماً لدابَّةٍ معروفة «. إلا أنَّ هذا الطعنَ لا يُلتفت إليه، وكيف يُظَنُّ بمَنْ تَقَدَّم أنهم يَلْحنون، والحسن البصري ممن يُسْتَشْهد بكلامِه فضلاً عن قراءته، نصر بن عاصم شيخ النحاة أخذ هذا العلمَ عن أبي الأسود ينبوعِ الصناعة، وابن عامر لا يَعْرف اللحن لأنه عربي، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة، ولكن أبا عبيد - رحمه الله - لم يعرف أن تنكير» غدوة «لغةُ ثانية عن العرب حكاها سيبويه والخليل.
قال سيبويه:» زعم الخيل أنه يجوز أن تقول: «أَتيتُكَ اليوم غُدْوةً وبُكْرة» فجعلها مثل ضَحْوة، قال المهدوي: «حكى سيبويه والخليل أنَّ بعضَهم يُنَكِّر فيقول» غُدْوةً «بالتنوين، وبذلك قرأه ابن عامر، كأنه جعله نكرة، فأدخل عليها الألف واللام» وقال أبو علي الفارسي: «وجه دخول الألف واللام عليها أنه يجوز وإن كانت معرفةً أن تُنَكِّر، كما حكى أبو زيد» لقيته فَيْنَةَ «
640
غير مصروفة» والفَيْنَةَ بعد الفينة «أي: الحين بعد الحين، فألحق لام التعريف ما استعمل معرفة، ووجه ذلك أنه يُقَدَّر فيه التنكير والشيوع كما يُقَدَّر فيه ذلك إذا بني».
وقال أبو جعفر النحاس: «قرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار وابن عامر:» بالغُدْوة «قال:» وباب غُدْوة أن يكون معرفة إلا أنه يجوز تنكيرها كما تُنَكَّر الأسماءُ الأعلام، فإذا نُكِّرَتْ دَخَلَتْها الألف واللام للتعريف «وقال مكي بن أبي طالب:» إنما دَخَلَت الألف واللام على «غداة» لأنها نكرة، وأكثر العرب يَجْعل «غُدوة» معرفةً فلا ينوِّنها، وكلهم يجعل «غداة» نكرةً فينوِّنها، ومنهم مَنْ يجعل «غُدْوة» نكرة وهم الأقل «فثبت بهذه النقولِ التي ذكرْتُها عن هؤلاء الأئمةِ أن قراءة ابن عامر سالمةٌ من طعن أبي عبيد، وكأنه - رحمه الله - لم يحفظها لغةً.
وأما» العَشِيُّ «فنكرةٌ وكذلك» عَشِيَّة «وهل العَشِيُّ مرادِفٌ لعِشِيَّة؟ أي: إن هذا اللفظَ فيه لغتان: التذكير والتأنيث أو أن عَشِيّاً جمعُ عَشِيَّة في المعنى على حدِّ قمح وقمحة وشعير وشعيرة، فيكون اسم جنس، خلاف مشهور، والظاهر الأول لقوله تعالى: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات﴾ [ص: ٣١]، إذ المرادُ هنا عشيَّة واحدة، واتفقت مصاحف الأمصار على رسم هذه اللفظة» الغدوة «بالواو وقد تقدَّم لك أن قراءة ابن عامر ليست مستندة إلى مجرد الرسم بل إلى النقل، وثَمَّ ألفاظ اتُّفِقَ ايضاً على رسمها بالواو، واتُّفق على قراءتها بالألف وهي: الصلاة والزكاة ومَنَاة ومِشْكاة والربا والنجاة والحياة، وحرفٌ اتٌّفِق على رسمه بالواو واختلف في قراءة بالألف والواو وهو» الغداة «. وأصل غداة: غَدَوَة، تحرَّكَت الواو وانفتح ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً. وقرأ ابن أبي عبلة»
641
بالغَدَوات والعَشِيَّات «جمع غداة وعشية، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً» بالغدوِّ «بتشديد الواو من غير هاء.
قوله: ﴿يُرِيدُونَ﴾ هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحال من فاعل» يَدْعون «أو مِنْ مفعلوله، والأول هو الصحيح، وفي الكلام حَذْفٌ أي: يريدون بدعائهم في هذين الوقتين وجهَه.
قوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ » ما «هذه يجوز أن تكونَ الحجازيةَ الناصبة للخبر فيكون» عليك «في محل النصب على أنه خبرها، عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالَها في الخبر المقدَّم إذا كان ظرفاً أو حرف جر، وأمَّا إذا كانت تميميةً أو متعيَّناً إهمالُه في الخبر المقدم مطلقاً كان» عليك «في محل رفع خبراً مقدماً، والمبتدأ هو» مِنْ شيء «زِيْدت فيه» مِنْ «.
وقوله: ﴿مِنْ حِسَابِهِم﴾ قالوا: «مِنْ» بتعيضية وهي في محلِّ نصب على الحال، وصاحبُ الحال هو «مِنْ شيء» لأنها لو تأخرت عنه لكانت صفةً له، وصفةُ النكرة متى قُدِّمَتْ انتصبت على الحال، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ، والعامل في الحال الاستقرار في «عليك»، ويجوز أن يكون «من شيء» في محلِّ رفعٍ بالفاعلية ورافعُه «عليك» لاعتماده على النفي، و «مِنْ حسابهم» حالٌ أيضاً من «شيء» العمل فيها الاستقرار، والتقدير: ما استقرَّ عليك شيء من حسابهم. وأُجيز أن يكون «من حسابهم» هو الخبر: إمَّا ل «ما» وإمَّا للمبتدأ، «وعليك» حال من «شيء»، والعامل فيها الاستقرار، وعلى هذا فيجوز أن يكون «من حسابهم» هو الرافع للفاعل على ذاك الوجه، و «عليك» حال أيضاً كما تقدم تقريره، وكون «من حسابهم» هو الخبر، و «عليك» هو الحال غيرُ واضح لأنَّ مَحَطَّ الفائدة إنما هو «عليك».
وقوله: ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ﴾ كالذي قبله، إلا أنَّ هنا
642
يمتنع بعض ما كان جائزاً هناك، وذلك أن قوله «من حسابك» لا يجوز أن يُنْصَبَ على الحال لأنه يلزمُ تقدُّمه على عامله المعنوي، وهو ضعيفٌ أو ممتنع، لا سيما وقد تقدَّمَتْ هنا على العامل فيها وعلى صاحبها، وقد تقدَّم لك أن الحال إذا كانت ظرفاً أو حرفَ جر كان تقديمُها على العامل المعنويِّ أحسنَ منه إذا لم يكن كذلك، فحينئذ لك أن تجعل قوله «مِنْ حسابك» بياناً لا حالاً ولا خبراً حتى تخرجَ من هذا المحذورِ، وكَوْنُ «مِنْ» هذه تبعيضيةً غيرُ ظاهر، وقدَّم خطابَه عليه السلام في الجملتين تشريفاً له، ولو جاءت الجملة الثانية على نَمَط الأولى لكان التركيب: «وما عليهم مِنْ حسابك من شيء» فتقدَّم المجرور ب «على» كما قَدَّمه في الأولى، لكنه عَدَل عن ذلك لما تقدم.
وفي هاتين الجملتين ما يُسَمِّيه أهل البديع: ردَّ الأعجاز على الصدور، كقولهم: «عادات السادات سادات العادات»، ومثله في المعنى قول الشاعر:
١٩٣ - ١- وليس الذي حَلَّلْتَه بمُحَلَّلٍ
وليس الذي حَرَّمْتَه بمُحَرَّم
وقال الزمخشري: - بعد كلامٍ قَدَّمَه في معنى التفسير - «فإن قلت أما كفى قولُه: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ حتى ضمَّ إليه ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيءٍ﴾ قلت: قد جُعِلَتِ الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقُصِد بهما مُؤدَّىً واحدٌ وهو المَعْنِيُّ بقوله: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [الأنعام: ١٦٤]، ولا يَسْتَقِلُّ بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل: لا تُؤاخَدُ أنت ولا هم بحسابِ صاحبه».
قال الشيخ: «قوله: لا تُؤاخَذُ أنت إلى آخره» تركيبٌ غير عربي،
643
لا يجوزُ عَوْدُ الضمير هنا غائباً ولا مخاطباً، لأنه إنْ عاد غائباً فلم يتقدَّمْ له اسمٌ مفرد غائب يعود عليه، إنما تقدَّم قوله «هم» ولا يمكن العَوْدُ عليه على اعتقادِ الاستغناء بالمفرد عن الجمع، لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم، وإنْ أُعيد مخاطباً فلم يتقدم مخاطب يعود عليه، إنما تقدَّم قولُه «لا تُؤاخذ أنت» ولا يمكن العَوْدُ إليه، فإنه ضميرٌ مخاطب فلا يعودُ عليه غائباً، ولو أَبْرَزْته مخاطباً لم يَصِحَّ التركيب ايضاً، فإصلاحُ التركيبِ أن يقال: «لا يُؤاخذُ كلُّ واحدٍ منك ولا منهم بحسابِ صاحبه، أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم» فتُغَلِّب الخطابَ على الغيبة كما تقول: «أنت وزيد تضربان» والذي يظهر أن كلامَ الزمخشري صحيحٌ، ولكنْ فيه حذفٌ وتقديره: لا يؤاخذ كل واحد: أنت ولا هم بحساب صاحبه، وتكون «انت ولا هم» بدلاً من كل واحد، والضمير، في «صاحبه» عائد على قوله «كل واحد»، ثم إنه وقع في محذور آخر مما أَصْلَحَ به كلام أبي القاسم، وذلك أنه قال: «أولا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم» وهذا التركيبُ يُحتمل أن يكونَ المرادُ - بل هو الظاهر - نفيَ المؤاخذة بحساب كل واحد بالنسبة إلى نفسه هو، لا أن كلَّ واحد غير مؤاخذ بحساب غيره، والمعنى الثاني هو المقصود.
والضمائر الثلاثة، أعني التي في قوله: ﴿مِنْ حِسَابِهِم﴾ و «عليهم» و «فتطردهم» الظاهر عَوْدُها على نوعٍ واحد وهم الذين يَدْعُون ربهم، وبه قال الطبري، إلا أنه فسَّر الحساب بالرزقِ الدنيويِّ. وقال الزمخشريّ وبان عطية: «إن الضميرَيْن الأوَّلَيْن يعودان على المشركين، والثالث يعود
644
على الداعين». قال الشيخ: «وقيل: الضميرُ في» حسابهم «و» عليهم «عائد على المشركين وتكون الجملتان اعتراضاً بين النهي وجوابه»، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعتراضاً إلا على اعتقاد كون الضميرين «في حسابهم» و «عليهم» عائدَيْن على المشركين، وليس الأمرُ كذلك، بل هما اعتراضٌ بين النهي وهو «لا تَطْرُدِ» وبين جوابِه وهو فتكونَ «وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك في» فتكون «:» وجوَّزوا أن يكون جواباً للنهي في قوله ﴿وَلاَ تَطْرُدِ﴾ وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه «فجعلهما اعتراضاً مطلقاً من غير نظر إلى الضميرين.
ويعني بالجملتين «وما عليك من حسابهم مِنْ شيء» و «ما من حسابك عليهم من شيء» وبجواب الأول قوله ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾.
قوله تعالى: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ فيه وجهان، أحدهما: منصوب على جواب النهي بأحد معنيين فقط، وهو انتفاءُ الطَّرْدِ لانتفاء كون حسابهم عليه وحسابه عليهم، لأنه ينتفي المُسَبِّب بانتفاء سببه، ويتوضَّح ذلك في مثال وهو «ما تأتينا فتحدِّثنا» بنصب «فتحدِّثَنا» وهو يحتمل معنيين، أحدُهما: انتفاءُ الإِتيان وانتفاء الحديث، كأنه قيل: ما يكون منك إتيانٌ فكيف يقع منك حديث؟ وهذا المعنى هو مقصود الآية الكريمة أي: ما يكون مؤاخذةٌ كلِ واحدٍ بحساب صاحبه فيكف يقع طرد؟ والمعنى الثاني: انتفاء الحديث وثبوت الإِتيان كأنه قيل: ما تأتينا مُحَدِّثاً بل تأتينا غيرَ محدِّث. وهذا المعنى لا يليق بالآية الكريمة، والعلماء - رحمهم الله - وإن أطلقوا قولهم إنه منصوبٌ على جواب النفي، فإنما يريدون المعنى الأول دون الثاني: والثاني: أن يكون منصوباً على جواب النهي.
645
وأما قوله «فتكونَ» ففي نصبه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب عطفاً على «فتطردَهم» والمعنى: الإِخبار بانتفاء حسابهم، والطرد والظلم المسبب عن الطرد. قال الزمخشري: «ويجوز أن تكون عطفاً على» فتطردَهم «على وجه السبب، لأنَّ كونَه ظالماً مُسَبِّبٌ عن طردهم».
والثاني من وجهي النصب: أنه منصوب على جواب النهي في قوله: «ولا تَطْرد» ولم يذكر مكي ولا الواحدي ولا أبو البقاء غيره. قال الشيخ: «وجوَّزوا أن يكون» فتكونَ «جواباً للنهي في قوله» لا تَطْرِدِ «كقوله: ﴿لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ﴾ [طه: ٦١]، وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه» قلت: قد تقدَّم أن كونَهما اعتراضاً لا يتوقف على عَوْد الضميرين في قوله «مِنْ حسابهم» و «عليهم» على المشركين كما هو المفهوم من قوله ههنا، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حَكَيْتُه عنه يُشْعر بذلك.
قوله تعالى: ﴿وكذلك فَتَنَّا﴾ : الكاف في محصل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير: ومثل ذلك الفُتُون المتقدِّم الذي فُهم من سِياق أخبار الأمم الماضية فَتَنَّا بعضَ هذه الأمةِ ببعض، فالإِشارةُ بذلك إلى الفتون المدلول عليه بقوله: ﴿فَتَنَّا﴾ ولذلك قال الزمخشري: «ومِثْل ذلك الفَتْن العظيم فُتِن بعض الناس ببعض» فجعلَ الإِشارة لمصدر «فتنَّا»،
646
وانظر كيف لم يتلفظ هو بإسناد الفتنة إلى الله تعالى في كلامه، وإن كان الباري تعالى قد أَسْندها، بل قال: «فُتِن بعضُ الناس» فبناه للمفعول على قاعدة المعتزلة.
وجعل ابنُ عطية الإِشارةَ إلى طلب الطرد فإنه قال بعد كلام يتعلق بالتفسير: «والإِشارة بذلك إلا ما ذُكِرَ مِنْ طلبهم أنْ يطرد الضعفة». قال الشيخ: «ولا ينتظم هذا التشبيه، إذ يصير التقدير: مثل طلب الطرف فتنَّا بعضهم [ببعض]، والمتبادر إلى الذهن من قولك:» ضربْتُ مثل ذلك «المماثلةُ في الضرب، أي: مثل ذلك الضرب لا أن تقع المماثلة في غير الضرب، وقد تقدم غير مرة أن سيبويه يجعل مثل ذلك حالاً من ضمير المصدر المقدر.
قوله: ﴿ليقولوا﴾ في هذه اللام وجهان، أظهرهما: - وعليه أكثر المعربين والمفسِّرين - أنها لام كي، والتقدير: ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه المقالة ابتلاءً منا وامتحانا. والثاني: أنها لام الصيرورة أي العاقبة كقوله:
١٩٣ - ٢- لِدُوا للموتِ وابنُوا للخراب
.....................
﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً﴾ [القصص: ٨] ويكونُ قولهم» أهؤلاء «إلى آخره، صادراً على سبيل الاستخفاف.
647
قوله: ﴿أهؤلاء﴾ يجوز في وجهان، أظهرهما: أنه منصوب المحل على الاشتغال بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّره الفعل الظاهر، العامل في ضميره بوساطة» على «، ويكون المفسِّر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، والتقدير: أفَضَّلَ الله هؤلاء منَّ عليهم، أو اختار هؤلاء مَنَّ عليهم، ولا محلَّ لقوله: ﴿مَنَّ الله عَلَيْهِم﴾ لكونها مفسرة، وإنما رجَّح هنا إضمار الفعل لأنه وقع بعد أداةٍ يغلب إيلاءُ الفعلِ لها. والثاني: أنَّه مرفوع لامحل على أنه مبتدأ والخبر: مَنَّ الله عليهم، وهذا وإن كان سالماً من الإِضمار الموجود في الوجه الذي قبله، إلا أنه مرجوحٌ لما تقدم، و» عليهم «متعلِّقٌ ب» مَنَّ «.
و ﴿مِّن بَيْنِنَآ﴾ يجوز أن يتعلَّق به أيضاً، قال أبو البقاء:» أي: ميَّزهم علينا، ويجوز أن يكون حالاً «قال أبو البقاء أيضاً:» أي: مَنَّ عليهم منفردين، وهذان التفسيران تفسيرا معنى لا تفسيرا إعراب، إلا أنه لم يَسُقْهما إلا تفسيرَيْ إعراب، والجملة من قوله: ﴿أهؤلاء مَنَّ الله﴾ في محلِّ نصب بالقول.
وقوله: ﴿بِأَعْلَمَ بالشاكرين﴾ الفرق بين التاءين أو الأولى لا تعلُّق لها لكونها زائدةً في خبر ليس، والثانية متعلقة بأعلم، وتَعدِّي العِلْم بها لِما ضُمِّن من معنى الإِحاطة، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارة العلماء فيقولون: عَلِم بكذا، والعِلْم بكذا، لما تقدم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَآءَكَ﴾ :«إذا» منصوب بجوابه أي: فقلْ: سَلامٌ عليكم وقتَ مجيئهم أي: أوقع هذا القول كلَّه في وقت مجيئهم إليك، وهذا معنى واضح. وقال أبو البقاء: «العامل في» إذا «معنى الجواب
648
أي: إذا جاؤوك سلِّمْ عليهم» ولا حاجةَ تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى، لأن كونه يبلَّغهم السلام والإِخبارَ بأنه كتب على نفسه الرحمة، وأنه من عَمِل سوءاً بجهالة غفر له، لا يقوم مقامَه السَّلامُ فقط، وتقديره يُفْضي إلى ذلك.
وقوله: ﴿سَلاَمٌ﴾ مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كان نكرةً لأنه دعاءٌ، والدعاء من المسوِّغات. وقال أبو البقاء: «لما فيه من معنى الفعل» وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين إنما هو شيء نُقل عن الأخفش: أنه إذا كانت النكرة في معنى الفعل جاز الابتداء بها ورَفْعُها الفاعل وذلك نحو: قائمٌ أبواك، ونَقَل ابن مالك أن سيبويه أومأ إلى جوازه، واستدل الأخفش بقوله:
١٩٣ - ٣- خبيرٌ بنو لِهْبٍ فلاتك مُلْغِياً
مقالةَ لِهْبِيِّ إذا الطيرُ مَرَّتِ
ولا دليلَ فيه؛ لأنَّ فَعيلاً يقع بلفظ واحد للمفرد وغيره، ف «خبير» خبرٌ مقدَّمٌ، واستدلَّ له أيضاً بقول الآخر:
١٩٣ - ٤- فخيرٌ نحنُ عند الناسِ منكمْ
إذا الداعي المثوِّبُ قال يالا
فخير مبتدأ، و «نحن» فاعل سدَّ مَسَدَّ الخبر،
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون «خير» خبراً مقدماً، «ونحن» مبتدأ
649
مؤخر؟ قيل: لئلا يلزم الفصلُ بين أفعل و «مِنْ» بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً، فإن الفاعلَ كالخبر بخلاف المبتدأ، وهذا القدرُ في هذا الموضع كافٍ والمسألةُ قد قرَّرتُها في غير هذا الموضوع، و «عليكم» خبرُه، و «سلام عليكم» أبلغُ من «سلاماً عليكم». بالنصب، وقد تقرَّر هذا في أول الفاتحة عند قراءة «الحمدُ» و «الحمدَ».
وقوله: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ﴾ في محل نصب بالقول لأنه كالتفسير لقوله ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾.
قوله ﴿أنَّه، فأنَّه﴾ قرأ ابن عامر وعاصم بالفتح فيهما، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالكسر فيهما، ونافع بفتح الأولى وكسر الثاينة، وهذه القاراءتُ الثلاثُ في المتواتر، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكسَ قراءة نافع، هذه رواية الزهراوي عنه وكذا الداني. وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافع، فيحتمل أن يكون عن روايتان. فأمَّا القراءة الأولى فَفَتْحُ الأولى فيها مِنْ أربعة أوجه، أحدها: أنها بدل من الرحمة بدل شيء من شيء والتقدير: كتب على نفسه أنه من عمل إلى آخره، فإنَّ نفس هذه الجملِ المتضمنةِ للإِخبار بذلك رحمة. والثاني: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ، والخبر محذوف أي: عليه أنه من عمل إلى آخره.
والثالث: أنها فتحت على تقدير حذف حرف الجر، والتقدير: لأنه مَنْ عمل، فلما حُذِفت اللامُ جرى في محلها الخلاف المشهور. الرابع: أنها مفول ب «كتب» و «الرحمة» مفعول من أجله، أي: كتب أنه مَنْ عَمِل لأجل رحمته إياكم. قال الشيخ: «
650
وينبغي أن لا يجوز لأن فيه تهيئة العامل للعمل وقَطْعَه منه».
وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه، أحدها: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ والخبر محذوف أي: فغفرانُه ورحمتُه حاصلان أو كائنان، أو فعليه غفرانه ورحمته. وقد أجمع القرَّاء على فتح ما بعد فاء الجزاء في قوله: ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ [التوبة: ٦٣] ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّه﴾ [الحج: ٤] كما أجمعوا على كسرها في قوله: ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ [الجن: ٢٣] الثاني: أنها في محل رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: فأمرُه أو شأنه أنه غفور رحيم. الثالث: أنها تكريرٌ للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلام وعُطِفت عليها بالفاء، وهذا منقولٌ عن أبي جعفر النحاس. وهذا وهمٌ فاحش لأنه يلزم منه أحد محذورين: إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خير أو شرط بلا جواب، وبيان ذلك أن «مِنْ» في قوله: ﴿أَنَّهُ مَن عَمِلَ﴾ لا تخلو: إمَّا أن تكون موصولةً أو شرطية، وعلى كلا التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء، فلو جعلنا «أن» الثانية، معطوفة على الأولى لزم عدم خبر المبتدأ وجواب الشرط، وهو لا يجوز.
قد ذكر هذا الاعتراضَ وأجاب عنه الشيخ شهاب الدين أو شامة فقال: «ومنهم مَنْ جعل الثانيةَ تكريراً للأولى لأجل طول الكلام على حد قوله: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٥] ودخلت الفاء في»
651
فأنه غفورٌ «على حَدِّ دخولها في ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ﴾ [آل عمران: ١٨٨] على قول مَنْ جعله تكريراً لقولَه: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ﴾ [آل عمران: ١٨٨] إلا أن هذا ليس مثلَ» أيعدكم أنَّكم «؛ لأنَّ هذه لا شرطَ فيها وهذه فيها شرط، فيبقى بغير جواب. فقيل: الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره: غفر لهم» انتهى. وفيه بُعْدٌ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاء، وكان ينبغي أن يجيب به هنا لكنه لم يفعلْ، ولم يظهرْ فرقٌ في ذلك.
الرابع: أنها بدل من «أنَّ» الأولى، وهو قول الفراء والزجاج وهذا مردودٌ بشيئين، أحدهما: أنَّ البدلَ لا يَدْخُل فيه حرفُ عطف، وهذا مقترنٌ بحرفِ العطف، فامتنع أن يكون بدلاً. فإن قيل: نجعل الفاء زائدةً. فالجواب أن زيادتها غيرُ جائزة، وهي شيء قال به الأخفش، وعلى تقدير التسليم فلا يجوز ذلك من وجهٍ آخر: وهو خلوٌّ المبتدأ أو الشرط عن خبر أو جواب.
والثاني من الشيئين: خلوُّ المبتدأ أو الشرط عن الخبر أو الجواب، كما تقدَّم تقريره: فإن قيل: نجعل الجوابَ محذوفاً - كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي شامة - قيل: هذا بعيدٌ عن الفَهْم.
الخامس: أنها مرفوعةٌ بالفاعلية، تقديره: فاستقرَّ له أنه غفورٌ أي: استقرَّ له وثَبَتَ غُفرانه، ويجوز أن نُقَدِّر في هذا الوجه جارَّاً رافعاً لهذا الفاعلِ عند الأخفش تقديره: فعليه أنه غفور، لأنه يُرْفَعُ به وإن لم يَعْتمد، وقد تقدَّم تحقيقهُ غيرَ مرَّة.
652
وأما القراءة الثانية: فكسْرُ الأولى من ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفة وأن الكلام تام قبلها، وجيء بها وبما بعدها كالتفسير لقوله: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة﴾ والثاني: أنها كُسِرَتْ بعد قولٍ مقدَّر أي: قال الله ذلك، وهذا في المعنى كالذي قبله. والثالث: أنه أجرى «كتب» مُجْرى «قال» فكُسِرَتْ بعده كما تُكْسرُ بعد القول الصريح، وهذا لا يتمشَّى على أصول البصريين. وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين، أحدهما: أنها على الاستئناف، بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبراً ل «مَنْ» الموصولة، أو جواباً لها إن كانت شرطاً. والثاني: أنها عطفٌ على الأولى وتكرير لها، ويُعْترض على هذا بأنه يلزم بقاءُ المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جزاء، كما تقدَّم ذلك في المفتوحتين.
وأجاب أبو البقاء هنا عن ذلك بأن خبر «مَنْ» محذوفٌ دلَّ عليه الكلام، وقد قدَّمْتُ لك أنه كان ينبغي أن يُجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى أو بدلاً منها، ثم قال: «ويجوزُ أن يكونَ العائدُ محذوفاً أي: فإنه غفورٌ له» قلت: قوله «ويجوز» ليس بجيدٍ، بل كان ينبغي أن يقول ويجب، لأنه لا بد من ضمير عائد على المبتدأ من الجملة الخبرية، أو ما يقوم مقامه إن لم يكنْ نفسَ المبتدأ.
وأمَّا القراءةُ الثالثة: فيؤخذُ فتحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم مِنْ كسرِها وفتحها بما يليق من ذلك، وهو ظاهر.
وأمَّا القراءة الرابعة فكذلك وقال أبو شامة: «وأجاز الزجاجُ كَسْرَ
653
الأولى وفَتْحَ الثانية وإن لم يُقرأ به» قلت: قد قدَّمْتُ أن هذه قراءةُ الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الداني نقلاها، عنه فكأن الشيخ لم يَطِّلِعْ عليها وقَدَّمْتُ لك أيضاً أنَّ سيبويه لم يَرْوِ عن الأعرج إلا كقراءة نافع، فهذا ممَّا يصلح أن يكون عذراً للزجاج، وأما أبو شامة فإنه متأخر، فعدمُ اطِّلاعِه عجيب.
والهاء في «أنَّه» ضمير الأمر والقصة. و «مَنْ» يجوز أن تكون شرطيةً وأن تكون موصولة، وعلى كل تقدير فهي مبتدأَةٌ، والفاءُ وما بعدها في محل جزم جواباً إن كانت شرطاً، وإلاَّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصولة، والعائد محذوف أي: غفول له.
والهاء في «بعده» يجوز أن تعود على «السوء» وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: ٨]، والأولى أولى لأنه أصرح، و «منكم» متعلِّقٌ بمحذوف إذ هو حالٌ من فاعل «عمل»، ويجوز أن تكون «مِنْ» للبيان فيعمل فيها «أعني» مقدراً.
وقوله ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه يتعلَّق ب «عمل» على أن الباءَ للسببيةِ أي: عملُه بسبب الجهل. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضح. والثاني - وهو الظاهر - أنها للحال أي: عملُه مصاحباً للجهالة. «ومِنْ» في «مِنْ بعده» لابتداء الغاية.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ﴾ : الكاف أمرُها واضحٌ من كونها نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه، والإِشارة ب «ذلك» إلى التفصيل السابق، تقديره: مثل ذلك
654
التفصيل البيِّنِ، وهو ما سَبَقَ من أحوال الأمم نفصِّل آيات القرآن. وقال ابن عطية: «والإِشارة بقوله» وكذلك «إلى ما تقدَّم، من النَّهْي عن طَرْد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك، وتفصيل الآ يات تبيينُها وشَرْحُها». وهذا شبيهٌ بما تقدم له في قوله: ﴿وكذلك فَتَنَّا﴾ [الأنعام: ٥٣] وتقدَّم أنه غير ظاهر.
قوله: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ﴾ قرأ الأخوان وأبو بكر: «وليستبين» بالياء من تحت، «سبيلُ» بالرفع ونافع: «ولتستبين» بالتاء من فوق، «سبيلَ» بالنصب، والباقون: بالتاء من فوق، «سبيل» بالرفع. وهذه القراءات دائرة على تذكير «السبيل» وتأنيثه وتَعَدَّي «استبان» ولُزِومه. وإيضاح هذا أن لغة نجد وتميم تذكير «السبيل» وعليه قوله تعالى: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ [الأعراف: ١٤٦]، لغةُ الحجاز التأنيث، وعليه: ﴿قُلْ هذه سبيلي﴾ [يوسف: ١٠٨] وقوله:
١٩٣ - ٥- خَلِّ السبيل لمَنْ يبني المنار بها
..................
وأمَّا «استبانَ» فيكونُ متعدِّياً نحو: استَبَنْتُ الشيءَ «ويكون لازماً نحو:» استبان الصبح «بمعنى بأن، فَمَنْ قرأ بالياء من تحت ورَفَع فإنه أسند الفعل إلى» السبيل «فرفْعُه على أنه مذكَّرٌ وعلى أن الفعل لازم، ومن قرأ بالتاء من فوق فكذلك ولكن على لغة التأنيث. ومن قرأ بالتاء من فوق ونصب» السبيلَ «فإنه أسند الفعلَ إلى المخاطب ونصب» السبيل «على المفعولية وذلك على
655
تعدية الفعل أي: ولتستبين أنت سبيل المجرمين، فالتاء في» لتستبينَ «مختلفةُ المعنى، فإنها في إحدى القراءتين للخطاب وفي الأخرى للتأنيث، وهي في كلا الحالين للمضارعة، و» تستبين «منصوب بإضمار» أن «بعد لام كي، وفيما تتعلَّق به هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها معطوفة على علة محذوفة، وتلك العلة معمولةٌ لقوله: ﴿نفَصِّلُ﴾ والمعنى: وكذلك نفصل الآيات لتستبين لكم ولتستبين.
والثاني: أنها متعلقة بمحذوف مقدر بعدها أي: ولتستبين سبيل المجرمين فصَّلناها ذلك التفصيل. وفي الكلام حذفُ معطوف على رأيٍ، أي: وسبيل المؤمنين، كقوله تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١]. وقيل: لا يُحتاج إلى ذلك، لأن المقام إنما يقتضي ذِكْرَ المجرمين فقط، إذ هم الذين أثاروا ما تقدَّم ذِكْره.
قوله تعالى: ﴿أَنْ أَعْبُدَ﴾ : في محل «أَنْ» الخلاف المشهور، إذ هي على حَذْفِ حرف تقديره: نُهِيْتُ عن أن أعبدَ. وقوله: ﴿قَدْ ضَلَلْتُ﴾«إذن» حرف جواب وجزاء لا عمل لها هنا لعدم فعلٍ تعمل فيه، والمعنى: «إن اتَّبَعْتُ أهواءَكم ضَللْت وما اهتدَيْت» فهي في قوة شرط وجزاء.
والجمهور: ﴿ضَلَلْتَ﴾ بفتح اللام الأولى. وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى وطلحة بكسرها، وقد تقدَّم أنها لغة. ونقل صاحب التحرير [عن يحيى وابن أبي ليلى أنها قرآ] هنا وفي ألم السجدة: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا﴾ بصاد غير
656
معجمة. يقال: صَلَّ اللحمُ أي: أنتن، وهذا له بعض مناسبة في آية السجدة، وأما هنا فمعناه بعيدٌ أو ممتنعٌ. وروى العباس عن ابن مجاهد في «الشواذ» له: «صُلِلْنا في الأرض» أي دُفِنَّا في الصَّلَّة وهي الأرضُ الصُلْبة. وقوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين﴾ تأكيد لقوله: ﴿قَدْ ضَلَلْتُ﴾ وأتى بالأولى جملةً فعلية ليدلَّ على تجدد الفعل وحُدوثهِ، وبالثانية اسميةً ليدلَّ على الثبوت.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَّبْتُم بِهِ﴾ : في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سيقت للإِخبار بذلك. والثاني: أنها في محصل نصب على الحال، وحينئذ هل يُحتاج إلى إضمار «قد» أم لا؟ والهاء في «به» يجوز أن تعود على «ربي» وهو الظاهر. وقيل: على القرآن لأنه كالمذكور. وقيل على «بَيِّنَة» لأنها في معنى البيان. وقيل: لأن التاء فيها للمبالغة، والمعنى: على أمرٍ بَيِّنٍ من ربي، و «من ربي» في محل جر صفة ل «بينة»
قوله: ﴿يَقُصُّ الحق﴾ قرأ نافع وابن كثير وعاصم: «يقص» بصاد مهملة مشددة مرفوعة، وهي قراءة ابن عباس، والباقون بضاد معجمة مخففة مكسورة، وهاتان في المتواتر. وقرأ عبد الله وأُبَيّ ويحيى بن وثاب والنخعي والأعمش وطلحة: «يقضي بالحق» من القضاء. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد: «يقضي بالحق وهو خير القاضين» فأمَّا قراءة «يقضي» فمِن القضاء. ويؤيده قوله: «وهو خير الفاصلين» فإنَّ الفصل يناسب القضاء، ولم يُرْسَم إلا بضاد، كأن الباء حُذِفَتْ خَطَّاً كما حذفت لفظاً لالتقاء الساكنين، كما حذفت من نحو: ﴿فَمَا تُغْنِ النذر﴾ [القمر: ٥]، وكما حُذِفَتْ الواو في {سَنَدْعُ
657
الزبانية} [العلق: ١٨] ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ [الشورى: ٢٤] لما تقدم.
وأمَّا نصب «الحق» بعده ففيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي: يقضي القضاء الحق. والثاني: أنه ضمَّن «يقضي» معنى يُنْفِذ، فلذلك عدَّاه إلى المفعول به، الثالث: أن «قضى» بمعنى صنع فيتعدَّى بنفسه من غير تضمين، ويدل على ذلك قوله:
١٩٣ - ٦- وعليهما مَسْرُودتان قضاهُما
داودُ....................
أي: صَنَعَهما. الرابع: أنه على إسقاط حرف الجر أي: يقضي بالحق، فلما حذف انتصب مجروره على حَدِّ قوله:
١٩٣ - ٧- تمرُّون الدِّيار فلم تَعْوجوا
.................
ويؤيد ذلك: القراءةُ بهذا الأصل.
وأما قراءة «يَقُصُّ» فمِنْ «قَصَّ الحديث» أو مِنْ «قصَّ الأثر» أي: تَتَبَّعه. وقال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص﴾ [يوسف: ٣]. ورجحَّ أبو عمرو بن العلاء القراءة الأولى بقوله: «الفاصلين»، وحُكي عنه أنَّه قال: «أهو يَقُصُّ الحقَّ أو يقضي الحقَّ أو يقضي الحق» فقالوا: «يقصُّ» فقال: «لو كان» يقص «لقال:» وهو خير القاصِّين «اقرأ أحدٌ بهذا؟ وحيث قال: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين﴾ فالفصل إنما يكون في القضاء» وكأن أبا عمرو لم يَبْلُغْه «وهو خير القاصِّين»
658
قراءةً. وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره ابن العلاء فقال: «القصصُ هنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول أيضاً قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ [طارق: ١٣] وقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ [هود: ١]. وقال تعالى: ﴿وَنُفَصِّلُ الآيات﴾ [التوبة: ١١] فقد حمل الفَصْل على القول، واستُعمل معه كما جاء مع القضاء فلا يلزم» من الفاصلين «أن يكون مُعَيِّناً ليقضي.
وقوله تعالى: ﴿والله أَعْلَمُ بالظالمين﴾ : من باب إقامة الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على استحقاقهم ذلك بصفةِ الظلم، إذا لو جاء على الأصل لقال: «والله أعملُ بكم».
قوله تعالى: ﴿مَفَاتِحُ﴾ : فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه جمعُ مِفْتح بكسر الميم والقصر، وهو الآلة التي يُفتح بها نحو: مُنْخُل ومَنَاخل. والثاني: أنه جمع مَفْتَح بفتح الميم، وهو المكان، ويؤيده تفسير ابن عباس هي خزائن المطر. والثالث: أنه جمع مِفتاح بكسر الميم والألف، وهو الآلة أيضاً، إلا أنَّ هذا فيه ضعفٌ من حيث إنه كان ينبغي أن تُقلب ألف المفرد ياء فيقال: مفاتيح كدنانير، ولكنه قد نُقِل في جمع مصباح مصابح، وفي جمع مِحْراب مَحارِب، وفي جمع قُرْقُرر قراقِر، وهذا كما أتوا بالياء في جمع ما لا مَدَّةَ في مفرده كقولهم: دراهيم وصياريف في جمع دِرْهَم وصَيْرَف، قال:
١٩٣ - ٨- تَنْفي يداها الحصى في كل هاجِرَةٍ
نَفْيَ الدارهيمِ تَنْقادُ الصَّياريفِ
659
وقالوا: عيِّل وعَياييل. قال:
١٩٣ - ٩- فيها عياييلُ أُسودٌ ونُمُرْ... الأصل: عيايل ونمور، فزاد في ذلك ونَقَّصَ مِنْ هذا.
وقد قُرِئ «مفاتيح» بالياء وهي تؤيد أنَّ مفاتح جمع مفتاح، وإنما حُذِفَتْ مدَّتْه. وجَوَّز الواحدي أن يكون مفاتح جمع مَفْتَح بفتح الميم على أنه مصدر، قال بعد كلام حكاه عن أبي إسحاق: «فعلى هذا مفاتح جمع المَفْتح بمعنى الفتح»، كأن المعنى: «وعنده فتوح الغيب» أي: هو يفتح الغيب على مَنْ يشاء من عباده. وقال أبو البقاء: «مفاتح جمع مَفْتَح، والمَفْتَحُ الخزانة، فأمَّا ما يُفتح به فهو المفتاحُ، وجمعه مفاتيح وقد قيل مَفْتح أيضاً» انتهى. يريد جمع مَفتح أي بفتح الميم. وقوله: «وقد قيل: مَفْتَح يعني أنها لغة قليلة في الآلة والكثير فيها المدُّ، وكان ينبغي أن يوضِّح عبارته فإنها موهمة ولذلك شرحتها.
قوله: ﴿لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ في محل نصب على الحال من» مفاتح «، والعامل فيها الاستقرار الذي تضمَّنه حرف الجر لوقوعه خبراً. وقال أبو البقاء:» نفسُ الظرف إنْ رَفَعْتَ به مفاتح «أي: إنْ رفعته به فاعلاً، وذلك على رأي الأخفش، وتضمُّنه للاستقرار لا بد منه على كل قول، فلا فرق بين أن ترفعَ به الفاعل أو تجعله خبراً.
660
قوله: ﴿مِن وَرَقَةٍ﴾ فاعل» تَسْقُط «و» مِنْ «زائدة لاستغراق الجنس، وقوله: ﴿إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾ حالٌ من» ورقة «وجاءت الحال من النكرة لاعتمادِها على النفي، والتقدير: ما تسقط من ورقة إلا عالماً هو بها كقولك:» ما أكرمْتُ أحداً إلا صالحاً «ويجوز عندي أن تكونَ الجملة نعتاً ل» ورقة «وإذا كانوا أجازوا في قوله ﴿إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] أن تكون نعتاً لقرية في قوله: ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة الواو، فأَنْ يجيزوا ذلك هنا أولى، وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جر على اللفظ أو رفع على المَحَلَّ.
قوله: ﴿وَلاَ حَبَّةٍ﴾ عطفٌ على لفظ «ورقةٍ» ولو قُرِئ بالرفع لكان على الموضع. و «في ظلمات» صفة لحبة. وقوله: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ﴾ معطوفان أيضاً على لفظ «ورقة» وقرأهما ابن السميفع والحسن وابن أبي إسحاق بالرفع على المحل، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن يكونا مبتدأين، والخبر قوله ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ ونقل الزمخشري أن الرفع في الثلاثة أعني قوله: «ولا حبةٍ ولا رطبٍ ولا يابسٍ» وذكر وجهي الرفع المتقدِّمين، ونظَّر الوجه الثاني بقولك: «لا رجلٌ منهم ولا امرأة إلا في الدار».
قوله: ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ في هذا الاستثناء غموض، فقال الزمخشري: «وقوله: ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ كالتكرير لقوله: ﴿إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾ لأن معنى» إلاَّ يعلمها «ومعنى» إلا في كتاب مبين «واحد، والكتاب علم الله
661
أو اللوح» وأبرزه الشيخ في عبارة قريبة من هذه فقال: «وهذا الاستثناء جارٍ مجرى التوكيد لأن قوله:» ولا حبةٍ ولا رطب ولا يابس «معطوف على» مِنْ ورقة «والاستثناءُ الأولُ منسحبٌ عليها كما تقول:» ماجاءني من رجلٍ إلا أكرمته ولا أمرأةٍ «فالمعنى: إلا أكرمتها، ولكنه لَمَّا طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد، وحَسَّنه كونُه فاصلة» انتهى. وجعل صاحب «النظم» الكلامَ تاماً عند قوله: ﴿ولا يابس﴾ ثم استأنف خبراً آخر بقوله ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ بمعنى: وهو في كتاب مبين أيضاً. قال: «لأنك لو جَعَلْتَ قوله ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ متصلاً بالكلام الأول لفسَدَ المعنى، وبيان فساده في فصل طويل ذكرناه في سورة يونس في قوله:» ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين «انتهى. قلت: إنما كان فاسدَ المعنى من حيث اعتقد أنه استثناءٌ آخرُ مستقلٌّ، وسيأتي كيف فسادُه، أمَّا لو جعله استثناء مؤكداً للأول كما قاله أبو القاسم لم يفسد المعنى، وكيف يُتَصَوَّرُ تمام الكلام على قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَابِسٍ﴾ ويُبْتَدَأ ب» إلا «وكيف تقع» إلا «هكذا؟
وقد نحا أبو البقاء لشيءٍ مِمَّا قاله الجرجاني فقال:» إلا في كتاب مبين «أي: إلا هو في كتاب مبين، ولا يجوز أن يكون استثناء يعمل فيه» يَعْلمها «؛ لأنَّ المعنى يصير: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلا في كتاب، فينقلب معناه إلى الإِثبات أي: لا يعلمها في كتاب، وإذا لم يكن إلا في كتاب وجب أن يعلمها في الكتاب، فإذن يكون الاستثاءُ الثاني بدلاً من الأول أي: وما تسقط من ورقة إلا هي في كتاب وما يَعْلَمُها» انتهى. وجوابه ما تقدم من
662
جَعْلِ الاستثناء تأكيداً، وسيأتي هذا مقرَّراً إن شاء الله في سورة يونس لأنَّ له بحثاً يخصُّه.
قوله تعالى: ﴿بالليل﴾ : متعلق بما قبله على أنه ظرف له، والباء تأتي بمعنى «في، وقد قدَّمْتُ منه جملةً صالحة. وقال أبو البقاء هنا:» وجاز ذلك لأنَّ الباء للإِلصاق، والملاصِقُ للزمان والمكان حاصل فيهما «يعني فهذه العلاقَةُ المجوِّزةُ للتجوُّز، وعلى هذا فلا حاجة إلى أن ينوبَ حرفٌ مكان آخر، بل نقول: هي هنا للإِلصاق مجازاً نحو ما قالوه في» مررت بزيد «وأسند التوفِّيَ هنا إلى ذاته المقدسة لأنه لا يُنْفَرُ منه هنا، إذ المرادُ به الدَّعة والراحة، وأسنده إلى غيره في قوله تعالى: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١] ﴿يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت﴾ [السجدة: ١١] لأنه يُنْفَرُ منه، إذ المرادُ به الموت.
وقوله: ﴿مَا جَرَحْتُم﴾ الظاهر أنها مصدريةٌ، وإن كان كونُها موصولةً اسميةً أكثرَ، ويجوز أن تكونَ نكرةً موصوفةً بما بعدها، والعائد على كلا التقديرين الآخرين محذوف، وكذا عند الأخفش وابن السراج على القول الأول. و» بالنهار «كقوله: ﴿بالليل﴾ والضمير في» فيه «عائد على النهار. هذا هو الظاهر قال الشيخ:» عاد عليه لفظاً «والمعنى: في يوم آخر، كما تقول: عندي درهم ونصفه» قلت: ولا حاجةَ في الظاهر إلى عوده على نظير المذكور، إذ عَوْدُه على المذكور لا محذورَ فيه، وأمَّا من نحو: «درهم ونصفه» فلضرورة انتفاء العيِّ من الكلام، قالوا: لأنك إذا قلت: «عندي درهم» عُلِمَ أن عندك نصفَه ضرورةً، فقولك بعد ذلك: «ونصفه» تضطر إلى
663
عَوْدِه إلى نظير ما عندك بخلاف ما نحن فيه. وقيل: يعود على الليل. وقيل: يعود على التوفِّي وهو النوم أي: يُوقظكم في خلال النوم. وقال الزمخشري: «ثم يَبْعثكم مِن القبور في شأن الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكَسْبِ الآثام بالنهار» انتهى. وهو حسن.
وخصَّ الليل بالتوفي والنهار بالكسب وإن كان قد يُنام في هذا، ويُكسَبُ في الآخر اعتباراً بالحال الأغلب. وقَدَّم التوفِّيَ بالليل لأنه أبلغ في المِنَّة عليهم، ولا سيما عند مَنْ يَخُصُّ الجَرْحَ بكَسْب الشر دون الخير.
قوله: ﴿ليقضى أَجَلٌ﴾ الجمهور على «لِيُقْضَى» مبنياً للمفعول و «أجلٌ» رفع به، وفي الفاعل المحذوف احتمالان، أحدهما: أنه ضمير الباري تعالى. والثاني: أنه ضمير المخاطبين، أي: لتقضوا أي: لتستوفوا آجالكم. وقرأ أبو رجاء وطلحة: «ليقضي» مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، «أجلاً» مفعول به، و «مُسَمَّى» صفة، فهو مرفوع على الأول ومنصوب على الثاني، ويترتب على ذلك خلافٌ للقراء في إمالة ألفهِ قد أوضحته في «شرح القصيد» واللام في «لِيُقْضَى» متعلقةٌ بما قبلها من مجموعِ الفعلين أي: يتوفَّاكم ثم يبعثكم لأجل ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَيُرْسِلُ﴾ : فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه عطفٌ على اسم الفاعل الواقع صلة لأل، لأنه في معنى يفعل، والتقدير: وهو الذي يقهر عباده ويرسل، فعطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله، ومثلُه عند بعضهم: ﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ﴾ [الحديد: ١٨] قالوا: فأقرضوا عطف على «مصدقين» الواقعِ صلةً لأل، لأنه في معنى: إنَّ الذين صدَّقوا وأقرضوا،
664
وهذا ليس بشيء، لأنه يلزم من ذلك الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبيّ وذلك أن «وأقرضوا» من تمام صلة أل في «المصِّدِّقين» وقد عطف على الموصول قوله «المصدقات» وهو أجنبي، وقد تقرر غيرَ مرة أنه لا يُتْبَعُ الموصول إلا بعد تمام صلته. وأمَّا قوله تعالى: ﴿فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩] فيقبضن في تأويل اسم أي: وقابضات. ومن عطف الاسم على الفعل لكونه في تأويل الاسم قولُه تعالى: ﴿يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت﴾ [الأنعام: ٩٥] وقوله:
١٩٤ - ٠- فأَلْفَيْتُه يوماً يُبيرُ عدوَّهُ
ومُجْرٍ عطاءً يستخفُّ المعابرا
والثاني: أنها جملة فعلية عُطِفَتْ على جملة اسمية وهي قوله: ﴿وَهُوَ القاهر﴾ والثالث: أنها معطوفة على الصلة وما عُطِف عليها وهو قوله: يتوفَّاكم ويعلم، وما بعده، أي: وهو الذي يتوفَّاكم ويرسل. الرابع: أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة في محل نصب على الحال. وفي صاحبها وجهان، أظهرهما: أنه الضميرُ المستكنُّ في «القاهر» والثاني: أنها حال من الضمير المستكنِّ في الظرف، كذا قال أبو البقاء، ونقله عن الشيخ وقال: «وهذا الوجهُ أضعفُ الأعاريب» وقولهما «الضمير الذي في الظرف» ليس هنا ظرفٌ يُتَوهَّم كونُ هذه الحالِ من ضميرٍ فيه إلا قولَه «فوق عباده» ولكن بأي طريق يَتَحَمَّل هذا الظرفُ ضميراً؟
والجواب أنه قد تقدم في الاية المشبهة لهذه أن «فوق عباده» فيه خمسة أوجه، ثلاثة منها تَتَحَمَّلُ فيها ضميراً وهي: كونه خبراً ثانياً أو بدلاً من
665
الخبر أو حالاً، وإنما اضطررنا إلى تقدير مبتدأ قبل «يُرْسِلُ» لأن المضارعَ المثبتَ إذا وقع حالاً لم يقترنْ بالواو، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا غيرَ مرة. والخامس: أنها مستأنفةٌ سِيقت للإِخبار بذلك، وهذا الوجهُ هو في المعنى كالثاني.
وقوله: ﴿عَلَيْكُم﴾ يحتمل ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه متعلق بيرسل، ومنه: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا﴾ [الرحمن: ٣٥] ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ﴾ [الأعراف: ١٣٣] ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً﴾ [الفيل: ٣] إلى غير ذلك. والثاني: أنه متعلق ب «حَفَظَة». يقال: حَفِظْتُ عليه عمله، فالتقدير: ويُرْسل حَفَظَة عليكم. قال الشيخ: «أي يحفظون عليكم أعمالهم كما قال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ [الانفطار: ١٠] كما تقول: حَفِظْتُ عليك ما تعمل» فقوله: «كما قال: إن عليكم لحافظين» تشبيه من حيث المعنى لا أن «عليكم» تعلق بحافظين؛ لأن «عليكم» هو الخبر ل «إن» فيتعلق بمحذوف.
والثالث: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من «حفظة» إذ لو تأخَّر لجاز أن يكون صفةً لها.
قال أبو البقاء: «عليكم» فيه وجهان أحدهما: هو متعلِّق بيرسل، والثاني: أن يكون في نية التأخير وفيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّقَ بنفس «حَفَظة» والمفعول محذوف أي: يرسل عليكم مَنْ يحفظ أعمالكم. والثاني: أن يكون صفةً ل «حَفَظة» قُدِّمَتْ فصارت حالاً «انتهى. قوله:» المفعول محذوف «يعني مفعول» حفظة «إلا أنه يُوهم أنَّ تقديرَ المفعول خاصٌّ بالوجه الذي ذكره، وليس كذلك بل لا بد من تقديره على كل وجه، و» حَفَظَة «إنما
666
عمل في ذلك المقدَّر لكونه صفةً لمحذوف، تقديره: ويرسل عليكم ملائكة حفظة، لأنه لا يعمل إلا بشروطٍ هذا منها، أعني كونه معتمداً على موصوف.
و» حَفَظَة «جمع حافظ، وهو منقاسٌ في كل وصف على فاعِل صحيح اللام، لعاقل مذكر ك» بارّ «و» بَرَة «و» فاجِر «و» فَجَرة «و» كامل «و» كَمَلة «، ويَقِلُّ في غير العاقل كقولهم: غراب ناعق وغربان نَعَقَه. وتقدَّم مثل قوله:» حتى إذا جاء «
قوله: ﴿تَوَفَّتْهُ﴾ قرأ الجمهور: ﴿توفَّتْه﴾ ماضياً بتاء التأنيث لتأنيث الجمع. وقرأ حمزة: ﴿توفَّاه﴾ من غير تاء تأنيث، وهي تحتمل وجهين أظهرهما: أنه ماضٍ وإنما حَذَفَ تاء التأنيث لوجهين، أحدهما: كونه تأنيثاً مجازياً، والثاني: الفصلُ بين الفعل وفاعله بالمفعول. والثاني: أنه مضارع، وأصله: تتوفاه بتاءين، فحذفت إحداهما على خلاف في ايتهما ك» تَنَزَّلُ «وبابه. وحمزةُ على بابه في إمالة مثل هذه الألف. وقرأ الأعمش: ﴿يتوفَّاه﴾ مضارعاً بياء الغَيْبة، اعتباراً بكونه مؤنثاً مجازياً أو للفصل، فهي كقراءة حمزة في الوجه الأول من حيث تذكيرُ الفعل، وكقراءته في الوجه الثاني من حيث إنه أتى به مضارعاً. وقال أبو البقاء:» وقرئ شاذاً: ﴿تتوفَّاه﴾ على الاستقبال ولم يذكر بياء ولا تاء.
قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾ هذه الجملة تحتمل وجهين، أظهرهما: أنها حال من «رسلنا» والثاني: أنها استئنافية سيقت للإِخبار عنهم بهذه الصفة، والجمهور على التشديد في «يُفْرِّطون» ومعناه لا يُقَصِّرون. وقرأ عمرو بن
667
عبيد والأعرج: «يُفْرِطون» مخففاً من أفرط، وفيها تأويلان أحدهما: أنها بمعنى لا يجاوزون الحدَّ فيما أُمِروا به. قال الزمخشري: «فالتفريط: التواني والتأخير عن الحدِّ، والإِفراط: مجاوزة الحدِّ أي: لا يُنْقصون ممَّا أمروا به ولا يَزيدون» والثاني: أن معناه لا يتقدمون على أمر الله، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ أفرط بمعنى فَرَّط أي تَقَدَّم. وقال الجاحظ قريباً من هذا فإنه قال: «معنى لا يُفْرِطون: لا يَدَعون أحداً يفرُط عنهم أي: يَسْبقهم ويفوتهم» وقال أبو البقاء: «ويُقرأ بالتخفيف أي: لا يزيدون على ما أُمِروا به» وهو قريب مِمَّا تقدم.
قوله تعالى: ﴿مَوْلاَهُمُ الحق﴾ : صفتان لله. وقرأ الحسن والأعمش: «الحقَّ» نصباً، وفيه تاويلان، أظهرهما: أنه نعت مقطوع. والثاني: أنه نعتُ مصدرٍ محذوف أي: رَدُّوا الردَّ الحقَّ لا الباطل. وقرئ: ﴿رِدُّوا﴾ بكسر الراء، وتقدَّم تخريجها مستوفى. والضمير في «مولاهم» فيه ثلاثة أوجه، أظهرهما: أنه للعباد في قوله ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ فقوله: ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم﴾ التفاتٌ، إذا الأصل: ويرسل عليهم وفائدة هذا الالتفات التنبيهُ والإِيقاظ. والثاني: أنه يعود على الملائكة المعنيِّين بقوله: «رسلنا»، يعني أنهم يموتون كما يموت بنو آدم ويُرَدُّون إلى ربهم. والثالث: أنه يعود على «أحد» في قوله: ﴿إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ إذ المراد به الجمع لا الإِفراد.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ﴾ : قرأ السبعة هذه مشددة، ﴿قل الله ينجيكم﴾ : قرأها الكوفيون وهشام بن عمار عن ابن عامر مشددة
668
كالأولى، وقرأ الثِّنتين بالتخفيف من «أنجى» حميدُ بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو، وتحصَّل من ذلك أن الكوفيين وهشاماً يثقِّلون في الموضعين وأن حميداً ومَنْ معه يُخَففون فيهما، وأن نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وأبن ذكوان عن ابن عامر يُثْقِّون الأولى ويُخَفِّفون الثانية، والقراءاتُ واضحة فإنها من نجَّى وأَنْجى، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية، فالكوفيون وهشام التزموا التعدية بالتضعيف، وحميد وجماعته التزموها بالهمزة، والباقون جمعوا بين التعديتين جمعاً بين اللغتين كقوله تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً﴾ [الطارق: ١٧]. والاستفهام للتقرير والتوبيخ، وفي الكلام حذف مضاف أي: مِنْ مَهالِك ظلمات أو من مخاوفها، والظلمات كناية عن الشدائد.
قوله: ﴿تَدْعُونَهُ﴾ في محل نصب على الحال: إمَّا من مفعول «ينجيكم» وهو الظاهر، أي: يُنَجيكم داعين إياه، وإمَّا من فاعله أي: مَدْعُوَّاً مِنْ جتهكم.
قوله: ﴿تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ يجوز فيهما وجهان، أحدهما: أنها مصدران في موضع الحال أي: تَدْعُونه متضرِّعين ومُخْفِين. والثاني: أنهما مصدران من معنى العامل لا من لفظه كقوله: قَعَدْتُ جلوساً. وقرأ الجمهور: ﴿خُفْية﴾ بضم الخاء. وقرأ أبو بكر بكسرها وهما لغتان كالعُدوة والعِدوة، والأُسوة والإِسوة. وقرأ الأعمش: ﴿وخيفة﴾ كالتي في الأعراف وهي من الخوف، قُلِبَتْ الواو ياء لانكسار ما قبلها وسكونها، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولاً من أجله لولا ما يأباه «تضرُّعاً» من المعنى.
669
قوله: ﴿لَّئِنْ أَنجَانَا﴾ الظاهر أن هذه الجملةَ القسمية تفسير للدعاء قبلها، ويجوز أن تكون منصوبةَ المحلِّ على إضمار القول، ويكونه ذلك القول في محل نصب على الحال من فاعل «تَدْعُونه» أي: تدعونه قائلين ذلك، وقد عرفت ممَّا تقدَّم غيرَ مرة كيفيةَ اجتماع الشرط والقسم. وقرأ الكوفيون: «أَنْجانا» بلفظ الغيبة مراعاةً لقوله: ﴿تَدْعُونَهُ﴾ والباقون «» أَنْجَيْتنا «بالخطاب حكايةً لخطابهم في حالة الدعاء، وقد قرأ كلُّ بما رُسِم في مصحفه، فإنَّ في مصاحف الكوفة:» أنجانا «، وفي غيرِها:» أَنْجَيْتنا «.
قوله: ﴿مِنْ هذه﴾ متعلِّقٌ بالفعل قبله، و» مِنْ «لابتداء الغاية، و» هذه «إشارةٌ إلى الظلمات؛ لأنها تجري مَجْرى المؤنثة الواحدة، وكذلك في» منها «تعود على الظلمات لِما تقدم.
قوله: ﴿عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ﴾ : يجوز أن يكون الظرف متعلقاً ب «نبعث»، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل «عذاباً» أي: عذاباً كائناً من هاتين الجهيتن.
قوله: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ﴾ عطف على «يَبْعَث» والجمهور على فتح الياء من «يَلْبسكم» وفيه وجهان، أحدهما: أنه بمعنى يخلطكم فِرَقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة مشايعة لإِمام، ومعنى خَلْطِهم إنشابُ القتال بينهم فيختلطوا في ملاحكم القتال كقول الحماسي:
١٩٤ - ١-
670
وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ
حتى إذا التبسَتْ نَفَضْتُ لها يدي
فَتَرَكْتُهمْ تَقِصُ الرماحُ ظهورَهم
ما بين مُنْعَفِرٍ وآخرَ مُسْنَدِ
وهذه عبارة الزمخشري، فجعله من اللَّبس الذي هو الخلط، وبهذا التفسير الحسن ظهر تعدِّي «يلبس» إلى المفعول. و «شيعاً» نصب على الحال. وهي جمع شِيْعة كسِدْرة وسِدَر. وقيل: «شيعاً» منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول أي: إنه مصدر على غير الصدر كقعدت جلوساً. قال الشيخ: «ويحتاج في جعله مصدراً إلى نَقْلٍ من اللغة». ويجوز على هذا أيضاً أن يكونَ حالاً كأتيته ركضاً أي: راكضاً أو ذا ركض. وقال أبو البقاء: «والجمهور على فتح الياء أي: يلبس عليكم أموركم، فحذف حرف الجر والمفعول، والأجودُ أن يكون التقدير: أو يلبس أموركم، فحُذِف المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامه»، وهذا كلُّه لاحاجةَ إليه لِما عَرَفْتَ من كلام الزمخشري.
وقرأ ابو عبد الله المدني: «يُلبسكم» بضم الياء من «ألبس» رباعياً، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره: أو يلبسكم الفتنة. و «شيعاً» على هذا حال أي: يُلْبِسكم الفتنة في حال تفرُّقكم وشتاتكم. والثاني: أن يكون «شِيعاً» هو المفعولُ الثاني كأنه جعل الناسَ يلبسون بعضَهم مجازاً كقوله:
١٩٤ - ٢- لَبِسْتُ أناساً فَأَفْنَيْتُهمْ
وأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا
671
والشيعة: مَنْ يتقوَّى بهم الإِنسان، والجمع: «شِيَع» كما تقدم، وأشياع كذا قاله الراغب، والظاهر أن أشياعاً جمع شِيَع كعِنَب وأعناب وضِلَع وأضلاع، وشِيَع جمع شِيْعة، فهو جمع الجمع.
قوله: ﴿وَيُذِيقَ﴾ نسق على «يَبْعَث» والإِذاقة: استعارة، وهي فاشية: ﴿ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: ٤٨] ﴿ذُقْ إِنَّكَ﴾ [الدخان: ٤٩] ﴿فَذُوقُواْ العذاب﴾ [الأنعام: ٣٠]، وقال:
١٩٤ - ٣- أَذَقْناهُمْ كؤوسَ الموت صِرْفاً
وذاقوا من أَسِنَّتنا كؤوسا
وقرأ الأعمش: ﴿ونذيق﴾ بنون العظمة، وهو التفاتٌ فائدتُه تعظيم الأمر والتحذير من سطوته.
قوله: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ﴾ : الهاء في «به» تعود على العذاب المتقدم في قوله ﴿عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ﴾ قاله الزمخشري، وقيل: تعود على القرآن، وقيل: تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة. وقيل: على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا بعيدٌ لأنه خوطب بالكاف عَقِيبَه، فلو كان كذلك لقال: «وكذَّب به قومك، وادِّعاء الالتفات فيه أبعدُ وقيل: لا بد من حذف صفة هنا أي: وكذَّب به قومك المعاندون، أو الكافرون، لأن قومه كلهم لم يكذِّبوه كقوله: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦]، أي: الناجين. وحَذْفُ الصفة وبقاءُ الموصوف قليل جداً بخلاف العكس. وقرأ ابن عبلة.
672
﴿وكَذِّبَتْ﴾ بتاء التأنيث، كقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [الشعراء: ١٠٥] ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ﴾ [القمر: ٣٣]. باعتبار الجماعمة
قوله: ﴿وَهُوَ الحق﴾ في هذه الجملةِ وجهان، الظاهر منهما: أنها استئناف، والثاني: أنها حال من الهاء في» به «أي: كذَّبوا به في حال كونه حقاً، وهو أعزم في القبح.
قوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بما بعده وهو توكيد وقدَّم لأجل الفواصل، ويجوز أن يكون حالاً من قوله» بوكيل «؛ لأنه لو تأخر لجاز أن يكون صفةً له، وهذا عند مَنْ يُجيز تقديمَ الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو اختيار جماعة، وأنشدوا عليه:
قوله تعالى: ﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ﴾ : يجوز رفع «نبأ» بالابتدائية وخبرُه الجارُّ قبله، وبالفاعلية عند الأخفش بالجار قبله، ويجوز أن يكونَ «مستقر» اسمَ مصدرٍ أي استقرار، أو مكان أو زمان.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ﴾ :«إذا» منصوب بجوابها وهو «فأعرضْ» أي: أعرضْ عنهم في هذا الوقت، و «رأيت» هنا تحتمل أن تكون البَصرية وهو الظاهر ولذلك تعدَّت لواحد. قال الشيخ: «ولا بد من تقدير حالٍ محذوفة أي: رأيت الذين يخوضون في آياتنا وهم خائضون فيها، أي: وإذا رأيتم ملتبسين بالخوض فيها» انتهى. قلت: ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ قوله «يخوضون» مضارع والراجح حاليَّتُه، وأيضاً فإن «الذين يخوضون» في قوة الخائضين، واسم الفاعل حقيقةٌ في الحال بلا خلاف، فيُحمل هذا على حقيقته، فيُستغنى عن حذف هذه الحال التي قَدَّرها وهي حال مؤكدة. ويحتمل أن تكون عِلْميَّة، وضعَّفه الشيخ بأنه يلزم منه حَذْفُ المفعول الثاني، وحذفه: إمَّا اقتصارٌ وإمَّا اختصار، فإن كان الأول فممنوعٌ انفاقاً، وإن كان الثاني فالصحيح المنع حتى منع ذلك بعض النحويين.
قوله: ﴿غَيْرِهِ﴾ الهاء فيها وجهان، أحدهما: أنه تعود على الآيات، وعاد مفرداً مذكراً؛ لأن الآيات في معنى الحديث والقرآن. وقيل: إنها تعود على الخوض أي: المدلول عليه بالفعل كقوله:
١٩٤ - ٧- إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه
وخالف والسفيهُ إلى خلافِ
أي: جرى إلى السَّفه، دل عليه الصفة كما دل الفعل على مصدره أي:
674
حتى يخوضوا في حديث غيرِ الخوض.
قوله: ﴿يُنسِيَنَّكَ﴾ قراءة العامة: «يُنْسِيَنَّك» بتخفيف السين من «أنساه» كقوله: ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان﴾ [الكهف: ٦٣] ﴿فَأَنْسَاهُ الشيطان﴾ [يوسف: ٤٢]. وقرأ ابن عامر بتشديدها مِنْ «نَسَّاه» والتعدّي جاء في هذا الفعلِ بالهمزة مرةً وبالتضعيف أخرى كما تقدم في أنجى ونجَّى، وأمهل ومهَّل. والمفعول الثاني محذوف في القراءتين، تقديره: وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان الذكرَ أو الحق. والأحسنُ أن تقدِّر ما يليق بالمعنى أي: وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان ما أُمِرْت به من تَرْك مجالسه الخائضين بعد تذكيرك فلا تقعد بعد ذلك معهم، وإنما أبرازهم ظاهرين تسجيلاً عليهم بصفة الظلم، وجاء الشرط الأول ب «إذا» لأنَّ خوضهم في الآيات محقق، وفي الشرط الثاني ب «إنْ» لأنَّ إنساءَ الشيطان له ليس أمراً محققاً بل قد يقع وقد لا يقع وهو معصومٌ منه.
ولم يَجِيءْ مصدرٌ على فِعْلى غيرُ «ذكرى» وقال ابن عطية: «وإمَّا» شرط، ويلزمُها في الأغلب النون الثقيلة، وقد لا تلزم، كقوله:
١٩٤ - ٨- إمَّا يُصيبْكَ عدوٌّ في مُنَاوَأَةٍ
....................
وهذا الذي ذكره مِنْ لزوم التوكيد هو مذهب الزجاج، والناس على خلافه وأنشدوا ما أنشده ابن عطية وأبياتاً أُخَرَ ذكرتها في «شرح التسهيل» كقوله:
١٩٤ - ٩-
675
إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ... على أني قد ضممت كثيراً من أطراف هذه المسألة في أوائل البقرة، إلا أن أحداً لم يقل يلزم توكيده بالثقيلة دون الخفيفة، وإن كان ظاهر عبارة أبي محمد ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الذين﴾ : يجوز أن تقدِّر «ما» حجازية فيكون «من شيء» اسمَها، و «من» مزيدة فيه لتأكيد الاستغراق، و ﴿عَلَى الذين يَتَّقُونَ﴾ خبرها عند مَنْ يُجيز إعمالَها مقدَّمَةَ الخبر مطلقاً أو يرى ذلك في الظرف وعديله. و ﴿مِنْ حِسَابِهِم﴾ حال من «شيء» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفة له، ويجوز أن تكون مهملةً: إمَّا على لغة تميم وإمَّا على لغة الحجاز لفواتِ شرطٍ وهو تقديم خبرها وإن كان ظرفاً، وتحقيق ذلك ممَّا تقدم في قوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٥٢].
قوله: ﴿ولكن ذكرى﴾ فيه أربعة أوجه، أحدها: أنها منصوبةٌ على المصدر بفعلٍ مضمر، فقدَّره بعضهم أمراً أي: ولكن ذكِّروهم ذكرى، وبعضهم قدَّره خبراً أي: ولكن يذكرونهم ذكرى. الثاني: أنه مبتدأ خبره محذوف اي: ولكن عليهم ذكرى، أو عليكم ذكرى أي: تذكيرهم. الثالث: أنه خبر لمبتدأ محذوف أي: هو ذكرى اي: النهي عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى الرابع: أنه عطف على موضع «شيء» المجرور ب «مِنْ» أي: ما على المتِّقين من حسابهم شيء ولكن عليهم ذكرى فيكون من عطف المفردات، وأما على الأوجه السابقة فمن عطف الجمل، وقد رَدَّ الزمخشري هذا الوجهَ الرابعَ، وردَّه عليه الشيخ، فلا بد من إيراد قولهما. قال أبو القاسم: «ولا يجوز أن
676
يكون عطفاً على محل» من شيء «كقولك:» ما في الدار من أحد ولكن زيد «لأن قوله» من حسابهم «يأبى ذلك.
قال الشيخ:» كأنه تخيَّل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو «من حسابهم» فهو قيد في «شيء»، فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على «من شيء» على الموضع؛ لأنه يصير التقدير عنده: ولكن ذكرى من حسابهم، وليس المعنى على هذا، وهذا الذي تخيَّله ليس بشيء، لا يلزم في العطف ب «ولكن» ما ذكر، تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجلُ صدق، وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل، فعلى هذا الذي قَرَّرناه يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدَّم، وأن يكون من عطف المفردات، والعطف بالواو، و «لكن» جيء بها للاستدراك «.
قلت: قوله» تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق «إلى آخر الأمثلة التي ذكرَها لا يَرُدُّ على الزمخشري؛ لأنَّ الزمخشري وغيرَه من أهل اللسان والأصوليين يقولون: إن العطف ظاهر في التشريك، فإن كان في المعطوف عليه قيدٌ فالظاهر تقيُّد المعطوف بذلك القيد، إلا أن تجيء قرينةٌ صارفة فيُحال الأمر عليها.
