ﰡ
نزولها: نزلت بمكة، بعد العنكبوت.. وهى آخر ما نزل بمكة..
وقيل أول ما نزل بالمدينة عدد آياتها: ست وثلاثون.. آية عدد كلماتها: مائة كلمة، وتسع كلمات عدد حروفها: أربعمائة وثلاثون.. حرفا
مناسبتها لما قبلها
أجملت سورة الانفطار التي سبقت المطففين مصير الفجار، ومصير الأبرار..
فجاءت سورة المطففين. مفصلة شيئا من هذا المصير، كما جاءت كاشفة مبينة عن وجوه من فجر الفجار، كالتطفيف فى الكيل والميزان، والتكذيب بيوم الدين، والاتهام لرسول الله، ولآيات الله..
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (١- ١٧) [سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١ الى ١٧]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)
«وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» التطفيف: الخروج عن سواء السبيل فى الكيل والميزان، زيادة أو نقصا..
وقد بين الله ذلك فى قوله تعالى: «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ».. فهؤلاء هم المطففون، قد توعدهم الله سبحانه وتعالى بالويل والعذاب الشديد فى الآخرة، لأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، فيأخذون أكثر مما لهم إذا كالوا أو وزنوا، أو يأخذونه كاملا وافيا «يستوفون» على حين يعطون أقل مما عليهم إذا كالوا لغيرهم أو وزنوا لهم «يخسرون».. إنهم اؤتمنوا فخانوا الأمانة، ووضع فى أيديهم ميزان الحق، فعبثوا به، واستخفوا بحرمته.. فيستوفون حقهم كاملا إذا أخذوا، ويعطونه مبخوسا ناقصا إذا أعطوا!! وفى قوله تعالى: «اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ» وفى تعدية الفعل بحرف الجر «على» - إشارة إلى أن هذا الذي يكيلونه هو شىء لهم على غيرهم..
قيل إن أهل المدينة، كانوا قبل الإسلام أخبث الناس كيلا، فلما جاء الإسلام، وكشف لهم عن شناعة هذا العمل، وما يجر على مقترفيه من نقمة الله وعذابه- أصبحوا أعدل الناس كيلا ووزنا إلى اليوم..
والقول بأن هذه السورة هى آخر ما نزل بمكة، أولى من القول بأنها نزلت فى المدينة.. ذلك أن نزولها بالمدينة، وفى أول مقدم الرسول إليها، فيه مواجهة بالخزي والفضيحة، والتشنيع، على هؤلاء القوم الكرام، الذي استجابوا لدين الله، ورصدوا أنفسهم وأموالهم لنصرته، وفتحوا مدينتهم ودورهم لإيواء المسلمين الفارّين بدينهم من مشركى قريش.. وإن الذي يتفق وأدب الإسلام وحكمته لعلاج هذا الأمر المنكر، الذي قيل إنه كان فاشيا فى أهل المدينة- الذي يتفق مع أدب الإسلام وحكمته أن يعلن رأيه فى هذا الأمر، وحكمه على فاعليه، بعيدا عن موقع المواجهة، وأن يرمى به فى وجه المشركين قبل أن تنتقل الدعوة من ديارهم، حتى إذا بلغت سورة المطففين أسماع أهل المدينة، انخلعوا من هذا المنكر، واستقبلوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقد طهرت مدينتهم من هذا الخبث.
والخيانة فى الكيل والميزان، ليست كما يبدو فى ظاهرها، أمرا عارضا هينا، لا يمسّ إلا جانبا من حواشى حياة الجماعة، ولا يؤثر تأثيرا ذا بال فى نظام حياتها.. وكلّا، فإن هذا الداء، إذا تفشّى فى مجتمع من المجتمعات،
ونتصور هنا جماعة قد شاع فى معاملاتها النقد الزائف، واختلط بالنقد الصحيح.. فهل يجتمع لهذه الجماعة شمل، أو يستتب فيها نظام، أو تغشاها سكينة واطمئنان؟..
