تفسير سورة النّور

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة النور من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ النُّورِ
مدنية، وآيها: أربع وستون آية، وحروفها: خمسة آلاف وست مئة وثمانون حرفًا، وكلمها: ألف وثلاث مئة وست عشرة كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)﴾.
[١] ﴿سُورَةٌ﴾ خبر ابتداء مضمر، تقديره: هذه السورة.
﴿أَنْزَلْنَاهَا﴾ صفتها.
﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (وَفَرَّضنَاهَا) بتشديد الراء؛ أي: فصَّلنا وبَيَّنا ما فيها من الأحكام، والتشديد للتكثير، لكثرة ما فيها من الفرائض، وقرأ الباقون: بالتخفيف (١)؛ أي: أوجبنا ما فيها من الحدود والأحكام، وألزمناكم العملَ بها.
﴿وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ﴾ بالأمر والنهي ﴿بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ تتعظون. قرأ
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٦٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٣).
حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَذَكَّرُونَ) بتخفيف الذال حيث وقع، والباقون: بالتشديد (١).
...
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)﴾.
[٢] ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ مبتدأ خبره ﴿فَاجْلِدُوا﴾ فاضربوا.
﴿كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ يعني: إذا كانا حرَّين بالغين عاقلين بكرين غير محصنين، وأما إذا كانا ثيبِّين، فعليهما الرجم بغير جلد بالاتفاق، والرجم بالحجارة حتى يموت، وشرائط الإحصان الموجب للرجم إذا زنى بعد وجودها فيه أربعة: العقل، والحرية، والبلوغ، والوطء في نكاح صحيح عند الشافعي وأحمد، ولم يشترطا (٢) الإسلام؛ خلافًا لأبي حنيفة ومالك؛ فإن الإسلام عندهما شرط، فتكون الشرائط عندهما خمسة، ولا يُحفر لرجم الرجل بالاتفاق، ولا للمرأة عند مالك وأحمد، ويحفر لها عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: إن ثبت عليها بالبينة، استحب أن يحفر لها، وإن ثبت بإقرارها، لم يحفر لها (٣)، وتقدم في سورة النساء الكلام على حكم الزنا والجلد والتغريب في حق الحر والرقيق، وثبوته بالإقرار والبينة،
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٤).
(٢) في "ش": "يشترط".
(٣) "وإن ثبت بإقرارها لم يحفر لها" زيادة من "ت".
502
واختلاف الأئمة في ذلك مستوفًى عند تفسير قوله تعالى: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ [الآية: ١٥]، وعند قوله تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [الآية؛ ٢٥]، وقدم الزانية؛ لأن الزنا في الأغلب يكون بتعرضها للرجل، وعرض نفسها عليه.
﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ﴾ قرأ قنبل عن ابن كثير: (رَأَفَةٌ) بفتح الهمزة، واختلف عن البزي، وقرأ الباقون: بإسكانها (١)، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وورش: يبدلون الهمز بالألف على أصلهم، وأبو عمرو يدغم التاء في الجيم من قوله: (مِئَة جَّلْدَةٍ) (٢)، والرأفة: أرق الرحمة؛ أي: لا تخففوا جلدهما رأفة بهما، ولكن تصلَّبوا ﴿فِي دِينِ اللَّهِ﴾ في حكمه، وأوجعوهما ضربًا، وأقيموا حدوده كما أمركم.
﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ اقتداءً برسول الله - ﷺ -، لأنه قال: "والله لو سرقَتْ فاطمةُ بنتُ محمدٍ، لقطعتُ يدها" (٣)، فتجب إقامة الحد على من لزمه بالاتفاق، ويُضرب الرجل قائمًا عند الثلاثة، وعند مالك: جالسًا، وأما المرأة، فتضرب جالسة باتفاقهم، وسوط الحد عند الشافعي ما بين قضيب وعصا رطب ويابس، وعند الثلاثة: يضرب بسوط لا جديد
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٦٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٤).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٤).
(٣) رواه البخاري (٣٢٨٨)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (١٦٨٨)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود، عن عائشة -رضي الله عنها-.
503
ولا خَلَق، ويجرد الرجل من ثيابه عند أبي حنيفة ومالك، وأما المرأة عندهما: ينزع عنها من الثياب ما يقيها ألم الضرب؛ مثل الفراء ونحوها، وعند الشافعي: لا يجرد، وعند أحمد: يكون على الرجل القميص والقميصان، والمرأة تشد عليها ثيابها، وأما الضرب، فلا يبالَغ فيه بحيث يشق الجلد، ويُفرق على أعضائه، إلا الوجه والفرج وموضع المقتل بالاتفاق.
واختلفوا في أشد الجلد، فقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب، ثم الزنا، ثم الشرب، ثم القذف، وقال مالك والشافعي؛ الجلد في الحدود كلها سواء، وقال أحمد: أشده الزنا، ثم القذف، ثم الشرب، ثم التعزير.
واختلفوا في الذمي إذا زنى وهو حر بالغ عاقل (١) قد كان تزوج ووطئ في التزويج الصحيح، فقال أبو حنيفة ومالك: لا يرجم؛ لأن عندهما لا يتصور الإحصان في حقه؛ لأن الإسلام من شروط الإحصان عندهما كما تقدم، ويجلد مئة عند أبي حنيفة، وعند مالك يعاقبه الإمام اجتهادًا، وعند الشافعي وأحمد هو محصن، وليس الإسلام من شروط الإحصان، وعليه الرجم عندهما، وأما إذا كان غير محصن، فإنه يحد للزنا عند الثلاثة، وقال مالك: لا يحد.
﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا﴾ وليحضر حدّهما إذا أقيم عليهما.
﴿طَائِفَةٌ﴾ فرقة ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ زيادة في التنكيل بالتفضيح، قال مالك: ينبغي للإمام أن يُحضر في حد الزنا طائفة من المؤمنين الأحرار العدول، والطائفة أربعة فصاعدًا، وقال أحمد: يجب حضور إمام أو نائبه
(١) في "ت": "بالغ عاقل حر".
504
وطائفة، ولو واحدًا، ويسن حضور شهوده، وبدأتهم بالرجم إن كان الحد رجمًا، وقال الشافعي: يستحب حضور الإمام وشهوده، وقال أبو حنيفة: للإمام أن يحضره، ويجوز أن يبعث بأمين، ويأمره بإقامة الحد، ويبدأ الشهود برجم المحصن، ثم الإمام، ثم الناس إن ثبت بالبينة، وإن ثبت بالإقرار، ابتدأه (١) الإمام، ثم الناس.
وفي الحديث: "اتقوا الزنا؛ فإن فيه ستَّ خصال: ثلاث في الدنيا: يذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وثلاث في الآخرة: السخطة، وسوء الحساب، والخلود في النار" (٢).
...
﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)﴾.
[٣] ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ نزلت في قوم فقراء من المهاجرين هموا أن يتزوجوا بغاياكُنَّ بالمدينة، فأنزل الله عز وجل تحريمه (٣)؛ لأنهن كن زانيات ومشركات، وبين أنه لا يتزوج بهن إلا زان أو مشرك، وأن ذلك حرام على
(١) في "ت": "ابتدأ".
(٢) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٤/ ١١٨٣)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (٦/ ٣١٧)، وابن حبان في "المجروحين" (١/ ٩٨)، عن حذيفة -رضي الله عنه-.
(٣) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (٨/ ٢٥٢٢)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٧٨ - ١٨٠).
المؤمنين، وإن كان ظاهر الآية خبر، فهو بمعنى النهي، وقيل غير ذلك.
...
﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤)﴾.
[٤] ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ قرأ الكسائي: (الْمُحْصِنَاتِ) بكسر الصاد حيث وقع، والباقون: بالفتح (١)، المعنى: الذين يقذفون بالزنا المسلمات الحرائر العفائف.
﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ يشهدون على زناهن.
﴿فَاجْلِدُوهُمْ﴾ اضربوهم ﴿ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ قرأ أبو عمرو: (بِأَرْبَعَة شُّهَدَاءَ) بإدغام التاء في الشين في هذا الحرف والذي بعده (٢)، والقذف: هو الرمي بالزنا، أو لواطٍ، أو شهادةٍ عليه، ولم تكمل البينة، فكل من رمى محصنًا أو محصنة بالزنا، فقال: زنيت، أو يا زاني، فإن أقر المقذوف بالزنا، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه، سقط الحد عن القاذف، وترتب الحكم على المقذوف، كما تقدم الكلام عليه مستوفًى في سورة النساء، وإن أنكر المقذوف، ولم يقم القاذف البينة، وجب عليه الحد، وهو ثمانون جلدة إن كان القاذف حرًّا، وأربعون إن كان عبدًا بالاتفاق، إن كان المقذوف محصنًا، فإن كان غير محصن، فعلى القاذف التعزير.
والإحصان: أن يكون حرًّا مسلمًا عاقلًا عفيفًا عن الزنا بالاتفاق، وهل
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٥).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٦).
يشترط بلوغه؟ قال أحمد: لا يشترط إذا كان مثلُه يجامع، وقال الثلاثة: يشترط، ومالك يحد قاذف الصبية التي يوطأ مثلها، ولا يحد قاذف الصبي الذي يطأ مثلُه.
وهل هو حق لله أو للآدمي؟ قال أبو حنيفة: هو حق لله، فلا يصح العفو عنه، لكن لو عفا المقذوف لا يحد القاذف، لا لصحة عفوه، بل لترك طلبه، حتى لو عاد فطلب، يحد، وقال مالك: لا بأس بعفو المقذوف عن قاذفه قبل بلوغ الإمام، ولا يجوز عفوه بعد ذلك، إلا أن يريد ستر نفسه، وقال الشافعي وأحمد: هو حق للآدمي يسقط بعفوه.
﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾ إذا شهدوا.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ لأنهم فسقوا برمي المحصنة.
...
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)﴾.
[٥] ثم استثنى منه ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ القذف.
﴿وَأَصْلَحُوا﴾ حالهم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
واختلفوا في قبول شهادة القاذف بعد إقامة الحد عليه إذا تاب، فقال أبو حنيفة: لا تقبل شهادة المحدود فيه، وإن تاب عن جريمة القذف، لكن لا يرد شهادته بنفس القذف، وإنما يردها بإقامة الحد، ومالك والشافعي وأحمد يردون شهادته بنفس القذف، وقالوا: تقبل شهادته بعد التوبة، سواء كانت قبل الحد أو بعده، وصفتها عند الشافعي: أن يقول: قذفي باطل، وأنا نادم، ولا أعود إليه، وعند مالك وأحمد: توبته أن يكذِّب نفسه، إلا أن مالكًا اشترط مع التوبة بعد الحد ألَّا تقبل شهادته في مثل الحد الذي أقيم
عليه، ودليل أبي حنيفة على عدم قبول شهادته على التأبيد قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾، وذكره بالتأبيد يدل على أنها لا تقبل في كل حال، والاستثناء منصرف إلى ما يليه، وهو قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾، ومن قال بقبول شهادته إذا تاب، قال: لأن الله تعالى استثنى التائبين عقب النهي بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾.