فإذا قلت: ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضرب مقيداً بيوم الجمعة فإن قلت: «وعمرا يوم السبت» لم يشاركه في قيده، والآية الكريمة من قبيل النوع الأول أي: لم يؤت مع المعطوف بقرينةٍ تُخْرِجه؛ فالظاهر مشاركته للأول في قيده، ولو شاركه في قيده لزم منه ما ذكر الزمخشري، وأمَّا الأمثلةُ التي أوردها فالمعطوف مقيد بغير القيد الذي قُيِّد به الأول، وإنما كان ينبغي أن يأتي بأمثلةٍ هكذا فيقول: ما عندما رجل سوء ولكن امرأة، وماعندنا رجل من تميم ولكن
677
صبيُّ، فالظاهر من هذا أن المعنى: ولكنْ امرأة سوء، ولكن صبي من قريش، وقول الزمخشري «عطفاً على محل» من شيء «ولم يقل عطفاً على لفظه لفائدة حسنة يَعْسُر معرفتها: وهو أن» لكن «حرف إيجاب، فلو عطف ما بعدها على المجرور ب» مِنْ «لفظاً لزم زيادة» من «في الواجب، وجمهورُ البصريين على عدم زيادتها فيه، ويدلُّ على اعتبار الإِيجاب في» لكن «أنهم إذا عطفوا بعد خبر ما الحجازية، أبطلوا النصب؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي، و» بل «ك» لكن «فيما ذكرت لك.
قوله تعالى: ﴿اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً﴾ :«اتخذوا» يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنها متعدية لواحد على أنها بمعنى اكتسبوا وعملوا، و «لهواً ولعباً» على هذا مفعول من أجله أي: اكتسبوه لأجل اللهو واللعب. والثاني: أنها المتعدية إلى اثنين أوَّلُهما «دينهم» وثانيهما «لعباً ولهواً» قال الشيخ: «ويظهر من بعض كلام الزمخشري وكلام ابن عطية أن» لعباً ولهواً «هو المفعول الأول، و» دينهم «هو المفعول الثاني. قال الزمخشري:» أي: دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تبحير البحائر وتسويب السوائب من باب اللهو واللعب واتِّباع هوى النفس وما هو من جنس الهَزْل لا الجد، وأو اتخذوا ما هو لعبٌ ولهو من عبادة الأصنام ديناً لهم، أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفوه وهو دين الإِسلام لَعِباً ولهواً حيث سخروا به قال: «فظاهرُ تقديرِه الثاني يدلُّ على ما ذكرنا».
وقال ابن عطية: «وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً، ويحتمل أن يكون المعنى: اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً
678
ولهواً، فتفسيره الأول هو ما ذكرناه عنه» انتهى. قلت: وهذا الذي ذكراه إنما ذكراه تفسيرَ معنى لا إعراب، وكيف يَجْعلان النكرةَ مفعولاً أولَ والمعرفةَ معفولاً ثانياً من غير داعية إلى ذلك مع أنهما من أكابر أهل هذا الشأن، وانظر كيف أبرزا ما جعلاه مفعولاً أولَ معرفةً وما جعلاه ثانياً نكرة في تركيب كلامهما ليَخِدوا على كلام العرب فكيف يُظَنُّ بهما أن يجعلا النكر محدَّثاً عنها والمعرفة حديثاً في كلام الله تعالى؟
وقوله: ﴿وَذَكِّرْ بِهِ﴾ أي بالقرآن، يدلُّ له قوله: ﴿فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: ٤٥] وقيل: يعود على حسابهم. وقيل: على الذين وقيل: هذا ضميرٌ يُفسِّره ما بعده وسيأتي إيضاحُه.
وقوله: ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياوة﴾ تحتمل وجهين. أحدهما: أنها مستأنفةٌ والثاني: أنها عطفٌ على صلةِ الذين أي: الذي اتخذوا وغَرَّتْهُم وقد تقدم معنى الغرور في آخر آل عمران وقيل: هنا غَرَّتهم من «الغَرّ» بفتح العين أي: ملأت أفواههم وأشبعتهم، وعليه قول الشاعر:
١٩٥ - ٠- ولمَّا التَقَيْنا بالحُلَيْبَةِ غَرَّني
بمعروفِهِ حتى خرجْتُ أفوقُ
قوله: ﴿أَن تُبْسَلَ﴾ : في هذا وجهان، المشهور- بل الإِجماع - على أنه مفعول من أجله وتقديره: مخافة أن تُبْسَل، أو كراهة أن تُبْسَلَ، أو أن لا تبسل والثاني: قال الشيخ: - بعد أن نقل الاتفاق على المفعول من أجله - «ويجوز عندي أن يكون في موضعِ جرِّ على البدل من الضمير،
679
والضميرُ مفسَّرٌ بالبدل، ويُضْمر الإِبسالُ لما في الإِضمار من التفخيم، كما أضمروا ضمير الأمر والشأن، والتقدير: وذكِّرْ بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا:» اللهم صلِّ عليه الرؤوفِ الرحيمِ «وقد أجاز ذلك سيبويه قال:» فإن قلت: «ضربت وضربوني قومك» نصبت، إلا في قول مَنْ قال: أكلوني البراغيث، أوتحملُه على البدل من المضمر.
وقال أيضاً: «فإن قلتَ:» ضربني وضربتُهم قومُك «رَفَعْتَ على التقديم والتأخير، إلا أن تَجْعَلَ ههنا البدل كم جعلته في الرفع» انتهى. وقد روي قوله:
١٩٥ - ١-...............
...... فاستاكَتْ به عُودِ إسْحِلِ
بجر «عُود» على البدل من الضمير. قلت: أمَّا تفسيرُ الضميرِ غيرِ المرفوع بالبدل فهو قول الأخفش وأنشد عليه هذا العجز وأوله:
إذا هي لم تَسْتَكْ بعودِ أراكةٍ
تُنُخَّلَ فاستاكَتْ به عودِ إسحلِ
والبيتُ لطُفَيل الغَنَويّ، يُروى برَفْع «عود» وهذا هو المشهور عند النحاة، ورفعُهُ على إعمالِ الأولِ وهو «تُنُخِّل» وإهمال الثاني وهو «فاستاكَتْ» فأعطاه ضميرَه، ولو أَعْمَلَه لقال: «فاستاكَتْ بعود إسحل» ولا يمكن لانكسار البيت، والروايةُ الأخرى التي استشهد بها ضعيفةٌ جداً لا يعرفها أكثر المُعْربين، ولو استشهد بما لا خلاف فيه كقوله:
١٩٥ - ٢- على حالةٍ لو أن في القوم حاتِماً
على جوده لضَنَّ بالماءِ حاتمِ
680
بجرِّ «حاتم» بدلاً من الهاء في «بجوده» والقوافي مجورة لكان أَوْلَى والإِبسال: الارتهان، ويقال: أَبْسَلْتُ ولدي وأهلي أي ارْتَهَنْتُهُمْ قال:
١٩٥ - ٣- وإبسالي بَنِيَّ بغير جُرْمٍ بَعَوْناه ولا بدمٍ مُراق... بَعَوْنا: جَنَيْناَ، والبَعْوُ: الجناية. وقيل: الإِبسال: أن يُسْلِمَ الرجل نفسه للهلكة.
وقال الراغب: «البَسْلُ: ضَمُّ الشيء ومَنْعُه، ولتضمُّنهِ معنى الضمِّ استُعير لتقطُّب الوجه فقيل: هو: باسل ومُتْبَسِلُ الوجه، ولتضمينه معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتَهَن:» بَسْلٌ «ثم قال:» والفرقُ بين الحرام والبَسْل أنَّ الحرامَ عامٌ فيما كان ممنوعاً منه بالقهر والحكم، والبَسْلُ هو الممنوع بالقهر، وقيل للشجاعة بسالة: إمَّا لِما يُوْصَفُ به الشجاع من عُبوسِ وجهه أو لكونه مُحَرَّماً على أقرانه أو لأنه يمنع ما في حوزته وما تحت يده من أعدائه، والبُسْلَةُ أجرة الراقي، مأخوذة من قول الراقي: أَبْسَلْتُ زيداً أي: جَعَلْتُه محرَّماً على الشيطان أو جَعَلْتُه شجاعاً قوياً على مدافعته، وبَسَل في معنى أَجَلْ وبَسْ «أي: فيكون حرفَ جواب كأجل، واسمَ فعل بمعنى اكتف ك» بس «.
وقوله: ﴿بِمَا﴾ متعلّقٌ ب» تُبْسَل «أي: بسبب، و» ما «مصدرية أو بمعنى الذي، او نكرة، وأمرها واضح.
قوله: ﴿لَيْسَ لَهَا﴾ هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه، أحدها: وهوالظاهر أنها مستأنفةٌ سِيقَتْ للإِخبار بذلك. والثاني: أنها في محل رفع صفة ل» نفس «والثالث: أنها في محل نصب حالاً من الضمير في» كسبت «.
681
قوله: ﴿مِن دُونِ﴾ في «مِنْ» وجهان، أظهرهما: أنها لابتداء الغاية، والثاني: أنها زائدةٌ، نقله ابن عطية بشيء؛ وإذا كانت لابتداء الغاية ففي ما يتعلَّق به وجهان، أحدهما: أنها حال مِنْ «وليّ» لأنها لو تأخَّرَتْ لكانَتْ صفةً له، فتتعلَّقُ بمحذوف هو حال. والثاني: أنها خبر «ليس» فتتعلق بمحذوف أيضاً هو خبر ل «ليس» وعلى هذا فيكون «لها» متعلقاً بمحذوف على البيان. وقد مرَّ نظائره، و ﴿مِن دُونِ الله﴾ فيه حذفُ مضافٍ أي: من دون عذابِهِ وجزائه.
قوله: ﴿كُلَّ عَدْلٍ﴾ منصوبٌ على المصدرية لأنَّ «كل» بحسب ما تُضاف إليه، هذا هو المشهور، ويجوز نصبُه على المفعول به أي: وإن تَفْدِ يداها كلَّ ما تَفْدِي به لا يُؤخَذُ، فالضميرُ في «لا يُؤْخَذُ» على الأول: قال الشيخ: «عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام، ولا يعود إلى المصدر، لأنه لا يُسْنَدُ إليه الأخذ، وأمَّا في ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨] فمعنى المَفْدِيِّ به فيصح» انتهى.
أي: إنه إنما أَسْنَدَ الأخْذَ إلى العدل صريحاً في البقرة، لأنه ليس المرادُ المصدرَ بل الشيءُ المَفْدِيُّ به، وعلى الثاني يعود على «كل عدل» لأنه ليس مصدراً فهو كآية البقرة «
قوله: ﴿أولئك الذين أُبْسِلُواْ﴾ يجوز أن يكون» الذين «خبراً» ولهم شراب «خبراً ثانياً، وأن يكون» لهم شراب «حالاً: إمَّا من الضمير في» أُبْسِلوا «وإمَّا من الموصول نفسه، و» شرابٌ «فاعل لاعتماد الجارِّ قبله على ذي الحال، ويجوز أن يكون» لهم شراب «مستأنفاً فهذه ثلاثة أوجه في» لهم شراب «ويجوز أن يكون» الذين «بدلاً من» أولئك «أو نعتاً لهم فيتعيَّنُ أن تكون الجملة من» لهم شرابٌ «خيراً للمبتدأ، فتحصَّل في الموصول أيضاً ثلاثة
682
أوجه: كونه خبراً أو بدلاً أو نعتاً، فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه في هذه الآية.
و» شراب «يجوز رفعُه مِنْ وجهين: الابتدائية والفاعلية عند الأخفش، وعند سيبويه أيضاً على أن يكون» لهم «هو خبر المبتدأ أو حالاً حيث جعلناه حالاً، و» شراب «مرتفعٌ به لاعتماده على ما تقدَّم، و» من حميمٍ «صفةٌ ل» شراب «فهو في محلِّ رفع ويتعلق بمحذوف.
و» شراب «فَعَال بمعنى مَفْعول، وفَعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم وشراب بمعنى مشروب لا ينقاس لا يقال: أَكال بمعنى مأكول، ولا ضَراب بمعنى مضروب. والإِشارة ب» ذلك «في قول الزمخشري والحوفي إلى الذين اتخذوا، فلذلك أتى بصيغة الجمع، وفي قول ابن عطية وأبي البقاء إلى الحبس المفهوم من قوله» أن تُبْسَلَ نَفْسٌ «إذ المرادُ به عمومُ الأنفسِ فلذلك أُشير إليه بالجمع.
قول تعالى: ﴿أَنَدْعُواْ﴾ : استفهام توبيخ وإنكار، والجملة في محل نصب بالقول، و «ما» مفعولةٌ ب «ندعو» وهي موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفة، و «مِنْ دون الله» متعلِّقٌ ب «ندعو» قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في» يَنْفَعنا «ولا معمولاً ل» ينفعنا «لتقدُّمِه على» ما «والصلةُ والصفةُ لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف،» قوله «من الضمير في يَنْفعنا» يعني به المرفوعَ العائدَ على «ما» وقوله: «لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف» يعني أن «ما» لا تخرج عن هذين القسمين، ولكن يجوز أن يكون «من دون» حالاً من «ما» نفسها على قوله: إذ لم يجعل المانعَ
683
من جَعْلِه حالاً من ضميره الذي في «ينفعنا» إلا صناعياً لا معنوياً، ولا فرق بين الظاهر وضميره بمعنى أنه إذا جاز أن يكون حالاً من ظاهر جاز أن يكون حالاً من ضميره، إلا أن يمنع مانع.
قوله: ﴿وَنُرَدُّ﴾ فيه وجهان أظهرهما: أنه نسقٌ على «ندعو» فهو داخلٌ في حيِّز الاستفهام المتسلط عليه القول. والثاني: أنه حال على إضمار مبتدأ أي: ونحن نُرَدُّ. قال الشيخ بعد نقله عن أبي البقاء: «وهو ضعيفٌ لإِضمار المبتدأ، ولأنها تكون حالاً مؤكدة» وفي كونها مؤكِّدةً نظر، لأنَّ المؤكِّدةَ، ما فُهِم معناها من الأول وكأنه يقول مِنْ لازم الدعاء «من دون الله» الارتداد على العَقِب.
قوله: ﴿على أَعْقَابِنَا﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب «نُرَدٌّ» والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من مرفوع «نُرَدُّ» أي: نُرَدٌّ راجعين على أَعقابنا أو منقلبين أو متأخرين، كذا قدَّره وهو تفسيرُ معنى، إذ المقدَّر في مثله كون مطلق، وهذا يحتمل أن يُقال فيه إنه حال مؤكدة، و «بعد إذ» متعلق ب «نُرَدٌّ».
قوله: ﴿كالذي استهوته﴾ في هذه الكاف وجهان، أحدهما: أنه نعت مصدر محذوف أي: نُرَدٌّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من مرفوع «نرد» أي: نُرَدُّ مشبهين الذي استهوته الشياطين، فمَنْ جوَّز تعدُّدَ الحال جَعَلَها حالاً ثانية إن جعل «على أعقابنا» حالاً، ومَنْ لم يُجَوِّزْ ذلك جَعَلَ هذه الحالَ بدلاً من الحالِ الأولى، ألم يجعل «على أعقابنا» حالاً بل متعلقاً ب «نُرَدٌّ»
والجمهورُ على «اسْتَهْوَتْهُ» بتاء التأنيث وحمزة «استهواه» وهو على
684
قاعدِته من الإِمالة، الوجهان معروفان ممَّا تقدَّم في: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١]. وقرأ ابو عبد الرحمن والأعمش: «استهوَتْه الشيطان» بتأنيث الفعل والشيطان مفردٌ قال الكسائي: «وهي كذلك في مصحف ابن مسعود» وتوجيهُ هذه القراءة أنها نُؤوِّل المذكر بمؤنث كقولهم: «أتته كتابي فاحترقها» أي: صحيفتي، وتقدم له نظائر. وقرأ الحسن البصري: «الشياطون» وجعلوها لحناً ولا تصل إلى اللحن، إلا أنها لُغَيَّةٌ رديئةٌ، سُمِع: حول بستان فلانٍ بساتون، وله سَلاطون، ويحكى أنه لمَّا حُكِيَتْ قراءة الحسن لحَّنه بعضهم، فقال الفراء: «أَيْ والله يُلحِّنون الشيخ، ويستشدون بقول رؤبة» ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك. والمراد بالذي الجنس، ويحتمل أن يُراد به الواحدُ الفذُّ.
قوله: ﴿فِي الأرض﴾ فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه متعلقٌ بقوله: ﴿استهوته﴾ الثاني: أنه حال من مفعول «استهوته» الثالث: أنه حال من «حَيْران» الرابع: أنه حال من الضمير المستكنّ في «حيران» و «حَيْران» حال: إمَّا من هاء «اسْتَهْوَتْه» على أنها بدل من الأولى أو عند مَنْ يُجيز تَعَدُّدها، وإمَّا من «الذي» وإمَّا من الضمير المستكنِّ في الظرف، وحيران مؤنَّثُه حَيْرى، ولذلك لم ينصرف والفعل حار يحار حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورة.
قوله: ﴿لَهُ أَصْحَابٌ﴾ جملة في محصل نصب صفة لحيران، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في حيران وأن تكون مستأنفةً و «إلى الهدى» متعلِّقٌ ب «يَدْعُونه» وفي مصحف ابن مسعود وقراءته: «أتينا» بصيغة الماضي، و «إلى الهدى» على هذه القراءة متعلِّقٌ به، وعلى قراءة الجمهورِ: الجملة
685
الأمريَّة في محل نصب بقول مضمر اي: يقولون ائتنا، والقول المضمر في محلِّ صفةٍ لأصحاب وكذلك «يدعونه».
قوله: ﴿لِنُسْلِمَ﴾ في هذه اللام أقوال، أحدها: - وهو مذهب سيبويه - أن هذه اللامَ بعد الإِرادة والأمر وشبهِهِما متعلقة بمحذوف على أنه خبر للمبتدأ وذلك المبتدأ هو مصدر من ذلك الفعل المتقدم، فإذا قلت: أردْتَ لتقوم، وأمرت زيداً ليذهب كان التقدير: الإِرادة للقيام والأمر للذهاب، كذا نقل الشيخ ذلك عن سيبويه وأصحابه وفيه ضعفٌ قد قَدَّمْتُه في سورة النساء عند قوله: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [الآية: ٢٦]. الثاني: أن مفعول الأمر والإِرادة محذوف، وتقديره: وأُمِرْنا بالإِخلاص لنُسْلِمَ
الثالث: قال الزمخشري: «هي تعليل للأمر بمعنى: أُمِرْنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نُسْلم» الرابع: أن اللام زائدة أي: أُمِرْنا أن نُسِلمَ الخامس: أنها معنى الباء أي: بأَنْ نُسْلِمَ. السادس: أن اللام وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع «أن» أي أنهما يتعاقبان فتقول: أمرتُك لتقومَ وأن تقوم، وهذا مذهب الكوفيين. وقال ابن عطية: «ومذهبُ سيبويه أنَّ» لنُسْلِمَ «في موضع المفعول وأنَّ قولك:» أُمِرْت لأقومَ وأَنْ أقومَ «يجريان سواء وقال الشاعر:
١٩٥ - ٤- أُريد لأَنْسى حبَّها فكأنَّما
تَمثَّلُ لي ليلى بكل طريقِ
686
وهذا ليس مَذْهَبَ سيبويه إنما مذهبُه ما تقدَّم، وقد تقدَّم تحقيق هذه المسألة في السورةِ المشارِ إليها قبلُ.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَقِيمُواْ﴾ : فيه أقوال أحدها: أنها في محل نصب بالقول نسقاً على قوله: إنَّ هُدَى الله هو الهدى أي: قل هذين الشيئين. والثاني: أنه نسقٌ على «لِنُسْلَم» والتقدير: وأمرنا بكذا للإِسلام ولنقيم الصلاة، و «أن» توصل بالأمر كقولهم: «كتبت إليه بأن قم» حكاه سيبويه وهذا رأي الزجاج، والثالث: أنه نسق على «ائتنا» قال مكي: «لأن معناه أن ائتنا» وهو غير ظاهر. والرابع: أنه معطوف على مفعول الأمر المقدَّر والتقدير: وأُمِرْنا بالإِيمان وبإقامة الصلاة، قاله ابن عيطة.
قال الشيخ: «وهذا لا بأسَ به إذ لا بد من التقدير المفعول الثاني ل» أُمِرْنا «ويجوز حَذْفُ المعطوف عليه لفهم المعنى، تقول: أضربت زيداً؟ فيجيب: نعم وعمراً، التقدير: ضربته وعمراً. وقد أجاز الفراء:» جاءني الذي وزيد قائمان «التقدير: الذي هو وزيدٌ قائمان، فحذف» هو «لدلالة المعنى عليه» وهذا الذي قال إنه لا بأس به ليس من أصول البصريين. وأمَّا «نَعَمْ وعَمْراً» فلا دلالة فيه لأنَّ «نَعَمْ» قامَتْ مقامَ الجملة المحذوفة. وقال مكي قريباً من هذا القول إلا أنه لم يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه فإنه قال: «وأن في موضع نصب بحذفِ الجارِّ تقديرُه: وبأَنْ أَقيموا» فقوله: وبأن أقيموا هو معنى قول ابنِ عطية، إلا أن ذاك أوضحه بحذف المعطوف عليه.
687
وقال الزمخشري: «فإن قلت: علام عطف قوله ﴿وَأَنْ أَقِيمُواْ﴾ ؟ قلت: على موضع» لِنُسْلِمَ «كأنه قيل: وأُمِرْنا أن نسلم وأن أقيموا» قال الشيخ: «وظاهر هذا التقدير أنَّ» لنسلم «في موضع المفعول الثاني ل» أُمِرْنا «وعُطِفَ عليه» وأَنْ أقيموا «فتكون اللام على هذا زائدة وكان قد قدَّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه، لأن ما يكون علةً يستحيل أن يكون مفعولاً ويدل على أنه أراد بقوله:» أن نسلَم في موضع المفعول الثاني «قوله بعد ذلك» ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وأُمِرْنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإِسلام ولإِقامة الصلاة، وهذا قول الزجاج، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول لاتَّحد قولاه وذلك خُلْف «.
وقال الزجاج:» أن أقيموا عطف على قوله «لِنُسْلِمَ» تقديره: وأُمِرْنا لأن نُسْلِمَ وأن أقيموا «قال ابن عطية:» واللفظ يمانعه لأنَّ «نُسْلِمَ» مُعْربٌ و «أقيموا» مبني وعطف المبنيِّ على المعرب لا يجوز؛ لأنَّ العطفَ يقتضي التشريك في العامل «.
قال الشيخ» وما ذُكِرَ من أنه لا يُعْطف المبني على المعرب ليس كما ذكر، بل يجوز ذلك نحو: «قام زيد وهذا» وقال تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ [هود: ٩٨]، غاية ما في الباب أنَّ العمل يؤثر في المعرب ولا يؤثر في المبني، وتقول: «إنْ قام زيد ويقصدْني أُكرمه» ف «إن» لم تؤثر في «قام» لأنه مبنيٌّ وأثَّرت في «يقصِدْني» لأنه معرب «ثم قال ابن عطية:» اللَّهم إلا أن
688
تجعل العطف في «إنْ» وحدها، وذلك قلق، وإنما يتخرَّج على أن يقدَّر قوله «وأن أقيموا» بمعنى «ولنقم» ثم خرجَتْ بلفظ الأمرِ لما في ذلك جزالةِ اللفظ، فجاز العطف على أن يُلغى حكم اللفظ ويُعَوَّلَ على المعنى، ويُشْبه هذا من جهةِ ماحكاه يونس عن العرب: «ادخلوا الأول فالأول» وإلاَّ فلا يجوز إلا: الأولَ فالأولَ بالنصب «
قال الشيخ:» وهذا الذي استدركه بقوله «اللهم إلا» إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه، وهو أنَّ «أَنْ أقيموا» معطوفٌ على «أن نُسْلِمَ» وأنَّ كليهما علة للمأمور به المحذوف؛ وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء «أن أقيموا» على معناها من موضوع الأمر وليس كذلك، لأنَّ «أَنْ» إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر، وإذا انسبك منهما مصدر زال معنى الأمر، وقد أجاز النحويون سيبوبه وغيره أن تُوْصَلَ أَنْ المصدرية الناصبةُ للمضارع بالماضي والأمر. قال سيبويه: «وتقول: كتبت إليه بأَنْ قم، أي بالقيام» فإذا كان الحكم كذا كان قوله «لنُسْلِمَ و» أَنْ أقيموا «في تقدير: للإِسلام ولإِقامة الصلاة، وأمَّا تشبيه ابن عطية له بقوله:» ادخلوا الأولُ فالأولُ «بالرفع فليس بشبيهٍ لأن» ادخلوا «لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده بخلاف» أَنْ «فإنها توصلُ بالأمر فإذن لا شبه بينهما» انتهى.
أمَّا قولُ الشيخ «وإنما قَلِقَ عند ابن عطية لأنه أراد بقاء» أَنْ أقيموا «على معناها من موضوع الأمر» فليس القلقُ عنده لذلك فقط كما حصره الشيخ، بل لأمرٍ آخر من جهة اللفظ وهو أنَّ السِّياقَ التركيبي يقتضي على ما قاله الزجاج
689
أن يكون «لنسلم» وأن نقيم، فتأتي في الفعل الثاني بضمير فلما لم يقل ذلك قلق عنده، ويدلُّ على ما ذكرته قول ابن عطية «بمعنى ولنقم، ثم خرجت بلفظ الأمر» إلا آخره.
والخامس: أنه محمول على المعنى، إذ المعنى: قيل لنا: أسْلِموا وأن أقيموا.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُن﴾ : في «يوم» ثمانية أوجه أحدها - وهو قول الزجاج - أنه مفعول به لا ظرف وهو معطوف على الهاء في «اتقوه» أي: واتقوا يومَ أي عقابَ يومِ يقول أو هَوْلَه أو فَزَعَه، فهو كقوله تعالى في موضع آخر: ﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي﴾ [البقرة: ٤٨] على المشهور في إعرابه. الثاني: أنه مفعول به أيضاً ولكنه نسق على «السماوات والأرض» أي: وهو الذي خلق يوم يقول. الثالث: أنه مفعولٌ لا ذكْرُ مقدراً. الرابع: أنه منصوبٌ بعامل مقدَّرٍ، وذلك العامل المقدر مفعول فعل مقدر أيضاً، والتقدير: واذكروا الإِعادة يوم يقول: كن أي: يوم يقول الله للأجساد كوني معادةً. الخامس: أنه عطف على موضع قوله «بالحق» فإنَّ موضعه نصب ويكون «يقول» بمعنى «قال» ماضياً كأنه قيل: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم قال لها: كن.
السادس: أن يكون «يوم يقول» خبراً مقدماً، والمبتدأ «قوله» و «الحق» صفته، أي: قوله الحق في يوم يقول كن فيكون، وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: «قوله الحق مبتدأ ويوم يقول خبره مقدماً عليه، وانتصابه بمعنى الاستقرار كقولك» يوم الجمعة القتال «واليوم بمعنى الحين، والمعنى: أنه خلق
690
السماوات والأرض قائماً بالحكم وحين يقول لشيء من الأشياء كن، فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة. السابع: أنه منصوب على الظرف، والناصب له معنى الجملة التي هي» قوله الحق «أي: حق قوله في يوم يقول كن الثامن: أنه منصوب بمحذوف دلَّ عليه» بالحق «
قال الزمخشري:» وانتصابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله «بالحق» كأنه قيل: وحين يكونّ ويقدّر يقوم بالحق «قال الشيخ:» وهذا إعراب متكلف «.
قوله: ﴿فَيَكُونُ﴾ هي هنا تامة، وكذلك قوله: ﴿كن﴾ فتكتفي بمرفوع ولا تحتاج إلى منصوب، وفي فاعلها أربعة أوجه، أحدها: أنه ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة، كذا قَيَّده أبو البقاء بيوم القيامة. وقال مكي:» وقيل: تقدير المضمر في «فيكون» جميع ما أراد «فأطلق ولم يقيِّدْه، وهذا أولى وكأن أبا البقاء أخذ ذلك من قرينة الحال. الثاني: أنه ضمير الصور المنفوخ فيها، ودلَّ عليه قوله: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور﴾ الثالث: هو ضمير اليوم أي: فيكون ذلك اليوم العظيم. الرابع: أن الفاعل هو» قولُه «و» الحق «صفته أي: فيوجَدُ قوله الحق، ويكون الكلام على هذا تاماً على» الحق «.
قوله: ﴿قَوْلُهُ الحق﴾ فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه مبتدأ و» الحق «نعته، وخبره قوله» يوم يقول «والثاني: أنه فاعل لقوله» فيكون «» والحق «نعته أيضاً، وقد تقدَّم هذان الوجهان،.
الثالث: أنَّ «قولُه» مبتدأ، و «الحقٌّ» خبره، أَخْبَرَ عن قوله بأنه لا يكون إلا حقاً. الرابع: أنه مبتدأ أيضاً و «ألحق» نعته، و «يوم يُنْفخ» خبره، وعلى هذا ففي قوله «وله الملك» ثلاثة أوجه أحدها: أن
691
تكونَ جملةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب. والثاني: ان يكون «الملك» عطفاً على «قوله» وأل فيه عوضٌ عن الضمير، «وله» في محل نصب على الحال من «الملك» العامل فيه الاستقرار والتقدير: قولُه الحقُّ وملكه كائناً له يوم يُنفخ، فأخبرت عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنان في يوم ينفخ في الصور. الثالث: أنَّ الجملة من «وله الملك» في محل نصب على الحال، وهذا الوجه ضعيف لشيئين، أحدهما: أنها تكون حالاً مؤكدة، والأصل: أن تكون مؤسسةً. الثاني: أن العاملَ فيها معنويٌّ؛ لأنه الاستقرار المقدَّر في الظرف الواقع خبراً، ولا يجيزه إلا الأخفشُ ومَنْ تابعه. وقد تقرَّر مذهبُه غيرَ مرة بدلائله.
قوله: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ﴾ فيه ثمانية أوجه، أحدها: أنه خبر لقوله «قول الحق» وقد تقدَّم هذا بتحقيقه، الثاني: أنه بدل من «يوم يقول» فيكون حكمه حكمَ ذاك. الثالث: أنه ظرف ل «تُحْشَرون» أي: وهو الذي إليه تُحشرون في يوم ينفخ في الصور. الرابع: أنه منصوب بنفس الملك أي: وله الملك في ذلك اليوم فإن قلت: يلزم من ذلك تقيُّد الملك بيوم النفخ والملك له كل وقت. فالجواب ما أُجيب به في قوله ﴿لِّمَنِ الملك اليوم؟ لله﴾ [غافر: ١٦] وقوله: ﴿والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩] وهو أن فائدةَ الإِخبار بذلك أنه أَثْبَتَ المُلْك والأمر في يوم لا يمكن أحد أن يدِّعي فيه شيئاً من ذلك فكذلك هذا. الخامس: أنه حال من الملك، والعامل فيه «له» تضمَّنه من معنى الفعل. السادس: انه منصوبٌ بقوله «يقول» السابع: أنه منصوب بعالم الغيب بعده. الثامن: أنه منصوب بقوله «قول الحق» فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانيةُ أوجه، ولله الحمد.
والجمهور على «يُنْفَخُ» مبنيَّاً للمفعول بياء الغيبة، والقائم مقام الفاعل
692
الجارُّ بعده. وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوراث: «ننفخ» بنون العظمة مبنياً للفاعل. والصُّور: الجمهورُ على قراءته ساكنَ [العين] وقرأه الحسن البصري بفتحها، فأمَّا قراءة الجمهور فاختلفوا في معنى الصُّور فيها، فقال جماعة: الصُّور جمع صُورة كالصُّوف جمع صُوفة، والثُّوم جمع ثومة، وهذا ليس جمعاً صناعياً وإنا هو اسم جنس، إذ يُفَرَّق بينه وبين واحده بتاء التأنيث، وأيَّدوا هذا القولَ بقراءة الحسنِ المتقدمة.
وقال جماعةٌ: إن الصُّور هو القَرْن، قال بعضهم: هي لغة اليمنِ وأنشد:
١٩٥ - ٥- نحن نَطَحْناهُمْ غَداة الجَمْعَيْنْ
بالشامخات في غبار النَّقْعَيْنْ
نَطْحاً شديداً لا كنطح الصُّوْرَيْن... وأيَّدوا ذلك بما ورد الأحاديث الصحيحة، قال عليه السلام: «كيف أَنْعَمُ وصاحبُ القَرْن قد التقمه» وقيل: في صفته إنه قَرْنٌ مستطيل فيه أبخاش، وأن أرواحَ الناس كلهم فيه، فإذا نفخ فيه إسرافيل خرجَتْ روحُ كلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش. وأنحى أبو الهيثم على مَنْ ادَّعى أن الصُّور جمع صُوره فقال: «وقد اعترض قومٌ فأنكروا أن يكون الصُّور قرناً كما أنكروا العرش والميزان والصراط، وادَّعَوا أن الصور جمع الصورة كالصوف جمع الصوفة، ورَوَوْا ذلك عن أبي عبيدة، وهذا خطأٌ فاحشٌ وتحريفٌ لكلام الله عز وجل عن مواضعه لأن الله قال: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر: ٦٤] {وَنُفِخَ
693
فِي الصور} [الكهف: ٩٩] فَمَنْ قرأها:» ونُفِخ في الصُّوَرِ «أي بالفتح، وقرأ» فَأَحْسَنَ صُوْرَكم «أي بالسكون فقد افترى الكذبَ على الله، وكان أبو عبيد صاحبَ أخبارٍ وغريب ولم يكن له معرفة بالنحو» قال الأزهري: «قد احتجَّ أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج، ولا يجوز عندي غيرُ ما ذهب إليه وهو قول أهل السنة والجماعة» أنتهى، ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم. وقال الفراء: «يُقال: نَفَخ في الصور ونَفَخَ الصورَ» وأنشد:
١٩٥ - ٦- لولا ابنُ جَعْدَةَ لم يُفْتَح قُهَنْدُزُكُمْ
ولا خراسانُ حتى يُنْفَخَ الصُّورُ
وفي المسألة كلامٌ أكثرُ من هذا تركتُه إيثاراً للاختصار.
قوله: ﴿عَالِمُ الغيب﴾ في رفعه أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكون صفةً للذي في قوله: ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ﴾ وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بأجنبيٍّ. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هو عالم. الثالث: أنه فاعلٌ لقوله: ﴿يقول﴾ أي: يوم يقول عالم الغيب. الرابع: أنه فاعل بفعلٍ محذوف يدل عليه الفعلُ المبنيُّ للمفعول؛ لأنه لمَّا قال «يُنفخ في الصور» سأل سائِلٌ فقال: من الذي يَنْفُخ؟ فقيل: «عالم الغيب» أي: «يُنْفخ فيه عالمُ الغيب أي: يأمر بالنفخ فيه، كقوله: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٦٣٧] أي يُسَبِّحُه، ومثله أيضاً قول الآخر:
١٩٥ - ٧-
694
ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ
ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائح
أي: مَنْ يَبْكيه؟ فقيل: ضارع، أي: يبكيه ضارع ومثله:» وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قَتْلُ أولادِهم شركاؤُهم «في قراءة مَنْ بني» زُيِّن «للمفعول ورفع» قَتْلُ «و» شركاؤهم «كأنه قيل: مَنْ زيَّنه لهم؟ فقيل: زيَّنه شركاؤهم. والرفع على ما تقدَّم قراءة الجمهور، وقرأ الحسن البصري والأعمش:» عالمِ «بالجر وفيها ثلاثة أوجه، أحسنها: أنه بدل من الهاء في» له «الثاني: أنه بدل من» رب العالمين «وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه. الثالث: أنه نعت للهاء في» له «وهذا إنما يتمشَّى على رأي الكسائيّ حيث يجيز نعت المضمر بالغائب وهو ضعيفٌ عند البصريين والكوفيين غيرَ الكسائي.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ﴾ :«إذ» منصوبٌ بفعل محذوف أي: اذكر، وهو معطوفٌ على «أقيموا» قاله أبو البقاء. و «قال» في محل خفض بالظرف «.
قوله: ﴿آزَرَ﴾ الجمهور: آزرَ بزنة آدم، مفتوح الزاي والراء، وإعرابه حينئذ على أوجه، أحدها: أنه بدل من» أبيه «أو عطف بيان له إن كان آزر لقباً له، وإن كان صفةً بمعنى المخطئ كما قال الزجاج، أو المعوجّ كما قاله الفراء، أو الشيخ الهرم كما قاله الضحاك، فيكون نعتاً ل» ابيه «أو حالاً منه بمعنى: وهو في حالة اعوجاج أو خطأ، ويُنْسَبُ للزجاج. وإن قيل: إن آزر
695
اسم صنم كان يعبده أبوه، فيكون إذ ذاك عطفَ بيان لأبيه أو بدلاً منه، ووجهُ ذلك أنه لما لازم عبادته نُبِزَ وصار لَقَباً له كما قال بعض المُحْدَثين.
١٩٥ - ٨- أُدْعى بأسماءَ نَبْزاً في قبائِلها
كأنَّ أسماءَ أَضْحَتْ بعضَ أسمائي
كذا نسبه الزمخشري: إلى بعض المُحْدَثين، ونسبه الشيخ لبعض النحويين، قال الزمخشري:» كما نُبِزَ ابن قيس بالرُّقَيَّات اللاتي كان يشبِّبُ بهنَّ فقيل: ابن قيس الرُّقَيَّات «أو يكون على حذف مضاف أي: لأبيه عابد آزر، ثم حُذِفَ المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامَه، وعلى هذا فيكون عابد صفة لأبيه أُعْرِبَ هذا بإعرابه أو يكون منصوباً على الذمّ.
وآزر ممنوع الصرف واختلف في علةِ مَنْعِه فقال الزمخشري:» والأقربُ أن يكون وزن آزر فاعَل كعابَر وشالَخ وفالَغ، فعلى هذا هو ممنوع للعلمية والعجمة. وقال أبو البقاء: «ووزنه أفعل ولم ينصرف للعجمة والتعريف على قول من لم يشتقَّه من الأزر أو الوزر، ومَن اشتقَّه من واحدٍ منهما قال: هو عربيٌّ ولم يَصْرِفْه للتعريف ووزن الفعل» وهذا الخلاف يشبه الخلاف في آدم، وقد تقدم ذلك وأن اختيار الزمخشري فيه أنه فاعلَ كعابَر، وما جرى على ذاك، وإذا قلنا بكونِه صفةً على ما قاله الزجاج بمنى المخطئ أو بمعنى المعوجّ أو بمعنى الهَرِم، كما قاله الفراء والضحاك فَيُشْكل مَنْعُ صرفِه، ويَشْكل ايضاً وقوعُه صفة للمعرفة.
696
وقد يُجاب عن الأول بأن الإِشكال يندفع بادِّعاء وزنه على أَفْعَل فيمتنع حينئذ للوزن والصفة كأحمر وبابه، وأمَّا على قول الزمخشري فلا يتمشَّى ذلك، وعن الثاني بأنه لا نُسَلِّم أنه نعت ل «أبيه» حتى يلزم وصفُ المعارف بالنكرات بل هو منصوبٌ على الذم أو أنه على نية الألف واللام، قالهما الزجاج والثاني ضعيف، لأنَّ حذف أل وإرادة معناها إمَّا أن يؤثر مَنْعَ صرف [كما] في «سحر» ليوم بعينه ويسمَّى عَدْلاً، وإمَّا أن يؤثر بناءً ويسمى تضمُّناً كأمس، وفي سحر وأمس كلامٌ طويلٌ ليس هذا مقامه، ولا يمكن أن يقال إن «آزَر» امتنع من الصرف كما امتنع «سحر» أي للعدل عن أل، لأن العدلَ يُمْنع فيه مع التعريف، فإنه لوقتٍ بعينه، بخلاف هذا فإنه وصفٌ كما قرضتم.
وقرأ أُبَيُّ بنُ كعب وعبد الله بن عباس والحسن ومجاهد في آخرين بضمِّ الراء على أنه منادى حُذِفَ حرفُ ندائِه كقوله تعالى: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ﴾ [يوسف: ٢٩] وكقوله:
١٩٥ - ٩- ليُبْك يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ
...................
في أحد الوجهين أي: يا يزيد، ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ: يا آزر بإثبات حرفه، وهذا إنما يَتَمشَّى على دعوى أنه عَلَم، وأمَّا على دعوى وصفيَِّتِه فيضعف؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ النداء يَقِلُّ فيها كقولهم: «افتدِ مخنوقُ» و «صاحِ شَمِّرْ»
وقرأ ابن عباس في روايةٍ: «أَأَزْراً تتخذ» بهمزتين مفتوحتين وزاي ساكنة
697
وراء منونة منصوبة، «تتخذ» بدون همزة استفهام، ولمَّا حكى الزمخشري هذه القراءة لم يُسْقط همزة الاستفهام من «أتتخذ» فأمَّا على القراءة الأولى فقال ابن عطية مفسراً لمعناها: «أعضداً وقوة ومظاهرةً على الله تتخذ، وهو من قوله ﴿اشدد بِهِ أَزْرِي﴾ [طه: ٣١] انتهى. وعلى هذا فيحتمل» أزراً «أن ينتصب من ثلاثة اوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله، و» اصناماً آلهة «منصوب بتتخذ على ما سيأتي بيانه، والمعنى أتَّتخذ أصناماً آلهةً لأجل القوة والمظاهرة. والثاني: أن ينتصبَ على الحال لأنها في الأصل صفةُ لأصناماً، فلما قُدِّمَتْ عليها وعلى عاملها انتصَبْت على الحال. والثالث: أنْ ينتصب على أنه مفعول ثان قُدِّم على عامله، والأصل: أتتخذ أصناماً آلهة أزْراً أي قوة ومظاهرة.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقال الزمخشري:» هو اسم صنم ومعناه: أتعبد أزْراً، على الإِنكار، ثم قال: تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخلٌ في حكم الإِنكارِ لأنه كالبيان له «فعلى هذا» أزْراً «منصوب بفعل محذوف يدل عليه المعنى، ولكن قوله» وهو داخلٌ في حكم الإِنكار «يقوِّي أنه لم يُقرأ:» أَتَتَّخِذُ «بهمزة الاستفهام لأنه لو كان معه همزة استفهام لكان مستقلاً بالإِنكار، ولم يحتج أن يقول: هو داخلٌ في حكمِ الإِنكارِ لأنه كالبيان له.
وقرأ ابن عباس ايضاً وأبو إسماعيل الشامي:» أَإزراً «بهمزة استفهام بعدها همزةٌ مكسورة ونصب الراء منونةً، فجعلها ابن عطية بدلاً من واو
698
اشتقاقاً من الوزر كإسادة وإشاح في: وسادة ووشاح. وقال أبو البقاء:» وفيه وجهان، أحدهما: أن الهمزة الثانية فاء الكلمة وليست بدلاً من شيء ومعناه الثقل «وجعله الزمخشري اسمَ صنم، والكلامُ فيه كالكلام في» أزراً «المفتوح الهمزة وقد تقدم.
وقرأ الأعمش:» إزْراً تَتَّخِذُ «بدون همزةِ استفهام، ولكن بكسر الهمزة وسكونِ الزاي ونصب الراء منونة، ونصبُه واضح مما تقدم، و» تتخذ «يُحتمل أن تكونَ المتعدية لاثنين بمعنى التصييرية، وأن تكون المتعديةَ لواحدٍ لأنَّها بمعنى عمل، ويحكى في التفسير أن أباه كان ينحتها ويصنعها، والجملة الاستفهامية في محل نصب بالقول، وكذلك قوله ﴿إني أَرَاكَ﴾ و» أراك «يحتمل أن تكون العِلْميَّة وهو الظاهر فتتعدَّى لاثنين وأن تكون بصرية وليس بذاك، ف» في ضلال «حالٌ، وعلى كلا التقديرين يتعلَّق بمحذف إلا أنه في الأول أحدُ جُزْأَي الكلام، وفي الثاني فَضْلة.
و «مبين» اسم فاعل من «أبان» لازماً بمعنى ظهر، ويجوز أن يكون من المتعدِّي والمفعول محذوف، أي: مبين كفرُكم بخالقكم، وعلى هذا فقولُ ابن عطية «وليس بالفعلِ المتعدِّي المنقول من بان يبين» غيرُ مُسَلَّم، وجعلَ الضلالَ ظرفاً محيطاً بهم مبالغةً في اتِّصافهم به فهو أبلغُ مِنْ قوله «أراكم ضالين».
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ : في هذه الكاف ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها للتشبيه، وهي في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، فقَدَّره الزمخشري: «ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرِّفُ إبراهيم ونبصره ملكوت» وقدَّره المهدوي: «وكما هديناك يا محمد أرينا إبراهيم». قال الشيخ: «وهذا بعيد من دلالة اللفظ» قلت: إنما كان بعيداً لأن المحذوف من غير الملفوظ به ولو قدَّره بقوله: «وكما أَرَيْناك يا محمد الهداية» لكان قريباً لدلالة اللفظ والمعنى معاً عليه. وقدَّره أبو البقاء بوجهين، أحدهما: قال «هو نصب على إضمار أريناه، تقديرُه: وكما رأى أباه وقومه في ضلال مبينٍ أريناه ذلك، أي: ما رآه صواباً بإطلاعنا إياه عليه. والثاني قال:» ويجوز أن يكون منصوباً ب «نُري» التي بعده على أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوف تقديره: نريه ملكوت السماوات والأرض رؤية كرؤية ضلال أبيه «انتهى. قلت: فقوله» على إضمار أريناه «لا حاجةَ إليه البتة ولأنَّه يقتضي عدمَ ارتباط قوله» نُري إبراهيم ملكوت «بما قبله.
الثاني: أنها للتعليل بمعنى اللام أي: ولذلك الإِنكارِ الصادرِ منه عليهم، والدعاءِ إلى الله في زمن كان يُدْعَى فيه غير الله آلهة نريه ملكوت. الثالث: أن الكاف في محل رفع على خبر ابتداء مضمر أي: والأمر كذلك أي: ما رآه من ضلالتهم، نقل الوجهين الأخيرين أبو البقاء وغيره.
» ونُري «هذا مضارعٌ، والمراد به حكاية حال ماضية، ونري يحتمل أن تكون المتعدِّية لاثنين، لأنها في الأصل بَصَريَّة، فأكسَبَتْها همزةُ النقل معفولاً ثانياً، وجعلها ابن عطية منقولة مِنْ رأى بمعنى عرف، وكذلك
5
الزمخشري فإنه قال فيما قدَّمت/ حكايته عنه» ومثل ذلك التعريف نعرِّف «. قال الشيخ بعد حكايته كلام ابن عطية:» ويَحْتاج كونُ «رأى» بمعنى عرف ثم يتعدى بالهمزة إلى مفعولين إلى نَقْلِ ذلك عن العرب، والذي نقل النحويون أن «رأى» إذا كانت بصَرية تعدَّتْ لمفعول، وإذا كانت بمعنى «علم» الناصبة لمفعولين تَعَدَّتْ إلى مفعولين «قلت: العجبُ كيف خَصَّ بالاعتراضِ ابنَ عطية دون أبي القاسم. وهذه الجملةُ المشتملةُ على التشبيه أو التعليل معترضة بين قوله» وإذ قال إبراهيم «مُنْكِراً على أبيه وقومه عبادة الأصنام وبين الاستدلال عليهم بوحدانية الله تعالى، ويجوز أن لا تكون معترضة إن قلنا إنَّ قولَه» فلمَّا «عطف على ما قبله وسيأتي.
والمَلَكوت مصدر على فَعَلوت بمعنى الملك، وبُني على هذه الزنة، والزيادة للمبالغة وقد تقدَّم ذلك عند ذكر الطاغوت. والجمهور على مَلَكوت بفتح اللام، وقرأ أبو السَّمَّال بسكونها وهي لغةٌ.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ﴾ : يجوز أن تكون هذه الجملة نسقاً على قوله ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ عطفاً للتدليل على مدلوله، فيكون ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ﴾ معترضاً كما تقدم، ويجوز أن تكونَ معطوفةً على الجملة من قوله ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ﴾ قال ابن عطية: «الفاءُ في قوله:» فلمَّا «رابطةٌ جملةَ ما بعدها بما قبلها، وهي ترجِّحُ أن المرادَ بالملكوت التفصيل المذكور في هذه الآية» والأولُ أحسنُ وإليه نحا الزمخشري.
وجَنَّ: سَتَر، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ عند ذِكْر ﴿الجنة﴾ [البقرة: ٣٥]. وهنا خصوصيةٌ لذِكْر الفعل المسند إلى الليل يقال: جَنَّ عليه الليل وأجنّ عليه، بمعنى أظلم، فيُستعمل قاصراً، وجنَّه وأجنّه فيُستعمل متعدياً فهذا مما اتَّفق فيه فَعَل وأَفْعَل لزوماً وتعدِّياً، إلا أن الأجود في الاستعمال: جنَّ عليه الليل وأجنَّه الليل فيكون الثلاثي لازماً، وأفعل متعدياً، ومن مجيء الثلاثي متعدياً قوله:
١٩٦١ -... وماءٍ وَرَدَتْ قُبَيْلَ الكَرَى
وقد جَنَّه السَّدَفُ الأدهَمُ... ومصدره جَنٌّ وجَنان وجُنون، وفرَّق الراغب بين جَنَّه وأَجَنَّه، فقال: «جنَّه إذا ستره، وأجنَّه جعل له ما يَجُنُّه كقولك: قَبَرْتُه وأقبرته وسَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه» وقد تقدَّم لك شيء من هذا عند ذِكْرِ حزن وأحزن، ويُحتمل أن يكون «جنَّ»
8
في الآية الكريمة متعدياً حذف المفعول منه تقديره: جنَّ عليه الأشياءَ والمبصرات.
قوله: «رأى كوكباً» هذا جواب «لمَّا»، وللقراء فيه وفيما بعده من الفعلين خلاف كبير بالنسبة إلى الإِمالة وعدمها فلأذكرْ ذلك ملخِّصاً له وذاكراً لعلله فأقول: أمَّا «رأى» الثابت الألف فأمال راءه وهمزته إمالةً محضة الأخوان وأبو بكر عن عاصم وابن ذكوان عن ابن عامر، وأمال الهمزةَ منه فقط دون الراءِ أبو عمرو بكماله، وأمال السُّوسي بخلاف عنه عن أبي عمرو الراء أيضاً، فالسوسي في أحد وجهيه يوافق الجماعة المتقدمين، وأمال ورش الراء والهمزة بين بين من هذا الحرفِ حيث وقع هذا كلُّه ما لم يتصل به ضمير نحو ما تقدم، فأمَّا إذا/ اتصل به ضمير نحو ﴿فَرَآهُ فِي سَوَآءِ﴾ [الصافات: ٥٥] ﴿فَلَمَّا رَآهَا﴾ [النمل: ١٠] ﴿وَإِذَا رَآكَ الذين﴾ [الأنبياء: ٣٦] فابن ذكوان عنه وجهان، والباقون على أصولهم المتقدمة.
وأما «رأى» إذا حذفت ألفه فهو على قسمين: قسمٍ لا تعود فيه البتةَ لا وَصْلاً ولا وقفاً نحو: ﴿رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ﴾ [الفرقان: ١٢] ﴿رَأَوُاْ العذاب﴾ [يونس: ٥٤] فلا إمالة في شيء منه، وكذا ما انقلبت ألفه ياءً نحو: ﴿رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ﴾ [الإِنسان: ٢٠]، وقسمٍ حُذِفَتْ ألفُه لالتقاء السَّاكنين وَصْلاً، وتعود وقفاً نحو: ﴿رَأَى القمر﴾ [الأنعام: ٧٧] ﴿رَأَى الشمس﴾ [الأنعام: ٧٨] ﴿وَرَأَى المجرمون النار﴾ [الكهف: ٥٣] ﴿وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ﴾ [النحل: ٨٥] فهذا فيه
9
خلافٌ أيضاً بين أهلِ الإِمالة اعتباراً باللفظ تارةً وبالأصل أخرى، فأمال الراء وحدها من غير خلاف حمزة وأبو بكر عن عاصم والسوسي بخلافٍ عنه وحده.
وأمَّا الهمزة فأمالها مع الراء أبو بكر والسوسي بخلافٍ عنهما. هذا كله إذا وصلْتَ، أمَّا إذا وَقَفْتَ فإنَّ الألفَ ترجع لعدم المقتضي لحَذْفِها، وحكمُ هذا الفعلِ حينئذٍ حكمُ ما لم يتصل به ساكن فيعود فيه التفصيل المتقدم، كما إذا وقفت على رأى مِنْ نحو: ﴿رَأَى القمر﴾ [الأنعام: ٧٧]. فأمَّا إمالة الراء من «رأى» فلإٍِتباعها لإِمالةِ الهمزة، هكذا عبارتهم، وفي الحقيقة الإِمالة إنما هي للألف لانقلابها عن الياء، والإِمالة كما عَرَفْتَ أن تنحى بالألف نحو الياء، وبالفتحة قبلها نحو الكسرة، فمن ثَمَّ صَحَّ أن يقال: أُميلَتْ الراءُ لإِمالة الهمزة.
وأمَّا تفصيل ابنِ ذكوان بالنسبة إلى اتصاله بالضمير وعدمه فوجهُه أنَّ الفعلَ لمَّا اتصل بالضمير بَعُدَتْ ألفُه مِنَ الطرف فلم تُمَلْ، ووجهُ مَنْ أمال الهمزةَ في «رأى القمرَ» مراعاةُ الألف وإن كانت محذوفةً إذ حَذْفُها عارضٌ، ثم منهم مَنْ اقتصر على إمالة الهمزة لأنَّ اعتبارَ وجودِها ضعيف، ومنهم مَنْ لم يَقْتصر إعطاءً لها حكمَ الموجودةِ حقيقةً فأتبع الراء للهمزة في ذلك.
والكَوْكَبُ: النجم، ويقال فيه كَوْكبة، وقال الراغب: «لا يقال فيه أي في النجم كوكب إلا عند ظهوره». وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه من مادة «وكب» فتكون الكافُ زائدة، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصَّغاني، قال رحمه الله: «حَقُّ كوكب أن يُذكر في مادة» وَكب «عند حُذَّاق
10
النحويين فإنها وَرَدَتْ بكافٍ زائدة عندهم، إلا أنَّ الجوهريَّ أوردها في تركيب ك وك ب، ولعله تبع في ذلك الليثَ فإنه ذكره في الرباعي، ذاهباً إلى أن الواو أصلية، فهذا تصريحٌ من الصَّغاني بزيادة الكاف، وزيادةُ الكاف عند النحويين لا تجوز، وحروفُ الزيادة محصورةٌ في تلك العشرة. فأمَّا قولُهم» هِنْدِيٌّ وهِنْدِكيّ «بمعنى واحد وهو المنسوبُ إلى الهند، وقول الشاعر:
١٩٦٢ - ومُقْرَبةٍ دُهْمٍ وكُمْتٍ كأنَّها
طَماطِمُ من فوق الوفازِ هَنادِكُ
فظاهره زيادة الكاف، ولكن خَرَّجها النحويون على أنه من باب سَبْط وسِبَطْر أي مما جاء فيه لفظان أحدهما أطول من الآخر وليس بأصلٍ له، فكما لا يقال الراء زائدة باتفاق، كذلك هذه الكاف، ولذلك قال الشيخ،» وليت شعري: مِنْ حُذَّاق النحويين الذين يرون زيادتها لا سيما أول الكلمة «والثاني: أن الكلمة كلها أصول رباعية، مما كُرِّرَتْ فيها الفاء فوزنها فَعْفَل ك» فَوْفَل «وهو بناءٌ قليل. والثالث: ساق الراغب أنه من مادة: كبَّ وكَبْكب فإنه قال:» والكَبْكَبَةُ تدهور الشيء في هُوَّة يقال: كَبَّ وكَبْكَبَ نحو: كفَّ وكَفْكَفَ، وصَرَّ الريحُ وصرصر، والكواكب النجوم البادية «فظاهر هذا السياق أن الواو زائدة والكاف بدل من إحدى الياءين وهذا غريبُ جداً.
قوله: «قال هذا ربِّي» في «قال» ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أنه استئنافٌ
11
أخبر بذلك القولِ أو استفهم عنه على حسب الخلاف. والثاني: أنه نعت ل «كوكباً» فيكون في محل نصب، وكيف يكون نعتاً ل «كوكباً» ولا يساعد من حيث الصناعةُ ولا من حيث المعنى؟ أمَّا الصناعةُ فلعدمِ الضميرِ العائد من الجملة الواقعة صفةً إلى موصوفها، ولا يقال: إن الرابطَ حصل باسم الإِشارة لأنَّ ذلك خاص بباب المبتدأ والخبر، ولذلك يكثر حذف العائد من الصفة ويقلُّ من الخبر، فلا يلزمُ مِنْ جواز شيء في هذا جوازُه في ذلك، وادِّعاء حذفِ ضميرٍ بعيدٌ، أي: قال فيه: هذا ربي. وأمَّا المعنى فلا يؤدي إلى أن التقدير: رأى كوكباً متصفاً بهذا القول، وذلك غير مراد قطعاً. والثالث: أنه جواب «فلما جَنَّ، وعلى هذا فيكون قوله» رأى كوكباً «في محلِّ نصب على الحال أي: فلمَّا جَنَّ عليه الليل رائياً كوكباً.
و» هذا ربي «محكيٌّ بالقول، فقيل: هو خبرٌ مَحْضٌ بتأويلٍ ذكره أهل التفسير، وقيل: بل هو على حذف همزة الاستفهام أي: أهذا ربي، وأنشدوا:
١٩٦٣ - لعَمْرَك ما أدري وإن كنتُ داريا... بسبعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمان
وقوله:
١٩٦٤ - أفرحُ أن أُرْزَأ الكرامَ وأَنْ... أُوْرَثَ ذَوْداً شصائِصاً نَبْلا
وقوله:
١٩٧٥ -... طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ
ولا لَعِباً مني وذو الشيب يلعبُ...
12
وقوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيّ﴾ [الشعراء: ١٣] قالوا: تقديره: أبسبع، وأأفرح، وأذو، وأتلك. قال ابن الأنباري:» وهذا لا يجوز إلا حيث يكون ثَمَّ فاصلٌ بين الخبر والاستفهام، يعني إنْ دلَّ دليل لفظي كوجود «أم» في البيت الأول بخلاف ما بعده. والأًُفول: الغَيْبَةُ والذهاب، يقال: أَفَلَ يأفُل أُفولاً، قال ذو الرمَّة:
١٩٦٦ -... مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودُها
نجومٌ ولا بالآفلاتِ شُموسُها... والإِفَالُ: صغارُ الغنم، والأَفيل: الفصيل الضئيل.
قوله تعالى: ﴿بَازِغاً﴾ : حال من القمر. والبزوغ: الطلوع، يقال: بَزَغَ بفتح الزاي يبزُغ بضمِّها بُزوغاً، ويستعمل قاصراً ومتعدياً، يقال: بَزَغ البَيْطار الدابَّة أي: أسال دَمَهَا فَبَزَغ هو أي: سال، هذا هو الأصل، ثم قيل لكل طُلوع: بُزوغ، ومنه: بَزَغَ ناب الصبي والبعير تشبيهاً بذلك، والقمرُ معروفٌ، سُمِّي بذلك لبياضه وانتشار ضوئه، والأقمر: الحمار الذي على لون الليلة القمراء، والقَمْراء ضوء القمر، وقيل: سُمِّي قمراً لأنه يَقْمُر ضوء الكواكب ويفوز به، والليالي القُمْر: ليالي تَدَوُّرِ القمر وهي الليالي البيض، لأن ضوء القمر يستمرُّ فيها إلى الصباح، قيل: ولا يُقال له قمر إلا بعد امتلائه في ثالث ليلة وقبلها هلال، على خلاف بين أهل اللغة قَدَّمُتْه في البقرة عند قوله ﴿عَنِ الأهلة﴾ [البقرة: ١٨٩]، فإذا بلغ بعد العشر ثالثَ ليلةٍ قيل له «بدر» إلى خامسَ عشر، ويقال: قَمِرْتُ فلاناً كذا اي خَدَعته عنه، وكأنه مأخوذ من قَمِرَتْ القِرْبَةُ فَسَدَت بالقَمْراء.
قوله تعالى: ﴿هذا رَبِّي﴾ : إنما ذكَّر اسم الإِشارة والمشار إليه مؤنث لأحد وجوه: إمَّا ذهاباً بها مذهب الكوكب، وإمَّا ذهابها مذهب الضوء والنور، وإمَّا بتأويل الطالع أو الشخص أو الشيء، أو لأنه لمَّا أخبر عنها بمذكر أُعْطِيَتْ حكمه، تقول: هند ذاك الإِنسان وتِيْكَ الإِنسان، قال:
١٩٦٧ - تبيت نُعْمَى على الهِجْران غائبةً
سُقْياً ورُعْياً لذاك الغائبِ الزاري
فأشار إلى «نُعمى» وهي مؤنث إشارةَ المذكر لوَصْفِها بوَصْف الذكور أو لأن فيها لغتين التذكير والتأنيث، وإنْ كان الأكثرُ التأنيثَ فقد جمع بينهما في الآية الكريمة فأنَّثَ في قوله «بازغة» وذكَّر في قوله «هذا». وقال الزمخشري: «جَعَل المبتدأَ مثلَ الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومَنْ كانت أمك، و ﴿لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [الأنعام: ٢٣] وكان اختيارُ هذه الطريقة واجباً لصيانة الربِّ عن شبهة التأنيث، ألا تراهم قالوا في صفة الله: عَلاَّم، ولم يقولوا عَلاَّمة، وإن كان أبلغَ، احترازاً من علامة التأنيث». قلت: هذا قريبٌ مما تقدَّم في قولي: إن المؤنث إذا أُخبر عنه بمذكر عومل معاملة المذكر نحو: «هند ذاك الإِنسان». وقيل: لأنها بمعنى هذا النيِّر أو المرئيُّ.
قال الشيخ: «ويمكن أن يُقال: إن أكثر لغةِ الأعاجم لا يُفَرِّقون في
14
الضمائر ولا في الإِشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث، بل المذكر والمؤنث سواء، فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حين حكى كلامَ إبراهيم بما يُشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنث بفَرْجٍ لم يكن له عَلامَةٌ تَدُلُّ عليه في كلامهم، وحين أخبر تعالى عنهم بقوله» بازغة «و» أَفَلتْ «أَتَتْ على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية» انتهى. وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بعينه في لغتهم، أمَّا شيءٌ يُعَبَّر عنه بلغة العرب ويُعطَى حكمَه في لغة العجم فهو محلُّ نظر.
قوله: «مِمَّا يُشْرِكون»«ما» مصدرية أي: بريء من إشراككم أو موصولةٌ أي: من الذين يشركونه مع الله في عبادته، فحذف العائد، ويجوز أن تكونَ الموصوفة، والعائدُ أيضاً محذوف، إلا أنَّ حذف عائد الصفة أقلُّ من حذف عائد الصلة، فالجملةُ بعدها لا محلَّ لها على القولين الأوَّلَيْن، ومحلُّها الجر على الثالث.
قوله تعالى: ﴿لِلَّذِي فَطَرَ﴾ : قدَّروا قبله مضافاً أي: وجَّهْتُ وجهي لعبادته ولرضاه، كأنهم نَفَوْا بذلك وَهْمَ مَنْ يَتَوَهَّم الجهة. و «حنيفاً» حال من فاعل «وَجَّهْتُ»، وقد تقدَّم تفسيرُ هذه الألفاظِ، و «ما» يُحتمل أن تكون الحجازيةَ، وأن تكون التميمية.
قوله تعالى: ﴿أتحاجواني﴾ : قرأ نافع وابن ذكوان وهشام بخلافٍ عنه بنون خفيفة، والباقون بنون ثقيلة، والتثقيلُ هو الأصل؛ لأن النون الأولى نون الرفع في الأمثلة الخمسة، والثانية نون الوقاية، فاسْتُثْقِل اجتماعهما،
15
وفيها لغات ثلاث: الفكُّ وتركهما على حالهما، والإِدغام، والحذف، وقد قرء بهذه اللغات كلها في قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ﴾ [الزمر: ٦٤]، وهنا لم تقرأ إلا بالحذف أو الإِدغام، وفي سورة الحجر: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: ٥٤]، كذلك، فقراءة ابن كثير بالإِدغام ونافع بالحذف، والباقون يفتحون النون لأنها عندهم نون رفع، وفي سورة النحل: ﴿تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾ [النحل: ٢٧]، يُقرأ بفتح النون عند الجمهور لأنها نونُ رفع، ويقرؤه نافع بنونٍ خفيفة مكسورةٍ على الحذف، فنافعٌ حَذَفَ إحدى النونين في جميع هذه المواضع التي ذكرتها لك، فإنه/ يقرأ في الزمر أيضاً بحذف إحداهما، وقوله تعالى: ﴿أتعدانني﴾ [الأحقاف: ١٧]، قرأه هشام بالإِدغام، والباقون بالإِظهار دون الحذف.
واختلف النحاةُ في أيَّتهما المحذوفة: فمذهب سيبويه ومَنْ تبعه أن المحذوفةَ هي الأُولى، ومذهب الأخفش ومَنْ تبعه أن المحذوفة هي الثانية، استدلَّ سيبويه على ذلك بأنَّ نونَ الرفع قد عُهِد حَذْفُها دون ملاقاة مِثْلٍ رفعاً، وأُنْشِد:
١٩٦٨ - فإنْ يكُ قومٌ سَرَّهمْ ما صنعتُمُ
سَتَحْتَلبوها لاقِحاً غير باهِلِ
أي: فستحتلبونها، لا يقال إن النون حُذِفَتْ جزماً في جواب الشرط؛ لأنَّ الفاء هنا واجبة الدخول لعدم صلاحية الجملة الجزائية شرطاً، وإذا تقرَّر وجوبُ الفاء، وإنما حُذِفت ضرورةً ثبت أن نون الرفع كان مِنْ حقها الثبوت
16
إلا أنها حُذِفَتْ ضرورة، وأنشدوا أيضاً قوله:
١٩٦٩ - أبيتُ أَسْرِي وتَبِيتي تَدْلُكي
وجهكِ بالعنبرِ والمِسْك الذكي
أي: تبيتين وتَدْلُكين، وفي الحديث: «والذي نفسي بيده لا تَدْخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا» ف «لا» الداخلة على «تدخلوا» و «تؤمنوا» نافية لا ناهية، لفساد المعنى عليه، وإذا ثَبَتَ حَذْفُها دون ملاقاةِ «مثل» رَفْعاً فلأنْ تُحْذَفَ مع ملاقاة «مثل» استثقالاً بطريق الأَوْلى والأحرى، وأيضاً فإن النون نائبة عن الضمة، والضمةُ قد عُهِد حَذْفُها في فصيح الكلام كقراءةِ أبي عمرو: ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران: ١٦٠] و ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٩] و ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ٦٧] وبابِه بسكون آخر الفعل، وقوله:
١٩٧٠ - فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحقِبٍ
إثماً من اللهِ ولا واغِلِ
وإذا ثبت حَذْفُ الأصلِ فَلْيَثْبُتْ حَذْفُ الفرع لئلا يلزمَ تفضيل فرع على أصله، وأيضاً فإنَّ ادَّعاء حذف نون الرفع لا يُحْوِج إلى حذف آخر، وحذف نون الوقاية قد يحوج إلى ذلك، وبيانه أنه إذا دخل جازم أو ناصب على أحد هذه الأمثلة فلو كان المحذوف نون الوقاية لكان ينبغي أن تُحْذَفَ هذه النونُ لأنها نون رفع وهي تسقط للناصب والجازم، بخلاف ادِّعاءِ حَذْفِ نون الرفع، فإنه لا يحوج إلى ذلك لأنه لا عملَ له في التي للوقاية.
ولقائلٍ أن يقول: لا يلزم من جواز حَذْفَ الأصل حَذْفُ الفرع، لأنَّ في
17
الأصل قوةً تقتضي جواز حذفه بخلاف الفرع، وعلى الآخر له أن يقول: هذا مُعارَضٌ بإلغاء العامل: وذلك أنه لو كان المحذوفُ نونَ الرفع لأجل نون الوقاية ودخل الجازم والناصب لم يجد له شيئاً يحذفه؛ لأن النون حُذِفت لعارض آخر. واستدلوا لسيبويه أيضاً بأن نون الوقاية مكسورة، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه تغييرٌ بخلاف ما لو ادَّعَيْنا حَذْفها فإنَّا يلزمنا تغييرُ نون الرفع من فتح إلى كسر، وتقليلُ العمل أولى، واستدلوا أيضاً بأنها قد حذفت مع مثلها وإن لم يكن نون وقاية كقوله:
١٩٧١ - كل له نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحبِهِ
بنعمةِ الله نَقْلِيْكُمْ وتَقْلُونا
أي: وتَقْلُوننا، فالمحذوفُ نونُ الرفع لا نونُ «ن» لأنها بعض ضمير، وعُورض هذا بأن نون الرفع أيضاً لها قوةٌ لدلالتها على الإِعراب، فَحَذْفُها أيضاً لا يجوز، وجعل سيبويه المحذوفةَ من قول الشاعر:
١٩٧٢ - تراه كالثَّغامِ يُعَلُّ مِسْكاً
يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْني
نونَ الفاعل لا نونَ الوقاية، واستدلَّ الأخفش بأنَّ الثقل إنما حصل بالثانية، ولأنه قد اسْتُغْنِي عنها، فإنه إنما أُتِيَ بها لتقِيَ الفعلَ من الكسر، وهو مأمونٌ لوقوع الكسر على نون الرفع، ولأنها لا تدلُّ على معنى بخلاف نون الرفع، وأيضاً فإنها تُحْذَفُ في نحو: ليتني فيقال: ليتي، كقوله:
١٩٧٣ - كمُنْيَةِ جابر إذ قال ليتي
أُصادِفُه وأُتْلِفُ بعضَ مالي
واعلم أن حذف النون في هذا النحو جائز فصيح، ولا يُلتفت إلى قول
18
مَنْ مَنَع ذلك إلا في ضرورةٍ أو قليلٍ من الكلام، ولهذا عِيْبَ على مكي ابن أبي طالب حيث قال: «الحَذْفُ بعيدٌ في العربية قبيح مكروه، وإنما يجوز في الشعر للوزن، والقرآن لا يُحتمل ذلك فيه إذ لا ضرورة تدعو إليه». وتجاسر بعضهم فقال: «هذه القراءة أعني تخفيف النون لحنٌ» وهذان القولان مردودان عليهما لتواتر ذلك، وقد قَدَّمْتُ الدليل على صحته لغةً، وأيضاً فإن الثقاتِ نقلوا أنها لغةٌ ثابتةٌ للعرب وهم غطفان فلا معنى لإِنكارها.
و «في الله» متعلِّقٌ ب «أتحاجُّوني» لا ب «حاجَّه»، والمسألةُ من باب التنازع، وأعمل الثاني لأنه لما أضمر في الأول حذف، ولو أَعْمل الأول لأضْمر في الثاني من غير حذفٍ، ومثله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة﴾ [النساء: ١٧٦]، كذا قال الشيخ، وفيه نظر، من حيث/ إن المعنى ليس على تَسَلُّط «وَحَاجَّهُ» على قوله «في الله» ؛ إذ الظاهر انقطاعُ الجملة القولية ممَّا قبلها. وقوله «في الله» أي في شأنه ووحدانيته.
قوله: «وَقَدْ هَدَاني» في محلِّ نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان أظهرهما: أنه التاء في «أتحاجونني» أي: أتجادلونني فيه حال كوني مَهْدِيّاً مِنْ عنده.
