مكية وهي مائة وثمان وعشرون آية
ﰡ
كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم يوم بدر، استهزاء وتكذيباً بالوعد، فقيل لهم ﴿ أتى أَمْرُ الله ﴾ الذي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظراً لقرب وقوعه ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ روي أنه لما نزلت ﴿ اقتربت الساعة ﴾ [ القمر : ١ ] قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئاً، فنزلت ﴿ اقترب لِلنَّاسِ حسابهم ﴾ [ الأنبياء : ١ ] فأشفقوا وانتظروا قربها، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد، ما نرى شيئاً مما تخوفنا به، فنزلت ﴿ أتى أَمْرُ الله ﴾ فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم، فنزلت ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ فاطمأنوا وقرىء :«تستعجلوه » بالتاء والياء ﴿ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ تبرأ عز وجل عن أن يكون له شريك، وأن تكون آلهتهم له شركاء، أو عن إشراكهم. على أنّ «ما » موصولة أو مصدرية، فإن قلت : كيف اتصل هذا باستعجالهم ؟ قلت : لأنّ استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك. وقرىء :«تشركون »، بالتاء والياء.
قرىء :«ينزل » بالتخفيف والتشديد وقرىء :«تنزل الملائكة » أي تتنزل ﴿ بالروح مِنْ أَمْرِهِ ﴾ بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد، و ﴿ أَنْ أَنْذِرُواْ ﴾ بدل من الروح، أي ينزلهم بأن أنذروا. وتقديره : بأنه أنذروا، أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا. أو تكون «أن » مفسرة ؛ لأنّ تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول. ومعنى أنذروا ﴿ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ﴾ أعلموا بأنّ الأمر ذلك، من نذرت بكذا إذا علمته. والمعنى : يقول لهم أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا ﴿ فاتقون ﴾.
ثم دلّ على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر، مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وما يصلحه، ومالا بدّ له من خلق البهائم لأكله وركوبه وجرّ أثقاله وسائر حاجاته، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه، ومثله متعال عن أن يشرك به غيره. وقرىء :«تشركون »، بالتاء والياء.
﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ فيه معنيان، أحدهما : فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم مبين للحجة، بعد ما كان نطفة من منيّ جماداً لا حس به ولا حركة، دلالة على قدرته. والثاني : فإذا هو خصيم لربه، منكر على خالقه، قائل : من يحيي العظام وهي رميم، وصفاً للإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل، والتمادي في كفران النعمة. وقيل نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعدما قد رمّ ؟
﴿ الأنعام ﴾ الأزواج الثمانية، وأكثر ما تقع على الإبل، وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر، كقوله :﴿ والقمر قدرناه ﴾ [ يس : ٣٩ ] ويجوز أن يعطف على الإنسان، أي : خلق الإنسان والأنعام، ثم قال :﴿ خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾ أي ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان والدفء : اسم ما يدفأ به، كما أنّ الملء اسم ما يملأ به، وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر. وقرىء :«دفّ »، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء ﴿ ومنافع ﴾ هي نسلها ودرّها وغير ذلك. فإن قلت : تقديم الظرف في قوله ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ مؤذن بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها. قلت : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم. وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتدّ به وكالجاري مجرى التفكه، ويحتمل أن طعمتكم منها، لأنكم تحرثون بالبقر فالحبّ والثمار التي تأكلونها منها وتكتسبون بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها.
منّ اللَّه بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها، لأنه من أغراض أصحاب المواشي، بل هو من معاظمها ؛ لأنّ الرعيان إذا روّحوها بالعشي وسرحوها بالغداة - فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء - أنست أهلها وفرحت أربابها، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس. ونحوه ﴿ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ [ النحل : ٨ ]، ﴿ يُواري سَوآتِكُمْ وَرِيشًا ﴾ [ الأعراف : ٢٦ ]. فإن قلت : لم قدّمت الإراحة على التسريح ؟ قلت : لأنّ الجمال في الإراحة أظهر، إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها. وقرأ عكرمة :«حينا تريحون وحينا تسرحون » على أن ﴿ تُرِيحُونَ وتسرحون ﴾ وصف للحين. والمعنى : تريحون فيه وتسرحون فيه، كقوله تعالى :﴿ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ ﴾ [ لقمان : ٣٣ ].
قرىء :«بشق الأنفس »، بكسر الشين وفتحها. وقيل : هما لغتان في معنى المشقة، وبينهما فرق : وهي أن المفتوح مصدر شق الأمر عليه شقا، وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع. وأما الشق فالنصف، كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد. فإن قلت : ما معنى قوله :﴿ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه ﴾ كأنهم كانوا زماناً يتحملون المشاق في بلوغه حتى حملت الإبل أثقالهم. قلت : معناه وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه في التقدير لو لم تخلق الإبل إلا بجهد أنفسكم، لا أنهم لم يكونوا بالغيه في الحقيقة. فإن قلت : كيف طابق قوله :﴿ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه ﴾ قوله :﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ﴾ وهلا قيل : لم تكونوا حامليها إليه ؟ قلت : طباقه من حيث أن معناه : وتحمل أثقالكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة، فضلاً أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم. ويجوز أن يكون المعنى : لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس. وقيل : أثقالكم أجرامكم. وعن عكرمة البلد مكة ﴿ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح.
﴿ والخيل والبغال والحمير ﴾ عطف على الأنعام، أي : وخلق هؤلاء للركوب والزينة، وقد احتج على حرمة أكل لحومهن بأن علل خلقها بالركوب والزينة، ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام. فإن قلت : لم انتصب ﴿ وَزِينَةً ﴾ ؟ قلت : لأنه مفعول له، وهو معطوف على محل لتركبوها. فإن قلت : فهلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد ؟ قلت : لأنّ الركوب فعل المخاطبين، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق. وقرىء :«لتركبوها زينة »، بغير واو، أي : وخلقها زينة لتركبوها. أو تجعل زينة حالا منها، أي : وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ يجوز أن يريد به : ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمنّ علينا بذكره كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته. ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك، وإن طوى عنا علمه لحكمة له في طيه، وقد حمل على ما خلق في الجنة والنار، مما لم يبلغه وهم أحد، ولا خطر على قلبه.
المراد بالسبيل : الجنس، ولذلك أضاف إليها القصد وقال ﴿ وَمِنْهَا جَائِرٌ ﴾ والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد. يقال : سبيل قصد وقاصد، أي : مستقيم، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. ومعنى قوله ﴿ وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل ﴾ أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه، كقوله :﴿ إِنَّ عَلَيْنَا للهدى ﴾ [ الليل : ١٢ ]. فإن قلت : لم غير أسلوب الكلام في قوله ﴿ وَمِنْهَا جَائِرٌ ﴾ ؟ قلت : ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل : وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر. وقرأ عبد الله :«ومنكم جائر » يعني : ومنكم جائر جار عن القصد بسوء اختياره، والله بريء منه ﴿ وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ قسراً وإلجاء.
﴿ لَّكُم ﴾ متعلق بأنزل، أو بشراب، خبراً له. والشراب ما يشرب ﴿ شَجَرٌ ﴾ يعني الشجر الذي ترعاه المواشي. وفي حديث عكرمة :p> ( ٥٨٥ ) > لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت. يعني الكلأ ﴿ تُسِيمُونَ ﴾ من سامت الماشية إذا رعت، فهي سائمة، وأسامها صاحبها، وهو من السومة وهي العلامة، لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض.
وقرىء :««ينبت »، بالياء والنون. فإن قلت : لم قيل ﴿ وَمِن كُلّ الثمرات ﴾ ؟ قلت : لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة ﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ ينظرون فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته. والآية : الدلالة الواضحة. وعن بعضهم : ينبت بالتشديد. وقرأ أبيّ بن كعب :«ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب »، بالرفع.
قرئت كلها بالنصب على وجعل النجوم مسخرات أو على أن معنى تسخيرها للناس : تصييرها نافعة لهم، حيث يسكنون بالليل، ويبتغون من فضله بالنهار، ويعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر، ويهتدون بالنجوم. فكأنه قيل : ونفعكم بها في حال كونها مسخرات لما خلقن له بأمره. ويجوز أن يكون المعنى : أنه سخرها أنواعاً من التسخير جمع مسخر، بمعنى تسخير، من قولك : سخره الله مسخراً، كقولك : سرحه مسرحاً، كأنه قيل : وسخرها لكم تسخيرات بأمره. وقرىء بنصب «الليل والنهار » وحدهما، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر. وقرىء :«والنجوم مسخرات »، بالرفع، وما قبله بالنصب، وقال ﴿ إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ فجمع الآية. وذكر العقل ؛ لأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة.
﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ ﴾ معطوف على الليل والنهار يعني : ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلف الهيآت والمناطر.
﴿ لَحْمًا طَرِيّا ﴾ هو السمك، ووصفه بالطراوة ؛ لأنّ الفساد يسرع إليه، فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه. فإن قلت : ما بال الفقهاء قالوا : إذا حلف الرجل لا يأكل لحماً، فأكل سمكاً، لم يحنث. والله تعالى سماه لحماً كما ترى ؟ قلت : مبنى الأيمان على العادة، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه السمك، وإذا قال الرجل لغلامه : اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك، كان حقيقاً بالإنكار. ومثاله أن الله تعالى سمى الكافر دابة في قوله : إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا، فلو حلف حالف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث. ﴿ حِلْيَةً ﴾ هي اللؤلؤ والمرجان. والمراد بلبسهم : لبس نسائهم، لأنهنّ من جملتهم، ولأنهنّ إنما يتزينّ بها من أجلهم، فكأنها زينتهم ولباسهم. المخر : شق الماء بحيزومها. وعن الفراء : هو صوت جري الفلك بالرياح. وابتغاء الفضل : التجارة.
﴿ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ كراهة أن يميل بكم وتضطرب والمائد : الذي يدار به إذا ركب البحر. قيل : خلق الله الأرض فجعلت تمور، فقالت الملائكة : ما هي بمقرّ أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، لم تدر الملائكة ممّ خلقت ﴿ وأنهارا ﴾ وجعل فيها أنهاراً، لأن ﴿ وألقى ﴾ فيه معنى : جعل ألا ترى إلى قوله ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا والجبال أَوْتَاداً ﴾ [ النبأ : ٦ ].