...
﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦)﴾.
[٦] ولما نزلت هذه الآية في الذين يرمون المحصنات، تناول ظاهرها الأزواج وغيرهن، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله! إن وجدتُ مع امرأتي رجلًا، أُمهله حتى آتي بأربعة شهداء! واللهِ لأضربنه بالسيف غير مصفح، فقال رسول الله - ﷺ -: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ مني" (١)، ثم جاء بعد ذلك هلال بن أمية إلى النبي - ﷺ -، فرمى زوجته خولة بشريك بن سمحاء، فعزم النبي - ﷺ - على ضربه حد القذف، فنزل قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ (٢) أي: يقذفون نساءهم ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ﴾ يشهدون على صحة ما قالوا ﴿إِلَّا أَنْفُسُهُمْ﴾ أي: غيرُ أنفسهم. واختلاف
(١) رواه البخاري (٦٤٥٤)، كتاب: المحاربين، باب: من رأى مع امرأته رجلًا فقتله، مسلم (١٤٩٩)، كتاب: اللعان.
(٢) رواه البخاري (٤٤٧١)، كتاب: التفسير، باب: ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ﴾، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
القراء في الهمزتين من (شُهَدَاءُ إِلَّا) كاختلافهم فيهما من ﴿نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ في سورة الحج.
﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ﴾ ليدرأ عنه الحد ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ) برفع العين على خبر الابتداء (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) التي تدرأ الحد (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ)، وقرأ الباقون: بالنصب؛ أي: فشهادة أحدهم أن يشهدَ أربعَ شهادات بالله (١).
﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ أي: يلعن الزوج نفسه.
﴿إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فيما قذف زوجته به من الزنا، قرأ نافع، ويعقوب: (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) بإسكان النون مخففة، ورفع (لَعْنَتُ)، وقرأ الباقون: بنصبها مشددة، ونصب (لَعْنَتَ)، و (لعنت) (٢) رسمت بالتاء، ووقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب (٣).
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٦٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٦).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦١)، و"المحتسب" لابن جني (٢/ ١٠٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٦٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٧).
(٣) سلفت عند تفسير الآية (٦١) من سورة آل عمران.
﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (٨)﴾.
[٨] ﴿وَيَدْرَأُ﴾ أي: يدفع ﴿عَنْهَا الْعَذَابَ﴾ أي: حد الزنا.
﴿أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فيما قذفها به.
...
﴿وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فيما رماني به. قرأ حفص عن عاصم (وَالْخَامِسَةَ) بالنصب؛ أي: وتشهد الشهادة الخامسة، والباقون: بالرفع على الابتداء، وخبره في (أن) كالأولى (١)، وقرأ نافع، ويعقوب: بإسكان النون مخففة كالأولى، والباقون: بنصبها مشددة، واختص نافع بكسر الضاد وفتح الباء من (غَضِبَ) على الفعل الماضي، ورفع الجلالة بعده، واختص يعقوب برفع الباء من (غَضَبُ)، وقرأ الباقون: بنصب الضاد والباء على الاسم (٢).
...
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ وجوابه
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٦٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٧).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٦٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٨).
510
محذوف للتعظيم؛ أي: لعذبكم، ولكشف الزناة بأيسر من هذا.
فلما نزلت الآية، جمعهما رسول الله في المسجد، وتلاعنا، فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت، وقيل لها: إنها موجبة، ثم قالت: لا أفضحُ قومي سائرَ اليوم، فمضت، وفرق رسول الله - ﷺ - بينهما، وولدت غلامًا أشبهَ خلقِ الله بشريك، ثم كان الغلام بعد ذلك أميرًا بمصر، وهو لا يعرف لنفسه أبًا.
وأما حكم الآية، فإنه إذا قذف الرجل المكلف امرأته المحصنة؛ أي: البالغة العاقلة الحرة المسلمة العفيفة بالزنا، وجب عليه الحد إن طلبت، وله إسقاط الحد باللعان، وهو شرعًا: شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين، مقرونة باللعن والغضب، قائمة مقام حد قذف في جانبه، وحد زنا في جانبها، وصفته: أن يبدأ الزوج فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنا، ويشير إليها، وإن لم تكن حاضرة، سماها، ونسبها حتى يكمل أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: و ﴿أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فيما رميتها به من الزنا، فيلزمها حينئذ الحد، ويدرأ عنها بأن تقول هي: أشهد بالله أنه من الكاذبين فيما رماني به من الزنا، أربع مرات، ثم تقول في الخامسة: و ﴿أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فيما رماني به من الزنا، فإن لاعنت المرأة قبل الزوج، اعتد به عند أبي حنيفة؛ لأن المقصود تلاعنهما، وقد وجد، وقال الثلاثة: لا يعتد به؛ لأنه على غير الترتيب المشروع.
ويكون اللعان وهما قائمان بحضور الحاكم وجماعة في الأوقات والأماكن المعظمة، وإذا بلغ كل منهما الخامسة، وعظه الحاكم،
511
فيقول: اتق الله؛ فإنها الموجبة للعذاب، وعذابُ الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
ويصح اللعان بين الزوجين، ولو كانا ذميين أو رقيقين أو فاسقين عند الثلاثة، وقال أبو حنيفة: يشترط أن يكونا من أهل الشهادة؛ بأن يكونا حرين مسلمين (١) عاقلين بالغين غير محدودين في قذف، فإن لم يكن الزوج كذلك، فعليه الحد؛ لأن اللعان امتنع لمعنىً في جهته، فرجع إلى الموجب الأصلي.
وإن نفى الولد في التعانه، انتفى بالاتفاق، ما لم يكن أقر به، ومالك يشترط استبراءها بحيضة وعدم وطئها بعد الاستبراء، فإن لاعن، ونكلت، حبست حتى تقر أربعًا، أو تلاعن عند أبي حنيفة وأحمد، وعند مالك والشافعي إذا امتنعت من اللعان، حدت للزنا، فجلدت إن كانت بكرًا، وكانت على نكاحه، إلا أن يطلقها، وإن كانت ثيبًا، رجمت، واستحق الميراث منها، فإذا تم اللعان بينهما، سقط عنه الحد، ووقعت الفرقة والتحريم بينهما أبدًا عند مالك وأحمد، ولا يفتقر إلى تفريق الحاكم عندهما، وعند الشافعي تقع الفرقة المؤبدة بمجرد لعانه، وعند أبي حنيفة يشترط تفريق الحاكم بينهما بعد التعانهما، والفرقة طلقة بائنة عند أبي حنيفة، فلو أكذب نفسه، حُدَّ، وله أن ينكحها، وعند الثلاثة وأبي يوسف هي فسخ، ولا تحل له، ولو أكذب نفسه، والله أعلم.
...
(١) "مسلمين" زيادة من "ت".
512
﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١)﴾.
[١١] ولما خرج رسول الله - ﷺ - إلى غزوة بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع في سنة ست من الهجرة الشريفة، ومعه عائشة رضي الله عنها، وقعت قصة الإفك في تلك الغزوة، وهي قذف عائشة بصفوان بن المعطل، وكان صفوان حصورًا لا يأتي النساء.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله، فو الذي نفسي بيده! ما كشفت من كَنَفِ أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله"، والقصة مشهورة في الحديث الشريف، فنزل قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ﴾ (١) هو سوء الكذب ﴿عُصْبَةٌ﴾ جماعة ﴿مِنْكُمْ﴾ يعني: عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، ومِسطح، وحسان بن ثابت، وحَمْنة بنتُ جحش، وغيرهم.
﴿لَا تَحْسَبُوهُ﴾ أي: الإفك، والخطاب لعائشة وأهلها وصفوان.
﴿شَرًّا لَكُمْ﴾ قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر: (تَحْسَبُوهُ)
(١) رواه البخاري (٣٩١٠)، كتاب: المغازي، باب: حديث الإفك، ومسلم (٢٧٧٠)، كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف، عن عائشة -رضي الله عنها-.
513
و (تَحْسَبُونَهُ) (يَحْسَبُهُ) (يَحْسَبُ) كيف أتى مستقبلًا بفتح السين، والباقون: بالكسر (١).
﴿بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ بأن تثابوا، وتظهر براءتكم ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ﴾ يعني: من العُصبة الكاذبة ﴿مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾ جزاء ما اجترح من الذنب.
﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ﴾ قرأ يعقوب: بضم الكاف، والباقون: بكسرها، وهما لغتان (٢)، المعنى: والذي تحمل معظم الإفك من الأفاكين هو عبد الله بن أبيّ.
﴿لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أما ابن أُبي، فمات منافقًا، وأما حسان، فعمي بعد ذلك.
وعن مسروق قال: "دخلنا على عائشة، وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرًا يشبب بأبيات له، وقال:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحْومِ الْغَوَافِلِ
فقالت عائشة: لكنك ليس كذلك، قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له أن يدخل عليك، وقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فقالت: أي عذاب أشدُّ من العمى؟! وقالت: إنه كان ينافح ويُهاجي عن رسول الله - ﷺ - " (٣).
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٨).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٣٧٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٩).
(٣) رواه البخاري (٣٩١٥)، كتاب: المغازي، باب: حديث الإفك، ومسلم =
514
وروي عنها أنها قالت: "ما سمعت شعره إلا رجوت له الجنة" (١).
وروي: أن النبي - ﷺ - أمر بالذين رموا عائشة، فجلدوا الحد جميعًا ثمانين ثمانين (٢).
...
﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢)﴾.
[١٢] ثم وبخ الخائضين فقال: ﴿لَوْلَا﴾ أي: هَلَّا.
﴿إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ يعني: الإفك.
﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ﴾ بأمهاتهم ﴿خَيْرًا﴾ المعنى: هلا ظننتم أيها المؤمنون بالذين هم كأنفسكم خيرًا، والمؤمنون كلهم كالنفس الواحدة، نظيره ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩].