والثاني: أنه حال من «الله» أي: أتخاصمونني فيه حال كونه هادياً لي، فحجَّتكم لا تُجْدي شيئاً لأنها داحضة.
قوله: ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ هذه الجملة يجوز أن تكونَ مستأنفة، أخبر عليه السلام بأنه لا يخاف ما تشركون به ربَّه ثقةً به، وكانوا قد خوَّفوه مِنْ ضررٍ يحصُل له بسبب سَبِّ آلهتهم، ويحتمل أن تكون في مَحَلِّ نصبٍ على الحال باعتبارين أحدهما: أن تكونَ ثانيةً عطفاً على الأولى، فتكون الحالان
19
من الياء في «أتحاجونِّي». والثاني: أنها حال من الياء في «هداني» فتكون جملةً حالية من بعض جملة حالية فهي قريبة من الحال المتداخلة، إلا أنه لا بد من إضمار مبتدأ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع، لما تقدَّم من أن الفعل المضارع ب «لا» حكمُه حكمُ المثبت من حيث إنه لا تباشره الواو.
و «ما» يجوز فيها الأوجه الثلاثة: أن تكونَ مصدريةً، وعلى هذا فالهاء في «به» لا تعود على «ما» عند الجمهور، بل تعود على الله تعالى، والتقدير: ولا أخاف إشراكَكم بالله، والمفعول محذوف أي: ما تشركون غير الله به، وأن تكون بمعنى الذي، وأن تكون نكرةً موصوفة، والهاء في «به» على هذين الوجهين تعود على «ما»، والمعنى: ولا أخاف الذي تشركون الله به، فحذف المفعول أيضاً كما حذفه في الوجه الأول، وقدَّر أبو البقاء قبل الضمير مضافاً فقال: «ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على» ما «أي: ولا أخاف الذي تشركون بسببه»، ولا حاجةَ إلى ذلك.
قوله: «إلا أَنْ يشاء» في هذا الاستثناء قَوْلان، أظهرهما: أنه متصل، والثاني: أنه منقطع، والقائلون بالاتصال: اختلفوا في المستثنى منه، فجعله الزمخشري زماناً فقال: «إلا وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف، فحذف الوقت، يعني: لا أخاف معبوداتِكم في وقتٍ قط؛ لأنها لا تقدر على منفعةٍ ولا مَضَرَّة إلا إذا شاء ربي». وجَعَلَه أبو البقاء حالاً فقال: تقديره إلا في حال مشيئة ربي أي: لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال. وممَّن ذهب إلى انقطاعه ابن عطية والحوفي وأبو البقاء في أحد الوجهين، فقال الحوفي: «تقديره: لكن مشيئة الله إياي بضرٍّ أخاف»، وقال ابن عطية: «استثناء ليس من الأول
20
ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه في أن يريده بضر.
قوله:» شيئاً «يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب على المصدر تقديره: إلا أن يشاء ربي شيئاً من المشيئة، والثاني: أنه مفعول به ليشاء، وإنما كان الأولُ أظهرَ لوجهين، أحدهما: أن الكلام المؤكد أقوى وأثبتُ في النفس من غير المؤكد.
والثاني: أنه قد تقدم أن مفعول المشيئة والإِرادة لا يُذْكران إلا إذا كان فيهما غرابة كقوله:
١٩٧٤ - ولو شِئْتُ أَنْ أبكي دماً لبَكَيْتُه
..............
قوله: «عِلْماً» فيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب على التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن الفاعل تقديره: وَسِع علمُ ربي كلَّ شيء، كقوله: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤]. والثاني: أنه منصوبٌ على المفعول المطلق؛ لأن معنى وَسِعَ عَلِم. قال أبو البقاء: «لأنَّ ما يَسَعُ الشيء فقد أحاط به، والعالم بالشيء محيطٌ بعلمه» وهذا الذي ادَّعاه من المجاز بعيد. و «كل شيء» مفعول لوسع على كلا التقديرين. و «أفلا تتذكرون» جملة تقرير وتوبيخ، ولا محلَّ لها لاستئنافها.
قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ﴾ : قد تقدَّم الكلام على «كيف» في أول البقرة، وهذه نظيرتها. و «ما» يجوز فيها ثلاثة الأوجه، أعني كونها موصولةً اسميةً أو نكرة موصوفة أو مصدرية، والعائد على الأوَّلين محذوف أي: ما أشركتموه بالله أو إشراككم بالله غيره.
وقوله: «ولا تخافون» يجوز في هذه الجملة أن تكون نسقاً على «
21
أخاف» فتكون داخلةً في حَيِّز التعجب والإِنكار، وأن تكون حالية أي: وكيف أخاف الذي تشركون حال كونكم أنتم غير خائفين عاقبة إشراككم، / ولا بد من إضمارِ مبتدأ قبل المضارع المنفيِّ ب لا، لِما تقدم غيرَ مرة أي: كيف أخاف الذي تُشْركون أو يُخاف إشراككم حال كونكم آمنين مِنْ مَكْرِ الله الذي أَشْركتم به غيره. وهذه الجملةُ وإن لم يكن فيها رابطٌ يعود على ذي الحال لا يضرُّ ذلك لأن الواو بنفسها رابطةٌ، وانظر إلى حسن هذا النظم السويّ حيث جعل متعلق الخوف الواقع منه بالأصنام، ومُتَعَلَّق الخوف الواقع منهم إشراكهم بالله غيرَه تَرْكاً لأن يعادَلَ الباري تعالى بأصنامهم، لو أبرز التركيب على هذا فقال: «ولا تخافون الله» مقابلةً لقوله «وكيف أخاف معبودتكم». وأتى ب «ما» في قوله «ما أشركتم» وفي قوله ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ لأنهم غير عقلاء، إذ هي جمادٌ أحجارٌ، وحيث كانوا ينحتونها ويعبدونها.
قوله: «ما لم يُنَزِّلْ» مفعول ل «أَشْرَكْتُم» وهي موصولة اسمية أو نكرة، ولا تكون مصدرية لفساد المعنى، و «به» و «عليكم» متعلقان ب «يُنَزِّل»، ويجوز في «عليكم» وجهٌ آخر: وهو أن يكون حالاً من «سلطاناً» لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكونَ صفةً. وقرأ الجمهور «سُلْطاناً» ساكنَ اللام حيث وقع. وقرئ بضمها، وقيل: هي لغة مستقلة فيثبت بها بناء «فُعُل» بضم الفاء والعين، أو هي إتباع حركةٍ لأخرى.
وقوله: «فأيُّ الفريقين أحقُّ» لم يقل: أيُّنا أحقُّ نحن أم أنتم إلزاماً لخصمه بما يدَّعيه عليه، ولأنه لا يزكِّي القائلُ نفسه، وهذا بخلاف قول الآخر:
22
١٩٧٥ - فلئِنْ لقيتُكَ خالِيَيْنِ لتعلمَنْ
أيّي وأيُّك فارسُ الأحزابِ
فللَّهِ فصاحةُ القرآن وآدابه. وقوله: «إن كنتم» جوابه محذوف، أي: فأخبروني، ومُتَعَلَّقُ العلم محذوف، ويجوز أَنْ لا يُرادَ له مفعولٌ أي: إن كنتم من ذوي العلم.
قوله تعالى: ﴿الذين آمَنُواْ﴾ : هل هو من كلام إبراهيم أو من كلام قومه أو من كلام الله تعالى؟ ثلاثة أقوال للعلماء وعليها يترتب الإِعراب، فإن قلنا: إنها من كلام إبراهيم جواباً عن السؤال في قوله: «فأيُّ الفريقين» وكذا إن قلنا: إنها من كلام قومه، وأنهم أجابوا بما هو حجةٌ عليهم، كأن الموصولَ خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هم الذين آمنوا، وإن جَعَلْنَاهُ من كلام الله تعالى وأنه أَمَرَ نبيه بأن يجيب به السؤال المتقدم فكذلك أيضاً، وإنْ جَعَلْنَاهُ لمجرد الإِخبار من الباري تعالى كان الموصول مبتدأ، وفي خبره أوجه أحدها: أنه الجملة بعده فإن «أولئك» مبتدأ ثان، و «الأمن» مبتدأ ثالث، و «لهم» خبره، والجملة خبر «أولئك» و «أولئك» وخبره خبر الأول.
الثاني: أن يكون «أولئك» بدلاً أو عطف بيان، و «لهم» خبر الموصول، و «الأمنُ» فاعلٌ به لاعتماده. الثالث: كذلك، إلا أنَّ «لهم» خبرٌ مقدم، و «الأمن» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر الموصول. الرابع: أن يكون «أولئك» مبتدأ ثانياً، و «لهم» خبره و «الأمن» فاعل به، والجملة خبر الموصول. الخامس: وإليه ذهب أبو جعفر النحاس والحوفي أن «لهم الأمن» خبر الموصول، وأن «أولئك» فاصلة وهو غريب، لأن الفصل من شأن الضمائر لا من شأن أسماء الإِشارة، وأمَّا على قولنا بأن «الذين» خبر مبتدأ محذوف فيكون «أولئك» مبتدأً فقط، وخبره الجملة بعده أو الجارُّ وحده، و «الأمنُ» فاعلٌ به، والجملة الأولى على هذا منصوبة بقول مضمر أي: قل هم الذين آمنوا إن كانت من كلام
23
الخليل، أو قالوا هم الذين إن كانت من كلام قومه. وقوله «ولم يَلْبسوا» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنها معطوفة على الصلة فلا محلَّ لها حينئذٍ، والثاني: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها في محل نصب على الحال أي: آمنوا غير مُلْبِسين إيمانهم/ بظلم وهو كقوله تعالى: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [مريم: ٢٠] ولا يُلتفت إلى قول ابن عصفور حيث جعل وقوع الجملة المنفيَّة حالاً قليلاً، ولا إلى قول ابن خروف حيث جعل الواو واجبة الدخول على هذه الجملة وإن كان فيها ضمير يعود على ذي الحال.
والجمهور على «يَلْبِسُوا» بفتح الياء بمعنى يَخْلطونه، وقرأ عكرمة بضمها من الإِلباس. «وهم مهتدون» يجوز استئنافها وحاليتها.
قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ﴾ :«تلك» إشارة إلى الدلائل المتقدمة في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنعام: ٧٥] إلى قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين﴾ [الأنعام: ٧٩]. ويجوز في «حُجَّتنا» وجهان، أحدهما: أن يكون خبر المبتدأ وفي «آتيناها» حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإِشارة، ويدل على ذلك التصريحُ بوقوع الحال في نظيرتها كقوله تعالى: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً﴾ [النمل: ٥٢]. والثاني: أنه في محل رفع على أنه خبرٌ ثانٍ أخبر عنها بخبرين، أحدهما مفرد والآخر جملة. والثاني من الوجهين الأولين: أن تكون «حُجَّتنا» بدلاً أو بياناً لتلك، والخبر الجملة الفعلية.
وقال الحوفي: «إن الجملة مِنْ» آتَيْناها «في موضع النعت ل» حُجَّتنا «على نية الانفصال، إذ التقدير: حجة لنا»، يعني الانفصال من الإِضافة
24
ليحصُلَ التنكيرُ المسوِّغُ لوقوعِ الجملة صفةً لحُجَّتنا، وهذا لا ينبغي أن يقال، وقال أيضاً: «إن» إبراهيم «مفعول ثان لآتيناها، والمفعول الأول هو» ها «، وقد قدَّمْتُ لك في أوائل البقرة أن هذا مذهب السهيلي عند قوله ﴿آتَيْنَا مُوسَى الكتاب﴾ [البقرة: ٥٣]، وأنَّ مذهبَ الجمهورِ أن تَجْعل الأولَ ما كان عاقلاً والثاني غيرَه، ولا تبالي بتقديمٍ ولا تأخير.
قوله:» على قومه «فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ ب» آتينا «قاله ابن عطية والحوفي أي: أظهرناها لإِبراهيم على قومه. والثاني: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال أي: آتيناها إبراهيم حجةً على قومه أو دليلاً على قومه، كذا قدَّره أبو البقاء، ويلزم من هذا التقدير أن تكون حالاً مؤكدة، إذ التقدير: وتلك حُجَّتنا آتيناها له حجةً.
وقدَّرها الشيخ على حذف مضاف فقال:» أي آتيناها إبراهيم مستعليةً على حجج قومه قاهرة لها «وهذا حسن. ومنع أبو البقاء أن تكون متعلِّقةً بحجتنا قال:» لأنها مصدر، وآتيناها خبر أو حال، وكلاهما لا يُفْصل به بين الموصول وصلته «. ومنع الشيخ ذلك أيضاً، ولكن لكون الحجَّة ليست مصدراً قال:» إنما هو الكلام المُؤَلَّفُ للاستدلال على الشيء «ثم قال:» ولو جعلناها مصدراً لم يجز ذلك أيضاً، لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه. وفي مَنْعِهِ ومَنْع أبي البقاء ذلك نظرٌ، لأنَّ الحال
25
وإن كانَتْ جملةً ليسَتْ أجنبيةً حتى يُمْنَعَ الفصل بها لأنها من جملة مطلوبات المصدر، وقد تقدَّم لي نظيرُ ذلك بأشبع من هذا.
قوله: «نرفع» فيه وجهان الظاهر منهما: أنها مستأنفة لا محل لها من الإِعراب. الثاني: جوَّزه أبو البقاء وبدأ به أنها في موضع الحال من «آتيناها» يعني من فاعل «آتيناها»، أي: في حال كوننا رافعين، ولا تكون حالاً من المفعول إذ لا ضمير فيها يعود إليه.
ويُقْرأ «نرفع» بنون العظمة وبياء الغيبة، وكذلك «يشاء». وقرأ أهل الكوفة «درجات» بالتنوين وكذا التي في يوسف، والباقون بالإِضافة فيهما، فقراءة الكوفيين يحتمل نَصْبُ «درجات» فيها من خمسة أوجه أحدها: أنها منصوبةٌ على الظرف و «مَنْ» مفعول «نرفع» أي: نرفع مَنْ نشاء مراتب ومنازل. والثاني: أن ينتصبَ على أنه مفعول ثان قُدِّم على الأول، وذلك يحتاج إلى تضمين «نرفع» معنى فعلٍ يتعدَّى لاثنين وهو «يُعْطي» مثلاً، أي: نعطي بالرفع مَنْ نشاء درجات أي: رُتَباً، والدرجات هي المرفوعة كقوله: ﴿رَفِيعُ الدرجات﴾ [غافر: ١٥] وفي الحديث: «اللهم ارفع درجته في عليين» فإذا رُفعت الدرجةُ فقد رُفِعَ صاحبها. والثالث: أن ينتصب على حذف حرف الجر أي: إلى منازل وإلى درجات. الرابع: أن ينتصبَ على التمييز، ويكون منقولاً من المفعولية، فيؤول إلى قراءة الجماعة إذ الأصل: {نَرْفَعُ
26
دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} بالإِضافة ثم حُوِّل كقوله: ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ [القمر: ١٢] أي: عيون الأرض. الخامس: أنها منتصبةٌ على الحال وذلك على حذف مضاف أي: ذوي درجات. ويشهد لهذه القراءةِ قولُه تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الأنعام: ١٦٥] ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ﴾ [الزخرف: ٣٢] ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى﴾ [البقرة: ٢٥٣].
وأمَّا قراءة الجماعة: فدرجات مفعول «نرفع»، والخطاب في «إنَّ ربك» للرسول محمد عليه السلام، وقيل: لإِبراهيم الخليل، فعلى هذا يكون فيه التفات من الغَيْبة إلى الخطاب مُنَبِّهاً بذلك على تشريفه له.
قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا﴾ : فيها وجهان، الصحيح منهما: أنها معطوفة على الجملة الاسمية من قوله/ «وتلك حُجَّتنا» وعَطْفُ الاسمية على الفعلية وعكسه جائز. والثاني: أجازه ابن عطية وهو أن يكون نسقاً على «آتيناها»، ورَدَّهُ الشيخ بأنَّ «آتيناها» لها محل من الإِعراب: إما الخبر، وإمَّا الحال، وهذه لا محل لها لأنها لو كانَتْ معطوفةً على الخبر أو الحال لاشترط فيها رابط. و «كلاً» منصوب ب «هَدَيْنا» بعده، والتقدير: وكل واحد من هؤلاء المذكورين. قوله: «ومن ذريَّته» الهاء في «ذريته» فيها وجهان، أحدهما: أنها تعود على نوح لأنه أقرب مذكور، ولأن إبراهيم ومَنْ بعده من الأنبياء كلِّهم منسوبون إليه. والثاني أنه يعود على إبراهيم لأنه المحدَّث عنه والقصة مسوقة لذكره وخبره، ولكن رُدَّ هذا القول بكون لوطٍ ليس من ذريته
27
إنما هو ابن أخيه أو أخته، ذكر ذلك مكي وغيره.
وقد أجيب عن ذلك فقال ابن عباس: «هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان فيهم مَنْ لم يلحقه بولادةٍ من قبِل أمٍّ ولا أبٍ لأن لوطاً ابن أخي إبراهيم، والعرب تجعل العم أباً». وقال أبو سليمان الدمشقي: «ووهبنا له لوطاً» في المعاضدة والمناصرة «فعلى هذا يكون» لوطاً «منصوباً ب» وهبنا «من غير قيد بكونه مِنْ ذريته، وقوله» داود «وما عُطِفَ عليه منصوب: إمَّا بفعل الهبة وإمَّا بفعل الهداية. و» مِنْ ذريته «يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بذلك الفعل المحذوف، وتكون» مِنْ «لابتداء الغاية. والثاني: أنها حال أي: حال كونِ هؤلاء الأنبياء منسوبين إليه.» وكذلك نجزي « [الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف أي: نجزيهم جزاء مثل ذلك الجزاء، ويجوز أن يكون في محل رفع أي: الأمر كذلك]، وقد تقدَّم ذلك في قوله ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنعام: ٧٥].
قوله: «واليَسَع» قرأ الجمهور: «الْيَسَعَ» بلام واحدة وفتح الياء بعدها، وقرأ الأخوان: اللَّيْسَع، بلامٍ مشدَّدة وياء ساكنة بعدها، فقراءةُ الجمهور فيها تأويلان، أحدهما: أنه منقولٌ من فعل مضارع، والأصل: يَوْسَع كيَوْعِد، فوقعت الواو بين ياء وكسرة تقديرية، لأن الفتحة إنما جيء بها لأجل حرف الحلق فحُذِفَتْ لحَذْفها في يَضَع ويَدَع ويَهَب وبابه، ثم سُمِّي به مجرداً عن
28
ضمير، وزيدت فيه الألف واللام على حَدِّ زيادتها في قوله:
١٩٧٦ - رأيت الوليدَ بنَ اليزيد مبارَكاً
شديداً بأعباءِ الخلافةِ كاهِلُهْ
وكقوله:
١٩٧٧ - باعَدَ أمَّ العمروِ من أسيرِها
حُرَّاسُ أبوابٍ على قصورِها
وقيل: الألف واللام فيه للتعريف كأنه قدَّر تنكيره. والثاني: أنه اسمٌ أعجمي لا اشتقاق له، لأن اليسع يقال له يوشع بن نون فتى موسى، فالألفُ واللام فيه زائدتان أو مُعَرِّفتان كما تقدَّم قبل ذلك، وهل «أل» لازمةٌ له على تقدير زيادتها؟ فقال الفارسي: إنها لازمة شذوذاً كلزومها في «الآن» وقال ابن مالك: «ما قارنت الأداة نَقْلَه كالنصر والنعمان، أو ارتجاله كاليسع والسموءل فإنَّ الأغلب ثبوتُ أل فيه، وقد تُحْذف».
وأمَّا قراءةُ الأخوين فأصله لَيْسَع ك ضَيْغَم وَصَيْرَف وهو اسم أعجمي، ودخولُ الألفِ واللام فيه على الوجهين المتقدمين. واختار أبو عبيد قراءة التخفيف فقال: «سمعنا اسم هذا النبيّ في جميع الأحاديث: اليسع، ولم يُسَمِّه أحدٌ منهم اللَّيْسع» وهذا لا حجةَ فيه لأنه روي اللفظ بأحد لغتيه، وإنما آثروا الرواة هذه اللفظة لخفتها لا لعدم صحة الأخرى. وقال الفراء
29
في قراءة التشديد: «هي أشبه بأسماء العجم». وقد تَقَدَّم أنَّ في نون «يونس» ثلاثَ لغات وكذلك في سين يوسف.
قوله: «وكلاَّ فَضَّلْنا» كقوله: «كلاًّ هَدَيْنَا».
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بذلك الفعلِ المقدَّر أي: وهَدَيْنا من آبائهم، أو فَضَّلْنا من آبائهم، و «مِنْ» تبعيضية. قال ابن عطية: «وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات». ف «مِنْ» للتبعيض والمفعول محذوف. الثاني: أنه معطوف على «كلاًّ» أي: وفضَّلنا بعض آبائهم. وقَدَّر أبو البقاء هذا الوجهَ بقوله: «وفَضَّلنا كلاً من آبائهم [أو] وهَدَيْنا كلاً مِنْ آبائهم».
وقوله: «واجتَبَيْناهم» يجوز أن يعطف على «فَضَّلنا»، ويجوز أن يكون مستأنفاً وكرَّر لفظ الهداية توكيداً، ولأن/ الهداية أصل كلِّ خبر.
قوله تعالى: ﴿ذلك هُدَى الله﴾ : المشار إليه هو المصدر المفهوم من الفعل قبله: إمَّا الاجتباء، وإمَّا الهداية، أي: ذلك الاجتباء هدى، أو ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هدى الله. ويجوز أن يكون «هدى الله» خبراً، وأن يكون بدلاً من «ذلك»، والخبر «يهدي به»، وعلى الأول يكون «يهدي» حالاً والعاملُ فيه اسمُ الإِشارة، ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً. و «مِنْ عبادِه» تبيينٌ أو حالٌ: إمَّا مِنْ «مَنْ» وإمَّا من عائده المحذوف.
والهاء في «بها» تعود على الثلاثة الأشياء وهي: الكتابُ
30
والحكمُ والنبوة، وهو قول الزمخشري. وقيل: تعودُ على النبوَّة فقط لأنها أقرب مذكور. والباءُ في «بها» متعلقةٌ بخبر ليس، وقُدِّم على عاملها للفواصل. والباء في «بكافرين» زائدةً توكيداً.
وأولئك مفعولٌ مقدم ل ﴿هَدَى الله﴾، ويَضْعُفُ جَعْلُه مبتدأً على حذف العائد أي: هداهم الله كقوله: ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ [المائدة: ٥٠] برفع «حكم». قوله: «اقتدِهْ» قرأ الأخوان بحذف هذه الهاء في الوصل، والباقون أثبتوها وصلاً ووقفاً، إلا ابنَ عامر بكَسْرها، ونَقَل ابنُ ذكوان عنه وجهين، أحدهما: الكسر من غير وصل بمدَّة. والثاني وصلُه بمدَّة، والباقون يسكنونها، أمَّا في الوقف فإن القراء اتفقوا على إثباتها ساكنة، وقد اختلفوا أيضاً في ﴿مَالِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٨] و ﴿سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٩] في الحاقة، وفي ﴿مَاهِيَهْ﴾ [القارعة: ١٠] في القارعة بالنسبة إلى الحذف والإِثبات، واتفقوا على إثباتها في ﴿كِتَابيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩] و ﴿حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠]
فأمَّا قراءةُ الأخوين فالهاءُ عندهما للسكتِ فلذلك حَذَفاها وَصْلاً إذ مَحَلُّها الوقفُ، وأَثْبتاها وقفاً إتباعاً لرسم المصحف، وأمَّا مَنْ أثبتها ساكنةً فتحتمل عنده وجهين أحدهما: هي هاء سكت، ولكنها ثبتت وصلاً إجراءً للوصل مجرى الوقف كقوله: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر﴾ [البقرة: ٢٥٩] في أحد الأقوال كما تقدم.
31
والثاني: أنها ضمير المصدر سُكِّنَتْ وصلاً إجراءً للوصل أيضاً مجرى الوقف نحو: ﴿نُؤْتِهِ﴾ [آل عمران: ١٤٥] و ﴿فَأَلْقَهِ﴾ [النمل: ٢٨] و ﴿أَرْجِهْ﴾ [الأعراف: ١١١] ﴿نُوَلِّهِ﴾ [النساء: ١١٥] ﴿وَنُصْلِهِ﴾ [النساء: ١١٥].
واختُلِفَ في المصدر الذي تعود عليه هذه الهاء فقيل: الهدى أي: اقتد الهدى، والمعنى: اقتد اقتداءَ الهدى، ويجوز أن يكون «الهدى» مفعولاً من أجله أي: فبهداهم اقتد لأجل الهدى، وقيل: الاقتداء أي: اقتدِ الاقتداء. ومن إضمار المصدر قوله:
١٩٧٨ - هذا سُراقةُ للقرآنِ يدرسُه
والمرءُ عند الرُّشا إن يَلْقَها ذيبُ
أي: يَدْرُسُ الدَّرْسَ، ولا يجوز أن تكون الهاء ضمير القرآن، لأن الفعل قد تعدَّى له، وإنما زِيْدت اللام تقويةً له حيث تقدَّم معموله ولذلك جعل النحاة نصب «زيداً» مِنْ «زيداً ضربته» بفعل مقدر خلافاً للفراء. وقال ابن الأنباري: «إنها ضمير المصدر المؤكد النائب عن الفعل، وإن الأصل: اقتد اقتد، ثم جعل المصدر بدلاً من الفعل الثاني ثم أضمر فاتصل بالأول.
وأمَّا قراءة ابن عامر فالظاهر فيها أنها ضمير وحُرِّكَتْ بالكسر مِنْ غير وصل، وهو الذي يُسَمِّيه القرَّاء الاختلاس تارةً، وبالصلة وهو المسمَّى إشباعاً أخرى كما قرئ:» أَرْجِهِ «ونحوه، وإذا تقرَّر هذا فقول ابن مجاهد عن
32
ابن عامر» يُشِمُّ الهاء [الكسر] من غير بلوغ ياء، وهذا غلط؛ لأن هذه الهاءَ هاءُ وقف لا تُعْرَبُ في حال من الأحوال أي لا تُحَرَّك وإنما تدخل لِتَبِيْنَ بها حركة ما قبلها «ليس بجيدٍ لِما قَرَّرت لك من أنها ضمير المصدر. وقد رَدَّ الفارسي قول ابن مجاهد بما تقدم. والوجه الثاني: أنها هاء سكت أُجْرِيَتْ مجرى هاء الضمير، كما أجريت هاء الضمير مجراها في السكون، وهذا ليس بجيد، ويُرْوى قول المتنبي:
١٩٧٩ - واحرَّ قلباه ممَّن قلبُه شَبِمُ
..................
بضم الهاء وكسرها على أنها هاءُ السكت شُبِّهَتْ بهاء الضمير فحركت والأحسن أن تجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبهها بالضمير، لأن هاء الضمير لا تكسر بعد الألف فكيف بما يشبهها؟
والاقتداء في الأصل: طلبُ الموافقةِ، قاله الليث. ويقال: قُدْوَة [وقِدْوٌ، وأصله من القِدْو] وهو أصل البناء الذي يتشعَّبُ منه تصريف الاقتداء. و «بهداهم» متعلق ب «اقتد». وجعل الزمخشري تقديمَه مفيداً للاختصاص على قاعدته. والهاءُ في «عليه» تعود على القرآن أو التبليغ، أُضْمرا وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة السياق عليهما. و «إنْ» نافية ولا عملَ لها على المشهور، ولو كانت عاملةً لبَطَلَ عملها ب «إلاَّ». و «للعالمين» متعلق ب «ذكرى» واللام مُعَدِّية، أي: إنْ القرآن إلا تذكير العالمين. ويجوز أن تكون متعلقةً بمحذوف على أنها صفة ل «ذكرى» /.
قوله تعالى: ﴿حَقَّ قَدْرِهِ﴾ : منصوبٌ على المصدر وهو في الأصل صفة للمصدر، فلما أُضيف الوصف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه، والأصل: قَدْره الحق كقولهم: جَرْدُ قطيفة وسحق عمامة. وقرأ الحسن البصري وعيسى الثقفي: جَرْد قطيفة وسحق عمامة. وقرأ الحسن البصري وعيسى الثقفي: «قدَّروا» بتشديد الدال، «قَدَره» بتحريكها، وقد تقدَّم أنهما لغتان.
وقوله: «إذ قالوا» منصوب ب «قَدَروا» وجعله ابن عطية منصوباً بقَدْره، وفي كلام ابن عطية ما يُشْعر بأنها للتعليل. و «من شيء» مفعول به زيدت فيه «مِنْ» لوجودِ شَرْطي الزيادة. قوله: «نوراً» منصوب على الحال وفي صاحبه وجهان، أحدهما: أنه الهاء في «به» فالعامل فيها «جاء». والثاني: أنه الكتاب، فالعامل فيه «أنزل» و «للناس» صفة ل «هدى».
قوله: «تَجْعلونه» يقرؤه ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة، وكذلك «يُبْدونها» و «يُخْفون»، والباقون بتاء الخطاب في ثلاثة الأفعال، فأمَّا الغيبةُ فللحَمْل على ما تقدَّم من الغيبة في قوله: «وما قدروا» إلى آخره، وعلى هذا فيكون في قوله: «وعُلِّمْتُم» تأويلان أحدهما: أنه خطاب لهم أيضاً وإنما جاء به على طريقة الالتفات. والثاني: أنه خطاب للمؤمنين اعترض به بين الأمر بقوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ﴾ وبين قوله ﴿قُلِ الله﴾.
وأمَّا قراءةُ تاءِ الخطاب ففيها مناسبةٌ لقوله ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ﴾
34
ورجَّحها مكي وجماعةٌ لذلك، قال مكي: «وذلك أحسن في المشاكلة والمطابقة واتصال بعض الكلام ببعض، وهو الاختيار لذلك، ولأنَّ أكثر القراء عليه». قال الشيخ: «ومن قال إن المنكرين العربُ أو كفار قريش لم يمكن جَعْلُ الخطاب لهم بل يكون قد اعترض ببني إسرائيل فقال خلال السؤال والجواب: تَجْعَلُونها قراطيس، ومثل هذا يَبْعُدُ وقوعُه؛ لأنَّ فيه تفكيكاً للنظم حيث جَعَلَ أولَ الكلام خطاباً للكفار وآخره خطاباً لليهود. قال:» وقد أُجيب بأنَّ الجميع لَمَّا اشتركوا في إنكار نبوَّة رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بعضُ الكلام خطاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل «.
قوله:» تَجْعلونه قراطيس «يجوز أن تكون» جعل «بمعنى صيَّر، وأن تكون بمعنى ألقى أي: تضعونه في كاغد. وهذه الجملة في محل نصب على الحال: إمَّا من» الكتاب «، وإمَّا من الهاء في» به «، كما تقدم في» نوراً وهدى «.
قوله» قراطيس «فيه ثلاثة [أوجه]، أحدها: أنه على حذف حرف الجر أي: في قراطيس وورق، فهو شبيه بالظرف المبهم فلذلك تَعَدَّى إليه الفعل بنفسه.
والثاني: أنه على حذف مضاف أي: تجعلونه ذا قراطيس. والثالث: أنهم نَزَّلوه منزلة القراطيس. وقد تقدم تفسير القراطيس، والجملة من قوله «تبدونها» في محل نصب نعت لقراطيس، وأمَّا «تُخْفون» فقال أبو البقاء: «إنها صفة أيضاً لها، وقدَّر ضميراً محذوفاً أي: وتُخْفون منها كثيراً». وأمَّا
35
مكي فقال: «وتُخْفون» مبتدأٌ لا موضعَ له من الإِعراب «انتهى، كأنه لمَّا رأى خُلُوَّ [هذه الجملةِ من ضمير] يعود على» قراطيس «منع كونه صفة، وقد تقدَّم أنه مقدر أي: منها، وهو أولى. قد جوَّز الواحدي في» تبدون «أن يكون حالاً من ضمير» الكتاب «من قوله» تجعلونه قراطيس «على أن تجعل الكتاب القراطيس في المعنى لأنه مكتتبٌ فيها» انتهى. قوله: «على أن تَجْعل» اعتذارٌ عن مجيء ضميره مؤنثاً، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع.
وقوله: «وعُلِّمْتُمْ» يجوز أن يكون على قراءة الغيبة في «يجعلونه» وما عُطِفَ عليه مستأنفاً، وأن يكون حالاً، وإنما أتى به مخاطباً لأجل الالتفات، وأمَّا على قراءة تاء الخطاب فهو حالٌ، ومَن اشترط «قد» في الماضي الواقع حالاً أضمرها هنا أي: وقد عُلِّمْتُمْ.
قوله: «قلِ اللهُ» الجلالة يجوز فيها وجهان أحدهما: أن تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوف أي: قل أَنْزله، وهذا هو الصحيح للتصريح بالفعل في قوله ﴿لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز﴾ [الزخرف: ٩]. والثاني: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: الله أنزله، ووجه مناسبتِه مطابقةُ الجوابِ للسؤال، وذلك أن جملة السؤال اسمية فلتكنْ جملةُ الجوابِ كذلك.
قوله: ﴿فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ يجوز أن يكون «في خوضهم» متعلقاً ب «ذرْهُم»، وأن يتعلَّق ب «يَلْعبون»، وأن يكونَ حالاً من مفعول «ذَرْهم»، وأن يكونَ حالاً من فاعل «يَلْعبون» فهذه أربعة أوجه، وأمَّا «يلعبون» فيجوز أن يكون حالاً مِنْ مفعول «ذرهم»، ومَنْ مَنَع أن تتعدَّد الحال لواحدٍ لم يُجِزْ حينئذ أن يكون «في خوضهم» حالاً مِنْ مفعول «ذرهم» بل يجعله: إمَّا متعلقاً ب «ذَرْهُمْ» كما تقدم
36
أو ب «يَلْعبون» أو حالاً من فاعله، ويجوز أن يكون «يلعبون» حالاً من ضمير «خَوْضهم»، وجاز ذلك لأنه في قوة الفاعل لأنَّ المصدرَ مضاف لفاعله؛ لأن التقدير: ذرهم يخوضوا لاعبين، وأن يكونَ حالاً من الضمير في «خوضهم» إذا جعلناه حالاً لأنَّه تضمَّن معنى الاستقرار فتكون حالاً متداخلة.
قوله تعالى: ﴿وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ : فيه دليل على/ تقدُّم الصفة غير الصريحة على الصريحة. وأجيب عنه بأن «مبارك» خبر مبتدأ مضمر، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله ﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾ [المائدة: ٥٤]، وقال مكي، «مصدِّقُ الذي» نعت للكتاب على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، و «الذي» في موضع نصب، وإن لم يُقَدَّرْ حذفُ التنوين كان «مصدق» خبراً بعد خبر، و «الذي» في موضع خفض «. وهذا الذي قاله غلطٌ فاحش، لأن حذف التنوين إنما هو للإِضافة اللفظية وإن كان اسم الفاعل في نيَّة الانفصال، وحَذْفُ التنوين لالتقاء الساكنين إنما يكون في ضرورة أو ندور كقوله:
١٩٨٠ -...............
ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
والنحويون كلُّهم يقولون في» هذا ضاربُ الرجلِ «: إن حذف التنوين للإِضافة تخفيفاً، ولا يقول أحدٌ منهم في مثل هذا: إنه حُذِفَ التنوين لالتقاء الساكنين. وقَدَّم وَصْفَه بالإِنزال على وَصْفِه بالبركة بخلاف قوله ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ﴾ [الأنبياء: ٥٠] قالوا: لأن الأهمَّ هنا وصفُه بالإِنزال إذ جاء عقيب إنكارهم أن يُنَزِّل الله على بشر مِنْ شيء بخلاف هناك، ووقعت الصفة الأولى جملةً فعلية، لأن الإِنزال يتجدَّد وقتاً فوقتاً والثانية اسماً صريحاً، لأنَّ الاسمَ يدلُّ
37
على الثبوت والاستقرار، وهو مقصود هنا أي: بركته ثابتة مستقرة، و» مصدِّق «صفة أيضاً أو خبر بعد خبر على القول بأن مبارك خبر لمبتدأ مضمر، ووقع صفةً للنكرة لأنه في نيَّة الانفصال كقوله: ﴿هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] [وقوله] :
١٩٨١ - يا رُبَّ غابِطنا لو كان يعرِفُكم
..............
وقال الواحدي:» ومبارك «خبر الابتداء فُصِل بينهما بالجملة، والتقدير: وهذا كتاب مبارك أنزلناه، كقوله: ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ﴾ [الأنبياء: ٥٠] وهذا الذي ذكره لا يَتَمشَّى إلا على أنَّ قولَه» مبارك «خبر ثانٍ ل» هذا «، وهذا بعيدٌ جداً، وإذا سُلِّم ذلك فيكون» أنزلناه «عنده اعتراضاً على ظاهر عبارته، ولكن لا يُحتاج إلى ذلك، بل يجعل» أنزلناه «صفة ل» كتاب «، ولا محذورَ حينئذٍ على هذا التقدير، وفي الجملة فالوجهُ ما قَدَّمْتُه لك من الإِعراب.
قوله:» ولتنذرَ «قرأ الجمهور بتاء الخطاب للرسول عليه السلام، وأبو بكر عن عاصم بياء الغيبة والضمير للقرآن، وهو الظاهر أي: ينذر بمواعظه وزواجره، ويجوز أن يعود على الرسول عليه السلام للعلمِ به. وهذه اللام فيها وجهان، أحدهما: هي متعلقة ب» أنزلنا «عطفاً على مقدر، فقدَّره أبو البقاء:» ليؤمنوا ولتنذر «، وقدره الزمخشري فقال:» ولتنذر «معطوف
38
على ما دلَّ عليه صفةُ الكتاب كأنه قيل: أنزلناه للبركات ولتصديق ما تَقَدَّمه من الكتب والإِنذار».
والثاني: أنها متعلقة بمحذوف متأخر أي: ولتنذر أنزلناه.
وقوله: «أمَّ القرى» يجوز أن يكون من باب الحذف أي: أهل أمّ القرى، وأن يكون من باب المجاز إطلاقاً للمحلّ على الحالِّ، وأيُّهما أَوْلى؟ أعني المجاز والإِضمار، للناس في المسألة ثلاثة أقوال، تقدَّم بيانها وهذا كقوله: ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢]. وهناك وجهٌ لا يمكن هنا: وهو أنه يمكن أن يكون السؤال للقرية حقيقةً ويكون ذلك معجزةً لنبي، وهنا لا يتأتَّى ذلك وإن كانت القرية أيضاً نفسها هنا تتكلم، إلا أن الإِنذار لا يقع لعدم فائدته.
وقوله: «ومَنْ حولها» عطف على «أهل» المحذوف أي: ولتنذر مَنْ حول أم القرى، ولا يجوز أن يُعْطف على «أم القرى» إذ يلزم أن يكون المعنى: ولتنذر أهل مَنْ حولها، ولا حاجة تدعو إلى ذلك لأنَّ «مَنْ حولها» يقبلون الإِنذار. قال الشيخ: «ولم يحذف» مَنْ «فيعطف» حول «على» أمّ القرى «وإن كان يَصِحُّ من حيث المعنى لأنَّ» حول «ظرفٌ لا يتصرف، فلو عطف على» أم القرى «لكان مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوزُ؛ لأنَّ العربَ لم تستعمله إلا ظرفاً».
قوله: «والذين يؤمنون بالآخرة» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه مرفوعٌ بالابتداء، وخبره «يؤمنون» ولم يتَّحد المبتدأ والخبر لتغاير مُتَعَلَّقيهما، فلذلك جاز أن يقع الخبر بلفظ المبتدأ، وإلاَّ فيمتنعُ أن تقول: «الذي يقوم يقوم»، و «الذين يؤمنون يؤمنون»، وعلى هذا فَذِكْرُ الفضلة هنا واجب، ولم يتعرض النحويون لذلك ولكن تعرَّضوا لنظائره. والثاني: أنه منصوب عطفاً على
39
أم القرى أي: ولتنذر الذين آمنوا، فيكون «يؤمنون» حالاً من الموصول، وليست حالاً مؤكدة لما تقدم لك مِنْ تسويغ وقوعه خبراً وهو اختلاف المتعلق، والهاء في «به» تعود على القرآن أو على الرسول. ﴿وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ حال، وقدَّم «على صَلاتهم» لأجل الفاصلة. وذكر أبو علي في «الروضة» أن أبا بكر قرأ «على صلواتهم» جمعاً.
قوله تعالى: ﴿كَذِباً﴾ : فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه مفعول «افترى» أي: اختلقَ كَذِباً وافتعله. الثاني: أنه مصدرٌ له على المعنى أي: افترى افتراءً، وفي هذا نظر؛ لأنَّ المعهود في مثل ذلك إنما هو فيما كان المصدر فيه نوعاً من الفعل نحو: «قعد القرفصاء» أو مرادفاً له ك «قعدت جلوساً» أمَّا/ ما كان المصدر فيه أعمَّ من فعله نحو: افترى كذباً وَتَقَرْفَصَ قعوداً، فهذا غيرُ معهود إذ لا فائدة فيه، والكذبُ أعمُّ من الافتراء، وقد تقدم تحقيقه. الثالث: أنه مفعول من أجله أي: افترى لأجل الكذب. الرابع: أنه مصدر واقع موقع الحال أي: افترى حال كونه كاذباً وهي حال مؤكدة. وقوله «أو قال» عطف على افترى، و «إلى» في محل رفع لقيامه مقام الفاعل. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير المصدر قال: «تقديره: أُوحي إليَّ الوحيُ أو الإِيحاء»، والأول أولى؛ لأن فيه فائدةً جديدة بخلاف الثاني فإن معنى المصدر مفهوم من الفعل قبله.
قوله: ﴿وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ جملة حالية، وحُذِف الفاعل هنا تعظيماً له لأنَّ الموحي هو الله تعالى. وقوله: «ومن قال» مجرور المحل لأنه نَسَقٌ على «مَنْ» المجرور ب مِنْ أي: وممَّن قال. وقد تقدَّم نظير هذا الاستفهام في البقرة،
40
وهناك سؤال وجوابه. وقرأ أبو حيوة: «سَأُنَزِّل» مضعفاً. وقوله: «مثلَ» يجوز فيه وجهان أحدهما: أنه منصوبٌ على المفعول به أي: سأنزل قرآناً مثل ما أنزل الله، و «ما» على هذا موصولة اسمية أو نكرة موصوفة أي: مثل الذي أنزله أو مثل شيء أنزله. والثاني: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره: سأنزل إنزالاً مثل ما أنزل الله، و «ما» على هذا مصدرية أي: مثل إنزال الله، و «إذ» منصوبٌ ب «ترى»، ومفعول الرؤية محذوف أي: ولو ترى الكفار أو الكذَبة، ويجوز أن لا يُقَدَّر لها مفعول أي: ولو كنت من أهل الرؤية في هذا الوقت، وجواب «لو» محذوف أي: لَرَأَيْتَ أمراً عظيماً. و «الظالمون» يجوز أن تكون فيه أل للجنس، وأن تكون للعهدِ، والمراد بهم مَنْ تقدَّم ذكرُه من المشركين واليهود والكذَبَة المفترين.
و ﴿فِي غَمَرَاتِ الموت﴾ خبر المبتدأ، والجملة في محل خفض بالظرف. والغَمَرات: جمع غَمْرة وهي الشدة المفظعة، وأصلها مِنْ غَمَرَهُ الماء إذا ستره، كأنها تستر بغمِّها وتنزل به، قال:
١٩٨٢ - ولا يُنْجي من الغَمَراتِ إلاَّ
بَرَاكاءُ القتالِ أو الفرارُ
وتجمع على غُمَر كعَمْرة وعُمَر، قال:
١٩٨٣ -..................
وحان لتالِكَ الغُمَرِ انقشاعُ
ويروى «انحسار». وقال الراغب: «أصل الغَمْر إزالة أثر الشيء،
41
ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله غَمْر وغامِر، وأنشد غيرُ الراغب على غامر:
١٩٨٤ - نصفَ النهارُ الماءُ غامِرُه
ورفيقُه بالغيب لا يدري
ثم قال:» والغَمْرَة معظمُ الماء لسَتْرها مقرَّها، وجُعِلت مثلاً للجهالة التي تغمر صاحبها «. والغَمْر: الذي لم يجرِّبْ الأمور وجمعه أغمار، والغِمْر: بالكسر الحقد، والغَمْر بالفتح الماء الكثير، والغَمَر بفتح الغين والميم ما يغمر من رائحة الدسم سائرَ الروائح، ومنه الحديث:» من بات وفي يديه غَمَر «، وغَمِرَت يده وغَمِر عرضَه دنسٌ، ودخلوا في غُمار الناس وخمارهم، والغُمْرَة ما يُطْلَى به من الزَّعْفَران، ومنه قيل للقَدَح الذي يُتناول به الماء: غُمَرٌ، وفلان مغامِرٌ: إذا رَمى بنفسه في الحرب: إمَّا لتوغُّله وخوضه فيه، وإمَّا لتصور الغَمارة منه.
قوله: ﴿والملائكة باسطوا﴾ جملة في محل نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في قوله» في غَمَرات «و» أيديهم «خفض لفظاً وموضعه نصب، وإنما سقطت النون تخفيفاً.
قوله: ﴿أخرجوا﴾ منصوب المحل بقول مضمر، والقول يُضْمر كثيراً تقديره: يقولون: أخرجوا، كقوله: ﴿يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد: ٢٣] أي يقولون: سلامٌ عليكم، وذلك القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في» باسطو «.
42
قوله: ﴿اليوم تُجْزَوْنَ﴾ في هذا الظرف وجهان، أحدهما: أنه منصوب ب» أخْرِجوا «بمعنى أخرجوها من أبدانكم، فهذا القول في الدنيا، ويجوز أن يكونَ في يوم القيامة، والمعنى: خلِّصوا أنفسكم من العذاب، فالوقف على قوله» اليوم «. والابتداءُ بقوله ﴿تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون﴾. والثاني: أنه/ منصوب بتُجْزون، والوقف حينئذ على» أنفسَكم «، والابتداء بقوله» اليوم «والمراد باليوم يحتمل أن يكون وقت الاحتضار وأن يكون يوم القيامة، و» عذابَ «مفعول ثان والأول قائم مقام الفاعل، والهُون: الهَوان، قال تعالى: ﴿أَيُمْسِكُهُ على هُون﴾ [النحل: ٥٩] وقال ذو الإِصبع:
١٩٨٥ - اذهَبْ إليك فيما أمي براعيةٍ
ترعى المَخَاضَ ولا أُغْضي على الهُون
وقالت الخنساء:
١٩٨٦ - يُهينُ النفوسَ وهُونُ النفو
سِ يومَ الكريهة أَبْقَى لها
وأضاف العذابَ إلى الهُون إيذاناً بأنه متمكن فيه، وذلك أنه ليس كلُّ عذابٍ يكون فيه هُون، لأنه قد يكون على سبيل الزجر والتأديب، ويجوز أن يكون من باب إضافةِ الموصوفِ الى صفته، وذلك أن الأصل: العذاب الهون، وصفَه به مبالغةً ثم أضافه إليه على حدِّ إضافته في قولهم: بقلة الحمقاء ونحوه. ويدل على أن الهُون بمعنى الهوان قراءة عبد الله وعكرمة له كذلك.
قوله: ﴿بِمَا كُنتُمْ﴾ » ما «مصدريةٌ أي: بكونكم قائلين غير الحق وكونكم مستكبرين. والباء متعلقة بتُجْزون أي بسببه. و» غير الحق «نصبُه من وجهين،
43
أحدهما: أنه مفعول به أي: تذكرون غير الحق. والثاني: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ أي: تقولون القول غير الحق. وقوله:» وكنتم «يجوز فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهر أنه عطف على» كنتم «الأولى فتكون صلةً ل» ما «كما تقدم. والثاني: أنها جملة مستأنفة سِيقت للإِخبار بذلك. و» عن آياته «متعلق بخبر كان، وقُدِّم لأجل الفواصل.
قوله تعالى: ﴿فرادى﴾ : منصوب على الحال من فاعل «جئتمونا»، وجئتمونا فيه وجهان، أحدهما: أنه بمعنى المستقبَل أي: تجيئوننا، وإنما أبرزه في صورة الماضي لتحقُّقه كقوله تعالى: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١] ﴿ونادى أَصْحَابُ الجنة﴾ [الأعراف: ٤٤] والثاني: أنه ماضٍ والمراد به حكاية الحال بين يدي الله تعالى يوم يقال لهم ذلك، فذلك اليوم يكون مجيئهم ماضياً بالنسبة إلى ذلك اليوم.
واختلف الناس في «فُرادى» هل هو جمع أم لا؟ والقائلون بأنه جمع اختلفوا في مفرده، فقال الفراء: «فُرادى جمع فَرْد وفريد وفَرِد وفَرْدان» فجوَّز أن يكون جمعاً لهذه الأشياء. وقال ابن قتيبة: «هو جمع فَرْدان ك سَكْران وسُكارى، وعَجلان وعُجالى». وقال قوم: هو جمع فريد كرديف ورُدَافى، وأسير وأُسارى، قاله الراغب، وقيل: هو جمع فَرَد بفتح الراء، وقيل بسكونها، وعلى هذا فألفُه للتأنيث كألف سُكارى وأُسارى، فَمِنْ ثَمَّ لم ينصرف، وقيل: هو اسم جمع؛ لأنَّ فَرْداً لا يجمع على فُرادى، وقول من قال: إنه جمع له فإنما يريد في المعنى، ومعنى فُرادى: فرداً فرداً، فإذا قلت: جاء القوم فُرادى فمعناه واحداً واحداً، قال الشاعر:
44
١٩٨٧ - ترى النَُعَراتِ الزُّرْقَ تحت لَبانِه
فُرادى ومثنى أَثْقَلَتْهَا صواهِلُهْ
ويقال: فَرِد يَفْرُد فُروداً فهو فارِدٌ وأفردته أنا، ورجل أفرد وامرأة فرداء كأحمر وحمراء، والجمع على هذا فُرْد كحُمْر، ويقال في فرادى: فُراد على زِنَةِ فُعال فينصرف، وهي لغة تميم، وبها قرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة: ﴿ولقد جِئْتُمونا فُرَاداً﴾ وقال أبو البقاء «وقرئ في الشاذ بالتنوين على أنه اسم صحيح، يقال في الرفع فُراد مثل نُوام ورُجال وهو جمع قليل» انتهى، ويقال أيضاً: «جاء القوم فُرادَ» غير منصرف فهو كأُحاد ورُباع في كونه معدولاً صفة، وهي قراءة شاذة هنا. وروى خارجة عن نافع وأبي عمرو كليهما أنهما قرآ «فَرْدى» مثل سَكْرى اعتباراً بتأنيث الجماعة كقوله تعالى: ﴿وَتَرَى الناس سكرى وَمَا هُم بسكرى﴾ [الحج: ٢] فهذه أربع قراءات: المشهورة فرادى، وثلاث في الشاذ: فُراداً كرُجال، فُرادَ كأُحادَ، وفَرْدَى كسكرى.
قوله: ﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ﴾ في هذه الكاف أوجه، أحدها: أنها منصوبةُ المحل على الحال من فاعل «جئتمونا»، فَمَنْ أجاز تعدد الحال أجاز ذلك من غير تأويل، ومَنْ منع ذلك جَعَلَ الكافَ بدلاً من «فُرادى». الثاني: أنها في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: مجيْئُنا مثل مجيئكم يوم خلقناكم، وقدّره مكي: «منفردين انفراداً/ مثل حالكم أول مرة» والأول أحسن
45
لأن دلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة الوصف عليه. الثالث: أن الكاف في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في فرادى أي: مشبهين ابتداء خلقكم، كذا قدَّره أبو البقاء، وفيه نظر؛ لأنهم لم يُشَبَّهوا بابتداء خلقهم، وصوابه أن تقدر مضافاً أي: مُشْبِهةً حالُكم حال ابتداء خلقكم.
قوله ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ منصوب على ظرف الزمان والعامل فيه: خلقناكم، و «مرة» في الأصل مصدر ل: مرَّ يَمُرُّ مَرَّة، ثم اتُّسع فيها فصارت زماناً، قال أبو البقاء: «وهذا يدلُّ على قوة شبه الزمان، بالفعل». وقال الشيخ: «وانتصب» أول مرة «على الظرف أي: أول زمان، ولا يتقدَّر أول خلق، لأنَّ أولَ خَلْقٍ يَسْتدعي خلقاً ثانياً، ولا يخلق ثانياً إنما ذلك إعادة لا خَلْقٌ». يعني أنه لا يجوز أن تكون المَرَّة على بابها من المصدرية، ويقدر أولَ مرةٍ من الخلق لما ذكر.
قوله: ﴿وَتَرَكْتُمْ﴾ فيها وجهان، أحدهما: أنها في محل نصب على الحال من فاعل «جِئْتُمونا»، و «قد» مضمرة على رأيٍ، أي: وقد تركتم. والثاني: أنها لا محلَّ لها لاستئنافها، و «ما» مفعولة ب «ترك»، و «مَنْ» موصولة اسمية، ويضعفُ جَعْلُها نكرة موصوفة والعائد محذوف أي: ما خوَّلْناكموه، و «ترك» هنا متعدية لواجد لأنها بمعنى التخلية، ولو ضُمِّنَتْ معنى صيَّر تَعَدَّت لاثنين، و «خَوَّل» يتعدى لاثنين لأنه بمعنى أعطى ومَلَّك.
والخَوَل: ما أعطاه الله من النِّعَمِ، قال أبو النجم:
46
١٩٨٨ - كُومُ الذُّرَى من خَوَلِ المُخَوَّلِ... فمعنى خَوَّلْته كذا: مَلَّكته الخَوَل فيه، كقولهم: مَوَّلته أي: مَلَّكته المال، وقال الراغب: «والتخويل في الأصل: إعطاء الخَوَل، وقيل: إعطاء ما يصير له خَوَلاً، وقيل: إعطاء ما يَحتاج أن يتعهده، من قولهم: فلانٌ خالُ مالٍ وخائل مال، أي: حسن القيام عليه».
وقوله: ﴿وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ متعلق «بتَرَكْتُم» ويجوز أن يضمَّن «ترك» هنا معنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين أولهما الموصول، والثاني: هذا الظرف فيتعلَّق بمحذوف أي: وصيَّرتم الترك الذي خوَّلناكموه كائناً وراء ظهوركم.
قوله: ﴿وَمَا نرى﴾ الظاهر أنها المتعدية لواحد فهي بصرية، فعلى هذا يكون «معكم» متعلقاً بنرى، ويجوز أن يكون بمعنى علم، فيتعدَّى لاثنين، ثانيهما هو الظرف فيتعلَّق بمحذوف أي: ما نراهم كائنين معكم أي: مصاحبيكم، إلا أن أبا البقاء استضعف هذا الوجهَ وهو كما قال؛ إذ يصير المعنى: وما يعلم شفعاؤكم معكم، وليس المعنى عليه قطعاً. وقال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون أي معكم حالاً من الشفعاء، إذ المعنى يصير أن شفعاءهم معهم ولا نراهم» وفيما قاله نظر لا يَخْفى: وذلك أن النفي إذا دخل على ذات بقيد ففيه وجهان أحدهما: نفي تلك الذات بقيدها، والثاني نفي القيد فقط دون نفي الذات، فإذا قلت: «ما رأيت زيداً ضاحكاً» فيجوز أنك لم تَرَ زيداً البتة، ويجوز أنك رأيته من غير ضحك فكذا هنا، إذ التقدير: وما نرى شفعاءكم مصاحبيكم، يجوز أن لم يروا الشفعاء البتة ويجوز أن يَرَوْهم دون مصاحبيهم لهم، فمن أين يلزم أنهم يكونون معهم
47
ولا يرونهم من هذا التركيب؟ وقد تقدَّم تحقيق هذه القاعدة في أوائل البقرة وفي قوله ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ [البقرة: ٢٧٣].
و «أنهم» سادٌّ مَسَدَّ المفعولين ل «زعم»، و «فيكم» متعلق بنفس شركاء، والمعنى: الذين زعمتم أنهم شركاء لله فيكم أي: في عبادتكم أو في خلقكم لأنكم أشركتموهم/ مع الله في عبادتكم وخلقكم. وقيل «في» بمعنى «عند» ولا حاجة إليه. وقيل: المعنى أنهم يتحملون عنكم نصيباً من العذاب أي: شركاء في عذابكم إن كنتم تعتقدون فيهم أنكم إذا أصابكم نائبةٌ شاركوكم فيها.
قوله: «بينكم» قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص عنه: «بينكم» نصباً، والباقون: «بينُكم» رفعاً. فأمَّا القراءة الأولى ففيها سبعة أوجه، أحسنها: أن الفاعل مضمر يعود على الاتصال، والاتصال وإن لم يكن مذكوراً حتى يعود عليه ضمير لكنه تقدَّم ما يدل عليه وهو لفظة «شركاء»، فإن الشركة تُشْعر بالاتصال، والمعنى: لقد تقطع الاتصال بينكم فانتصب «بينكم» على الظرفية. الثاني: أن الفاعل هو «بينكم» وإنما بقي على حاله منصوباً حَمْلاً له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله ﴿يُفَصَلُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة: ٣] فيمن بناه للمفعول، وكذا قوله تعالى: ﴿وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الجن: ١١] قال الواحدي: «كما جرى في كلامهم منصوباً ظرفاً، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام» ثم قال: في قوله ومنَّا دون ذلك فدون في موضع رفع
48
عنده، وإن كان منصوب اللفظ، ألا ترى أنك تقول: منا الصالحون ومنا الطالحون «.
إلا أن الناس لما حَكَوا هذا المذهب لم يتعرَّضوا لبناء هذا الظرف بل صَرَّحوا بأنه معرب منصوب، وهو مرفوعُ المحل، قالوا: وإنما بقي على نصبه اعتباراً بأغلب أحواله. وفي كلام الشيخ لَمَّا حكى مذهب الأخفش ما يصرح بأنه مبنيٌّ فإنه قال:» وخرَّجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني حملاً على أكثر أحوال هذا الظرف. وفيه نظر لأن ذلك لا يصلح أن يكون علة للبناء، وعللُ البناء محصورة ليس هذا منها، ثم قال الشيخ: «وقد يقال لإِضافته إلى مبني كقوله: ﴿وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الجن: ١١] وهذا ظاهر في أنه جَعَل حَمْله على أكثرِ أحواله علةً لبنائه كما تقدم.
الثالث: أن الفاعل محذوف، و» بينكم «صفة له قامت مقامه، تقديره: لقد تقطَّع وصلٌ بينكم، قاله أبو البقاء، ورَدَّه الشيخ بأنَّ الفاعل لا يُحذف، وهذا غيرُ ردٍّ عليه، فإنه يعني بالحذف عدمَ ذكره لفظاً، وأن شيئاً قام مقامه فكأنه لم يُحْذَفْ.
وقال ابن عطية: «ويكون الفعل مسنداً إلى شيء محذوف، أي: لقد تقطع الاتصال بينكم والارتباط ونحو هذا»، وهذا وجهٌ واضح، وعليه فَسَّر الناس. وردَّه الشيخ بما تقدَّم. ويُجاب عنه بأنه عبر بالحذف عن الإِضمار لأن كلاً منهما غير موجود لفظاً. الرابع: أنَّ «بينَكم» هو الفاعل، وإنما بُني لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣] ففتح «
49
مثل» وهو تابع ل «حق» المرفوع، ولكنه بُني لإِضافته إلى غير متمكن، وسيأتي في مكانه. ومثله قولُ الآخر:
١٩٨٩ - تَتَداعى مَنْخِراه بدَمٍ
مثلَ ما أثمرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ
بفتح «مثل» مع أنها تابعة ل «دمٍ»، ومثله قول الآخر:
١٩٩٠ - لم يمنعِ الشُّربَ منها غيرَ أَنْ نطقَتْ
حمامةٌ في غصونٍ ذاتِ أوقال
بفتح «غير» وهي فاعل «يمنع»، ومثله قول النابغة:
١٩٩١ - أتاني أبيتَ اللعنَ أنك لُمْتني
وتلك التي تَسْتَكُّ منها المسامعُ
مقالةَ أَنْ قد قلتَ سوف أنالُه
وذلك مِنْ تلقاء مثلِك رائِعُ
فمقالة بدل من «أنك لمتني» وهو فاعل، والرواية بفتح تاء «مقالة» لإِضافتها إلى أَنْ وما في حيِّزها.
الخامس: أن المسألة من باب الإِعمال، وذلك أن «تَقَطَّع» و «ضَلَّ» كلاهما يتوجَّهان على «ما كنتمْ تزعُمون» كلٌّ منهما يطلبه فاعلاً، فيجوز أن تكون المسألة من باب إعمال الثاني، وأن تكون من إعمال الأول، لأنه ليس هنا قرينة تُعَيِّن ذلك، إلا أنك قد عرفت مما تقدَّم أن مذهب البصريين اختيار
50
إعمال الثاني، ومذهب الكوفيين بالعكس، وقد تقدَّم تقرير ذلك في البقرة، فعلى اختيار البصريين يكون «ضَلَّ» هو الرفع ل «ما كنتم تزعمون» واحتاج الأول لفاعل فأعطيناه ضميرَه فاستتر فيه، وعلى اختيار الكوفيين يكون «تقطَّع» هو الرافع ل «ما كنتم تزعمون»، وفي «ضلَّ» ضميره فاعلاً به، وعلى كلا القولين ف «بينكم» منصوبٌ على الظرف وناصبه «تقطَّع».
السادس: أن الظرف صلة لموصول محذوف تقديره: تقطع ما بينكم، فحذف الموصول وهو «ما» وقد تقدَّم أن ذلك رأي الكوفيين، وتقدَّم ما استشهدوا به عليه من القرآن وأبيات العرب، واستدل القائلُ/ بذلك بقول الشاعر:
١٩٩٢ - يُدِيرونني عن سالمٍ وأُديرُهمْ
وجِلْدَةُ بين الأنف والعينِ سالمُ
وبقول الآخر:
١٩٩٣ - ما بين عَوْفٍ وإبراهيمَ مِنْ نَسَبٍ
إلا قرابةُ بين الزنج والرومِ
تقديره: وجلدة ما بين، وإلا قرابة ما بين، ويدل على ذلك قراءة عبد الله ومجاهد والأعمش: ﴿لقد تقطَّع ما بينكم﴾.
السابع: قال الزمخشري: «لقد تقطع بينكم: لقد وقع التقطع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل» انتهى. قوله: «بهذا التأويل» قولٌ حسن: وذلك أنه لو أضمر في «تقطع» ضمير المصدر المفهوم منه لصار التقدير: تقطع التقطع بينكم، وإذا تقطع التقطُّع بينهم حَصَل الوصل، وهو ضد
51
المقصود فاحتاج أن قال: إن الفعل أسند إلى مصدره بالتأويل المذكور. إلا أن الشيخ اعترض فقال: «وظاهره أنه ليس بجيد، وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه، لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر فهو محذوف، ولا يجوز حذف الفاعل، ومع هذا التقدير فليس بصحيح؛ لأن شرط الإِسناد مفقود فيه وهو تغايُر الحكم والمحكوم عليه» يعني أنه لا يجوز أن يتحد الفعل والفاعل في لفظ واحد من غير فائدة لا تقول: قام القائم ولا قعد القاعد فتقول: إذا أسند الفعل إلى مصدره: فأمَّا إلى مصدره الصريح من غير إضمار فيلزم حذف الفاعل، وأمَّا إلى ضميره فيبقى تقطَّع التقطع، وهو مثل: قام القائم، وذلك لا يجوز مع أنه يلزم عليه أيضاً فساد المعنى كما تقدم من أنه يلزم ما يحصل لهم الوصل «وهذا الذي أورده الشيخُ وقرَّرته مِنْ كلامه حتى فُهِم لا يَرِدُ؛ لِما تقدم من قول الزمخشري على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التاويل، وقد تقدم ذلك التأويل.
وأما القراءة الثانية ففيها ثلاثة أوجه، أحدها: أنه اتُّسع في هذا الظرفِ، فأُسند الفعل إليه فصار اسماً كسائر الأسماء المتصرف فيها، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: ٥] فاستعمله مجروراً ب» مِنْ «وقوله تعالى ﴿فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] ﴿مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا﴾ [الكهف: ٦١] ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ [المائدة: ١٠٦]. وحكى سيبويه:» هو أحمر بين العينين «وقال عنترة:
52
١٩٩٤ - وكأنما أَقِصُ الإِكامَ عشيةً
بقريب بينِ المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّمِ
وقال مهلهل:
١٩٩٥ - كأنَّ رماحَنا أشطانُ بئرٍ
بعيدةِ بين جالَيْها جَرُورِ
فقد اسْتُعْمِلَ في هذه المواضع كلها مضافاً إليه متصرَّفاً فيه فكذا هنا، ومثله قوله:
١٩٩٦ -.................
وجِلْدَةُ بين الأنف والعين سالم
وقوله:
١٩٩٧ -..............
إلا قرابةُ بين الزنج والروم
وقوله:
١٩٩٨ - ولم يَتْرك النبلُ المُخالِفُ بينها
أخاً لاح [قد] يُرْجى وما ثورةُ الهندِ
يروى برفع» بينها «وفتحه على أنه فاعل ل» مخالف «، وإنما بني لإِضافته إلى مبنيّ، ومثلُه في ذلك: أمام ودون كقوله:
١٩٩٩ - فَغَدَتْ كلا الفَرْجَيْنِ تحسب أنَّه
مَوْلَى المخافةِ خَلْفُها وأمامُها
53
برفع أمام، وقوله:
٢٠٠٠ - ألم تَرَ أني قد حَمَيْتُ حقيقي
وباشَرْتُ حدَّ الموتِ والموتُ دونُها
برفع» دون «.
الثاني: أن «بين» اسمٌ غير ظرف، وإنما معناها الوصل أي: لقد تَقَطَّع وصلكم. ثم للناس بعد ذلك عبارتان تؤذن بأن «بين» مصدر بان يبين بَيْناً بمعنى بَعُد، فيكون من الأضداد أي إنه مشترك اشتراكاً لفظياً يُستعمل للوصل والفراق كالجَوْن للأسود والأبيض، ويُعْزى هذا لأبي عمرو وابن جني والمهدوي والزهراوي، وقال أبو عبيد: / «وكان أبو عمرو يقول: معنى تقطَّع بينكم: تقطَّع وصلكم، فصارت هنا اسماً من غير أن يكون معها» ما «. وقال الزجاج:» والرفع أجود، ومعناه: لقد تقطَّع وَصْلُكم «، فقد أطلقوا هؤلاء أنَّ» بَيْن «بمعنى الوصل، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
إلا أنَّ ابن عطية طعن فيه وزعم أنه لم يُسْمع من العرب» البين «بمعنى الوصل، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية، أو أنه أُريد بالبَيْن الافتراقُ، وذلك مجازٌ عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد تقطَّعت المسافة بينكم لطولها فعبَّر عن ذلك بالبين. قلت: فظاهر كلام ابن عطية يؤذن بأنه فَهِمَ أنها بمعنى الوصل حقيقةً، ثم رَدَّه بكونِه لم يُسْمع من العرب، وهذا منه غير مُرْضٍ، لأنَّ أبا عمروٍ وأبا عبيد وابن جني والزهراوي والمهدوي والزجاج أئمة يُقبل قولُهم. وقوله:» وإنما انتُزِع من هذه الآية «ممنوعٌ بل ذلك مفهوم من لغة العرب، ولو لم يكن ممَّن نقلها إلا أبو عمرو لكفى به، وعبارته تؤذن بأنه مجاز، ووجه
54
المجاز كما قاله الفارسي: أنه لمَّا استعمل» بين «مع الشيئين المتلابسين في نحو:» بيني وبينك شركَةٌ، وبيني وبينك رحم وصداقة «صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوصلة، وعلى خلاف الفرقة، فلهذا جاء لقد تقطَّع وصلكم». وإذا تقرَّر هذا فالقول بكونه مجازاً أولى من القول بكونه مشتركاً، لأنه متى تعارض الاشتراك والمجاز فالمجاز خير منه عند الجمهور.
وقال أبو علي أيضاً: «ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استُعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتُّسِع فيه، أو يكون الذي هو مصدر، فلا يجوز أن يكونَ هذا القسمَ لأن التقدير يصير: لقد تقطع افتراقكم، وهذا خلاف القصد والمعنى، ألا ترى أن المراد: وصلكم وما كنتم تتألفون عليه. فإن قلت: كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل وأصله الافتراق والتباين؟ قيل: إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو:» بيني وبينك شركة «، فذكر ما قدَّمْتُه عنه من وجه المجاز إلى آخره.
وأجاز أبو عبيد والزجاج وجماعة قراءة الرفع. قال أبو عبيد:» وكذلك نقرؤها بالرفع لأنَّا قد وَجَدْنا العرب تجعل «بين» اسماً من غير ما، ويُصَدِّق ذلك قولُه تعالى: ﴿بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا﴾ [الكهف: ٦١] فجعل «بين» اسماً من غير ما، وكذلك قوله: ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] قال: «وقد سمعناه في غير موضع من أشعارها» ثم ذكر ما ذَكَرْتُه عن أبي عمرو بن العلاء، ثم قال: «وقرأها الكسائي نصباً، وكان يعتبرها بحرف عبد الله» لقد تقطع ما بينكم «. وقال
55
الزجاج:» والرفعُ أجودُ والنصب جائز، والمعنى: لقد تقطع ما كان من الشركة بينكم «. الثالث: أن هذا كلام محمول على معناه إذ المعنى: لقد تفرق جمعكم وتشتَّت، وهذا لا يصلح أن يكون تفسير إعراب.
قوله: ﴿مَّا كُنتُمْ﴾ » ما «يجوز أن تكون موصولةً اسمية أو نكرة موصوفة أو مصدرية، والعائد على الوجهين الأولين محذوف بخلاف الثالث، والتقدير: تزعمونهم شركاء أو شفعاء، فالعائد هو المفعول الأول و» شركاء «هو الثاني، فالمفعولان محذوفان اختصاراً للدلالة عليهما إن قلنا: إن» ما «موصولةٌ اسمية أو نكرة موصوفة. ويجوز أن يكون الحذف حَذْفَ اقتصار إن قلنا إنها مصدرية، لأن المصدرية لا تحتاج إلى عائد بخلاف غيرها، فإنها تفتقر إلى عائد فلا بد من الالتفات إليه وحينئذ يلزم تقدير المفعول الثاني، ومن الحذف اختصاراً قوله:
قوله تعالى: ﴿فَالِقُ الحب﴾ : يجوز/ أن تكون الإِضافة محضةً على أنه اسم فاعل بمعنى الماضي لأن ذلك قد كان، ويدل عليه قراءة عبد الله «فلق» فعلاً ماضياً، ويجوز أن تكون الإِضافةُ غيرَ محضة على أنه بمعنى الحال أو الاستقبال، وذلك على حكاية الحال، فيكون «الحَبِّ» مجرورَ اللفظ منصوب المحل. والفِلْق: هو شِقُّ الشيء، وقيده الراغب بإبانة بعضِه من بعض، والفَلَق: المطمئنُّ مِنَ الأرض بين الرَّبْوَتين، والفلَق من قوله {
56
أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} [الفلق: ١] ما علَّمه لموسى عليه السلام حتى فلق به البحر. وقيل: الصبح. وقيل: هي الأنهار المشارُ إليها بقوله: ﴿وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً﴾ [النمل: ٦١] والفِلْق بالكسر بمعنى المفلوق كالنِّكث والنِّقض، ومنه: «سمعته من فِلْق منه» وقيل: الفِلْق العَجَبُ، والفَليق والفالِقُ ما بين الجبلين وما بين السنامين من البعير، وفسَّر بعضهم «فالق» هنا بمعنى خالق، قيل: ولا يُعرفُ هذا لغةً، وهذا لا يُلتفت إليه لأن هذا منقول عن ابن عباس والضحاك أيضاً، لا يقال ذلك على جهة التفسير للتقريب، لأن الفراء نَقَل في اللغة أن فَطَر وخلق وفلق بمعنى واحد.