إن حياة الناس قائمة على التبادل، والأخذ والعطاء، فإذا لم يقم ذلك بينهم على ثقة متبادلة بينهم كما يتبادلون كل شىء، انحلّ عقد نظامهم، وتقطعت عرا أوثق رابطة تربط بين الناس والناس، وتجمع بعضهم إلى بعض وهى الثقة.
وفى القرآن الكريم، إشارة صريحة إلى خطورة التبادل، القائم بين الناس- أخذا وعطاء، والذي إذا لم يقم على أساس متين من العدل والإحسان، أتى على كل صالحة فى حياة الناس.. وهذا ما نراه فى دعوة نبى الله شعيب- عليه السلام- ورسالته فى قومه..
إنها رسالة، تعالج هذا الداء الذي استشرى فى القوم وتطبّ له قبل أي داء آخر، بعد داء الكفر.. فإنه لا يقوم بناء، ولا يستنبت خير، إلا إذا اقتلع هذا الداء، وطهرت منه الأرض التي يراد استصلاحها، وغرص البذور الطيبة فيها..
يقول الله سبحانه وتعالى على لسان شعيب إلى قومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ.. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ.. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» (٨٤: هود) ويقول سبحانه على لسانه أيضا: م ٩٤- التفسير القرآنى ج ٣٠
إنها قضية حق وعدل.. فإذا افتقد الحق مكانه فى قوم، وإذا اختلت موازين العدل فى أيديهم، فليأذنوا بتصدع بنيانهم، وانهيار عمرانهم، وبوار سعيهم، وسوء مصيرهم..
وقوله تعالى:
«أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ»..
هو استفهام إنكارى، لهذا الأمر المنكر الذي يأتيه المطففون فى الكيل والميزان.. إن هؤلاء المطففين لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم، فيه حساب، وجزاء.. ولو كانوا يظنون هذا ما اجترءوا على أكل حقوق الناس بالباطل، ولحجزهم عن ذلك حاجز الخوف من الله، ومن لقائه بهذا المنكر الشنيع..
وفى التعبير بفعل الظن، بدلا من فعل الاعتقاد فى البعث، إشارة إلى أن مجرد الظن بأن هناك بعثا، وحسابا، وعقابا- يكفى فى العدول عن هذا المنكر، وتجنبه، توقّيا للشر المستطير، الذي ينجم عنه.. فكيف بمن يعتقد البعث، ويؤمن به؟ إنه أشد توقيا للبعث، ومحاذرة منه، وإعدادا له..
وقوله تعالى:
«كَلَّا.. إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ»..
كلّا هو رد على قوله تعالى: «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ؟»..
وكلا.. إنهم لا يظنون أنهم مبعوثون، ولو ظنوا أنهم مبعوثون ما فعلوا هذا الذي فعلوه من التطفيف فى الكيل والميزان..
والسجّين: مكان مطبق، مغلق على هذا الكتاب، وهو مبالغة من السجن، وهو الحبس.. وفى هذا إشارة إلى أن هذا الكتاب- لما يضم من شنائع ومنكرات- قد ألقى به فى مكان بعيد عن الأعين، كما تلقى الجيف، أو يردم على الرمم.
وقوله تعالى: «وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ» تهويل، وتشنيع، على هذا المكان الذي ضمّ هذا الكتاب العفن، الذي تفوح منه رائحة هذه المنكرات الخبيثة..
وقوله تعالى: «كِتابٌ مَرْقُومٌ» هو بدل من «سجين».. حيث يدل ذلك على أن هذا الكتاب المنكر، والمكان الذي ألقى فيه، قد صار شيئا واحدا، هو هذا الكتاب المرقوم، أي الموسوم بتلك العلامات، والشواهد الدالة على ما ضم عليه من آثام ومنكرات..