﴿وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ كذب ظاهر، وسمي الإفك إفكًا؛ لكونه
= (٢٤٨٨)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت -رضي الله عنه-. قال ابن كثير في "تفسيره" (٣/ ٢٧٣): "الأكثرون على أن المراد بذلك، يعني: الذي تولى كبر الإفك، إنما هو عبد الله بن أبي سلول قبَّحه الله ولعنه، وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث، وقال ذلك مجاهد وغير واحد. وقيل: المراد به حسان بن ثابت وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك، لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أنه كان يذبُّ عن رسول الله - ﷺ - بشعره".
(١) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (١٨/ ٨٨).
(٢) انظر: "المعجم الكبير" للطبراني (٢٣/ ١١٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٧٩).
مصروفًا عن الحق؛ من قولهم: أفكَ الشيءَ: إذا قلبه عن وجهه، وذلك أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة والشرف، فمن رماها بالسوء، قلب الأمر عن وجهه.
وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك أنه دخل عليها فقالت: "يا أبا أيوب! أسمعت ما قيل؟! فقال: نعم، وذلك كذب، أكنتِ أنتِ يا أم أيوب تفعلين ذلك؟! قالت: لا والله، قال: فعائشة واللهِ أفضلُ منك، قالت أم أيوب: نعم" (١)، فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله المؤمنين؛ إذ لم يفعله جميعهم. قرأ أبو عمرو، وهشام، والكسائي، وخلف (٢): (إِذ سَّمِعْتُمُوهُ) بإدغام الذال في السين، والباقون: بالإظهار (٣).
...
﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣)﴾.
[١٣] ثم بين الحكم في القذف فقال: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ أي: على ما زعموا ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ﴾ على القذف.
(١) رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" (١٦٩٨)، والطبراني في "تفسيره" (١٨/ ٩٦)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٨/ ٢٥٤٦)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (١٦/ ٤٨).
(٢) في "ت": "خلاد".
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٣٩).
﴿فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ وهذا في حق عائشة رضي الله عنها، ومعناه: فأولئك هم الكاذبون في غيبي وعلمي.
...
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أيها الخائضون بالحلم والإمهال لتتوبوا ﴿لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ﴾ جريتم ﴿فِيهِ﴾ من القذف ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ دائم في الآخرة.
...
﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾ أي: تأخذون حديث الإفك من الأفاكين. قرأ أبو عمرو، وهشام، وحمزة، والكسائي، وخلف: (إِذ تَّلَقَّوْنَهُ) بإدغام الذال في التاء، والباقون: بإظهارها، ومنهم البزي يشدد التاء على أصله، والتلاوة المتواترة (تَلَقَّوْنَهُ): بفتح اللام والقاف مع تشديدها؛ أي: تقبلونه، وقرئ بكسر اللام وضم القاف مخففة؛ من الولق، وهو الإسراع بالكذب (١) ﴿بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ بأن يرويه بعض عن بعض.
﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ كلامًا بلا مساعدة من القلوب.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٢٠).
﴿مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ لأنه ليس تعبيرًا عن علم به في قلوبكم.
﴿وَتَحْسَبُونَهُ﴾ أي: خوضكم في عائشة ﴿هَيِّنًا﴾ صغيرةً.
﴿وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ كثير الوزر.
...
﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿وَلَوْلَا﴾ أي: وهَلَّا ﴿إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ يعني: الإفك. وتقدم اختلاف القراء في الإدغام والإظهار في (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) ﴿قُلْتُمْ مَا يَكُونُ﴾ أي: ما يجوز ﴿لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ﴾ هذا اللفظ هنا بمعنى التعجب.
﴿هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ زور يبهت من يسمعه.
...
﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿يَعِظُكُمُ﴾ الله؛ أي: ينهاكم كراهة ﴿أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ﴾ أي: الخوض ﴿أَبَدًا﴾ ما دمتم أحياء.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فإن الإيمان يمنع عنه.
...
﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ في الأمر والنهي.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بأمر عائشة وصفوان ﴿حَكِيمٌ﴾ حكم ببراءتهما.
***
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩)﴾.
[١٩] ونزل في عبد الله بن أبيِّ وأصحابه المنافقين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾ (١) أي: يفشُوَ القذف بها.
﴿فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا﴾ بالجلد ﴿وَالْآخِرَةِ﴾ عذاب النار.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ براءةَ عائشة، وشرَّ ما خضتم فيه، وكذبَ الخائضين.
﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك.
...
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (٢٠)﴾.
[٢٠] ونزل في مِسْطح وحسان وحَمنة: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾، وجواب (لولا) محذوف؛ اي: لعاجلكم بالعقوبة، وتكرير ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ زيادة مبالغة في المنة عليهم والتوبيخ لهم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وابن كثير، وحفص عن عاصم: (رَءُوفٌ) بالإشباع على وزن فَعول، والباقون: بالاختلاس على وزن فَعُل (٢)، والرأفة: أشد الرحمة.
...
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٨١).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٤٢).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ تزيينَه في قذف عائشة. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب، والكسائي، وقنبل، وحفص عن عاصم (١): (خُطُوَاتِ) بضم الطاء، والباقون: بإسكانها (٢).
﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ بالقبيح ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ هو ما أنكره الشرع.
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ لكم في الدارين ﴿مَا زَكَى﴾ أي: لم يكن زاكيًا ﴿مِنْكُمْ﴾ أي: ما طَهُر من دنسها ﴿مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ آخر الدهر. قرأ روح عن يعقوب بخلاف عنه: (زَكَّى) بتشديد الكاف، والباقون: بالتخفيف (٣).
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي﴾ يطهِّر ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ من الذنب بالرحمة.
﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لمقالهم ﴿عَلِيمٌ﴾ بنياتهم.
...
(١) "عن عاصم" ساقطة من "ت".
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٧٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٤٢).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٣)، و "معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٤٣).
﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)﴾.
[٢٢] ولما حلف أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ألَّا ينفق على مسطح، وكان ابن خالته، وكان من فقراء المهاجرين بدريًّا؛ لخوضه في عائشة -رضي الله عنها-، نزل قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ﴾ (١) قرأ أبو جعفر: (يَتَأَلَّ) بهمزة مفتوحة بين التاء واللام مع تشديد اللام مفتوحة، وقرأ الباقون: بهمزة ساكنة بين الياء والتاء وكسر اللام خفيفة، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وورش: يبدلون الهمزة بألف ساكنة على أصولهم (٢)، ومعنى القراءتين: لا يحلفْ ﴿أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾ في الدين ﴿وَالسَّعَةِ﴾ في المال.
﴿أَنْ يُؤْتُوا﴾ على ألَّا يؤتوا ﴿أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ صفات لموصوف واحد؛ أي: ناسًا جامعين لها.
﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا﴾ عنهم خوضَهم في عائشة.
﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ إذا عفوتم.
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فلما قرأها رسول الله - ﷺ - على أبي بكر، قال: "بلى أحب أن يغفر الله لي" ورجع إلى مسطح نفقتَه التي كان ينفق عليه، وقال: "والله لا أنزعها منه أبدًا".
...
(١) تقدم تخريجه في حديث الإفك.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٨١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٤٣).
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٢٣)﴾.
[٢٣] ونزل في شأن قذف (١) عبد الله بن أُبيِّ عائشةَ رضي الله عنها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ (٢) العفيفات ﴿الْغَافِلَاتِ﴾ عن الفاحشة ﴿الْمُؤْمِنَاتِ﴾ بالله ورسوله.
﴿لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ عُذِّبوا في الدنيا بالحد (٣)، وفي الآخرة بالنار.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وجمع المؤمنات، وإن أريدت عائشة وحدها؛ لأن من قذف واحدة من نسائه - ﷺ -، فكأنه قد قذفهن.
قيل لابن جبير: من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة؟ قال: "ذلك لمن قذف عائشة خاصة" (٤).
وقال ابن عباس: "هذا فيمن قذف زوجات النبي - ﷺ -، ليس له توبة، ومن قذف مؤمنة، فقد جعل الله له توبة" (٥).
...
(١) "قذف" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٨٢).
(٣) في "ت": "بالجلد".
(٤) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (٢٣/ ١٥١). وقد روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٨/ ٢٥٥٧)، والحاكم في "المستدرك" (٦٧٣١) عن ابن عباس، مثله.
(٥) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٦/ ١٦٤).
﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ العامل في قوله: (يَوْمَ) فعلٌ مضمر يقتضيه العذاب؛ أي: يعذبونه يومَ، ونحو هذا. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَشْهَدُ) بالياء على التذكير؛ لتقدم الفعل، وقرأ الباقون: بالتاء على التأنيث (١)، وهذا قبل أن يختم على أفواههم، روي أنه يختم الأفواه، فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا.
...
﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾ حسابَهم العدلَ.
﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ الذي لا شك فيه.
...
﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿الْخَبِيثَاتُ﴾ من الكلمات والقول.
﴿لِلْخَبِيثِينَ﴾ من الناس ﴿وَالْخَبِيثُونَ﴾ من الناس ﴿لِلْخَبِيثَاتِ﴾ من القول.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٨٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٤٤).
﴿وَالطَّيِّبَاتُ﴾ من القول ﴿لِلطَّيِّبِينَ﴾ من الناس.
﴿وَالطَّيِّبُونَ﴾ من الناس ﴿لِلطَّيِّبَاتِ﴾ من القول، المعنى: أن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس، والطيب لا يليق إلا بالطيب، فعائشة لا يليق بها الخبائث من القول؛ لأنها طيبة، فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها، وقيل: معناه: الخبيثات: الزواني للخبيثين: الزناة، وبالعكس، والطيبات: العفائف للطيبين: العفيفين، وبالعكس، والتكرير للتأكيد إيذانًا أن كل واحد منهما لا يصلح إلا لصاحبه.
﴿أُولَئِكَ﴾ يعني: عائشة وصفوان، ذكرهما الله بلفظ الجمع؛ كقوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ [النساء: ١١]؛ أي: أخوان، وقيل: ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني الطيبين والطيبات.
﴿مُبَرَّءُونَ﴾ منزهون ﴿مِمَّا يَقُولُونَ﴾ الخبيثون والخبيثات فيهم من القذف.
﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ هي العفو عن ذنوبهم ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ الجنة.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب، وورش عن نافع، وحفص عن عاصم: (بُيُوتًا) (بُيُوتكُمْ) بضم الباء، والباقون: بكسرها (١) ﴿حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ تستأذنوا.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ بأن تقولوا: السلام عليكم أأدخل؟
﴿ذَلِكُمْ﴾ الاستئذان والتسليم ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من تركه.
﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ وتعملون بما هو أصلح لكم. وتقدم اختلاف القراء في (تَذَكَّرُونَ) أول السورة.
...
﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا﴾ له الإذن ﴿فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ﴾ عند الاستئذان للدخول: ﴿ارْجِعُوا فَارْجِعُوا﴾ ولا تُلِحُّوا في الدخول ﴿هُوَ﴾ أي: الرجوع.
﴿أَزْكَى لَكُمْ﴾ أطهر لقلوبكم من الريبة والدخولِ بغير إذن.
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ فيجازيكم (١) عليه.
...
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٢٩)﴾.
[٢٩] فلما نزلت آية الاستئذان قالوا: كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام، وعلى ظهر الطريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله تعالى:
= (٢/ ٢٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٤٥ - ٢٤٦).
(١) في "ت": "فمجازيكم".
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ (١)، كالرباط والخان ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ أي: منفعة.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ وعيد لمن دخل مدخلًا لفساد، أو تطلع على عورات.
...
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ ينقصوا من نظرهم، و (من) تبعيض؛ لأنهم إنما نُهوا عن النظرة إلى ما لا يحل لهم، فلا يجوز للرجل النظر إلى الأجنبية قصدًا لغير ضرورة عند الثلاثة، وعند أبي حنيفة؛ يجوز له النظر إلى الوجه والكفين مع أمن الشهوة، فين لم يأمن، لم يجز إلا لضرورة، فإن كانت عجوزًا (٢) لا تُشتهى، جاز النظر إلى وجهها وكفيها عند أبي حنيفة ومالك، وعند أحمد: إلى وجهها فقط، واختلف في مذهب الشافعي، فألحقها الغزالي بالشابة، وجوز الروياني النظر إلى وجهها وكفيها.
﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ عن الزنا، ولم يدخل (من) في حفظ الفروج؛ لأن الزنا لا رخصة فيه ﴿ذَلِكَ﴾ أي: غض البصر وحفظ الفرج ﴿أَزْكَى لَهُمْ﴾ أنفع لهم وأطهر.
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٨٦).
(٢) في "ش": "عجوزة".
﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ لا يخفى عليه شيء، فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون.
...
﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ عما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال، وهي العورة عند أبي حنيفة وأحمد، وعند مالك: ما عدا الوجه والأطراف، والأصح من مذهب الشافعي: أنها لا تنظر إليه كما لا ينظر هو إليها.
﴿وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ يعم الفواحش وستر العورة وما دون ذلك مما فيه حفظ.
﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ المستترة؛ كالسوار والخلخال والقلائد لمن لا يحل له النظر إليها ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ كالثياب والخاتم؛ فإن في سترها حرجًا، وقيل غير ذلك.
527
﴿وَلْيَضْرِبْنَ﴾ ليسدلن ﴿بِخُمُرِهِنَّ﴾ جمع خمار، وهو غطاء الرأس.
﴿عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ صدورهن. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وابن ذكوان عن ابن عامر: (جِيُوبِهِنَّ) بكسر الجيم، والباقون: بضمها (١).
﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ التي أمرن بسترها ﴿إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ أي: أزواجهن.
﴿أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ﴾ فيجوز لجميع المذكورين عند الشافعي النظر إلى الزينة الباطنة سوى ما بين السرة والركبة، إلا (٢) الزوج، فيباح له ما بينهما، وعند مالك: ينظرون إلى الوجه والأطراف، وعند أبي حنيفة: ينظرون إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين، ولا ينظرون إلى ظهرها وبطنها وفخذها، وعند أحمد: ينظرون إلى ما يظهر غالبًا؛ كوجه ورقبة ويد وقدم ورأس وساق، وأبيح النظر لهؤلاء؛ لكثرة مداخلتهم عليهن، واحتياجهن إلى مداخلتهم.
﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ أي: نساء أهل دينهن، وهو قول الشافعي، فيحرم عنده نظر الذمية إلى المسلمة؛ لأنها لا تتحرج عن وصفها للرجال، وعند الثلاثة: يجوز نظرها إلى ما عدا ما بين السرة والركبة؛ لأنها من جملة النساء، ولأن النساء الكوافر من اليهوديات وغيرهن قد كن يدخلن على نساء النبي؛ فلم يكنَّ يحجبن، ولا أمرن بالحجاب، وأما المسلمة، فلا
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٤٨).
(٢) في "ت": "إلى".
528
خلاف في جواز نظرها إلى المسلمة سوى ما بين السرة والركبة، فأبو حنيفة يوجب ستر الركبة، والثلاثة لا يوجبونه.
﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ اختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم: هو عام، فيكون عبد المرأة محرمًا لها، فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفًا، وأن ينظر إلى مولاته كالمحارم، وهو مذهب مالك والشافعي، وكل منهما على أصله في النظر كما تقدم، وقال آخرون: المراد: الإماء دون العبيد، فيكون العبد حكمه حكم الأجنبي معها، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، مع اتفاقهما على جواز رؤيته إليها، فأبو حنيفة يجوز رؤيته إلى وجهها وكفيها، وأحمد يجوز رؤيته إلى ما يجوز للمحرم النظر إليه منها كما تقدم، قال أحمد: ولا يلزم من النظر المحرمية، فلا يباح لها الحج ولا السفر معه،
﴿أَوِ التَّابِعِينَ﴾ الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم، لا همة لهم سوى ذلك.
﴿غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ﴾ المعنى: غير ذوي الحاجة إلى النساء، وهو من لا ينتشر عليه، ولا يطيق غشيانهن، ولا يشتهيهن ولا تشتهينه، فعند أبي حنيفة ومالك: ينظر الوجه والكفين، وعند الشافعي وأحمد: ينظر كالمحارم. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (غَيْرَ) بالنصب على الحال من الذكر الذي في (التَّابِعِينَ)، وقرأ الباقون: بالخفض على نعت (التابعين) (١).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٩٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ١٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٤٨).
529
﴿أَوِ الطِّفْلِ﴾ أي: الأطفال ﴿الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ أي: لم يعرفوها؛ لعدم التمييز، فلا حجاب منهم بالاتفاق.
والعورة: من العوار: العيب، وتقدم ذكر عورة الرجل والمرأة والأمة، واختلاف الأئمة في ذلك مستوفًى في سورة الأعراف عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾ [الأعراف: ٢٦].
﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ كانت المرأة إذا مشت، ضربت برجلها؛ ليسمع صوتُ خلخالها، فنزلت الآية نهيًا عن ذلك (١) ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا﴾ من التقصير الواقع في أمره ونهيه.
﴿أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ قرأ ابن عامر: (أَيُّهُ) بضم الهاء إتباعًا للضمة قبلها بعد حذف الألف للساكنين، ويقف بلا ألف على الخط، وقرأ الباقون: بفتحها؛ للدلالة على الألف المحذوفة وصلًا (٢)، ويقف أبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: (أَيُّهَا) بالألف على الأصل، والباقون: يقفون بلا ألف متابعة للمصحف (٣).
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بسعادة الدارين.
...
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٩٠).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦١ - ١٦٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٤٩).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٤٩).
530
﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿وَأَنْكِحُوا﴾ أي: زَوِّجوا ﴿الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ جمع أَيِّم، وهو من لا زوج له من الرجال والنساء، بكرًا كان أو ثيبًا.
﴿وَالصَّالِحِينَ﴾ أي: الخيرين ﴿مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ اتفق الأئمة على أن النكاح سنة؛ لقوله - ﷺ -: "من أحبَّ فطرتي، فليستنَّ بسنتي (١)، ومن سُنَّتي النكاحُ" (٢)، فإن كان تائقًا يخاف العنت، وهو الزنا، وجب عليه عند أبي حنيفة وأحمد، وقال مالك والشافعي: وهو مستحب لمحتاج إليه يجد أهبته، ومن لم تتق نفسه إليه، فقال أبو حنيفة وأحمد: النكاح أفضل له من نفل العبادة، وقال مالك والشافعي: بعكسه، وعند الشافعي: إن لم يتعبد، فالنكاح أفضل.
واختلفوا في تزويج المرأة نفسَها، فأجازه أبو حنيفة؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٢] نهى الرجال عن منع النساء عن النكاح، فدل على أنهن يملكن النكاح، وقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠]، أضاف النكاح إلى المرأة أيضًا، ولقوله - ﷺ -: "الأَيِّمُ أَحَقُّ بنفسها من وليها، والبكرُ تُستأمر بنفسها، وإذنُها صُماتُها" (٣)،
(١) "بسنتي" ساقطة من "ش".
(٢) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (١٠٣٧٨)، وأبو يعلى في "مسنده" (٢٧٤٨)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٧/ ٧٧)، عن عبيد بن سعد مرسلًا.
(٣) رواه مسلم (١٤٢١)، كتاب: النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
531
والاستئمار طلب الأمر من قبلها، ومنعه الثلاثة وقالوا: إنما يزوجها وليها؛ بدليل هذه الآية؛ لأن الله خاطب الأولياء به؛ كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات، ولقوله - ﷺ -: "أَيُّما امرأةٍ نكحت بغير إذن وليها، فنكاحُها باطل، ثلاث مرات" (١).
واختلفوا هل يجبر السيد على تزويج رقيقه إذا طلبوا ذلك؟ فقال أحمد: يلزمه ذلك إلا أمة يستمتع بها، فإن امتنع السيد من الواجب عليه، فطلب العبد البيع، لزمه بيعه، وخالفه الثلاثة.
﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي: لا يمنعَنَّ فقرُ (٢) الخاطب أو المخطوبة من المناكحة؛ فإن في فضل الله غنيةً عن المال.
﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ ذو سعة لا تنفد نعمته ﴿عَلِيمٌ﴾ يبسط الرزق ويقدر بحكمته. قرأ رويس عن يعقوب بخلاف عنه: (يُغْنِهُمُ اللَّهُ) بضم الهاء والميم، والباقون: بكسرهما (٣).
واختلف الأئمة في الزوج إذا أعسر بالصداق والنفقة والكسوة والمسكن، هل تملك المرأة فسخ نكاحها؟ فقال أبو حنيفة: لا تملك الفسخ بشيء من ذلك، وتؤمر بالاستدانة للنفقة لتحيل عليه، فإذا فرضها
(١) رواه أبو داود (٢٠٨٣)، كتاب: النكاح، باب: في الولي، والترمذي (١١٠٢)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء: لا نكاح إلا بولي، وقال: حسن، وابن ماجه (١٨٧٩)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، عن عائشة -رضي الله عنها-.