[والنَّوى اسم جنسٍ مفرده نواة على حدّ] قمح وقمحة. والنوى: البعد أيضاً، ويقال: نوت البُسْرة وأنْوَتْ: اشتدَّت نواتها، ولام «النواة» ياء لأنَّ عينَها واو، والأكثر التغاير.
قوله: «يُخْرج» يجوز فيه وجهان أحدهما: أنها جملة مستأنفة فلا محل لها. والثاني: أنها في موضع رفع خبراً ثانياً ل إنَّ، وقوله «ومُخْرِج» يجوز فيه وجهان أيضاً، أحدهما: أنه معطوف على فالق - ولم يذكر الزمخشري غيره - أي: الله فالق ومخرج، أخبر عنه بهذين الخبرين، وعلى هذا فيكون «يخرج» على وجهه، وعلى كونه مستأنفاً يكون معترضاً على جهة البيان لِما قبله من معنى الجملة. والثاني: أن يكون معطوفاً على «يخرج»، وهل يُجعل الفعل في تأويل اسم ليصح عَطْفُ الاسم عليه، أو يُجعل الاسم بتأويل الفعل ليصحَّ عطفه عليه؟ احتمالان مبنيان على ما تقدم في «يخرج» : إن قلنا إنه مستأنف فهو فعل غير مؤول باسم، فيُرَدُّ الاسم إلى معنى الفعل، فكأن مُخْرِجاً في قوة
57
يُخْرج، وإن قلنا: إنه خبر ثان ل «إنَّ» فهو بتأويل اسم واقعٍ موقع خبر ثان، فلذلك عُطِفَ عليه اسم صريح، ومِنْ عَطْفِ الاسم على الفعل لكون الفعل بتأويل اسم قولُ الشاعر:
وقوله تعالى: ﴿فَالِقُ الإصباح﴾ : كقوله: «فالق الحب» فيما تقدم. والجمهور على كسر الهمزة وهو المصدر، يقال: أصبح يصبح إصباحاً، وقال الليث والزجاج: إن الصبح والصباح والإِصباح واحد، وهما أول النهار، وكذا الفراء. وقيل: الإِصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقيل: هو إضاءة الفجر، نُقل ذلك عن مجاهد، والظاهر أن الإِصباح في الأصل مصدر سُمِّي به الصبح وكذا الإِمساء، قال امرؤ القيس:
58
٢٠٠٥ - ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِ
بصبحٍ وما الإِصباح منك بأمثلِ
وقرأ الحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر: الأصباح: بفتح الهمزة وهو جمع صُبْح نحو: قُفْل وأقفال وبُرْد وأبراد، وينشد قوله:
٢٠٠٦ - أفنى رياحاً وبني رياحِ
تناسخُ الأمساءِ والأصباح
بفتح الهمزة من الأمساء والأصباح على أنهما جمع مُسْي وصُبْح، وبكسرها على أنهما مصدران. وقرئ/ «فالقُ الإِصباحَ» بنصب الإِصباح وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله:
٢٠٠٧ -.................
ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
وقرئ: ﴿والمقيمي الصلاة﴾ [الحج: ٣٥] و ﴿لَذَآئِقُو العذاب﴾ [الصافات: ٣٨] بالنصب حملاً للنون على التنوين، إلا أن سيبويه لا يجيز حذف التنوين لالتقاء الساكنين إلا في شعر، وقد أجازه المبرد في السَّعة. وقرأ يحيى والنخعي وأبو حيوة: «فلق» فعلاً ماضياً، وقد تقدم أن عبد الله قرأ الأولى كذلك، وهذا أدلُّ دليلٍ على أن القراءة عندهم سنة متبعة، ألا ترى أن عبد الله كيف قرأ «فلق الحب» فعلاً ماضياً، وقرأ «فالق الأَصباح»، اسمَ فاعل،
59
والثلاثة المذكورون بعكسه. قال الزمخشري: «فإن قلت: فما معنى فَلَق الصبح، والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح كما قال:
٢٠٠٨ -...............
تَفَرِّيَ ليلٍ عن بياض نهار
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يُراد: فالق ظلمة الإِصباح، يعني أنه على حذف مضاف. والثاني: أن يراد فالق الإِصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره، وقالوا: انشق عمود الفجر وانصدع، وسَمَّوا الفجرَ فَلَقاً بمعنى مفلوق، قال الطائيُ:
٢٠٠٩ - وأزرقُ الفجر يبدو قبل أبيضه
................
وقرئ: فالق وجاعل بالنصب على المدح». انتهى. وأنشد غيره:
٢٠١٠ - فانشقَّ عنها عمودُ الفَجْرِ جافلةً
عَدْوَ النَّحوص تخافُ القانِصَ اللَّحِما
قوله: ﴿وَجَاعِلَ الليل﴾ قرأ الكوفيون: «جعل» فعلاً ماضياً، والباقون بصيغة اسم الفاعل، والرسم يحتملهما، والليل منصوب عند الكوفيين بمقتضى قراءتهم، ومجرور عند غيرهم، ووجه قراءتهم له فعلاً مناسبته
60
ما بعده فإن بعده أفعالاً ماضية نحو: ﴿جَعَلَ لَكُمُ النجوم﴾ [الأنعام: ٩٧] ﴿وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم﴾ [الأنعام: ٩٨] إلى آخر الآيات، ويكون «سكناً» : إما مفعولاً ثانياً على أن الجعل بمعنى التصيير، وإمَّا حالاً على أنه بمعنى الخلق، وتكون الحال مقدرة.
وأمَّا قراءة غيرهم فجاعل يحتمل أن يكون بمعنى المضيِّ، وهو الظاهر، ويؤيده قراءة الكوفيين، والماضي عند البصريين لا يعمل إلا مع أل خلافاً لبعضهم في منَعِ إعمال المعرَّف بها، وللكسائي في إعماله مطلقاً، وإذا تقرر ذلك ف «سَكَناً» منصوب بفعل مضمر عند البصريين، وعلى مقتضى مذهب الكسائي ينصبه به. وقد زعم أبو سعيد السيرافي أن اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يجوز أن يعمل في الثاني وإن كان ماضياً، قال: «لأنه لَمَّا أضيف إلى الأول تعذَّرت إضافته للثاني فتعيَّن نصبُه له». وقال بعضهم: «لأنه بالإِضافة أشبه المعرف بأل فعمل مطلقاً» فعلى هذا «سكناً» منصوب به أيضاً، وأما إذا قلنا إنه بمعنى الحال والاستقبال فنصبُه به. و «سَكَنٌ» فَعَل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى مقبوض.
قوله: ﴿والشمس والقمر حُسْبَاناً﴾ الجمهور بنصب «الشمس» و «القمر» وهي واضحة على قراءة الكوفيين أي: بعطف هذين المنصوبين على المنصوبين ب «جعل»، و «حُسْباناً» فيه الوجهان في «سكناً» من المفعول الثاني والحال، وأمَّا على قراءة الجماعة فإن اعتقدنا كونه ماضياً فلا بد من إضمار فعلٍ ينصبُهما أي: وجعل الشمس، وإن قلنا إنه غير ماض فمذهب سيبويه أيضاً أن النصب بإضمار فعل، تقول: «هذا ضاربُ زيدٍ الآن أو غداً أو عمراً» بنصب عمرو، وبفعل مقدر لا على موضع المجرور باسم الفاعل، وعلى رأي
61
غيره يكون النصبُ على محل المجرور، وينشدون قوله: /
٢٠١١ - هل أنت باعثُ دينارٍ لحاجتنا
أو عبدَ رَبٍّ أخاعَوْن بن مِخْراقِ
بنصب «عبد» وهو محتمل للمذهبين. وقال الزمخشري: «أو يعطفان على محل» الليل «. فإن قلت: كيف يكون ل» الليل «محلٌّ والإِضافة حقيقة لأن اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضيّ ولا تقول: زيدٌ ضاربٌ عمراً أمس؟ قلت: ما هو بمعنى الماضي، وإنما هو دالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة.
قال الشيخ:» أمَّا قوله إنما هو دالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة، يعني فيكون عاملاً ويكون للمجرور إذ ذاك بعده موضع فيعطف عليه «الشمس والقمر». قال: «وهذا ليس بصحيح، إذا كان لا يتقيد بزمن خاص، وإنما هو للاستمرار، فلا يجوز له أن يعمل، ولا لمجروره مَحَلٌّ، وقد نَصُّوا على ذلك وأنشدوا على ذلك:
٢٠١٢ - أَلْقَيْتَ كاسبهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ
..............
فليس الكاسب هنا مقيداً بزمان، وإذا تقيد بزمان: فإما أن يكون ماضياً دون أل فلا يعمل عند البصريين، أو بأل أو حالاً أو مستقبلاً فيعمل ويضاف على ما أُحْكِمَ في النحو. ثم قال:» وعلى تقدير تسليم أن الذي للاستمرار
62
يعمل فلا يجوز العطف على محل مجروره، بل مذهبُ سيبويه في الذي بمعنى الحال والاستقبال أن لا يجوز العطف على محل مجروره، بل النصبُ بفعل مقدر، لو قلت: هذا ضارب زيدٍ وعمراً لم يكن نصب «عمراً» على المحلّ على الصحيح وهو مذهب سيبويه؛ لأن شرط العطف على الموضع مفقود وهو أن يكون للموضع مُحْرِزٌ لا يتغير، وهذا موضحٌ في علم النحو «.
قلت: وقد ذكر الزمخشري في أول الفاتحة في ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: ٤] أنه لمَّا لم يُقْصد به زمانٌ صارت إضافته محضةً فلذلك وقع صفةً للمعارف، فمِنْ لازم قوله إنه يتعرَّف بالإِضافة أن لا يعمل، لأن العامل في نية الانفصال عن الإِضافة، ومتى كان في نية الانفصال كان نكرة، ومتى كان نكرة فلا يقع صفة للمعرفة. وهذا حسن حيث يَرُدُّ عليه بقوله، وقد تقدم تحقيق هذا في الفاتحة.
وقرأ أبو حيوة: ﴿وَالشَّمْسِ والقَمَرِ﴾ جراً نسقاً على اللفظ. وقرئ شاذاً ﴿والشَّمْسُ والقَمَرُ﴾ رفعاً على الابتداء، وكان مِنْ حقه أن يقرأ «حسبانٌ» رفعاً على الخبر، وإنما قرأه نصباً، فالخبر حينئذ محذوف تقديره: مجعولان حُسْباناً أو مخلوقان حُسْباناً. فإن قلت: لا يمكن في هذه القراءة رفع «حسبان» حتى نُلْزِمَ القارئ بذلك؛ لأن الشمس والقمر ليسا نفس الحسبان. فالجواب: أنهما في قراءة النصب: إمَّا مفعولان أولان و «حسْباناً» ثانٍ، وإمَّا صاحبا حال وحسباناً حال، والمفعول الثاني هو الأول، والحال لا بد وأن تكون صادقة على ذي الحال، فمهما كان الجواب لكم كان لنا والجواب ظاهر مما تقدم.
63
والحُسبان فيه قولان، أحدهما: أنه جمع، فقيل: جمع حِساب كرِكاب ورُكبان وشِهاب وشُهبان، وهذا قول أبي عبيد والأخفش وأبي الهيثم والمبرد. وقال أبو البقاء: «هو جمع حُسْبانة» وهو غلط؛ لأن الحُسْبانة القطعة من النار، وليس المراد ذلك قطعاً. وقيل: بل هو مصدر كالرُّجْحان والنُّقْصان والخُسْران، وأما الحساب فهو اسمٌ لا مصدرٌ، وهذا قول ابن السكيت. وقال الزمخشري: «والحُسْبان بالضم مصدرُ حَسَبت يعني بالفتح كما أن الحِسبان بالكسر يعني مصدر حَسِبْتُ بالكسر، ونظيره الكُفران والشُّكْران» وقيل: بل الحُسبان والحِساب مصدران وهو قول أحمد بن يحيى.
وأنشد أبو عبيد عن أبي زيد في مجيء الحسبان مصدراً قوله:
٢٠١٣ - على الله حُسْباني إذا النفسُ أشرفَتْ
على طمعٍ أو خاف شيئاً ضميرُها
وانتصاب «حسباناً» على ما تقدم من المفعولية أو الحالية. وقال ثعلب عن الأخفش: إنه منصوبٌ على إسقاط الخافض والتقدير: يجريان بحسبان كقوله ﴿لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً﴾ / أي: من طين. وقوله: «ذلك» إشارةً إلى ما تقدم من الفَلْق أو الجعل أو جميعِ ما تقدَّم من الأخبار في قوله «فالق الحَبِّ» إلى «حُسْبانا».
وقوله تعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمُ النجوم﴾ : الظاهر أن «جعل»
64
بمعنى خلق فتكون متعديةً لواحد، و «لكم» متعلق ب «جَعَلَ» وكذا «لتهتدوا». فإن قيل: كيف يتعلَّق حرفا جر متَّحدان في اللفظ والمعنى؟ فالجواب أن الثاني بدلٌ من الأول بدلُ اشتمال بإعادة العامل، فإن «ليهتدوا» جار ومجرور، إذ اللام لام كي، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» عند البصريين وقد تقدَّم تقريره. والتقدير: جعل لكم النجوم لاهتدائكم، ونظيره في القرآن ﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ﴾ [الزخرف: ٣٣] ف «لبيوتهم» بدلٌ من «لمن يكفر» بإعادة العامل، وقال ابن عطية: «وقد يمكن أن يكون بمعنى» صيَّر «ويقدَّر المفعول الثاني من لتَهْتدوا، أي: جعل لكم النجوم هداية».
قال الشيخ: «وهو ضعيفٌ لندور حَذْفِ أحد مفعولي ظنَّ وأخواتها» قلت: لم يَدَّع ابنُ عطيَّة حذف المفعول الثاني حتى يجعله ضعيفاً إنما قال: إنه مِنْ «لتهتدوا» أي: فيُقَدَّر متعلق الجار الذي وقع مفعولاً ثانياً كما يُقدَّر في نظائره والتقدير: جعل لكم النجوم مستقرة أو كائنة لاهتدائكم. وأمَّا قوله: «أي جَعَل لكم النجومَ هدايةً» فلإِيضاح المعنى وبيانه.
والنجوم معروفة وهي جمع نجم، والنجم في الأصل مصدر يقال: نَجَم الكوكبُ ينجُمُ نَجْماً ونُجوماً فهو ناجم، ثم أُطلق على الكوكب مجازاً، فالنجم يستعمل مرة اسماً للكوكب ومرة مصدراً، والنجوم تستعمل مرة للكواكب وتارة مصدراً ومنه: نَجَمَ النبت أي: طَلَع، ونَجَم قرن الشاة وغيرها، والنجم من النبات ما لا ساق له، والشجرُ ما له ساق، والتنجيم: التفريق، ومنه نجوم الكنانة تشبيهاً بتفرق الكواكب.
قوله تعالى: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾ : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف، والباقون بفتحها، وأمَّا «مُسْتَوْدَع» فالكلُّ قرأه مفتوحَ الدال، وقد روى الأعور عن أبي عمرو بن العلاء كسرها. فَمَنْ كسر القاف جعل «مستقرَّاً» اسم فاعل، والمراد به الأشخاص وهو مبتدأ محذوف الخبر أي: فمنكم مستقر: إمَّا في الأصلاب أو البطون أو القبور، وعلى هذه القراءة تتناسق «ومستودَع» بفتح الدال.
وجوَّز أبو البقاء في «مستقِر» بكسر القاف أن يكون مكاناً وبه بدأ قال: «فيكون مكاناً يستقر لكم» انتهى، يعني: والتقدير: ولكم مكان يستقر. وهذا ليس بظاهرٍ البتةَ، إذ المكان لا يوصف بكونه مستقراً بكسر القاف بل بكونه مُسْتَقَرَّاً فيه. وأمَّا مستودَع بفتحها فيجوز أن يكون اسم مفعول، وأن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً، فيقدر الأول: فمنكم مستقر في الأصلاب ومستودع في الأرحام، أو مستقر في الأرض ظاهراً ومستودع فيها باطناً، ويقدر للثاني: فمنكم مستقر ولكم مكان تستودعون فيه، ويقدر للثالث: فمنكم مستقر ولكم استيداع.
وأمّا مَنْ فتح القاف فيجوز فيه وجهان فقط: أن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً أي: فلكم مكان تستقرون فيه وهو الصُّلب أو الرحم أو الأرض، أو لكم استقرار فيما تقدم، وينقص أن يكون اسم مفعول لأن فعله قاصر لا يُبنى منه اسم مفعول بخلاف مستودع حيث جاز فيه الأوجه الثلاثة.
وتوجيه قراءة أبي عمرو في رواية الأعور عنه في «مستودِع» بالكسر على أن يُجعل الإِنسانُ كأنه مُسْتَوْدِعُ رزقِه وأجَله، حتى إذا نَفِدا كأنه ردَّهما
66
وهو مجاز حسن، ويقوِّي ما قلته قولُ الشاعر:
٢٠١٤ - وما المالُ والأهلون إلا وديعةٌ
ولا بُدَّ يوماً أن تُرَدَّ الودائعُ
والإِنشاء: الإِحداث والتربية، ومنه: إنشاء السحاب، وقال تعالى: ﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية﴾ [الزخرف: ١٨] فهذا يُراد به التربية، وأكثر ما يستعمل الإِنشاء في إحداث الحيوان، وقد جاء في غيره، قال تعالى: ﴿وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال﴾ [الرعد: ١٢]. والإِنشاءُ: قسيمُ الخبر، وهو ما لم يكن له خارجٌ، وهل هو مندرجٌ في الطلب أو بالعكس أو قسم برأسه؟ خلافٌ، وقيل: على سبيل التقريب مقارنة اللفظ لمعناه. وقال الزمخشري: «فإن قلت: فَلِمَ قيل» يعلمون «مع ذكر النجوم، و» يفقهون «مع ذِكْرِ إنشاء بني آدم؟ قلت: كأن إنشاء الإِنس من نفس واحدة وتصريفهم على أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعةً وتدبيراً، فكان ذِكْرُ الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيقُ نظر مطابقاً له».
قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا﴾ : فيه التفاتٌ من غَيْبة إلى تكلم بنون العظمة، والباء في «به» للسببية، وقوله ﴿نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قيل: المراد كل ما تسمَّى نباتاً في اللغة. وقال الفراء: «رزق كل شيء أي: ما يصلحُ أن يكون غذاءً لكل شيء فيكون مخصوصاً بالمتغذَّى به». وقال الطبري: «هو جميع ما ينمو من الحيوان والنبات والمعادن؛ لأنَّ كل ذلك يتغذَّى بالماء» ويترتب على ذلك صناعة إعرابية، وذلك أنَّا إذا قلنا بقولٍ غيرِ الفراء كانت
67
الإضافة راجعةً في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها، إذ يصير المعنى على ذلك: فأخرَجْنا به كلَّ شيء منبَت فإن النبات بمعنى المُنْبَت، وليس مصدراً كهو في ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧] وإذا قلنا بقول الفراء كانت الإِضافة إضافةً بين متباينين، إذ يصير المعنى: غذاء كل شيء أو رزقه، ولم ينقل الشيخ عن الفراء غيرَ هذا القول، والفراء له في هذه الآية القولان المتقدمان فإنه قال: «رزق كل شيء» قال: «وكذا جاء في التفسير وهو وجه الكلام، وقد يجوز في العربيَّة أن تضيف النبات إلى كل شيء، وأنت تريد بكل شيء النبات أيضاً، فيكون مثل قوله ﴿حَقُّ اليقين﴾ [الواقعة: ٩٥] واليقين هو الحق».
قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ﴾ في الهاء وجهان أحدهما: أن تعود على النبات وهذا هو الظاهر ولم يذكر الزمخشري غيره، وتكون «مِنْ» على بابها مِنْ كونها لابتداء الغاية أو تكون للتبعيض، وليس بذلك. والثاني: أن تعود على الماء وتكون «مِنْ» سببية، وذكر أبو البقاء الوجهين فقال: «وأخرجنا منه أي: بسببه. ويجوز أن تكون الهاء في» منه «راجعة على النبات وهو الأشبه، وعلى الأول يكون» فأخرجنا «بدلاً من» أخرجنا «الأول». أي إنه يُكتفى في المعنى بالإِخبار بهذه الجملة الثانية وإلا فالبدل الصناعي لا يظهر، والظاهر أنَّ «فأخرجنا» عطف على «فأخرجنا» الأول. وقال الشيخ: «وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً مِنْ فأخرجنا». قلت: إنما جعله بدلاً بناء على عود الضمير في «منه» على الماء فلا يصحُّ أن يحكى عنه أنه جعله بدلاً مطلقاً؛ لأن البدلية لا تُتَصَوَّرُ على جعل الهاء في «منه» عائدة على النبات.
68
والخَضِر بمعنى الأخضر كَعَوِر وأعور. قال أبو إسحاق «يقال اخضَرَّ يخضرُّ فهو خَضِر وأخضر كاعوَّر فهو عَوِرٌ وأعورُ» والخُضْرة أحدُ الألوان وهي بين البياض والسواد لكنها إلى السواد أقرب، ولذلك أُطلق الأسود على الأخضر وبالعكس، ومنه «سَواد العراق» لخضرة أرضه بالشجر.
وقال تعالى: ﴿مُدْهَآمَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٦٤] أي: شديدتا السواد لريِّهما. والمخاضرة: مبايَعَةُ الخُضَر والثمار قبل بلوغها، والخَضِيرة نخلةٌ ينتثر بُسْرُها أخضرَ. وقوله عليه السلام: «إياكم وخضراءَ الدِّمَن» فقد فسَّره هو عليه السلام بقوله: «المرأة الحسناء في المنبت السوء» والدِّمَن: مطارحُ الزِّبالة وما يُسْتَقْذر، فقد ينبُت فيها ما يستحسنه الرائي.
قوله: ﴿نُّخْرِجُ مِنْهُ﴾ أي: من الخَضِر. والجمهور على «نُخْرج» مسنداً إلى ضمير المعظم نفسه. وقرأ ابن محيصن والأعمش «يخرج» بياء الغيبة مبنياً للمفعول، «حَبٌّ» قائم مقام فاعله، وعلى كلتا القراءتين تكون الجملة صفة ل «خَضِراً» وهذا هو الظاهر، وجوَّزوا فيها أن تكون مستأنفةً، ومتراكب رفعاً ونصباً صفة ل «حَبّ» بالاعتبارين.
قوله: ﴿وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ﴾ يجوز في هذه الجملة أوجه، أحدها: وهو أحسنها أن يكون «من النخل» خبراً مقدماً، و «من طَلْعِها» بدل بعض من كل بإعادة العامل فهو كقوله: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله﴾ [الممتحنة: ٦] و «قِنْوان» مبتدأ مؤخر، وهذه جملةٌ ابتدائية
69
عُطِفَتْ على الفعلية قبلها. والثاني: أن يكونَ «قِنْوان» فاعلاً بالجار قبله وهو من النخل، و «من طلعها» على ما تقدم من البدلية، وذلك على رأي الأخفش. الثالث: أن تكون المسألة من باب التنازع، يعني أن كلاً من الجارَّيْن يطلب قنواناً على أنه فاعل على رأي الأخفش: فإن أعملت الثاني وهو مختار قول البصريين أضمرت في الأول، وإن أَعْمَلْتَ الأول كما هو مختار قول الكوفيين أضمرت في الثاني، قال أبو البقاء: «والوجه الآخر أن يرتفع» قِنْوان «على أنه فاعل» من طلعها «فيكون في» من النخل « [ضميرٌ يفسره قنوان] وإن رفعت» قنوان «بقوله» ومن النخل «على قول مَنْ أعمل أول الفعلين جاز، وكان في» من طلعها «ضمير مرفوع». قلت: فقد أشار بقوله «على أنه فاعل» من طلعها «إلى إعمال الثاني.
الرابع: أن يكون» قنوان «مبتدأ و» من طلعها «الخبر، وفي» من النخل «ضمير تقديره: ونبت من النخل شيء أو ثمر فيكون» من طلعها «بدلاً منه. قاله أبو البقاء، وهذا كلامٌ لا يَصِحُّ لأنه بعد أن جعل» مِنْ طلعها «الخبر فكيف يُجْعل بدلاً؟ فإن قيل: يجعله بدلاً منه لأن» من النخل «خبر للمبتدأ. فالجواب أنه قد قَدَّم هذا الوجه وجعله مقابلاً لهذا فلا بد أن يكون هذا غيرَه، فإنه قال قبل ذلك:» وفي رفعه وجهان أحدهما: هو مبتدأ وفي خبره وجهان، أحدهما هو «من النخل» وم نطَلْعِها بدل بإعادة الجار «.
قال الشيخ: «وهذا إعراب فيه تخليط».
70
الخامس: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر لدلالة «أخرجنا» عليه تقديره: ومخرجةٌ من طلع النخل قنوان «هذا نص الزمخشري، وهو كما قال الشيخ لا حاجة إليه؛ لأن الجملة مستقلة في الإِخبار بدونه.
السادس: أن يكون» من النخل «متعلقاً بفعل مقدر، ويكون ﴿مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ﴾ جملة ابتدائية في موضع المفعول ب» نخرج «. وإليه ذهب ابن عطية فإنه قال:» ومن النخل تقديره: «ونُخْرِجُ من النخل» و «من طلعها قنوان» ابتداء خبره مقدم، والجملة في موضع المفعول ب «نخرج» قال الشيخ: «وهذا خطأ لأنَّ ما يتعدَّى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله، إلا إذا كان الفعل مما يُعَلَّق، وكان في الجملة مانعٌ يمنع من العمل في شيء من مفرداتها على ما شُرِحَ في النحو، و» نُخْرج «ليس ممَّا يُعَلَّق، وليس في الجملة ما يمنع من العمل في مفرداتها، إذ لو سُلِّط الفعلُ على شيء من مفردات الجملة لكان التركيب» ونخرج من النخل مِنْ طَلْعِها قنواناً «بالنصب مفعولاً به.
وقال الشيخ:» ومن قرأ: «يُخْرَج منه حب متراكب» جاز أن يكون قوله ﴿وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ﴾ معطوفاً عليه نحو: «يُضرب في الدار زيد وفي السوق عمرو» أي أنه يُعطف «قنوان» على «حب»، و «من النخل» معطوف على «منه» ثم قال: «وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه» والقِنْوان: جمع ل «قِنْو» كالصِنْوان جمع لصِنْو، والقِنْوُ: العِذْق بكسر العين وهو عنقودُ النخلة، ويقال له الكِباسة، قال امرؤ القيس:
71
٢٠١٥ - وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ
أثيثٍ كقِنْو النخلة المُتَعَثْكِل
وقال أيضاً:
٢٠١٦ - سوامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثٍ فروعُه
وعالَيْنَ قِنْواناً من البُسْر أحمرا
والقنوان: جمع تكسير قال أبو علي: «الكسرة التي في قِنْوان ليست التي كانت في قِنْو لأن تلك حذفت في التكسير وعاقبتها كسرة أخرى كما قُدِّر تغيير كسرة» هِجان «جمعاً عن كسرته مفرداً، فكسرة هِجان جمعاً ككسرة ظِراف». قال الواحدي: «وهذا مما توضحه الضمة في آخر» منصور «على قولِ مَنْ قال» يا حارُ «يعني بالضمة ليست التي كانت فيه/ في قول مَنْ قال» يا حارِ «يعني بالكسر». وفيه لغات: فلغةُ الحجاز «قِنْوان» بكسر القاف، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الأعمش والحباب عن أبي عمرو والأعرج بضمِّها، ورواها السلمي عن علي بن أبي طالب، وهي لغة قيس، ونقل ابن عطية عكس هذا فجعل الضمَّ لغةَ الحجاز فإنه قال: «وروي عن الأعرج ضم القاف على أنه جمع» قُنو «بضمِّ القاف»، قال الفراء: «وهي لغة قيس وأهل الحجاز، والكسرُ أشهر في العرب».
واللغة الثالثة: قَنْوان بفتح القاف وهي قراءة أبي عمرو في رواية هارون عنه. وخرَّجها ابن جني على أنها اسم جمع لِقنْو لا جمعاً إذ ليس في صيغ
72
الجموع ما هو على وزن فَعْلان بفتح الفاء، ونظَّره الزمخشري برَكْب، وأبو البقاء بالباقر، وتنظير أبي البقاء أولى لأنه لا خلاف في الباقر أنه اسم جمع، وأمَّا رَكْب ففيه خلاف لأبي الحسن مشهور، ويدل على ذلك أيضاً شيء آخر وهو أنه قد سُمِعَ في المفرد كَسْرُ القاف وضمها فجاء الجمع عليهما. وأمَّا الفتح فلم يَرِدْ في المفرد.
واللغة الرابعة قُنْيان بضم القاف مع الياء دون الواو. والخامسة: قِنْيان بكسر القاف مع الباء أيضاً، وهاتان لغتا تميم وربيعة. وأما المفرد فلا يقولونه بالياء أصلاً بل بالواو سواء كسروا القاف أم ضمُّوها، فلا يقولون إلا قِنواً وقُنوا، ولا يقولون قِنيا ولا قُنيا، فخالف الجمعُ مفرده في المادة وهو غريب.
واختُلف في مدلول «القِنْو» فقيل: هو الجُمَّار وهذا يكاد يكون غلطاً، وكيف يُوْصَفُ بكونه دانياً أي: قريب الجنى، والجُمَّار إنما هو في قلب النخلة، والمشهور أنه العِذْق كما تقدم ذلك. قال أبو عبيد: «وإذا ثَنَّيْتَ قِنْواً قلت: قِنوان بكسر النون، ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل: صِنْوٌ وصنوان، والإِعراب على النون في الجمع، وليس لهما في كلام العرب نظير» قال:
٢٠١٧ -..............
ومالَ بقِنْوانٍ مِنَ البُسْرِ أحمرا
قلت: إذا وُقف على «قنوان» المثنى رفعاً وعلى «قنوان» جمعاً وقع الاشتراك اللفظي، ألا ترى أنك إذا قلت: «عندي قنوان» وقفاً احتمل ما ذكرته من التثنية والجمع، فإذا وصلت وقع الفرق فإنك تجعل الإِعراب على النون
73
حالَ جمعه كغِربان وصِرْدان بكسر النون في التثنية.
ويقع الفرق أيضاً بوجوهٍ أُخَرَ منها: انقلاب الألف ياءً نصباً وجراً في التثنية نحو: رأيت قِنْوَيْك وصِنْويك ومررت بقنويك وصنويك، ومنها: حذف نون التثنية إضافةً وثبوت النون في الجمع نحو: جاء قنواك وصنواك وقنوانك وصنوانك، ومنها: في النسب فإنك تحذف علامتي التثنية فتقول: قِنْوَيّ وصِنْوَي، ولا تحذف الألف ولا النون إذا أردت الجمع بل تقول: قِنْوانيّ وصِنْواني، وهذان اللفظان في الجمع تكسيراً يشبهان الجمع تصحيحاً وذلك أن كلاً منهما لحق آخره علامتان في حال الجمع مزيدتان ولم يتغيَّرْ معها بناء الواحد، والفرق ما قدَّمْتُه لك، وأيضاً فإن الجمع مِنْ قنوان وصنوان، إنَّما فهمناه من صيغة فِعْلان لا من الزيادتين، بخلاف الزيدين، فإن الجمع فهمناه منهما، وهذا الفصل الذي ذكرْتُه مِنْ محاسن علم الإِعراب والتصريف واللغة.
وقال الراغب بعد أن ذَكَرَ أنه العِذْق: «والقَناةُ تشبه القِنْوَ في كونهما غصنين، وأما القناة التي يجري فيها الماء قيل لها ذلك لأنها تشبه القناة في الخط والامتداد، وقيل: أصلها مِنْ قَنَيْتُ الشيء إذا ادَّخَرْتَه لأنها مُدَّخِرَةٌ للماء. وقيل: هو مِنْ قاناه أي: خالطه، قال - يعني امرأ القيس -/:
٢٠١٨ - كبِكْرِ مُقاناةِ البياضِ بصُفْرةٍ
غَذَاها نُمَيْرُ الماءِ غيرَ مُحَلَّلِ
وأمَّا» القنا «الذي هو الاحْدِيْداب في الأنف فيشبَّه في الهيئة بالقنا يقال: رجل أقنى وامرأة قَنْواء كأحمر وحمراء». والطَّلع: أول ما يخرج من النخلة في أكمامه. قال أبو عبيد: «الطَّلْعُ: الكُفُرَّى قبل أن تنشقَّ عن الإغريض
74
والإِغريض يسمى طَلْعاً يقال: أطلعت النخلة إذا أخرجت طَلْعَها، تطلُع إطلاعاً وطلع الطلع يَطْلُع طلوعاً ففرقوا بين الإِسنادين. وأنشدني بعضهم في مراتب ما تثمره النخلة قول الشاعر:
٢٠١٩ - إن شِئْتَ أن تَضْبِطَ يا خَليلُ
أسماءَ ما تُثْمِرُه النخيلُ
فاسمَعْه مَوْصوفاً على ما أذكرُ
طَلْعٌ وبعده خَلال يظهر
وبَلَحٌ ثم يليه بُسْرُ
ورُطَب تجنيه ثم تَمْرُ
فهذه أنواعُها يا صاحِ
مضبوطةً عن صاحب الصِّحاح
قوله:» وجنَّات «الجمهور على كسر التاء من» جنات «لأنها منصوبة نسقاً على نبات أي: فأخرجنا بالماء النبات وجنات، وهو من عطف الخاص على العام تشريفاً لهذين الجنسين على غيرهما كقوله تعالى: ﴿وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] وعلى هذا فقوله ﴿وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ﴾ جملةٌ معترضة وإنما جيء بهذه الجملة معترضة، وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر تعظيماً للمِنَّة به؛ لأنه من أعظم قوت العرب؛ لأنه جامع بين التفكُّه والقوت، ويجوز أن ينتصب» جنات «نسقاً على» خضراً «. وجوَّز الزمخشري - وَجَعَلَهُ الأحسنَ - أن ينتصب على الاختصاص كقوله» والمقيمي الصلاة «قال:» بفضلِ هذين الصنفين «وكلامُهُ يُفْهم أن القراءة الشهيرة عنده برفع» جنات «، والقراءة بنصبها شاذة، فإنه أولُ ما ذكر توجيهُ الرفع كما سيأتي، ثم قال:» وقرئ «وجنات» بالنصب «فذكر الوجهين المتقدمين.
وقرأ الأعمش ومحمد بن أبي ليلى وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم»
75
وجنات «بالرفع وفيها ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مرفوعة بالابتداء، والخبر محذوف. واختلفت عبارة المعربين في تقديره: فمنهم مَنْ قَدَّره متقدِّماً، ومنهم من قَدَّره متأخراً، فقدَّره الزمخشري متقدماً أي: وثَمَّ جنات، وقدَّره أبو البقاء» ومن الكرم جنات «، وهذا تقدير حسن لمقابلة قوله» ومن النخل «أي: من النخل كذا ومن الكرم كذا، وقَدَّره النحاس» ولهم جنَّات «، وقدَّره ابن عطية:» ولكم جنات «، ونظيره قراءة ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] بعد قوله: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكوابٍ﴾ أي: ولهم حورٌ عين، ومثل هذا اتَّفَقَ على جوازه سيبويهِ والكسائي والفراء.
وقدَّره متأخراً فقال: أي وجنات من أعناب أخرجناها. قال الشيخ: «ودل على تقديره [قوله] قبلُ» فأخرجنا «كما تقول: أكرمت عبد الله وأخوه أي: وأخوه أكرمته». قلت: وهذا التقدير سبقه إليه ابن الأنباري، فإنه قال: «الجناتُ» رُفِعت بمضمر بعدها تأويلها: وجناتٌ من أعناب أخرجناها، فجرى مَجْرَى قول العرب: «أكرمت عبدَ الله وأخوه» تريد: وأخوه أكرمته. قال الفرزدق:
٢٠٢٠ - غداةَ أحلَّتْ لابنِ أَصْرَمَ طَعْنَةٌ
حصينٍ عَبيطاتِ السَّدائِفِ والخمرُ
76
فرفع «الخمر» وهي مفعولة، على معنى: والخمر أَحَلَّها الطعنة. الوجه الثاني: أن يرتفع عطفاً على «قنوان»، تغليباً للجوار، كما قال الشاعر:
٢٠٢١ -......................
وزجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا
فنسق «العيون» على «الحواجب» تغليباً للمجاورة، والعيونُ لا تُزَجَّج، كما أن الجنات من الأعناب لا يَكُنَّ من الطَّلْع، هذا نصُّ مذهب ابن الأنباري أيضاً، فتحصَّل له في الآية مذهبان، وفي الجملة فالجواب ضعيف، وقد تقدم أنه من خصائص النعت.
والثالث: أن يعطف على «قنوان». قال الزمخشري: «على معنى: محاطة أو مُخْرجة من النخل قنوان، وجنات من أعناب أي: من نبات أعناب. قال الشيخ:» وهذا العطفُ هو على أن لا يُلْحَظَ فيه قيدٌ من النخل فكأنه قال: ومن النخل قنوان دانية وجنات من أعناب حاصلة كما تقول: «من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش منطلقان». قلت: وقد ذكر الطبري أيضاً هذا الوجه أعني عطفها على «قنوان»، وضعَّفه ابن عطية، كأنه لم يظهر له ما ظهر لأبي القاسم من المعنى المشار إليه، ومنع أبو البقاء عطفه على «قنوان» قال: «لأن العنب لا يخرج من النخل». وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة. قال أبو حاتم: «هذه القراءة محال؛ لأن الجنات من الأعناب. لا تكون من النخل». قلت: أمَّا جواب أبي البقاء فيما قاله الزمخشري، وأمَّا جوابُ أبي عبيد وأبي حاتم فيما تقدم من توجيه الرفع. و «من أعناب» صفة لجنات فتكون في محل رفع ونصب بحسب القراءتين، وتتعلق بمحذوف.
77
قوله: ﴿والزيتون والرمان﴾ لم يقرأهما أحد إلا منصوبين، ونصبهما: إمَّا عطفٌ على جنات وإمَّا على نبات، وهذا ظاهر قول الزمخشري، فإنه قال: «وقرئ» وجنات «بالنصب عطفاً على» نباتَ كل شيء «أي: وَأَخْرَجْنا به جناتٍ من أعناب، / وكذلك قوله: والزيتونَ والرُّمَّان».
ونصَّ أبو البقاء على ذلك فقال: «وجنات بالنصب عطفاً على نبات، ومثله: الزيتونَ والرمانَ». وقال ابن عطية: «عطفاً على» حَبَّاً «. وقيل على» نبات «وقد تقدم لك أن في المعطوف الثالث فصاعداً احتمالين، أحدهما: عطفه على ما يليه، والثاني: عطفه على الأول نحو: مررت بزيدٍ وعمروٍ وخالد، فخالد يحتمل عطفه على زيد أو عمرو، وقد تقدم أن فائدة الخلاف تظهر في نحو:» مررت بك وبزيد وبعمرو «فإن جعلته عطفاً على الأول لَزِمَت الباء وإلاَّ جازت.
والزيتون وزنه فَيْعُول فالتاءُ مزيدةٌ، والنون أصلية لسقوط ذيك في الاشتقاق وثبوت ذي، قالوا: أرض زَتِنَة أي كثيرة الزيتون، فهو نظير قيصوم، ولأنَّ فَعْلولاً مفقودٌ أو نادر، ولا يُتَوَهَّم أن تاءَه أصلية ونونَه مزيدة بدلالة الزيت فإنهما مادتان متغايرتان، وإن كان الزيت معتصراً منه، ويقال: زات طعامه أي: جعل فيما زيتاً، وزاتَ رأسَه أي: دَهَنَه به، وازْدات: أي ادَّهن أُبْدلت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كازدجر وازدان. والرُّمَّان وزنه فُعَّال
78
نونه أصلية فهو نظير عُنَّاب وحُمَّاض لقولهم: أرض رَمِنَةٌ أي: كثيرتُه.
قوله: ﴿مُشْتَبِهاً﴾ حال: إمَّا من» الرمان «لقربه، وحذفت الحال من الأول تقديره: والرمان مشتبهاً، ومعنى التشابه أي في اللون، وعدم التشابه أي في الطعم. وقيل: هي حال من الأول وحذفت حال الثاني، وهذا كما تقدم لك في الخبر المحذوف، نحو: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] وإلى هذا نحا الزمخشري فإنه قال:» والزيتون مشتبهاً وغير مشتبه والرمان كذلك كقوله:
٢٠٢٢ - رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي
بريئاً.................
قال الشيخ: «فعلى قوله يكون تقدير البيت: كنت منه بريئاً ووالدي كذلك أي: بريئاً، والبيت لا يتعين فيه ما ذَكَرَ؛ لأن بريئاً على وزن فعيل كصديق ورفيق، فيصحُّ أن يُخْبَرَ به عن المفرد والمثنى والمجموع، فيحتمل أن يكون» بريئاً «خبر» كان «على اشتراك الضمير والظاهر المعطوف عليه فيه، إذ يجوز أن يكون خبراً عنهما، ولا يجوز أن يكون حالاً منهما، إذ لو كان لكان التركيب مشتبهين وغير مشتبهين». قال أبو البقاء: «حال من الرمان ومن
79
الجميع»، فإن عنى في المعنى فصحيح ويكون على الحذف كما تقدَّم، وإن أراد في الصناعة فليس بشيء لأنه كان يلزم المطابقة.
والجمهور على «مشتبهاً» وقرئ شاذاً متشابهاً وغير متشابه كالثانية، وهما بمعنى واحد. قال الزمخشري: «كقولك: اشتبه الشيئان وتشابها كاستويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً». انتهى. وأيضاً فقد جَمَعَ بينهما في هذه الآية في قوله «مشتبهاً وغير متشابه».
قوله: ﴿إلى ثَمَرِهِ﴾ متعلِّق ب «انظروا» وهي بمعنى الرؤية، وإنما تَعَدَّتْ ب إلى لِما تَتَضَمَّنه من التفكر.
وقرأ الأخوان «ثُمُرِه» بضمتين، والباقون: بفتحتين، وقُرِئَ شاذاً بضم الأول وسكون الثاني.
فأمَّا قراءة الأخوين فتحتمل أربعة أوجه، أحدها: أن تكون اسماً مفرداً كطُنُب وعُنُق. والثاني: أنه جمع الجمع فَثُمُر جمع ثِمار وثمار جمع ثَمَرة وذلك نحو: أُكُم جمع إكام وإكام جمع أَكَمَة فهو نظير كُثْبان وكُثُب. والثالث: أنه جمع ثَمَرَ كما قالوا: أسَد وأُسُد. والرابع: أنه جمع ثمرة، قال الفارسي: «والأحسن أن يكون جمع ثَمَرَة كخشبة وخُشُب، وأكمة وأُكُم ونظيره في المعتل: لابة ولُوْب، وناقة ونوق، وساحة وسوح.
وأما قراءة الجماعة فالثَمَر اسم جنس مفرده ثمرة كشجر وشجرة، وبقر وبقرة، وجزر وجزرة. وأما قراءة التسكين فهي تخفيف قراءة الأخوين،
80
وقيل: بل هي جمع ثَمَرَة كبُدْن جمع بَدَنَة، ونقل بعضهم أنه يقال ثَمُرَة بزنة سَمُرة، وقياسها على هذا ثَمُر كسَمُر بحذف التاء إذا قُصِدَ جمعُه، وقياسُ تكسيرِه أثمار كعَضُد وأعضاد، وقد قرأ أبو عمرو الذي في سورة الكهف بالضم وسكون الميم، فهذه القراءة التي هنا فصيحة كان قياس أبي عمرو أن يقرأهما شيئاً واحداً لولا أن القراءة مستندها النقل. وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل» خُشْب «. والباقون بالضم، فهذه القراءة نظير تِيك. وهذا الخلاف أعني في» ثَمَرِه «والتوجيه بعينه جارٍ في سورة يس. وأما الذي في سورة الكهف ففيه ثلاث قراءات: فعاصم يقرؤه بفتحتين كما يقرؤه في هذه السورة، وفي يس، فاستمرَّ على عمل واحد، والأخوان يقرآنه بضمتين في السور الثلاث/ فاستمرا على عمل واحد، وأمَّا نافع وابن كثير وابن عامر فقرؤوا ما في الأنعام ويس بفتحتين وقرؤوا ما في الكهف بضمتين، وأمَّا أبو عمرو فقرأ ما في الأنعام ويس بفتحتين وما في الكهف بضمة وسكون. وقد ذكروا في توجيه الضمتين في الكهف ما لا يمكن أن يأتي في السورتين، وذلك أنهم قالوا في الكهف: الثُّمُر بالضم المال، وبالفتح المأكول.
وقوله: ﴿إِذَآ أَثْمَرَ﴾ ظرق لقوله:» انظروا «، وهو يحتمل أن يكون متمحضاً للظرف، وأن يكون شرطاً، وجوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك أي: إذا أثمر فانظروا إليه.
قوله: ﴿وَيَنْعِهِ﴾ الجمهور على فتح الياء مِنْ» ينعه «وسكون النون. وقرأ
81
ابن محيصن بضم الياء وهي قراءة قتادة والضحاك. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة واليماني: يانعة، ونسبها الزمخشري لابن محيصن، فيجوز أن يكون عنه قراءتان. والينع بالفتح والضم مصدر: يَنَعَتِ الثمرة أي: نضجت، والفتح لغة الحجاز، والضم لغة بعض نجد، ويقال أيضاً يُنُع ويُنُوع بواو بعد ضمتين. وقيل: اليَنْع بالفتح جمع يانِع كتاجِر وتَجْر وصاحِب وصَحْب، ويقال: يَنَعَت الثمرة وأينعت ثلاثياً ورباعياً بمعنى. وقال الحَجَّاج:» أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها «.
ويانع اسم فاعل وقيل: أينعت الثمرة وينعت احمرَّت، قاله الفراء، ومنه الحديث في الملاعنة: «إنْ وَلَدَتْهُ أحمرَ مثلَ اليَنَعَة» وهي خَرَزَةٌ حمراء، قيل: هي العقيق أو نوع منه. ويقال: يَنَعَتْ تَيْنِع بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل هذا قول أبي عبيد وأنشد:
٢٠٢٣ -.................
حولها الزيتونُ قد يَنَعَا
وقال الليث بعكس هذا: أي بكسرها في الماضي وبفتحها في المستقبل. وناسب ختامَ هذه الآية بقوله «لقوم يؤمنون» كونُ ما تقدَّم دالاً على وحدانيته وإيجاده المصنوعات المختلفة، فلا بُدَّ لها مِنْ مدبِّر مع أنها نابتةٌ من أرضٍ واحدةٍ وتُسْقَى بماءٍ واحد، وهذه الدلائل إنما تنفع المؤمنين المتدبِّرين دون غيرهم.
قوله تعالى: ﴿شُرَكَآءَ الجن﴾ : الجمهور على نصب «الجن» وفيه خمسة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أنَّ «الجن» هو المفعول الأول، والثاني هو «شركاء» قُدِّم، و «لله» متعلِّق بشركاء. والجَعْل هنا بمعنى التصيير، وفائدةُ التقديم كما قالَه الزمخشري استعظامُ أن يُتَّخَذَ لله شريكٌ مَنْ كان مَلَكاً أو جنِّيَّاً أو إِنسِيَّاً ولذلك قُدِّم اسم الله على الشركاء «انتهى. ومعنى كونهم جعلوا الجن شركاء لله هو أنهم يعتقدون أنهم يخلقون من المضارِّ والحيَّات والسباع كما جاء في التفسير. وقيل: ثم طائفة من الملائكة يسمَّون الجن كان بعض العرب يعبدها.
الثاني: أن يكون» شركاء «مفعولاً أول و» لله «متعلقٌ بمحذوف على أنه المفعول الثاني، و» الجنّ «بدل من» شركاء «، أجاز ذلك الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء ومكي بن أبي طالب، إلا أنَّ مكِّيَّاً لمَّا ذَكَرَ هذا الوجهَ جَعَلَ اللامَ مِنْ» لله «متعلقةً بجَعَلَ فإنه قال:» الجنَّ مفعولٌ أولُ لَجَعَلَ و «شركاءَ» مفعولٌ ثانٍ مقدَّم، واللام في «لله» متعلقة بشركاء، وإن شِئْتَ جَعَلْتَ «شركاء» مفعولاً أول، والجن بدلاً من شركاء، و «لله» في موضع المفعول الثاني، واللام متعلقة بجعل «. قلت: بعد أن جعل» لله «مفعولاً ثانياً كيف يُتَصَوَّر أن يَجْعَلَ اللامَ متعلقةً بالجعلِ؟ هذا ما لا يجوز لأنَّه لما صار مفعولاً ثانياً تعيَّنَ تعلُّقُهُ بمحذوف على ما عرفته غيرَ مرة. قال الشيخ:» وما أجاوزه - يعني الزمخشري ومن ذُكِرَ معه - لا يجوز؛ لأنه يصِحُّ للبدل أن
83
يحلَّ محلَّ المبدل منه فيكونَ الكلام منتظماً، لو قلت: وجعلوا لله الجنَّ لم يَصِحَّ، وشرطُ البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول، وهذا لا يَصِحُّ هنا البتَةَ لِما ذكرنا «قلت: هذا القول المنسوب للزمخشري ومَنْ ذُكِرَ معه سبقهم إليه الفراء وأبو إسحاق فإنهما أجازا أن يكونا مفعولين قُدِّم ثانيهما على الأول وأجازا أن يكون» الجن «بدلاً من» الشركاء «ومفسِّراً للشركاء هذا نصُّ عبارتهم، وهو معنى صحيح أعني كونَ البدل مفسراً، فلا معنى لردِّ هذا القول، وأيضاً فقد رَدَّ هو على الزمخشري عند قوله تعالى ﴿إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا﴾ [المائدة: ١١٧] فإنه لا يلزم في كل بدلٍ أن يحل مَحَلَّ المبدلِ منه، قال:» ألا ترى إلى تجويز النحويين «زيد مررت به أبي عبد الله» ولو قلت: «زيد مررت بأبي عبد الله» لم يجز إلا على رأي الأخفش «وقد سبق هذا في المائدة، فقد قرر/ هو أنه لا يلزم حلول البدل محلَّ المبدل منه فكيف يَرُدُّ به هنا؟
الثالث: أن يكون» شركاء «هو المفعول الأول و» الجن «هو المفعول الثاني، قاله الحوفي، وهذا لا يَصِحُّ لِما عرفت أن الأول في هذا الباب مبتدأ في الأصل والثاني خبر في الأصل، وتقرَّر أنه إذا اجتمع معرفة ونكرة جَعَلْتَ المعرفة مبتدأ والنكرة خبراً، من غير عكس إلا في ضرورة، تقدَّم التنبيه على الوارد منها.
الرابع: أن يكون «شركاء الجن» مفعولين على ما تقدَّم بيانه. و «لله» متعلق بمحذوف على أنه حال من «شركاء» ؛ لأنه لو تأخر عنها لجاز أن يكون
84
صفة لها قاله أبو البقاء، وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنه يصير المعنى: جعلوهم شركاء في حال كونهم لله أي: مملوكين، وهذه حال لازمة لا تنفك، ولا يجوز أن يقال إنها غير منتقلة لأنها مؤكدة إذ لا تأكيدَ فيها هنا، وأيضاً فإنَّ فيه تهيئةَ العامل في معمول وقَطْعَه عنه؛ فإن «شركاء» يطلب هذا الجارَّ ليعمل فيه والمعنى منصبٌّ على ذلك.
الخامس: أن يكون «الجنَّ» منصوباً بفعل مضمر جواب لسؤال مقدَّر، كأن سائلاً سأل فقال بعد قوله تعالى ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ﴾ : مَنْ جعلوا لله شركاء؟ فقيل: الجنَّ، أي: جعلوا الجن، نقله الشيخ عن شيخه أبي جعفر بن الزبير، وجعله أحسن مما تقدَّم قال: «ويُؤَيِّد ذلك قراءةُ أبي حيوة ويزيد بن قطيب» الجنُّ «رفعاً على تقدير: هم الجن، جواباً لمن قال: [من] جعلوا لله شركاء؟ فقيل: هم الجن، ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والاستنقاص بمن جعلوه شريكاً لله تعالى. وقال مكي:» وأجاز الكسائي رفع «الجن» على معنى هم الجن «، فلم يَرْوِها عنه قراءةً، وكأنه لم يطَّلع على أن غيرَه قرأها كذلك.
وقرأ شعيب بن أبي حمزة ويزيد بن قطيب وأبو حيوة في رواية عنهما أيضاً» شركاءَ الجنِّ «بخفض» الجن «، قال الزمخشري:» وقرئ بالجر على الإِضافة التي للتبيين فالمعنى: أشركوهم في عبادتهم لأنهم أطاعوهم
85
كما أطاعوا الله «. قال الشيخ:» ولا يتضح معنى هذه القراءة، إذ التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله «. قلت: معناها واضح بما فسَّره الزمخشري في قوله، والمعنى: أَشْرَكوهم في عبادتهم إلى آخره ولذلك سَمَّاها إضافة تبيين، أي إنه بيَّن الشركاء كأنه قيل: الشركاء المطيعين للجن.
قوله: ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾ الجمهور على» خَلَقَهم «بفتح اللام فعلاً ماضياً، وفي هذه الجملة احتمالان، أحدهما: أنها حالية ف» قد «مضمرةٌ عند قومٍ وغير مضمرة عند آخرين.
والثاني: أنها مستأنفة لا محَلَّ لها، والضمير في «خلقهم» فيه وجهان، أحدهما: أنه يعود على الجاعلين أي: جعلوا له شركاء مع أنه خلقهم وأوجدهم منفرداً بذلك من غير مشاركة له في خلقهم فكيف يشركون به غيره ممَّن لا تأثيرَ له في خلقهم؟ والثاني: أنه يعود على الجن أي: والحال أنه خلق الشركاء فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟
وقرأ يحيى بن يعمر: «وَخَلْقهم» بسكون اللام. قال الشيخ: «وكذا في مصحف عبد الله». قلت: قوله «وكذا في مصحف عبد الله» فيه نظر من حيث إن الشكل الاصطلاحي أعني ما يدل على الحركات الثلاث وما يدل على السكون كالجزء منه كانت مصاحفُ السَّلفِ منها مجردة، والضبط الموجود بين أيدينا اليوم أمرٌ حادث، يقال: إن أول مَنْ أحدثه يحيى بن يعمر، فكيف يُنسب ذلك لمصحف عبد الله بن مسعود؟ وفي هذه القراءة تأويلان أحدهما: أن يكون «خَلْقهم» مصدراً بمعنى اختلاقهم. قال الزمخشري: أي اختلاقهم للإِفك يعني: وجعلوا لله خَلْقَهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم «والله أمَرَنا بها» انتهى. فيكون «لله» هو المفعول الثاني قُدِّم على
86
الأول. والتأويل الثاني: أن يكون «خَلْقهم» مصدراً بمعنى مخلوقهم. فيكون عطفاً على «الجن»، ومفعوله الثاني محذوف تقديره: وجعلوا مخلوقَهم وهو ما ينحِتون من الأصنام كقوله تعالى: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ شركاءَ لله تعالى.
قوله تعالى: «وخَرَقوا» قرأ الجمهور «خَرَقوا» بتخفيف الراء ونافع بتشديدها. وقرأ ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء، وابن عمر كذلك أيضاً إلا أنه شدد الراء، والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاختلاق. قال الفراء: «يقال خلق الإِفك وخَرَقه واختلقه وافتراه وافتعله وخَرَصَه بمعنى كَذَب فيه»، والتشديد للتكثير لأن القائلين بذلك خلق كثير وجمٌّ غفير، وقيل: هما لغتان، والتخفيف هو الأصل. وقال الزمخشري: «ويجوز/ أن يكون مِنْ خرق الثوب إذا شقَّه أي: اشتقُّوا له بنين وبنات». وأمَّا قراءة الحاء المهملة فمعناها التزوير أي: زوَّروا له أولاداً لأن المزوِّر محرِّف ومغيِّرٌ الحقَّ إلى الباطل.
وقوله ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ فيه وجهان. أحدهما: أنه نعت لمصدر محذوف أي: خَرَقُوا له خَرْقاً بغير علم قاله أبو البقاء وهو ضعيفُ المعنى، والثاني: وهو الأحسنُ أن يكونَ منصوباً على الحال من فاعل «خرقوا» أي: افتعلوا الكذبَ مصاحبين للجهل وهو عدم العلم.
قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ﴾ : قرأ الجمهور برفع العين، وفيها
87
ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو بديعُ، فيكون الوقفُ على قوله «والأرض» فهي جملة مستقلة بنفسها. الثاني: أنه فاعلٌ بقوله «تعالى»، أي تعالى بديع السماوات، وتكون هذه الجملةُ الفعليةُ معطوفةٌ على الفعلِ المقدَّرِ قبلَها وهو الناصبُ لسبحان فإنَّ «سبحان» كما تقدَّم من المصادر اللازم إضمارُ ناصبِها. الثالث: أنه مبتدأ وخبرُه ما بعده من قوله ﴿أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾. وقرأ المنصور «بديعِ» بالجر، قال الزمخشري: «رداً على قوله وجعلوا لله أو على سبحانه» كذا قاله، ولم يُبَيِّنْ على أيِّ وجهٍ من وجوهِ الإِعراب هو، وكذا الشيخُ حكاه عنه ومرَّ عليه، ويريد بالردّ كونَه تابعاً إمَّا: لله، أو للضمير المجرور في «سبحانه»، وتبعيَّتُه له على كونه بدلاً من «لله» أو من الهاء في «سبحانه»، ويجوز أن يكون نعتاً لله على أن تكون إضافةُ «بديع» محضةً كما ستعرفه، وأما تبعيَّتُه للهاءِ فيتعيَّنُ أن يكونَ بدلاً، ويمتنعُ أن يكون نعتاً وإن اعتقَدْنا تعريفَه بالإِضافة لمعارِضٍ آخر: وهو أن الضميرَ لا يُنعت، إلا ضميرَ الغائب على رأيِ الكسائي، فعلى رأيه قد يجوز ذلك.
وقرأ أبو صالح الشامي «بديعَ» نصباً، ونصبه على المدح وهي تؤيد قراءةَ الجر. وقراءةُ الرفع المتقدمة يحتمل أن يكون أصلها الإِتباعُ بالجرَّ على البدل ثم قطع التابع رفعاً. وبديع يجوز أن يكونَ بمعنى مُبْدِع، وقد سَبَقَ معناه، أو يكونَ صفةً مشبهة أضيفت لمرفوعها كقولك: فلان بديع الشعر أي: بديعٌ شعرُهُ، وعلى هذين القولين فإضافته لفظية لأنه في الأول من بابِ إضافة اسم الفاعل لمنصوبه، وفي الثاني من بابِ إضافةِ الصفة المشبهة لمرفوعها، ويجوز أن يكونَ بمعنى عديم النظير والمِثْل فيهما، كأنه قيل: البديع في السماوات
88
والأرض، فالإِضافةُ على هذا إضافةٌ مَحْضَةٌ.
قوله: ﴿أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ أنَّى بمعنى كيف أو مِنْ أين، وفيها وجهان أحدهما: أنها خبر كان الناقصة و «له» في محل نصب على الحال، و «ولد» اسمُها، ويجوز أن تكون منصوبةً على التشبيه بالحالِ أو الظرفِ كقوله «كيف تكفرون بالله» والعاملُ فيها قال أبو البقاء: «يكون»، وهذا على رأي مَنْ يُجيز في «كان» أن تعمل في الأحوال والظروف وشبههما، و «له» خبر يكون و «ولد» اسمها. ويجوز في «يكون» أن تكونَ تامةً، وهذا أحسنُ، أي: كيف يُوْجَدُ له ولدٌ وأسباب الوَلَدِيَّةِ منتفيةٌ؟
قوله: «ولم تكنْ له صاحبةٌ» هذه الواو للحال، والجملةُ بعدها في محل نصب على الحال من مضمون الجملة المتقدمة أي: كيف يوجد له ولد والحال أنه لم يكن له زوج، وقد عُلِمَ أن الولد إنما يكون من بين ذكر وأنثى وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك.
والجمهور على «تكن» بالتاء من فوق. وقرأ النخعي بالياء من تحت وفيه أربعة أوجه، أحدها: أن الفعل مسند إلى «صاحبة» أيضاً كالقراءة المشهورة، وإنما جاز التذكير للفصل كقوله:
٢٠٢٤ - لقد وَلَدَ الأخيطِلَ أمُّ سوءٍ
.............
89
وقوله:
٢٠٢٥ - إنَّ امرَأً غَرَّه في الدنيا واحدةٌ
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
وقال ابن عطية: «وتذكيرُ كان وأخواتها مع تأنيث اسمِها أسهلُ من ذلك في سائر الأفعال». قال الشيخ: «ولا أعرفُ هذا عن النحويين ولم يُفَرِّقوا بين كان وغيرها». قلت: هذا كلام صحيح، ويؤيده أن الفارسي وإن كان يقول بحرفية بعضها ك ليس فإنه لا يُجيز حَذْفَ التاء منها، لو قلت: «ليس هند قائمة» لم يجز. الثاني: أن في «يكون» ضميراً يعود على الله تعالى، و «له» خبر مقدم، و «صاحبة» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «يكون». الثالث أن يكون «له» وحدَه هو الخبر، و «صاحبةٌ» فاعل به لاعتماده/ وهذا أَوْلَى ممَّا قبله؛ لأنَّ الجارَّ أقربُ إلى المفرد، والأصل في الأخبار الإِفراد. الرابع: أنَّ في «يكون» ضميرَ الأمر والشأن و «له» خبرٌ مقدَّمٌ، و «صاحبةٌ» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «يكون» مفسِّرة لضمير الشأن، ولا يجوزُ في هذا أن يكون «له» هو الخبر وحده و «صاحبةٌ» فاعلٌ به كما جاز في الوجه قبله. والفرق أنَّ ضمير الشأنِ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ صريحة، وقد تقدَّم أنَّ هذا النوعَ من قبيل المفردات. و «تكن» يجوز أن تكونَ الناقصة أو التامة حسبما تقدَّم فيما قبلها.
وقوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ هذه جملة إخبارية مستأنفة، ويجوز أن تكون حالاً، وهي حال لازمة.
الصفاتِ المتقدمةِ اللهُ، فاسم الإِشارة مبتدأ و «الله» خبره، وكذا «ربكم» وكذا الجملةُ من قوله ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾، وكذا «خالق». قال الزمخشري: «وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة». قلت: هذا عند مَنْ يجيز تَعَدُّد الخبرِ مطلقاً، ويجوز أن يكون «الله» وحده هو الخبر ما بعده أبدال، كذا قال أبو البقاء، وفيه نظر من حيث إنَّ بعضها مشتقٌّ والبدلُ يَقِلُّ بالمشتقات، وقد يقال إن هذه، وإن كانت مشتقة، ولكنها بالنسبة إلى الله تعالى من حيث اختصاصُها به صارت كالجوامد، ويجوز أن يكون «الله» هو البدل، وما بعده أخبارٌ أيضاً، ومَنْ منع تعدُّدَ الخبرِ قَدَّر قبلَ كل خبرٍ مبتدأ، أو يجعلها كلَّها بمنزلة اسم واحد كأنه قيل: ذلكم الموصوفُ هو الجامعُ بين هذه الصفات.
قوله تعالى: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ﴾ : إنما ذَكَّر الفعلَ لشيئين: أحدهما الفصلُ بالمفعول، والثاني كون التأنيث مجازياً. والبصائر جمع البصيرة، وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء، ومنه قيل للدم الدالِّ على القتيل بصرة. والبصيرة مختصة بالقلب كالبصر للعين، هذا قول بعضهم. وقال الراغب: «ويقال لقوة القلب المُدْرِكة بَصيرة وبَصَر، قال تعالى: ﴿مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى﴾ [النجم: ١٧] وقد تقدَّم تحقيق هذا في أوائل البقرة.
و ﴿مِن رَّبِّكُمْ﴾ يجوز أن يتعلَّق بالفعل قبله، وأن يتعلق بمحذوفٍ على
91
أنه صفة لما قبله، أي: بصائر كائنة من ربكم، و» مِنْ «في الوجهين لابتداء الغاية مجازاً.
قوله: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾ يجوز أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة، فالفاء جوابُ الشرط على الأول، ومزيدة في الخبر لشبه الموصول باسم الشرط على الثاني، ولا بد قبل لام الجر مِنْ محذوف يَصِحُّ به الكلامُ، والتقدير: فالإِبصار لنفسه ومَنْ عَمِي فالعَمَى عليها. والإِبصار والعَمَى مبتدآن، والجارُّ بعدهما هو الخبر، والفاء داخلة على هذه الجملةِ الواقعة جواباً أو خبراً، وإنما حُذِف مُبْتَدَؤُها للعلم به، وقدَّر الزجاج قريباً من هذا فقال:» فلنفسه نَفْع ذلك، ومَنْ عمي فعليها ضررُ ذلك «. وقال الزمخشري:» فَمَنْ أبصر الحقَّ وآمن فلنفسه أبصر وإياها نَفَعَ، ومَنْ عمي فعليها أي: فعلى نفسه عَمِي، وإياها ضَرَّ «. قال الشيخ:» وما قَدَّرناه من المصدر أَوْلى، وهو فالإِبصار والعمى، لوجهين، أحدهما: أن المحذوف يكون مفرداً لا جملة، والجار يكون عمدةً لا فَضْلة، وفي تقديره هو المحذوفُ جملةٌ والجارُّ والمجرورُ فضلةٌ. والثاني: وهو أقوى وذلك أنه لو كان التقدير فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت «مَنْ» شرطيةً أم موصولة مشبهة بالشرط؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاءً ولا جامداً، ووقع جوابَ شرط أو خبرَ مبتدأ مشبه بالشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر المبتدأ، لو قلت: «مَنْ جاءني فأكرمتُه» لم يَجُزْ بخلافِ تقديرنا فإنه لا بد فيه من الفاء، ولا يجوز حَذْفُها إلا في الشعر «. قلت: هذا التقدير الذي قدَّره الزمخشري مسبوقٌ إليه سبقه إليه الكلبي فإنه قال:» فَمَنْ أبصر صَدَّق وآمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
92
فلنفسه عمل ومَنْ عمي فلم يُصَدِّق فعلى نفسه جَنَى العذاب «. وقوله» إن الفاء لا تدخل فيما ذكر «قد يُنازَعُ فيه، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أن يكون جواباً صريحاً ويظهر/ فيه أثر الجازم كالمضارع يجوز فيه دخول الفاء نحو: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥] فالماضي بدخولها أَوْلى وأَحْرى.
قوله تعالى: ﴿وكذلك﴾ : الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف، فقدَّره الزجاج: «ونُصَرِّفُ الآياتِ مثلَ ما صَرَّفناها فيما تُلي عليكم»، وقدَّره غيرُه: نُصَرِّف الآيات في غير هذه السورة تصريفاً مثل التصريف في هذه السورة.
قوله: «ولِيقولوا» الجمهور على كسرِ اللامِ، وهي لام كي، والفعلُ بعدها منصوب بإضمار «أَنْ» فهو في تأويل مصدر مجرور بها على ما عُرِف غيرَ مرة، وسمَّاها أبو البقاء وابن عطية لام الصيرورة كقوله تعالى: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨] وكقوله:
٢٠٢٦ - لِدُوا للموتِ وابنُوا للخَراب
..................
أي: لمَّا صار أمرُهم إلى ذلك عبَّر بهذه العبارة، والعلة غير مرادة في هذه الأمثلة، والمحققون يأبَوْن جَعْلَها للعاقبة والصيرورة، ويُؤَوِّلون ما وَرَدَ من ذلك على المجاز. وجَوَّز أبو البقاء فيها الوجهين: أعني كونَها لامَ العاقبة أو العلة حقيقةً فإنه قال: «واللام لام العاقبة أي: إن أمرَهم يَصير إلى هذا»
93
وقيل: إنه قصد بالتصريف أن يقولوا دَرَسَتْ عقوبةً لهم «يعني فهذه علة صريحة وقد أوضح بعضهم هذا فقال:» المعنى: يُصَرِّف هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقولَ بعضُهم دارَسَتْ فيزدادوا كفراً، وتنبيهٌ لبعضهم فيزدادوا إيماناً، ونحو: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ [البقرة: ٢]. وأبو علي جعلها في بعض القراءات لام الصيرورة، وفي بعضها لام العلة فقال: «واللام في ليقولوا في قراءة ابن عامر ومَنْ وافقه بمعنى: لئلا يقولوا أي: صُرِفَت الآيات وأُحْكِمَتْ لئلا يقولوا هذه أساطير الأولين قديمة قد بَلِيَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة». قلت: قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أَكَلَتْ وسَرَقتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات، وسيأتي تحقيق القراءات في هذه الكلمة متواتِرها وشاذِّها. قال الشيخ «وما أجازه من إضمارِ» لا «بعد اللام المضمر بعدها» أَنْ «هو مذهب لبعض الكوفيين كما أضمروها بعد» أَنْ «المظهرة في ﴿أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦]، ولا يجيز البصريون إضمار» لا «إلا في القسم على ما تبيَّن فيه».
ثم هذه اللام لا بدَّ لها من مُتَعَلَّق، فقدَّره الزمخشري وغيره متأخراً. قال الزمخشري: «وليقولوا جوابه محذوف تقديره: وليقولوا دَرَسَتْ نُصَرِّفها. فإن قلت: أيُّ فرق بين اللامين في لِيَقُولوا ولنبيِّنه؟ قلت: الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين، ولم تُصْرَفْ ليقولوا دارست، ولكن لأنه لمَّا حصل هذا القولُ بتصريف الآيات كما حصل للتبيين شَبَّهَ به فَسِيْق مَساقَه، وقيل: ليقولوا كما قيل لنبيِّه». قلت: فقد نص هنا
94
على أن لام «ليقولوا» علة مجازية.