﴿ وعلامات ﴾ هي معالم الطرق وكل ما تستدل به السابلة من جبل ومنهل وغير ذلك. والمراد بالنجم : الجنس، كقولك : كثر الدرهم في أيدي الناس. وعن السديّ : هو الثريا، والفرقدان ؛ وبنات نعش، والجدي. وقرأ الحسن :«وبالنجم »، بضمتين، وبضمة وسكون، وهو جمع نجم، كرهن ورهن، والسكون تخفيف. وقيل حذف الواو من النجوم تخفيفاً. فإن قلت : قوله ﴿ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ مخرج عن سنن الخطاب، مقدم فيه «النجم »، مقحم فيه «هم »، كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون، فمن المراد ب ﴿ هُمْ ﴾ ؟ قلت : كأنه أراد قريشاً : كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم، وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم، فكان الشكر أوجب عليهم، والاعتبار ألزم لهم، فخصصوا.
فإن قلت :﴿ مَّن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ أريد به الأصنام، فلم جيء بمن الذي هو لأولي العلم ؟ قلت : فيه أوجه، أحدها : أنهم سموها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى أولي العلم. ألا ترى إلى قوله على أثره ﴿ والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ النحل : ٢٠ ] والثاني : المشاكلة بينه وبين من يخلق. والثالث : أن يكون المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم، فكيف بما لا علم عنده كقوله :﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ﴾ [ الأعراف : ١٩٥ ] يعني أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب، لأنّ هؤلاء أَحياء وهم أموات، فكيف تصح لهم العبادة ؟ لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصحّ أن يعبدوا. فإن قلت : هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حق الإلزام أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق ؟ قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه، فقد جعلوا الله تعالى من جنس المخلوقات وشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾.
﴿ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم، فضلاً أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر، أتبع ذلك ما عدّد من نعمه تنبيهاً على أنّ وراءها ما لا ينحصر ولا ينعدّ ﴿ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها.
﴿ والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ من أعمالكم، وهو وعيد.
﴿ والذين يَدْعُونَ ﴾ والآلهة الذين يدعوهم الكفار ﴿ مِن دُونِ الله ﴾ وقرىء بالتاء. وقرىء :«يُدْعَون »، على البناء للمفعول، نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب.
ومعنى :﴿ أموات غَيْرُ أَحْيَاء ﴾ أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات، أي غير جائز عليها الموت كالحيّ الذي لا يموت وأمرهم على العكس من ذلك. والضمير في ﴿ يُبْعَثُونَ ﴾ للداعين، أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم. وفيه تهكم بالمشركين وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم. وفيه دلالة على أنه لا بدّ من البعث وأنه من لوازم التكليف. ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير، وهم لا يقدرون على نحو ذلك، فهم أعجز من عبدتهم أموات جمادات لا حياة فيها، غير أحياء يعني أنَّ من الأموات ما يعقب موته حياة، كالنطف التي ينشئها الله حيواناً وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها. وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ أي وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكم بحالها، لأنّ شعور الجماد محال، فكيف بشعور ما لا يعلمه حي إلا الحيّ القيوم سبحانه. ووجه ثالث : وهو أن يراد بالذين يدعون الملائكة، وكان ناس منهم يعبدونهم، وأنهم أموات : أي لا بدّ لهم من الموت، غير أحياء : غير باقية حياتهم. وما يشعرون : ولا علم لهم بوقت بعثهم. وقرىء :«إيان »، بكسر الهمزة.
﴿ إلهكم إله واحد ﴾ يعني أنه قد ثبت بما تقدّم من إبطال أن تكون الإلهية لغيره، وأنها له وحده لا شريك له فيها، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح دليلها : استمرارهم على شركهم، وأنّ قلوبهم منكرة للوحدانية، وهم مستكبرون عنها وعن الإقرار بها.
﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ حقاً ﴿ أَنَّ الله يَعْلَمُ ﴾ سرّهم وعلانيتهم فيجازيهم، وهو وعيد ﴿ أَنَّهُ لا يُجِبُّ١٦٤٩ ؛ لْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾ يجوز أن يريد المستكبرين عن التوحيد يعني المشركين. ويجوز أن يعمّ كل مستكبر. ويدخل هؤلاء تحت عمومه.
﴿ مَّاذَآ ﴾ منصوب بأنزل، بمعنى : أي شيء ﴿ أَنزَلَ رَبُّكُمْ ﴾ أو مرفوع بالابتداء بمعنى : أي شيء أنزله ربكم، فإذا نصبت فمعنى ﴿ أساطير الأولين ﴾ ما يدّعون نزوله أساطير الأوّلين، وإذا رفعته فالمعنى : المنزل أساطير الأوّلين، كقوله :﴿ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] فيمن رفع. فإن قلت : هو كلام متناقض، لأنه لا يكون منزل ربهم وأساطير ؟ قلت : هو على السخرية كقوله :﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ ﴾ [ الشعراء : ٢٧ ] وهو كلام بعضهم لبعض، أو قول المسلمين لهم، وقيل : هو قول المقتسمين : الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا أحاديث الأوّلين وأباطيلهم.
﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ ﴾ أي قالوا ذلك إضلالا للناس وصدّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحملوا أو زاد ضلالهم ﴿ كَامِلَةٌ ﴾ وبعض أوزار من ضلّ بضلالهم، وهو وزر الإضلال، لأن المضلّ والضال شريكان : هذا يضله، وهذا يطاوعه على إضلاله، فيتحاملان الوزر، ومعنى اللام التعليل من غير أن يكون غرضاً، كقولك : خرجت من البلد مخافة الشر ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز المحق والمبطل.
القواعد : أساطين البناء التي تعمده. وقيل : الأساس وهذا تمثيل، يعني : أنهم سووا منصوبات ليمكروا بها الله ورسوله، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات، كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا. ونحوه : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً. وقيل : هو نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع. وقيل فرسخان، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا. ومعنى إتيان الله : إتيان أمره ﴿ مّنَ القواعد ﴾ من جهة القواعد ﴿ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون. وقرىء :«فأتى الله بيتهم ». «فخرّ عليهم السقُفُ »، بضمتين.
﴿ يُخْزِيهِمْ ﴾ يذلهم بعذاب الخزي ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾ [ آل عمران : ١٩٢ ] يعني هذا لهم في الدنيا، ثم العذاب في الآخرة ﴿ شُرَكَائِىَ ﴾ على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم، ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم ﴿ تشاقون فِيهِمْ ﴾ تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ومعناهم. وقرىء :«تشاقونِ »، بكسر النون، بمعنى : تشاقونني ؛ لأنّ مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله ﴿ قَالَ الذين أُوتُواْ العلم ﴾ هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم، فلا يلتفتون إليهم ويتكبرون عليهم ويشاقونهم، يقولون ذلك شماتة بهم وحكى الله ذلك من قولهم ليكون لطفاً لمن سمعه. وقيل : هم الملائكة قرىء :«تتوفاهم »، بالتاء والياء.
وقرىء :«الذين توفاهم »، بإدغام التاء في التاء ﴿ فَأَلْقَوُاْ السلم ﴾ فسالموا وأخبتوا، وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر، وقالوا :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء ﴾ وجحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان، فردّ عليهم أولو العلم ﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ فهو يجازيكم عليه، وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك ﴿ فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٨:وقرىء :«الذين توفاهم »، بإدغام التاء في التاء ﴿ فَأَلْقَوُاْ السلم ﴾ فسالموا وأخبتوا، وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر، وقالوا :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء ﴾ وجحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان، فردّ عليهم أولو العلم ﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ فهو يجازيكم عليه، وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك ﴿ فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ ﴾.
﴿ خَيْرًا ﴾ أنزل خيراً فإن قلت : لم نصب هذا ورفع الأول ؟ قلت : فصلا بين جواب المقرّ وجواب الجاحد، يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفاً مفعولاً للإنزال، فقالوا خيراً : أي أنزل خيراً، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأوّلين، وليس من الإنزال في شيء. وروي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا : إن لم تلقه كان خيراً لك، فيقول : أنا شرّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه، فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه، وأنه نبيّ مبعوث، فهم الذين قالوا خيراً. وقوله :﴿ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ﴾ وما بعده بدل من خيراً، حكاية لقوله :﴿ لّلَّذِينَ اتقوا ﴾ أي : قالوا هذا القول، فقدّم عليه تسميته خيراً ثم حكاه. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ عدة للقائلين، ويجعل قولهم من جملة إحسانهم ويحمدوه عليه ﴿ حَسَنَةٌ ﴾ مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ما هو خير منها، كقوله ﴿ فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة ﴾ [ آل عمران : ١٤٨ ] ﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين ﴾ دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لتقدّم ذكره.
و ﴿ جنات عَدْنٍ ﴾ خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح.
﴿ طَيّبِينَ ﴾ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي. لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم ﴿ يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ ﴾ قيل : إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال : السلام عليك يا وليّ الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشره بالجنة.
﴿ تَأْتِيَهُمُ الملائكة ﴾ قرىء بالتاء والياء، يعني : أن تأتيهم لقبض الأرواح. و ﴿ أَمْرُ رَبّكَ ﴾ العذاب المستأصل، أو القيامة ﴿ كذلك ﴾ أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب ﴿ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ﴾ بتدميرهم ﴿ ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ لأنهم فعلوا ما استوجبوا به التدمير.
﴿ سَيّئَاتُ مَا عَلِمُواْ ﴾ جزاء سيئات أعمالهم. أو هم كقوله ﴿ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ].
هذا من جملة ما عدّد من أصناف كفرهم وعنادهم، من شركهم بالله وإنكار وحدانيته بعد قيام الحجج وإنكار البعث واستعجاله، استهزاء منهم به وتكذيبهم الرسول، وشقاقهم، واستكبارهم عن قبول الحق، يعني : أنهم أشركوا بالله وحرّموا ما أحل الله، من البحيرة والسائبة وغيرهما، ثم نسبوا فعلهم إلى الله وقالوا : لو شاء لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه ﴿ كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي أشركوا وحرموا حلال الله فلما نبهوا على قبح فعلهم ورّكوه على ربهم ﴿ فَهَلْ عَلَى الرسل ﴾ إلا أن يبلغوا الحق، وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له، وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه.