(٢) "فقر" ساقطة من "ش".
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٥٠).
532
القاضي، وأمرها بالاستدانة، صارت دينًا عليه، فتتمكن من الإحالة عليه، والرجوع إلى تركته لو مات، وقال مالك: لها الفسخ بإعساره بالصداق قبل الدخول، فيؤمر بطلاقها، فإن امتنع، فرق الحاكم بينهما، ويتشطر صداقها عليه، ويبقى دينًا في ذمته تتبعه به إذا أيسر، ولم يفرق بإعساره به بعد الدخول، وإن أعسر بنفقتها، أُمر بفراقها، فإن امتنع، فرق الحاكم بينهما بطلقة رجعية، وله الرجعة إن أيسر في العدة، وقال الشافعي: إذا أعسر بالنفقة، فلها فسخ النكاح، وكذا بالكسوة والمسكن، ويمهل ثلاثة أيام، وتفسخ صبيحة الرابع، ولها الفسخ بالإعسار بالمهر قبل وطء لا بعده ويسقط به المهر، وقال أحمد: إن أعسر بنفقة أو ببعضها، أو بكسوة أو ببعضها، أو بسكنى، فلها الفسخ، وكذا إن أعسر بمهر حالٍّ قبل الدخول أو بعده، ما لم تكن عالمة بعسرته، فإن فسخت قبل الدخول، سقط المهر، وبعده، يستقر في ذمته، واتفق الشافعي وأحمد على أن الفسخ لا يصح إلا بحكم حاكم، فيفسخ بطلبها (١)، أو تفسخ بأمره.
...
﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ﴾ يطلب العفة عن الزنا ﴿الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا﴾ أي:
(١) "بطلبها" زيادة من "ت".
533
قدرة على النكاح ﴿حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ﴾ يوسِّع عليهم ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾.
قال - ﷺ -: "يا معشرَ الشباب! من استطاع منكم الباءة، فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء" (١).
﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ﴾ أي: يطلبون عقد الكتابة.
﴿مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ عبدًا كان أو أمة ﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ أمر ندب.
وسبب نزول الآية: ما روي أن غلامًا لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه، فأبى عليه، فأنزل الله الآية، فكاتبه حويطب على مئة دينار، ووهب له منها عشرين، فأداها، وقتل يوم حنين في الحرب (٢)، والكتابة بيع سيد رقيقه بمال في ذمته مباح معلوم، وهي مستحبة بالاتفاق، فيقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على كذا من المال، والعبدُ يقبل ذلك، فإذا أدى المالَ، عتق، ويصير العبد أحقَّ بمكاسبه بعد الكتابة، وسميت كتابة؛ لأن العبد كتب عليه الوفاء بالمال، والسيد كتب عليه العتق عند أدائه، وتصح عند أبي حنيفة ومالك بمال حالٍّ ومؤخل ومنجَّم، وعند الشافعي وأحمد تصح في نجمين فأكثر، ولا تجوز عندهما حالًّا، ولا في نجم واحد.
﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ كسبًا وأمانة، وهو قول الشافعي وأحمد، وقال
(١) رواه البخاري (١٨٠٦)، كتاب: الصوم، باب: الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة، ومسلم (١٤٠٠)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٨٦). و"تفسير القرطبي" (١٢/ ١٨٤).
534
مالك: الخير هو القوة على الأداء، وقال بعض الحنفية: المراد بالخير: إقامة الصلاة وأداء الفرائض، وقال بعضهم: المراد: ألَّا يضر بالمسلمين بعد العتق، فإن كان يَضُرُّ بهم، فالأفضل ألَّا يكاتبه، فلو فعل، صح.
﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ خطاب للمسلمين، فعند أبي حنيفة ومالك: هو مستحب، وعند الشافعي وأحمد: هو واجب، فمذهب الشافعي ليس له حد، بل عليه أن يحط عنه ما شاء من المال، أو يدفعه إليه، والحط أولى، وفي النجم الأخير أليق، ومذهب أحمد: يجب على السيد أن يؤتيه ربع مال الكتابة إن شاء، ويضعه عنه، وإن شاء قبضه ثم دفعه إليه (١).
قال - ﷺ -: "ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم: المكاتب الذي (٢) يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله" (٣).
واختلفوا فيما إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم، فقال أبو حنيفة ومالك: إن ترك وفاء بما بقي عليه من المكتابة، كان حرًّا، وإن كان فيه فضل، فالزيادة لأولاده الأحرار، وقال الشافعي وأحمد: يموت رقيقًا، وترتفع الكاتبة، سواء ترك مالًا، أو لم يترك؛ كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع.
(١) "ثم دفعه إليه" زيادة من "ت".
(٢) "الذي" زيادة من "ت".
(٣) رواه النسائي (٣١٢٠)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب، وعون الله إياهم، وقال حسن، وابن ماجه (٢٥١٨)، كتاب: العتق، باب: المكاتب، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
535
﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ﴾ إماكم ﴿عَلَى الْبِغَاءِ﴾ الزنا.
﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ إن طلبن تعففًا وامتناعًا عن الزنا، [و (إِنْ) هنا بمعنى (إِذْ)؛ لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا] (١) إن لم يردن التحصن، نزلت في عبد الله بن أبيِّ بن سلول المنافق، كانت له ست جوار يكرههن على الزنا، وضرب عليهن الضرائب -جمع الضريبة، وهي الغلة المضروبة على العبد والجزية-، فشكا بعضهن إلى رسول الله - ﷺ -، فنزلت (٢). قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: (الْبِغَاءِ إِنْ) بتحقيق الهمزتين، وأبو عمرو: بإسقاط الهمزة الأولى، وقرأ قالون، والبزي: بتسهيل الأولى بين بين، مع تحقيق الثانية، وأبو جعفر، ورويس: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، واختلف عن قنبل وورش، فروي عن الأول جعل الهمزة الثانية بين بين، وروي عنه إسقاط الهمزة الأولى، وهو الذي عليه الجمهور من أصحابه، وروي عن الثاني إبدال الهمزة الثانية ياء مكسورة، وروي عنه تسهيلها بين بين (٣).
﴿لِتَبْتَغُوا عَرَضَ﴾ أي: أموال ﴿الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بكسبهن وبيع أولادهن.
(١) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٢) رواه مسلم (٣٠٢٩)، كتاب: التفسير، باب: في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾، عن جابر -رضي الله عنه- قال: كان عبد الله بن أبي سلول يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئًا، فأنزل الله -عز وجل-. وفي لفظ: أن جارية لعبد الله بن أبي سلول يقال لها مسيلة، وأخرى يقال لها أميمة، فكان يُكرههما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي - ﷺ -، فأنزل الله. وانظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٨٧ - ١٨٨).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٥٠ - ٢٥١).
536
﴿وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ﴾ على الزنا.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لهن، والوزرُ على المكرِه. قرأ ابن ذكوان بخلاف عنه: (إِكْرَاهِهِنَّ) بالإمالة.
...
﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾ مفصَّلات بالحلال والحرام، والحدود والأحكام. قرأ، ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مُبيِّنَاتٍ) بكسر الياء، والباقون: بفتحها (١).
﴿وَمَثَلًا مِنَ﴾ أمثال ﴿الَّذِينَ خَلَوْا﴾ مضوا.
﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يعني: ما ذكر من قصص القرون الماضية.
﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ الشرك والكبائر، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحقَ مَنْ قبلهم من المكذبين.
...
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: صاحب نورهما،
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٥١).
537
ونورُهما: الشمس والقمر، المعنى: هو هادٍ مَنْ فيهما بنوره.
﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ أي: صفة نور الله في قلب المؤمن ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾ [هي الكوة في الجدار غير نافذة، روي أن المراد بالنور الثاني هنا: محمد - ﷺ -، وقوله: (مَثَلُ نُورِهِ)؛ أي: نور محمد إذ كان مستودعًا في الأصلاب، وقيل: إن المشكاة هندية معربة. قرأ الدوري عن الكسائي: (كَمِشْكَاةٍ)] (١) بالإمالة (٢) ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ سراج ضخم، والمعنى: مثل مصباح في مشكاة ﴿الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ﴾ في قنديل، مثل بها؛ لأن النور فيها أشد، ثم شبه القنديل بالكوكب فقال: ﴿الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ قرأ أبو عمرو، والكسائي: (دِرِّيءً) بكسر الدال مع المد والهمزة من الدَّرْء، وهو الدفع؛ لأن الكوكب يدفع الشيطان من السماء، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: بضم الدال والمد والهمز، بمعنى: أن الكوكب يدفع الظلام بضيائه، وقرأ الباقون: بضم الدال وتشديد الياء من غير مد ولا همز (٣)؛ أي: شديد الإنارة، نُسب إلى الدُّر في صفائه وحسنه، وإن كان (٤) الكوكب أكثر ضوءًا من الدر، لكنه يفضل الكواكب بصفائه؛ كما يفصّل الدرُّ سائرَ الحب.
﴿يُوقَدُ﴾ قرأ أبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بتاء مفتوحة وفتح الواو والدال وتشديد القاف على الماضي؛ أي: توقد المصباح، وقرأ
(١) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٥٢).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٥٣ - ٢٥٤).
(٤) "كان" ساقط من "ش".
538
نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: بياء مضمومة وإسكان الواو وتخفيف القاف ورفع الدال على التذكير مجهول مستقبل؛ [أي: يوقد المصباح، وقرأ الباقون، وهم: حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: بضم التاء والدال مع التخفيف على التأنيث مجهول مستقبل] (١) (٢)؛ أي: توقد الزجاجة؛ أي: نارها؛ لأن الزجاجة لا توقد.
﴿مِنْ شَجَرَةٍ﴾ أي: زيت شجرة ﴿مُبَارَكَةٍ﴾ كثيرة النفع؛ لأن دهنها الزيت، فهو إدام وفاكهة ومصحة من الباسور ﴿زَيْتُونَةٍ﴾.
قال رسول الله - ﷺ -: "كلوا الزيت وادَّهِنوا بالزيت؛ فإنه من شجرة مباركة" (٣).
﴿لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ بل بينهما؛ كالشام وأجودُ الزيتون زيتونهُ.
وقال ابن عباس وغيره: معناه أنها في منكشف من الأرض؛ لتصيبها عين (٤) الشمس طول النهار، وتستدير عليها، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية، ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقية وغربية، تأخذ حظها من الأمرين، فيكون زيتها أضوأ (٥).
(١) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٠٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٥٥ - ٢٥٦).