وجَوَّز بعضهم أن تكون هذه اللام نسقاً على علةٍ محذوفة. قال ابن الأنباري: «دخلت الواو في» وليقولوا «عطفاً على مضمر، التقدير: وكذلك نصرف الآيات لنُلْزِمَهم الحجةَ وليقولوا». قلت: وعلى هذا فاللامُ متعلقةٌ بفعلِ التصريف من حيث المعنى ولذلك قَدَّره مَنْ قدَّره متأخراً ب «نُصَرِّف». وقال الشيخ: «ولا يتعيَّن ما ذكره المُعْرِبون والمفسِّرون من أن اللامَ لامُ كي أو لامُ الصيرورة، بل الظاهر أنها لام الأمر والفعل مجزوم بها، ويؤيده قراءة مَنْ سكن اللام، والمعنى عليه يتمكن، كأنه قيل: وكذلك نُصَرِّف الآياتِ وليقولوا هم ما يقولون مِنْ كونها دَرَسْتَها وَتَعَلَّمتها أو دَرَسَت هي أي: بَلِيَتْ وقَدُمَتْ، فإنه لا يُحْتَفَلُ بهم ولا يُلْتفت إلى قولهم، وهو أمرٌ معناه الوعيدُ والتهديدُ وعدمُ الاكتراث بقولهم أي: نُصَرِّفها وليدَّعُوا فيها ما شاؤوا، فإنه لا اكتراث بدعواهم».
وفيه نظر من حيث إن المعنى على ما قاله الناس وفهموه، وأيضاً فإنَّ بعده/ ولنبيِّنَه وهو نصٌّ في لام كي، وأمَّا تسكين اللام في القراءة الشاذة فلا يدلُّ لاحتمال أن تكون لام كي سُكِّنت إجراءً للكلمة مُجْرى كَتِف وكَبِد. وقد ردَّ الشيخ على الزمخشري حيث قال: «وليقولوا جوابه محذوف» فقال: «وتسميتُه ما يتعلَّق به قوله» وليقولوا «جواباً اصطلاحٌ غريب، لا يقال في» جئتَ «من قولك» جئت لتقوم «إنه جواب». قلت: هذه العبارة قد تكررت للزمخشري وسيأتي ذلك في قوله ﴿ولتصغى﴾ [الأنعام: ١١٣] أيضاً. وقال الشيخ هناك: «وهذا اصطلاحٌ غريب»، والذي يظهر أنه إنما يُسَمِّي هذا النحوَ جواباً لأنه يقع جواباً لسائل. تقول: أين الذي يتعلَّق به هذا الجارُّ؟ فيُجاب به، فسُمِّي جواباً
95
بهذا الاعتبار، وأضيف إلى الجارِّ في قوله «وليقولوا» جوابه، لأن الإِضافة [تقع] بأدنى ملابسة وإلا فكلامُ إمامٍ يتكرَّر لا يُحمل على فساد.
وأمَّا القراءات التي في «دَرَسَتْ» فثلاث في المتواتر: فقرأ ابن عامر «دَرَسَتْ» بزنة ضَرَبَتْ، وابن كثير وأبو عمرو «دارَسْتَ» بزنة قابلْتَ أنت، والباقون «درسْتَ» بزنة ضربْت أنت. فأمَّا قراءة ابن عامر فمعناها بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع يُشيرون إلى أنها من أحاديث الأولين كما قالوا أساطير الأولين.
وأمَّا قراءة ابن كثير أبي عمرو فمعناها دارسْتَ يا محمدُ غيرَك من أهل الأخبار الماضية والقرون الخالية حتى حفظتها فقلتَها، كما حَكى عنهم فقال: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾ [النحل: ١٠٣] وفي التفسير: أنهم كانوا يقولون: هو يدارس سَلْمَان وعَدَّاساً. وأمَّا قراءة الباقين فمعناها حَفِظْتَ وأَتْقَنْتَ بالدرس أخبارَ الأولين كما حكى عنهم ﴿وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾
[الفرقان: ٥] أي تكرَّر عليها بالدَّرْس ليحفظها. وقرئ هذا الحرف في الشاذ عشر قراءاتٍ أُخَرَ فاجتمع فيه ثلاثَ عشرةَ قراءة: فقرأ ابن عباس بخلاف عنه وزيد بن علي والحسن البصري وقتادة «دُرِسَتْ» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الآيات، وفَسَّرها ابن جني والزمخشري بمعنيين، في أحدهما إشكال. قال أبو الفتح: «يُحتمل أن
96
يراد عَفَتْ أو بَلِيَتْ». وقال أبو القاسم: «بمعنى قُرِئت أو عُفِيَتْ». قال الشيخ: «أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهرٌ؛ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّر القراءة متعدٍّ، وأمَّا» دَرَس «بمعنى بَلِي وانمحى فلا أحفظه متعدياً ولا وَجَدْنا فيمن وَقَفْنا على شعره من العرب إلا لازماً». قلت: لا يحتاج هذا إلى استقراء فإن معناه [لا] يحتمل أن يكون متعدِّياً إذ حَدَثُه لا يتعدَّى فاعلُه فهو كقام وقعد، فكما أنَّا لا نحتاج في معرفة قصور قام وقعد إلى استقراء بل نَعْرِفُه بالمعنى فكذا هذا.
وقرئ «دَرَّسْتَ» فعلاً ماضياً مشدداً مبنياً للفاعل المخاطب، فيحتمل أن يكون للتكثير أي: دَرَّسْتَ الكتب الكثيرة كذبَّحْتُ الغنم وقَطَّعْتُ الأثواب، وأن تكون للتعدية، والمفعولان محذوفان أي: دَرَّسْتَ غيرَك الكتب وليس بظاهر، إذ التفسير على خلافه. وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مبني للمفعول أي: دَرَّسك غيرُك الكتبَ، فالتضعيف للتعدية لا غير. وقرئ «دُوْرِسْتَ» مسنداً لتاء المخاطب مِنْ دارَسَ كقاتل، إلا أنه بني للمفعول فقلبت ألفه الزائدة واواً، والمعنى: دارَسَكَ غيرك.
وقرئ «دارسَتْ» بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل، وفي فاعله احتمالان، أحدهما: أنه ضمير الجماعة أُضْمِرَتْ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالة السياق عليها أي: دارستك الجماعة، يُشيرون لأبي فكيهة وسلمان، وقد تقدم ذلك في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والثاني: ضمير الإِناث على سبيل المبالغة أي: إن الآيات نفسها دارَسَتْكَ وإن كان المراد أهلها.
وقرئ «دَرُسَتْ» بفتح الدال وضم الراء مسنداً إلى ضمير الآيات وهو مبالغة في دَرَسَتْ بمعنى بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وانمحت أي اشتد دُروسُها وبِلاها. وقرأ أُبَيّ/ «دَرَسَ» وفاعله ضمير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو ضمير الكتاب
97
بمعنى قرأه النبي وتلاه وكُرِّرَ عليه، أو بمعنى بلي الكتاب وامَّحى، وهكذا في مصحف عبد الله درس.
وقرأ الحسن في رواية «دَرَسْنَ» فعلاً ماضياً مسنداً لنون الإِناث هي ضمير الآيات، وكذا هي في بعض مصاحف ابن مسعود. وقرئ «دَرَّسْنَ» الذي قبله إلا أنه بالتشديد بمعنى اشتد دُروسها وبِلاها كما تقدَّم. وقرئ «دارسات» جمع دارسة بمعنى قديمات، أو بمعنى ذات دُروس نحو: عيشة راضية، وماء دافق، وارتفاعُها على خبر ابتداء مضمر أي: هنَّ دارسات، والجملة في محلّ نصب بالقول قبلها.
وقوله ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ﴾ تقدَّم أن هذا عطفٌ على ما قبله فحكمه حكمه. وفي الضمير المنصوب أربعةُ احتمالات، أحدها: أنه يعود على الآيات، وجاز ذلك وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى القرآن. الثاني: أنه يعود على الكتاب لدلالة السياق عليه، ويُقَوِّي هذا أنه فاعل لدَرَسَ في قراءةِ مَنْ قرأه كذلك. الثالث: أنه يعود على المصدر المفهوم مِنْ نُصَرِّف أي نبيِّن التصريف. الرابع: أن يعود على المصدر المفهوم من «لنبينه» أي: نبيِّن التبيين نحو: ضَرَبْتُه زيداً أي ضربت الضرب زيداً. و «لقوم» متعلق بالفعلِ قبلَه. و «يَعْلَمُون» في محل جر صفة للنكرة قبلها.
وقوله تعالى: ﴿مَآ أُوحِيَ﴾ : يجوز أن تكون اسمية، والعائد هو القائم مقام الفاعل. و «إليك» فضلةٌ، وأجازوا أن تكون مصدريةً والقائمُ مقامَ الفاعل حينئذ الجار والمجرور أي: الإِيحاء الجائي مِنْ ربك، و «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً ف «مِنْ ربك» متعلِّقٌ بأُوْحِي. وقيل: بل هو حال من «ما» نفسها. وقيل: بل هو حال من الضمير المستتر في «أوحي» وهو بمعنى ما قبله.
قوله: ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ جملة معترضة بين هاتين الجملتين الأمريتين، هذا
98
هو الأحسن. وجَوَّز أبو البقاء أن تكون حالاً من «ربك» وهي حال مؤكدة تقديره: من ربك منفرداً.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله﴾ : مفعولُ المشيئة محذوف أي: لو شاء الله إيمانهم، وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لغرابته. وقوله: «جَعَلْناك» هي بمعنى صيَّر، فالكاف مفعول أول و «حفيظاً» هو الثاني، و «عليهم» متعلق به قُدِّم للاهتمام أو للفواصل. ومفعول «حفيظ» محذوف أي: حفيظاً عليهم أعمالَهم. قال أبو البقاء: «هذا يؤيد قول سيبويه في إعمال فعيل» يعني أنه مثالُ مبالغة، وللناس في إعماله وإعمال فَعِل خلاف أثبته سيبويه ونفاه غيره، وكيف يؤيده وليس شيء في اللفظ يَشْهد له؟
وقوله: ﴿وَمَآ أَنتَ﴾ يجوز أن تكون الحجازية، فيكون «أنت» اسمها و «بوكيل» خبرها في محل نصب، ويجوز أن تكون التميميةَ فيكون «أنت» مبتدأ و «بوكيل» خبره في محل رفع، والباء زائدة على كلا التقديرين، و «عليهم» متعلِّقٌ بوكيل قُدِّم لِما تقدَّم فيما قبله. وهذه الجملة هي في معنى الجملة قبلها؛ لأنَّ معنى ما أنت وكيل عليهم هو بمعنى ما جعلناك حفيظاً عليهم أي: رقيباً.
وقوله تعالى: ﴿مِن دُونِ الله﴾ : يجوز أن يتعلَّق ب «يَدْعُون» وأن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال: إمَّا من الموصول، وإمَّا مِنْ عائده المحذوف أي: يَدْعُونهم حالَ كونهم مستقرِّين من دون الله.
99
قوله: ﴿فَيَسُبُّواْ﴾ الظاهر أنه منصوب على جواب النهي بإضمار أن بعد الفاء أي: لا تَسُبُّوا آلهتَهم؛ فقد يترتب عليه ما يكرهون مِنْ سَبِّ الله، ويجوز أن يكون مجزوماً نسقاً على فعل النهي قبله كقولهم «لا تَمْدُدْها فتشقَّها» وجاز وقوع «الذين» وإن كان مختصَّاً بالعقلاء على الأصنامِ التي لا تَعْقِلُ معاملةً لها معاملةَ العقلاء كما أوقع عليها «مَنْ» في قوله: ﴿كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ [النحل: ١٧] ويجوز أن يكون ذلك للتغليب لأن المعبود من دون الله عقلاء كالمسيح وعُزَيْر والملائكة وغيرهم، فغلَّب العاقل، ويجوز أن يراد بالذين يَدْعون المشركون أي: لا تَسُبُّوا الكَفَرة الذين يَدْعون غير الله من دونه. وهو وجه واضح.
قوله ﴿عَدْواً﴾ الجمهور على فتح العين وسكون الدال وتخفيف الواو، ونصبه من ثلاثة أوجه أحدها: أنه منصوب على المصدر لأنه نوعُ من العامل فيه، لأن السَّبَّ من جنس العَدْوِ. والثاني: أنه مفعول من أجله أي لأجل العدو، وظاهر كلام الزجاج أنه خلط القولين فجعلهما قولاً واحداً، فإنه قال: «وعَدْواً منصوبٌ على المصدر لأن المعنى: فَتَعْدُوا/ عَدْواً» قال: «ويكون بإرادة اللام والمعنى: فيسُبُّوا الله للظلم. والثالث: أنه منصوب على أنه واقع موقع الحال المؤكدة لأن السَّبَّ لا يكون إلا عَدْواً. وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وقتادة وسلام وعبد الله بن زيد» عُدُوَّاً «بضم العين والدال وتشديد الواو، وهو مصدرُ أيضاً ل» عدا «وانتصابُه على ما تقدَّم من ثلاثة الأوجه. وقرأ ابن كثير في رواية - وهي قراءة أهل مكة فيما نقله النحاس -»
100
عَدُوَّا «بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو بمعنى أعداء، ونصبه على الحال المؤكدة و» عدوّ «يجوز أن يقع خبراً عن الجمع، قال تعالى: ﴿هُمُ العدو﴾ [المنافقون: ٤] وقال تعالى ﴿إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً﴾ [النساء: ١٠١]. ويقال: عَدا يَعْدُوا عَدْواً وعُدُوَّاً وعُدْواناً وعَداءً. و» بغير عِلْم «حالٌ أي: يَسُبُّونه غير عالمين أي: مصاحبين للجهل؛ لأنه لو قَدَّره حَقَّ قَدْره لما أَقْدَموا عليه. وقوله» كذلك «نعتٌ لمصدر محذوف أي: زَيَّنَّا لهؤلاء أعمالَهم تزييناً مثلَ تزيينِنا لكلِّ أمةٍ عَمَلَهم، وقيل: تقديره: مثلَ تزيينِ عبادةِ الأصنام للمشركين زَيَّنَّا لكلِّ أمة عَمَلَهم وهو قريب من الأول.
وقوله تعالى: ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ : قد تقدَّم الكلام عليه في المائدة. وقرأ طلحة بن مصرف: «لَيُؤْمَنَنْ» مبنياً للمفعول مؤكداً بالنون الخفيفة. قوله «وما يُشْعِركم» :«ما» استفهامية مبتدأة، والجملة بعدها خبرها، وفاعلُ «يشعر» يعود عليها، وهي تتعدى لاثنين الأول ضمير الخطاب، والثاني محذوف، أي: وأي شيء يُدْريكم إيمانُهم إذا جاءتهم الآيات التي اقترحوها؟
وقرأ العامَّة «أنها» بفتح الهمزة، وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بخلاف عنه بكسرها. فأمَّا على قراءةِ الكسر فواضحةٌ استجودها الناس: الخليل وغيره؛ لأن معناها استئناف إخبار بعدم إيمان مَنْ طُبع على قلبه ولو جاءتهم كلُّ آية. قال سيبويه: «سألْتُ الخليل عن هذه القراءة يعني
101
قراءة الفتح فقلت: ما منع أن يكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يَحْسُن ذلك في هذا الموضع، إنما قال» وما يُشْعركم «، ثم ابتدأ فأوجب فقال ﴿إِنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ولو فَتَح فقال: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ لكان عُذْراً لهم». وقد شرح الناس قولَ الخليل وأوضحوه فقال الواحدي وغيره: «لأنك لو فتحت» أنَّ «وجعلتها التي في نحو» بلغني أن زيداً منطلق «لكان عذراً لمن أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون، لأنه إذا قال القائل:» إن زيداً لا يؤمن «فقلت: وما يدريك أن لا يؤمن، كان المعنى أنَّه يؤمن، وإذا كان كذلك كان عذراً لمَنْ نفى عنه الإِيمان، وليس مرادُ الآية الكريمة إقامةَ عُذْرِهم ووجودَ إيمانهم. وقال الزمخشري» وقرئ «إنها» بالكسر، على أن الكلام قد تمَّ قبله بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون «.
وأمَّا قراءة الفتح فقد وجَّهها الناس على ستة أوجه، أظهرها: أنها بمعنى لعلَّ، حكى الخليل» أتيت السوق أنك تشتري لنا منه شيئاً «أي: لعلك، فهذا من كلام العرب كما حكاه الخليل شاهد على كون» أنَّ «بمعنى لعلَّ، وأنشد أبو جعفر النحاس:
٢٠٢٧ - أريني جواداً مات هُزْلاً لأَنَّني
أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مُخَلَّدا
قال امرؤ القيس: أنشده الزمخشري
٢٠٢٨ - عُوجا على الطلل المُحيلِ لأنَّنا
نبكي الديار كما بكى ابنُ حِذامِ
102
وقال جرير:
٢٠٢٩ - هلَ أنتمْ عائجون بنا لَعَنَّا
نرى العَرَصاتِ أو أثرَ الخيام
وقال عدي بن زيد:
٢٠٣٠ - أعاذلَ ما يُدْرِيكَ أن منيَّتي
إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضحى الغد
وقال آخر:
٢٠٣٢ - قلت لشيبانَ ادنُ مِنْ لِقائِهْ
أنَّا نُغَذِّي الناسَ مِنْ شوائِهْ
ف «أنَّ» في هذه المواضع كلها بمعنى لعلَّ، قالوا: ويدل على ذلك أنها في مصحف أُبَيّ وقراءته «وما أدراكم لعلَّها إذا جاءت لا يؤمنون» ونُقِلَ عنه: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ لعلها إِذَا جَآءَتْ﴾، ذكر ذلك أبو عبيد، وغيره، ورجَّحوا ذلك أيضاً بأنَّ «لعل» قد كَثُرَ ورودها في مثل هذا التركيب كقوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧] ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى﴾ [عبس: ٣] وممَّنْ جعل «أنَّ» بمعنى «لعل» أيضاً يحيى بن زياد الفراء.
ورجَّح الزجاج ذلك، فقال: «زعم سيبويه عن الخليل أن معناها» لعلها «قال:» وهذا الوجه أقوى في العربية وأجود «، / ونسب القراءة لأهل
103
المدينة، وكذا أبو جعفر. قلت: وقراءة الكوفيين والشاميين أيضاً، إلا أن أبا علي الفارسي ضعَّف هذا القول الذي استجوده الناس وقوَّوه تخريجاً لهذه القراءة فقال:» التوقع الذي تدل عليه «لعلَّ» لا يناسب قراءة الكسر لأنها تدل على حكمه تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون «ولكنه لمَّا منع كونها بمعنى» لعل «لم يجعلها معمولة ل» يُشْعِركم «بل جعلها على حذف لام العلة أي لأنها، والتقدير عنده: قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، فهو لا يأتي بها لإِصْرارهم على كفرهم، فيكون نظير ﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون﴾ [الإِسراء: ٥٩] أي بالآيات المقترحة، وعلى هذا فيكون قوله» وما يُشْعركم «اعتراضاً بين العلة والمعلول.
الثاني: أن تكون» لا «مزيدةً، وهذا رأيُ الفراء وشيخه قال:» ومثله ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] أي: أن تسجد، فيكون التقدير: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، والمعنى على هذا: أنها لو جاءت لم يؤمنوا، وإنما حملها على زيادتها ما تقدَّم من أنها لو تُقَدَّر زائدةً لكان ظاهرُ الكلام عذراً للكفار وأنهم يُؤْمنون، كما عرَفْتَ تحقيقَه أولاً. إلا أن الزجاج نسب ذلك إلى الغلط فقال «والذي ذكر أن» لا «لغوٌ غالط، لأنَّ ما يكون لغواً لا يكون غيرَ لغو، ومَنْ قرأ بالكسر فالإِجماع على أن» لا «غير لغو» فليس يجوز أن يكون معنى لفظة مرةً النفيَ ومرةً الإِيجابَ في سياق واحد.
وانتصر الفارسي لقول الفراء ونفى عنه الغلط، فإنه قال: «يجوز أن
104
تكون» لا «في تأويلٍ زائدةً، وفي تأويلٍ غيرَ زائدة كقول الشاعر:
٢٠٣٢ - أبى جودُه لا البخلَ واستعجلَتْ نَعَمْ
به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائِلُهْ
يُنشد بالوجهين أي بنصب» البخل «وجرِّه، فَمَنْ نَصَبَه كانت زائدة أي: أبى جوده البخل، ومَنْ خفض كانت غيرَ زائدة وأضاف» لا «إلى البخل قلت: وعلى تقدير النصب لا يلزم زيادتها لجواز أن تكون» لا «مفعولاً بها والبخل بدل منها أي: أبى جوده لفظ» لا «، ولفظ» لا «هو بخل.
وقد تقدَّم لك طرفٌ من هذا محققاً عند قوله تعالى ﴿وَلاَ الضآلين﴾ [الفاتحة: ٧] في أوائل هذا الموضوع، وسيمر بك مواضعُ منها، كقوله تعالى: ﴿وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥] قالوا: تحتمل الزيادةَ وعَدَمَها، وكذا ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب﴾ [الحديد: ٢٩].
الثالث: أن الفتح على تقديرِ لامِ العلة، والتقدير: إنما الآيات التي يقترحونها عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، وما يُشْعركم اعتراض، كما تقدَّم تحقيق ذلك عن أبي علي فأغنى عن إعادته، وصار المعنى: إنما الآيات عند الله أي المقترحة لا يأتي بها لانتفاء إيمانهم وإصرارهم على كفرهم.
الرابع: أنَّ في الكلام حذفَ معطوفٍ على ما تقدَّم. قال أبو جعفر في معانيه: «وقيل في الكلام حذف، المعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت
105
لا يؤمنون أو يؤمنون» فحذف هذا لعلم السامع، وقَدَّره غيره: ما يشعركم بانتفاء الإِيمان أو وقوعه.
الخامس: أنَّ «لا» غير مزيدة، وليس في الكلام حَذْفٌ بل المعنى: وما يدريكم انتفاء إيمانهم، ويكون هذا جواباً لمن حكم عليهم بالكفر أبداً ويئس من إيمانهم. وقال الزمخشري: «وما يشعركم وما يدريكم أنها - أن الآيات التي يقترحونها - إذا جاءت لا يؤمنون بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تَدْرُون بذلك، وذلك أن المؤمنين كانوا حريصين على إيمانهم وطامعين فيه إذا جاءت تلك الآية ويتمنَّون مجيئها فقال عز وجل:» وما يدريكم أنهم لا يؤمنون «على معنى: أنكم لا تَدْرُوْنَ ما سَبَقَ علمي بهم أنهم لا يؤمنون، ألا ترى إلى قوله: ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ١١٠] انتهى. قلت بَسْطُ قولِه إنهم كانوا يطمعون في إيمانهم ما جاء في التفسير أن المشركين قالوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنزل علينا الآية التي قال الله فيها ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ ونحن والله نؤمن فأنزل الله تعالى: وما يُشْعركم إلى آخرها/. وهذا الوجه هو اختيار الشيخ فإنه قال:» ولا يحتاج الكلام إلى زيادة «لا» ولا إلى هذا الإِضمار «- يعني حَذْفَ المعطوف -» ولا إلى «أنَّ» بمعنى لعلَّ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير ضرورةٍ، بل حَمْلُه على الظاهر أَوْلى وهو واضح سائغ أي: وما يشعركم ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها «.
السادس: أنَّ» ما «حرف نفي، يعني أنه نَفَى شعورَهم بذلك، وعلى هذا فيُطْلَبُ ل» يُشْعركم «فاعلٌ.
فقيل: هو ضمير الله تعالى أُضْمر للدلالة عليه، وفيه تكلُّفٌ بعيد أي: وما يُشْعِرُكم الله أنها إذا جاءت الآيات المقترحة
106
لا يؤمنون. وقد تقدَّم في البقرة كيفيةُ قراءةِ أبي عمرو ل ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٩] و ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران: ١٦٠] ونحوِهما عند قوله ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ٦٧]، وحاصلها ثلاثة أوجه: الضم الخالص، والاختلاس، والسكون المحض.
وقرأ الجمهور: «لا يؤمنون» بياء الغيبة، وابن عامر وحمزة بتاء الخطاب، وقرآ أيضاً في الجاثية [الآية: ٦] ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ بالخطاب، وافقهما عليها الكسائي وأبو بكر عن عاصم، والباقون بالياء للغيبة، فَتَحَصَّل من ذلك أنَّ ابن عامر وحمزة يقرآن بالخطاب في الموضعين، وأنَّ نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وحفصاً عن عاصم بالغيبة في الموضعين، وأن الكسائي وأبا بكر عن عاصم بالغيبة هنا وبالخطاب في الجاثية، فقد وافقا أحد الفريقين في إحدى السورتين والآخر في أخرى.
فأما قراءة الخطاب هنا فيكون الظاهر من الخطاب في قوله «وما يشعركم» أنه للكفار، ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة «لا» أي: وما يُشْعركم أنكم تؤمنون إذا جاءت الآيات التي طلبتموها كما أَقْسَمْتُمْ عليه ويتضح أيضاً على كونِ «أنَّ» بمعنى لعلَّ مع كون «لا» نافيةً، وعلى كونِها علةً بتقديرِ حَذْفِ اللامِ أي: إنما الآيات عند الله فلا يأتيكم بها؛ لأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ويتضح أيضاً على كون المعطوف محذوفاً أي: وما يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءت الآيات أو وقوعه، لأنَّ مآل أمرِكم مُغَيَّبٌ عنكم فكيف تُقْسِمون على الإِيمان عند مجيء الآيات؟ وإنما يُشْكل إذا جَعَلْنا «أنَّ» معمولةً
107
ل «يُشْعركم» وجَعَلْنَا «لا» نافيةً غير زائدة، إذ يكون المعنى: وما يدريكم أيها المشركون بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم، ويزول هذا الإِشكال بأنَّ المعنى: أيُّ شيء يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءتكم الآيات التي اقترحتموها؟ يعني لا يمرُّ هذا بخواطركم، بل أنتم جازِمُون بالإِيمان عند مجيئها لا يَصُدُّكم عنه صادٌّ، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون وقت مجيئها لأنكم مطبوعٌ على قلوبكم.
وأمَّا على قراءة الغَيْبة فتكون الهمزةُ معها مكسورةً، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر عن عاصم، ومفتوحة وهي قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم.
فعلى قراءة ابن كثير ومَنْ معه يكون الخطاب في «وما يشعركم» جائزاً فيه وجهان، أحدهما: أنه خطاب للمؤمنين أي: وما يشعركم أيها المؤمنون إيمانهم، ثم استأنف إخباراً عنهم بأنهم لا يؤمنون فلا تَطْمعوا في إيمانهم والثاني: أنه للكفار أي: وما يُشْعركم أيُّها المشركون ما يكون منكم، ثم استأنف إخباراً عنهم بعدم الإِيمان لعلمه السابق فيهم، وعلى هذا ففي الكلام التفاتٌ من خطاب إلى غيبة.
وعلى قراءة نافع يكون الخطابُ للكفار، وتكون «أنَّ» بمنى لعلَّ، كذا قاله أبو شامة وغيره.
وقال الشيخ في هذه القراءة: «الظاهر أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى: وما يدريكم أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون» يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ثم ساق كلام الزمخشري بعينه الذي قَدَّمْتُ ذِكْرَه عنه في الوجه الخامس قال: «ويبعد جداً أن يكون الخطاب في» وما يشعركم «للكفار». قلت: إنما استبعده لأنه لم يَرَ في «أنَّ» هذه أنها بمعنى لعل كما حكيتُه عنه. وقد جعل الشيخُ في مجموع ﴿أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ بالنسبة إلى كسر الهمزة وفتحِها والخطاب والغَيْبة أربع
108
قراءات قال: «وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والعليمي والأعشى عن أبي بكر، وقال ابن/ عطية:» ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الإِيادي: إنها بكسر الهمزة، وقرأ باقي السبعة بفتحها، وقرأ ابن عامر وحمزة «لا تؤمنون» بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة، فترتَّب أربع قراءات: الأولى: كَسْرُ الهمزة والياء وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة «ثم قال:» القراءة الثانية: كَسْرُ الهمزة والتاء وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة كأنه قيل: وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم؟ ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها، ويبعد جداً أن يكون الخطاب في «وما يُشْعركم» للمؤمنين وفي «تؤمنون» للكفار. ثم ذكر القراءة الثالثة نظرٌ لا يخفى: وذلك أنه لَمَّا حكى قراءة الخطاب في «تؤمنون» لم يحكها إلا عن حمزة وابنِ عامر فقط، ولم يدخل معهما أبو بكر لا من طريق العليمي والأعشى ولا من طريق غيرهما، والفرض أن حمزة وابن عامر يفتحان همزة «أنها»، وأبو بكر يكسرها ويفتحها، ولكنه لا يقرأ «يؤمنون» إلا بياء الغيبة فمن أين تجيء لنا قراءةٌ بكسر الهمزة والخطاب؟ وإنما أتيتُ بكلامه برُمَّته ليُعْرَفَ المأخذ عليه ثم إني جَوَّزْتُ أن تكون هذه روايةً رواها فكشفتُ كتابه في القراءات، وكان قد أفرد فيه فصلاً انفرد به العليمي في روايته، فلم يذكر أنه قرأ «تؤمنون» بالخطاب البتة، ثم كشفت كتباً في القراءات عديدةً فلم أرهم ذكروا
109
ذلك فعرفتُ أنه لَمَّا رأى للهمزة حالتين ولحرف المضارعة في «يؤمنون» حالتين ضرب اثنين في اثنين فجاء من ذلك أربعُ قراءات ولكن إحداهما مهملة.
وقوله «لا يُؤْمنون» متعلَّقُه محذوف للعلم به أي: لا يؤمنون بها.
قوله: ﴿ونُقَلِّب﴾ في هذه الجملة وجهان، أحدهما ولم يقل الزمخشري غيره أنها وما عطف عليها من قوله «وَيذَرُهم» عطف على «يُؤْمنون» داخلٌ في حكم وما يُشْعركم، بمعنى: وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يُشْعركم أنَّا نقلِّب أفئدتَهم وأبصارَهم، وما يُشْعركم أنَّا نَذَرَهم «وهذا يساعده ما جاء في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد، والثاني: أنها استئناف إخبار، وجعله الشيخُ الظاهرَ، والظاهرُ ما تقدَّم.
والأفْئِدة: جمع فؤاد وهو القلب، ويُطلق على العقل. وقال الراغب: «الفؤاد كالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتُبِرَ به معنى التَّفَؤُّد أي التوقُّد يقال: فَأَدْتُ اللحم: شَوَيْتُه ومنه لحم فئيد أي مَشْويٌّ، وظاهر هذا أن الفؤاد غير القلب ويقال له فُؤاد بالواو الصريحة، وهي بدلٌ من الهمزة لأنه تخفيفٌ قياسيٌّ وبه يَقْرأ ورش فيه وفي نظائره، وصلاً ووقفاً، وحمزة وقفاً، ويُجْمع على أفئدة، وهو جمعٌ منقاس نحو غُراب وأغْرِبة، ويجوز أفْيدة بياء بعد الهمزة، وقرأ بها هشام في سورة إبراهيم وسيأتي.
قوله: ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ﴾ الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ و» ما «مصدرية، والتقدير: كما قال أبو البقاء تقليباً ككفرهم عقوبةً
110
مساوية لمعصيتهم، وقَدَّره الحوفي بلا يُؤْمنون به إيماناً ثابتاً كما لم يؤمنوا به أول مرة. وقيل: الكاف هنا للتعليل أي: نقلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم لعدم إيمانهم به أولَ مرة. وقيل: في الكلام حَذْفٌ تقديره: فلا يؤمنون به ثاني مرة كما لم يؤمنوا به أول مرة. وقال بعضُ المفسِّرين:» الكافُ هنا معناها المجازاة أي: لمَّا لم يؤمنوا به أولَ مرة نجازيهم بأَنْ نُقَلِّب أفئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم، فكأنه قيل: ونحن نقلِّب أفئدتهم جزاءً لما لم يؤمنوا به أول مرة قاله ابن عطية. قال الشيخ: «وهو معنى التعليل الذي ذكرناه، إلا أن تسميتَه ذلك بالمجازاة غريبة لا تُعْهَدُ في كلام النحويين». قلت: قد سُبِقَ ابن عطية إلى هذه العبارة، قال الواحدي: «وقال بعضهم: معنى الكاف في ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ﴾ معنى الجزاءِ، ومعنى الآية: ونقلِّب أفئدتَهم وأبصارهم عقوبةً لهم على تَرْك الإِيمان في المرة الأولى، والهاء في» به «تعود على الله تعالى أو على رسوله أو على القرآن، أو على القلب المدلول عليه بالفعل، وهو أبعدها/ و» أول مرة «نصبٌ على ظرف الزمان وقد تقدَّم تحقيقه.
وقرأ إبراهيم النخعي» ويُقَلِّب ويَذَرُهم «بالياء، والفاعلُ ضمير الباري تعالى. وقرأ الأعمش:» وتُقَلَّبُ أفئدتهم وأبصارهم «على البناء للمفعول ورفعِ ما بعده على قيامه مَقامَ الفاعل، كذا رواها الزمخشري عنه، والمشهورُ بهذه القراءةِ إنما هو النخعي أيضاً، ورُوي عنه» ويذرهم «بياء الغَيْبة كما تقدم وسكون الراء. وخَرَّج أبو البقاء هذا التسكينَ على وجهين: أحدهما: التسكين لتوالي الحركات. والثاني: أنه مجزوم عطفاً على» يؤمنوا «،
111
والمعنى: جزاء على كفرهم، وأنه لم يذرْهم في طغيانهم بل بَيَّنَ لهم». وهذا الثاني ليس بظاهر. و «يَعْمَهون» في محلِّ حال أو مفعول ثان؛ لأن الترك بمعنى التصيير.
قوله تعالى: ﴿قُبُلاً﴾ : قرأ نافع وابن عامر «قِبَلاً» هنا وفي الكهف بكسر القاف وفتح الباء، والكوفيون هنا وفي الكهف بضمها، وأبو عمرو وابن كثير بضمها هنا وكسر القاف وفتح الباء في الكهف، وقرأ الحسن البصري وأبو حَيْوة وأبو رجاء بالضم والسكون. وقرأ أُبَيّ والأعمش «قبيلاً» بياء مثناة من تحت بعد باء موحدة مكسورة. وقرأ طلحة بن مصرف «قَبْلا» بفتح القاف وسكون الباء.
فأمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها وجهان، أحدهما: أنها بمعنى مُقَابلة أي: معايَنَةً ومُشَاهَدَةً، وانتصابه على هذا على الحال، قاله أبو عبيدة والفراء والزجاج، ونقله الواحدي أيضاً عن جميع أهل اللغة يقال: «لَقِيته قِبَلاً» أي عِياناً. وقال ابن الأنباري: «قال أبو ذر: قلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنبيَّاً كان آدم؟ فقال: نعم كان نبياً، كلَّمه الله قِبَلاً» وبذلك فَسَّرها ابن عباس وقتادة وابن زيد، ولم يَحْكِ الزمخشري غيره فهو مصدر في موضع الحال كما تقدَّم. والثاني: أنها بمعنى ناحية وجهه، قاله المبرد وجماعة من أهل اللغة كأبي زيد، وانتصابه حينئذٍ على الظرف كقولهم: لي قِبَلُ فلان دَيْنٌ،
112
وما قِبَلك حق. ويقال: لَقِيْتُ فلاناً قِبَلاً ومُقابلةً وقُبُلاً وقُبَلاً وقَبْلِيَّاً وقبيلاً، كلُّه بمعنى واحد، ذكر ذلك أبو زيد وأتبعه بكلام طويلٍ مفيد فَرَحِمَه الله تعالى وجزاه خيراً.
وأمَّا قراءة الباقين هنا ففيها أوجه أحدها: أن يكون «قُبُلاً» جمع قبيل بمعنى كفيل كرَغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب ونَصِيب ونُصُب. وانتصابه حالاً قال الفراء والزجاج: «جمع قبيل بمعنى كفيل أي: كفيلاً بصدق محمد عليه السلام»، ويُقال: قَبَلْتُ الرجل أَقبَلُه قَبالة بفتح الباء في الماضي والقاف في المصدر أي: تكفَّلْت به والقبيل والكفيل والزعيم والأَذِين والضمين والحَمِيل بمعنى واحد، وإنما سُمِّيت الكفالة قَبالة لأنها أوكد تَقَبُّل، وباعتبار معنى الكَفالة سُمِّي العهدُ المكتوب قَبالة. وقال الفراء في سورة الأنعام: «قُبُلاً» جمع «قبيل» وهو الكفيل «. قال:» وإنما اخترت هنا أن يكون القُبُل في معنى الكفالة لقولهم ﴿أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً﴾ [الإِسراء: ٩٢] يَضْمَنُون ذلك.
الثاني: أن يكون جمع قبيل بمعنى جماعةً جماعةً أو صنفاً صنفاً، والمعنى: وحَشَرْنا عليهم كلَّ شيء فَوْجاً فوجاً ونوعاً نوعاً من سائر المخلوقات.
الثالث: أن يكون «قُبْلاً» بمعنى قِبَلاً كالقراءة الأولى في أحد وجهيها وهو المواجهة أي: مواجهةً ومعاينةً، ومنه «آتيك قُبُلاً لا دُبُراً» أي: آتيك من قِبَل وجهك، وقال تعالى: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ [يوسف: ٢٦] وقُرِئ «لقُبُل
113
عِدَّتِهِنَّ» أي: لاستقبالها. وقال الفراء: «وقد يكون قُبُلاً: من قِبَل وجوههم».
وأمَّا الذي في الكهف فإنه يَصِحُّ فيه معنى المواجهة والمعاينة والجماعة صنفاً صنفاً؛ لأن المراد بالعذاب الجنس وسيأتي له مزيد بيان.
و «قُبُلاً» نصب على الحال كما مَرَّ مِنْ «كلَّ» وإن كان نكرةً لعمومه وإضافته، وتقدَّم أنه في أحد أوجهه يُنْصَبُ على الظرف عند المبرد. وأمَّا قراءة الحسن فمخفَّفةٌ من المضموم، وقرأه أُبَيٌّ بالأصل وهو المفرد. وأمَّا قراءة طلحة فهو ظرفٌ مقطوعٌ عن الإِضافة معناه: أو يأتيَ بالله والملائكة قَبْلَه، ولكن كان ينبغي أن يُبْنَى لأن الإِضافة مُرادة.
وقوله: ﴿مَّا كَانُواْ﴾ جواب «لو» وقد تقدَّم أنه إذا كان منفيَّاً امتنعَتِ اللام. وقال الحوفي: «التقدير لَمَا كانوا، حُذِفَتْ اللام وهي مرادةٌ»، وهذا ليس بجيد لأن الجوابَ المنفيَّ ب «ما» يَقِلُّ دخولُها بل لا يجوز عند بعضهم، والمنفيُّ ب «لم» ممتنع البتة. وهذه اللام لام الجحود جارَّةٌ للمصدر المؤول من «أَنْ» والمنصوب بها، وقد تقدَّم تحقيق هذا كلِّه بعَوْن الله تعالى.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ يجوز أن يكون متصلاً أي: ما كانوا ليؤمنوا في سائرِ الأحوال إلا في حال مشيئة الله أو في سائر الأزمان إلا في زمان مشيئته.
114
وقيل: إنه استثناء من علة عامة أي: ما كانوا ليؤمنوا لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله تعالى. والثاني: أن يكون منقطعاً، نقل ذلك الحوفي وأبو البقاء واستبعده الشيخ.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ : الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف، فقدَّره الزمخشري/ كما خَلَّيْنا بينك وبين أعدائك كذلك فَعَلْنا بمَنْ قَبْلك «، وقال الواحدي:» وكذلك «منسوقٌ على قوله ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا﴾ [الأنعام: ١٠٨] أي:» كما فَعَلْنا ذلك كذلك جَعَلْنا لكلِّ نبيٍّ عدوَّاً «. ثم قال:» وقيل: معناه جَعَلْنا لك عدواً كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء، فيكون قولُه «وكذلك» عَطْفاً على معنى ما تَقَدَّم من الكلام، وما تقدَّم يدلُّ على معناه على أنه جعل له أعداءً و «جَعَل» يتعدَّى لاثنين بمعنى صَيَّر. وأعرب الزمخشري وأبو البقاء والحوفي هنا نحوَ إعرابِهم في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن﴾ [الأنعام: ١٠٠] فيكونُ المفعول الأول «شياطين الإِنس» والثاني «عَدُوَّا»، و «لكلِّ» حال من «عدوَّاً» لأنه صفتُه في الأصل، أو متعلِّق بالجَعْل قبلَه، ويجوز أن يكون المفعول الأول «عدوَّاً» و «لكلِّ» هو الثاني قُدِّم، و «شياطين» بدل من المفعول الأول.
والإِضافة في ﴿شَيَاطِينَ الإنس﴾ يُحتمل أن تكونَ من باب إضافة الصفة لموصوفها، والأصل: الإِنس والجن الشياطين نحو: جَرْد قطيفة، ورجَّحْتُه بأنَّ المقصودَ التَّسَلِّي والاتِّساء بمن سَبَق من الأنبياء إذ كان في أممهم مَنْ يُعادلهم
115
كما في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحتمل أن تكون من الإِضافة التي بمعنى اللام، وليست من باب إضافة صفة لموصوف، والمعنى: الشياطين التي للإِنس، والشياطين التي للجن، فإنَّ إبليس قسَّم جنده قسمين: قسمٌ مُتَسَلِّط على الإِنس، وآخر على الجن كذا جاء في التفسير، ووقع «عَدُوَّاً» مفعولاً ثانياً لشياطين على أحد الإِعرابين بلفظ الإِفراد لأنه يكتفي به في ذلك، وتقدَّم شواهده ومنه:
٢٠٣٣ - إذا أنا لم أَنْفَعْ صديقي بودِّه
فإنَّ عدوِّي لن يَضُرَّهُمُ بُغْضي
فأعاد الضمير مِنْ «يَضُرَّهُم» على «عدّو» فدلَّ على جمعيته.
قوله ﴿يُوحِي﴾ يحتمل أن يكون مستأنفاً أخبر عنهم بذلك، وأن يكون حالاً من «شياطين» وأن يكون وصفاً لعدو، وقد تقدَّم أنه واقع موقع أعداء، فلذلك عاد الضمير عليه جمعاً في قوله «بعضهم».
قوله ﴿غُرُوراً﴾ قيل: نصبٌ على المفعول له أي: لأَنْ يَغُرُّوا غيرهم وقيل: هو مصدرٌ في موضع الحال أي غارِّين، وأن يكون منصوباً على المصدر، لأن العاملَ فيه بمعناه كأنه قيل: يَغُرُّون غُروراً بالوحي. والزخرف: الزينة، وكلامٌ مُزَخْرَف مُنَمَّق، وأصلُه الذَّهب، ولمَّا كان الذهب مُعْجِباً لكل أحد قيل لكل مُسْتَحْسَن مزيَّن: زخرف. وقال أبو عبيدة «كلُّ ما حَسَّنْتَه وزَيَّنْتَه وهو باطل فهو زُخْرف» وهذا لا يلزم إذ قد يُطْلق على ما هو زينةٌ حَقٌّ، وبيت مزخرف أي: مُزَيَّنُ بالنقش، ومنه الحديث: «إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدخل الكعبة حتى أَمَرَ بالزخرف فَنُجِّي» يعني أنهم
116
كانوا يزينون الكعبة بنقوش وتصاوير مُمَوَّهة بالذهب فأُمِرْنا بإخراجها.
قوله: ﴿وَمَا يَفْتَرُونَ﴾«ما» موصولةٌ اسميةٌ أو نكرةٌ موصوفة، والعائدُ على كِلا هذين القولين محذوف، أي: وما يفترُونه، أو مصدرية، وعلى كلِّ قول فمحلُّها نصبٌ، وفيه وجهان أحدهما: أنها نسقٌ على المفعول في «فَذَرْهُمْ» أي: اتركهمْ واتركْ افتراءهم. والثاني: أنها مفعول معه، وهو مرجوحٌ لأنه متى أَمْكَنَ العطفُ من غير ضعف في التركيب أو في المعنى كان أَوْلَى من المفعول معه.
قوله تعالى: ﴿ولتصغى﴾ : في هذهِ اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لامُ كي والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ. وفيما يتعلَّق به احتمالان: الاحتمال الأول أن يتعلق بيُوحي على أنها نَسَقٌ على «غروراً»، وغروراً مفعول له والتقدير: يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ للغرور وللصَّغْو، ولكن لمَّا كان المفعول له الأول مستكمِلاً لشروط النصب نُصِب، ولما كان هذا غيرَ مستكملٍ للشروط وَصَلَ الفعلُ إليه بحرف العلة، وقد فاته من الشروط كونُه لم يتَّحد فيه الفاعل، فإنَّ فاعلَ الوحي «بعضهم» وفاعلَ الصَّغْو الأفئدة، وفات أيضاً من الشروط صريحُ المصدرية. والاحتمالُ الثاني: أن يتعلَّق بمحذوف متأخرٍ بعدها، فقدَّره الزجاج: ولتَصْغى إليه فَعَلُوا ذلك، وكذا قدَّرَه الزمخشري فقال: «ولتصغى جوابُه محذوف تقديره: وليكونَ ذلك جَعَلْنا الزمخشري فقال:» ولتصغى جوابُه محذوف تقديره: وليكونَ ذلك جَعَلْنا لكلِّ نبيّ عدُوَّاً، على أن اللام لام الصيرورة «.
الوجه الثاني: / أن اللام لام الصيرورة وهي التي يعبرون عنها بلام العاقبة، وهو رأيُ الزمخشري كما تقدَّم حكايته عنه أيضاً.
117
الوجه الثالث: أنها لامُ القسم. قال أبو البقاء:» إلا أنها كُسِرَتْ لمَّا لم يؤكِّد الفعل بالنون «وما قاله غيرُ معروفٍ، بل المعروفُ في هذا القول أنَّ هذه لامُ كي، وهي جواب قسم محذوف تقديره: والله لَتَصْغَى فوضع» لِتَصْغَى «موضع لَتَصْغَيَنَّ، فصار جواب القسم من قبيل المفرد كقولك:» واللهِ لَيقومُ زيدٌ «أي: أحلفُ بالله لَقيامُ زيد، هذا مذهبُ الأخفش وأنشد:
٢٠٣٤ - إذا قلتُ قَدْني قال بالله حَلْفَةً
لِتُغْنِيَ عني ذا إنائك أجمعا
فقوْله» لتُغْني «جوابُ القسم، فقد ظهر أن هذا القائل يقول بكونها لامَ كي، غايةُ ما في الباب أنها وقعت موقع جواب القسم لا أنها جواب بنفسها، وكُسِرَتْ لَمَّا حَذَفَتْ منها نون التوكيد، ويدلُّ على فساد ذلك أن النونَ قد حُذِفَتْ، ولامَ الجواب باقيةٌ على فتحها قال:
٢٠٣٥ - لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ
لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ
فقوله» لَيَعْلَمُ «جوابُ القسم الموطَّأ له باللام في» لِئنْ «، ومع ذلك فهي مفتوحةٌ مع حَذْفِ نون التوكيد، ولتحقيقِ هذه المسألةِ مع الأخفش موضوعٌ غيرُ هذا.
والضمير في قوله» ما فعلوه «وفي» إليه «يعود: إمَّا على الوحي، وإمَّا على الزخرف، وإمَّا على القول، وإمَّا على الغرور، وإمَّا على العداوة لأنها بمعنى
118
التعادي. ولتصغى أي تميل، وهذه المادة تدل على الميل ومنه قولُه تعالى ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٥] وفي الحديث:» فأصغى لها الإِناء «، وصاغِيَةُ الرجل قرابتُه الذين يميلون إليه، وعين صَغْوى أي: مائلة، قال الأعشى:
٢٠٣٦ - ترى عينها صَغْواءَ في جَنْبِ مُؤْقِها
تُراقب في كَفِّي القطيعَ المحرَّما
والصَّغا: مَيْلٌ في الحَنَك والعين، وصَغَت الشمس والنجوم: أي مالت للغروب. ويقال: صَغَوْتُ وصَغِيْتُ وصَغَيْتُ، فاللام واو أو ياء، ومع الياءِ تُكْسَرُ غين الماضي وتُفْتَحُ. قال الشيخ: «فمصدرُ الأول صَغْوٌ، والثاني صُغِيٌّ، والثالث صَغَاً، ومضارِعُها يَصْغَى بفتح العين» قلت: قد حكى الأصمعي في مصدر صَغَا يَصْغُو صَغَاً، فليس «صَغَاً» مختصاً بكونِه مصدراً ل «صَغِي» بالكسر. وزاد الفراء «صُغِيَّاً» و «صُغُوَّاً» بالياء والواو مُشَدَّدتين. وأمَّا قولُه «ومضارعُها أي مضارع الأفعال الثلاثة يَصْغَى بفتح العين، فقد حكى أبو عبيد عن الكسائي صَغَوْتُ أصغو، وكذا ابن السكيت حكى: صَغَوْتُ أَصْغُو، فقد خالفوا بين مضارعِها، وصَغَوْت أَصْغُو هو القياس الفاشي، فإنَّ فَعَل المعتل اللام بالواو قياسُ مضارعِه يَفْعُل بضم العين. وقال الشيخ أيضاً:» وهي يعني الأفعال الثلاثة لازمة «أي؛ لا تتعدَّى، وأصغى مثلُها
قلت: وفي الحديث» فأصغى لها الإِناء «، وهذا الذي زعمه مِنْ كون صغَى أو صَغِيَ أو صَغَا يكون لازماً غير موافق عليه، بل قد حكى الراغب أنه يقال: صَغَيْتُ الإِناء وأصغيتُه، وصَغِيت بكسر الغين يحتمل أن يكون من ذوات الياء، ويحتمل أن يكون من ذوات الواو، وإنما قُلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كقَوِي وهو من القوة. وقراءة النخعي والجراح بن عبد الله:»
120
ولِتُصْغَى «من أصغى رباعياً وهو هنا لازم.
وقرأ الحسن:» وَلْتَصْغى ولْيَرْضَوْه/ ولْيقترفوا «بسكون اللام في الثلاثة. وقال أبو عمر الداني:» قراءة الحسن إنما هو «ولِتَصْغِي» بكسر الغين «قلت: فتكون كقراءة النخعي. وقيل: قرأ الحسن» ولِتصغى «بكسر اللام كالعامة، ولْيرضوه ولْيقترفوا بسكون اللام، وخَرَّجوا تسكين اللام على أحد وجهين: إمَّا أنها لام كي وإنما سُكِّنَتْ إجراءً لها مع ما بعدها مُجْرى كَبِد ونَمِر، قال ابن جني:» وهو قويٌّ في القياس شاذٌّ في السماع «. والثاني: أنها لام الأمر، وهذا وإن تَمَشَّى في ليرضوه وليقترفوا فلا يتمشَّى في» ولتصْغَى «إذ حرفُ العلة يحذف جزماً. قال أبو البقاء:» وليست لامَ الأمر لأنه لم يُجْزم الفعل «. قلت قد ثبت حرفُ العلَّة جزماً في المتواتر فمنها:» أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً نَرْتَعي وَيَلْعَبْ « ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله﴾ [يوسف: ٩٠] ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦] ﴿لاَّ تَخَفْ دَرَكاً وَلاَ تخشى﴾ [طه: ٧٧]، وفي كل ذلك تأويلاتٌ ستقفُ عليها إن شاء الله تعالى فلتكنْ هذه القراءة الشاذة مثل هذه المواضع، والقولُ بكون لامِ «لتصغى» لام كي سُكِّنت لتوالي الحركات واللامين بعدها لامَيْ أمرٍ بعيدٌ وتَشَهٍّ. وقال النحاس: «ويُقْرأ ولْيقترفوا» يعني بالسكون قال: «وفيه معنى التهدد». قلت يريد أنه أَمْرُ
121
تهديد كقوله: ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] ولم يَحْكِ التسكينَ في «لتصْغَى» ولا في «ليرضوه».
و «ما» في ماهم مُقْتَرِفون موصولةً اسمية أو نكرة موصوفة أو نكرة موصوفة أو مصدرية، والعائد على كلا القولين الأولين محذوفٌ أي: ما هم مقترفوه. وقال أبو البقاء: «وأثبت النونَ لَمَّا حُذِفَتْ الهاء» يريد أن الضميرَ المتصل باسم الفاعل المثنى والمجموع على حَدِّه تُحْذَفُ له نون التثنية والجمع نحو: هذان ضارباه وهؤلاء ضاربوه، فإذا حذف الضمير زال الموجب فتعود النون، وهذا هو الأكثر أعني حذف النون مع اتصال الضمير وقد ثبتت قال:
٢٠٤٠ - ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مُحْتَضِرُونه
جميعاً وأيدي المعتفين رواهقهْ
وقال:
٢٠٤ - ١- هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونهُ
............
والاقتراف: الاكتساب، واقترف فلان لأهله أي: اكتسب، وأكثر ما يقال في الشر والذنب، ويطلق في الخير قال تعالى: ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً﴾ [الشورى: ٢٣] وقال ابن الأنباري: «قَرَف واقْتَرَف اكتسب. وأنشد:
٢٠٤٢ - وإني لآتٍ ما أَتَيْتُ وإنني
لِمَا اقترفَتْ نفسي عَليَّ لَراهِبُ
122
وأصلُ القِرْف والاقتراف قِشْرُ لِحاء الشجر، والجِلْدَةُ من أعلى الحَرَج وما يُؤْخذ منه قِرْف، ثم استعير الاقترافُ للاكتساب حسناً كان أو سيئاً وفي السَّيِّء أكثر استعمالاً، وقارف فلان أمراً: تعاطَى ما يُعاب به. وقيل: الاعتراف يزيل الاقتراف، ورجل مُقْرِف أي هجين قال:
قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ الله﴾ : يجوز نصب «غير» من وجهين أحدهما: أنه مفعولٌ لأبتغي عليه وَوَلِيَ الهمزة لِما تقدم في قوله ﴿أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً﴾ [الأنعام: ١٤] ويكون «حكماً» حينئذ: إمَّا حالاً وإمَّا تمييزاً ل «غير» ذكره الحوفي وأبو البقاء وابن عطية كقولهم: «إن لنا غيرها إبلاً». والثاني: أن ينتصب «غير» على الحال مِنْ «حَكَماً» لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفاً له، و «حَكَماً» هو المفعول به فتحصَّل في نصب «غير» وجهان.
وفي نصب «حكماً» ثلاثة أوجه: كونه حالاً أو مفعولاً أو تمييزاً. والحَكَمُ أبلغُ من الحاكم قيل: لأنَّ الحَكَم مَنْ تكرَّر منه الحُكْمُ بخلاف الحاكم فإنه يُصَدِّق غيره. وقيل: لأن الحَكَم لا يَحْكمُ إلا بالعدل والحاكم قد يجور. وقوله «وهو الذي أنزل» هذه الجملة في محل نصب على الحال مِنْ فاعل «أبتغي»، و «مفصلاً» حال من «الكتاب».
123
وقوله: ﴿والذين آتَيْنَاهُمُ﴾ مبتدأ و «يعلمون» خبره، والجملة مستأنفة، و «من ربك» لابتداء الغاية مجازاً، و «بالحق» خال من الضمير المستكنّ في «مُنَزَّل» أي: ملتبساً بالحق فالباء للمصاحبة. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «مُنَزَّل» بتشديد الزاي، والباقون بتخفيفها. وقد تقدَّم أن أنزل ونزَّل لغتان أو بينهما فرقٌ.
قوله تعالى: ﴿صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ : في نصبهما ثلاثة أوجه أحدها: أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي: تَمَّتِ الكلمات صادقاتٍ في الوعد عادلاتٍ في الوعيد. الثاني: أنهما نصب على التمييز، قال ابن عطية: «وهو غير صواب» وممن قال بكونه تمييزاً الطبري وأبو البقاء. الثالث: أنهما نصب على المفعول من أجله أي: تَمَّتْ لأجل الصدق والعدل الواقعين منهما، وهو محلُّ نظر، ذكر هذا الوجهَ أبو البقاء.
وقرأ الكوفيون هنا وفي يونس في قوله ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا﴾ [يونس: ٣٣] ﴿إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ [يونس: ٩٦] موضعان، وفي غافر: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ [الآية: ٦] «كلمة» بالإِفراد، وافقهم ابن كثير وأبو عمرو على ما في يونس وغافر دون هذه السورة، والباقون بالجمع في المواضع الثلاثة. قال الشيخ: «قرأ الكوفيون هنا وفي يونس في الموضعين وفي
124
المؤمن» كلمة «بالإِفراد، ونافع جميع ذلك» كلمات «بالجمع، تابعه أبو عمرو وابن كثير هنا» قلت: كيف نسي ابن عامر؟ لا يقال إنه قد أسقطه الناسخ وكان الأصل «ونافع وابن عامر» لأنه قال «تابعه» ولو كان كذلك لقال «تابعهما». ووجه الإِفراد إرادة الجنس وهو نظير: رسالته ورسالاته. وقراءةُ الجمع ظاهرةٌ لأنَّ كلماته تعالى متبوعة بالنسبة إلى الأمرِ والنهي والوعد والوعيد، وقد أُجْمع على الجمع في قوله ﴿لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾﴿وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله﴾ [الأنعام: ٣٤].
وقوله ﴿لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ : يحتمل أن لا يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب لأنها مستأنفة، وأن تكونَ جملةً حالية من فاعل «تَمَّتْ». فإن قلت: فأين الرابط بين ذي الحال والحال؟ فالجواب أن الرَّبْطَ حصل بالظاهر، والأصل: لا مبدِّل لها، وإنما أُبْرزت ظاهرة تعظيماً لها ولإِضافتها إلى لفظ الجلالة الشريفة. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أَنْ يكونَ حالاً من» ربك «لئلا يُفْصَلَ بين الحال وصاحبها بالأجنبي وهو» صدقاً وعدلاً «إلا أن يُجْعَلَ» صدقاً وعدلاً «حالاً من» ربك «لا من» الكلمات «. قلت: فإنه إذا جعل» صدقاً وعدلاً «حالاً من» ربك «لم يَلْزَمْ منه فَصْلٌ لأنهما حالان لذي حال، ولكنه قاعدته تمنع تعدُّدَ الحال لذي حال واحدة، وتمنع أيضاً مجيء الحال من المضاف إليه، وإن كان المضاف بعض الثاني، ولم يمنع هنا بشيء من ذلك. والرسم في» كلمات «في المواضع التي أشرْتُ إلى اختلاف القراء فيها مُحْتَمِلٌ لخلافهم، فإنه في المصحف الكريم مِنْ غير ألفٍ بعد الميم.
وقوله تعالى: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ﴾ : و ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾«إنْ» نافية بمعنى ما في الموضعين. والخَرْص: الحَزْرُ، ويُعَبَّر به عن الكذب
125
والافتراء، وأصله من التظنّي وهو قولُ ما لم يستيقن ويتحقق قاله الأزهري، ومنه خَرَص النخل يقال: خَرَصها الخارص خَرْصاً فهي خِرْص فالمفتوحُ مصدرٌ، والمكسور بمعنى مفعول كالنَّقض والنِّقض والذَّبح والذِّبْح.
قوله تعالى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ﴾ : في «أعلم» هذه قولان أحدهما: أنها ليست للتفضيل بل بمعنى اسم فاعل في قوته كأنه قيل: إن ربك هو يعلم. قال الواحدي: «ولا يجوز ذلك لأنه لا يطابِقُ ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾. والثاني: أنها على بابها من التفضيل. ثم اختلف هؤلاء في محلِّ» مَنْ «: فقال بعض البصريين: هو جرٌّ بحرفٍ مقدَّرٌ حُذِف وبقي عملُه لقوة الدلالة عليه بقوله ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ وهذا ليس بشيء لأنه لا يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى أثرُه إلا في مواضعَ تقدَّمَ التنبيهُ عليها، وما وَرَدَ بخلافها فضرورةٌ كقوله:
٢٠٤٤ -...............
أشارت كليبٍ بالأكف الأصابعُ
[وقوله] :
٢٠٤٥ -...................
حتى تبذَّخ فارتقى الأعلامِ
الثاني: أنها في محل نصب على إسقاط الخافض كقوله:
٢٠٤٦ - تمرُّون الديار ولم تعوجوا
...................
قاله أبو الفتح. وهو مردود من وجهين: أحدهما: أن ذلك لا يطَّرد. والثاني: أن أَفْعلَ التفضيل لا تَنْصِبُ بنفسها لضعفها. الثالث: وهو قول الكوفيين أنه نُصِب بنفس أفعل فإنها عندهم تعمل عمل الفعل. الرابع: أنها
126
منصوبةٌ بفعل مقدَّر يدل عليه أفعل، قاله الفارسي، وعليه خَرَّج قول الشاعر:
٢٠٤٧ - أكَرَّ وأَحْمَى للحقيقةِ منهمُ
وأَضْرَبَ منا بالسيوف القوانِسا
فالقوانِس نُصِبَ بإضمار فعلٍ، أي: يَضْرِبُ القوانس، لأن أفعل ضعيفة كما تقرر. الخامس: أنها مرفوعةُ المحلِّ بالابتداء، و» يضلُّ «خبره، والجملة مُعَلِّقة لأفعل التفضيل فهي في محل نصبٍ بها، كأنه قيل: أعلمُ أيُّ الناس يضلُّ كقوله: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى﴾ [الكهف: ١٢] وهذا رأي الكسائي والزجاج والمبرد ومكي. إلا أن الشيخ رَدّ هذا بأن التعليق فرع ثبوت العمل في المفعول به/ وأفعل لا يعمل فيه فلا يُعَلَّق». والراجح من هذه الأقوال نَصْبُها بمضمر وهو قول الفارسي، وقواعد البصريين موافقة له، ولا يجوز أن تكون «مَنْ» في محل جر بإضافة أفعل إليها؛ لئلا يلزم محذور عظيم: وذلك أن أفعل التفضيل لا تُضاف إلا إلى جنسها فإذا قلت: «زيد أعلمُ الضالين» لزم أن يكون «زيد» بعضَ الضالين أي متَّصِفٌ بالضلال، فهذا الوجهُ مستحيل في هذه الآية الكريمة. هذا عند مَنْ قرأ «يَضِلُّ» بفتح حرف المضارعة.
أمَّا مَنْ قرأ بضمِّه: «يُضِلّ» وهو الحسن وأحمد بن أبي سريج فقال أبو البقاء: «يجوز أن تكون» مَنْ «في موضع جر بإضافة» أفعل «إليها. قال:»
127
إمَّا على معنى هو أعلم المضلين أي: مَنْ يجد الضلال، وهو مَنْ أضللته أي: وجدته ضالاًّ مثل أَحْمَدْتُه أي: وجدتُه محموداً أو بمعنى أنه يضلُّ عن الهدى «. قلت: ولا حاجة إلى ارتكاب مثل هذا في مثل هذه الأماكن الحرجة، وكان قد عَبَّر قبل ذلك بعبارات استعظمْتُ النطق بها فضربت عنها إلى أمثلةٍ من قولي.
والذي تُحْمَلُ عليه هذه القراءة ما تقدَّم من المختار وهو النصب بمضمر. وفاعل «يُضِلّ» على هذه القراءة ضمير يعود على الله تعالى على معنى يجده ضالاً أو يخلُق فيه الضلال، لا يُسأل عما يَفعل. ويجوز أن يكون ضمير «مَنْ» أي: أعلم مَنْ يضلُّ الناس. والمفعول محذوف. وأمَّا على القراءة الشهيرة فالفاعل ضمير «مَنْ» فقط. و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولةً وهو الظاهر، وأن تكون نكرةً موصوفة، ذكره أبو البقاء.
وقوله تعالى: ﴿فَكُلُواْ﴾ : في هذه الفاءِ وجهان أحدهما: أنها جوابُ شرطٍ مقدر. قال الزمخشري بعد كلام: «فقيل للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإِيمان فكُلوا». والثاني: أنها عاطفة على محذوف قال الواحدي: «ودخلت الفاءُ للعطف على ما دلَّ عليه أولُ الكلام كأنه قيل: كونوا على الهدى فكلوا، والظاهر أنها عاطفة على ما تقدَّم من مضمون الجمل المتقدمة كأنه قيل: اتَّبِعوا ما أمركم الله مِنْ أكل المُذَكَّى دون الميتة فكُلوا.
قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ﴾ : مبتدأ وخبر، وقوله «أن لا تأكلوا» فيه قولان أحدهما: هو على حذف حرف الجر أي: أيُّ شيء استقر في منع الآكل ممَّا ذُكِرَ اسم الله عليه، وهو قول أبي إسحاق الزجاج، فلمَّا حُذِفَتْ «في» جرى القولان المشهوران، ولم يذكر الزمخشري غير هذا
128
الوجه. والثاني: أنها في محل نصب على الحال والتقدير: وأيُّ شيءٍ لكم تاركين للأكل، ويؤيد ذلك وقوعُ الحال الصريحة في مثل هذا التركيب كثيراً نحو: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩] إلا أن هذا مردود بوجهين أحدهما: أنَّ «أنْ» تُخَلِّص الفعلَ للاستقبال فكيف يقع ما بعدها حالاً؟ والثاني: أنها مع ما بعدها مؤولة بالمصدر وهو أشبه بالمضمرات كما تقدم تحريره، والحال إنما تكون نكرة. قال أبو البقاء: «إلا أن يُقَدَّر حَذْفُ مضاف فيجوز أي:» وما لكم ذوي أن لا تأكلوا «وفيه تكلف، ومفعول» تأكلوا «محذوف بقيت صفته، تقديره: شيئاً مما ذُكِرَ اسم الله، ويجوز أن لا يُراد مفعول، بل المراد وما لكم أن لا يقع منكم الأكل، وتكون» مِنْ «لابتداء الغاية أي: أن لا تبتدئوا بالأكل من المذكور عليه اسمُ الله، وزُعِم أن» لا «مزيدةٌ، وهذا فاسد إذ لا داعي لزيادتها.
قوله: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ببنائهما للمفعول، ونافع وحفص عن عاصم ببنائهما للفاعل، وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ببناء الأول للفاعل وبناء الثاني للمفعول، ولم يأت عكس هذه. وقرأ عطية العوفي كقراءة الأخوين، إلا أنه خَفَّف الصاد من» فصل «، والقائم مقام الفاعل هو الموصول، وعائده من قوله» حَرَّم عليكم «. والفاعلُ في قراءة مَنْ بنى للفاعل ضميرُ الله تعالى، والجملة في محل نصب على الحال.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا اضطررتم﴾ فيه وجهان أحدهما: أنه استثناء منقطع، قاله ابن
129
عطية والحوفي. والثاني: أنه استثناء متصل قال أبو البقاء:» ما «في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنى لأنه وبَّخهم بترك الأكل مما سُمِّي عليه، وذلك يتضمن الإِباحة مطلقاً». قلت: الأول أوضح والاتصال قلق المعنى. ثم قال: «وقوله وقد فصَّل لكم ما حَرَّم عليكم أي: في حال الاختيار وذلك/ حلال حالَ الاضطرار».
قوله ﴿لَّيُضِلُّونَ﴾ قرأ الكوفيون بضم الياء، وكذا التي في يونس [الآية: ٨٨] ﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ﴾ والباقون بالفتح، وسيأتي لذلك نظائر في إبراهيم وغيرها، والقراءتان واضحتان فإنه يقال: ضَلَّ في نفسه وأضلَّ غيره، فالمفعول محذوف على قراءة الكوفيين، وهي أبلغُ في الذمِّ فإنها تتضمَّن قُبْحَ فِعْلهم حيث ضلَّوا في أنفسهم وأَضَلُّوا غيرهم كقوله تعالى: ﴿وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل﴾ [المائدة: ٧٧] وقراءةُ الفتح لا تحوج إلى حذف فرجَّحها بعضهم بهذا، وأيضاً فإنهم أجمعوا على الفتح في ص عند قوله ﴿إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ [الآية: ٢٦].
وقوله: ﴿بِأَهْوَائِهِم﴾ متعلق بيضلون، والباء سببيَّة أي: بسبب اتِّباعهم أهواءهم وشهواتهم. وقوله «بغير علم» متعلق بمحذوف لأنه حال أي: يضلُّون مصاحبين للجهل أي: ملتبسين بغير علم.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ : هذه الجملة فيها أوجه، أحدهما: أنها مستأنفة قالوا: ولا يجوز أن تكون منسوقةً على ما قبلها، لأن
130
الأولى طلبية وهذه خبرية، وتُسَمَّى هذه الواوُ واوَ الاستئناف. والثاني: أنها منسوقةٌ على ما قبلها ولا يُبالى بتخالفهما وهو مذهب سيبويه، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وقد أَوْرَدْتُ من ذلك شواهد صالحة من شعر وغيره. والثالث: أنها حالية أي: لا تأكلوه والحال أنه فسق. وقد تبجَّح الإِمام الرازي بهذا الوجه على الحنفيَّة حيث قَلَبَ دليلهم عليهم بهذا الوجه، وذلك أنهم يمنعون مِنْ أَكْلِ متروك التسمية، والشافعية لا يمنعون منه، استدلَّ عليهم الحنفية بظاهر هذه الآية فقال الرازي: «هذه الجملة حالية، ولا يجوز أن تكون معطوفة لتخالفهما طلباً وخبراً فتعيَّن أن تكون حالية، وإذا كانت حالية كان المعنى: لا تأكلوه حال كونه فسقاً، ثم هذا الفسق مجمل قد فسَّره الله تعالى في موضع آخر فقال: ﴿أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ [الأنعام: ١٤٥] يعني أنه إذا ذُكر على الذبيحة غيرُ اسم الله فإنه لا يجوز أكلُها لأنه فسقٌ» ونحن نقول به، ولا يلزم من ذلك أنه إذا لم يُذْكَر اسمُ الله ولا اسمُ غيره أن تكون حراماً لأنه ليس بالتفسير الذي ذكرناه. وللنزاع فيه مجال من وجوه، منها: أنها لا نُسَلِّم امتناع عطف الخبر على الطلب والعكس كما قدَّمْتُه عن سيبويه، وإن سُلِّم فالواو للاستئناف كما تقدَّم وما بعدها مستأنف، وإن سُلِّم أيضاً فلا نُسَلِّم أنَّ «فسقاً» في الآية الأخرى مُبَيِّن للفسق في هذه الآية، فإنَّ هذا ليس من باب المجمل والمبيِّن لأن له شروطاً ليست موجودةً هنا.
وهذا الذي قاله مستمد من كلام الزمخشري فإنه قال «فإن قلت: قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أَكْلِ ما لم يُذْكَرِ اسم الله عليه بنسيانٍ أو عَمْد. قلت: قد تأوَّله هؤلاء بالميتة وبما ذُكر غيرُ اسمِ الله عليه كقوله: {
131
أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: ١٤٥] فهذا أصل ما ذكره ابن الخطيب وتبجَّح به.