ولقد أمدّ إبطال قدر السوء ومشيئة الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله، وباجتناب الشر الذي هو طاعة الطاغوت ﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله ﴾ أي لطف به لأنه عرفه من أهل اللطف ﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة ﴾ أي ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف، لأنه عرفه مصمما على الكفر لا يأتي منه خير ﴿ فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا ﴾ ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أني لا أقدّر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار.
ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم، وعرّفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه ﴿ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ ﴾ أي لا يلطف بمن يخذل، لأنه عبث، والله تعالى متعال عن العبث ؛ لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه. وقرىء :«لا يُهدَى » أي : لا تقدر أنت ولا أحد على هدايته وقد خذله الله. وقوله ﴿ وَمَا لَهُم مّن ناصرين ﴾ دليل على أنّ المراد بالإضلال الخذلان الذي هو نقيض النصرة. ويجوز أن يكون ﴿ لاَّ يَهِدِّى ﴾ بمعنى لا يهتدي. يقال : هداه الله فهدى. وفي قراءة أبيّ «فإنّ الله لا هادي لمن يضل، ولمن أضلّ »، وهي معاضدة لمن قرأ «لا يهدي » على البناء للمفعول. وفي قراءة عبد الله :«يهدي »، بإدغام تاء يهتدي، وهي معاضدة للأولى. وقرىء «يضل » بالفتح. وقرأ النخعي :«إن تحرص »، بفتح الراء، وهي لغية.
﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله ﴾ معطوف على ﴿ وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ ﴾ [ النحل : ٣٥ ] إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان، حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا : توريك ذنوبهم على مشيئة الله، وإنكارهم البعث مقسمين عليه. و ﴿ بلى ﴾ إثبات لما بعد النفي، أي : بلى يبعثهم. ووعد الله : مصدر مؤكد لما دلّ عليه بلى، لأن يبعث موعد من الله، وبين أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه في الحكمة ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أنهم يبعثون أو أنه وعد واجب على الله ؛ لأنهم يقولون : لا يجب على الله شيء، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة.
﴿ لِيُبَيّنَ لَهُمُ ﴾ متعلق بما دل عليه «بلى » أي يبعثهم ليبين لهم. والضمير لمن يموت، وهو عام للمؤمنين والكافرين، والذين اختلفوا فيه هو الحق ﴿ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ ﴾ كذبوا في قولهم : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، وفي قولهم : لا يبعث الله من يموت. وقيل : يجوز أن يتعلق بقوله :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً ﴾ [ النحل : ٣٦ ] أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله، مفترين على الله الكذب.
﴿ قَوْلُنَا ﴾ مبتدأ، و ﴿ إِن نَّقُولُ ﴾ خبره. ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أي : إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له : احدث، فهو يحدث عقيب ذلك لا يتوقف، وهذا مثل لأنّ مراداً لا يمتنع عليه، وأنّ وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل، ولا قول ثم. والمعنى : أنّ إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات. وقرىء :«فيكون »، عطفاً على ﴿ نَّقُولَ ﴾.
﴿ والذين هاجروا ﴾ هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ظلمهم أهل مكة ففرّوا بدينهم إلى الله، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين. ومنهم من هاجر إلى المدينة. وقيل : هم الذين كانوا محبوسين معذبين بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما خرجوا تبعوهم فردّوهم : منهم بلال، وصهيب، وخباب، وعمار. وعن صهيب أنه قال لهم : أنا رجل كبير، إن كنت معكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضرّكم، فافتدى منهم بماله وهاجر، فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال له : ربح البيع يا صهيب. وقال له عمر : نعم الرجل صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه، وهو ثناء عظيم : يريد لو لم يخلق الله ناراً لأطاعه، فكيف ﴿ فِى الله ﴾ في حقه ولوجهه ﴿ حَسَنَةٌ ﴾ صفة للمصدر، أي لنبوأنهم تبوئة حسنة. وفي قراءة علي رضي الله عنه. «لنثوّينهم » ومعناه : أثوأة حسنة. وقيل : لننزلهم في الدنيا منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب. وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذاً أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال : خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك ربك في الدنيا. وما ذخر لك في الآخرة أكثر وقيل : لنبوّأنهم مباءة حسنة وهي المدينة، حيث آواهم أهلها ونصروهم ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ الضمير للكفار، أي : لو علموا أنّ الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم. ويجوز أن يرجع الضمير إلى المهاجرين، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.
﴿ الذين صَبَرُواْ ﴾ على هم الذين صبروا. أو أعني الذين صبروا، وكلاهما مدح، أي : صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤسهم، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله.
قالت قريش : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فقيل ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ ﴾ على ألسنة الملائكة ﴿ فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذكر ﴾ وهم أهل الكتاب، ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً. فإن قلت : بم تعلق قوله ﴿ بالبينات ﴾ ؟ قلت : له متعلقات شتى، فأما أن يتعلق بما أرسلنا داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك : ما ضربت إلا زيداً بالسوط ؛ لأن أصله : ضربت زيداً بالسوط وإما برجالا، صفة له : أي رجالاً ملتبسين بالبينات. وإما بأرسلنا مضمراً، كأنما قيل : بما أرسلوا ؟ فقلت بالبينات، فهو على كلامين، والأوّل على كلام واحد، وإما بيوحي، أي : يوحي إليهم بالبينات. وإما بلا تعلمون، على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام، كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي. وقوله :﴿ فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذكر ﴾ اعتراض على الوجوه المتقدّمة، وأهل الذكر : أهل الكتاب. وقيل للكتاب الذكر ؛ لأنه موعظة وتنبيه للغافلين.
﴿ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ يعني ما نزل الله إليهم في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا وأوعدوا ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا.
﴿ مَكَرُواْ السيئات ﴾ أي المكرات السيئات، وهم أهل مكة، وما مكروا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ فِى تَقَلُّبِهِمْ ﴾ متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم وأسباب دنياهم.
﴿ على تَخَوُّفٍ ﴾ متخوفين، وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوّفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله
﴿ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ وقيل : هو من قولك : تخوفنه وتخونته، إذا تنقصته قال زهير :
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِدا | كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النّبْعةِ السَّفَنُ |
أي يأخذهم على أن يتنقصهم شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا. وعن عمر رضي الله عنه. أنه قال على المنبر : ما تقولون فيها ؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا : التخوّف التنقص. قال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم، قال شاعرنا. وأنشد البيت. فقال عمر : أيها الناس، عليكم بديوانكم لا يضل. قالوا : وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم
﴿ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ حيث يحلم عنكم، ولا يعاجلكم مع استحقاقكم.
قرىء :«أو لم يروا » و «يتفيؤا » بالياء والتاء. و ﴿ مَا ﴾ موصولة بخلق الله، وهو مبهم بيانه ﴿ مِن شَىْء يَتَفَيَّؤُاْ ظلاله ﴾ واليمين، بمعنى الأيمان. و ﴿ سُجَّدًا ﴾ حال من الظلال. ﴿ وَهُمْ داخرون ﴾ حال من الضمير في ظلاله، لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل، وجمع بالواو، لأن الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب. والمعنى : أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن إيمانها وشمائلها، أي عن جانبي كل واحد منها. وشقيه استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء، أي : ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً، صاغرة منقادة لأفعال الله فيها، لا تمتنع.
﴿ مِن دَابَّةٍ ﴾ يجوز أن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً، على أنّ في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما يدب الأناسي في الأرض، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات : الخلق الذي يقال له الروح، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات : الملائكة وكرّر ذكرهم على معنى : والملائكة خصوصاً من بين الساجدين ؛ لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم. ويجوز أن يراد بما في السموات : ملائكتهنّ. وبقوله والملائكة : ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم، فإن قلت : سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم، فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد ؟ قلت : المراد بسجود المكلفين : طاعتهم وعبادتهم، وبسجود غيرهم : انقياده لإرادة الله وأنها غير ممتنعة عليها، وكلا السجودين يجمعها معنى الانقياد فلم يختلفا، فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قلت : فهلا جيء بمن دون «ما » تغليبا للعقلاء من الدواب على غيرهم ؟ قلت : لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب، فكان متناولاً للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم، إرادة العموم.
﴿ يَخَافُونَ ﴾ يجوز أن يكون حالاً من الضمير في ﴿ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي : لا يستكبرون خائفين، وأن يكون بياناً لنفي الاستكبار وتأكيداً له، لأنّ من خاف الله لم يستكبر عن عبادته ﴿ مّن فَوْقِهِمْ ﴾ إن علقته بيخافون، فمعناه : يخافونه أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه : يخافون ربهم عالياً لهم قاهراً، كقوله ﴿ وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٨، ٦١ ]، ﴿ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون ﴾ [ الأعراف : ١٢٧ ] وفيه دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد كسائر المكلفين، وأنهم بين الخوف والرجاء.
فإن قلت : إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة ؛ لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص. وأما رجل ورجلان وفرس وفرسان، فمعدودان فيهما دلالة على العدد، فلا حاجة إلى أن يقال : رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله إلهين اثنين ؟ قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين : على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنيّ به منهما، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به. ألا ترى أنك لو قلت : إنما هو إله، ولم تؤكده بواحد : لم يحسن، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية ﴿ فإياي فارهبون ﴾ نقل للكلام عن الغيبة إلى التكلم، وجاز لأنّ الغالب هو المتكلم، وهو من طريقة الالتفات، وهو أبلغ في الترهيب من قوله : وإياه فارهبوه، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم.
﴿ الدين ﴾ : الطاعة. ﴿ وَاصِبًا ﴾ : حال عمل فيه الظرف. والواصب : الواجب الثابت ؛ لأنّ كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه. ويجوز أن يكون من الوصب، أي : وله الدين ذا كلفة ومشقة، ولذلك سمي تكليفاً. أو : وله الجزاء ثابتاً دائماً سرمداً لا يزول، يعني الثواب والعقاب.
﴿ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ ﴾ وأيّ شيء حل بكم، أو اتصل بكم من نعمة، فهو من الله
﴿ فإلَيْهِ تَجْئَرُونَ ﴾ فما تتضرعون إلا إليه، والجؤار : رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. قال الأعشى يصف راهبا :
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِي | كِ طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً جُؤَارَا |
وقرىء :
«تجرون »، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم. وقرأ قتادة
«كاشف الضر » على : فاعل بمعنى فعل، وهو أقوى من كشف ؛ لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة.