قوله تعالى:
«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» هو تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يكذبون بالبعث، ولا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم.. إن لهم الويل، والهلاك، والعذاب الأليم فى هذا اليوم العظيم، الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين..
وقوله تعالى:
«وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ
أي أنه لا يكذب بهذا اليوم إلا كل معتد على حرمات الله، غارق فى الإثم والضلال..
وإن من كان هذا شأنه من التهالك على المنكر، ولا ستغراق فى الإثم، هو فى سكرة مما هو فيه، لا يود أن يفيق منها أبدا، ولا ينتظر لليلة سكره صباحا، يقطع عنه أضغاث أحلامه، وهذيان خماره.
إن آفة الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، ليست عن حجة من عقل أو منطق، وإنما هى كامنة فى تلك الشهوات المستبدة بهم، والمتسلطة عليهم، والتي من شأنها- لكى تضمن وجودها، وتدافع عن بقائها- أن تدفع كل خاطر يزحمها، أو طارق يتهدد وجودها.. فإذا اتجهت النفس إلى الإيمان باليوم الآخر، بدا لها هذا القيد الذي يقيدها به الإيمان، ويحول بينها وبين هذا المرعى الذي تنطلق فيه هائمة على وجهها.. وهنا يضعف ذوو النفوس الخبيثة عن قبول هذا الالتزام بالوقوف عند حدود الله، فيتهمون هذا الهاتف الذي يهتف فى ضمائرهم بالإيمان بالله واليوم الآخر ليظلّوا عاكفين على ما هم فيه من آثام ومنكرات. روى أن الأعشى الشاعر الجاهلى، حين سمع بأمر النبىّ، جاء يريد الإسلام، فتلقته قريش، وقالوا له إن محمدا يحرّم الزنا، فقال: هذا لا إربة لى فيه، فقالوا: إنه يحرم الخمر، فقال: أما هذه، فإنها شهوة نفسى، وعندى خابية منها، سأروى نفسى منها سنة، ثم أعود فأدخل فى دين محمد.. فرجع ولكنه لم يعد، فقد مات فى عامه هذا!! وهكذا يتعلل أصحاب المنكرات بالعلل والمعاذير، حتى يموتوا على ما هم عليه من ضلال..
وقوله تعالى:
«كَلَّا.. بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ».
كلا، هو ردّ على قول هذا المعتدى الأثيم، الذي إذا تتلى عليه آيات الله
«أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» !! وكلا.. ليس الأمر كما زعم، ضلالا، وافتراء.. وإنما قد ران على قلبه هذا الإثم الذي غرق فيه، فلم يعد يرى حقّا، أو يهتدى إلى حقّ! و «رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ» أي غطى على قلوبهم.. والرّين على الشيء حجبه، وتغطيته.
وقوله تعالى:
«كَلَّا.. إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ».
هو توكيد لهذا الرّين الذي غطى قلوبهم، وأنه قد صحبهم إلى الآخرة، فحجبهم الله سبحانه وتعالى عن رؤيته، وعن موقع رحمته وإحسانه، كما حجبوا هم أنفسهم بآثامهم عن رؤية الحقّ فى الدنيا.
وقوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ».
أي وليس حجبهم عن الله سبحانه وتعالى فى الآخرة، وبعدهم عن مواقع رحمته، هو كل جزائهم فى الآخرة، وإن كان جزاء أليما، وعقابا زاجرا، بل إن وراء هذا نارا تلظّى، يلقون فيها، ويكونون حطبا لها.. ثم لا يتركون هكذا للنار تأكلهم، وترعى فى أجسامهم، بل ينخسون بهذه القوارع، بما يرجمون به من كل جانب، من ملائكة جهنم وخزنتها بقولهم لهم: «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» فذوقوه لتعلموا إن كان ما كذبتم به حقا أو غير حق، واقعا أو غير واقع: «فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» ؟
(٤٤: الأعراف)
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
التفسير:
قوله تعالى:
«كَلَّا.. إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ»..