(٣) رواه الترمذي (١٨٥١) كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في أكل الزيت، وابن ماجه (٣٣١٩)، كتاب: الأطعمة، باب: الزيت، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
(٤) "عين" ساقطة من "ت".
(٥) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٣٠١)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٦/ ١٩٦).
539
﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ﴾ لصفائه ﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ فكأنه لفرط ضيائه.
﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ يعني: نور المصباح على نور الزجاجة. قرأ أبو عمرو (يَكَاد زَّيْتُهَا) بإدغام الدال في الزاي (١)، وفائدة جعل المصباح في زجاجة، والزجاجة في كوة غير نافذة، شدة الإضاءة؛ لأن المكان كما تضيق، كان أجمع للضوء، بخلاف الواسع، فالضوء ينتشر فيه، وخص الزجاج؛ لأنه أحكى الجواهر لما فيه، وهذا تمثيل للنبي - ﷺ -، فالمشكاة صدره، والزجاجة قلبه، والمصباح النبوة فيه، ومن شجرة مباركة شجرة النبوة، يكاد زيتها يضيء: يكاد أمر محمد يتبين للناس أنه نبي، ولو لم يتكلم؛ كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسسه نار.
﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ﴾ لدين الإسلام ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ فإن الأسباب كلها بمشيئته.
﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ﴾ تقريبًا لأفهامهم.
﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ظاهرًا كان أو خفيًّا.
...
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ متعلق بما قبله؛ أي: (كَمِشْكَاةٍ) في بيوت.
﴿أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ أي: تُعَظَّم.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٥٧).
540
قال ابن عباس: "المساجد بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض" (١).
وقيل: هي أربعة بناها الأنبياء: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل، والأقصى بناه داود وسليمان، [بل بناه يعقوب -عليه السلام- كما ورد في الحديث، فلا تغفل عنه] (٢)، ومسجد المدينة، ومسجد قباء بناهما رسول الله - ﷺ -.
﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ يتلى فيها كتابه ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ قرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (يُسَبَّحُ) بفتح الباء مجهولًا القائم مقام الفاعل له، فيحسن الوقف على (وَالآصَالِ)؛ لأنك تضمر فعلًا؛ كأنه لما قيل (يُسَبَّحُ لَهُ)، قيل: من يسبحه؟ قيل: يسبحه رجال، ولا يجوز الوقف عليه، وقرأ الباقون بكسر الباء، جعلوا التسبيح فعلًا للرجال (يُسَبِّحُ) (٣)؛ أي: يصلي له فيها بالغداة والعشي، والمراد: الصلوات المفروضات، فالتي تؤدى بالغداة: صلاة الفجر، والتي تؤدى بالآصال: صلاة الظهر والعصر والعشاءين؛ لأن اسم الأصيل يجمعها.
...
(١) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١٠٦٨)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٢٩٤٨).
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٥٧).
541
﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿رِجَالٌ﴾ قيل: خص الرجال بالذكر في هذه المساجد؛ لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المساجد.
﴿لَا تُلْهِيهِمْ﴾ لا تشغلهم ﴿تِجَارَةٌ﴾ هي صنعة التاجر عن بيع وشراء.
﴿وَلَا بَيْعٌ﴾ قال الفراء: التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على يديه.
﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ عن الصلاة المفروضة ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ لوقتها.
﴿وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ لمستحقيها عند وجوبها؛ لأن مؤخر الصلاة عن وقتها لا يكون مقيمًا لها.
﴿يَخَافُونَ يَوْمًا﴾ هو يوم القيامة ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ وتقلُّبُها تنقُّلُها (١) عن أماكنها؛ لهول ذلك اليوم، فتنقلب القلوب في الجوف، وترتفع إلى الحنجرة، ولا تنزل ولا تخرج، وتقلُّب البصر: شُخوصه.
...
﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ﴾ اللام في ﴿لِيَجْزِيَهُمُ﴾ متعلقة بـ ﴿يُسَبِّحُ﴾ المعنى: كان تسبيحهم وخوفهم ليثيبهم، وقوله:
﴿أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ فيه حذف مضاف تقديره: ثواب أحسن ما عملوا.
(١) "تنقلها" زيادة من "ت".
﴿وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ما لم يستحقوه بأعمالهم.
﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
قال كثير من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة، تركوا كل شغل، وبادروا إليها، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة، فقال: "هؤلاء الذين أراد الله بقوله: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ (١).
...
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٣٩)﴾.
[٣٩] ثم ضرب لأعمال الكافرين مثلًا فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾ هو ما يُرى من ضوء الشمس نصفَ النهار كالماء على وجه الأرض.
﴿بِقِيعَةٍ﴾ جمع قاع، وهو المستوي من الأرض، وفيه يكون السراب.
﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ﴾ يتوهمه العطشان.
﴿مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ﴾ جاء ما غلب على ظنه أنه ماء.
﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ مما ظنه، فيزداد عطشًا، فكذلك الكافر، يحسب أن عمله ينفعه، فعند الموت والبعث، لم يغن عنه شيئًا، فيزداد انقطاعًا.
(١) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (٣/ ٦١)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٨/ ٢٦٠٧).
﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ﴾ أي: بالمجازاة، والضمير في.
﴿عِنْدَهُ﴾ عائد على العمل.
﴿فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ جزاءَ كفره، فألقي في النار.
﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ لا يشغله حساب عن حساب.
...
﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ﴾ عطف على قوله: ﴿كَسَرَابٍ﴾، وهذا مثل آخر ضربه الله لأعمال الكفار؛ أي: أعمالهم في فسادها وجهالتهم فيها كالظلمات.
﴿فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ عميق، منسوب إلى اللج؛ أي: ذو لُجًّ، وهو معظم الماء.
﴿يَغْشَاهُ﴾ يعلو البحرَ.
﴿مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ﴾ فوق الموج ﴿مَوْجٌ﴾ آخر؛ لأن الموج يركب بعضه بعضًا؛ لكثرته.
﴿مِنْ فَوْقِهِ﴾ فوق الموج ﴿سَحَابٌ﴾ قرأ البزي عن ابن كثير: (سَحَابُ) بغير تنوين (ظُلُمَاتٍ) بالخفض على الإضافة، وقرأ قنبل عنه: (سَحَابٌ) بالتنوين (ظُلُمَاتٍ) بالخفض على البدل من قوله: (أو كَظُلُمَاتٍ)، وقرأ
544
الباقون: (سَحَابٌ) (ظُلُمَاتٍ) كلاهما بالرفع والتنوين (١)، فيكون تمام الكلام عند قوله: (سَحَابٌ)، ثم ابتدأ.
﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ فشبهت أعمال الكفار واغترارهم بها بسراب يغتر به من طلبه، ثم شبهت لسوادها لكفرهم بظلمات بعضها فوق بعض، والمراد؛ ظلمة الموج على ظلمة البحر، وظلمة الموج على الموج، وظلمة السحاب على الموج، فشبه عمل الكافر بالظلمات، وقلبه بالبحر، وما يغشى قلبَه من الشرك بالموج، والختم على قلبه بالسحاب، فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، وقلبه وجميع أحواله ظلمة، ومصيره إلى جهنم.
﴿إِذَا أَخْرَجَ﴾ يعني الناظر (٢) ﴿يَدَهُ لَمْ يَكَدْ﴾ لم يقرُبْ من أن ﴿يَرَاهَا﴾ فضلًا أن يراها؛ لشدة الظلمة.
﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا﴾ هداية وإيمانًا في الدنيا.
﴿فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ هداية في الآخرة إلى الجنة.
نزلت هذه الآية عامة في جميع الكفار، وقيل: إنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، تَعَبَّدَ في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدين، فلما جاء الإسلام، كفر (٣).
...
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٢)، و"الكشف" لمكي (٢/ ١٣٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٠٥ - ٣٠٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٣٥٩ - ٢٦٠).
(٢) "يعني الناظر" زيادة من "ت".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٣٠٦).
545
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تنبيه، والرؤية رؤية الفكر.
﴿أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ﴾ باسطاتٍ أجنحتَها في الهواء يُصفقن بهن، قيل: خص الطير بالذكر من جملة الحيوان؛ لأنها تكون بين السماء والأرض، فتكون خارجة عن حكم من في السموات والأرض.
﴿كُلٌّ﴾ من المصلين والمسبحين ﴿قَدْ عَلِمَ﴾ اللهُ ﴿صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ وقيل: المعنى: كل مكلف علم عبادته ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾.
...
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: تقديرها وتدبير أمورها وتصريف أحوالها كما يشاء.
﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ مرجعُ الجميع.
...
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي﴾ أي: يسوق ﴿سَحَابًا﴾ أي: غيمًا؛ لانسحابه في الهواء.
546
﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ بين أجزاء الغيم، فيجعله شيئًا وَاحدًا بعد أن كان قطعًا.
قرأ أبو جعفر، وورش عن نافع: (يُوَلِّفُ) بفتح الواو من غير همز (١).
﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾ متراكمًا بعضُه فوق بعض.
﴿فَتَرَى الْوَدْقَ﴾ المطر ﴿يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ فُتوقِه، جمع خَلَل.
﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ معناه: ينزل من جبال في السماء، تلك الجبالُ من برد.
قال ابن عباس: "أخبر الله تعالى أن في السماء جبالًا من برد" (٢)، ومفعول الإنزال محذوف تقديره: وينزل من السماء من جبال فيها بردًا، فاستغنى عن ذكر المفعول؛ للدلالة عليه.
قال أهل النحو: ذكر الله تعالى (من) ثلاث مرات في هذه الآية، فقوله: (مِنَ السَّمَاءِ) لابتداء الغاية؛ لأن ابتداء الإنزال من السماء، وقوله: (مِنْ جِبَالٍ) للتبعيض؛ لأن ما ينزله الله بعضُ تلك الجبال، وقوله: (مِنْ بَرَدٍ) للتجنيس؛ لأن تلك الجبال جنس البرد (٣).
﴿فَيُصِيبُ بِهِ﴾ أي: بالبرد ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ فيهلك زرعه وأمواله.
﴿وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ﴾ فلا يضره.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦١).
(٢) ذكره عنه البغوي في "تفسيره" (٣/ ٣٠٧)، وذكره القرطبي في "تفسيره" (١٢/ ٢٨٩) دون نسبة.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" (١٨/ ١٥٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٠٧).