فإن قلت : فما معنى قوله :﴿ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ ؟ قلت : يجوز أن يكون الخطاب في قوله :﴿ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله ﴾ عاماً، ويريد بالفريق : فريق الكفرة، وأن يكون الخطاب للمشركين. و " منكم " للبيان، لا للتبعيض، كأنه قال : فإذا فريق كافر، وهم أنتم. ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر، كقوله ﴿ فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ [ لقمان : ٣٢ ].
﴿ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم ﴾ من نعمة الكشف عنهم، كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة. ﴿ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ : تخلية ووعيد. وقرىء :«فيُمَتَّعوا »، بالياء مبنيا للمفعول، عطفا على ﴿ لِيَكْفُرُواْ ﴾. ويجوز أن يكون : ليكفروا فيمتعوا، من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية، واللام لام الأمر.
﴿ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، أي : لآلهتهم. ومعنى لا يعلمونها : أنه يسمونها آلهة، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله، وليس كذلك. وحقيقتها أنها جماد لا يضر ولا ينفع، فهم إذاً جاهلون بها، وقيل : الضمير في ﴿ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾، للآلهة. أي : لأشياء غير موصوفة بالعلم، ولا تشعر أجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا ؟ وكانوا يجعلون لهم ذلك تقرباً إليهم. ﴿ لَتُسْئَلُنَّ ﴾، وعيد. ﴿ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾، من الإفك، في زعمكم أنها آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها.
كانت خزاعة وكنانة تقول : الملائكة بنات الله. ﴿ سبحانه ﴾، تنزيه لذاته من نسبة الوالد إليه. أو تعجب من قولهم :﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾، يعني البنين. ويجوز في ﴿ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾، الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفاً على البنات، أي : وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور.
و ﴿ ظَلَّ ﴾، بمعنى : صار، كما يستعمل بات وأصبح وأمسى بمعنى الصيرورة. ويجوز أن يجيء ظل ؛ لأن أكثر الوضع يتفق بالليل، فيظل نهاره مغتما، مربد الوجه من الكآبة والحياء من الناس. ﴿ وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾، مملوء حنقاً على المرأة.
﴿ يتوارى مِنَ القوم ﴾، يستخفي منهم، ﴿ مِنْ ﴾، أجل، ﴿ سُوء ﴾، المبشر به، ومن أجل تعييرهم، ويحدث نفسه، وينظر أيمسك ما بشر به ﴿ على هُونٍ ﴾، على هوان وذل، ﴿ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التراب ﴾، أم يئده. وقرىء :«أيمسكها على هون أم يدسها »، على التأنيث. وقرىء :«على هوان ». ﴿ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ ﴾، حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف.
﴿ مَثَلُ السوء ﴾، صفة السوء : وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور، وكرهة الإناث، ووأدهن خشية الإملاق، وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ، وَلِلَّهِ المثل الأعلى } وهو الغني عن العالمين، والنزاهة عن صفات المخلوقين، وهو الجواد الكريم.
﴿ بِظُلْمِهِمْ ﴾، بكفرهم ومعاصيهم. ﴿ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا ﴾، أي : على الأرض، ﴿ مِن دَابَّةٍ ﴾، قط، ولأهلكها كلها، بشؤم ظلم الظالمين. وعن أبي هريرة : أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه، فقال : بلى والله، حتى أنّ الحباري لتموت في وكرها بظلم الظالم. وعن ابن مسعود : كاد الجعل يهلك في جحره، بذنب ابن آدم. أو من دابة ظالمة. وعن ابن عباس ﴿ مِن دَابَّةٍ ﴾، من مشرك يدب عليها. وقيل : لو أهلك الآباء بكفرهم، لم تكن الأبناء.
﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ﴾، لأنفسهم من البنات، ومن شركاء في رياستهم، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم. ويجعلون له أرذل أموالهم، ولأصنامهم أكرمها. ﴿ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ﴾، مع ذلك ﴿ أَنَّ لَهُمُ الحسنى ﴾، عند الله، كقوله ﴿ وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى ﴾ [ فصلت : ٥٠ ]. وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوي اليسار : كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى : هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم، فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة. وإذا قال : هاتوا ما دفع إليّ، فيؤتى بالكسر والخرق وما لا يؤبه له، أما تستحي من ذلك الموقف ؟ وقرأ هذه الآية وعن مجاهد :«أنّ لهم الحسنى »، هو قول قريش : لنا البنون، وأن لهم الحسنى : بدل من الكذب. وقرىء «الكذب »، جمع كذوب، صفة للألسنة. ﴿ مُّفْرَطُونَ ﴾، قرىء مفتوح الراء ومكسورها، مخففاً ومشدّداً، فالمفتوح بمعنى : مقدّمون إلى النار معجلون إليها، من أفرطت فلاناً، وفرّطته في طلب الماء، إذا قدمته. وقيل منسيون متروكون، من أفرطت فلاناً خلفي، إذا خلفته ونسيته. والمكسور المخفف : من الإفراط في المعاصي. والمشدّد : من التفريط في الطاعات وما يلزمهم.
﴿ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم ﴾، حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها. أو فهو وليهم في الدنيا، فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا. ومعنى ﴿ وَلِيُّهُمُ ﴾ : قرينهم وبئس القرين. أو يجعل ﴿ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم ﴾، حكاية للحال الآتية، وهي حال كونهم معذبين في النار، أي : فهو ناصرهم اليوم لا ناصر لهم غيره، نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه. ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، [ و ] أنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ولي هؤلاء : لأنهم منهم. ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أي : فهو ولي أمثالهم اليوم.
﴿ وَهَدَىً و رَحْمَةً ﴾، معطوفان على محل ﴿ لِتُبَيّنَ ﴾، إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما ؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب. ودخل اللام على " لتبين " ؛ لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل. وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعل فاعل الفعل المعل. والذي اختلفوا فيه : البعث ؛ لأنه كان فيهم من يؤمن به، ومنهم عبد المطلب، وأشياء من التحريم والإنكار والإقرار.
﴿ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾، سماع إنصاف وتدبر ؛ لأنّ من لم يسمع بقلبه، فكأنه أصم لا يسمع.
ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم : ثوب أكياش ؛ ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً. وأمّا
﴿ فِي بُطُونِهَا ﴾ [ المؤمنون : ٢١ ] في سورة المؤمنين : فلأنّ معناه الجمع. ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان : أحدهما : أن يكون تكسير نعم كأجبال في جبل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر، فكما يذكر
«نعم » في قوله :
في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَه | يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَتَنْتِجُونَهْ |
وإذا أنث ففيه وجهان : أنه تكسير نعم. وأنه في معنى الجمع. وقرىء :
«نَسقيكم » بالفتح والضم، وهو استئناف، كأنه قيل : كيف العبرة، فقيل نسقيكم
﴿ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ﴾، أي : يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله. قيل : إذا أكلت البهيمة العلف فاستقرّ في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثاً، وأوسطه لبناً، وأعلاه دماً. والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها، فتجري الدم في العروق، واللبن في الضرع، وتبقى الفرث في الكرش. فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل. وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم.
﴿ سَآئِغًا ﴾ : سهل المرور في الحلق، ويقال : لم يغص أحد باللبن قط. وقرىء :
«سيغاً »، بالتشديد. و
«سيغاً »، بالتخفيف. كهين ولين. فإن قلت : أي فرق بين
«من » الأولى والثانية ؟ قلت : الأولى للتبعيض ؛ لأن اللبن بعض ما في بطونها، كقولك : أخذت من مال زيد ثوباً. والثانية : لابتداء الغاية ؛ لأنّ بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ، فهو صلة لنسقيكم، كقولك : سقيته من الحوض، ويجوز أن يكون حالا من قوله :
﴿ لَّبَنًا ﴾ مقدماً عليه، فيتعلق بمحذوف، أي : كائناً من بين فرث ودم. ألا ترى أنه لو تأخر فقيل : لبناً من بين فرث ودم كان صفة له، وإنما قدم ؛ لأنه موضع العبرة، فهو قمن بالتقديم. وقد احتج بعض من يرى أن المني طاهر على من جعله نجساً، لجريه في مسلك البول بهذه الآية، وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر، كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهراً.
فإن قلت : بم تعلق قوله :
﴿ وَمِن ثمرات النخيل والأعناب ﴾ ؟ قلت : بمحذوف تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أي : من عصيرها، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه، وقوله :
﴿ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ﴾، بيان وكشف عن كنه الإسقاء. أو يتعلق بتتخذون، و " منه " من تكرير الظرف للتوكيد، كقولك : زيد في الدار فيها، ويجوز أن يكون
﴿ تَتَّخِذُونَ ﴾ صفة موصوف محذوف، كقوله :
جادت بِكَفّي كَانَ مِنْ أَرْمَى الْبَشَرْ ***
تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ؛ لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر. فإن قلت : فإلام يرجع الضمير في " منه " إذا جعلته ظرفاً مكرّراً ؟ قلت : إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير، كما رجع في قوله تعالى :
﴿ أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤ ]، إلى الأهل المحذوف، والسكر : الخمر، سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً. نحو رشد رشداً ورشداً. قال :
وَجَاؤُنَا بهِمْ سَكَرٌ عَلَيْنَا | فَأَجْلَى اليَوْمُ والسَّكْرَانُ صَاحِي |
وفيه وجهان : أحدهما أن تكون منسوخة. وممن قال بنسخها : الشعبي والنخعي. والثاني : أن يجمع بين العتاب والمنة. وقيل : السكر : النبيذ. وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتدّ، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حدّ السكر، ويحتج بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم :
«الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب »، وبأخبار جمة. ولقد صنف شيخنا أبو علي الجبائي قدّس الله روحه غير كتاب في تحليل النبيذ، فلما شيخ وأخذت منه السنّ العالية قيل له : لو شربت منه ما تتقوى به، فأبى. فقيل له : فقد صنفت في تحليله، فقال : تناولته الدعارة فسمج في المروءة. وقيل : السكر الطُعم وأنشد :
جَعَلْتُ أَعْرَاضَ الكِرَامِ سَكَرَاً *** أي تنقلت بأعراضهم. وقيل هو من الخمر، وإنه إذا ابترك في أعراض الناس، فكأنه تخمر بها. والرزق الحسن : الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك. ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً، كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن.