هو رد على هؤلاء الفجار الذين أجرموا، الذين ظنوا أن مصير الناس جميعا كمصيرهم هذا، الذي يلاقون فيه أشد الهوان، وأقسى العذاب.. وكلا..
فهناك الأبرار، أهل الإيمان والإحسان.. وأنه إذا كان كتاب الفجار، قد جمع المخازي والموبقات، وأودع فى سجين، فإن كتاب الأبرار، قد حوى المكارم والطيبات، فأخذ مكانه فى عليين.
وقوله تعالى:
«وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ»..
المراد بالاستفهام هنا، النفي، هو تنويه بهذا الكتاب، ورفع لقدره، وقدر المكان الذي أودع فيه.. وكما رقم كتاب الفجار، ووسم بميسم التجريم، فقد رقم كتاب الأبرار، وختم بخاتم الرحمة، والمغفرة، بمحضر من
وقوله تعالى:
«إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ».
وكما قاد كتاب الفجار أصحابه إلى جهنم وعذابها، فإن كتاب الأبرار قاد أصحابه كذلك، ولكن إلى الجنة ونعيمها، وإنهم ليأخذون مجالس نعيمهم فيها على الأرائك، وهى الأسرة ذات السّتر، حيث يسرحون بأبصارهم فى هذا النعيم المحيط بهم، ويتحملون محاسنه ومباهجه، فيعظم نعيمهم، وتتضاعف مسراتهم..
وقوله تعالى:
«تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» أي أن آثار النعيم الذي هم فيه، تراه ظاهرا على وجوههم المشرقة بنضرة النعيم ورونقه وبشاشته.
وفى التعبير بقوله تعالى: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ» بدلا من «ترى على وجوههم» - إشارة إلى أثر هذا النعيم الواضح على الوجوه، وأن مجرد النظر إلى هذه الوجوه يفيد علما ومعرفة، بما يلقى أصحاب هذه الوجوه من ألوان النعيم..
وقوله تعالى:
«يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ»
فهذا هو الذي ينبغى أن يطلب، ويشتد الطلب عليه، ويكثر التنافس فيه، وأما ما سواه، فهو هباء وقبض الريح.
قوله تعالى:
«وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» أي أن هذا الرحيق الذي يسقى منه الأبرار فى الجنة، والذي تعبق منه رائحة المسك، هو ممزوج بتسنيم!! وقد بين الله تعالى هذا التسنيم الذي يمزج بهذا الرحيق، وهو عين من عيون الجنة، لا يعلم كنهها إلا الله سبحانه وتعالى، قد أعدها- جل شأنه- ليشرب منها عباد الله المقربون، أي أهل القرب منه، وأهل الكرامة عنده..
وفى تعدية الفعل يشرب بالباء، بدلا من حرف الجر «من» كما يقضى بذلك وضع اللغة- فى هذا إشارة إلى أن هذه العين هى شراب، وأداة للشراب أيضا، فهم يشربون بهذه العين من العين!!.. وقد أشرنا إلى هذا عند تفسير قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» (٦: الإنسان)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ- وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ» هو عودة بالمشركين، المجرمين إلى الحياة الدنيا، وإلى مكانهم الذي زايلوه فيها، بعد هذه النّقلة السريعة التي انتقلوا بها إلى الدار الآخرة، وشهدوا فيها ما أعد لهم هناك من عذاب ونكال..
وإذ يعود المجرمون إلى مكانهم من دنياهم، يرون بين أيديهم مشهدا من تلك المشاهد المتكررة التي يعيشون فيها مع أهل الإيمان والإحسان.. إنهم يتخذون من المؤمنين مسرحا للضحك منهم، والسخرية بهم، فإذا مرّ بهم المؤمنون تغامزوا، أي غمز بعضهم بعضا، بإشارات من أعينهم، أو غمزات بأكتافهم، وكأنهم أمام مشهد عجيب غريب، يثير العجب والضحك..
«وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» وهذا شأنهم بعد أن ينفض مجلسهم الآثم الذي جرحوا فيه المؤمنين بتغامزهم وتلامزهم.. إنهم يعودون من هذا المجلس إلى أهلهم، وعلى أفواههم طعم هذا المنكر الذي طعموه فيها، يتشدقون به ويقصّون على أهلهم ما دار على ألسنتهم من فجور، وما رموا به المؤمنين من هجر القول، وفجره، يجعلون ذلك مادة للتندر والتفكه.
والفكه: كثير الفكاهة والمزاح..
قوله تعالى:
«وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ» أي وليس هذا كل ما عند المجرمين من كيد للمؤمنين، بل إنهم كلما رأوا أحدا من المؤمنين أشاروا إليه كمعلم من معالم الضلال، وكأنهم يشفقون عليه من هذا الطريق الذي يسير فيه.. فيقول بعضهم لبعض: انظروا إلى هذا المسكين المغرور، الذي يمنّيه محمد بالجنة ونعيمها!! إنه مسكين.. لقد وقع فريسة لخداع محمد وتمويهه!! وقوله تعالى:
«وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ» هو ردّ على هؤلاء المجرمين، وعلى إنكارهم على المؤمنين ما هم فيه.. إنهم لم يرسلوا عليهم حافظين لهم، حارسين لما يتهددهم من سوء! وقد كان الأولى بهؤلاء المجرمين الضالين أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يحفظوها من هذا البلاء الذي اشتمل عليهم.. ولكن هكذا أهل السوء أبدا، يشغلون عن أنفسهم وعن حراستها من المهالك والمعاثر، بالبحث عن عيوب الناس، وتتبع سقطاتهم وزلاتهم، والتشنيع بها عليهم..
«فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» هو عودة بالمجرمين من موقفهم هذا فى الحياة الدنيا، إلى موقف الحساب والجزاء مرة أخرى، وإنزالهم منازلهم فى جهنم، حيث تتعالى صر خاتهم، على حين بنظر إليهم المؤمنون، ضاحكين منهم، ساخرين بهم، كما كانوا هم يسخرون من المؤمنين ويضحكون منهم فى الدنيا..
وقوله تعالى:
«عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» هو بيان للحال التي عليها المؤمنون، وهم يضحكون من الكفار.. إنهم يضحكون وهم جالسون، مستريحون على الأرائك، على حين يتقلب المجرمون على جمر جهنم.
وقوله تعالى: «ينظرون» حال أخرى من أحوال المؤمنين، وهم يضحكون من الكفار، حال جلوسهم على الأرائك، ينظرون، أي يملئون عيونهم من نعيم الجنة الذي يحفّ بهم..
وقوله تعالى:
«هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» يجوز أن يكون معمولا لقوله تعالى: «ينظرون» أي ينظر المؤمنون وهم على أرائكهم ليروا هل ثوب الكفار، أي هل جوزوا بما كانوا يفعلون؟
وذلك ليتحقق لهم وعيد الله فى أهل الضلال، كما تحقق لهم وعده فى أهل الإيمان..
ويجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا، يراد به تبكيت الكفار، وهل جوزوا للجزاء الذي يستحقونه، أم أن هناك مزيدا من العذاب يريدونه إن كان فوق ما هم فيه مزيد؟..
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الانفطار عدد آياتها: خمس وعشرون آية عدد كلماتها: مائة كلمة وسبع كلمات.
عدد حروفها: أربعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا
مناسبتها لما قبلها
تعد هذه السورة، وما سبقها، وما يأتى بعدها، حديثا متصلا عن القيامة وأحداثها.. فكل سورة منها معرض من معارض هذا اليوم المشهود..
فإذا ذهبنا نلتمس مناسبة لترتيب هذه السور، كان ذلك أشبه بالتماس المناسبة بين ترتيب الآي فى السورة الواحدة.. والمناسبة هنا وهناك قائمة أبدا..