والضمير في» إنَّه «يحتمل أن يعود على الأكل المدلول عليه ب» لا تأكلوا «وأن يعود على الموصول، وفيه حينئذ تأويلان: أن تجعل الموصول نفس الفسق مبالغةً أو على حذف مضاف أي: وإن أكله لفسق، أو على الذِّكْرِ المفهوم من قوله» ذُكر «. قال الشيخ:» والضمير في «إنه» يعود على الأكل قاله الزمخشري واقتصر عليه «. قلت: لم يَقْتَصِرْ عليه بل ذكر أنه يجوز أن يعود على الموصول، وذكر التأويلين المتقدمين فقال:» الضمير راجع على مصدر الفعل الداخل عليه حرفُ النهي بمعنى: وإن الأكل منه لفسق، أو على الموصول على أن أكلَه لفِسْق، أو جَعَلَ ما لم يُذكر اسمُ الله عليه [في] نفسه فسقاً «.
قوله: ﴿لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ متعلقٌ ب «يُوحُون» أي: يوحون لأجل مجادلتكم. وأصل «يُوحون» : يُوحِيُون فأُعِلّ. «وإن أَطَعْتموهم» قيل: إنَّ لام التوطئة للقسم فلذلك أجيب القسم المقدَّر بقوله «إنكم لمشركون» وحُذِف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مَسَدَّه، وجاز الحذف لأنَّ فعل الشرط ماض. وقال أبو البقاء: «حَذَفَ الفاء من جواب الشرط، وهو حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي، وهو ههنا كذلك وهو قوله وإن أَطَعْتموهم». قلت: كأنه زعم أن
132
جواب الشرط هو الجملة من قوله «إنكم لمشركون»، والأصل «فإنكم» بالفاء لأنها جملة اسمية، ثم حُذِفت الفاءُ لكونِ فعل الشرط بلفظ المُضيّ، وهذا ليس بشيء فإن القَسَمَ مقدر قبل الشرط، ويدل على ذلك حذفُ اللام الموطئة قبل «إن» الشرطية وليس فعل الشرط ماضياً كقوله تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ﴾ [الأعراف: ٢٣] فههنا لا يُمْكنه أن يقول: إن الفاء محذوفة لأن فعل الشرط مضارع، وكأن أبا البقاء والله أعلم أخذ هذا من الحوفي فإني رأيته فيه كما ذكره أبو البقاء، وردَّه الشيخ بنحوٍ مما تقدم.
قوله تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ﴾ :«أو مَنْ كان» قد تقدَّم أن هذه الهمزة يجوز أن تكونَ مقدَّمةً على حرفِ العطف وهو رأي الجمهور، وأن تكونَ على حالها وبينها وبين الواو فعل مضمر. و «مَنْ» في محلِّ رفع بالابتداء و «كمَنْ» خبره وهي موصولة، و «يمشي» في محلِّ نصب صفةً ل «نوراً» و «مَثَلُه» مبتدأ، وفي الظلمات خبره/ والجملةُ صلةُ «مَنْ» و «مَنْ» مجرورة بالكاف والكافُ ومجرورها كما تقدَّم في محل رفع خبراً ل مَنْ الأولى، و «ليس بخارج» في محلِّ نصب على الحال من الموصول أي: مثل الذي استقر في الظلمات حال كونه مقيماً فيها. وقال أبو البقاء: «ليس بخارجٍ في موضع الحال من الضمير في» منها «، ولا يجوز أن يكون حالاً من الهاء في» مَثَلُه «للفصل بينه وبين الحال بالخبر». وجعل مكي الجملة حالاً من الضمير المستكنِّ في «الظلمات». وقرأ طلحة بن مصرف «أَفَمَنْ كان» بالفاء بدل الواو.
قوله: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ﴾ نعتٌ لمصدر فقدَّره بعضهم: زُيِّن للكافرين تزييناً
133
كما أحيينا المؤمنين، وقدَّره آخرون: زُيّن للكافرين تزييناً لكونِ الكافرين في ظلمات مقيمين فيها، والفاعل المحذوف مِنْ «زُيِّن» المنوبُ عنه هو الله تعالى، ويجوز أن يكون الشيطان، وقد صَرَّح بكل من الفاعلين مع لفظ «زَيَّن» قال تعالى: ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النمل: ٤] وقال تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ [العنكبوت: ٣٨] و ﴿مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ هو القائمُ مقامَ الفاعل، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسميةً أو حرفيةً أو نكرة موصوفة، والعائد على القول الأول والثالث محذوف دون الثاني عند الجمهور، على ما عُرِفَ غيرَ مرة. وقال الزجاج: «موضع الكاف رفعٌ، والمعنى: مثل ذلك الذي قَصَصْنا عليك زُيِّن للكافرين أعمالهم».
قوله تعالى: ﴿وكذلك جَعَلْنَا﴾ قيل: «كذلك» نَسَقٌ على «كذلك» قبلها ففيها ما فيها، وقَدَّره الزمخشري بأن معناه: وكما جعلنا في مكة صناديدَها ليمكروا فيها، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها «واللام في» ليمكروا «يجوز أن تكون للعاقبة وأن تكون للعلةِ مجازاً، و» جَعَلَ «تصييريةٌ فتتعدَّى لاثنين، واختُلف في تقديرهما، والصحيح أن تكون ﴿فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾ مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأول، والأول» أكابرَ «مضافاً لمجرميها. والثاني: أن ﴿فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾ مفعول أيضاً مقدم،» أكابر «هو الأول و» مجرميها «بدلٌ من» أكابر «ذكر ذلك أبو البقاء. الثالث: أن يكون» أكابر «مفعولاً ثانياً قُدِّم و» مجرميها «مفعول أول أُخِّرَ، والتقدير: جَعَلْنا في كل قرية مجرميها أكابر،
134
فيتعلق الجار بنفس الفعل قبله، ذكر ذلك ابن عطية.
قال الشيخ:» وما أجازاه يعني أبا البقاء وابن عطية خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهي: أن أفعل التفضيل إذا كانت ب «مِنْ» ملفوظاً بها أو مقدَّرة أو مضافة إلى نكرة كانت مفردة مذكرة على كل حال سواء كانت لمذكر أم مؤنث مفرد أم مثنى أم مجموع، وإذا ثُنِّيَتْ أو جُمِعت أو أُنِّثَتْ طابقت ما هي له ولَزِمَها أحد أمرين: إمَّا الألفُ واللامُ وإمَّا الإِضافةُ لمعرفة، وإذا تقرر ذلك فالقول بكون «مجرميها» بدلاً أو يكون مفعولاً أول و «أكابر» مفعولٌ ثانٍ خطأ لاستلزام أن يبقى «أكابر» مجموعاً وليست فيه ألف ولام ولا هي مضافة لمعرفة «قال:» وقد تنبَّه الكرماني إلى هذه القاعدة فقال: «أضاف» أكابر «إلى» مجرميها «لأن أفعل لا يُجْمَعُ إلا مع الألف واللام أو مع الإِضافة». قال الشيخ: «وكان ينبغي أن يُقَيَّد بالإِضَافة إلى معرفة».
قلت: أمَّا هذه القاعدة فمُسَلَّمة، ولكن قد ذكر مكي مثل ما ذكر ابن عطية سواء وما أظنه أخذ إلا منه، وكذلك الواحدي أيضاً ومنع أن تُجَوَّز إضافة «أكابر» إلى مجرميها «قال رحمه الله:» والآية على التقديم والتأخير تقديره: جَعَلْنا مجرميها أكابر، ولا يجوز أن تكون الأكابر مضافة لأنه لا يتمُّ المعنى، ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل لأنك إذا قلت: «جعلت زيداً» وسكتَّ لم يُفِد الكلام حتى تقول: رئيساً أو دليلاً أو ما أشبه ذلك، ولأنك إذا أَضَفْتَ الأكابر فقد أضفت النعت إلى المنعوت، وذلك لا يجوز عند
135
البصريين «. قلت: هذان الوجهان اللذان ردَّ بهما الواحدي ليسا بشيء، أمَّا الأول فلا نسلِّم أنَّا نُضْمِرُ المفعول الثاني، وأنه يصير الكلام غير مفيد، وأمَّا ما أورده من الأمثلة فليس مطابقاً لأنَّا نقول: إن المفعول الثاني هنا مذكور مُصَرَّح [به] / وهو الجار والمجرور السابق.
وأمَّا الثاني فلا نُسَلِّم أنه من باب إضافة الصفة لموصوفها لأن المجرمين أكابر وأصاغر، فأضاف للبيان لا لقصد الوصف.
الرابع: أن المفعول الثاني محذوف قالوا: وتقديره: جَعَلْنا في كل قرية أكابر مجرميها فُسَّاقاً ليمكروا، وهذا ليس بشيء، لأنه لا يُحذف شيء إلا لدليل، والدليل على ما ذكروه غير واضح. وقال ابن عطية: «ويقال أكابِرَة كما يقال أحمر وأحامرة». قال الشاعر:
٢٠٤٨ - إن الأحامرة الثلاثة أتلفتْ
ما لي وكنت بهنَّ قِدْماً مُوْلَعا
قال الشيخ: «ولا أعلم أحداً أجاز في جمع أفضل أفاضلة، بل نصَّ النحويون على أن أَفْعَل التفضيل يُجْمع للمذكر على الأَفْضَلِين أو على الأفاضل». قلت: وهذه التاء يذكرها النحويون [على] أنها تكون دالة على النسب في مثل هذه البِنْية قالوا: الأزارقة والأشاعثة في الأزرق ورَهطه والأشعث وبنيه، وليس بقياس، وليس هذا من ذلك في شيء. والجمهور على «أكابر»
136
جمعاً. وقرأ ابن مسلم: «أكبر مجرميها» بالإِفراد، وهو جائز وذلك أن أفعل التفضيل إذا أضيفت لمعرفة وأريد بها غير الإِفراد والتذكير جاز أن يطابق كالقراءة المشهور هنا، وفي الحديث: «أحاسنكم أخلاقا» وجاز أن يفرد، وقد أُجْمِعَ على ذلك في قوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس﴾ [البقرة: ٩٦].
قوله تعالى: ﴿حَيْثُ يَجْعَلُ﴾ : في «حيث» هذه وجهان أحدهما: أنها خرجت عن الظرفية، وصارت مفعولاً بها على السعة، وليس العاملُ «أعلم» هذه لما تقدم من أنَّ أفعل لا ينصب المفعول به. قال أبو علي: «لا يجوز أن يكون العامل في» حيث «:» أعلم «هذه الظاهرة، ولا يجوز أن تكون» حيث «ظرفاً لأنه يصير التقدير: الله أعلمُ في هذا الموضع، ولا يوصف الله تعالى بأنه أعلم في مواضع وأوقات، لأنَّ عِلْمَه لا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، وإذا كان كذلك كان العامل في» حيث «فعلاً يدلُّ عليه» أعلم «، و» حيث «لا يكون ظرفاً بل يكون اسماً، وانتصابه على المفعول به على الاتساع، ومثل ذلك في انتصاب» حيث «على المفعول به اتساعاً قول الشماخ:
٢٠٤٩ - وحَلأَّها عن ذي الأراكةِ عامرٌ
أخو الخُضْرِ يَرْمي حيث تُكْوى النواحِزُ
ف» حيث «مفعولة لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئاً حيث تكون النواحز إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع». وتبع الناس الفارسيَّ على هذا القول فقال
137
الحوفي: «ليست ظرفاً لأنه تعالى لا يكون في مكانٍ أعلم منه في مكان آخر، وإذا لم تكن ظرفاً كانت مفعولاً بها على السعة، وإذا كانت مفعولاً لم يعمل فيها» أعلم «لأنَّ» أعلم «لا يعمل في المفعول به فيقدَّر لها فعل»، وعبارة ابن عطية وأبي البقاء نحوٌ من هذا. وأخذ التبريزيُّ كلامَ الفارسي فنقله وأنشد البيت المتقدم.
والثاني: أنها باقية على ظرفيتها بطريق المجاز، وهذا القول ليس بشيء، ولكنْ أجازه الشيخ مختاراً له على ما تَقَدَّم فقال: «وما أجازوه من أنه مفعول به على السَّعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو، لأنَّ النحويين نصُّوا على أن» حيث «من الظروف التي لا تتصرَّف، وشذَّ إضافةُ» لدى «إليها وجرُّها بالباء وب» في «، ونصُّوا على أن الظرف المتوسَّع فيه لا يكون إلا متصرِّفاً، وإذا كان كذلك امتنع نصب» حيث «على المفعول به لا على السَّعة ولا على غيرها.
والذي يظهر لي إقرارُ» حيث «على الظرفية المجازية على أن يُضَمَّن» أعلم «معنى ما يتعدَّى إلى الظرف فيكون التقدير: الله أنفذ علماً حيث يجعل رسالاته أي: هو نافذٌ العلمَ في الموضع الذي يَجْعل فيه رسالاته، والظرف هنا مجاز كما قلنا». قلت: قد ترك ما قاله الجمهور وتتابعوا عليه وتأوَّل شيئاً هو أعظمُ مما فرَّ منه الجمهورُ، وذلك أنه يلزمه على ما قَدَّر أنَّ عِلْمَ الله في نفسه يتفاوت بالنسبة إلى الأمكنة فيكون في مكانٍ أبعدَ منه في مكان، ودعواه مجازَ الظرفية لا ينفعه فيما ذكرته من الإِشكال، وكيف يُقال مثلُ هذا؟ وقوله «نَصَّ النحاة على عدمِ تصرُّفها» هذا معارض أيضاً بأنهم نصُّوا
138
على أنها قد تتصرف بغير ما ذَكَرَ هو مِنْ كونها مجرورةً ب «لدى» أو إلى أو في، فمنه: أنها جاءت اسماً لإِنَّ في قول الشاعر:
٢٠٥٠ - إنَّ حيث استقرَّ مَنْ أنت راجي
هِ حِمَىً فيه عزةٌ وأمانُ
فحيث اسم «إنّ» و «حمى» خبرها أي: إن مكاناً استقرَّ مَنْ أنت راعيه مكانٌ يُحمى فيه العزُّ والأمان. ومِنْ مجيئها مجرورةً بإلى قوله:
٢٠٥١ - فشدَّ ولم يَنْظر بيوتاً كثيرة
إلى حيث أَلْقَتْ رَحْلَها أَمُّ قَشْعَمِ
وقد يُجاب عن الإِشكال الذي أَوْرَدْتُه عليه بأنه لم يُرِدْ بقوله «أنفذ علماً» التفضيل وإن كان هو الظاهر، بل يريد مجردَ الوصف، ويدل على ذلك قوله: أي هو نافذٌ العلمَ في الموضع الذي يجعل فيه رسالاته، ولكن كان ينبغي أن يصرِّح بذلك فيقول: وليس المرادُ التفضيلَ. ورُوِي «حيثَ يجعل» بفتح الثاء، وفيها احتمالان أحدهما: أنها فتحةُ بناءٍ طَرْداً للباب. والثاني: أنها فتحةُ إعرابٍ لأنها معربة في لغة بني فَقْعس حكاها الكسائي.
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم «رسالته» بالإِفراد، والباقون: رسالاته بالجمع، وقد تقدَّم توجيه ذلك في المائدة، إلا أنَّ بعض مَنْ قرأ هناك بالجمع وهو حفصٌ قرأ هنا بالإِفراد، وبعض مَنْ قرأ هناك بالإِفراد - وهو أبو عمروَ والأخوان وأبو بكر عن عاصم قرأ هنا بالجمع.
139
قوله: ﴿عِندَ الله﴾ يجوز أن ينتصبَ ب «يصيب»، ويجوز أن ينتصب بصَغار لأنه مصدر، وأجازوا أن يكون صفة لصَغار فيتعلَّق بمحذوف، وقَدَّره الزجاج فقال: «ثابت عند الله». والصَّغار: الذلُّ والهوان يقال منه: صَغُر يَصْغُر صُغْراً وصَغْراً وصَغاراً فهو صاغر، وأمَّا ضدُّ الكِبَر فيقال منه: صَغَر يَصْغَر صِغْراً فهو صغير، هذا قول الليث، فوقع الفرق بين المعنيين بالمصدر والفعل. وقال غيره: إنه يقال صَغُر وصغَر مِنَ الذل.
والعنديَّة هنا مجازٌ عن حَشْرهم يوم القيامة أو عن حكمه وقضائه بذلك كقولك: ثبت عند فلان القاضي أي: في حكمه، ولذلك قَدَّم الصَّغار على العذاب لأنه يصيبهم في الدنيا. و «بما كانوا» الباء للسببية و «ما» مصدرية. ويجوز أن تكون بمعنى الذي.
وقوله تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ﴾ : كقوله: ﴿مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ﴾ [الأنعام: ٣٩] و «مَنْ» يجوز أن تكون مرفوعة بالابتداء، وأن تكون منصوبةً بمقدَّر بعدها على الاشتغال أي: مَنْ يوفق الله يُرِدْ أن يهديه، و «أن يهديه» مفعول الإِرادة. والشرح: البسط والسَّعة قاله الليث، وقال ابن قتيبة: «هو الفتحُ ومنه: شَرَحْتُ اللحم أي فتحته» وشرحَ الكلامَ بسطه وفتح مغلقه وهو استعارة في المعاني حقيقة في الأعيان. و «للإِسلام» أي: لقبوله.
وقوله: «يَجْعَلْ» يجوز أن تكون التصييريةَ وأن تكون الخَلْقية، وأن تكون بمعنى سمَّى، وهذا الثالث يفرُّ إليه المعتزلة كالفارسي وغيره من معتزلة النحاة، لأن الله لا يُصَيِّر ولا يخلق أحداً كذا، فعلى الأول يكون «ضيقاً» مفعولاً عند مَنْ شدَّد ياءه وهم العامَّة غيرَ ابنِ كثير وكذلك عند مَنْ خففها
140
ساكنة ويكون فيه لغتان: التثقيل والتخفيف كميِّت ومَيْت وهيِّن وهين. وقيل: المخفف مصدر ضاق يضيق ضَِيقاً كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ﴾ [النحل: ٢٧] يقال: ضاق يضيق ضَيقاً وضِيقاً بفتح الضاد وكسرها، وبالكسر قرأ ابن كثير في النحل والنمل، فعلى جَعْلِه مصدراً يجيء فيه الأوجه الثلاثة في المصدر الواقع وصفاً لجثة نحو: رجل عدل، وهي حذف مضاف أو المبالغة أو وقوعه موقعَ اسم الفاعل أي: يجعل صدره ذا ضيق أو ضائقاً أو نفس الضيق مبالغةً، والذي يظهر من قراءة ابن كثير أنه عنده اسمٌ صفةٌ مخفف من فَيْعِل وذلك أنه استغرب قراءته في مصدرِ هذا الفعلِ دونَ الفتح في سورة النحل والنمل، فلو كان هذا عنده مصدراً لكان الظاهرُ في قراءته الكسرَ كالموضعين المشارِ إليهما، وهذا من محاسنِ علم النحو والقراءات، والخلافُ الجاري هنا جارٍ في الفرقان. وقال الكسائي: / «الضَّيِّق بالتشديد في الأجرام، وبالتخفيف في المعاني».
ووزن ضيّق فَيْعلِ كميّت وسيّد عند جمهور النحويين ثم أدغم، ويجوز تخفيفه كما تقدم تحريره. قال الفارسي: «والياء مثل الواو في الحذف وإن لم تعتلَّ بالقلب كما اعتلَّت الواو، أُتْبِعَت الياءُ الواوَ في هذا كما أتبعت في قولهم» اتَّسر «من اليسر فجعلت بمنزلة اتَّعد». وقال ابن الأنباري: «الذي يثقِّل الياء يقول وزنه من الفعل فَعِيل، والأصل فيه ضَييق على مثال كريم ونبيل، فجعلوا الياءَ الأولى ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها من حيث أعلُّوا ضاق يضيق، ثم أسقطوا الألفَ لسكونِها وسكونِ ياء فَعِيل فأشفقوا مِن أن يلتبس فعيل ب» فَعْل، فزادوا ياء على الياء يكمل بها بناء الحرف ويقع بها فرق بين
141
فعيل وفَعْل. والذين خَفَّفُوا الياء قالوا: أُمِن اللبس لأنه قد عُرِف أصلُ هذا الحرف، فالثقة بمعرفته مانعة من اللبس.
وقال البصريون: وزنه من الفعل فَيْعِل فأدغمت الياء في التي بعدها فشُدِّد ثم جاء التخفيف. قال: «وقد ردَّ الفراء وأصحابُه هذا على البصريين، وقالوا: لا يُعرف في كلام العرب اسم على وزن فيعِل يَعْنُون بكسر العين إنما يُعرف فيعَل يعنون بفتحها نحو صيقَل وهيكل، فمتى ادّعى مُدَّعٍ في اسمٍ معتلّ ما لا يُعرف في السالم كانت دعواه مردودةً» قلت: قد تقدَّم تحرير هذه الأقوال عند قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: ١٩] فليُراجَعْ ثَمة. وإذا قلنا إنه مخفف من المشدد فهل المحذوفُ الياءُ الأولى أو الثانية؟ خلاف مرَّت له نظائره.
وإذا كانت «يَجْعَل» بمعنى يخلق فيكون «ضيقاً» حالاً، وإن كانت بمعنى «سَمَّى» كانت مفعولاً ثانياً، والكلام عليه بالنسبة إلى التشديد والتخفيف وتقدير المعاني كالكلام عليه أولاً.
وحَرَجاً وحَرِجاً بفتح الراء وكسرها: هو المتزايد في الضيق فهو أخصُّ من الأول، فكلُّ حَرَج ضيق من غير عكسٍ، وعلى هذا فالمفتوح والمكسور بمعنى واحد يقال: رجل حَرِج وحَرَج قال الشاعر:
٢٠٥٢ - لا حَرِجُ الصدرِ ولا عنيفُ
.....................
قال الفراء: «هو في كسره ونصبه بمنزلة الوحَد والوِحد والفرَد والفرِد والدَّنَف والدَّنِف». وفرَّق الزجاج والفارسي بينهما فقالا: المفتوح مصدر والمكسور اسم فاعل. قال الزجاج: «الحَرَج أضيق الضيق، فَمَنْ قال: رجل حرَج
142
يعني بالفتح فمعناه ذو حَرَج في صدره، ومن قال حرِج يعني بالكسر جعله فاعلاً وكذلك دنَف ودنِف». وقال الفارسي: «مَنْ فتح الراء كان وصفاً بالمصدر نحو: فَمَن وحَرَىً ودنَف ونحو ذلك من المصادر التي يوصف بها، ولا تكون كبطل لأن اسم الفاعل في الأمر العام إنما يجيء على فَعِل، ومن قرأ حَرِجاً - يعني بكسر الراء - فهو مثل دنِف وفَرِق بكسر العين». وقيل: الحَرَج بالفتح جمع حَرَجَة كقصبة وقصب، والمكسور صفة كدَنِف، وأصل المادة من التشابك وشدة التضايق فإنَّ الحَرَجة غَيْضة من شجر السَّلَم ملتفَّةٌ لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يصل إليها قال العجاج:
٢٠٥٣ - عايَنَ حَيَّاً كالحِراج نَعَمُهْ... الحِراج: جمع حِرْج، وحِرْج جمع حَرَجة. ومن غريب ما يُحكى أن ابن عباس قرأ هذه الآية فقال: هل هنا أحد من بني بكر؟ فقال رجل: نعم. قال: ما الحَرَجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه. فقال ابن عباس: فهكذا قلب الكافر، هذه رواية عبيد بن عمير. وقد حكى أبو الصلت الثقفي هذه الحكاية بأطولَ من هذا عن عمر بن الخطاب
143
فقال: «قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية فقال: ابغوني رجلاً من بني كنانة واجعلوه راعياً، فأتَوْه به فقال له عمر: يا فتى ما الحَرَجَةُ فيكم؟ قال: الحَرَجَةُ فينا الشجرة تُحْدِق بها الأشجار فلا تصل إليها/ راعيةٌ ولا وحشية.
فقال عمر: «وكذلك قلبُ الكافر لا يصل إليه شيء من الخير».
وبعضهم يحكي هذه الحكاية عن عمر رضي الله عنه كالمنتصر لمن قرأ بالكسر قال: «قرأها بعض أصحاب عُمَر له بالكسر فقال: ابغوني رجلاً من كنانة راعياً وليكن من بني مُدْلج فَأَتَوْه به فقال: يا فتى ما الحَرَجَةُ تكون عندكم؟ فقال: شجرةٌ تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعيةٌ ولا وحشية فقال: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيٌ من الخير. قال الشيخ:» وهذا تنبيه والله أعلم على اشتقاق الفعل من اسم العين كاستنوق واستحجر «قلت: ليس هذا من باب التنوق واستحجر في شيء، لأن هذا معنى مستقل ومادة مستقلة متصرفة نحو: حَرِجَ يَحْرَج فهو حَرِج وحارج بخلاف تِيْكَ الألفاظ فإن معناها يُضطر فيه إلى الأخذ من الأسماء الجامدة، فإنَّ معنى قولك استنوق الجمل أي: صار كالناقة، واستحجر الطين أي: صار كالحجر، وليس لنا مادةٌ متصرفة إلى صيغ الأفعال من لفظ الحجر والناقة، وأنت إذا قلت: حَرِج صدرُه ليس بك ضرورة أن تقول: صار كالحَرَجة، بل معناه تزايدَ ضيقُه، وأمَّا تشبيهُ عمر بن الخطاب فلإِبرازه المعاني في قوالبِ الأعيان مبالغةً في البيان.
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم» حَرِجاً «بكسر الراء، والباقون بتفحها، وقد عُرِفا. فأمَّا على قراءة الفتح فإن كان مصدراً جاءت فيه الأوجه الثلاثة المتقدمة في نظائره، وإن جُعِلَ صفة فلا تأويل.
ونصبه على القراءتين: إمَّا على كونه نعتاً لضيقاً، وإمَّا على كونِهِ مفعولاً به تعدَّد، وذلك أن الأفعالَ النواسخَ إذا دخلت على مبتدأ وخبر كان الخبران
144
على حالهما فكما يجوز تعدُّدُ الخبر مطلقاً أو بتأويل في المبتدأ والخبر الصريحين كذلك في المنسوخين حين تقول:» زيدٌ كاتب شاعر فقيه «ثم تقول: ظننتُ زيداً كاتباً شاعراً فقيهاً، فتقول:» زيداً «مفعول أول» كاتباً «مفعول ثان» شاعراً «مفعول ثالث» فقيهاً «مفعول رابع، كما تقول: خبر ثان وثالث ورابع، ولا يلزم من هذا أن يتعدَّى الفعل لثلاثة ولا أربعة لأن ذلك بالنسبة إلى تعدُّد الألفاظ، فليس هذا كقولك في: أعلمْتُ زيداً عمراً فاضلاً، إذ المفعولُ الثالثُ هناك ليس متكرراً لشيء واحد، وإنما بَيَّنْتُ هذا لأنَّ بعض الناس وَهِمَ في فهمه، وقد ظهر لك ممَّا تَقَدَّم أنَّ قوله» ضيقاً حَرَجاً «ليس فيه تكرار. وقال مكي:» ومعنى حَرِج يعني بالكسر كمعنى ضيق كرِّر لاختلاف لفظه للتأكيد «قلت: إنما يكون للتأكيد حيث لم يظهر بينها فارق فتقول: كُرِّر لاختلاف اللفظ كقوله: ﴿صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾
[البقرة: ١٥٧] [وقوله] :
٢٠٥٤ -.................
وألفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا
[وقوله] :
٢٠٥٥ -...............
وهندٌ أتى مِنْ دونها النَّأْيُ والبُعْدُ
وأما هنا فقد تقدَّم الفرق بينهما بالعموم والخصوص أو غير ذلك. وقال أبو البقاء: «وقيل هو جمع» حَرَجَة «مثل قَصَبَة وقَصَب والهاءُ فيه للمبالغة» ولا أدري كيف تَوَهَّم كونَ هذه الهاءِ الدالَّةِ على الوَحْدة في مفرد أسماء
145
الأجناس كثمرة وبُرّة ونَبِقة للمبالغة كهي في راوية ونَسَّابة وفَرُوْقة؟
وقوله: «كأنما»«ما» هذه مهيِّئة لدخول كان على الجمل الفعلية كهي في ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ﴾ [آل عمران: ١٨٥].
وقرأ ابن كثير: «يَصْعَد» ساكنَ الصاد مخفَّف العين، مضارع صَعِد أي ارتفع، وأبو بكر عن عاصم يصَّاعد بتشديد الصاد بعدها ألف، وأصلها يتصاعد أي: يتعاطى الصُّعود ويتكلَّفه، فأدغم التاء في الصاد تخفيفاً، والباقون يَصَّعَّد بتشديد الصاد والعين دون ألفٍ بينهما، مِنْ يصَّعَّد أي يفعل الصعود ويُكَلَّفه والأصل: يتصعَّد فأدغم كما في قراءة شعبة، وهذه الجملة التشبيهية يحتمل أن تكون مستأنفة شبَّه فيها حال مَنْ جعل الله صدره ضيقاً حَرَجاً بأنه بمنزلة مَنْ يطلب الصُّعود إلى السماء المُظِلة، أو إلى مكان مرتفع وَعْرٍ كالعقبة الكَؤُود.
وجَوَّزوا فيها وجهين آخرين أحدهما: أن يكون مفعولاً آخر تعدَّد كما تَعَدَّد ما قبلها، والثاني: أن يكون حالاً، وفي صاحبها احتمالان، أحدهما: هو الضميرُ المستكنُّ في «ضيِّقا»، والثاني: هو الضمير في «حَرَجا» و «في السماء» متعلِّق بما قبله.
قوله: ﴿كذلك يَجْعَلُ﴾ هو كنظائِرِه، وقدَّره الزجاج: مثل ما قَصَصْنا عليك يَجْعل، أي: فيكون مبتدأ وخبراً أو نعت مصدر محذوف، فلك أن ترفعَ «مثل» وأن تنصِبَها بالاعتبارين عنده، والأحسن أن يُقَدَّر لها مصدرٌ مناسب
146
كما قدَّره الناس وهو: مثل ذلك الجَعْل أي جَعْلِ الصدرِ ضيقاً حرجاً يجعل اللهُ الرجس، كذا قدَّره مكي وغيره، و «يجعل» يُحتمل أن تكونَ بمعنى «ألقى» وهو الظاهر فتتعدَّى لواحد بنفسها وللآخر بحرف جر، ولذلك تَعدَّتْ هنا ب على، والمعنى: كذلك يلقي اللهُ العذاب على الذين لا يؤمنون، ويجوز أن يكون بمعنى صَيَّر أي: يُصَيِّره مُسْتعلياً عليهم محيطاً بهم، والتقدير الصناعي: مستقراً عليهم.
وقوله تعالى: ﴿مُسْتَقِيماً﴾ : حال من «صراط»، والعامل فيه أحد شيئين: إمَّا «ها» لِما فيها من معنى التنبيه، وإمَّا «ذا» لما فيه من معنى الإِشارة وهي حال مؤكدة لا مبيِّنة، لأنَّ صراط الله لا يكون إلا كذلك.
قوله تعالى: ﴿لَهُمْ دَارُ﴾ : يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة فلا محلَّ لها كأن سائلاً سأل عَمَّا أعدَّ الله لهم فقيل له ذلك، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل «يَذَّكَّرون» ويحتمل أن يكون وصفاً لقوم، وعلى هذين الوجهين فيجوز أن تكون الحال أو الوصف الجارَّ والمجرور فقط ويرتفع «دار السلام» بالفاعلية، وهذا عندهم أولى؛ لأنه أقرب إلى المفرد من الجملة، والأصل في الوصف والحال والخبر الإِفراد فما قَرُبَ إليه فهو أَوْلَى
و ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ حال من «دار»، والعامل فيها الاستقرار في «لهم». والسلامُ والسَّلامة بمعنى، كاللَّداد واللَّدادة، ويجوز أن ينتصب «عند» بنفس السلام لأنه مصدر أي: يُسَلِّم عليهم عند ربهم أي: في جنته، ويجوز أن ينتصب بالاستقرار في «لهم». وقوله «وهو وليُّهم» يحتمل أيضاً الاسنئناف، وأن يكون حالاً أي: لهم دار السلام، والحال أن الله وليُّهم وناصرهم. و «بما كانوا» الباء سببية و «ما» بمعنى الذي أو نكرةٌ أو مصدريَّة.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ﴾ : يجوزُ أن ينتصب بفعل مقدَّر فقدَّره أبو البقاء تارةً ب «اذكر» وتارةً بالقول المحذوف العامل في جملة النداء من قوله «يا مَعْشَر» أي: ويقول: يا معشرَ يوم نحشرهم، وقَدَّره الزمخشري: «ويوم يَحشرهم وقلنا كان ما لا يوصف لفظاعته». قال الشيخ: «وما قلناه أَوْلَى» يعني مِنْ كونه منصوباً ب «يقول» المحكي به جملة النداء «قال:» لاستلزامه حذفَ جملتين إحداهما جملة «وقلنا» والأخرى العاملة في الظرف «. وقَدَّره الزجاج بفعل قول مبني للمفعول: يُقال لهم يا معشر يوم نحشرهم، وهو معنى حسن، كأنه نظر إلى معنى قوله» ولا يُكَلِّمهم ولا يزكِّيهم «فبناه للمفعول، ويجوز أن ينتصب» يوم «بقوله» وليُّهم «لما فيه من معنى الفعل أي: وهو يتولاَّهم بما كانوا يعملون ويتولاَّهم يوم يحشرهم. و» جميعاً «حال أو توكيد على قول بعض النحويين. وقرأ حفص» يحشرهم «بياء الغيبة ردَّاً على قوله» ربهم «أي: ويوم يحشرهم ربُّهم.
قوله: ﴿يَا مَعْشَرَ﴾ في محلِّ نصب بذلك القول المضمرِ أي: يقول أو قلنا، وعلى تقدير الزجاج يكون في محل رفعٍ لقيامِه مَقام الفاعل المنوب عنه. والمعشرُ: الجماعة قال:
٢٠٥٦ - وأبغضُ مَنْ وضعتُ إليَّ فيه
لساني معشرٌ عنهم أذودُ
148
والجمع: معاشر، كقوله عليه السلام:» نحن معاشرَ الأنبياء لا نورث «وقال الأودي:
٢٠٥٧ - فينا معاشرُ لن يَبْنوا لقومِهمُ
وإن بَنى قومُهمْ ما أفسدوا عادوا
وقوله ﴿مِّنَ الإنس﴾ في محلّ نصب على الحال أي: أولياءهم حال كونهم من الإِنس، ويجوز أن تكون» مِنْ «لبيانِ الجنس؛ لأنَّ أولياءهم كانوا إنساً وجِنَّاً والتقدير: أولياؤهم الذين هم الإِنس. وربَّنا حُذِفَ منه حرف النداء. والجمهور على» أَجَلَنا «بالإِفراد لقوله» الذي «. وقرئ» آجالنا «بالجمع على أفعال،» الذي «بالإِفراد/ والتذكير، وهو نعت للجمع، فقال أبو علي:» هو جنس أوقع الذي موقع التي «. قال الشيخ:» وإعرابه عندي بدل كأنه قيل: الوقت الذي، وحينئذٍ يكون جنساً ولا يكون إعرابُه نعتاً لعدم المطابقة بينهما «.
قوله» خَالِدِينَ «منصوبٌ على الحال وهي حالٌ مقدرة. وفي العامل فيها ثلاثة أوجه أحدها: أنه» مثواكم «لأنه هنا اسمُ مصدر لا اسم مكان، والمعنى: النار ذات ثوائكم، أي إقامتكم في هذه الحال، ولذلك ردَّ الفارسي على الزجاج حيث قال: المثوى المقام أي: النار مكان ثوائكم أي إقامتكم. قال الفارسي:» المَثْوى عندي في الآية اسم المصدر دون المكان لحصول الحال معملاً فيها، واسم المكان لا يعمل عملَ الفعل لأنه لا معنى للفعل فيه، وإذا لم يكن مكاناً ثبت أنه مصدر، والمعنى: النار ذات إقامتكم فيها خالدين،
149
فالكاف والميم في المعنى فاعلون وإن كان في اللفظ خفضاً بالإِضافة، ومثلُ هذا قولُ الشاعر:
٢٠٥٨ - وما هي إلا في إزارٍ وعِلْقَةٍ
مُغَارَ ابنِ هَمَّامٍ على حَيّ خَثْعما
وهذا يَدُلُّ على حَذْفِ المضاف، المعنى: وما هي إلا إزارٌ وعِلْقة وقت إغارة ابن همام، ولذلك عدَّاه بعلى، ولو كان مكاناً لَمَا عدَّاه فثبت أنه اسم مصدر لا مكان فهو كقولك: «آتيك خفوقَ النجم ومقدَمَ الحاج» ثم قال: «وإنما حَسُن ذلك في المصادر لمطابقتها الزمان، ألا ترى أنه مُتَقَضٍّ غيرُ باقٍ كما أن الزمان كذلك» وذكر كلاماً كثيراً اختصرتُه.
والثاني: أن العامل فيها فعلٌ محذوف، أي: يَثْوُون فيها خالدين، ويدلُّ على هذا الفعلِ المقدر «مثواكم» ويراد بمثواكم مكان الثواء. وهذا جواب عن قول الفارسي المعترض به على الزجاج. الثالث: قاله أبو البقاء أن العامل معنى الإِضافة، ومعنى الإِضافة لا يصلُح أن يكون عاملاً البتةَ فليس بشيء.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ اختلفوا في المستثنى منه: فقال الجمهور: هو الجملة التي تليها وهي قوله ﴿النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ﴾ وسيأتي بيانه عن قرب. وقال أبو مسلم: «هو مستثنى من قوله» وبلغْنا أجَلَنا الذي أجَّلْتَ لنا «أي: إلا مَنْ أهلكته واخترمْتَه قبل الأجل الذي سَمَّيْته لكفرِه وضلاله.
وقد ردَّ الناس عنه هذا المذهبَ من حيث الصناعة ومن حيث المعنى: أمَّا الصناعة فَمِنْ وجهين أحدهما: أنه لو كان الأمر كذلك لكان التركيب إلا
150
ما شئت، ليطابق قوله» أجَّلْتَ «، والثاني: أنه قد فَصَل بين المستثنى والمستثنى منه بقوله» قال النار مثواكم خالدين فيها، ومثل ذلك لا يجوز. وأمَّا المعنى فلأن القول بالأجلين: أجل الاخترام والأجل المسمَّى باطل لدلائل مقررة في غير هذا الموضوع.
ثم اختلفوا في هذا الاستثناء: هل هو متصل أو منقطع؟ على قولين فذهب مكي بن أبي طالب وأبو البقاء في أحد قوليهما إلى أنه منقطع والمعنى: قال النار مثواكم إلا مَنْ آمن منكم في الدنيا كقوله: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾ [الدخان: ٥٦] أي: لكن الموتة الأولى فإنهم قد ذاقوها في الدنيا، كذلك هذا، لكن الذين شاءهم الله أن يؤمنوا منكم في الدنيا. وفيه بُعْدٌ، وذهب آخرون إلى أنه متصل، ثم اختلفوا في المستثنى منه ما هو؟ فقال قوم: هو ضمير المخاطبين في قوله «مَثْواكم» أي إلا مَنْ آمن في الدنيا بعد أن كان مِنْ هؤلاء الكفرة. و «ما» هنا بمعنى «مَنْ» التي للعقلاء، وساغ وقوعُها هنا لأن المراد بالمستثنى نوعٌ وصنف، و «ما» تقع على أنواع مَنْ يعقل وقد تقدَّم تحقيق هذا في قوله ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣].
ولكن قد اسْتُبعِد هذا من حيث إن المستثنى مخالفٌ للمستثنى منه في زمان الحكم عليهما، ولا بد أن يشتركا/ في الزمان لو قلت: «قام القوم إلا زيداً» كان معناه إلا زيداً فإنَّه لم يقم، ولا يَصحُّ أن يكون المعنى: فإنه سيقوم في المستقبل، ولو قلت: «سأضرب القوم إلا زيداً» كان معناه: فإنِّي لا أضربه في المستقبل، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: فإني ضربته فيما مضى، اللهم إلا أن يُجْعَلَ استثناء منقطعاً كما تقدَّم تفسيره.
151
وذهب قوم إلى أنَّ المستثنى منه زمان، ثم اختلف القائلون بذلك، فمنهم من قال: ذلك الزمانُ هو مدةُ إقامتهم في البَرْزَخ أي: القبور. وقيل: هو المدة التي بين حشرِهم إلى دخولهم النار، وهذا قولُ الطبري قال: «وساغ ذلك من حيث العبارةُ بقوله» النار مَثْواكم «لا يَخُصُّ بها مستقبلَ الزمان دون غيره». وقال الزجاج: «هو مجموع الزمانين أي: مدةَ إقامتهم في القبور ومدة حشرهم إلى دخولهم النار». وقال الزمخشري: «إلا ما شاء الله أي: يُخَلَّدون في عذاب النار الأبد كله إلا ما شاء الله إلا الأوقات التي يُنقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد رُوِيَ أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يقطع أوصالَهم فيتعاوَوْن ويطلبون الرَّدَّ إلى الجحيم» وقال قوم: «إلا ما شاء الله هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد، ووقعت» ما «عليهم لأنهم نوع كأنه قيل: إلا النوعَ الذي دخلها من العصاة فإنهم لا يُخَلَّدون فيها. والظاهر أن هذا استثناءٌ حقيقةً، بل يجب أن يكون كذلك. وزعم الزمخشري أنه يكون من باب قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يَزَلْ يُحَرِّق عليه أنيابه وقد طلب أن يُنَفِّسَ عن خناقه:» أهلكني الله إن نَفَّسْتُ عنك إلا إذا شئت «وقد عَلِمَ أنه لا يشاء ذلك إلا التشفِّي منه بأقصى ما يقدر عليه من التشديد والتعنيف، فيكون قوله» إلا إذا شئت «من أشدِّ الوعيد مع تهكم». قلت: ولا حاجة إلى ادِّعاء ذلك مع ظهور معنى الاستثناء فيه وارتكاب المجاز وإبراز ما لم يقع في صورة الواقع. وقال الحسن البصريُّ: «إلا ما شاء الله أي: مِنْ كونهم في الدنيا بغير عذاب»، فجعل المستثنى زمن حياتهم وهو أبعدُ ممَّا تقدَّم.
152
وقال الفراء: وإليه نحا الزجاج «المعنى إلا ما شاء الله من زياةٍ في العذاب». وقال غيره: إلا ما شاء الله من النَّكال، وكل هذا إنما يتمشَّى على الاستثناء المنقطع.
قال الشيخ: «وهذا راجعٌ إلى الاستثناء من المصدر الذي يدل عليه معنى الكلام؛ إذ المعنى: يُعَذَّبون في النار خالدين فيها إلا ما شاء الله من العذاب الزائد على النار فإنه يُعَذِّبهم به، ويكون إذ ذاك استثناءً منقطعاً إذ العذابُ الزائد على عذاب النار لم يندرجْ تحت عذاب النار». وقال ابن عطية: «ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبةً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأمته، وليس مما يُقال يومَ القيامة، والمستثنى هو مَنْ كان مِنَ الكفرة يومئذٍ يؤمن في علم الله، كأنه لمَّا أخبرهم أنه يقال للكفار: النار مثواكم استثنى لهم مَنْ يمكن أن يُؤْمن ممَّن يَرَوْنه يومئذٍ كافراً، وتقع» ما «على صفة مَنْ يعقل، ويؤيد هذا التأويلَ أيضاً قوله ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ﴾ أي: بمن يمكن أن يؤمن منهم». قال الشيخ: «وهو تأويلٌ حسن وكان قد قال قبل ذلك:» والظاهر أن هذا الاستثناء هو مِنْ كلام الله تعالى للمخاطبين وعليه جاءت تفاسيرُ الاستثناء، وقال ابن عطية، «ثم ساقه إلى آخره، فكيف يَسْتَحْسن شيئاً حكم عليه بأنه خلاف الظاهر من غير قرينة قوية مُخْرِجَةٍ للَّفظ عن ظاهره؟
قوله تعالى: ﴿وكذلك نُوَلِّي﴾ : أي: كما خَذَلْنا عصاةَ الإِنس والجن حتى استمتع بعضُهم ببعض كذلك نَكِلُ بعضَهم إلى بعض في النصرة والمعونة، فهي نعت لمصدر محذوف، أو في محل رفع أي: الأمرُ
153
مثل تولية بعض/ الظالمين، وهو رأي الزجاج في غير موضع. و ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ ظاهر كنظائره.
قوله تعالى: ﴿مِّنْكُمْ﴾ : في محل رفعٍ صفةً لرسل فيتعلَّق بمحذوف وقوله «يَقُصُّون» يحتمل أن يكون صفةً ثانية، وجاءت كذا مجيئاً حسناً حيث تقدَّم ما هو قريبٌ من المفرد على الجملة، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: هو «رسل» وجاز ذلك وإن كان مكرةً لتخصُّصِه بالوصف. والثاني: أنه الضمير المستتر في «منكم». وقوله ﴿رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾ زعم الفراء أن في الآية حَذْفَ مضاف أي: ألم يَأتِكم رسلٌ من أحدكم يعني من جنس الإِنس «قال: كقوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] وإنما يَخْرجان من الملح، ﴿وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً﴾ [نوح: ١٦] وإنما هو في بعضها، فالتقدير: يخرج مِنْ أحدهما وجعل القمر في إحداهن، فحُذِفَ للعلم به»، وإنما احتاج الفراء إلى ذلك لأن الرسل عنده مختصةٌ بالإِنس، يعني أنه لم يعتقد أن الله أَرْسَل للجن رسولاً منهم، بل إنما أرسل إليهم الإِنس كما يُرْوى في التفسير وعليه قام الإِجماع أنَّ النبي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ للإِنس والجن وهذا هو الحق، أعني أنَّ الجنَّ لم يُرْسَلْ منهم إلا بواسطة رسالة الإِنس، كما جاء في الحديث مع الجن الذين لمَّا سَمِعُوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم، ولكن لا يُحْتاجُ إلى تقدير مضاف وإن قلنا إنَّ رسل الجن من الإِنس، للمعنى الذي ذكرتُه وهو أنه يُطْلق عليهم رسل مجازاً لكونهم رسلاً بواسطة رسالة الإِنس، وقد زعمَ قومٌ أن الله أرسل للجن رسولاً منهم يُسَمَّى يوسف.
قوله تعالى: ﴿ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ﴾ : فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه مبتدأٌ محذوف الخبرِ أي: ذلك الأمر. الثاني: عكسه أي الأمر ذلك. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعل أي: فَعَلْنا ذلك، وإنما يظهر المعنى إذا عُرِفَ المشار إليه، وهو يحتمل أن يكون إتيان الرسل قاصِّين الآيات ومنذرين بالحشر والجزاء، وأن يكون ذلك الذي قَصَصْنا مِنْ أَمْرِ الرسل، وأَمْر مَنْ كَذَّب ويحتمل أن يكون إشارةً إلى السؤال المفهوم من قوله «ألم يأتكم».
وقوله «أن لم يكن» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه على حذف لام العلة أي: ذلك الأمر الذي قَصَصْنا، أو ذلك الإِتيان أو ذلك السؤال لأجل أن لم يكن، فلمَّا حُذِفَت اللامُ احتمل موضعُها الجرَّ والنصبَ كما عُرِفَ غير مرة. والثاني: أن يكون بدلاً من «ذلك».
قال الزمخشري: «ولك أَنْ تجعلَه بدلاً من» ذلك «كقوله: ﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾ [الحجر: ٢٢] انتهى. فيجوز أن يكون في محلِّ رفعٍ أو نصب على ما تقدم في ذلك، إلا أن الزمخشري القائل بالبدلية لم يذكر في محل ذلك إلا الرفعَ على خبر مبتدأ مضمر، و» أَنْ «يجوز أن تكونَ الناصبة للمضارع، وأن تكون المخففة واسمها ضمير الشأن، و» لم يكن «في محل رفع خبرها، وهي نظير قوله ﴿أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً﴾ [طه: ٨٩] وقوله:
٢٠٥٩ - في فتيةٍ كسيوف الهند قد عَلِمُوا
أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
و» بظلمٍ «يجوز فيه وجهان، أظهرهُما: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال
155
من» ربك «أو من الضمير في» مُهْلِكَ «أي: لم يكن مهلك القرى ملتبساً بظلم، ويجوز أن يكون حالاً من القرى أي: ملتبسة بذنوبها، والمعنيان منقولان في التفسير. والثاني: أنه يتعلق بمُهْلِك على أنه مفعول وهو بعيد، وقد ذكره أبو البقاء. وقوله:» وأهلُها غافلون «جملة حالية.
وقوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ﴾ : حُذِف المضاف إليه للعلم به أي: ولكلِّ فريق من الجن والإِنس. وقوله: «مما عملوا» في محل رفع نعتاً لدرجات وقيل: ولكل من المؤمنين خاصة. وقيل: ولكل من الكفار خاصة، لأنها جاءت عقيب خطاب الكفار، إلا أنه يبعده قوله «درجاتٌ» وقد يُقال إنَّ المراد بها هنا المراتب وإن غلب استعمالها في الخير. وقوله «عمَّا يعملون» قرأ العامة بالغيبة ردَّاً على قوله «ولكل درجات». وقرأ ابن عامر بالخطاب مراعاةً لما بعده في قوله «يُذْهِبْكم»، «من بعدكم»، «أنشأكم».
قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الغني﴾ : يجوز أن يكون «الغنيُّ» ذو الرحمة خبرين أو وصفين، و «إن يشأ» وما بعده خبر الأول أو يكون الغنيّ وصفاً، و «ذو الرحمة» خبر، والجملة الشرطية خبر ثان أو مستأنف. وقوله «ما يشاء» يجوز أن تكون «ما» واقعةً على ما هو من جنس الآدميِّين، وإنما أتى ب «ما» وهي لغير العاقل للإِبهام الحاصل. ويجوز أن تكون واقعة على غير العاقل وأنه يأتي بجنس آخر، ويجوز أن تكون واقعة على النوع من العقلاء كما تقدم.
قوله ﴿كَمَآ أَنشَأَكُمْ﴾ فيه وجهان أحدهما: أنه مصدر على غير الصدر
156
لقوله «ويَسْتخلف»، لأنَّ معنى يستخلف يُنْشئْ. والثاني: أنها نعت مصدر محذوف تقديره: استخلافاً مثل ما أنشأكم. وقوله ﴿مِنْ ذرِّيَّة﴾ متعلق بأنشأكم. وفي «مِنْ» هذه أوجه أحدها: أنها لابتداء الغاية أي: ابتدأ إنشاءكم من ذرية قوم. والثاني: أنها تبعيضية قاله ابن عطية. الثالث: بمعنى البدل، قال الطبري وتبعه مكي بن أبي طالب «هي كقولك:» أخذت من ثوبي درهماً «أي: بدله وعوضه، وكون» مِنْ «بمعنى البدل قليل أو ممتنع، وما ورد منه مؤولٌ كقوله تعالى: ﴿لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ [الزخرف: ٦٠] وقوله:
٢٠٦٠ - جاريةٌ لم تَأْكُلِ المرقَّقَا
ولم تَذُقْ من البقول الفُسْتُقا
أي: بدلكم وبدل البقول، والمعنى: من أولاد قوم متقدمين أصلهم آدم. وقال الزمخشري:» من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثلِ صفتكم وهم أهل سفينة نوح «. وقرأ أُبَيّ بن كعب» ذَرِّيَّة «بفتح الذال، وأبان بن عثمان» ذَرِيَّة «بتخفيف الراء مكسورة، ويروى عنه أيضاً» ذَرْية «بوزن ضَرْبَة وقد تقدَّم تحقيق ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ :«ما» بمعنى الذي وليست الكافة، و «توعدون» صلتها، والعائد محذوف أي: إنَّ ما توعدونه،
157
و «لآتٍ» الخبر مؤكَّد باللام. وقرأ الأخَوان هنا «مَنْ يكون له عاقبة الدار»، وفي القصص، بالياء، والباقون بالتاء من فوق. وهما واضحتان فإنَّ تأنيثها غير حقيقي، وقد تقدَّم ذلك في قوله: ﴿وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: ١٢٣].
وقرأ العامَّة ﴿على مَكَانَتِكُمْ﴾ هنا وفي جميع القرآن بالإِفراد، وأبو بكر عن عاصم: «مكاناتكم» بالجمع في الجميع، فَمَنْ أفرد فلإِرادة الجنس ومَنْ جمع فليطابق ما بعدها فإن المخاطبين جماعة وقد أضيفت إليهم، وقد علم أنَّ لكل واحد مكانه. واختلف في ميم «مكان ومكانة» فقيل: هي أصلية وهما مِنْ مكن يمكن، وقيل: هما من الكون فالميم زائدة، فيكون المعنى على الأول: اعملوا على تمكُّنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، قال معناه أبو إسحاق، وعلى الثاني: اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها.
وقوله: ﴿مَن تَكُونُ لَهُ﴾ يجوز في «مَنْ» هذه وجهان أحدهما: أن تكون موصولةً وهو الظاهر، فهي في محل نصب مفعولاً به، و «علم» هنا متعديةٌ لواحد لأنها بمعنى العرفان. والثاني: أن تكون استفهامية فتكون في محل رفع بالابتداء. و ﴿تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار﴾ تكون واسمها وخبرها في محل رفع خبراً لها، وهي وخبرها في محل نصب: إمَّا لسدِّها مَسَدَّ مفعول واحدٍ إن كانت «علم» عرفانية، وإمَّا لسدِّها مَسَدَّ اثنين إن كانت يقينية.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ﴾ :«جعل» هنا بمعنى صيَّر
158
فيتعدى لاثنين أوَّلُهما قوله «نصيباً»، والثاني قوله «لله»، و «ممَّا ذَرَأ» يجوز أن يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف لأنه كان في الأصل صفة ل «نصيباً» فلما قُدِّم عليه انتصب حالاً، والتقدير: وجعلوا نصيباً ممَّا ذَرَأ لله، و «من الحَرْث» يجوز أن يكون بدلاً مِنْ «ممَّا ذرأ» بإعادة العامل كأنه قيل: وجعلوا لله من الحرث والأنعام نصيباً. ويجوز أن يتعلق ب «ذرأ»، وأن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال: إمَّا من ما الموصولة أو من عائدها المحذوف، وفي الكلام حذفُ مفعول اقتضاه التقسيم والتقدير: وجعلوا لله نصيباً من كذا ولشركائهم نصيباً منه، يدلُّ عليه ما بعده مِنْ قوله: ﴿فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا﴾ و «هذا لله» جملةٌ منصوبةُ المحل بالقول، وكذلك قوله «وهذا لشركائنا».
وقوله: ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ فيه وجهان أحدهما: أن يتعلَّق ب «قالوا» أي: فقالوا ذلك القولَ بزعم لا بيقين واستبصار. وقيل: هو متعلِّق بما تعلَّق به الاستقرار من قوله «لله». وقرأ العامة بفتح الزاي من «زَعمهم» في الموضعين، وهذه لغة الحداز وهي الفصحى. وقرأ الكسائي «بزُعمهم» بالضم/ وهو لغة بني أسد، وهل الفتح والضم بمعنى واحد، أو المفتوح مصدر والمضموم اسم؟ خلاف مشهور. وقرأ ابن أبي عبلة «بزَعَمهم» بفتح الزاي والعين. وفيه لغة رابعة لبعض قيس وبني تميم وهي كسر الزاي، ولم يُقْرأ بهذه اللغة فيما علمت. وقد تقدم تحقيق الزعم.
وقوله ﴿لِشُرَكَآئِنَا﴾ يجوز فيه وجهان أحدهما: أن الشركاء من الشرك، ويعنون بهم آلهتهم التي أشركوا بينها وبين الباري تعالى في العبادة، وليست
159
الإِضافة إلى فاعل ولا إلى مفعول، بل هي إضافة تخصيص والمعنى: الشركاء الذين أشركوا بينهم وبين الله في العبادة. والثاني: أن الشركاء من الشركة، ومعنى كونهم سَمُّوا آلهتهم شركاءهم أنهم جعلوهم شركاء في أموالهم وزروعهم وأنعامهم ومتاجرهم وغير ذلك، فتكون الإِضافة إضافةً لفظيةً: إمَّا إلى المفعول أي: شركائنا الذين شاركونا في أموالنا، وإمَّا إلى الفاعل أي: الذين أشركناهم في أموالنا.
وقوله: ﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ قد تقدم نظيرها غير مرة، وقد أعربها الحوفي هنا فقال: «ما» بمعنى الذي والتقدير: ساء الذي يحكمون حكمُهم فيكون «حكمُهم» مبتدأ وما قبله الخبر وحُذِف لدلالة «يحكمون» عليه، ويجوز أن تكون «ما» تمييزاً على مذهب مَنْ يجيز ذلك في «بئسما» فتكون في موضع نصب، التقدير: ساء حكماً حكمهم، ولا يكون «يحكمون» صفة ل «ما» لأن الغرض الإِبهام، ولكنْ في الكلام حذفٌ يدل عليه «ما» والتقدير: ساء ما ما يحكمون، فحذف «ما» الثانية «قلت: و» ما «هذه إن كانت موصولة فمذهب البصريين أنَّ حَذْفَ الموصول لا يجوز، وقد عرف ذلك، وإن كانت نكرة موصوفة ففيه نظر، لأنه لم يُعْهَدْ حَذْفُ» ما «نكرةً موصوفة.
وقال ابن عطية: «وما» في موضع رفع كأنه قال: ساء الذي يحكمون، ولا يتجه عندي أن تجري «ساء» هنا مجرى نِعْم وبئس؛ لأن المفسَّر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة، وإنما اتجه أن يجري مجرى بئس في قوله ﴿سَآءَ مَثَلاً القوم﴾ [الأعراف: ١٧٧] لأن المفسَّر ظاهر في الكلام «. قال الشيخ:» وهذا كلامُ مَنْ لم ترسخ قدمه في العربية بل شدا فيها شيئاً يسيراً؛ لأنها إذا جرت «ساء» مجرى بئس كان حكمها كحكمها سواء لا يختلف في شيء البتة مِنْ فاعل ظاهر
160
أو مضمر وتمييز، ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح أو الذم والتمييز بها لدلالة الكلام عليه. فقوله «لأن المفسَّر هنا مضمرٌ ولا بد من إظهاره باتفاق» قوله ساقط، ودعواه الاتفاق على ذلك مع أن الاتفاق على خلافه عجب عُجاب «.
قوله تعالى: ﴿وكذلك زَيَّنَ﴾ : هذا في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف كنظائره، فقدّره الزمخشري تقديرين فقال: «ومثل ذلك التزيين وهو تزيينُ الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة، أو: ومثل ذلك التزيينِ البليغ الذي عُلِم من الشياطين». قال الشيخ: «قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون» كذلك «مستأنفاً غير مشار به إلى ما قبله فيكون المعنى: وهكذا زَيَّن» قلت: والمنقول عن ابن الأنباري أنه مشار به إلى ما قبله، نقل الواحدي عنه أنه قال: «ذلك إشارة إلى ما نعاه الله عليهم مِنْ قَسْمهم ما قسموا بالجهل فكأنه قيل: ومثل ذلك الذي أَتوه في القَسْم جهلاً وخطأً زَيَّن لكثير من المشركين فشبَّه تزيين الشركاء بخطابهم في القسم، وهذا معنى قول الزجاج.
وفي هذه الآية قراءات كثيرة، والمتواتر منها ثنتان، الأولى: قرأ العامة» زَيَّنَ «مبنياً للفاعل و» قَتْلَ «نصب على المفعولية و» أولادهم «خفض بالإِضافة، و» شركاؤهم «رفع على الفاعلية وهي قراءة واضحة المعنى والتركيب. وقرأ ابن عامر:» زُيِّن «مبنياً للمفعول،» قَتْلُ «رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعله،»
161
أولادَهم «نصباً على المفعول بالمصدر،» شركائهم «خفضاً على إضافة المصدر إليه فاعلاً. وهذه القراءة متواترة صحيحة، وقد تجرَّأ كثير من الناس على قارئها بما لا ينبغي، وهو أعلى القراء السبعة سنداً وأقدمهم هجرة: أمَّا علوُّ سندِه فإنه قرأ على أبي الدرداء وواثلة بن الأسقع وفضالة بن عبيد ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة المخزومي، ونقل يحيى الذماري أنه قرأ على عثمان نفسه، وأمَّا قِدَمُ هجرته فإنه وُلِد في حياة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وناهيك به أن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري أخذ عن أصحاب أصحابه، وترجمته متسعة ذكرتها في» شرح القصيد «، وإنما ذكرت هنا هذه العُجالة تنبيهاً على خطأ مَنْ ردَّ قراءته ونسبه إلى لَحْنٍ أو اتباع مجرد المرسوم فقط.
قال أبو جعفر النحاس:» وهذا يعني الفصلَ بين المضاف والمضاف إليه بالظرف أو غيره، ولا يجوز في شعرٍ ولا غيره «. وهذا خطأ من أبي جعفر
162
لِمَا سنذكره من لسان العرب، وقال أبو علي الفارسي:» هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها يعني ابن عامر كان أَوْلى لأنهم لم يفصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظروف، وإنما أجازوه في الشعر «قال:» وقد فصلوا به أي بالظرف في كثير من المواضع نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾
[المائدة: ٢٢] وقولِ الشاعر:
٢٠٦١ - على أنني بعدما قد مَضَى
ثلاثون للهَجر حَوْلاً كميلا
وقول الآخر:
٢٠٦٢ - فلا تَلْحَنِي فيها فإنَّ بحبِّها
أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بلابلُه
ففصل بين إنَّ واسمها بما يتعلَّق بخبرها، ولو كان بغير الظرف لم يَجُزْ، ألا ترى أنك لو قلت: «إن زيداً عمراً ضارب» على أن يكون «زيداً» منصوباً بضارب لم يَجُز، فإذا لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه في الكلام بالظرف مع اتساعهم فيه في الكلام، وإنما يجوز في الشعر كقوله:
٢٠٦٣ - كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً
يهوديٍ يقارِبُ أو يُزيلُ
فأن لا يجوز بالمفعول به الذي لم يُتَّسعْ فيه بالفصل أجدر، ووجه ذلك
163
على ضَعْفه وقلة الاستعمال أنه قد جاء في الشعر على حَدِّ ما قرأه. قال الطرماح:
٢٠٦٤ - يَطُفْنَ بحوزيِّ المراتعِ لم تَرُعْ
بواديه مِنْ قَرْعِ القِسِيَّ الكنائِنِ
وأنشد أبو الحسن:
٢٠٦٥ -...............
زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ
وقال أبو عبيد: «وكان عبد الله بن عامر وأهل الشام يقرؤونها» زُيِّن «بضم الزاي،» قتلُ «بالرفع،» أولادَهم «بالنصب،» شركائهم «بالخفض، ويتأوّلون» قتل شركائهم أولادَهم «فيفرقون بين الفعل وفاعله». قال أبو عبيد: «ولا أحب هذه القراءة لما فيها من الاستكراه، والقراءة عندنا هي الأَوْلَى لصحتها في العربية مع إجماع أهل الحرمين والمِصْرَين بالعراق عليها» وقال سيبويه في قولهم «» يا سارق الليلةِ أهلَ الدار «بخفض» الليلة «على التجوز وبنصب الأهل على المفعولية، ولا يجوز» يا سارقَ الليلةَ أهلِ الدار «إلا في شعر كراهةَ أن يفصلوا بين الجار والمجرور. ثم قال:» وممَّا جاء في الشعر قد فُصل بينه
164
وبين المجرور قولُ عمرو بن قميئة:
٢٠٦٦ - لمَّا رأت ساتيدَ ما استعبرتْ
لله درُّ اليومَ مَنْ لامها
وذكر أبياتاً أخر ستأتي. ثم قال: «وهذا قبيح، ويجوز في الشعر على هذا:» مررت بخيرِ وأفضلِ مَنْ ثَمَّ «. وقال أبو الفتح ابن جني:» الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار والمجرور كثير لكنه من ضرورة الشاعر «. وقال مكي بن أبي طالب:» ومن قرأ هذه القراءة ونصب «الأولاد» وخفض «الشركاء» فهي قراءة بعيدة، وقد رُوِيَتْ عن ابن عامر، ومجازها على التفرقة بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وذلك إنما يجوز عند النحويين في الشعر، وأكثر ما يكون بالظرف «. وقال ابن عطية رحمه الله:» وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو الشركاء، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، ورؤساء العربية لا يُجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في شعر كما قال:
٢٠٦٧ - كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً
يهوديٍ.............
البيت فكيف بالمفعول في أفصح كلام؟ ولكنْ وجهُها على ضعفها أنها وردت في بيت شاذ أنشده أبو الحسن الأخفش:
٢٠٦٨ - فَزَجَجْتها بمَزَجَّةٍ
زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ
165
وفي بيت الطرماح وهو قوله:
٢٠٦٩ - يَطُفْنَ بحُوزِيِّ المراتع لم تَرُعْ
بواديه من قَرْع القِسيَّ الكنائِنِ
وقال الزمخشري فأغلظ وأساء في عبارته «وأمَّا قراءة ابن عامر فذكرها فشيءٌ لو كان في مكان الضرورة وهو الشعر لكان سَمِيحاً مردوداً كما سَمُج ورُدَّ:
........................
زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ
فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المُعْجِز بحسن نظمه وجزالته» ؟ الذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف «شركائهم» مكتوباً بالياء، ولو قرأ بجر «الأولاد» و «الشركاء» لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوَجَدَ في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب «قلت: سيأتي بيان ما تمنَّى أبو القاسم أن يقرأه ابن عامر، وأنه قد قرأ به، فكأن الزمخشري لم يَطَّلِعْ على ذلك فلهذا تمنَّاه.
وهذه الأقوال التي ذكرتُها جميعاً لا ينبغي أن يُلْتفت إليها لأنها طَعْنٌ في المتواتر، وإن كانت صادرةً على أئمةٍ أكابرَ، وأيضاً فقد انتصر لها مَنْ يقابلهم، وأورد من لسانِ العرب نظمِه ونثره ما يشهد لصحة هذه القراءة لغةً: قال أبو بكر ابن الأنباري:» هذه قراءة صحيحة، وإذا كانت العرب قد فَصَلَتْ بين
166
المتضايفين بالجملة في قولهم: «هو غلامُ إن شاء الله أخيك» يريدون: هو غلام أخيك فأنْ يُفْصَل بالمفرد أسهل «انتهى. وسمع الكسائي قول بعضهم:» إن الشاةَ لتجترُّ فتسمع صوتَ واللهِ ربِّها «أي: صوت ربها والله، ففصل بالقسم وهو في قوة الجملة، وقرأ بعض السلف: ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدَه رُسُلِهُ﴾ [إبراهيم: ٤٧] بنصب» وعدَه «وخفض» رسله «، وفي الحديث عنه عليه السلام:» هل أنتم تاركو لي صاحبي، تاركو لي امرأتي «أي: تاركو صاحبي لي، تاركو امرأتي لي.
وقال ابن جني في الخصائص:» باب ما يَرِد عن العربي مخالفاً للجمهور، إذا اتفق شيء من ذلك: نُظِر في ذلك العربي وفيما جاء به: فإن كان فصيحاً وكان ما جاء به يقبله القياس فَيَحْسُن الظنُّ به؛ لأنه يمكن أن يكون قد وقع إليه ذلك مِنْ لغةٍ قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها. أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن أبي الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: قال ابن عوف عن ابن سيرين: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «كان الشعر عِلْمَ قوم لم يكن لهم عِلْمٌ أصحُّ منه، فجاء الإِسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغَزْوِ فارس والروم ولَهَت عن الشعر وروايتِه، فلمَّا كثُر الإِسلام وجاءت الفتوح واطمأنَّت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يَؤُولوا إلى ديوانٍ مُدَوَّنٍ ولا إلى كتاب مكتوب، وأَلِفُوا ذلك وقد هلك مَنْ هلك من العرب بالموت والقتل فحفظوا أقلَّ ذلك وذهب عنهم كثيره.
قال: وحدثنا أبو بكر عن أبي خليفة عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء: قال: «ما انتهى إليكم ممَّا قالت العرب إلا أقلُّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعر كثير». قال أبو الفتح: «فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح [إذا] سُمِع منه
167
ما يخالف الجمهورَ بالخطأ ما وُجِد طريق إلى تقبُّل ما يورده إلا إذا كان القياس يعاضده». قلت: وقراءة هذا الإِمام بهذه الحيثيَّة بل بطريق الأولى والأحرى لو لم تكن متواترةً فكيف وهي متواترة؟ وقال ابن ذكوان: «سألني الكسائي عن هذا الحرف وما بلغه من قراءتنا فرأيته كأنه أعجبه وترنَّم بهذا البيت:
٢٠٧٠ - تَنْفي يداها الحصَى في كل هاجرة
نَفْيَ الدَّراهيمَ تَنْقادِ الصيارِيف
بنصب» الدراهيم «وجرّ» تنقاد «، وقد روي بخفض» الدراهيم «ورفع» تنقاد «وهو الأصل وهو المشهور في الرواية. وقال/ الكرماني:» قراءة ابن عامر وإن ضَعُفَتْ في العربية للإِحالة بين المضاف والمضاف إليه فقويَّةٌ في الرواية عالية «انتهى. وقد سُمِعَ ممَّنْ يُوثق بعربيته:» تَرْكُ يوماً نفسِك وهواها سَعْيٌ في رَداها «أي: تَرْكُ نفسِك يوماً مع هواها سَعْيٌ في هَلاكها، وأمَّا ما ورد في النظم من الفصل بين المتضايفين بالظرف وحرف الجر وبالمفعول فكثير وبغير ذلك قليلٌ، فمِن الفصلِ بالظرف قولُ الشاعر:
٢٠٧١ - فَرِشْني بخيرٍ لا أكونَنْ ومِدْحتي
كناحتِ يوماً صخرةٍ بعسيل
تقديره: كناحت صخرةٍ يوماً، ومثله قول الآخر:
٢٠٧٢ - كما خُطَّ الكتابُ بكف يوماً
يهوديٍّ................
وقول الآخر:
٢٠٧٣ - قد سَأَلَتْني أمُّ عمروٍ عن ال
أرضِ التي تجهل أَعْلامَها
168
لَمَّا رَأَتْ ساتِيْدَ ما اسْتَعْبَرَتْ
للهِ دَرُّ اليومَ مَنْ لامها
تَذَكَّرَتْ أرضاً بها أهلَها
أخوالَها فيها وأعمامَها
يريد: لله دَرُّ مَنْ لامَها اليوم. و» ساتيد ما «قيل: هو مركب والأصل: ساتي دما، ثم سُمِّي به هذا الجبلُ لأنه قُتِل عنده. قيل: ولا تبرح القتلى عنده. وقيل:» ساتيد «كلُّه اسمٌ و» ما «مزيدةٌ. ومثالُ الفصل بالجارِّ قولُه:
٢٠٧٤ - هما أخوا في الحرب مَنْ لا أخاله
إذا خافَ يوماً نَبْوَةً فدعاهما
وقوله:
٢٠٧٥ - لأنتَ مُعْتادُ في الهيجا مصابَرَةٍ
يَصْلى بها كلُّ مَنْ عاداك نيرانا
وقوله:
٢٠٧٦ - كأنَّ أصواتَ مِنْ إيغالِهِنَّ بنا
أواخِرِ المَيْسِ أصواتُ الفراريج
وقوله:
٢٠٧٧ - تَمُرُّ على ما تَسْتَمِرُّ وقد شَفَتْ
غلائلَ عبدُ القيسِ منها صدورِها
169
يريد: هما أخوا مَنْ لا أخاله في الحرب، ولأنت معتاد مصابرة في الهجاء، وكأن أصواتَ أواخر الميس، وغلائل صدورِها.