الإيحاء إلى النحل : إلهامها، والقذف في قلوبها، وتعليمها على وجه هو أعلم به، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه، وإلا فنيَّقتها في صنعتها، ولطفها في تدبير أمرها، وإصابتها فيما يصلحها، دلائل بينة شاهدة على أنّ الله أودعها علماً بذلك وفطنها، كما أولى أولي العقول عقولهم. وقرأ يحيى بن وثاب :﴿ إلى النحل ﴾، بفتحتين. وهو مذكر كالنحل، وتأنيثه على المعنى. ﴿ أَنِ اتخذي ﴾، هي أن المفسرة ؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. وقرىء :«بيوتاً »، بكسر الباء ؛ لأجل الياء. و ﴿ يَعْرِشُونَ ﴾، بكسر الراء وضمها : يرفعون من سقوف البيوت. وقيل : ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تتعسل فيها. والضمير في ﴿ يعرشون ﴾، للناس فإن قلت : ما معنى «من » في قوله :﴿ أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتًا وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾، وهلا قيل : في الجبال، وفي الشجر ؟ قلت : أريد معنى البعضية، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل، وكل شجر، وكل ما يعرش، ولا في كل مكان منها.
﴿ مِن كُلّ الثمرات ﴾، إحاطة بالثمرات التي تجرسها النحل، وتعتاد أكلها، أي : ابني البيوت، ثم كلي من كل ثمرة تشتهينها، فإذا أكلتها ﴿ فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ ﴾، أي : الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. أو فاسلكي ما أكلت في سبل ربك، أي : في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المرّ عسلا، من أجوافك ومنافذ مآكلك. أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها، فقد بلغني أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة. أو أراد بقوله :﴿ ثُمَّ كُلِي ﴾، ثم اقصدي أكل الثمرات، فاسلكلي في طلبها في مظانها سبل ربك، ﴿ ذُلُلاً ﴾، جمع ذلول، وهي حال من السبل ؛ لأنّ الله ذللها لها ووطأها وسهلها، كقوله :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً ﴾ [ الملك : ١٥ ] أو من الضمير في ﴿ فاسلكي ﴾ أي : وأنت ذلل، منقادة لما أمرت به غير ممتنعة، ﴿ شَرَابٌ ﴾، يريد العسل ؛ لأنه مما يشرب. ﴿ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾، منه أبيض، وأسود، وأصفر، وأحمر. ﴿ فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ ﴾ ؛ لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض، كما أن كل دواء كذلك. وتنكيره : إمّا لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء، وكلاهما محتمل. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أن رجلاً جاء إليه فقال : إن أخي يشتكي بطنه، فقال : " اذهب واسقه العسل " فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع، فقال : " اذهب واسقه عسلاً، فقد صدق الله، وكذب بطن أخيك. "، فسقاه فشفاه الله فبرأ، كأنما أنشط من عقال " وعن عبد الله بن مسعود : " العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين : القرآن والعسل " ومن بدع التأويلات الرافضة : أن المراد بالنحل علي وقومه : وعن بعضهم أنه قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم، يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم. فضحك المهدي، وحدث به المنصور، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم.
﴿ إلى أَرْذَلِ العمر ﴾، إلى أخسه وأحقره : وهو خمس وسبعون سنة عن عليّ رضي الله عنه، وتسعون سنة عن قتادة ؛ لأنه لا عمر أسوأ حالا من عمر الهرم. ﴿ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾، ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولة في النسيان، وأن يعلم شيئاً ثم يسرع في نسيانه، فلا يعلمه إن سئل عنه. وقيل : لئلا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئاً : وقيل : لئلا يعلم زيادة علم على علمه.
أي : جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم، وهم بشر مثلكم وإخوانكم، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تتساووا في الملبس والمطعم، كما يحكى عن أبي ذرّ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما هم إخوانكم، فاكسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تطعمون ". فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه، وإزاره إزاره، من غير تفاوت. ﴿ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ ﴾، فجعل ذلك من جملة جحود النعمة. وقيل : هو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء، فقال لهم : أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء ؟ !. وقيل : المعنى أنّ الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق. فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم. وقرئ :«يجحدون »، بالتاء والياء.
﴿ مّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾، من جنسكم. وقيل : هو خلق حواء من ضلع آدم. والحفدة : جمع حافد، وهو الذي يحفد، أي : يسرع في الطاعة والخدمة. ومنه قول القانت : " وإليك نسعى ونحفد " وقال :
حَفَدَ الْوَلاَئِدَ بَيْنَهُنَّ وَأُسْلِمَت | بِأَكُفِّهِنَّ أزِمَّةَ الأَجْمَالِ |
واختلف فيهم فقيل : هم الأختان على البنات، وقيل : أولاد الأولاد، وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأوّل، وقيل : المعنى : وجعل لكم حفدة، أي : خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم، ويجوز أن يراد بالحفدة : البنون أنفسهم ؛ كقوله :
﴿ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ [ النحل : ٦٧ ]، كأنه قيل : وجعل لكم منهنّ أولاداً، هم بنون، وهم حافدون، أي : جامعون بين الأمرين
﴿ مّنَ الطيبات ﴾، يريد بعضها ؛ لأنّ كل الطيبات في الجنة، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها.
﴿ أفبالباطل يُؤْمِنُونَ ﴾، وهو ما يعتقدون من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها. وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، فليس لهم إيمان إلا به، كأنه شيء معلوم مستيقن. ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز، هم كافرون بها منكرون لها، كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول. وقيل : الباطل : يسوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما. ونعمة الله : ما أحل لهم.
الرزق يكون بمعنى المصدر، وبمعنى ما يرزق، فإن أردت المصدر نصبت به ﴿ شَيْئاً ﴾، كقوله :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ.... يَتِيماً ﴾ [ البلد : ١٤ ]، على لا يملك أن يرزق شيئاً. وإن أردت المرزوق كان " شيئاً " بدلاً منه، بمعنى : قليلاً. ويجوز أن يكون تأكيداً ل " لا يملك "، أي : لا يملك شيئاً من الملك. و ﴿ مّنَ السماوات والأرض ﴾، صلة للرزق إن كان مصدراً، بمعنى : لا يرزق من السماوات مطراً، ولا من الأرض نباتاً. أو صفة إن كان اسماً لما يرزق. والضمير في ﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ لما ؛ لأنه في معنى الآلهة، بعد ما قيل ﴿ لاَ يَمْلِكُ ﴾ على اللفظ. ويجوز أن يكون للكفار، يعني : ولا يستطيع هؤلاء - مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب - من ذلك شيئاً، فكيف بالجماد الذي لا حس به ؟. فإن قلت : ما معنى قوله :( ولا يستطيعون )، بعد قوله :﴿ لاَ يَمْلِكُ ﴾ ؟ وهل هما إلا شيء واحد ؟ قلت : ليس في ﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ تقدير راجع، وإنما المعنى : لا يملكون أن يرزقوا، والاستطاعة منفية عنهم أصلا ؛ لأنهم موات، إلا أن يقدر الراجع، ويراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة للتوكيد، أو يراد : أنهم لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه، ولا يتأتى ذلك منهم ولا يستقيم.
﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال ﴾، تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به ؛ لأنّ من يضرب الأمثال مشبه حالا بحال وقصة بقصة. ﴿ أَنَّ الله يَعْلَمُ ﴾ كنه ما تفعلون وعظمه، وهو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم ؛ لأنّ العقاب على مقدار الإثم، ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ كنهه وكنه عقابه، فذاك هو الذي جرّكم إليه وجرأكم عليه، فهو تعليل للنهي عن الشرك. ويجوز أن يراد : فلا تضربوا لله الأمثال، إنّ الله يعلم كيف يضرب الأمثال، وأنتم لا تعلمون.
ثم علمهم كيف تضرب فقال : مثلكم في إشراككم بالله الأوثان : مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حرّ مالك قد رزقه الله مالاً، فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف شاء. فإن قلت : لم قال :﴿ مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَيء ﴾، وكل عبد مملوك، وغير قادر على التصرف ؟ قلت : أما ذكر المملوك فليميز من الحرّ ؛ لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً، لأنهما من عباد الله. وأما :﴿ لاَّ يَقْدِرُ على شَيء ﴾، فليجعل غير مكاتب ولا مأذون له ؛ لأنهما يقدران على التصرف. واختلفوا في العبد هل يصح له ملك ؟ والمذهب الظاهر أنه لا يصحّ له. فإن قلت :﴿ من ﴾، في قوله :﴿ وَمَن رزقناه ﴾، ما هي ؟ قلت : الظاهر أنها موصوفة، كأنه قيل : وحراً رزقناه ؛ ليطابق عبداً. ولا يمتنع أن تكون موصولة. فإن قلت : لم قيل :﴿ يَسْتَوُونَ ﴾، على الجمع ؟ قلت : معناه : هل يستوي الأحرار والعبيد ؟.
الأبكم الذي ولد أخرس، فلا يَفهم ولا يُفهم. ﴿ وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ ﴾، أي : ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله. ﴿ أَيْنَمَا يُوَجّههُّ ﴾ حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم، لم ينفع ولم يأت بنجح. ﴿ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن ﴾ هو سليم الحواس نفاعاً ذو كفايات، مع رشد وديانة، فهو ﴿ يَأْمُرُ ﴾ الناس ﴿ بالعدل ﴾ والخير، ﴿ وَهُوَ ﴾ في نفسه ﴿ على صراط مُّسْتَقِيمٍ ﴾، على سيرة صالحة ودين قويم. وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع. وقرىء :«أينما يوجه »، بمعنى : أينما يتوجه، من قولهم : أينما أوجه ألق سعداً. وقرأ ابن مسعود :«أينما يُوَجَّهَ »، على البناء للمفعول.