547
﴿يَكَادُ سَنَا﴾ أي: ضوء ﴿بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ يختطفها من شدة ضوئه. قرأ أبو جعفر: (يُذْهِبُ) بضم الياء وكسر الهاء، فقيل: إن باء (بِالأَبْصَارِ) تكون زائدة؛ كما هي في: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥]، قال ابن الجزري: والظاهر أن تكون بمعنى (مِنْ)؛ كما جاءت في قول الشاعر:
شُرْبَ النزيفِ ببردِ ماءِ الحَشْرَجِ (١)
أي: من برد، ويكون المفعول محذوفًا؛ أي: يذهب النور من الأبصار، وقرأ الباقون: بفتح الياء والهاء (٢)، وأبو عمرو يدغم الدال من (يَكَادُ) في السين من (سَنَا بَرْقِهِ) (٣).
...
﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ يذهب بأحدهما، ويجيء بالآخر، وينقص من أحدهما، ويزيد في الآخر.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ التقليب ﴿لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ لأصحاب الاعتبار.
(١) عجز بيت منسوب إلى الراعي النميري، وعروة بن أذينة، وعمر بن أبي ربيعة، وجميل بن معمر، وصدره:
فلثمتُ فاها آخذًا بقرونها
وانظر: "الكامل" للمبرد (١/ ٣٨١).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٣٠٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٣٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦٢).
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦١).
﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ أي: من نطفة، والمراد: كل حيوان يشاهد في الدنيا، ولا يدخل فيه الملائكة والجن؛ لأنا لا نشاهدهم. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (خَالِقُ) بألف بعد الخاء وكسر اللام ورفع القاف وخفض (كُلِّ) بالإضافة، وقرأ الباقون: (خَلَقَ) بفتح اللام والقاف من غير ألف على الفعل، ونصب (كُلَّ) مفعولًا به (١).
﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ كالحيات، وسمي الزحف على البطن مشيًا؛ اتساعًا؛ لقيامه مقام المشي.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ﴾ كالأناسي والطير.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ كالبهائم، ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع مثل حشرات الأرض؛ لأنها في الصورة كالتي تمشي على أربع، وتذكير الضمير؛ لتغليب العقلاء، والتعبير بـ (من) عن الأصناف؛ ليوافق التفصيل الجملة، والترتيب؛ لتقديم ما هو أعرق في القدرة.
﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ مما ذكر، ومما لم يذكر.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يفعل ما يشاء. واختلاف القراء في
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٧)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦٣).
الهمزتين من (يَشَاءُ إِنَّ) كاختلافهم فيهما من ﴿نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ في سورة الحج [الآية: ٥].
...
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)﴾.
[٤٦] و ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ تقدم تفسير (آيَاتٍ مُبيِّنَاتٍ)، واختلاف القراء فيها، واختلافهم في (يَشَاءُ إِلَى) كاختلافهم في (يَشَاءُ إِنَّ).
...
﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ولما خاصم بشر المنافقُ يهوديًّا كان بينهما خصومة في أرض، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد - ﷺ -، وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف؛ فإن محمدًا يحيف علينا، نزل قوله تعالى:
﴿وَيَقُولُونَ﴾ (١) يعني: المنافقين ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا﴾ لهما.
﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى﴾ بالامتناع عن قبول حكمه.
﴿فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ بعد قولهم هذا.
﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: ليسوا بالمخلصين في الإيمان.
...
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٨٨).
﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ﴾ إلى كتابه.
﴿وَرَسُولِهِ﴾ محمد - ﷺ -.
﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ قرأ أبو جعفر: (لِيُحْكَمَ) بضم الياء وفتح الكاف (١)، وكذلك في الحرف الآتي مجهولًا، وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الكاف؛ أي: ليحكم الرسولُ بينهم بحكم الله.
﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن الإتيان إليه؛ خوفًا أن يحكم عليهم.
...
﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ منقادين بسرعة؛ لثقتهم أنه كما يحكم عليهم بالحق، يحكم لهم أيضًا بالحق.
...
﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ كفر ﴿أَمِ ارْتَابُوا﴾ شكوا في نبوته؟! هذا استفهام ذم وتوبيخ، أي: هم كذلك.
﴿أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ أي: يميل في الحكم.
﴿بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لإعراضهم عن الحق، وطلبهم ما ليس لهم.
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦٤).
﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ﴾ نصب خبر (كانَ) المعنى: إنما كان الواجبُ.
﴿الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ﴾ أي: إلى كتاب الله ﴿وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا﴾ قولك ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أمرك، والطاعة: موافقة الأمر طوعًا، وهي تجوز لله ولغيره ﴿وَأُولَئِكَ﴾ أي: القائلون هذا القول ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ البالغون آمالهم في دنياهم وآخرتهم.
...
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ فيما يأمرانه و ﴿وَيَخْشَ اللَّهَ﴾ على ما صدر عنه من الذنوب ﴿وَيَتَّقْهِ﴾ فيما بقي من عمره ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ الناجون. قرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: (وَيَتَّقِهِ) بكسر القاف وإسكان الهاء على نية الوقف، وحفص: بإسكان القاف واختلاس كسرة الهاء تخفيفًا، وأبو جعفر، ويعقوب، وقالون، وهشام: بكسر القاف واختلاس كسرة الهاء، وأصله (يتقهي)، حذفت الياء التي بعد الهاء؛ لسكونها وسكون الياء قبل الهاء، ولم يعتد بالهاء حاجزًا لسكونها، وبقيت الكسرة تدل عليها، ثم حذفت الهاء الأولى للجزم، وقرأ الباقون: بكسر القاف وإشباع كسرة الهاء وصلتها بياء حالة الوصل (١).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٧)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٠٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٠٦ - ٣٠٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦٥).
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿وَأَقْسَمُوا﴾ يعني: المنافقين ﴿بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ والقسم جهد اليمين أبلغُ ما يمكن من الأقسام، فمن قال: أقسم بالله، فقد جهد يمينه.
﴿لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ﴾ وذلك أنهم كانوا يقولون لرسول الله - ﷺ -: أينما كنت، نكن معك، لئن خرجت، خرجنا، وإن أقمت، أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد، جاهدنا، فقال الله تعالى:
﴿قُلْ﴾ لهم: ﴿لَا تُقْسِمُوا﴾ لا تحلفوا، تم الكلام، ثم قال:
﴿طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾ أي: أمثل من إقسامكم طاعة لا يُشك فيها؛ لأنكم لا تصدقون.
﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فيجازيكم.
...
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به؛ مبالغةً في تبكيتهم.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: تتولوا. قرأ البزي: (فَإِن تَّوَلَّوْا) بتشديد التاء (١).
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٢٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦٦).
﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ﴾ على محمد - ﷺ - ﴿مَا حُمِّلَ﴾ من التبليغ.
﴿وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ من الطاعة.
﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ إلى الحق.
﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ أي: التبليغ البين، ونُسخت بآية السيف.
...
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ولما اشتد خوف الصحابة، واستبطؤوا النصر، نزل تسليةً لهم ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ وهو جواب قسم مضمر تقديره: وعدهم، وأقسم ليستخلفنهم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ (١) بأن يجعلهم خلفاءها وساكنيها بعد الكفار متصرفين فيها.
﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم: (كَمَا اسْتُخْلِفَ) بضم التاء وكسر اللام مجهول الفاعل (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، ويبتدئ ألفه بالضم، وقرأ الباقون: بفتح التاء واللام معلومًا، ويبتدئون
(١) روى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" (٧/ ٢١٧) عن أبي العالية، نحوًا منه. وانظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (٨/ ٢٦٢٧) عند تفسيره لهذه الآية.
554
ألفه بالكسر (١)، ضميره يرجع إلى (الله)، المعنى: يستخلفكم استخلافًا كاستخلاف الله داود وسليمان وبني إسرائيل أرضَ الجبارين.
﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ وهو الإسلام؛ بأن يظهره على جميع الأديان.
﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ﴾ قرأ ابن كثير، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم: بإسكان الباء وتخفيف الدال؛ من أبدل، وقرأ الباقون: بفتح الباء وتشديد الدال؛ من بدَّل، وهما لغتان (٢)، وقيل التبديل: تغيير حال إلى حال، والإبدال: رفعُ الشيء وجعلُ غيره مكانه.
﴿مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ وكان رسول الله - ﷺ - وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة، وكانوا يصبحون في السلاح، ويبيتون فيه، فأظهر الله دينهم، ونصرهم، وأبدلهم من بعد الخوف أمنًا.
﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ فعل مستأنف؛ أي: هم يعبدونني.
﴿لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ أي: يعبدونني موحدين.
﴿وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ هذه النعمَ.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ العاصون، وكان أول من كفر بهذه النعمة بعدما أنجز الله وعده الذين قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه فغير الله تعالى ما بهم، وأدخل عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانًا.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٨ - ٤٥٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦٦).
(٢) المصادر السابقة.
555
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ فيما أمركم به.
﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي: افعلوها على رجاء الرحمة.
...
﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قرأ ابن عامر، وحمزة: (يَحْسَبَنَّ) بالغيب، ونصب السين؛ أي: لا يحسبن الذين كفروا أنفسَهم معجزين، وقرأ الباقون: بالخطاب وكسر السين (١)؛ أي: لا تحسبن يا محمد الذين كفروا.
﴿مُعْجِزِينَ﴾ أي: فائتين اللهَ ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ بأن لا يقدر عليهم.
﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ التقدير: الذين كفروا ليسوا معجزين، ومأواهم النار.
﴿وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ المأوى الذي يصيرون إليه.
...
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣١٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦٧).
بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)}.
[٥٨] قال ابن عباس: وجه رسول الله - ﷺ - غلامًا من الأنصار يقال له: مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة؛ ليدعوه، فدخل ورأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ﴾ (١) هذه اللام لام الأمر.
﴿الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني: العبيد والإماء، هم.
﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ﴾ من الأحرار، وليس المراد منهم: الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، بل الذين عرفوا أمر النساء، ولكن لم يبلغوا.
﴿ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾ أي: ليستأذنوا في ثلاثة أوقات.
﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾ لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرحِ ما يُنام فيه من الثياب.
﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ﴾ للقيلولة.
﴿مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾ إلى وقت الظهر؛ لأنه وقت القيلولة والتكشف.
﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾ لأنه وقت التجرد للنوم، فهذه الأوقات أوقات خلوة، فالاستئذان لهؤلاء مشروع فيها لهم، ولغيرهم في جميع الأوقات.
﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن
(١) انظر "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٨٩).