ومن الفصل بالمفعول قول الشاعر:
٢٠٧٨ - فَزَجَجْتُها بمَزَجَّةٍ
زجَّ القَلوصَ أبي مزادَه
ويروى: فَزَجَجْتها فتدافعَتْ، ويُروى: فزجَجْتها متمكناً، وهذا البيت كما تقدَّم أنشده الأخفش بنصب «القلوص» فاصلاً بين المصدر وفاعله المعنوي، إلا أن الفراء قال بعد إنشاده لهذا البيت: «ونحويُّو أهل المدينة ينشدون هذا البيت يعني بنصب القلوص» قال: «والصواب: زَجَّ القلوصِ بالخفض» قلت: قوله «والصوابُ يحتمل أن يكون من حيث الرواية، أي: إن الصوابَ خَفْضُه على الرواية الصحيحة، وأن يكون من حيث القياس، وإن لم يُرْوَ إلا بالنصب. وقال في موضع آخر من كتابه» معاني القرآن «:» وهذا مما كان يقوله نحويُّو أهلِ الحجاز ولم نجد مثله في العربية «وقال أبو الفتح:» فُصل بينهما بالمفعول به هذا مع قدرته على أن يقول: زج القلوصِ أبو مزادة كقولك: «سَرَّني أكلُ الخبزِ زيدٌ» بمعنى أنه كان ينبغي أن يضيف المصدر إلى مفعوله فيبقى الفاعل مرفوعاً على أصله، وهذا معنى قول الفراء الأول «والصواب جر القلوص» يعني ورفع الفاعل. ثم قال ابن جني: «وفي هذا البيت عندي دليلٌ على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم، وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول، ألا تراه ارتكب هذه الضرورةَ مع تمكُّنِه مِنْ تَرْكِها لا لشيء غيرَ الرغبة في إضافة المصدر إلى
170
الفاعل دون المفعول، ومن الفصل بالمفعول به أيضاً قولُ الآخر:
٢٠٧٩ - وحِلَقِ الماذيِّ والقوانِسِ
فداسَهم دونسَ الحصادَ الدائِسِ
أي: دوس الدائس الحصادَ. ومثله أيضاً:
٢٠٨٠ - يَفْرُك حَبَّ السنبلِ الكُنَافِجِ
بالقاع فَرْكَ القطنَ المحالجِ
يريد: فَرْك المحالجِ القطنَ، وقول الطرماح:
٢٠٨١ -.................
بواديه من قَرْع القِسِيَّ الكنائنِ
يريد: قرع الكنائنِ القسيَّ، قال ابن جني في هذا البيت:» لم نجد فيه بُدَّاً من الفصل لأن القوافي مجرورة «وقال في» زجَّ القلوصَ «: فصل بينهما بالمفعول به/ هذا مع قدرته إلى آخر كلامه المتقدم. يعني أنه لو أنشد بيت الطرماح بخفض» القسيّ «ورفع الكنائن لم يَجُز لأن القوافي مجرورة بخلاف بيت الأخفش، فإنه لو خفض» القلوص «ورفع» أبو مزادة «لم تختلف فيه قافيته ولم ينكسر وزنُه. قلت: ولو رفع» الكنائن «في البيت لكان جائزاً وإن كانت القوافي مجرورةً ويكون ذلك إقواء، وهو أن تكونَ بعضُ القوافي مجرورة وبعضها مرفوعة كقول امرئ القيس:
٢٠٨٢ - تَخْدي على العِلاَّتِ سامٍ رأسُها
رَوْعاءُ مَنْسِمُها رثيمٌ دامِ
171
ثم قال:
جالَتْ لتصرَعني فقلت لها اقصِري
إني امرؤٌ صَرْعي عليك حرامُ
فالميمُ مخفوضةٌ في الأول مرفوعة في الثاني، فإن قيل: هذا عيبٌ في الشعر.
قيل: لا يتقاعد ذلك عن أن يكونَ مثلُ هذه للضرورة، والحق إن الإِقواء أفحشُ وأكثر عيباً من الفصل المذكور، ومن ذلك أيضاً:
٢٠٨٣ - فإن يكنِ النِّكاحُ أَحَلَّ شيءٍ
فإنَّ نكاحها مطرٍ حرامُ
أي: فإن نكاحِ مطرٍ إيَّاها، فلمَّا قُدِّم المفعول فاصلاً بين المصدر وفاعله اتصل بعامله لأنه قَدِر عليه متصلاً فلا يَعْدِلُ إليه منفصلاً. وقد وقع في شعر أبي الطيب الفصلُ بين المصدر المضاف إلى فاعله بالمفعول كقوله:
٢٠٨٤ - بعثتُ إليه من لساني حديقة
سقاها الحيا سَقْيَ الرياضَ السحائبِ
أي: سقي السحائبِ الرياضَ. وأمَّا الفصلُ بغير ما تقدَّم فهو قليل، فمنه الفصلُ بالفاعل كقوله:
٢٠٨٥ -................
غلائلَ عبدُ القيس منها صدورِها
ففُصِل بين «غلائل» وبين «صدورها» بالفاعل وهو «عبد القيس» وبالجار وهو «منها» كما تقدم بيانه، ومثلُه قول الآخر:
172
٢٠٨٦ - نرى أسهماً للموت تُصْمي ولا تُنْمي
ولا تَرْعوي عن نقضِ أهواؤنا العزمِ
فأهواؤنا فاعلٌ بالمصدر وهو «نَقْض» وقد فُصِل به بين المصدر وبين المضاف إليه وهو العزم، ومثله قول الآخر:
٢٠٨٧ - أَنْجَبَ أيام والداهُ به
إذ نَجَلاه فنِعْمَ ما نَجَلا
يريد: أيام إذ نجلاه، ففصل بالفاعل وهو «والداه» المرفوع ب «أنجب» بين المتضايفين وهما «أيام إذ ولداه». قال ابن خروف: «يجوز الفصلُ بين المصدر والمضاف إليه بالمفعول لكونه في غير محله، ولا يجوز بالفاعل لكونه في محله، وعليه قراءة ابن عامر». قلت: هذا فرق بين الفاعل والمفعول حيث استُحْسِن الفصل بالمفعول دون الفاعل. ومن الفصل بغير ما تقدَّم أيضاً الفصلُ بالنداء كقوله:
٢٠٨٨ - وفاقُ كعبُ بُجَيْرٍ منقِذٌ لك من
تعجيل مُهْلِكَةٍ والخلدِ في سَقَرَ
وقول الآخر:
٢٠٨٩ - إذا ما أبا حفصٍ أَتَتْكَ رَأَيْتَها
على شعراء الناس يعلو قصيدها
وقول الآخر:
173
٢٠٩٠ - كأنَّ بِرْذَوْنَ أبا عصامِ
زيدٍ حمارٌ دُقَّ باللِّجامِ
يريد: وفاق بجيرٍ يا كعب، وإذا ما أتتك يا أبا حفص، وكأن بِرْذون زيدٍ يا أبا عصام. ومن الفصل أيضاً الفصلُ بالنعت كقول معاوية يخاطب به عمرو بن العاص:
٢٠٩١ - نَجَوْتَ وقد بَلَّ المُراديُّ سيفَه
من ابن أبي شيخ الأباطح طالبِ
وقول الآخر:
٢٠٩٢ - ولئن حَلَفْتُ على يديكَ لأحْلِفَنْ
بيمينِ أصدقَ مِنْ يمينك مُقْسِمِ
يريد: من ابن أبي طالب شيخ الأباطح، فشيخ الأباطح نعت لأبي طالب، فَصَلَ به بين أبي وبين طالب، ويريد: لأحلفن بيمينٍ مقسم أصدقَ مِنْ يمينك، فأصدق نعت لقوله بيمين، فصل به بين «يمين» وبين «مقسم». ومن الفصل أيضاً الفصل بالفعل الملغى:
٢٠٩٣ - ألا يا صاحِبَيَّ قِفا المَهارى
نسائلْ حيَّ بثنةَ أين سارا
بأيِّ تَرَاهُمُ الأرَضينَ حَلُّوا
أالدبران أم عَسَفُوا الكِفارا
يريد: بأي الأرضين تراهم حلُّوا، فَفَصَلَ بقوله «تراهم» بين «أيّ» وبين «الأرضين».
ومن الفصلِ أيضاً الفصلُ بمفعولٍ ليس معمولاً للمصدر
174
المضاف إلى فاعل كقول الشاعر:
٢٠٩٤ - تَسْقي امتياحاً ندى المسواكَ ريقتِها
كما تَضَمَّن ماءَ المُزْنَةِ الرَصفُ
أي: تسقي ندى ريقتها المسواكَ فالمسواك مفعول به ناصبه «تسقي» فَصَل به بين/ «ندى» وبين «ريقتها»، وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن قراءة ابن عامر صحيحة من حيث اللغة كما هي صحيحة من حيث النقل، ولا التفات إلى قول مَنْ قال: إنه اعتمد في ذلك على رسم مصحف الشام الذي أرسله عثمان بن عفان رضي الله عنه، لأنه لم يوجد فيه إلا كتابة «شركائهم» بالياء «، وهذا وإن كان كافياً في الدلالة على جَرِّ» شركائهم «فليس فيه ما يدل على نصب» أولادهم «إذ المصحفُ مهملٌ من شكل ونقط فلم يبقَ له حجةٌ في نصب الأولاد إلا النَّقْلُ المحض.
وقد نُقِل عن ابن عامر أنه قرأ بجرَِّ» الأولاد «كما سيأتي بيانُه وتخريجهُ، وأيضاً فليس رسمها» شركائهم «بالياء مختصَّاً بمصحف الشام بل هي كذلك أيضاً في مصحف أهل الحجاز. قال أبو البرهسم:» في سورة الأنعام في إمام أهل الشام وأهل الحجاز «أولادهم شركائهم» بالياء، وفي إمام أهل العراق «شركاؤهم» ولم يَقْرأ أهل الحجاز بالخفض في «شركائهم» لأنَّ الرسمَ سُنَّةٌ مُتَّبعة قد توافقها التلاوة وقد لا توافق «. إلا أن الشيخ أبا شامة قال:» قلت ولم تُرْسَمُ كذلك إلا باعتبار قراءتين: فالمضموم عليه قراءة معظم القراء «ثم قال:» وأما شركائهم بالخفض فيحتمل قراءة ابن عامر «وسيأتي كلام أبي شامة هذا
175
بتمامه في موضعه، وإنما أَخَذْتُ منه [بقدر] الحاجة هنا. فقوله» إن كل قراءة تابعةٌ لرسم مصحفها «تُشْكِلُ بما ذكرت لك من أن مصحف الحجازيين بالياء مع أنهم لم يقرؤوا بذلك. وقد نقل أبو عمرو الداني أن» شركائهم «بالياء إنما هو في مصحف الشام دون مصاحف الأمصار فقال:» في مصاحف أهل الشام «أولادهم شركائهم» بالياء وفي سائر المصاحف شركاؤهم بالواو «. قلت: هذا هو المشهور عند الناس أعني اختصاص الياء بمصاحف الضام، ولكنْ أبو البرهسم ثقة أيضاً فنقبل ما ينقله. وقد تقدَّم قولُ الزمخشري:» والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء «.
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة:» ولا بُعْدَ فيما استبعده أهل النحو من جهة المعنى وذلك أنه قد عُهد تقدُّمُ المفعول على الفاعل المرفوع لفظاً فاستمرت له هذه المرتبةُ مع الفاعل المرفوع تقديراً فإن المصدر لو كان منوناً لجاز تقديم المفعول على فاعله نحو: «أعجبني ضربٌ عمراً زيدٌ» فكذا في الإِضافة وقد ثَبَتَ جوازُ الفصل بين حرف الجر ومجروره مع شدة الاتصال بينهما أكثرَ من شدته بين المضاف والمضاف إليه كقوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٥] ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾ [آل عمران: ١٥٩] ف «ما» زائدة في اللفظ فكأنها ساقطة فيه لسقوطها في المعنى، والمفعول المقدم هو غير موضعه معنى فكأنه مؤخر لفظاً، ولا التفات إلى قول مَنْ زعم أنه لم يأت في الكلام المنثور مِثْلُه لأنه نافٍ، ومَنْ أسند هذه القراءة مُثْبِت، والإِثبات مُرَجَّح على النفي بإجماع، ولو نُقِل إلى هذا الزاعم عن بعض العرب أنه استعمله في النثر لرجع إليه فما باله لا يكتفي بناقل القراءة من التابعين عن الصحابة؟ ثم الذي حكاه ابن الأنباري يعني
176
مما تقدَّم حكايته من قولهم «هو غلامُ إن شاء الله أخيك» فيه الفصلُ في غير الشعر بجملة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وعبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر: «زُيِّن» مبنياً للمفعول، «قَتْلُ» رفعاً على ما تقدم، «أولادِهم» خفضاً بالإِضافة، «شركاؤهم» رفعاً، وفي رفعه تخريجان أحدهما: وهو تخريج سيبويه أنه مرفوع بفعل مقدر تقديره: زَيَّنه شركاؤهم، فهو جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: مَنْ زَيَّنه لهم؟ فقيل: شركاؤهم، وهذا كقوله تعالى: «يُسَبَّح له فيها بالغدوّ والآصال رجال» أي: يُسَبِّحه رجال، وقول الآخر:
٢٠٩٥ - ليُبْكَ يزيدٌ ضارعٌ لخصومةٍ
................
والثاني: وهو تخريج قطرب أن يكون «شركاؤهم» رفعاً على الفاعلية بالمصدر، والتقدير: زُيّن للمشركين أنْ قَتَلَ أولادَهم شركاؤهم كما تقول: / «حُبِّب لي ركوبُ الفرسِ زيدٌ» تقديره: حبب لي أَنْ ركب الفرس زيد. والفرق بين التخريجين أن التخريج الأول يؤدي إلى أن تكون هذه القراءة في المعنى كالقراءة المنسوبة للعامَّة في كون الشركاء مُزَيِّنين للقتل وليسوا قاتلين، والثاني: [أن] يكون الشركاء قاتلين، ولكن ذلك على سبيل المجاز؛ لأنهم لَمَّا زيَّنُوا قَتْلَهم لآبائهم وكانوا سبباً فيه نُسِبَ إليهم القتل مجازاً. وقال أبو البقاء: «ويمكن أن يقعَ القَتْلُ منهم حقيقةً»، وفيه نظرٌ لقوله «زُيّن»
177
والإِنسان إنما يُزَيَّن له فِعْلُ نفسه كقوله تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً﴾ [فاطر: ٨].
وقال غير أبي عبيد: «وقرأ أهل الشام كقراءة ابن عامر إلا أنهم خَفَضُوا» الأولاد «أيضاً، وتخريجُها سَهْلٌ: وهو أن تجعلَ» شركائهم «بدلاً من» أولادهم «بمعنى أنهم يُشْركونهم في النسب والمالِ وغير ذلك. قال الزجاج:» وقد رُوِيت «شركايهم» بالياء في بعض المصاحف، ولكن لا يجوزُ إلا على أن يكونَ «شركاؤهم» من نعتِ الأولاد لأنَّ أولادَهم شركاؤهم في أموالهم.
وقال الفراء: بعد أن ذكر قراءة العامة وهي «زَيَّن» مبنياً للفاعل، «شركاؤهم» مرفوعاً على أنه فاعل «وقراءة» زُيِّن «مبنياً للمفعول» شركاؤهم «رفعاً على ما تقدم من أنه بإضمار فعل، وفي مصحف أهل الشام شركايهم بالياء، فإن تكنْ مثبتةً عن الأولين فينبغي أن تقرأ» زُين «ويكون الشركاء هم الأولاد، لأنهم منهم في النسب والميراث، وإن كانوا يقرؤون» زَيَّن «يعني بفتح الزاي فلست أعرفُ جهتَها، إلا أن يكونوا فيها آخذين بلغة قوم يقولون: أتيتها عشايا، ويقولون في تثنية حمراء: حمرايان، فهذا وجه أن يكونوا أرادوا: زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركايُهم، يعني بياء مضمومة لأن» شركاؤهم «فاعل كما مر في القراءة العامة» قال: «وإن شئت جعلت زين فعلاً إذا فتحته لا يُلبس، ثم تخفض الشركاء بإتباع الأولاد». قال أبو شامة: «قلت: يعني تقدير الكلامِ زَيَّن بزُين، فقد اتجه» شركائهم «بالجر أن يكون نعتاً للأولاد سواءٌ قُرئ زين بالفتح أو الضم».
وقرأت فرقة من أهل الشام ورُوِيَتْ عن ابن عامر أيضاً - «زِيْنَ» بكسر
178
الزاي بعدها ياء ساكنة على أنه فعل ماض مبني للمفعول على حَدّ قيل وبيع. وقيل: مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله، وأولادَهم بالنصب، وشركائِهم بالخفض، والتوجيه واضح مما تقدم فهي [و] القراءة الأولى سواء، غاية ما في الباب أنه أُخذ مِنْ زان الثلاثي وبُني للمفعول فأُعِلَّ بما قد عرفته في أول البقرة.
واللام من قوله «لكثير من المشركين» متعلقة بزين، وكذلك اللام في قوله «ليُرْدُوهم». فإن قيل: كيف تُعَلِّق حرفَيْ جر بلفظ واحد وبمعنى واحد بعامل واحد من غير بدلية ولا عطف؟ فالجواب: أن معناهما مختلف فإنَّ الأولى للتعدية والثانية للعِلِّيَّة. وقال الزمخشري «إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السَّدَنة فهي للصيرورة» يعني أن الشيطانَ يفعل التزيين، وغرضه بذلك الإِرداء، فالتعليل فيه واضح، وأمَّا السَّدَنةُ فإنهم لم يزيِّنوا لهم ذلك وغرضُهم إهلاكهم، ولكن لمَّا كان مآل حالهم إلى الإِرداء أتى باللام الدالَّة على العاقبة والمآل.
قوله «وليَلْبِسوا» عطف على «ليُرْدوا»، عَلَّلَ التزيين بشيئين: بالإِرداء وبالتخليط وإدخال الشبهة عليهم في دينهم. والجمهورُ على «وليَلْبِسوا» بكسر الباء مِنْ لبَسْت عليه الأمر ألبِسُه بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع إذا أدْخَلْتَ عليه فيه الشبهة وخلطته فيه. وقد تقدم بيانه في قوله ﴿ولَلَبَسْنا عليهم ما يَلْبِسون﴾ [الأنعام: ٩]. وقرأ النخعي: «وليلبَسوا» بفتح الباء فقيل: هي لغة في المعنى المذكور تقول: «لَبَِسْتُ عليه الأمر بفتح الباء وكسرها ألبِسه وألبَسه، والصحيح أن لَبِس بالكسر بمعنى/ لبس الثياب، وبالفتح بمعنى
179
الخلط، فالصحيح أنه استعار اللباس لشدة المخالطة الحاصلة بينهم وبين التخليط حتى كأنهم لبسوها كالثياب وصارت محيطةً بهم.
وقوله: «ما فعلوه» الضمير المرفوع للكثير والمنصوب للقتل للتصريح به ولأنه المسوقُ للحديث عنه. وقيل: المرفوع للشركاء والمنصوب للتزيين، وقيل: المنصوب لِلَّبْسِ المفهوم من الفعل قبله وهو بعيد. وقال الزمخشري: «لما فعل المشركون ما زُيِّن لهم من القتل، أو لما فعل الشياطين أو السَّدَنَة التزيين أو الإِرداء أو اللبس، أو جميع ذلك إن جَعَلْتَ الضمير جارياً مَجْرى اسم الإِشارة».
وقوله ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ١١٢] تقدَّم نظيره.
قوله تعالى: ﴿أَنْعَامٌ﴾ : قرأها الجمهور كذلك على صيغة الجمع، وأبان بن عثمان «نَعَمٌ» بالإِفراد وهو قريب، لأن اسم الجنس يقوم مقام الجمع. وقرأ الجمهور «حِجْر» بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج بضم الحاء وسكون الجيم. ونُقل عن الحسن وقتادة أيضاً فتحُ الحاء وسكون الجيم. ونُقِل عن أبان بن عثمان ضَمُّ الحاءِ والجيم معاً. وقال هارون: «كان الحسن يضمُّ الحاء من» حجر «حيث وقع في القرآن إلا موضعاً واحداً [وهو] :﴿وَحِجْراً مَّحْجُوراً﴾ [الفرقان: ٥٣] والحاصل أن هذه المادة تدل على المنع والحصر ومنه: فلانٌ في حِجْر القاضي أي: في مَنْعه، وفي حِجْري أي: ما يمنع من الثوب أن ينفلتَ منه شيء، وقد تقدم تحقيق
180
ذلك في النساء فقوله تعالى ﴿وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ أي ممنوع، ف» فِعْل «بمعنى مفعول كالذِّبْح والنِّطْح بمعنى مذبوح ومنطوح. فإن قيل: قد تقدم شيئان: وهما أنعام وحرث وجيء بالصفة مفردة فالجواب أنه في الأصل مصدر والمصدر يُذَكَّر ويُوَحَّد مطلقاً. وقال الزمخشري:» ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع؛ لأنَّ حكمَه حكم الأسماء غير الصفات «قلت: يعني بكونه حكمه حكم الأسماء أنه في الأصل مصدرٌ لا صفةٌ، فالاسم هنا يُراد به المصدرُ وهو مقابل الصفة.
وأمَّا بقيَّةُ القراءات فقال أبو البقاء:» إنها لغات تفي الكلمة «وفَسَّر معناها بالممنوع. قلت: ويجوز أن يكون المضمومُ الحاء والجيم مصدراً وقد جاء من المصادر للثلاثي ما هو على وزن فُعُل بضم الفاء والعين نحو: حُلُم. ويجوز أن يكون جمع» حَجْر «بفتح الحاء وسكون الجيم، وفُعُل قد جاء قليلاً جمعاً لفَعْل نحو: سَقْف وسُقُف ورَهْن ورُهُن، وأن يكونَ جمعاً لفِعْل بكسر الفاء، وفُعُل أيضاً قد جاء جمعاً لفِعْل بكسر الفاء وسكون العين نحو حِدْج وحُدُج. وأما حُجْر بضم الحاء وسكون الجيم فهو مخفف من المضمومِها فيجوز أن يكون مصدراً، وأن يكون جمعاً لحَجْر أو حِجْر. وقرأ أبيّ بن كعب وعبد الله بن العباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعكرمة وعمرو ابن دينار والأعمش: حِرْج بكسر الحاء وراء ساكنة مقدمة على الجيم، وفيها تأويلان، أحدهما: أنها من مادة الحَرَج وهو التضييق، قال أبو البقاء:» وأصلُه حَرِج بفتح الحاء وكسر الراء ولكنه خُفِّف ونُقِل مثل فَخْذ في فخِذ «. قلت:
181
ولا حاجةَ إلى ادِّعاء ذلك، بل هذا جاء بطريق الأصالة على وزن فِعْل. والثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ حجر قُدِّمَتْ لام الكلمة على عينها ووزنه فِلْع كقولهم ناء في نأى ومعيق في عميق، والقلب قليل في لسانهم.
وقد قدَّمْتُ منه جملة صالحة عند قوله تعالى: «أشياء» في المائدة/.
قوله: ﴿لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ﴾ هذه الجملة في محل رفع نعتاً لأنعام، وَصَفوه بوصفين أحدهما: أنه حجر، والثاني: أنه لا يأكله إلا من شاؤوا، وهم الرجال دون النساء أو سَدَنة الأصنام. و «من يشاء» فاعل ب «يَطْعَمُها» وهو استثناء مفرغ و «بزعمهم» حال كما تقدم في نظيره.
قوله: «افتراءً» فيه أربعة أوجه أحدها: وهو مذهب سيبويه أنه مفعول من أجله أي: قالوا ما تقدَّم لأجل الافتراء على الباري تعالى. الثاني: مصدر على غير الصدر لأن قولهم المحكيَّ عنهم افتراء، فهو نظير «قعد القرفصاء» وهو قول الزجاج. الثالث: أنه مصدرٌ عاملُه من لفظه مقدر أي: افْتَرَوا ذلك افتراءً. الرابع: أنه مصدر في موضع الحال أي: قالوا ذلك حالَ افترائهم، وهي تشبه الحال المؤكدة؛ لأن هذا القولَ المخصوصَ لا يكون قائله إلا مفترياً. وقوله «على الله» يجوز تعلُّقه ب «افتراء» على القول الأول والرابع، وعلى الثاني والثالث بقالوا لا بافتراء؛ لأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ صفةً لافتراء، وهذا جائز على كل قولٍ من الأقوال السابقة. وقوله «بما كانوا» الباء سببية، و «ما» مصدرية أو موصوفةٌ أو بمعنى الذي.
قوله تعالى: ﴿خَالِصَةٌ﴾ : الجمهور على «خالصة» بالتأنيث مرفوعاً على أنه خبر «ما» الموصولة، والتأنيث: إمَّا حَمْلاً على المعنى؛ لأن الذي
182
في بطون الأنعام أنعام، ثم حُمِلَ على لفظها في قوله «ومحرَّم»، وإمَّا لأنَّ التأنيث للمبالغة كهو في عَلاَّمة ونسَّابة وراوية، وإمَّا لأن «خالصة» مصدر على وزن فاعلة كالعاقبة والعافية. وقال تعالى: ﴿بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار﴾ [ص: ٤٦] وهذا القول قول الفراء، والأول له أيضاً ولأبي إسحاق الزجاج، والثاني للكسائي، وإذا قيل: إنها مصدر كان ذلك على حذف مضاف أي: ذو خلوصٍ أو على المبالغةِ، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل كنظائره. وقال الشاعر:
٢٠٩٦ - وكنتِ أُمْنِيَّتي وكنتِ خالصتي
وليس كلُّ امرِئٍ بمؤتمنِ
وهذا مستفيضٌ في لسانهم: فلان خالصتي أي ذو خلوصي. و «لذكورنا» متعلِّقٌ به، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه وصف لخالصة وليس بالقوي.
وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة «خالص» مرفوعاً على ما تقدَّم من غير هاء. و «لذكورنا» متعلق به أو بمحذوف كما تقدَّم. وقرأ ابن جبير أيضاً فيما نقله عنه ابن جني «خالصاً» نصباً من غير تاء، ونصبُه على الحال، وفي صاحبه وجهان أظهرهما: أنه الضمير المستتر في الصلة. الثاني: أنه الضمير المستتر في «لذكورنا» فإنَّ «لذكورنا» على هذه القراءة خبر المبتدأ، وهذا إنما يجوز على مذهب أبي الحسن لأنه يجيز تقديم الحال على عاملها المعنوي نحو: «زيد مستقراً في الدار»، والجمهور يمنعونه، وقد تقدَّم تحقيق هذه المسألة بتفصيلها ودلائلها.
183
وقرأ ابن عباس أيضاً والأعرج وقتادة: «خالصةً» نصباً بالتأنيث، والكلام في نصبه وتأنيثه كما تقدم في نظيره، وخرَّجه الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعاقبة. وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو رزين وعكرمة وأبو حيوة: «خالصُه» برفع «خالص» مضافاً إلى ضمير «ما». ورفعه على أحد وجهين: إمَّا على البدل من الموصول، بدلِ بعض من كل، و «لذكورنا» خبر الموصول، وإمَّا على أنه مبتدأ، و «لذكورنا» خبره والجملة خبر الموصول، وقد عَرَفْتَ ممَّا تقدَّم أنه حيث قلنا: إن «خالصة» مصدر أو هي للمبالغة فليس في الكلام حَمْلٌ على معنى ثم على لفظ، وإن قلنا: إن التأنيث فيها لأجل تأنيث ما في البطون كان في الكلام الحَمْلُ على المعنى أولاً ثم على اللفظ في قوله «مُحَرَّمٌ» ثانياً، وليس لذلك في القرآن نظير، أعني الحمل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانياً.
إلا أن مكِّيَّاً زعم في غير «إعراب القرآن» له أن لهذه الآية نظائر فذكرها، وأما في إعرابه فلم يذكر أن غيرها في القرآن شاركها في ذلك، فقال في إعرابه «وإنما أَنَّث الخبر/ لأنَّ ما في بطون الأنعام أنعامٌ فحمل التأنيث على المعنى، ثم قال:» ومُحَرَّمٌ «فذكَّر حَمْلاً على لفظِ» ما «، وهذا نادرٌ لا نظير له، وإنما يأتي في» مَنْ «و» ما «حَمْلُ الكلام أولاً على اللفظ ثم على المعنى بعد ذلك فاعرفه فإنه قليل». وقال في غير «الإِعراب» :«هذه الآية في قراءة الجماعة أَتَتْ على خلاف نظائرها في القرآن؛ لأنَّ كلَّ ما يُحْمل على اللفظ مرةً وعلى المعنى مرة إنما يتبدئ أولاً بالحمل على اللفظ ثم يليه الحَمْل على المعنى نحو: ﴿مَنْ آمَنَ بالله﴾ [البقرة: ٦٢] ثم قال:» فلهم أجرُهم «، هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب، وهذه الآية تَقَدَّم فيها الحَمْلُ على المعنى فقال»
184
خالصة «، ثم حُمِلَ على اللفظ فقال:» ومُحرَّمٌ «، ومثله ﴿كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُةً﴾ [الإسراء: ٣٨] في قراءة نافع ومَنْ تابعه فأنَّث على معنى» كل «لأنها اسم لجميع ما تقدَّم ممَّا نهى عنه من الخطايا ثم قال:» عند ربك مكروهاً «فذكَّر على لفظ» كل «وكذلك ﴿مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ﴾ [الزخرف: ١٣] جَمَعَ الظهور حملاً على معنى» ما «ووحَّد الهاءَ حَمْلاً على لفظ» ما «، وحُكي عن العرب:» هذا الجرادُ قد ذهب فأراحنا مِنْ أَنْفُسِه «جمع الأنفس ووحَّد الهاء وذكَّرها.
قلت: أمَّا قوله» هكذا أتى في القرآن «فصحيح، وأمَّا قوله» وكلام العرب «فليس ذلك بمُسَلَّم؛ إذ في كلام العرب البداية بالحَمْلِ على المعنى، ثم على اللفظ، وإن كان عكسُه هو الكثير، وأمَّا ما جعله نظيرَ هذه الآية في الحَمْل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانياً فليس بمُسَلَّم أيضاً، وكذلك لا نُسَلِّم أن هذه الآية ممَّا حُمِلَ فيها على المعنى أولاً، ثم على اللفظ ثانياً. وبيان ذلك أنَّ لقائلٍ أن يقول: صلة» ما «جار ومجرور، وهو متعلق بمحذوف فتقدره مسنداً لضمير مذكَّر أي: ما استقرَّ في بطون هذه الأنعام، ويبعد تقديره باستقرَّت، إذا عُرِف هذا فيكون قد حَمَل أولاً على اللفظ في الصلة المقدرة ثم على المعنى ثانياً. وأمَّا» كل ذلك كان سَيِّئةً «فبدأ فيه أيضاً بالحَمْل على اللفظ في قوله» كان «فإنه ذكَّر ضميره المستتر في» كان «ثم حمل على المعنى في قوله» سيِّئة «فأنَّث.
وكذلك «لتَسْتَووا» فإنَّ قبله «ما تركبون»، والتقدير: ما تركبونه، فحمل العائد المحذوف على اللفظ أولاً ثم حُمِلَ على المعنى ثانياً، وكذلك في قولهم «هذا الجراد قد ذهب» حُمِلَ على اللفظ فأفرد الضمير في «ذهب»، ثم حُمِلَ على المعنى ثانياً فجمع في قوله «أنفسه»، وفي هذه المواضع يكون قد حمل فيها أولاً على اللفظ، ثم على المعنى، ثم على اللفظ، وكنتُ قد
185
قَدَّمْتُ أن في القرآن من ذلك أيضاً ثلاثة مواضع: آية المائدة [الآية: ٦٠] :﴿وَعَبَدَ الطاغوت﴾ ولقمان [الآية: ٦] :﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث﴾ والطلاق [الآية: ١١] :﴿وَمَن يُؤْمِن بالله﴾ قوله: ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً﴾ قرأ ابن كثير «يكن» بياء الغيبة مَيْتَةٌ رفعاً، وابن عامر: «تكن» بتاء التأنيث، ميتة رفعاً، وعاصم في رواية أبي بكر «تكن» بتاء التأنيث «ميتةً» نصباً، والباقون «تكن» كابن كثير، «ميتةً» كأبي بكر. والتذكير والتأنيث واضحان لأن الميتة تأنيث مجازي لأنها تقع على الذكر والأنثى من الحيوان فَمَنْ أنَّث فباعتبار اللفظ، ومَنْ ذكَّر فباعتبار المعنى، هذا عند مَنْ يرفع «ميتة» ب «تكن»، أمَّا من ينصبها فإنه يسند الفعل حينئذٍ إلى ضميرٍ فيذكِّر باعتبار لفظ «ما» في قوله «ما في بطون» ويؤنث باعتبار معناها. ومن نصب «ميتة» فعلى خبر «كان» الناقصة. ومَنْ رفع فيحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون التامة، وهذا هو الظاهر أي: وإن وجد ميتة أو حَدَثَتْ، وأن تكون الناقصة، وحينئذٍ يكون خبرُها محذوفاً أي: وإن يكن هناك أو في البطون ميتة وهذا رأي الأخفش، فيكون تقدير قراءة ابن كثير: وإن يَحْدُثْ حيوان ميتة أو: وإن يكن في البطون ميتة، على حسب التقديرين تماماً ونقصاناً، وتقدير قراءة ابن عامر كتقدير قراءته، إلا أنه أنَّث الفعل باعتبار لفظ مرفوعه، وتقدير قراءة أبي بكر: وإن تكنِ الأنعامُ أو الأجنَّة ميتةً، فأنَّث حَمْلاً على المعنى، وقراءة الباقين كتقدير قراءته إلا أنهم ذكَّروا باعتبار اللفظ، قال أبو عمرو بن العلاء: «ويُقَوِّي هذه القراءةَ يعني قراءة التذكير والنصب قوله» فهم فيه «ولم يقل فيها». ورُدَّ هذا/ على أبي عمرو بأن الميتة لكل ميت ذكراً كان أو أنثى فكأنه
186
قيل: وإن يكن ميتاً فهم فيه، يعني فلم يَصِرْ له في تذكير الضمير في «فيه» حُجَّةٌ.
ونقل الزمخشري قراءة ابن عامر عن أهل مكة فقال: «قرأ أهل مكة» وإن تكنْ ميتةٌ «بالتأنيث والرفع» فإن عنى بأهل مكة ابن كثير ولا أظنه عناه فليس كذلك وإن عنى غيره فيجوز، على أنه يجوز أن يكون ابن كثير قرأ بالتأنيث أيضاً، لكن لم يُشْتهر عنه اشتهارَ التذكير. وقرأ يزيد «مَيِّتة» بالتشديد. وقرأ عبد الله: «فهم فيه سواء» وأظنها تفسيراً لا قراءةً لمخالفتها السواد.
قوله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا﴾ : هذا جواب قسم محذوف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن «قَتَّلوا» بالتشديد مبالغة وتكثيراً، والباقون بالتخفيف، و «سفهاً» نصب على الحال أي: ذوي سَفَهٍ، أو على المفعول من أجله وفيه بُعْدٌ، لأنه ليس علة باعثة أو على أنه مصدر لفعل مقدر أي سفهوا سفهاً، أو على أنه مصدر على غير الصدر؛ لأن هذا القتل سَفَهٌ. وقرأ اليماني «سُفَهاء» على الجمع وهي حال، وهذه تقوِّي كونَ قراءةِ العامة مصدراً في موضع الحال حيث صرَّح بها. و «بغير علم» : إمَّا حال أيضاً، وإمَّا صفةٌ لسفهاً وليس بذاك.
قوله تعالى: ﴿مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ﴾ : منصوب على الحال، وفيها قولان أحدهما: أنها حال مقدرة لأن النخل والزرع وقت خروجِهما لا أَكْلَ فيهما حتى يقال فيه متفق أو مختلف، فهو كقوله ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣]
187
وكقولهم: «مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً» أي: مقدِّراً الاصطياد به. والثاني: أنها حال مقارنة وذلك على حذف مضاف أي: وثمر النخل وحَبّ الزرع. و «أُكُلُه» مرفوع ب «مختلفاً» لأنه اسم فاعل، وشروط الإِعمال موجودة. والأُكُل: الشيء المأكول، وقد تقدَّم أنه يُقْرأ بضم الكاف وسكونها ومضى تحقيقه في البقرة.
والضمير في «أُكُله» : الظاهر أنه يعود على الزرع فقط: إمَّا لأنه حذف حالاً من النخل لدلالة هذه عليها تقديره: والنخل مختلفاً أكله، والزرع مختلفاً أكله، وإمَّا لأن الزرع هو الظاهر فيه الاختلافُ بالنسبة إلى المأكول منه كالقمح والشعير والفول والحمص والعََدس وغير ذلك. وقيل إنها تعود عليهما، قال الزمخشري: «والضمير للنخل، والزرعُ داخلٌ في حكمه لكونه معطوفاً عليه». قال الشيخ: «وليس بجيد، لأن العطفَ بالواو لا يُجَوِّزُ إفراد ضمير المتعاطفين». وقال الحوفي: «والهاء في» أكلُه «عائدةٌ على ذِكْرِ ما تقدَّم من هذه الأشياء المنشآت»، وعلى هذا الذي ذكره الحوفي لا تختص الحال بالنخل والزرع بل يكون لِما تقدَّم جميعه.
قال الشيخ: «ولو كان كما زعم لكان التركيب» أكلها «، إلا إنْ أُخذ ذلك على حذف مضاف أي: ثمر جنات، وروعي هذا المحذوفُ فقيل:» أُكُلُه «بالإِفراد على مراعاته، فيكون ذلك كقوله:» أو كظلمات في بحر لُجِّيٍّ يغشاه موج «أي: أو كذي ظلمات؛ ولذلك أعاد الضمير في يغشاه عليه». قلت: فيبقى التقدير: مختلفاً أكل ثمر الجنات وما بعدها، وهذا يلزم منه إضافة الشيء
188
إلى نفسه، لأن الأُكُل كما تقدم غير مرة أنه الثمر المأكول. قال الزمخشري في الأكل: «وهو ثمره الذي يؤكل». وقال ابن الأنباري: «إن مختلفاً نُصب على القطع فكأنه قال: والنخل والزرع المختلف أُكُلُهما» وهذا رأي الكوفيين وقد تقدم إيضاحه غير مرة.
وقوله: ﴿والزيتون والرمان﴾ إلى قوله: ﴿إِذَآ أَثْمَرَ﴾ قد تقدم إيضاحه.
قوله «حصادِه» قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الحاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان في المصدر لقولهم جَداد وجِداد، وقَطاف وقِطاف، وحَران وحِران. قال سيبويه: «جاؤوا بالمصدر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثالِ فِعال، وربما قالوا فيه فَعال» يعني أن هذا مصدر خاص دال على معنى زائد على مطلق المصدر فإن المصدر الأصلي إنما هو الحصد، فالحصدُ ليس فيه دلالةٌ على انتهاء زمان ولا عدمها بخلاف الحَصاد والحِصاد.
ونسب الفراء الكَسْرَ لأهل الحجاز/ والفتح لتميم ونجد. واختار أبو عبيد الفتح قال: «للفخامة، وإن كانت الأخرى فاشية غير مدفوعة»، ومكي الكسرَ قال: «لأنه الأصل وعليه أكثر الجماعة».
وقوله ﴿يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ فيه وجهان أحدهما: أنه منصوب ب «آتوا» أي: أعطوا
189
واجبه يوم الحصاد. واستشكل بعض الناس ذلك بأن الإِيتاء إنما يكون بعد التصفية فكيف يوجب الإِيتار في يوم الحصيد؟ وأجيب بأن ثَمَّ محذوفاً والتقدير: إلى تصفيته قالوا: فيكون الحصاد سبباً للوجوب المُوَسَّع والتصفية سبب للأداء، وأحسنُ من هذا أن يكون المعنى: واهتموا بإيتاء الزكاة الواجبة فيه واقصدوه في ذلك اليوم.
والثاني: أنه منصوب بلفظ «حقه» على معنى: وأعطوا ما استحق منه يوم حصاده، فيكون الاستحقاق ثابتاً يوم الحصاد والأداء بعد التصفية، ويؤيد ذلك تقديرُ المحذوف عند بعضهم كما قَدَّمْتُه، وقال في نظير هذه الآية: ﴿انظروا إلى ثَمَرِهِ﴾ [الأنعام: ٩٩] وفي هذه «كُلُوا» قيل: لأن الأولى سِيْقَتْ للدلالة على كمال قدرته وعلى إعادة الأجسام من عُجْب الذَّنَب فأمر بالنظر والتفكُّر في البداية والنهاية، وهذه سِيْقَت في مَعْرِض كمال الامتنان فناسب الأمر بالأكل، وتحصَّل من مجموع الآيتين الانتفاعُ الأخروي والدنيوي، وهذا هو السبب لتقدم النظر على الأمر بالأكل.
قوله تعالى: ﴿حَمُولَةً وَفَرْشاً﴾ : منصوبان على أنهما نُسِقا على جنات أي: وأنشأ من الأنعام حمولة. والحَمولة: ما أطاق الحملَ عليه من الإِبل. والفَرْش صغارُها، هذا هو المشهورُ في اللغة. وقيل: الحَمولة كبارُ الأنعام أعني الإِبل والبقر والغنم، والفَرْش صغارها قال: «ويدل له أنه أبدل منه قولَه بعد ذلك ثمانية أزواج من الضأن» كما سيأتي. وقال الزجاج: «أجمع أهل اللغة على أن الفَرْشَ صغار الإبل، وأنشد:
٢٠٩٧ - أَوْرَثَني حَمولةً وفَرْشاً
أَمُشُّها في كل يومٍ مَشَّا
190
وقال الآخر:
٢٠٩٨ - وَحَوَيْنا الفَرْشَ مِنْ أنعامكم
والحَمُولاتِ وربَّاتِ الحجالْ
قال أبو زيد:» يحتمل أن يكون سُمِّيَتْ بالمصدر لأنَّ الفَرْشَ في الأًصل مصدر «. والفَرْش لفظٌ مشترك بين معانٍ كثيرة منها ما تقدَّم، ومنها متاع البيت، والفضاء الواسع، واتساع خفِّ البعيرِ قليلاً، والأرض الملساء، عن أبي عمرو بن العلاء، ونباتٌ يلتصق بالأرض، ومنه قول الشاعر:
٢٠٩٩ - كمِشْفَر الناب تلوك الفَرْشا... وقيل: الحَمُولة: كلُّ ما حُمِل عليه، من إبل وبقر وبغل وحمار، والفَرْشُ هنا ما اتُّخِذَ من صوفه ووبره وشعره ما يفترش، وأنشدوا للنابغة:
٢١٠٠ - وحَلَّتْ بيوتي في يَفاعٍ مُمَنَّعٍ
تَخَالُ به راعي الحَمولَةِ طائرا
وقال عنترة:
٢١٠١ - وما راعني إلا حَمُولة أهلها وسطَ الديارِ تَسُفُّ حب الخِمْخِمِ...
قوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ : في نصبه ستةُ أوجه، أحسنُها: أن يكونَ بدلاً من «حَمولة وفرشاً» لولا ما نقله الزجاج من الإِجماع المتقدم، ولكن ليس فيه أن ذلك محصورٌ في الإِبل، والقول بالبدل هو قول
191
الزجاج والفراء. والثاني: أنه منصوب ب «كلوا» الذي قبله أي: كلوا ثمانيةَ أزواج، ويكون قوله «ولا تَتَّبِعُوا» إلى آخره كالمعترض بين الفعل ومنصوبه وهو قول علي بن سليمان وقَدَّره: كُلوا لحمَ ثمانية. وقال أبو البقاء: «هو منصوب ب» كلوا «تقديره: كُلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج، ولا تُسْرفوا معترض بينهما». قلت: صوابه أن يقول: «ولا تتَّبعوا» بدلَ «ولا تسرفوا» لأنَّ «كُلوا» الذي يليه «ولا تسرفوا» ليس منصبّاً على هذا لأنه بعيد منه، ولأنَّ بعده ما هو أَوْلَى منه بالعمل، ويُحتمل أن يكون الناسخ غلط عليه، وإنما قال هو «ولا تَتَّبعوا» ويدل على ذلك أنه قال «تقديره: كلوا ممَّا رزقكم الله»، وكلوا الأولُ ليس بعده «مما رزقكم» إنما هو بعد الثاني. الثالث: أنه عطف على «جنات» أي: أنشأ جنات وأنشأ ثمانية أزواج، ثم حُذِفَ الفعل وحرف العطف وهو مذهب الكسائي. قال أبو البقاء: «وهو ضعيف» قلت: الأمر كذلك، وقد سُمِع ذلك في كلامهم نثراً ونظماً، ففي النثر قولهم: «أكلت لحماً سمكاً تمراً» وفي نظمهم قول الشاعر:
٢١٠٢ -... كيف أصبحتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا
يزرَعُ الودَّ في فؤاد الكريمِ... أي: أكلت لحماً وسمكاً وتمراً، وكيف أصبحت وكيف أمسيت، وهذا على أحد القولين في ذلك. والقول الثاني أنه بدل بداء. ومنه الحديث: «إن الرجلَ ليصلِّي الصلاة، وما كُتِبَ له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى أن وصل إلى
192
العَشْر» الرابع: أنه منصوب بفعل محذوف مدلولٍ عليه بما في اللفظ تقديره: كلوا ثمانيةَ أزواج، وهذا أضعفُ ممَّا قبله. الخامس: أنه منصوبٌ على الحال، تقديره: / مختلفةً أو متعددة، وصاحب الحال «الأنعام» فالعامل في الحال ما تعلَّق به الجار وهو «مِنْ». السادس: أنه منصوب على البدل مِنْ محلِّ «ممَّا رزقكم الله».
قوله: ﴿مَّنَ الضأن اثنين﴾ في نصب «اثنين» وجهان أحدهما: أنه بدلٌ من «ثمانية أزواج» وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال: «والدليل عليه» ثمانية أزواج «ثم فَسَّرها بقوله» من الضأن اثنين «الآية. وبه صَرَّح أبو البقاء فقال:» واثنين بدل من الثمانية وقد عُطِفَ عليه بقية الثمانية «.
والثاني: أنه منصوبٌ بأنشأ مقدَّراً، وهو قول الفارسي، و «مِنْ» تتعلَّق بما نصب «اثنين».
والجمهور على تسكين همزة «الضأن» وهو جمع ضائن وضائنة كتاجِر وتاجرة وتَجْر، وصاحب وصاحبة وصَحْب، وراكب وراكبة ورَكْب. وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر «الضَّأَن» بفتحها، وهو إمَّا جمع تكسير لضائن كما يقال خادم وخدم وحارس وحرس وطالب وطَلَب، وإمَّا اسم جمع. ويُجْمع على ضَئين كما يقال: كلب وكليب، قال:
معروفٌ وهو ذو الصوف من الغنم، والمعز ذو الشعر منها. وقرأ أبان بن عثمان «اثنان» بالرفع على الابتداء والخبر الجار قبله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر المَعَز بفتح العين، والباقون بسكونها، وهما لغتان في جمع ماعِز، وقد تقدَّم أن فاعِلاً يُجمع على فَعْل تارة وعلى فَعَل أخرى كتاجر وتَجْر وخادِم وخَدَم، وقد تقدَّم تحقيقُه، ويُجْمع أيضاً على مِعْزى، وبها قرأ أُبَيّ، قال امرؤ القيس:
١١٠٤ - ألا إنْ لا تكن إِبِلٌ فمِعْزَى
كأنَّ قُروْنَ جِلَّتِها العِصِيُّ
وقال أبو زيد: إنه يُجْمع على أُمْعوز، وأنشد:
٢١٠٥ -..............
كالتَّيْبسِ في أُمْعوِزهِ المُتَرَبِّلِ
ويجمع أيضاً على مَعِيز، وأنشدوا لامرئ القيس:
١١٠٦ - ويمنحها بنو شَمَجَى بنِ جَرْمٍ
معيزَهُمُ حنَانكَ ذا الحَنانِ
والإِبل: اسم جمع لا واحد له من لفظه، بل واحدُه جمل وناقة وبعير، ولم يجئ اسم على فِعِل عند سيبويه غيره، وزاد غير سيبويه بِكِراً وإِطِلاً
194
ووِتِداً ومِشِطاً، وسيأتي لهذا مزيد بيان في الغاشية إن شاء الله، والنسبة إليه إبَلي بفتح الباء لئلاَّ يتوالَى كسرتان مع ياءين.
قوله: ﴿ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ﴾ الذَّكَرَيْن منصوب بما بعده، وسببُ إيلائه الهمزةَ ما تقدم في قوله «أأنت قلتَ للناس» و «أم» عاطفة للأُنْثَيَيْن على الذكرين، وكذلك أم الثانية عاطفة ما الموصولة على ما قبلها فمحلُّها نصبٌ تقديره: أم الذي اشتملت عليه أرحام، فلما التقت الميم ساكنة مع ما بعدها وجَب الإِدغامُ.
و «أم» في قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ﴾ : منقطعة ليست عاطفةً؛ لأن بعدها جملةً مستقلة بنفسها فتُقَدَّر ب بل والهمزة والتقدير: بل أكنتم شهداء. و «إذ» منصوب بشهداء أنكر عليهم ما ادَّعَوْه، وتهكَّم بهم في نسبتهم إلى الحضور في وقتِ الإِيصاء بذلك. و «بهذا» إشارة إلى جميع ما تقدَّم ذِكْرُه من المحرَّمات عندهم.
قوله تعالى: ﴿مُحَرَّماً﴾ : منصوبٌ بقوله «لا أَجِدُ» وهو صفة لموصوف محذوف حُذِفَ لدلالة قوله على «طاعم يَطْعَمُه» والتقدير: لا أجد طعاماً محرَّماً. و «على طاعم» متعلق بمحرَّماً و «يَطْعَمُه» في محل جرّ صفةً لطاعم. وقرأ الباقر ونقلها مكي عن أبي جعفر «يَطَّعِمُه» بتشديد الطاء وأصلها يَطْتَعِمه افتعالاً من الطعم، فأبدلت التاء طاء لوقوعها بعد طاء للتقارب فوجب الإِدغام. وقرأت عائشة ومحمد بن الحنفية وأصحاب عبد الله بن مسعود «تَطَعَّمه» بالتاء من فوق وتشديد العين فعلاً ماضياً.
قوله ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ﴾ منصوبٌ على الاستثناء وفيه وجهان، أحدهما: أنه
195
متصل قال أبو البقاء: «استثناء من الجنس، وموضعه نصب، أي: لا أجد مُحَرَّماً إلا الميتة» والثاني: أنه منقطع، قال مكي: «وأن يكون في موضع نصب على الاستثناء المنقطع». وقال الشيخ: «وإلا أن يكون» استثناء منقطع لأنه كون وما قبله عين، ويجوز أن يكون موضعه نصباً بدلاً على لغة تميم ونصباً على الاستثناء على لغة الحجاز «يعني أن الاستثناء/ المنقطع فيه لغتان إحداهما لغة الحجاز وهو وجوبُ النصبِ مطلقاً، ولغة التميميين يجعلونه كالمتصل، فإن كان في الكلام نفي أو شبهه رُجِّح البدلُ، وهنا الكلام نفي فيترجَّح نصبُه عند التميميين على البدل دون النصب على الاستثناء فنصبُه من وجهين، وأمَّا الحجاز فنصبُه عندهم مِنْ وجهٍ واحد، وظاهر كلام أبي القاسم الزمخشري أنه متصل فإنه قال:» محرماً أي: طعاماً محرماً من المطاعم التي حَرَّمتموها، إلا أن يكون ميتة «إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة» وقرأ ابن عامر في رواية: «أوحَى» بفتح الهمزة والحاء مبنياً للفاعل.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ﴾ وقوله «نَبِّئوني»، وقوله أيضاً «آلذكرين» ثانياً وقوله «أم كنتم شهداء» جمل اعتراضٍ بين المعدودات التي وقعَتْ تفصيلاً لثمانية أزواج. قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف فصل بين المعدود وبين بعضه ولم يُوالِ بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضاً غيرَ أجنبي من المعدود، وذلك أن الله عز وجل مَنَّ على عباده بإنشاء الإِنعام لمنافعهم
196
وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على مَنْ حرَّمها، والاحتجاج على مَنْ حرَّمها تأكيد وتسديد للتحليل، والاعتراضات في الكلام لا تُساق إلا للتوكيد».
وقرأ ابن عامر «إلا أَنْ تكونَ ميتةٌ» بالتأنيث ورفع ميتة يعني: إلا أن يوجدَ ميتة، فتكون تامة عنده، ويجوز أن تكون الناقصة والخبرُ محذوفٌ تقديره: إلا أن يكون هناك ميتة، وقد تقدَّم أن هذا منقولٌ عن الأخفش في قوله مثل ذلك ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً﴾.
وقال أبو البقاء: «ويُقْرأ برفع» ميتة «على أنَّ» تكون «تامة، وهو ضعيف لأن المعطوف منصوب». قلت: كيف يُضَعِّف قراءة متواترة؟ وأما قوله «لأن المعطوف منصوب» فذلك غير لازم؛ لأن النصب على قراءة مَنْ رفع «ميتة» يكون نَسَقَاً على محلِّ «أن تكون» الواقعة مستثناةً تقديره: إلا أن يكون ميتة، وإلا دماً مسفوحاً، وإلا لحم خنزير. وقال مكي ابن أبي طالب «وقرأ أبو جعفر» إلا أن تكون «بالتاء، ميتةٌ بالرفع»، ثم قال: «وكان يلزم أبا جعفر أن يقرأ» أو دمٌ «بالرفع وكذلك ما بعده». قلت: هذه هي قراءة ابن عامر نسبها لأبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني شيخ نافع وهو محتمل، وقوله «كان يلزمه» إلى آخره هو معنى ما ضَعَّف به أبو البقاء هذه القراءةَ، وقد تقدَّم جوابُ ذلك، واتفق أن ابن عامر يقرأ «وإن تكنْ ميتةٌ» بالتأنيث والرفع وهنا كذلك.
وقرأ ابن كثير وحمزة «تكون» بالتأنيث، «ميتةً» بالنصب على أن اسم «تكون» مضمر عائد على مؤنث أي: إلا أن يكون المأكول، ويجوز أن يعودَ الضميرُ مِنْ «تكون» على «محرَّماً»، وإنما أنَّث الفعلَ لتأنيث الخبر كقوله {ثُمَّ
197
لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن} [الأنعام: ٢٣] ينصب «فتنتهم» وتأنيث «تكن». وقرأ الباقون «يكون» بالتذكير، «ميتة» نصباً، واسم «يكون» يعود على قوله «مُحَرَّماً» أي: إلا أن يكون ذلك المحرَّم. وقدَّره أبو البقاء ومكي وغيرهما: «إلا أن يكون المأكولُ» أو «ذلك ميتة».
قوله: «أو دماً»«دماً» على قراءةِ العامة معطوفٌ على خبر «يكون» وهو «ميتة»، وعلى قراءة ابن عامر وأبي جعفر معطوفٌ على المستثنى وهو «أن يكون» وقد تقدم تحرير ذلك. ومسفوحاً صفة ل «دماً». والسَّفْحُ: «الصَّبُّ. وقيل: السَّيَلان وهو قريب من الأول، وسفح يُستعمل قاصراً ومتعدِّياً يقال: سَفَحَ زيدٌ دمعه ودمه أي: أهراقَه وسفح هو، إلا أن الفرق بينهما وقع باختلاف المصدر ففي المتعدي يقال: سَفْح، وفي اللازم يقال سُفُوح، ومن التعدِّي قوله تعالى: ﴿أو دماً مسفوحاً﴾ فإن اسم المفعول التام لا يُبْنى إلا مِنْ متعدٍّ، ومن اللزوم ما أنشده أبو عبيدة لكثير عزة:
٢١٠٧ - أقول ودَمْعي واكفٌ عند رسمها
عليك سلامُ الله والدمعُ يَسْفَح
قوله:» أو فِسْقاً «فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه عطف على خبر يكون أيضاً أي: إلا أن يكون فسقاً.
و «أُهِلَّ» في محل نصب لأنه صفة له كأنه قيل: أو فِسْقاً مُهَلاًّ به لغير الله، جعل العينَ المحرَّمة نفسَ الفسق مبالغة، أو على حذف مضاف ويُفَسِّره ما تقدَّم من قوله: / ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: ١٢١]. الثاني: أنه منصوب عطفاً على محل المستثنى أي: إلا أن
198
يكون ميتة أو إلا فسقاً. وقوله «فإنه رجْسٌ» اعتراض بين المتعاطفين. والثالث: أن يكون مفعولاً من أجله، والعامل فيه قوله «أُهِلَّ» مقدَّم عليه، ويكون قد فصل بين حرف العطف وهو «أو» وبين المعطوف وهو الجملة من قوله «أُهِلَّ» بهذا المفعول من أجله، ونظيره في تقديم المفعول له على عامله قوله:
٢١٠٨ - طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ
ولا لَعِباً مني وذو الشيب يَلْعَبُ
و «أُهِلَّ» على هذا الإِعراب عَطْفٌ على «يكون»، والضمير في «به» عائد على ما عاد عليه الضمير المستتر في «يكون»، وقد تقدَّم تحقيقُه، قاله الزمخشري. إلا أن الشيخ تَعَقَّب عليه ذلك فقال: «وهذا إعرابٌ متكلَّف جداً وتركيب على هذا الإِعراب خارج عن الفصاحة وغيرُ جائزٍ على قراءةِ مَنْ قرأ ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً﴾ بالرفع، فيبقى الضمير في» به «ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يُتكلَّفَ محذوفٌ حتى يعود الضمير عليه، فيكون التقدير: أو شيء أهِلَّ لغير الله به؛ لأنَّ مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر». قلت: يعني بذلك أنه لا يُحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام «مِنْ» التبعيضية كقولهم: «منا ظَعَنَ ومنا أقام» أي: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، فإن لم يكن فيه «مِنْ» كان ضرورة كقوله:
199
٢١٠٩ - تَرْمي بكفَّيْ كان مِنْ أرمى البشَرْ... أي: بكفَّيْ رجل، وهذا رأي بعضهم، وأمَّا غيره فيقول: متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقاً، فقد يجوز أن يرى الزمخشري هذا الرأي.
وقوله: «فإنه» الهاء فيها خلاف، والظاهر عَوْدُها على «لحم» المضاف لخنزير. وقال ابن حزم: «إنها تعود على خنزير لأنه أقرب مذكور» ورُجِّح الأول بأن اللحم هو المحدِّث عنه، والخنزير جاء بعرَضيَّة الإِضافة إليه، ألا ترى أنك إذا قلت: «رأيت غلام زيد فأكرمته» أن الهاء تعود على الغلام لأنه المحدَّث عنه المقصودُ بالإِخبار عنه، لا على زيد؛ لأنه غير مقصود. ورُجِّح الثاني بأن التحريم المضاف للخنزير ليس مختصاً بلحمه بل شحمُه وشعره وعظمه وظِلْفُه كذلك، فإذا أعدنا الضمير على خنزير كان وافياً بهذا المقصود، وإذا أَعَدْنا على «لحم» لم يكن في الآية تعرُّضٌ لتحريم ما عدا اللحمَ مما ذكر. وقد أُجيب عنه بأنه إنما ذُكِر اللحم دون غيره، وإن كان غيرُه مقصوداً بالتحريم؛ لأنه أهمُّ ما فيه وأكثر ما يُقصد منه اللحم، كما ذلك في غيره من الحيوانات، وعلى هذا فلا مفهوم لتخصيص اللحم بالذِّكر، ولو سُلِّم فإنه يكون من باب مفهوم اللقب وهو ضعيف جداً. وقوله «فإنه رِجْسٌ» : إمَّا على المبالغة بأَنْ جُعل نفس الرجس، أو على حَذْفِ مضاف وله نظائر.
قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الذين هَادُواْ﴾ : متعلق بحرَّمْنا، وهو يُفيد الاختصاص عند بعضهم كالزمخشري والرازي، وقد صَرَّح به الرازي هنا أعني تقديمَ المعمول على عامله.
200
وفي «الظفر» لغات خمس، أعلاها: ظُفُر وهي قراءة العامة، وظُفْر بسكون العين وهي تخفيف المضمومها، وبها قرأ الحسن في روايةٍ وأبي بن كعب والأعرج، وظِفِر بكسر الظاء والفاء، ونسبها الواحدي لأبي السمَّال قراءةً، وظِفْر بكسر الظاء وسكون الفاء وهي تخفيف المكسورها، ونسبها الناس للحسن أيضاً قراءة، واللغة الخامسة أُظْفور ولم يُقرأ بها فيما علمت، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر:
٢١١٠ - ما بين لُقْمَتِها الأولى إذا انحدَرَتْ
وبين أخرى تليها قِيْدُ أُظْفورِ
وجمع الثلاثي أظفار، وجمع أظفور أظافير وهو القياس، وأظافر من غير مدّ وليس بقياس، وهذا كقوله:
٢١١١ -................
..... العينين والعواوِرِ
وقد تقدَّم تحقيق ذلك في قوله مفاتح الغيب.
قوله: «ومن البقر» فيه وجهان أحدهما: أنه معطوف على «كل ذي» فتتعلق «مِنْ» بحرَّمنا الأولى لا الثانية، وإنما جيء بالجملة الثانية مفسرة لما أبهم في «من» التبعيضية مِن المحرم فقال: «حَرَّمْنا عليهم شحومهما» والثاني: أن يتعلق بحرَّمْنا المتأخرة والتقدير: / وحرَّمنا على الذين هادوا من البقر والغنم
201
شحومهما، فلا يجب هنا تقديم المجرور بها على الفعل، بل يجوز تأخيره كما تقدَّم، ولكن لا يجوز تأخيره عن المنصوب بالفعل فيقال: حرَّمنا عليهم شحومَهما من البقر والغنم لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة. وقال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون» مِن البقر «متعلقاً ب» حَرَّمنا «الثانية». قال الشيخ: «وكأنه توهَّم أنَّ عَوْد الضمير مانع من التعلق، إذ رتبةُ المجرور ب مِنْ التأخير لكن عَمَّاذا؟ أما عن الفعل فمسلَّم، وأما عن المفعول فغير مُسَلَّم» يعني أنه إن أراد أنَّ رتبة قوله «من البقر» التأخير عن شحومهما فيصير التقدير: حرَّمْنا عليهم شحومهما من البقر فغير مُسَلَّم. ثم قال الشيخ: «وإن سَلَّمنا أنَّ رُتْبَتَه التأخير عن الفعل والمفعول فليس بممنوع بل يجوز ذلك كما جاز:» ضرب غلامَ المرأة أبوها «و» غلامَ المرأة ضرب أبوها «، وإن كانت رتبة المفعول التأخير، لكنه وجب هنا تقديمه لعود الضمير الذي في الفاعل الذي رتبتُه التقديم عليه فكيف بالمفعول الذي هو والمجرور في رتبة واحدة؟ أعني في كونِهما فضلةً فلا يُبالى فيهما بتقديم أيِّهما شِئْتَ على الآخر، قال الشاعر:
٢١١٢ -.................
وقد رَكَدَتْ وسطَ السماء نجومُها
فقدَّم الظرفَ وجوباً لعود الضمير الذي اتصل بالفاعل على المجرور بالظرف». قلت: لقائلٍ أن يقول لا نُسَلِّم أن أبا البقاء إنما مَنَعَ ذلك لِما ذكره حتى يُلْزَمَ بما ألزمته بل قد يكون منعه لأمر معنوي.
والإِضافة في قوله «شحومهما» تفيد الدلالة على تأكيد التخصيص والربط، إذ لو أتى في الكلام «من البقر والغنم حرَّمْنا عليهم الشحوم» لكان
202
كافياً في الدلالة على أنه لا يُراد إلا شحومُ البقر والغنم، هذا كلام الشيخ وهو بَسْطُ ما قاله الزمخشري فإنه قال: «ومن البقر والغنم حَرَّمْنا عليهم شحومهما كقولك:» مِنْ زيد أخذت ماله «تريد بالإِضافة زيادة الربط.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ » ما «موصولة في محل نصب على الاستثناء المتصل من الشحوم أي: إنه لم يُحَرِّم الشحم المحمول على الظهر، ثم إن شئت جعلت هذا الموصول نعتاً لمحذوف أي: إلا الشحم الذي حملته ظهورهما، كذا قدَّره الشيخ، وفيه نظر، لأنه هو قد نَصَّ على أنه لا يُوصف ب» ما «الموصولة وإن كان يُوصف بالذي، وقد ردَّ هو على غيره بذلك في مثل هذا التقدير، وإن شِئْتَ جَعَلْته موصوفاً بشيء محذوف أي: إلا الذي حملته ظهورهما من الشحم، وهذا الجارُّ هو وصف معنوي لا صناعي فإنه لو أظهر كذا لكان إعرابه حالاً.
وقوله» ظهورهما «يحتمل أن يكون من باب ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤] بالنسبة إلى ضمير البقر والغنم من غير نظر إلى جمعيتهما في المعنى، ويحتمل أن يكون جَمَعَ» الظهور «لأن المضاف إليه جمع في المعنى، فهو مثل» قَطَعْت رؤوس الكبشين «فالتثنية في مثل هذا ممتنعة.
قوله: ﴿أَوِ الحوايآ﴾ في موضعها من الإِعراب ثلاثة أوجه، أحدها: وهو قول الكسائي أنها في موضع رفع عطفاً على» ظهورهما «أي: وإلا الذي حَمَلَتْه الحوايا من الشحم فإنه أيضاً غير محرَّم، وهذا هو الظاهر. الثاني: أنها في محل نصب نسقاً على» شحومهما «أي: حَرَّمْنا عليهم الحوايا
203
أيضاً أو ما اختلط بعظم فتكون الحوايا والمختلط مُحَرَّمَيْن، وسيأتي تفسيرهما، وإلى هذا ذهب جماعة قليلة، وتكون» أو «فيه كالتي في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ يُراد بها نفي ما يدخل عليه بطريق الانفراد كما تقول:» هؤلاء أهلٌ أن يُعْصَوا فاعصِ هذا أو هذا «فالمعنى: حَرَّم عليهم هذا وهذا. وقال الزمخشري:» أو بمنزلتها في قولهم: «جالس الحسن أو ابن سيرين».
قال الشيخ: «وقال النحويون» أو «في هذا المثال للإِباحة فيجوز له أن يجالسهما وأن يجالس أحدهما، والأحسن في الآية إذا قلنا إن» الحوايا «معطوف على» شحومهما «أن تكون» أو «/ فيه للتفصيل فصَّل بها ما حَرَّم عليهم من البقر والغنم».
قلت: هذه العبارة التي ذكرها الزمخشري سبقه إليها أبو إسحاق فإنه قال: «وقال قوم: حُرِّمت عليهم الثُروب وأُحِلَّ لهم ما حملت الظهور، وصارت الحوايا أو ما اختلط بعظم نسقاً على ما حرَّم لا على الاستثناء، والمعنى على هذا القول: حُرِّمَتْ عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير مُحَرَّم، وأدخلت» أو «على سبيل الإِباحة كما قال تعالى ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ [الإِنسان: ٢٤]، والمعنى: كل هؤلاء أهلٌ أن يُعْصَى فاعصِ هذا أو اعص هذا، و» أو «بليغةٌ في هذا المعنى لأنك إذا قلت:» لا تُطع زيداً وعمراً «فجائز أن تكون نَهَيْتَني عن طاعتهما معاً في حالة، فإذا أطعتُ زيداً على حِدَته لم أكن عاصياً، وإذا قلت: لا تُطع زيداً أو عمراً أو خالداً فالمعنى: أن كل هؤلاء أهل أن لا يُطاع فلا تُطِع واحداً منهم ولا تطع الجماعة، ومثلُه: جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي، فليس
204
المعنى: أني آمرك بمجالسةِ واحدٍ منهم، فإنْ جالَسْتَ واحداً منهم فأنت مصيب، وإن جالَسْتَ الجماعة فأنت مصيب. وأمَّا قوله» فالأحسن أن تكون «أو» فيه للتفصيل «فقد سَبَقه إلى ذلك أبو البقاء فإنه قال: و» أو «هنا بمعنى الواو لتفصيل مذاهبهم أو لاختلاف أماكنها، وقد ذكرناه في قوله ﴿كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١٣٥]. وقال ابن عطية ردَّاً على هذا القول أعني كون الحوايا نسقاً على شحومهما:» وعلى هذا تدخل الحوايا في التحريم، وهذا قولٌ لا يعضُده لا اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه «ولم يبيِّن وجهَ الدفع فيهما. الثالث: أن» الحوايا «في محل نصب عطفاً على المستثنى وهو ما حَمَلَتْ ظهورُهما كأنه قيل: إلا ما حملت الظهور أو إلا الحوايا أو إلا ما اختلط، نقله مكي، وأبو البقاء بدأ به ثم قال:» وقيل: هو معطوف على الشحوم «. ونقل الواحدي عن الفراء أنه قال:» يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير حذف المضاف على أن يريد أو شحوم الحوايا فيحذف الشحوم ويكتفي بالحوايا كما قال تعالى: ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢] يريد أهلها، وحكى ابن الأنباري عن أبي عبيد أنه قال: قلت للفراء: هو بمنزلة قول الشاعر:
٢١١٣ - لا يَسْمعُ المرءُ فيها ما يُؤَنِّسُهُ
بالليل إلا نئيمَ البُوْمِ والضُّوَعا
فقال لي: نعم، يذهب إلى أن «الضوع» عطف على «النئيم»
205
ولم يعطف على «البوم»، كما عُطِفت الحوايا على «ما» ولم تعطف على الظهور. قلت: فمقتضى ما حكاه ابن الأنباري أن تكون «الحوايا» عطفاً على «ما» المستثناة، وفي معنى ذلك قَلَقٌ بَيِّنٌ.