﴿ وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض ﴾، أي : يختصّ به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه. أو أراد بغيب السموات والأرض : يوم القيامة، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض، لم يطلع عليه أحد منهم، ﴿ إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾، أي : هو عند الله وإن تراخى، كما تقولون أنتم في الشيء الذي تستقربونه : هو كلمح البصر أو هو أقرب، إذا بالغتم في استقرابه. ونحوه قوله :﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ [ الحج : ٤٧ ]، أي : هو عنده دان وهو عندكم بعيد. وقيل : المعنى أن إقامة الساعة، وإماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، يكون في أقرب وقت وأوحاه، ﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ﴾، فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق ؛ لأنه بعض المقدورات. ثم دل على قدرته بما بعده.
قرئ :«أمهاتكم »، بضم الهمزة وكسرها، والهاء مزيدة في أمات، كما زيدت في أراق، فقيل : أهراق. وشذت زيادتها في الواحدة قال :
أُمَّهَتِي خِنْدِفٌ وَإلْيَاسُ أبي ***
﴿ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾، في موضع الحال، ومعناه : غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون، وسوّاكم وصوّركم، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة. وقوله :﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ ﴾، معناه : وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به، من شكر المنعم، وعبادته، والقيام بحقوقه، والترقي إلى ما يسعدكم. والأفئدة في فؤاد، كالأغربة في غراب، وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة، والقلة إذا لم يرد في السماع غيرها، كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير، فجرت ذلك المجرى.
قرىء :«ألم يروا »، بالتاء، والياء. ﴿ مسخرات ﴾، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك. والجوّ : الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلوّ، والسكاك أبعد منه، واللوح مثله. ﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ ﴾، في قبضهن وبسطهن ووقوفهن، ﴿ إِلاَّ الله ﴾، بقدرته.
﴿ مِن بُيُوتِكُمْ ﴾، التي تسكنونها من الحجر والمدر والأخبية وغيرها. والسكن : فعل بمعنى مفعول، وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف، ﴿ بُيُوتًا ﴾، هي : القباب والأبنية من الأدم والأنطاع، ﴿ تَسْتَخِفُّونَهَا ﴾، ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل. ﴿ يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقامتكم ﴾، أي : يوم ترحلون، خف عليكم حملها وثقلها، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان، لم يثقل عليكم ضربها. أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جيمعاً، على أنّ اليوم بمعنى الوقت، ﴿ ومتاعا ﴾، وشيئاً ينتفع به، ﴿ إلى حِينٍ ﴾، إلى أن تقضوا منه أوطاركم. أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى أن تموتوا. وقرىء :«يوم ظعنكم »، بالسكون.
﴿ مّمَّا خَلَقَ ﴾، من الشجر وسائر المستظلات، ﴿ أكنانا ﴾، جمع كنّ، وهو ما يستكنّ به من البيوت المنحوتة في الجبال والغيران والكهوف. ﴿ سَرَابِيلَ ﴾، هي القمصان والثياب من الصوف والكتان والقطن وغيرها، ﴿ تَقِيكُمُ الحر ﴾، لم يذكر البرد ؛ لأنّ الوقاية من الحرّ أهمّ عندهم، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيراً محتملاً. وقيل : ما يقي من الحرّ يقي من البرد فدل ذكر الحرّ على البرد. ﴿ وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾، يريد الدروع والجواشن، والسربال عامّ يقع على كل ما كان من حديد وغيره. ﴿ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾، أي : تنظرون في نعمه الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له. وقرىء :«تسلمون »، من السلامة : أي : تشكرون فتسلمون من العذاب. أو تسلم قلوبكم من الشرك. وقيل : تسلمون من الجراح بلبس الدروع.
﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾، فلم يقبلوا منك، فقد تمهد عذرك بعدما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ، فذكر سبب العذر وهو البلاغ ؛ ليدل على المسبب.
﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ﴾، التي عددناها حيث يعترفون بها وأنها من الله، ﴿ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ﴾، بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم : هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقيل : إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا. وقيل : قولهم لولا فلان ما أصبت كذا، لبعض نعم الله. وإنما لا يجوز التكلم بنحو هذا إذا لم يعتقد أنها من الله، وأنه أجراها على يد فلان، وجعله سبباً في نيلها، ﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون ﴾، أي : الجاحدون غير المعترفين. وقيل :«نعمة الله »، نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام، كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عناداً، وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم. فإن قلت : ما معنى ثم ؟ قلت : الدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة ؛ لأنّ حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر.
﴿ شَهِيداً ﴾، نبيهاً يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق، والكفر والتكذيب، ﴿ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ في الاعتذار، والمعنى : لا حجة لهم، فدل بترك الإذن على أن لا حجة لهم ولا عذر، وكذا عن الحسن :﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾، ولا هم يسترضون، أي : لا يقال لهم أرضوا ربكم ؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل. فإن قلت : فما معنى " ثم " هذه ؟ قلت : معناها أنهم يمنون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منها، وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة. وانتصاب اليوم بمحذوف تقديره : واذكر يوم نبعث، أو يوم نبعث، وقعوا فيما وقعوا فيه، وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم.
﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾، كقوله :﴿ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٤٠ ] الآية.
إن أرادوا بالشركاء آلهتهم، فمعنى ﴿ شُرَكَاؤُنَا ﴾ : آلهتنا التي دعوناها شركاء. وإن أرادوا الشياطين، فلأنهم شركاؤهم في الكفر وقرناؤهم في الغيّ : و ﴿ ندعو ﴾ بمعنى : نعبد. فإن قلت : لم قالوا :﴿ إِنَّكُمْ لكاذبون ﴾، وكانوا يعبدونهم على الصحة ؟ قلت : لما كانوا غير راضين بعبادتهم، فكأن عبادتهم لم تكن عبادة. والدليل عليه قول الملائكة :﴿ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن ﴾ [ سبأ : ٤١ ]، يعنون أن الجن كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، فهم المعبودون دوننا. أو كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة، تنزيها لله من الشريك. وإن أريد بالشركاء الشياطين، جاز أن يكون «كاذبين » في قولهم ﴿ إِنَّكُمْ لكاذبون ﴾، كما يقول الشيطان : إني كفرت بما أشركتموني من قبل.
﴿ وَأَلْقَوْاْ ﴾، يعني : الذين ظلموا. وإلقاء السلم : الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا. ﴿ وَضَلَّ عَنْهُم ﴾ : وبطل عنهم. ﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾، من أن لله شركاء، وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤا منهم.
﴿ الذين كَفَرُواْ ﴾، في أنفسهم، وحملوا غيرهم على الكفر : يضاعف الله عقابهم كما ضاعفوا كفرهم. وقيل : في زيادة عذابهم حيات أمثال البخت، وعقارب أمثال البغال، تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفاً. وقيل : يخرجون من النار إلى الزمهرير، فيبادرون من شدة برده إلى النار، ﴿ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ﴾ بكونهم مفسدين الناس بصدّهم عن سبيل الله.
﴿ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾، يعني نبيهم ؛ لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم. ﴿ وَجِئْنَا بِكَ ﴾ يا محمد ﴿ شَهِيدًا على هَؤُلآء ﴾، على أمتك. ﴿ تِبْيَانًا ﴾، بياناً بليغاً، ونظير «تبيان » :«تلقاء » في كسر أوله، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن. فإن قلت : كيف كان القرآن تبياناً ﴿ لّكُلّ شَيْء ﴾ ؟ قلت : المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين، حيث كان نصاً على بعضها، وإحالة على السنة، حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته. وقيل : وما ينطق عن الهوى. وحثاً على الإجماع في قوله :﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين ﴾ [ النساء : ١١٥ ]، وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم في قوله صلى الله عليه وسلم : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم ". وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤا طرق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيان الكتاب، فمن ثمّ كان تبياناً لكل شيء.
العدل هو الواجب ؛ لأن الله تعالى عدل فيه على عباده، فجعل ما فرضه عليهم واقعاً تحت طاقتهم. ﴿ والإحسان ﴾ : الندب ؛ وإنما علق أمره بهما جميعاً ؛ لأنّ الفرض لا بدّ من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لمن علمه الفرائض فقال : والله لازدت فيها ولا نقصت - : " أفلح إن صدق "، فعقد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط. وقال صلى الله عليه وسلم : " استقيموا ولن تحصوا "، فما ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل. والفواحش : ما جاوز حدود الله. ﴿ والمنكر ﴾ : ما تنكره العقول. ﴿ والبغي ﴾ : طلب التطاول بالظلم، وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، أقيمت هذه الآية مقامها. ولعمري إنها كانت فاحشة ومنكراً وبغياً، ضاعف الله لمن سنها غضباً ونكالاً وخزياً، إجابة لدعوة نبيه :«وعاد من عاداه »، وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون.
عهد الله : هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام. ﴿ إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ]. ﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ ﴾ أيمان البيعة ﴿ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾، أي : بعد توثيقها باسم الله. وأكد ووكد : لغتان فصيحتان، والأصل الواو، والهمزة بدل. ﴿ كَفِيلاً ﴾ : شاهداً ورقيباً ؛ لأن الكفيل مراع لحال المكفول به مهيمن عليه.
﴿ وَلاَ تَكُونُواْ ﴾، في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته فجعلته :﴿ أنكاثا ﴾، جمع نكث، وهو ما ينكث فتله. قيل : هي ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء، اتخذت مغزلاً قدر ذراع، وصنارة مثل أصبع، وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن. ﴿ تَتَّخِذُونَ ﴾، حال، و ﴿ دَخَلاً ﴾، أحد مفعولي اتخذ. يعني : ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلاً، ﴿ بَيْنِكُمْ ﴾، أي : مفسدة ودغلا، ﴿ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ ﴾ بسبب أن تكون أمة، يعني : جماعة قريش، ﴿ هِي أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ﴾، هي أزيد عدداً وأوفر مالاً. من أمة، من جماعة المؤمنين، ﴿ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ ﴾، الضمير لقوله : أن تكون أمة ؛ لأنه في معنى المصدر، أي : إنما يختبركم بكونهم أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوّتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم ؟ ﴿ وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ ﴾، إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام.
﴿ وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة ﴾، حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار، وهو قادر على ذلك، ﴿ ولكن ﴾ الحكمة اقتضت أن يضلّ ﴿ مَن يَشَآء ﴾، وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه. ﴿ وَيَهْدِي مَن يَشَاء ﴾، وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان. يعني : أنه بنى الأمر على الاختيار، وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب، ولم يبنه على الإجبار، الذي لا يستحق به شيء من ذلك، وحققه بقوله :﴿ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، ولو كان هو المضطرّ إلى الضلال والاهتداء، لما أثبت لهم عملا يسئلون عنه.
ثم كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بينهم، تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظم ما يركب منه، ﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ﴾، فتزلّ أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها، ﴿ وَتَذُوقُواْ السوء ﴾ في الدنيا بصدودكم ﴿ عَن سَبِيلِ الله ﴾، وخروجكم من الدين. أو بصدّكم غيركم ؛ لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدّوا، لا تخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها، ﴿ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ في الآخرة.
كان قوماً ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان - لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين، وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد - أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله، ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ ﴾ : ولا تستبدلوا ﴿ بِعَهْدِ الله ﴾ وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ : عرضاً من الدنيا يسيراً، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا. ﴿ إِنَّمَا عِنْدَ الله ﴾ من إظهاركم وتغنيمكم، ومن ثواب الآخرة، ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾.
﴿ مَا عِندَكُمْ ﴾ من أعراض الدنيا ﴿ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله ﴾ من خزائن رحمته ﴿ بَاقٍ ﴾ لا ينفد. وقرىء :«لنجزين »، بالنون والياء، ﴿ الذين صَبَرُواْ ﴾، على أذى المشركين ومشاقّ الإسلام. فإن قلت : لم وحدت القدم ونكرت ؟ قلت : لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة ؟
فإن قلت :﴿ مِنْ ﴾، متناول في نفسه للذكر والأنثى، فما معنى تبيينه بهما ؟ قلت : هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين، إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور، فقيل :﴿ مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى ﴾، على التبيين، ليعمّ الموعد النوعين جميعاً. ﴿ حياوة طَيِّبَةً ﴾، يعني : في الدنيا، وهو الظاهر، لقوله :﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ﴾، وعده الله ثواب الدنيا والآخرة، كقوله :﴿ فأتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة ﴾ [ آل عمران : ١٤٨ ]، وذلك أنّ المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً، يعيش عيشاً طيباً إن كان موسراً، فلا مقال فيه. وإن كان معسراً، فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله. وأمّا الفاجر فأمره على العكس : إن كان معسراً فلا إشكال في أمره، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه. وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحياة الطيبة : الرزق الحلال. وعن الحسن : القناعة. وعن قتادة : يعني في الجنة. وقيل : هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه.
لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه، وصل به قوله :﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله ﴾، إيذاناً بأن الاستعاذة من جمله الأعمال الصالحة التي يجزل الله عليها الثواب. والمعنى : فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، كقوله :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ﴾ [ المائدة : ٦ ]، وكقولك : إذا أكلت فسمّ الله. فإن قلت : لم عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل ؟ قلت : لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان منه بسبب قويّ وملابسة ظاهرة. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي :«يا ابن أمّ عبد، قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ ».
﴿ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ ﴾، أي : تسلط وولاية على أولياء الله، يعني : أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته.
﴿ إِنَّمَا سلطانه ﴾، على من يتولاه ويطيعه. ﴿ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾، الضمير يرجع إلى ربهم. ويجوز أن يرجع إلى الشيطان، على معنى : بسببه وغروره ووسوسته.
تبديل الآية مكان الآية : هو النسخ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع ؛ لأنها مصالح، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم، وخلافه مصلحة. والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد، فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته. وهذا معنى قوله :﴿ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمآ أَنتَ مُفْتَرٍ ﴾، وجدوا مدخلاً للطعن فطعنوا، وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ، وكانوا يقولون : إن محمداً يسخر من أصحابه : يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً، فيأتيهم بما هو أهون، ولقد افتروا، فقد كان ينسخ الأشق بالأهون، والأهون بالأشق، والأهون بالأهون، والأشق بالأشق ؛ لأنّ الغرض المصلحة، لا الهوان والمشقة. فإن قلت : هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أن القرآن إنما ينسخ بمثله، ولا يصح بغيره من السنة والإجماع والقياس ؟ قلت : فيه أن قرآناً ينسخ بمثله، وليس فيه نفي نسخه بغيره، على أن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن في إيجاب العلم، فنسخه بها كنسخه بمثله، وأمّا الإجماع والقياس والسنة غير المقطوع بها فلا يصح نسخ القرآن بها.
في ﴿ يُنَزّل ﴾ و ﴿ نَزَّلَهُ ﴾ وما فيهما من التنزيل شيئاً على حسب الحوادث والمصالح : إشارة إلى أن التبديل من باب المصالح كالتنزيل، وأن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة. و ﴿ رُوحُ القدس ﴾ : جبريل عليه السلام، أضيف إلى القدس : وهو الطهر، كما يقال : حاتم الجود، وزيد الخير، والمراد : الروح المقدّس، وحاتم الجواد، وزيد الخير. والمقدّس : المطهر من المآثم. وقرىء : بضم الدال وسكونها. ﴿ بالحق ﴾ في موضع الحال، أي : نزله ملتبساً بالحكمة، يعني أن النسخ من جملة الحق. ﴿ لِيُثَبِّتَ الذين ءَامَنُواْ ﴾، ليبلوهم بالنسخ، حتى إذا قالوا فيه : هو الحق من ربنا والحكمة، حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب، على أن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب. ﴿ وَهدىً وبشرى ﴾، مفعول لهما، معطوفان على محل " ليثبت ". والتقدير : تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم. وقرىء :«ليثبت »، بالتخفيف.
أرادوا بالبشر : غلاماً كان لحويطب بن عبد العزى، قد أسلم وحسن إسلامه، اسمه عائش أو يعيش، وكان صاحب كتب. وقيل : هو جبر، غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي. وقيل عبدان : جبر ويسار، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآن، فقالوا : يعلمانه، فقيل لأحدهما، فقال : بل هو يعلمني. وقيل : هو سلمان الفارسي. واللسان : اللغة. ويقال : ألحد القبر ولحده، وهو ملحد وملحود، إذا أمال حفره عن الاستقامة، فحفر في شق منه، ثم استعير لكل إمالة عن استقامة، فقالوا : ألحد فلان في قوله، وألحد في دينه. ومنه الملحد ؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها، لم يمله عن دين إلى دين. والمعنى : لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان ﴿ أَعْجَمِىٌّ ﴾ غير بين، ﴿ وهذا ﴾ القرآن ﴿ لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ ﴾، ذو بيان وفصاحة، ردّاً لقولهم وإبطالاً لطعنهم. وقرىء :«يلحدون »، بفتح الياء والحاء. وفي قراءة الحسن :«اللسان الذي يلحدون إليه »، بتعريف اللسان. فإن قلت : الجملة التي هي قوله :﴿ لّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ ﴾، ما محلها ؟ قلت : لا محل لها ؛ لأنها مستأنفة جواب لقولهم. ومثله قوله :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، بعد قوله :﴿ وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ].
﴿ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَات الله ﴾، أي : يعلم الله منهم أنهم لا يؤمنون، ﴿ لاَ يهديهم الله ﴾، لا يلطف بهم ؛ لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة، لا من أهل اللطف والثواب.
﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ ﴾، ردّ لقولهم ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ﴾ [ النحل : ١٠١ ]، يعني : إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ؛ لأنه لا يترقب عقاباً عليه، ﴿ وَأُوْلئِكَ ﴾ إشارة إلى قريش، ﴿ هُمُ الكاذبون ﴾، أي : هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون، أو إلى الذين لا يؤمنون. أي : أولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب ؛ لأنّ تكذيب آيات الله أعظم الكذب : أو أولئك هم الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء، لا تحجبهم عنه مروءة ولا دين. أو أولئك هم الكاذبون في قولهم :﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ﴾ [ النحل : ١٠١ ].
﴿ مَن كَفَرَ ﴾، بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله، على أن يجعل :﴿ وَأُوْلئِكَ هُمُ الكاذبون ﴾ [ النحل : ١٠٥ ]، اعتراضاً بين البدل والمبدل منه. والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء، ثم قال :﴿ ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ﴾، أي : طاب به نفساً واعتقده، ﴿ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله ﴾، ويجوز أن يكون بدلاً من المبتدأ الذي هو :﴿ أولئك ﴾، على : ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون. أو من الخبر الذي هو الكاذبون، على : وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه. ويجوز أن ينتصب على الذمّ. وقد جوّزوا أن يكون :﴿ مَن كَفَرَ بالله ﴾، شرطاً مبتدأ، ويحذف جوابه ؛ لأن جواب :﴿ مَّن شَرَحَ ﴾ دال عليه، كأنه قيل : من كفر بالله فعليهم غضب، إلا من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب، روي أنّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمار، وأبواه - ياسر وسمية - وصهيب، وبلال، وخباب، وسالم : عذبوا، فأمّا سمية فقد ربطت بين بعيرين ووجىء في قبلها بحربة، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت، وقتل ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرهاً. فقيل : يا رسول الله، إن عماراً كفر، فقال :«كلا، إنّ عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه » فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال :«ما لك ! إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ». ومنهم جبر مولى الحضرمي. أكرهه سيده فكفر، ثم أسلم مولاه وأسلم، وحسن إسلامهما، وهاجرا فإن قلت : أي الأمرين أفضل، أفعل عمار أم فعل أبويه ؟ قلت : بل فعل أبويه ؛ لأنّ في ترك التقية والصبر على القتل إعزازاً للإسلام. وقد روي : أنّ مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله. قال : فما تقول فيّ ؟ قال أنت أيضاً، فخلاه. وقال للآخر : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله. قال : فما تقول فيّ ؟ قال أنا أصمّ. فأعاد عليه ثلاثاً، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أما الأوّل فقد أخذ برخصة الله. وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له ".
﴿ ذلك ﴾، إشارة إلى الوعيد، وأنّ الغضب والعذاب يلحقانهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة، واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم.
﴿ وأولئك هُمُ الغافلون ﴾، الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم ؛ لأنّ الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها.
﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ ﴾، دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك، وهم عمار وأصحابه. ومعنى : إنّ ربك لهم، أنه لهم لا عليهم، بمعنى أنه وليهم وناصرهم لا عدوّهم وخاذلهم، كما يكون الملك للرجل لا عليه، فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور، ﴿ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ﴾، بالعذاب والإكراه على الكفر. وقرىء :«فتنوا » على البناء للفاعل، أي : بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه، ﴿ مِن بَعْدِهَا ﴾، من بعد هذه الأفعال، وهي الهجرة والجهاد والصبر.