هذا ما يتعلق بإعرابها، وأما ما يتعلق بمدلولها فقيل: هي المباعر، وقيل: المصارين والأمعاء، وقيل: كل ما تحويه البطن فاجتمع واستدار، وقيل: هي الدوارة التي في بطن الشاة. واختُلِفَ في مفرد «الحوايا» فقيل: حاوية كضاربة وقيل: حَوِيَّة كطريفة وقيل: حاوياء كقاصِعاء. وقد جوَّز الفارسي أن يكون جمعاً لكل واحد من الثلاثة يعني أنه صالح لذلك. وقال ابن الأعرابي: هي الحَوِيَّة والحاوية ولم يذكر الحاوياء. وذكر ابن السكيت الثلاثة فقال «يقال: حاوية وحوايا مثل زاوية وزوايا، وراوية وروايا» ومنهم من يقول حَوِيَّة وحوايا مثل الحَوِيَّة التي توضع على ظهر البعير ويُركب فوقها، ومنهم مَنْ يقول لواحدتها «حاوياء» وأنشد قول جرير:
٢١١٤ - تَضْغُو الخَنانيصُ والغُول التي أكلَتْ
في حاوِيَاءِ رَدُومِ الليل مِجْعارِ
وأنشد أبو بكر ابن الأنباري:
٢١١٥ - كأنَّ نقيق الحَبّ في حاويائه
فحيحُ الأفاعي أو نقيقُ العقارب
فإن كان مفردها حاوية فوزنُها فواعل كضاربة وضوارب ونظيرها في
206
المعتل: زاوية وزوايا وراوية وروايا، والأصل حواوي كضوارب فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها تالي حرفي لين اكتنفا مدة مَفاعِل، فاسْتُثقِلت همزة مكسورة فقُلِبَتْ ياءً فاستثقلت الكسرة على الياء فجُعِلَتْ فتحة، فتحرك حرف العلة وهو الياء التي هي لام الكلمة بعد فتحةٍ فقُلِبَتْ ألفاً فصارت حوايا، وإن شئت قلت: قُلِبَتْ الواو همزة مفتوحة فتحرَّكَتْ الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، فصارت همزة مفتوحة بين ألفَيْن يشبهانها فقلبت الهمزة ياء، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ [البقرة: ٥٨] / واختلافُ أهل التصريف في ذلك، وكذلك إذا قلنا مفردها «حاوياء» كان وزنها فواعل أيضاً كقاصِعاء وقواصِع وراهِطاء ورواهِط، والأصل حواوي أيضاً فَفُعِل به ما فُعل فيما قبله، وإن قلنا إن مفردها حَوِيَّة فوزنها فعائل كطرائف، والأصل حوائي فقُلِبت الهمزةُ ياءً مفتوحة، وقُلبت الياء التي هي لام ألفاً فصار اللفظ «حوايا» أيضاً فاللفظُ متَّحد والعمل مختلف.
وقوله «أو ما اختلط بعظم» فيه ما تقدَّم في حوايا، ورأى الفراء فيه أنه منصوبٌ نَسَقاً على «ما» المستثناة في قوله «إلا ما حَمَلَتْ ظهورهما» والمراد به الأَلْيَة وقيل: هو كلُّ شحمٍ في الجَنْب والعين والأذن والقوائم.
قوله: ﴿ذلك جَزَيْنَاهُم﴾ فيه أوجهٌ أحدها: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: الأمر ذلك، قاله الحوفي ومكي وأبو البقاء. الثاني: أنه مبتدأٌ، والخبر ما بعده، والعائد محذوف، أي: ذلك جزيناهموه، قاله أبو البقاء وفيه
207
ضعف، من حيث إنه حَذَفَ العائد المنصوب وقد تقدَّم ما في ذلك في المائدة عند قوله ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُون﴾ [الآية: ٥٠]، وأيضاً فقدَّر العائد متصلاً، وينبغي أن لا يُقَدَّر إلا منفصلاً ولكنه يشكل حَذْفُه وقد تقدم تحقيقه أول البقرة.
وقال ابن عطية: «ذلك في موضع رفع» ولم يبيِّنْ على أي الوجهين المتقدمين وينبغي أن يُحْمَلَ على الأول لضعف الثاني. الثالث: أنه منصوب على المصدر، وهو ظاهر كلامِ الزمخشري فإنه قال: «ذلك الجزاء جزيناهم وهو تحريم الطيبات». إلا أن هذا قد ينخدش بما نقله ابن مالك وهو أن المصدر إذا أشير إليه وَجَبَ أن يُتْبع ب «ذلك» المصدرُ فيقال: «ضربت ذلك الضرب» و «قمت هذا القيام» ولو قلت: «ضربت زيداً ذلك» و «قمت هذا» لم يَجُزْ، ذكر ذلك في الرد على من أجاب عن قول المتنبي:
٢١١٦ - هذي بَرَزْتِ فَهِجْتِ رسيسا
ثم انصرفْتِ وما شَفَيْتِ نسيسا
فإنهم لَحَّنوا المتنبي من حيث إنه حذف حرف النداء من اسم الإِشارة إذ الأصل: يا هذي، فأجابوا عنه بأنَّا لا نُسَلِّم أن «هذي» منادى بل إشارةٌ إلى المصدر كأنه قال: بَرَزْتِ هذي البَرْزة. فردَّ ابن مالك هذا الجواب بأنه لا يَنْتَصِبُ اسم الإِشارة مشاراً به إلى المصدر إلا وهو متبوع بالمصدر. وإذا سُلِّم هذا فيكون ظاهر قول الزمخشري «إنه منصوب على المصدر» مردوداً بما رُدَّ به الجوابُ عن بيت أبي الطيب، إلا أنَّ رَدَّ ابن مالك ليس بصحيح لورود اسم الإِشارة مشاراً به إلى المصدر غيرَ متبوع به، قال الشاعر:
208
٢١١٧ - يا عمرُو إنك قد مَلِلْت صَحابتي
وصحابَتيك إخالُ ذاك قليلُ
قال النحويون: «ذاك» إشارة إلى مصدر «خال» المؤكِّد له، وقد أنشده هو على ذلك.
الرابع: أنه منصوب على أنه مفعولٌ ثانٍ قُدِّم على عامله لأنَّ «جزى» يتعدَّى لاثنين، والتقدير: جَزَيْناهم ذلك التحريم. وقال أبو البقاء ومكي: إنه في موضع نصب بجَزَيْناهم، ولم يُبَيِّنا على أي وجه انتصب: هل على المفعول الثاني أو المصدر؟
وقوله ﴿لَصَادِقُونَ﴾ معمولُه محذوفٌ أي: لصادقون في إتمام جزائهم في الآخرة إذ هو تعريضٌ بكذبهم حيث قالوا: نحن مُقْتدون في تحريم هذه الأشياءِ بإسرائيل والمعنى: لَصادقون في إخبارنا عنهم ذلك، ولا يقدَّر له معمول أي: من شأننا الصدق. والضمير في «كذَّبوك» الظاهر عَوْدُه على اليهود لأنهم أقرب مذكور. وقيل: يعود على المشركين لتقدُّم الكلام معهم في قوله ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْم﴾ [الأنعام: ١٤٣] و ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآء﴾ [الأنعام: ١٤٤].
وقوله تعالى: ﴿ذُو رَحْمَةٍ﴾ : جيء بهذه الجملة اسمية وبقوله ﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾ فعليةً تنبيهاً على مبالغة سَعَة الرحمة، لأن الاسمية أدلُّ على الثبوت والتوكيد من الفعلية. وقوله: ﴿عَنِ القوم المجرمين﴾ يحتمل أن يكون مِنْ وَضْع الظاهر موضعَ المضمر تنبيهاً على التسجيل عليهم بذلك، والأصل: ولا يُرَدُّ بأسُه عنكم. وقال أبو البقاء: «فإن كَذَّبوك» شرط، جوابه «
209
فقل ربكم ذو رحمة واسعة» والتقدير: فقل يصفح عنكم بتأخير العقوبة «وهذا تفسير معى لا إعراب.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ : عطف على الضمير المرفوع المتصل/ ولم يأتِ هنا بتأكيد بضمير رفع منفصل ولا فاصل بين المتعاطفين اكتفاءً بوجود «لا» الزائدة للتأكيد فاصلة بين حرف العطف والمعطوف، وهذا هو على قواعد البصريين. وأمَّا الكوفيون فلا يشترطون شيئاً من ذلك وقد تقدَّم إتقان هذه المسألة.
وفي هذه الآية لم يُؤَّكَّد الضمير وفي آية النحل أكَّد فقال تعالى: ﴿مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا﴾ [النحل: ٣٥]، وهناك أيضاً قال «من دونه» مرتين وهنا قالها مرة واحدة فقال الشيخ: «لأنَّ لفظَ العبادة يَصِحُّ أن ينسب إلى إفراد الله بها، وهذا ليس بمستنكرٍ، بل المستنكرُ عبادةُ غير الله أو شيءٍ مع الله فناسب هنا ذكر» من دونه «مع العبادة، وأمَّا لفظ» ما أشركنا «فالإِشراك يدلُّ على إثبات شريك فلا يتركَّب مع هذا الفعلِ لفظُ» من دونه «لو كان التركيب في غير القرآن» ما أشركنا مِنْ دونه «لم يصِحَّ المعنى، وأمَّا» من دونه «الثانية فالإِشراك يدلُّ على تحريم أشياء وتحليل أشياء فلم يَحْتَجْ إلى لفظ» من دونه «وأمَّا لفظ العبادة فلا يدلُّ على تحريم شيء كما يدل عليه لفظ» أشرك «فقيَّد بقوله» من دونه «، ولمَّا حَذَفَ» مِنْ دونِه «هنا ناسب أن يحذف» نحن «ليطَّرِدَ التركيب في التخفيف». قلت: وفي هذا الكلام نظرٌ لا يَخْفى. وقوله «من شيء» :«مِنْ» زائدة في المفعول أي: ما حَرَّمنا شيئاً، و «مِنْ دونه» متعلق بحرَّمْنا أي: ما حرَّمنا من غير إذنه لنا في ذلك. و «كذلك» نعت لمصدر محذوف
210
أي: مثل التكذيب المشار إليه في قوله «فإن كَذَّبوك». وقرئ «كَذَب» بالتخفيف.
وقوله: ﴿حتى ذَاقُواْ﴾ جاء به لامتداد التكذيب أو الكذب، وقوله «مِنْ علم» : يحتمل أن يكون مبتدأ و «عندكم» خبر مقدم، وأن يكون فاعلاً بالظرف لاعتماده على الاستفهام، و «مِنْ» زائدة على كلا التقديرين. وقرأ النخعي وابن وثاب «إن يتَّبعون» بياء الغيبة، قال ابن عطية: «وهذه قراءة شاذة يُضَعِّفها قولُه ﴿وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾ يعني أنه أتى بعدها بالخطاب فبَعُدَتْ الغيبةُ. وقد يُجاب عنه بأن ذلك من باب الالتفات.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ﴾ : بين «قل» وبين «فلله» شيء محذوف، فقدَّره الزمخشري شرطاً جوابه: فلله. قال: «فإن كان الأمرُ كما زعمتم مِنْ كونكم على مشيئة الله فلله الحجة». وقَدَّره غيره جملةً اسمية والتقدير: قل أنتم لا حُجَّةَ لكم على ما ادَّعَيْتُمْ فلله الحجة البالغة عليكم.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ﴾ :«هلمَّ» هنا اسم فعل بمعنى أحْضِروا، و «شهداءَكم» مفعول به، فإن اسم الفعل يعمل عَمَلَ مُسَمَّاه من تَعَدٍّ ولُزوم. واعلم أنَّ «هلمَّ» فيها لغتان لغةُ الحجازيين ولغة التميميين: فأمَّا لغة الحجاز فإنها فيها بصيغةٍ واحدةٍ سواء أُسْنِدَتْ لمفرد أم مثنى أم مجموع أم مؤنث نحو: هلمَّ يا زيد يا زيدان يا زيدون يا هند يا هندان يا هندات، وهي على هذه اللغة عند النحاة اسم فعل لعدم تغيُّرِها، والتزمت
211
العرب فَتْحَ الميم على هذه اللغة وهي حركة بناء بُنِيت على الفتح تخفيفاً، وأمَّا لغة تميم وقد نسبها الليث إلى بني سعد فتلحقها الضمائر كما تَلْحق سائر الأفعال فيُقال: هلمَّا هلمُّوا هلمِّي هَلْمُمْن. وقال الفراء: «يقال هَلُمِّين يا نسوة» وهي على هذه اللغة فعل صريح لا يتصرَّف. هذا قول الجمهور، وقد خالفَ بعضُهم في فعليَّتها على هذه اللغة وليس بشيء، والتزمت العرب أيضاً فيها على لغة تميم فَتْحَ الميم إذا كانت مسندةً لضمير الواحد المذكر، ولو يُجيزوا فيها ما أجازوا في ردَّ وشدَّ من الضم والكسر.
واختلف النحويون فيها: هل هي بسيطة أو مركبة؟ ثم القائلون بتركيبها اختلفوا فيما رُكِّبت منه: فجمهور البصريين على أنها مركبة من «ها» التي للتنبيه، ومن «المم» أمراً مِنْ لَمَّ يَلُمُّ، فلما ركِّبتا حُذِفَتْ ألف «ها» لكثرة الاستعمال، وسقطت همزة الوصل للاستغناء عنها بحركة الميم المنقولة إليها لأجل الإِدغام، وأدغمت الميم في الميم، وبُنيت على الفتح فقيل: بل نُقِلت حركة الميم للام فسقطت الهمزةُ للاستغناء عنها فلما جيء ب «ها» التي للتنبيه التقى ساكنان: ألف ها واللام مِنْ «لَمَّ» لأنها ساكنة تقديراً، ولم يَعْتَدُّوا بهذه الحركة لأنَّ حركة النقل عارضة، فحذفت ألفُ «ها» لالتقاء الساكنين تقديراً. وقيل: بل حذفت ألف «ها» لالتقاء الساكنين، وذلك أنه لَمَّا جيء بها مع الميم سَقَطَتْ همزة الوصل في الدرج فالتقى ساكنان: ألف «ها» ولام «المم» / فحُذِفت ألف «ها» فبقي هَلْمُم، فنُقِلَتْ حركة الميم إلى اللام وأدغمت. وذهب بعضهم إلى أنها مركبة من «ها» التي للتنبيه أيضاً ومن «لَمّ» أمراً مِنْ «لَمَّ الله شَعْثَه» أي جمعه، والمعنى عليه في هلم، لأنه بمعنى: اجمع نفسك إلينا، فحُذِفت ألف «ها» لكثرة الاستعمال، وهذا سهلٌ جداً، إذ ليس فيه إلا عملٌ واحد هو حَذْفُ
212
ألف «ها» وهو مذهب الخليل وسيبويه. وذهب الفراء إلى أنها مركبة من هل التي للزجر ومن أمّ أمراً من الأَمّ وهو القصد، وليس فيه إلا عملٌ واحد وهو نقل حركة الهمزة إلى لام هل. وقد رُدَّ كل واحد من هذه المذاهب بما يطول الكتاب بذكره من غير فائدة. و «هَلُمَّ» تكون متعدية بمعنى أَحْضِر، ولازمةً بمعنى أقبلْ، فمَنْ جَعَلَها متعدية أخذها مِن اللَّمِّ وهو الجمع، ومَنْ جَعَلَها قاصرةً أخذها من اللَّمَمِ وهو الدنو والقرب.
قوله تعالى: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ﴾ : في «ما» هذه ثلاثة أوجه أظهرها: أنها موصولةٌ بمعنى الذي والعائد محذوف أي: الذي حَرَّمه، والموصول في محل نصب مفعولاً به. والثاني: أن تكون مصدريةً أي: أتل تحريم ربكم، ونفس التحريم لا يُتْلَى وإنما هو مصدرٌ واقع موقع المفعول به أي: أتلُ مُحَرَّم ربكم الذي حرَّمه هو. والثالث: أنها استفهامية في محل نصب بحرَّم بعدها، وهي مُعَلِّقة لأتْل والتقدير: أتل أيَّ شيء حرَّم ربكم، وهذا ضعيف لأنه لا تُعَلَّقُ إلا أفعالُ القلوب وما حُمِل عليها. وأمَّا «عليكم» ففيه وجهان أحدهما: أنه متعلق بَحَرَّم، وهذا اختيار البصريين. والثاني: أنه متعلق بأَتْلُ وهو اختيار الكوفيين يعني أن المسألة من باب الإِعمال، وقد عرفت أن اختيار البصريين إعمالُ الثاني، واختيارَ الكوفيين إعمالُ الأول.
قوله: ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ﴾ فيه أوجه أحدها: أنَّ «أَنْ» تفسيرية لأنه تَقَدَّمَها ما هو بمعنى القول لا حروفه و «لا» هي ناهية و «تشركوا» مجزومٌ بها، وهذا وجهٌ ظاهر، وهو اختيار الفراء قال: «ويجوزُ أن يكون مجزوماً ب» لا «على
213
النهي كقولك: أمرتك أَنْ لا تذهب إلى زيد بالنصب والجزم. ثم قال: والجزم في هذه الآية أحبُّ إليَّ كقوله تعالى: ﴿أَوْفُواْ المكيال والميزان﴾ [هود: ٨٥] قلت: يعني فعطفُ هذه الجملة الأمرية يُقَوِّي أنَّ ما قبلها نهي ليتناسب طرفا الكلام، وهو اختيار الزمخشري أيضاً فإنه قال:» وأَنْ في «أن لا تشركوا» مفسرة و «لا» للنهي «ثم قال بعد كلام:» فإن قلت: إذا جعلت «أن» مفسرةً لفعل التلاوة وهو معلَّق بما حرَّم ربكم وَجَبَ أَنْ يكون ما بعده منهيَّاً عنه مُحَرَّماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرفُ النهي فما تصنع بالأوامر؟ قلت: لَمَّا وَرَدَت هذه الأوامرُ مع النواهي، وتقدَّمهن جميعاً فعلُ التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه عُلم أن التحريمَ راجعٌ إلى أضدادها وهي الإِساءة إلى الوالدين، وبَخْسُ الكيل والميزان، وتَرْكُ العدلِ في القول، ونكثُ العهد «.
قال الشيخ:» وكونُ هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم، وكونُ التحريم راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيدٌ جداً وإلغازٌ في التعامي ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك «. قلت: ما استبعده ليس ببعيدٍ وأين الإِلغاز والتعمِّي من هذا الكلامِ حتى يرميَه به. ثم قال الشيخ:» وأمَّا عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين، أحدهما: أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حَيِّز «أن» التفسيرية، بل هي معطوفة على قوله ﴿تَعَالَوْاْ أتْلُ مَا حَرَّمَ﴾، أمرهم أولاً بأمرٍ يترتب عليه ذِكْرُ مَناهٍ، ثم أمرهم ثانياً بأوامر وهذا معنى واضح.
والثاني: أن تكون الأوامر معطوفةً على المناهي وداخلةً تحت «أن» التفسيرية، ويصحُّ ذلك على تقدير محذوف تكون «أن» مفسرةً له وللمنطوق قبله الذي دلَّ على حَذْفِه، والتقدير: وما أمركم به فحذف
214
وما أمركم به لدلالة ما حَرَّم عليه، لأن معنى ما حَرَّم ربكم: ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى: تعالوا أتلُ ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون «أن» تفسيرية لفعل/ النهي الدالِّ عليه التحريمُ وفعل الأمر المحذوف، ألاى ترى أنه يجوز أن تقول: «أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً» إذ يجوز أن يُعْطف الأمر على النهي والنهي على الأمر كما قال:
٢١١٨ -................
يقولون لا تَهْلِكْ أسىً وتجمَّلِ
وهذا لا نعلم فيه خلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإِنشاء فإنَّ في جواز العطف فيها خلافاً «انتهى.
الثاني: أن تكون» أَنْ «ناصبةً للفعل بعدها، وهي وما في حَيِّزها في محل نصب بدلاً من» ما حرم «. الثالث: أنها الناصبة أيضاً وهي وما في حَيِّزها بدل من العائد المحذوف إذ التقدير: ما حَرَّمه، وهو في المعنى كالذي قبله. و» لا «على هذين الوجهين زائدة لئلا يفسد المعنى كزيادتها في قوله تعالى: ﴿أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] و ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ﴾ [الحديد: ٢٩]. قال الشيخ:» وهذا ضعيف لانحصار عموم المُحَرَّمِ في الإِشراك، إذ ما بعده من الأمر ليس داخلاً في المُحَرَّم ولا ما بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادِّعاء زيادة «لا» فيه لظهور أنَّ «لا» فيه للنهي «. ولمَّا ذكر مكي كونَها بدلاً مِنْ» ما حرم «لم ينبِّه على زيادة» لا «ولا بد منه. وقد منع الزمخشري أن تكون بدلاً مِنْ» ما حرم «فقال:» فإن قلت: هلا قلت
215
هي التي تنصب الفعل وجعلت «أن لا تشركوا» بدلاً من «ما حرم». قلت: وجب أن يكون أن لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها، وهي قوله «بالوالدين إحساناً» ؛ لأنَّ التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحساناً، وأَوْفوا وإذا قلتم فاعدِلوا، وبعهد الله أَوْفوا «. فإن قلت: فما تصنع بقوله ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه﴾ [الأنعام: ١٥٣] فيمَنْ قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفُه على» أَنْ لا تشركوا «إذا جعلت» أن «هي الناصبة حتى يكون المعنى: أتل عليكم نفي الإِشراك وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيماً؟ قلت: أجعل قولَه» وأن هذا صراطي مستقيماً «علةً للاتِّباع بتقدير اللام كقوله ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً﴾ [الجن: ١٨] بمعنى: ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، والدليل عليه القراءة بالكسر كأنه قيل: واتبعوا صراطي لأنه مستقيم، أو: واتبعوا صراطي أنه مستقيم «.
واعترض عليه الشيخ بعد السؤال الأول وجوابه وهو» فإن قلت: هَلاَّ قلت هي الناصبة «إلى: ﴿وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ﴾ فقال:» لا يتعيَّنْ أن تكونَ جميعُ الأوامر معطوفة على ما دخل عليه «لا» لأنَّا بيَّنَّا جواز عطف «وبالوالدين إحساناً» على «تعالَوا» وما بعده معطوف عليه، ولا يكون قوله «وبالوالدين إحساناً» معطوفاً على أن لا تشركوا «.
الرابع: أن تكون» أَنْ «الناصبة وما في حَيِّزها منصوبةً على الإِغراء ب» عليكم «، ويكون الكلامُ الأول قَدْ تمَّ عند قوله» ربكم «، ثم ابتدأ فقال: عليكم أن لا تشركوا، أي: الزموا نفي الإِشراك وعدمه، وهذا وإن كان ذكره
216
جماعة كما نقله ابن الأنباري ضعيف لتفكك التركيب عن ظاهره؛ ولأنه لا يتبادر إلى الذهن.
الخامس: أنها وما في حَيِّزها في محل نصب أو جر على حذف لام العلة والتقدير: أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا، وهذا منقول عن أبي إسحاق، إلا أن بعضهم استبعده من حيث إن ما بعده أمرٌ معطوف بالواو ومناهٍ معطوفة بالواو أيضاً فلا يناسب أن يكونَ تبييناً لِما حرَّم، أمَّا الأمرُ فمِنْ حيث المعنى، وأمَّا المناهي فمِنْ حيث العطف.
السادس: أن تكون هي وما بعدها في محل نصب بإضمارٍ فعلٍ تقديره: أوصيكم أن لا تشركوا؛ لأن قوله» وبالوالدين إحساناً «محمول على أوصيكم بالوالدين إحساناً، وهو مذهب أبي إسحاق أيضاً.
السابع: أن تكون» أَنْ «وما في حَيِّزها في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: المُحَرَّمُ أن لا تشركوا، أو المتلوُّ أن لا تشركوا، إلا أن التقدير بنحو المتلوّ أحسنُ؛ لأنه لا يُحْوج إلى زيادة» لا «، والتقدير بالمحرم أن لا تشركوا يحوج إلى زيادتها لئلا يفسد المعنى.
الثامن: أنها في محل رفع أيضاً على الابتداء، والخبر الجارُّ قبله والتقدير: عليكم عَدَمُ الإِشراك، ويكون الوقف على قوله» ربكم «كما تقدَّم في وجه الإِغراء، وهذا مذهب لأبي بكر بن الأنباري فإنه قال:» ويجوز أن يكونَ في موضع رفع ب «على» كما تقول: عليكم الصيام والحج «.
التاسع: أن يكون في موضع رفع بالفاعلية بالجارِّ قبلها، وهو ظاهر قول
217
ابن الأنباري المتقدم، والتقدير: استقرَّ/ عليكم عدم الإِشراك. وقد تحصَّلت في محل» أن لا تشركوا «على ثلاثة أوجه، الرفع والنصب والجر، فالجر من وجه واحد وهو أن يكون على حذف حرف الجر على مذهب الخليل والكسائي، والرفع من ثلاثة أوجه، والنصب من ستة أوجه، فمجموع ذلك عشرة أوجه تقدَّم تحريرها.
و «شيئاً» فيه وجهان أحدهما: أنه مفعول به. والثاني: أنه مصدر أي إشراكاً أي: شيئاً من الإِشراك.
وقوله ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ تقدم تحريره في البقرة.
قوله: ﴿مِّنْ إمْلاَقٍ﴾«مِنْ» سببية متعلقة بالفعل المنهيّ عنه أي: لا تقتلوا أولادَكم لأجل الإِملاق. والإِملاق: الفقر في قول ابن عباس. وقيل: الجوع بلغة لخم، نقله مؤرج. وقيل: الإِسراف، أَمْلق أي: أسرف في نفقته، قاله محمد بن نعيم الترمذي. وقيل الإِنفاق، أملق مالَه أي أنفقه قاله المنذر ابن سعيد. والإِملاق: الإِفساد أيضاً قاله شمر، قال: «وأَمْلَقَ يكون قاصراً ومتعدياً، أَمْلَقَ الرجل: إذا افتقر فهذا قاصر، وأملق ما عنده الدهر أي: أفسده» وأنشد النضر بن شميل على ذلك قول أوس بن حجر:
٢١١٩ - ولمَّا رأيت العُدْمَ قَيَّد نائلي
وأملق ما عندي خطوبٌ تَنَبَّلُ
أي: تَذْهب بالمال. تَنَبَّلَتْ بما عندي: أي ذهبت به.
218
وفي هذه الآية الكريمة ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾، فقدَّم المخاطبين، وفي الإِسراء قَدَّمَ ضمير الأولاد عليهم فقال ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾ [الإِسراء: ٣١] فقيل: للتفنُّنِ في البلاغة. وأحسن منه أن يقال: الظاهر من قوله «من إملاق» حصول الإِملاق للوالد لا توقُّعُه وخشيته فبُدِئ أولاً بالعِدَةِ برزق الآباء بشارةً لهم بزوال ما هم فيه من الإِملاق، وأما في آية سبحان فظاهرها أنهم مُوْسرون وإنما يخشَوْن حصول الفقر ولذلك قال: خَشْيَةَ إملاقٍ، وإنما يُخْشى الأمور المتوقعة فبُدئ فيها بضمان رزقهم فلا معنى لقتلكم إياهم، فهذه الآية تفيد النهيَ للآباء عن قتل الأولاد وإن كانوا متلبِّسين بالفقر، والأخرى عن قتلهم وإن كانوا مُوْسِرين، ولكن يخافون وقوع الفقر وإفادة معنى جديد أولى من ادِّعاء كون الآيتين بمعنى واحد للتأكيد.
قوله ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ في محل نصب بدلاً من الفواحش بدلَ اشتمال أي: لا تَقْرَبوا ظاهرها وباطنها كقولك: ضربْتُ زيداً ما ظهر منه وما بطن، ويجوز أن تكون «مَنْ» بدل البعض من الكل. و «منها» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من فاعل «ظهر». وحُذِفَ منها بعد قوله «بطن» لدلالة قوله «منها» في الأول عليه.
قوله ﴿إِلاَّ بالحق﴾ في محلِّ نصب على الحال من فاعل «تقتلوا» أي: لا تقتلوها إلا متلبِّسين بالحق، ويجوز أن يكون وصفاً لمصدر محذوف أي: إلا قَتْلاً متلبِّساً بالحق، وهو أن يكون القتل للقِصاص أو للرِدَّة أو للزنا بشرطه كما جاء مبيَّناً في السنَّة. وقوله: «ولا تَقْتلوا» هذا شبيهٌ بما هو مِنْ ذِكْر الخاص بعد العام اعتناءً بشأنه؛ لأن الفواحشَ يندرج فيها قَتْلُ النفسِ، فجرَّد منها هذا استفظاعاً له وتهويلاً، ولأنه قد استثنى منه في قوله «إلا بالحق» ولو لم يَذْكر
219
هذا الخاصَّ لم يَصِحَّ الاستثناء من عموم الفواحش، لو قيل في غير القرآن: «لا تَقْرَبوا الفواحشَ إلا بالحق» لم يكن شيئاً.
قوله ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ﴾ في محله قولان أحدهما: أنه مبتدأ، والخبر الجملة الفعلية بعده. والثاني: أنه في محل نصب بفعلٍ مقدَّر من معنى الفعل المتأخر عنه، وتكون المسألة من باب الاشتغال، والتقدير: ألزمكم أو كلَّفكم ذلك، ويكون «وصَّاكم به» مفسِّراً لهذا العامل المقدر كقوله تعالى: ﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الإِنسان: ٣١] وناسب قوله هنا «لعلكم تعقلون» لأنَّ العقل مَنَاطُ التكليف والوصية بهذه الأشياء المذكورة.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ : استثناء مفرغ أي: لا تَقْرَبُوه إلا بالخَصْلة الحسنى، فيجوز أن يكون حالاً، وأن يكون نعت مصدر، وأتى بصيغة التفضيل تنبيهاً على أنه يَتَحَرَّى في ذلك، ويَفْعل الأحسنَ ولا يَكْتفي بالحسن.
قوله: ﴿حتى يَبْلُغَ﴾ هذه غايةٌ من حيث المعنى فإن المعنى: احفظوا ما لَه حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ولو/ جعلناه غاية للفظ كان التقدير: لا تقربوه حتى يبلغَ فاقربوه، وليس ذلك مراداً.
والأَشَدُّ: اختلف النحويون فيه على خمسة أقوال فقيل: هو جمع لا واحد له، وهو قول الفراء فإنه قال: «الأشدُّ واحدها» شَدّ «في القياس ولم أسمع لها بواحد»، وقيل: هو مفردٌ لا جمعٌ، نقل ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة ذلك، وأنه بمنزلة الآنُك، ونَقَلَ الشيخ عنه أن هذا الوجه
220
مختاره في آخرين، ثم قال: «وليس بمختار لفقدان أَفْعُل في المفردات وضَْعاً» وقيل: هو جمع «شِدَّة»، وفِعْلة يجمع على أَفْعُل كنِعْمَة وأنعُم، قاله أبو الهيثم وقال: «وكأن الهاء في الشدة والنعمة لم تكن في الحرف إذ كانت زائدة، وكان الأصل نِعم وشِدّ فجمعا على أَفْعُل كما قالوا: رجل وأرجُل وقدح وأقْدُح وضِرس وأضرُس. وقيل: هو جمع شُد بضم الشين نقله ابن الأنباري عن بعض البصريين قال:» كقولك: هو وُدٌّ، وهم أَوَدّ. وقيل: هو جمع شَدّ بفتحها وهو محتمل. والمراد هنا ببلوغ الأشد بلوغ الحُلُمِ في قول الأكثر لأنه مَظِنَّة ذلك. وقيل: هو مبلغ الرجال من الحيلة والمعرفة. وقيل: هو أن يبلغ خمسة عشر إلى ثلاثين. وقيل: أن يبلغ ثلاثة وثلاثين. وقيل: أربعين. وقيل: ستين، وهذه لا تليق بهذه الآية، إنما تليق بقوله تعالى ﴿حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: ١٥]. والأَشَدُّ: مشتق من الشِدَّة وهي القوة والجَلادة، وأنشد الفراء:
٢١٢٠ - قد ساد وهو فتىً حتى إذا بلغت
أَشُدُّهُ وعلا في الأمر واجتمعا
وقيل: أصله من الارتفاع، مِنْ شَدَّ النهارُ إذا ارتفع وعلا، قال عنترة:
٢١٢١ - عهدي به شَدَّ النهار كأنما
خُضِبَ البَنانُ ورأسُه بالعِظْلِمِ
والكَيْل والميزان: هما الآلة التي يُكال بها ويوزن، وأصل الكيل المصدر ثم أطلق على الآلة. والميزان: مِفْعال من الوَزْن لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يُستصبح به ويُقاس، وأصل ميزان مِوْزان ففُعِلَ به ما فُعِلَ بميقات وقد تقدم في البقرة.
221
و «بالقسط» حال من فاعل «أَوْفوا» أي: أوفوهما مُقْسِطين أي: ملتبسين بالقسط، ويجوز أن يكون حالاً من المفعول أي: أوفوا الكيل والميزان متلبسين بالقسط أي تامَّين. وقال أبو البقاء: «والكَيْلُ هنا مصدر في معنى المكيل، وكذلك الميزان. ويجوز أن يكون فيه حذف مضاف، تقديره: مكيل الكيل وموزون الميزان»، ولا حاجة إلى ما ادَّعاه من وقوع المصدر موقع اسم المفعول ولا من تقدير المضاف لأن المعنى صحيح بدونهما، وأيضاً فميزان ليس مصدراً إلا أنه يعضُد قولَه ما قاله الواحدي فإنه قال: «والميزان أي: وزن الميزان لأن المراد إتمام الوزن لا إتمام الميزان، كما أنه قال» وأَوْفوا الكيل «ولم يقل المِكْيال فهو من باب حذف المضاف» انتهى.
والظاهرُ عدم الاحتياج إلى ذلك وكأنه لم يعرف أن الكيل يُطْلق على نفس المكيال حتى يقول «ولم يقل المكيال».
قوله ﴿لاَ نُكَلِّفُ﴾ معترض بين هذه الأوامر، وقوله «ولو كان» أي: ولو كان المقول له والمقول عليه ذا قرابة. وقد تقدَّم نظير هذا التركيب مراراً. وقوله «وبعهدِ الله» يجوز أن يكونَ من باب إضافة المصدر لفاعله أي: بما عاهدكم الله عليه، وأن يكون مضافاً لمفعوله أي: بما عاهدتم الله عليه كقوله ﴿صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٢٣] ﴿بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله﴾ [الفتح: ١٠] وأن تكون الإِضافة لمجرد البيان أضيف إلى الله من حيث إنه الآمرُ بحفظه، والمراد به العهد الواقع بين الآيتين.
وخُتِمَت هذه بالتذكُّر لأنَّ الأربعة قبلها خفيَّةٌ تحتاج إلى إعمال فكر ونظر حتى يقفَ متعاطيها على العدل فناسبها التذكُّر، وهذا بخلاف الخمسة الأشياء
222
فإنها ظاهرة بحسبِ تعقُّلها وتفهُّمها فلذلك خُتِمَت بالفعل. وتَذَكَّرون حيث وقع يقرؤه الأخوان وعاصم في رواية حفص بالتخفيف، والباقون بالتشديد والأصل: تتذكرون، فَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ إحدى الياءين، وهل هي تاء المضارعة أو تاء التفعُّل؟ خلاف مشهور. ومَنْ ثقَّل أدغم التاء/ في الذال.
قوله ﴿وَأَنَّ هذا﴾ قرأ الأخوان بكسر «إن» على الاستئناف و «فاتبعوه» جملة معطوفة على الجملة قبلها. وهذه الجملة الاتئنافية تفيد التعليل لقوله «فاتبعوه»، ولذلك استشهد بها الزمخشري على ذلك كما تقدَّم، فعلى هذا يكون الكلام في الفاء في «فاتَّبِعوه» كالكلام فيها في قراءة غيرهما وستأتي.
وقرأ ابن عامر «وأَنْ» بفتح الهمزة وتخفيف النون، والباقون بالفتح أيضاً والتشديد. فأمَّا قراءة الجماعة ففيها أربعة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أنها في محل نصب نَسَقاً على ما حرَّم أي: أتل ما حرم وأتل أنْ هذا صراطي، والمراد بالمتكلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنَّ صراطه صراط لله عز وجل، وهذا قول الفراء قال: «بفتح» أن «مع وقوع» أتلُ «عليها يعني: أتل عليكم أنَّ هذا صراطي مستقيماً. والثاني: أنها منصوبة المحل أيضاً نسقاً على» أن لا تشركوا «إذا قلنا بأنَّ» أَنْ «المصدرية وأنها وما بعدها بدل من» ما حَرَّم «قاله الحوفي.
الثالث: أنها على إسقاط لام العلة أي: ولأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعوه كقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ﴾ [الجن: ١٤] قال أبو علي: «من فتح» أنَّ «فقياس قول سيبويه أنَّه حَمَلها على» فاتَّبعوه «والتقدير: ولأن هذا صراطي
223
مستقيماً فاتَّبعوه كقوله: ﴿وَأنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المؤمنون: ٥٢]. قال سيبويه:» ولأن هذه أمتكم «وقال في قوله تعالى:» وأن المساجد لله «: ولأن المساجد». قال بعضهم: وقد صرَّح بهذه اللام في نظير هذا التركيب كقوله تعالى: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ... فَلْيَعْبُدُواْ﴾ [قريش: ١]، والفاء على هذا كهي في قولك: زيداً فاضرب، وبزيد فامرر. وقد تقدم تقريره في البقرة. قال الفارسي: «قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاء زائدة كهي في» زيد فقائم «قلت: سيبويه لا يجوِّز زيادتها في مثل هذا الخبر، وإنما أراد أبو علي بنظيرها في مجرد الزيادة وإن لم يَقُلْ به، بل قال به غيرُه. الرابع: أنها في محل جر نسقاً على الضمير المجرور في» به «أي: ذلكم وصَّاكم به وبأن هذا، وهو قول الفراء أيضاً. وردَّه أبو البقاء بوجهين أحدهما: العطف على الضمير المجرور من غير إعادةِ الجار. والثاني: أنه يصير المعنى: وَصَّاكم باستقامة الصراط وهذا فاسدٌ». قلت: والوجهان مردودان، أمَّا الأول فليس هذا من باب العطف على المضمر من غير إعادة الجار لأن الجارَّ هنا في قوة المنطوق به، وإنما حُذِفَ لأنه يَطَّرد حَذْفُه مع أنَّ وأنْ لطولهما بالصلة، ولذلك كان مذهب الجمهور أنها في محل جر بعد حذفه لأنه كالموجود، ويدل على ما قلته ما قال الحوفي قال: «حُذِفت الباء لطول الصلة وهي مرادة، ولا يكون في هذا عَطْفُ مُظْهَرٍ على مضمر لإِرادتها». وأمَّا الثاني فالمعنى صحيح غير فاسد؛ لأن معنى توصيتنا باستقامة الصراط أن لا نتعاطى ما يُخْرِجنا عن الصراط، فوصيتنا باستقامته مبالغة في اتباعه.
224
وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فقالوا: «أنْ» فيها مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن أي: «وأنَّه» كقوله تعالى: ﴿أَنِ الحمد للَّهِ﴾ [يونس: ١٠] وقوله:
٢١٢٢ -...............
أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَْحفَى ويَنْتَعِلُ
وحينئذٍ ففيها أربعةُ الأوجه المذكورة في المشددة. و «مستقيماً» حال، العامل: إمَّا «ها» التنبيه، وإمَّا اسم الإِشارة، وفي مصحف عبد الله «وهذا صراطي» بدون «أنَّ» وهي قراءة الأعمش، وبها تتأيَّد قراءةُ الكسر المؤذنة بالاستئناف.
قوله: ﴿فَتَفَرَّقَ﴾ منصوب بإضمار «أن» بعد الفاء في جواب النهي والجمهور على «فتفرق» بتاء خفيفة، والبزي بتشديدها، فَمَنْ خَفَّف حذف إحدى التاءين، ومَنْ شدَّد أدغم، وتقدم هذا آنفاً في ﴿تَتَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ٨٠]. و «بكم» يجوز أن تكون مفعولاً به في المعنى أي: فيفرقكم، ويجوز أن تكون حالاً أي: وأنتم معها كقوله:
٢١٢٣ -..................
تَدُوس بنا الجماجمَ والتَّرِيبا
وختم هذه بالتقوى وهي اتقاء النار لمناسبة الأمر باتباع الصراط، فإنَّ مَنْ اتَّبعه وقى نفسه من النار.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا﴾ : أصل «ثم» المهلة في الزمان، وقد تأتي للمهلة في الأخبار. وقال الزجاج: «هو معطوف على» أتل «تقديره: أتل
225
ما حَرَّم ثم أتل آتينا، وقيل: هو عطف على» قل «على / إضمار قل أي: ثم قل آتينا. وقيل: تقديره ثم أخبركم آتينا. وقال الزمخشري:» عطف على وصَّاكم به «. قال:» فإن قلت: كيف صح عطفه عليه ب ثم، والإِيتاء قبل التوصية به بدهر طويل؟ قلت: هذه التوصية قديمة لم يزل تتواصاها كل أمة على لسان نبيها فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً، ثم أعظم من ذلك أنَّا آتينا موسى الكتاب. وقيل: هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ﴾ [الأنعام: ٨٤]. وقال ابن عطية: «مُهْلَتُها في ترتيب القول الذي أمر به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه قال: ثم ممَّا وصَّيناه أنَّا آتينا موسى الكتاب ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدِّم بالزمان على محمد عليه السلام». وقال ابن القشيري: «في الكلام محذوف تقديره: ثم كنَّا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام». وقال الشيخ: «والذي ينبغي أن يُسْتعمل للعطف كالواو من غير اعتبار مهلة، وبذلك قال بعض النحويين». قلت: وهذه استراحة، وأيضاً لا يلزمُ من انتفاء المهلة انتفاء الترتيب فكان ينبغي أن يقول من غير اعتبار ترتيب ولا مُهْلَةٍ على أن الفرض في هذه الآية عدمُ الترتيب في الزمان.
قوله: ﴿تَمَاماً﴾ يجوز فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله أي: لأجل تمام نعمتنا. الثاني: أنه حال من الكتاب أي: حال كونه تماماً.
226
الثالث: أنه نصب على المصدر لأنه بمعنى: آتيناه إيتاء تمامٍ لا نقصان. الرابع: أنه حال من الفاعل أي متمّين. الخامس: أنه مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه، ويكون مصدراً على حذف الزوائد والتقدير: أتممناه إتماماً.
و ﴿عَلَى الذي﴾ متعلق ب «تماماً» أو بمحذوف على أنه صفة، هذا إذا لم يُجْعَلْ مصدراً مؤكِّداً فإنْ جُعِلَ تَعَيَّن جَعْلُه صفة.
و ﴿أَحْسَنَ﴾ فيه وجهان أظهرهما: أنه فعلٌ ماضٍ واقع صلةً للموصول، وفاعله مضمر يعود على موسى أي: تماماً على الذي أحسن، فيكون الذي عبارة عن موسى. وقيل: كل مَنْ أحسن. وقيل: «الذي» عبارة عن ما عمله موسى وأتقنه أي: تماماً على الذي أحسنه موسى. والثاني: أن «أحسن» اسم على وزن أفعل كأفضل وأكرم، واستغنى بوصف الموصول عن صلته، وذلك أن الموصول متى وُصِف بمعرفة نحو: «مررت بالذي أخيك»، أو بما يقارب المعرفة نحو: «مررت بالذي خيرٍ منك وبالذي أحسن منك» جاز ذلك واستغنى به عن صلته، وهو مذهب الفراء وأنشد:
٢١٢٤ - حتى إذا كانا هما اللَّذيْنِ
مثلَ الجَدِيْلَيْنِ المُحَمْلَجَيْنِ
بنصب مثل على أنه صلة ل «اللذين» المنصوب على خبر كان. ويجوز أن تكون «الذي» مصدرية، وأحسن فعل ماض صلتها، والتقدير: تماماً على إحسانه أي إحسان الله إليه وإحسان موسى إليهم، وهو رأي يونس والفراء كقوله:
٢١٢٥ - فَثَبَّتَ اللهُ ما آتاك مِنْ حَسَنٍ
تثبيتَ عيسى ونصراً كالذي نُصِرُوا
227
وقد تقدَّم لك تحقيق هذا.
وفتحُ نون «أحسن» قراءة العامة. وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق برفعها، وفيها وجهان، أظهرهما: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: على الذي هو أحسن، فحذف العائد، وإن لم تَطُل الصلة فهي شاذة من جهة ذلك، وقد تقدَّم ذلك بدلائله عند قوله: ﴿مَّا بَعُوضَةً﴾ [البقرة: ٢٦] فيمن رفع «بعوضة». والثاني: أن يكون «الذي» واقعاً موقع الذين، وأصل «أَحْسن» أَحْسَنوا بواو الضمير حُذِفَت الواو اجتزاءً بحركة ما قبلها، قاله التبريزي وأنشد:
٢١٢٦ - فلو أنَّ الأَطِبَّا كانُ حولي
وكان مع الأطباء الأُساةُ
وقول الآخر:
٢١٢٧ - إذا ما شاءُ ضرُّوا مَنْ أرادوا
ولا يألوهُمُ أحدٌ ضِرارا
وقول الآخر:
٢١٢٨ - شَبُّوا على المجد وشابوا واكتهلْ... يريد: اكتهلوا فحذف الواو وسكن الحرف قبلها، وقد تقدَّم أبياتُ أُخَرُ كهذه في تضاعيف هذا التصنيف، ولكن جماهير النحاة تخصُّ هذا بضرورة الشعر/.
وقوله: «وتفصيلاً» وما عُطِف عليه منصوب على ما ذُكِر في «تماما».
قوله تعالى: ﴿وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ : يجوز أن يكون كتاب وأنزلناه ومبارك إخباراً عن اسم الإِشارة عند مَنْ يُجيز تعدُّدَ الخبر مطلقاً، أو بالتأويل عند مَنْ لم يُجَوِّز ذلك. ويجوز أن يكون أنزلناه ومبارك وَصْفَيْن لكتاب عند مَنْ يجيز تقديمَ الوصف غير الصريح على الوصف الصريح. وقد تقدَّم تحقيق ذلك في السورة قبلها في قوله ﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ بالمائدة: ٥٤]، قال أبو البقاء: «ولو كان قُرِئ» مباركاً «بالنصب على الحال لجاز» ولا حاجة إلى مثل هذا وقُدِّم الوصف بالإِنزال لأن الكلام مع منكري أن الله ينزِّل على البشر كتاباً ويرسله رسولاً، وأمَّا وصفُه بالبركة فهو أمر متراخٍ عنهم، وجيء بصفة الإِنزال بجملةٍ فعلية أُسند الفعل فيها إلى ضمير المعظِّمِ نفسه مبالغة في ذلك بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً.
قوله تعالى: ﴿أَن تقولوا﴾ : فيه وجهان أحدهما: أنه مفعول من أجله. قال الشيخ: «والعاملُ فيه» أنزلناه «مقدَّراً مدلولاً عليه بنفس» أنزلناه «الملفوظ به تقديره: أنزلناه أن تقولوا. قال:» ولا جائزٌ أن يعمل فيه «أنزلناه» الملفوظ به لئلا يلزمَ الفصلُ بين العامل ومعموله بأجنبي، وذلك أن «مبارك» : إمَّا صفة وإمَّا خبر وهو أجنبي بكل من التقديرين، وهذا الذي مَنَعَه هو ظاهر قول الكسائي والفراء. والثاني: أنها مفعول به، والعامل فيه «واتقوا» أي: واتقوا قولكم كيت وكيت، وقوله «لعلكم ترحمون» معترضٌ جارٍ مجرى التعليل، وعلى كونه مفعولاً من أجله يكون تقديرُه عند البصريين على حذف مضاف تقديره: كراهةَ أن تقولوا، وعند الكوفيين يكون تقديره: أن لا تقولوا
229
كقوله: ﴿رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥] أي: أن لا تميد بكم وهذا مطَّردٌ عندهم في هذا النحوِ، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرة. وقرأ الجمهور «تقولوا» بتاء الخطاب وقرأه ابن محيصن «يقولوا» بياء الغيبة.
قوله: ﴿وَإِنْ كُنَّا﴾«إنْ» مخففةٌ من الثقيلة عند البصريين، وهي هنا مهملةٌ ولذلك وَلِيَتْها الجملة الفعلية، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وأن الكوفيين يجعلونها بمعنى «ما» النافية، واللام بمعنى إلا، والتقدير: ما كنا عن دراستهم إلا غافلين. وقال الزجاج بمثل ذلك، فنحا نحو الكوفيين. وقال قطرب: «إنْ» بمعنى قد واللام زائدة. وقال الزمخشري بعد أَنْ قَرَّر مذهب البصريين كما قدمته: «والأصل: إنَّه كنا عن عبادتهم» فقدَّر لها اسماً محذوفاً هو ضمير الشأن، كما يُقَدِّر النحويون ذلك في «أَنْ» بالفتح إذا خُفِّفَتْ، وهذا مخالف لنصوصهم وذلك أنهم نصُّوا على أنَّ «إنْ» بالكسر إذا خُفِّفت ولِيَتْها الجملة الفعلية الناسخة فلا عَمل لها لا في ظاهر ولا مضمر. و «عن دراستهم» متعلق بخبر «كنا» وهو «غافلين»، وفيه دلالة على بطلان مذهب الكوفيين في زعمهم أن اللام بمعنى إلا، ولا يجوز أن يعمل ما بعد «إلا» فيما قبلها فكذلك ما هو بمعناها.
قال الشيخ: «ولهم أن يجعلوا» عنها «متعلقاً بمحذوف». وتقدَّم أيضاً خلاف أبي علي في أن هذه اللام ليست لامَ الابتداء بل لامٌ أخرى، «ويدل أيضاً على أن اللام لام ابتداء لزمت للفرق فجاز أن يتقدَّم معمولُها
230
عليها لمَّا وقعت في غير ما هو لها أصل، كما جاز ذلك في:» إنَّ زيداً طعامَك لآكل «حيث وقعت في غير ما هو لها أصلٌ، ولم يَجُز ذلك فيها إذا وقعت فيما هو لها أصل وهو دخولها على المبتدأ». وقال أبو البقاء: «واللام في» لغافلين «عوض أو فارقة بين إنْ وما» قلت: قوله «عوض» عبارة غريبة، وأكثر ما يقال إنها عوضٌ عن التشديد الذي ذهب من إنَّ، وليس بشيء.
وقوله تعالى: ﴿فَقَدْ جَآءَكُمْ﴾ : جواب شرط مقدر فقدَّره الزمخشري: إن صدقتم فيما كنتم تعدُّون من أنفسكم فقد جاءكم وهو من أحسن الحذوف «وقدَّره غيره: إن كنتم كما تزعمون أنكم إذا أنزل عليكم كتاب تكونون أهدى من اليهود والنصارى فقد جاءكم. ولم يؤنث الفعل؛ لأن التأنيث مجازي وللفصل بالمفعول، و» من ربكم «يجوز أن يتعلق بجاءكم، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل» بيِّنة «. وقوله: وهدىً ورحمةً محذوف بعدهما: من ربكم.
وقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ الظاهر أنها جملة مستقلة. وقال بعضهم: هي جواب شرط مقدر تقديره: فإن كذَّبتم فلا أحدَ أظلمُ منكم.
والجمهور على» كذَّب «مشدداً، وبآيات الله متعلق به. وقرأ يحيى ابن وثاب وابن أبي عبلة» كَذَبَ «بالتخفيف، وبآيات الله يجوز أن يكون مفعولاً، وأن يكون حالاً/ أي: كذَّب ومعه آيات الله. وصَدَفَ مفعوله محذوف أي: وصدف عنها غيرَه. وقد تقدم تفسير ذلك.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ : تقدم أنه على حذف
231
مضاف. وقرأ الأخوان: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِيهُمُ الملائكة﴾ بياء منقوطة من تحت لأن التأنيث مجازي وهو نظير ﴿فناداه الملائكة﴾ [آل عمران: ٣٩]. وأبو العالية وابن سيرين: «يوم تأتي بعض» بالتأنيث كقوله ﴿تَلْتَقِطْه بعضُ السيَّارة﴾ [يوسف: ١٠].
قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِي﴾ الجمهور على نصب «اليومَ»، وناصبه ما بعد «لا»، وهذا على أحد الأقوال الثلاثة في «لا» وهي أنها يتقدم معمول ما بعدها عليها مطلقاً، ولا يتقدَّم مطلقاً، ويُفَصَّل في الثالث: بين أن يكون جواب قسم فيمتنع، أو لا فيجوز. وقرأ زهير الفرقبي «يومُ» بالرفع وهو مبتدأ، وخبره الجملة بعده، والعائد منها إليه محذوف أي: لا تنفع فيه.
وقرأ الجمهور «ينفع» بالياء من تحت. وقرأ ابن سيرين: تنفع بالتاء من فوق. قال أبو حاتم: «ذكروا أنه غلط». قلت: وذلك لأن الفعل مسند لمذكر، وجوابه أنه لما اكتسب بالإِضافة التأنيث أجرى عليه حكمه كقوله:
٢١٢٩ - وتَشْرَق بالقول الذي قد أَذَعْتَهُ _
كما شَرِقَتْ صدرُ القانةِ من الدم
وقد تقدَّم لك تحقيق هذا في أول السورة، وأنشد سيبويه على ذلك:
٢١٣٠ - مَشَيْنَ كما اهتزَّتْ رماحٌ تسفَّهَتْ
أعاليهَا مَرُّ الرياحِ النَّواسمِ
232
وقيل: لأن الإِيمان بمعنى العقيدة فهو كقولهم: «أتته كتابي فاحتقرها» أي: صحيفتي ورسالتي. وقال النحاس: «في هذا شيء دقيق ذكره سيبويه: وذلك أن الإِيمان والنفس كل منهما مشتمل على الآخر فأنَّث الإِيمان إذ هو من النفس وبها». وأنشد سيبويه «مَشَيْن كما اهتزَّت» البيت. وقال الزمخشري في هذه القراءة «لكون الإِيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولهم:» ذهبت بعض أصابعه «. قال الشيخ:» وهو غلطٌ؛ لأن الإِيمان ليس بعضاً للنفس «قلت: قد تقدَّم آنفاً ما يَشْهد لصحة هذه العبارة من كلام النحاس في قوله عن سيبويه:» وذلك أنَّ الإِيمان والنفس كلٌّ منهما مشتملٌ على الآخر، فَأَنَّثَ الإِيمانَ إذ هو من النفس وبها «فلا فرقَ بين هاتين العبارتين، أي لا فرق بين أن يقولَ هو منها وبها أو هو بعضها، والمرادُ في العبارتين المجازُ.
قوله:» لم تكنْ آمَنَتْ «في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: أنها في محل نصب لأنها نعتٌ لنفساً، وفَصَل بالفاعل وهو» إيمانها «بين الصفة وموصوفها لأنه ليس بأجنبي، إذ قد اشترك الموصوف الذي هو المفعول والفاعل في العامل، فعلى هذا يجوز:» ضرب هنداً غلامُها القرشية «وقوله» أو كسبت «عطف على» لم تكن آمنت «.
وفي هذه الآية بحوثٌ حسنة تتعلق بعلم العربية، وعليها تُبْنى مسائل من أصول الدين، وذلك أن المعتزلي يقول: مجردُ الإِيمان الصحيح لا يكفي بل لا بد من انضمام عَمَلٍ يقترن به ويصدِّقه، واستدل بظاهر هذه الآية، وذلك
233
كما قال الزمخشري «لم تكنْ آمَنَتْ من قبلُ» صفة لقوله «نفساً» وقوله «أوكسبت في إيمانها خيراً» عُطِفت على «آمنت» والمعنى: أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي آياتٌ مُلْجئةٌ مضطرة ذهب أوانُ التكليف عندها فلم ينفع الإِيمان حينئذ نفساً غيرَ مقدِّمَةٍ إيمانَها قبل ظهور الآيات أو مقدِّمةً إيمانَها غير كاسبة خيراً في إيمانها، فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإِيمان وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً ليعلم أن قوله ﴿الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ جَمْعٌ بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى حتى يفوزَ صاحبُهما ويَسْعَدَ، وإلا فالشِّقوة والهلاك «. وقد أجاب الناس عن هذا الظاهر بأن المعنى بالآية الكريمة: أنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفساً كافرة إيمانُها الذي أوقعته إذ ذاك، ولا ينفع نفساً سَبْقُ إيمانها وما كسبت فيه خيراً، فقد عَلَّق نفع نفي الإِيمان بأحد وصفين:» إمَّا نفي سبق الإِيمان فقط وإمَّا سبقه مع نفي كسب الخير، ومفهومه أنه ينفع الإِيمان السابق وحده أو السابق ومعه الخير، ومفهوم الصفة قوي فيُسْتدل بالآية لمذهب أهل السنة فقد قَلَبوا دليلهم دليلاً عليهم.
وقد أجاب القاضي ناصر الدين بن المنيّر عن قول الزمخشري فقال: «قال أحمد: هو يرومُ الاستدلال على أن الكافر والعاصي في الخلود سواء حيث سوّى في الآية بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات، ولا يتمُّ ذلك، فإن هذا الكلام في البلاغة يُلَقَّبُ باللفِّ وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعدُ ولا نفساً لم تكسب خيراً قبل ما تكسبه من الخير بعدُ، فلَّف الكلامَيْن فجعلهما
234
كلاماً واحداً إيجازاً وبلاغةً، ويظهر بذلك أنها لا تخالف مذهب الحق فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتسابُ الخير وإن نفع الإِيمان المتقدم من الخلود، فهي بالردِّ على مذهبه أَوْلى من أن تدلَّ له» /.
الثاني: أن هذه الجملةَ في محل نصب على الحال من الضمير المجرور، قاله أبو البقاء يعني من «ها» في إيمانها. الثالث: أن تكون مستأنفة. وبهذا بدأ أبو البقاء وثَّنى بالحال، وجعل الوصفَ ضعيفاً كأنه استشعر ما ذكره الزمخشري ففرَّ مِنْ جَعْلها نعتاً، والشيخ جعل الحال بعيداً والاستئناف أبعد منه.
وقرأ الأخوان: ﴿فَارَقُوا﴾ : من المفارقة وفيها وجهان أحدهما: أن فاعَلَ بمعنى فَعَّل نحو: ضاعَفْتُ الحساب وضعَّفْتُه. وقيل: هي من المفارقة، وهي التركُ والتخلِيَةُ ومَنْ فرَّق دينه فآمن ببعض وكفر ببعض فقد فارق الدين القيم. وقرأ الباقون فرَّقوا بالتشديد. وقرأ الأعمش وأبو صالح وإبراهيم فَرَقوا مخفف الراء. قال أبو البقاء: «وهو بمعنى المشدد، ويجوز أن يكون بمعنى فَصَلُوه عن الدين الحق» وقد تقدم معنى الشيع.
وقوله: ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ﴾ في محل رفع خبراً لإِنَّ، و «منهم» هو خبر «ليس» إذ به تتمُّ الفائدة كقول النابغة:
235
٢١٣١ - إذا حاولْتَ في أسد فُجورا
فإني لستُ منك ولست مني
ونظيره في الإِثبات: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [إبراهيم: ٣٦]، وعلى هذا فيكون «في شيء» متعلقاً بالاستقرار الذي تعلق به منهم أي: لست مستقراً منهم في شيء أي: مِنْ تفريقهم. ويجوز أن يكون «في شيء» الخبر و «منهم» حال مقدمة عليه، وذلك على حذف مضاف أي: لست في شيء كائن من تفريقهم، فلمَّا قُدِّمت الصفة نصبت حالاً.
قوله تعالى: ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ : إنما ذكَّر العددَ والمعدودُ مذكَّر لأوجه منها: أنَّ الإِضافة لها تأثيرٌ كما تقدَّم غيرَ مرة فاكتسب المذكر من المؤنث التأنيث فأُعطي حكمَ المؤنث من سقوط التاء من عدده؛ ولذلك يؤنث فعلُه حالةَ إضافتهِ لمؤنث نحو: ﴿تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة﴾ [يوسف: ١٠]، [وقوله] :
٢١٣٢ -................
كما شَرِقت صدرُ القَنَاةِ.....
[وقوله] :
٢١٣٣ -...................
تسفَّهت أعاليَها مرُّ الرياح...
إلى غير ذلك مما تقدم تحقيقه. ومنها: أن هذا المذكر عبارة عن مؤنث، فروعي المراد دون اللفظ وعليه قوله:
٢١٣٤ - وإنَّ كلاباً هذه عشرُ أَبْطُنٍ
وأنت بريء من قبائلها العشرِ
236
لم يُلْحِق التاء في عدد أبطن وهي مذكرة لأنها عبارة عن مؤنث وهي القبائل فكأنه قيل: وإن كلاباً هذه عشر قبائل، ومثله قول عمر ابن أبي ربيعة:
٢١٣٥ - وكان مِجَنِّي دونَ مَنْ كنت أتَّقي
ثلاثُ شُخوصٍ كاعبانِ ومُعْصِرُ
لم يُلحِق التاء في عدد «شخوص» وهي مذكرة لَمَّا كانت عبارة عن النسوة، وهذا أحسنُ مما قبله للتصريح بالمؤنث في قوله: كاعبان ومعصر، وهذا كما أنه إذا أريد بلفظ مؤنث معنى مذكر فإنهم ينظرون إلى المراد دون اللفظ فيُلْحقون التاء في عدد المؤنث، ومنه قول الشاعر:
٢١٣٦ - ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذُوْدٍ
لقد جار الزمانُ على عِيالي
فألحق التاءَ في عدد «أنفس» وهي مؤنثة لأنها يراد بها ذكور، ومثله: ﴿اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً﴾ [الأعراف: ١٦٠] في أحد الوجهين وسيأتي إن شاء الله في موضعه.
ومنها: أنه راعى الموصوف المحذوف والتقدير: فله عشرُ حسناتٍ أمثالها، ثم حذف الموصوف وأقام صفته مُقامَه تاركاً العدد على حاله، ومثله «مررت بثلاثة نسابات» ألحقت التاء في عدد المؤنث مراعاةً للموصوف المحذوف، إذ الأصل: بثلاثة رجال نسابات. وقال أبو علي: «اجتمع ههنا أمران كلُّ منهما يوجب التأنيث، فلمَّا اجتمعا قوي التأنيث، أحدهما: أن الأمثالَ في المعنى» حسنات «فجاز التأنيثُ كقوله:
٢١٣٧ -..................
ثلاثُ شخوصٍ كاعبان ومعصر
237
أراد بالشخوص النساء، الآخر: أن المضاف إلى المؤنث قد يؤنَّث وإن كان مذكراً كقول من قال:» قُطِعَتْ بعض أصابعه « ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة﴾ [يوسف: ١٠].
وقرأ يعقوب والحسن وسعيد بن جبير والأعمش وعيسى بن عمر بالتنوين» أمثالُها «بالرفع صفة لعشر أي: فله عشر حسنات أمثال تلك الحسنة، وهذه القراءة سالمةٌ من تلك التآويل المذكورة في القراءة المشهورة.
قوله تعالى: ﴿دِيناً﴾ : نصبه من أوجه، أحدها: أنه مصدر على المعنى أي: هداني هداية دين قيم، أو على إضمار «عَرَّفني ديناً» أو الزموا ديناً. وقال أبو البقاء: «إنه مفعول ثان لهداني، وهو غلط؛ لأن المفعول الثاني هنا هو المجرور بإلى فاكتفى به. وقال مكي: إنه منصوب على البدل من محل» إلى صراط «. وقيل: بهداني مقدرةً لدلالة» هداني «الأول عليها، وهو كالذي قبله في المعنى.
وقرأ الكوفيون وابن عامر:» قِيَماً «بكسر القاف وفتح الياء خفيفة والباقون بفتحها وكسر الياء شديدة، وتقدَّم توجيه إحدى القراءتين في/ النساء والمائدة. و» مِلَّة «بدل من» ديناً «أو منصوب بإضمار أعني. و» حنيفاً «قد ذكر في البقرة.
وقرأ نافع ومَحْيايْ بسكون ياء المتكلم وفيها الجمع بين ساكنين.
238
قال الفارسي كقوله» التقت حَلْقتا البطان «» ولفلان ثلثا المال «يعنون الألفين. وقد طعن بعض الناس على هذه القراءة بما ذكرت من الجمع بين الساكنين، وتعجَّبْتُ من كون هذا القارئ يحرِّك ياء» مماتي «ويُسَكِّن ياء» مَحْياي «. وقد نقل بعضهم عن نافع الرجوع عن ذلك. قال أبو شامة:» فينبغي أن لا يَحِلَّ نَقْلُ تسكين ياء «محياي» عنه «. وقرأ نافع في رواية» محيايِ «بكسر الياء وهي تُشْبه قراءة حمزة في ﴿بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: ٢٢] وستأتي إن شاء الله تعالى. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى الجحدري: ومَحْيَيَّ» بإبدال الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم، وهي لغة هذيل، وقد أنشدْتُ عليها قول أبي ذؤيب:
٢١٣٨ - سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا لهواهُمُ
فَتُخُرِّمُوا ولكلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
في سورة البقرة. ومن هنا إلى آخر السورة إعرابُه ظاهر لِما تكرر من النظائر. وأكَّد قوله «لغفور» باللام دلالةً على سَعة رحمته، ولم يؤكد سرعة العقاب بذلك هنا وإن كان قد أكد ذلك في سورة الأعراف، لأن هناك المقامَ مقامُ تخويف وتهديد وبعد ذكر قصة المعتدين في السبت وغيره فناسب تأكيدَ العقاب هناك، وأتى بصفتي الغفران والرحمة، ولم يأت في جانب العقاب إلا بصفة واحدة دلالة على حلمه وسَعَة مغفرته ورحمته.
239
سورة الأنعام
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات
لم تَحْتَوِ سورةُ (الأنعام) على كثيرٍ من الأحكام الشَّرعية كأخواتِها من السُّوَر الطِّوال؛ بل اهتمَّت بتحقيقِ مقصدٍ عظيم؛ وهو (توحيدُ الألوهية، وتثبيتُ مسائلِ العقيدة)، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعام كلُّ قواعدِ التوحيد»؛ فقد رسَمتِ السورةُ معالمَ على طريق الهداية، ذاكرةً قصَّةَ إبراهيمَ في البحث عن الحنيفيَّةِ الخالصة بما حَوَتْهُ من حُجَجٍ عقلية، وبراهينَ قاطعة؛ فعنايةُ السورة بالعقيدة كانت واضحةً جليَّة؛ لكي يُحقِّقَ العبدُ ما افتُتحت به السورةُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ اْلَّذِي خَلَقَ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ}[الأنعام: 1].
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاءت اليهودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: نأكلُ ممَّا قتَلْنا، ولا نأكلُ ممَّا قتَلَ اللهُ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اْسْمُ اْللَّهِ عَلَيْهِ﴾[الأنعام: 121] إلى آخِرِ الآيةِ». أخرجه أبو داود (٢٨١٩).
صحَّ عن أبي ذَرٍّ الغِفَاريِّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن صامَ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، فذلك صيامُ الدَّهْرِ؛ فأنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك في كتابِهِ: ﴿مَن جَآءَ بِاْلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَاۖ﴾[الأنعام: 160]؛ فاليومُ بعشَرةِ أيَّامٍ». أخرجه الترمذي (٧٦٢).
سُمِّيتْ سورةُ (الأنعام) بذلك؛ لأنَّها السورةُ التي عرَضتْ لذِكْرِ (الأنعام) على تفصيلٍ لم يَرِدْ في غيرها من السُّوَر.
* جاء في فضلِ سورة (الأنعام): أنَّها نزَلتْ وحولها سبعون ألفَ مَلَكٍ يُسبِّحون:
دلَّ على ذلك ما رواه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ بمكَّةَ ليلًا جُمْلةً، حولَها سبعون ألفَ مَلَكٍ، يَجأرون حولها بالتَّسْبيحِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص240)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في "عمدة التفسير" (1/761).
وقريبٌ منه ما جاء عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ على النَّبيِّ ﷺ ومعها مَوكِبٌ مِن الملائكةِ سَدَّ ما بين الخافِقَينِ، لهم زَجَلٌ بالتَّسْبيحِ والتَّقْديسِ، والأرضُ تَرتَجُّ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: سُبْحانَ اللهِ العظيمِ، سُبْحانَ اللهِ العظيمِ». "المعجم الأوسط" للطبراني (٦٤٤٧).
اشتمَلتِ السُّورةُ على عِدَّة موضوعات جاءت مُرتَّبةً كالآتي:
الاستفتاح بالحمد، وخَلْق الإنسان وبَعْثه (١-٣).
إعراض المشركين (٤-١١).
مع الله حُجَج بالغة (١٢-٢٠).
في موقف الحشر (٢٢-٣٢).
تسليةٌ وتثبيت (٣٣-٣٥).
لماذا الإعراض؟ (٣٦-٤١).
سُنَنٌ ربانية (٤٢-٤٧).
مهمة الرسل عليهم السلام (٤٨- ٥٨).
مفاتيح الغيب (٥٩-٦٧).
تجنُّب مجال الخائضين (٦٨-٧٠).
معالمُ على طريق الهداية (٧١-٧٣).
قصة إبراهيمَ عليه السلام (٧٤-٩٠).
الاحتجاج على منكِري البعث (٩١-٩٤).
من دلائلِ القدرة (٩٥-٩٩).
الرد على مزاعمِ المشركين، وتقرير العقيدة (١٠٠-١٠٥).
منهج التعامل مع المشركين (١٠٦-١٠٨).
تعنُّتٌ وإصرار (١٠٩-١١١).
الإعلام المضلِّل وموقف الإسلام منه (١١٢-١١٤).
قواعدُ وأصول في العقيدة والدعوة (١١٥-١١٧).
قواعد وأصول في التحليل والتحريم (١١٨-١٢١).
من مظاهرِ الصُّدود وأسبابه (١٢٢-١٢٦).
وعدٌ ووعيد (١٢٧-١٣٥).
من جهالات المشركين (١٣٦-١٤٠).
حُجَجٌ باهرة، ونِعَمٌ ظاهرة (١٤١-١٥٠).
الوصايا العَشْرُ (١٥١-١٥٣).
من مشكاةٍ واحدة (١٥٤-١٥٧).
وماذا بعد الحُجَج؟ (١٥٨-١٦٥).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /393).
أُقيمت هذه السُّورةُ على مقصدٍ عظيمٍ جدًّا؛ ألا وهو (تحقيق التَّوحيد)؛ وذلك بإشعار الناس بأنَّ حقَّ الحمد ليس إلا للهِ؛ لأنَّه مُبدِعُ العوالِمِ: جواهرَ وأعراضًا؛ فعُلِم أنه المتفرِّدُ بالإلهيَّة، وأنَّ الأصنامَ والجِنَّ تأثيرُها باطلٌ؛ فالذي خلَق الإنسانَ ونظامَ حياته وموته بحِكْمته هو المستحِقُّ لوصفِ الإلهِ المتصرِّف. وجاءت السورةُ بتنزيه اللهِ عن الولَدِ والصاحبة، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعامِ كلُّ قواعدِ التوحيد». واشتمَلتِ السورةُ على موعظة المُعرِضين عن آياتِ القرآن والمكذِّبين بالدِّين الحقِّ، وتهديدِهم بأن يحُلَّ بهم ما حَلَّ بالقرونِ المكذِّبين من قبلِهم والكافرين بنِعَمِ الله تعالى، وأنَّهم ما يضُرُّون بالإنكارِ إلا أنفسهم، ووعيدِهم بما سيَلقَون عند نزعِ أرواحهم، ثم عند البعثِ.