﴿ يَوْمَ تَأْتِي ﴾، منصوب برحيم. أو بإضمار " اذكر ". فإن قلت : ما معنى النفس المضافة إلى النفس ؟ قلت : يقال لعين الشيء وذاته نفسه، وفي نقيضه غيره، والنفس الجملة كما هي، فالنفس الأولى هي الجملة، والثانية عينها وذاتها، فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كل يقول : نفسي نفسي. ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار عنها كقوله :﴿ هَؤُلاء أَضَلُّونَا ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، ﴿ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] ونحو ذلك.
﴿ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً ﴾، أي : جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته. فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون في قرى الأوّلين قرية كانت هذه حالها، فضربها الله مثلا لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها،
﴿ مُّطْمَئِنَّةً ﴾، لا يزعجها خوف ؛ لأن الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلق مع الخوف،
﴿ رَغَدًا ﴾، واسعاً. والأنعم : جمع نعمة، على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع. أو جمع نعم، كبؤس وأبؤس. وفي الحديث : نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم بالموسم بمنى : " إنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا "، فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحتهما ؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار، فما وجه صحة إيقاعها عليه ؟ قلت : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمسّ الناس منها، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب : شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المرّ والبشع. وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس : ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل : فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في نحو هذا طريقان لا بد من الإحاطة بهما، فإن الاستنكار لا يقع إلا لمن فقدهما، أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظر إليه ههنا. ونحوه قول كثير :
غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكا | غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ المَالِ |
استعارة الرداء للمعروف ؛ لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه. ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا صفة الرداء، نظر إلى المستعار له. والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار، كقوله :
يُنَازِعُنِي رِدَائِي عَبْدُ عَمْرو | رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرو بْنِ بَكْر |
ليَ الشطْرُ الَّذِي مَلَكَتْ يَمِيِني | وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ |
أراد بردائه سيفه، ثم قال : فاعتجر منه بشطر، فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لباس الجوع والخوف، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً.
﴿ وَهُمْ ظالمون ﴾، في حال التباسهم بالظلم، كقوله :( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم )، نعوذ بالله من مفاجأة النقمة والموت على الغفلة. وقرىء :«والخوف »، عطفاً على اللباس، أو على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. أصله : ولباس الخوف. وقرىء :«لباس الخوف والجوع ».
لما وعظهم بما ذكر من حال القرية وما أوتيت به من كفرها وسوء صنيعها، وصل بذلك بالفاء في قوله :﴿ فَكُلُواْ ﴾، صدّهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة التي كانوا عليها، بأن أمرهم بأكل ما رزقهم الله من الحلال الطيب، وشكر إنعامه بذلك، وقال :﴿ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾، يعني : تطيعون. أو إن صحّ زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة ؛ لأنها شفعاؤكم عنده.
ثم عدد عليهم محرمات الله، ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم، دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه.
وانتصاب ﴿ الكذب ﴾ ب " لا تقولوا "، على : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم :﴿ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا ﴾ [ الأنعام : ١٣٩ ]، من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله أو إلى قياس مستند إليه، واللام مثلها في قولك : ولا تقولوا لما أحل الله هو حرام. وقوله :﴿ هذا حلال وهذا حَرَامٌ ﴾، بدل من الكذب. ويجوز أن يتعلق ب " تصف " على إرادة القول، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم، فتقول هذا حلال وهذا حرام. ولك أن تنصب الكذب ب " تصف "، وتجعل «ما » مصدرية، وتعلق ﴿ هذا حلال وهذا حَرَامٌ ﴾، بلا تقولوا : على ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب، أي : لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم، لا لأجل حجة وبينة، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة. فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب ؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصوّرته بصورته، كقولهم : وجهها يصف الجمال. وعينها تصف السحر. وقرىء :«الكذب » بالجرّ صفة لما المصدرية، كأنه قيل : لوصفها الكذب، بمعنى الكاذب، كقوله تعالى :﴿ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ]، والمراد بالوصف : وصفها البهائم بالحل والحرمة. وقرىء :«الكذب »، جمع كذوب بالرفع، صفة للألسنة، وبالنصب على الشتم. أو بمعنى : الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذاب من قولك : كذب كذاباً، ذكره ابن جني. واللام في :﴿ لّتَفْتَرُواْ ﴾، من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض.
﴿ متاع قَلِيلٌ ﴾، خبر مبتدأ محذوف، أي : منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة، وعقابها عظيم.
﴿ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ ﴾، يعني : في سورة الأنعام.
﴿ بِجَهَالَةٍ ﴾ في موضع الحال، أي : عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم. ﴿ مِن بَعْدِهَا ﴾، من بعد التوبة.
﴿ كَانَ أُمَّةً ﴾، فيه وجهان، أحدهما : أنه كان وحده أمّة من الأمم ؛ لكماله في جميع صفات الخير كقوله :
وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ | أنْ يَجْمَع الْعَالَمَ في وَاحِدِ |
وعن مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار. والثاني : أن يكون أمّة بمعنى مأموم، أي : يؤمّه الناس ليأخذوا منه الخير، أو بمعنى مؤتم به كالرحلة والنخبة، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول، فيكون مثل قوله :
﴿ قَالَ إِنّي جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]، وروى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي عن ابن مسعود أنه قال : إنّ معاذاً كان أمّة قانتاً لله، فقلت : غلطت، إنما هو إبراهيم. فقال : الأمّة الذي يعلم الخير. والقانت المطيع لله ورسوله، وكان معاذ كذلك. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال - حين قيل له : ألا تستخلف ؟ - : لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته : ولو كان معاذ حياً لاستخلفته. ولو كان سالم حياً لاستخلفته فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
«أبو عبيدة أمين هذه الأمّة، ومعاذ أمّة قانت لله، ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون، وسالم شديد الحب لله، لو كان لا يخاف الله لم يعصه »، وهو ذلك المعنى، أي : كان إماماً في الدين ؛ لأنّ الأئمة معلموا الخير. والقانت : القائم بما أمره الله. والحنيف : المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه. ونفى عنه الشرك تكذيباً لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم.
﴿ شَاكِراً لأنْعُمِهِ ﴾، روي أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفاً، فأخر غداءه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أنّ بهم جذاماً ؟ فقال : الآن وجبت مواكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم. ﴿ اجتباه ﴾، اختصه واصطفاه للنبوّة، ﴿ وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ ﴾، إلى ملة الإسلام.
﴿ حَسَنَةٌ ﴾، عن قتادة : هي تنويه الله بذكره، حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه. وقيل : الأموال والأولاد، وقيل : قول المصلي منا : كما صليت على إبراهيم ﴿ لَمِنَ الصالحين ﴾، لمن أهل الجنة.
﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾، في «ثم » هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأنّ أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم من الكرامة، وأجلّ ما أولي من النعمة : اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته. من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها.
﴿ السبت ﴾، مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها. إنما جعل وبال السبت وهو المسخ ﴿ على الذين اختلفوا فِيهِ ﴾، واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فية تارة وحرّموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة، بعد ما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه وتعظيمه. والمعنى في ذكر ذلك، نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلاً، وغير ما ذكر، وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته. فإن قلت : ما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرّمين ؟ قلت : معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرّمين أخرى ووجه آخر : وهو أنّ موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة وأن يكون يوم الجمعة، فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة، فهذا اختلافهم في السبت ؛ لأن بعضهم اختاره وبعضهم اختار عليه الجمعة، فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة، فكانوا لا يصيدون فيه، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك، وهو يحكم ﴿ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة ﴾، فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه. ومعنى جعل السبت : فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه. وقرىء :«إنما جعل السبت »، على البناء للفاعل، وقرأ عبد الله :«إنا أنزلنا السبت ».
﴿ إلى سَبِيلِ رَبّكَ ﴾، إلى الإسلام، ﴿ بالحكمة ﴾، بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة، ﴿ والموعظة الحسنة ﴾، وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها. ويجوزأن يريد القرآن، أي : ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، ﴿ وجادلهم بالتي هِىَ أَحْسَنُ ﴾، بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين، من غير فظاظة ولا تعنيف، ﴿ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ﴾ بهم ؛ فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، وكأنك تضرب منه في حديد بارد.
سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة. والمعنى : إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه. وقرىء :«وإن عقبتم فعقبوا »، أي : وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم. روي أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد : بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم، ما تركوا أحداً غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به، وروي : فرآه مبقور البطن فقال : " أما والذي أحلف به، لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك "، فنزلت، فكفر عن يمينه وكفّ عما أراده، ولا خلاف في تحريم المثلة. وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور. إما أن يرجع الضمير في :﴿ لَهُوَ ﴾، إلى صبرهم وهو مصدر صبرتم. ويراد بالصابرين : المخاطبون، أي : ولئن صبرتم لصبركم خير لكم، فوضع الصابرون موضع الضمير ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد. أو وصفهم بالصفة التي تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة. وإما أن يرجع إلى جنس الصبر - وقد دل عليه صبرتم - ويراد بالصابرين جنسهم، كأنه قيل : وللصبر خير وللصابرين ونحوه قوله تعالى :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]. ﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ]، ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿ واصبر ﴾ أنت، فعزم عليه بالصبر، ﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله ﴾، أي : بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبك، ﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾، أي : على الكافرين، كقوله :﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين ﴾ [ المائدة : ٦٨ ]، أو على المؤمنين وما فعل بهم الكافرون، ﴿ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ ﴾، وقرىء :«ولا تكن في ضيق »، أي : ولا يضيقن صدرك من مكرهم والضيق : تخفيف الضيق، أي : في أمر ضيق. ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين، كالقيل والقول.
﴿ إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا ﴾، أي : هو وليّ الذين اجتنبوا المعاصي، ﴿ و ﴾ ولي ﴿ الذين هُمْ مُّحْسِنُونَ ﴾ في أعمالهم. وعن هرم ابن حيان أنه قيل له حين احتضر : أوص. فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي، وأوصيكم بخواتم سورة النحل.