557
عاصم: (ثَلاَثَ) بنصب الثاء بدلًا عن قوله: (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ) أي: أوقاتَ ثلاثِ عوراتٍ، وقرأ الباقون: بالرفع (١)؛ أي: هذه الأوقات ثلاثُ عورات لكم؛ لأن الإنسان يختل ستره فيها، واتفقوا على النصب في قوله: (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ) المتقدم؛ لوقوعه ظرفًا، وقرأ أبو عمرو (بَعْد صَّلاَةِ الْعِشَاءِ) بإدغام الدال في الصاد (٢).
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ﴾ يعنى: العبيد والخدم والصبيان ﴿جُنَاحٌ﴾ إثم في الدخول بغير استئذان ﴿بَعْدَهُنَّ﴾ أي: بعد هذه الأوقات الثلاثة.
﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ﴾ للخدمة ﴿بَعْضُكُمْ﴾ يطوف.
﴿عَلَى بَعْضٍ﴾ يعني: إن كان بكم وبهم حاجة إلى المخالطة.
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ الأحكامَ.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ فيما يشرع لكم.
واختلف في حكم الآية، فقال قوم: هي منسوخة (٣)، قال ابن عباس: "لم يكن للقوم ستور ولا حجاب، وكان الخدم والولائد يدخلون، فربما يرون منهم ما لا يحبون، فأُمروا بالاستئذان، وقد بسط الله الرزق، فاتخذ الناس الستور" (٤)، فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان، وذهب قوم إلى أنها
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣١٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦٨).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦٨).
(٣) في "ت": "هو منسوخ".
(٤) رواه أبو داود (٥١٩٢)، كتاب: الأدب، باب: الاستئذان في العورات الثلاث، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٨/ ٢٦٣٢)، والبيهقي في "السنن الكبرى" =
558
غير منسوخة، قال سعيد بن جبير: "إن ناسًا يقولون: نسخت، واللهِ ما نُسخت، ولكنها مما تهاون به الناس" (١).
﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ أي: الأحرار إذا بلغوا ﴿فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾ في جميع الأوقات في الدخول عليكم.
﴿كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأحرار البالغين.
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ كرر تأكيدًا ومبالغة في الأمر بالاستئذان.
﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ﴾ هي من قعدت عن الحيض والولد؛ لكبرها.
= (٧/ ٩٧). قال ابن كثير في "تفسيره" (٣/ ٣٠٤) عن إسناد ابن أبي حاتم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس. وقال القرطبي في "تفسيره" (١٢/ ٣٠٣): هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد بن جبير، فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية، ولكن على أنه كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحاري ونحوها.
(١) رواه الطبري في "تفسيره" (١٨/ ١٦٣).
﴿اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ أي: لا يُردن الرجال؛ لكبرهن.
﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ الظاهرة؛ كالملحفة والجلباب الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار، فأما الخمار، فلا يجوز وضعه.
﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ غير مظهِرات محاسنَهن.
﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ﴾ عن وضع الثياب.
﴿خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ لأنه أبعد من التهمة.
﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لمقالهن للرجال ﴿عَلِيمٌ﴾ بمقصودهن، وتقدم ذكر الخلاف في النظر إلى العجوز التي لا تشتهى في السورة.
...
﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ كان هؤلاء يتوقَّون مؤاكلة الناس ومجالستهم؛ لأن الأعمى ربما سبقت يده
560
إلى ما سبقت عين أكيله إليه، والأعرج يأخذ من المجلس أكثر من موضع، والمريض لا يخلو من رائحة يؤذي بها، أو شيء ينجس، فنزلت الآية مبيحة لهم.
﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ فيه دلالة على أن يأكل في بيته من مال عياله وزوجته، فيدخل فيها بيوت الأولاد؛ لأن بيت الولد كبيته؛ لقوله - ﷺ -: "أنتَ ومالُكَ لأبيك" (١)، ولذلك لم يذكر الأولاد في الآية.
وتقدم استدلال الإمام أحمد بهذا الحديث على أن للرجل أن يأخذ من مال ولده ما شاء ويتملكه في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [الآية: ٢٦٧].
﴿أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ﴾ وهذا فيما ليس مُحرزًا. قرأ ابن كثير، وابن عامر، وقالون عن نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (بِيُوتِ) و (بِيُوتًا) و (بِيُوتِكُمْ) و (بِيُوتِهِمْ) وما جاء منه بكسر الباء حيث وقع، والباقون: بالضم (٢)، وقرأ حمزة: (إِمَّهَاتِكُمْ) بكسر الهمزة والميم،
(١) رواه أبو داود (٣٥٣٠)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يأكل من مال ولده، وابن ماجه (٢٢٩٢)، كتاب: التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده، والإمام أحمد في "المسند" (٢/ ٢٠٤)، وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٤٥ - ٢٤٦).
561
والكسائي بكسر الهمزة فقط، وذلك في الوصل، وقرأ الباقون: بضم الهمزة وفتح الميم، واتفقوا على الابتداء كذلك (١).
﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ هو بيت موكله، فله أن يأكل من زرعه وضرعه إذا احتاج، ولا يدخر، والمفاتيح: الخزائن.
﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ الصديق: الذي صدقك في المودة، قال ابن عباس: "نزلت في الحارث بن عمرو، خرج غازيًا مع رسول الله - ﷺ -، وخلف مالك يزيد على أهله، فلما رجع، وجده مجهودًا، فسأله عن حاله، فقال: تحرَّجْتُ أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله الآية" (٢).
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا﴾ مجتمعين ﴿أَوْ أَشْتَاتًا﴾ متفرقين، نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة، كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده حتى يجد ضيفًا يأكل معه (٣).
﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا﴾ من هذه البيوت للأكل أو غيره ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: على أهل دينكم، وقال ابن عباس: "معناه إذا دخلت المسجد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" (٤) ﴿تَحِيَّةً﴾ مصدر؛ أي: تحيون أنفسكم تحية.
﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ وصفت بالبركة والطيب؛ لما فيها من
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٦٩).
(٢) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٦/ ٢٢٥).
(٣) انظر: "تفسير الطبري" (١٨/ ١٧٠)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٩٠).
(٤) رواه الطبري في "تفسيره" (١٨/ ١٧٤)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٨/ ٢٦٥٠)، والحاكم في "المستدرك" (٣٥١٤)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٨٨٦٣).
562
الأجر والثواب؛ لأن البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء.
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ كرره ثالثًا؛ لمزيد التأكيد.
﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ الحقَّ في الأمور.
...
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ مبتدأ، خبره ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ثم أكد الحصر بقوله:
﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ﴾ أي: مع رسول الله - ﷺ - ﴿عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ نحو الجهاد والعيد والجمعة، والتشاور في أمر نزل ﴿لَمْ يَذْهَبُوا﴾ لم يتفرقوا ﴿حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ في الانصراف، وكان - ﷺ - إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد رجل الخروج، وقف حيث يراه، فيأذن له إن شاء، ثم أكد ذلك بقوله:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ فأفاد أن المستأذن مؤمن، وأن الذاهب بغير إذن ليس كذلك ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ﴾ في الانصراف ﴿لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ﴾ قصدهم. قرأ أبو عمرو: (لِبَعْض شَّأْنِهِمْ) بإدغام الضاد في الشين في هذا الحرف فقط (١).
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٧٠).
﴿فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ لا اعتراض عليك.
﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ﴾ إن خرجوا بإذنك لخروجهم عنك.
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لفرطات العباد ﴿رَحِيمٌ﴾ بالتيسير عليهم.
...
﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضًا: يا محمد، ولكن فخموه، وقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، في لين وتواضع، وهذه الآية مخاطبة لجميع معاصري محمد - ﷺ -، وقال ابن عباس: "معناه: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه؛ فإن دعاءه موجب، ليس كدعاء غيره" (١).
﴿قَدْ يَعْلَمُ﴾ أي: قد علم ﴿اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ﴾ يخرجون واحدًا بعد واحد ﴿لِوَاذًا﴾ يلوذ بعضهم ببعض يتستر به.
﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ﴾ أي: يميلون ﴿عَنْ أَمْرِهِ﴾ أي: عن أمر الله تعالى، أو أمر نبيه - ﷺ - ﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ أي: محنة وبلاء.
﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة.
...
(١) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٦/ ٢٣٠).
﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ خلقًا وملكًا.
﴿قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ من الأحوال والأعمال، المعنى: عليه محيط بجميع الأشياء.
﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ﴾ جميعًا، الخطاب للمنافقين على سبيل الالتفات.
قرأ يعقوب: (يَرْجِعُونَ) بفتح الياء وكسر الجيم، والباقون: بضم الياء وفتح الجيم (١).
﴿فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا﴾ بالمجازاة عليه.
﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يخفى عليه شيء.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - ﷺ -: "لا تُنْزِلوا النساءَ الغرفَ، ولا تعلموهنَّ الكتابة، وعلموهن الغزلَ وسورة النور" (٢)، والله أعلم.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٧٠).
(٢) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (٥٧١٣)، وابن حبان في "المجروحين" (٢/ ٣٠٢)، والحاكم في "المستدرك" (٣٤٩٤)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٢٤٥٣)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (١٤/ ٢٢٤)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٤/ ٩٣): فيه محمد بن إبراهيم الشامي، قال الدارقطني: كذاب.
565
فَتْحُ الرَّحْمَن في تَفْسِيْرِ القُرآنِ
تَأليف
الإِمَامِ القَاضِي مُجِير الدِّينِ بْنِ مُحمَّد العُليِميِّ المَقدِسِيِّ الحَنبليِّ
المولود سنة (٨٦٠ هـ) - والمتوفى سنة (٩٢٧ هـ) رَحِمَهُ الله تعَالى
المُجَلَّد الخامس
اعتَنَى بِهِ
تَحقِيقًا وضَبْطًا وتَخْريجًا
نُوْرُ الدِّيْن طَالب
إصدَارات
وزَارة الأوقاف والشُؤُوْن الإِسلامِيّة
إدَارَةُ الشُؤُوْنِ الإِسلاَمِيّةِ
دولة قطر
1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

2
فَتْحُ الرَّحْمَنَ
3
حُقُوق الطَّبع مَحفُوظَة
لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية
دولة قطر
الطَبعَة الأولى، ١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
قامت بعمليات التنضيد الضوئي والإخراج والطباعة
دارُ النَّوادر لصاحبها ومديرها العام نور الدين طالب
سوريا - دمَشق - ص. ب: ٣٤٣٠٦
لبنان - بَيروت - ص. ب: ٥١٨/ ١٤
هَاتف: ٠٠٩٦٣١١٢٢٢٧٠٠١ - فاكس: ٠٠٩٦٣١١٢٢٢٧٠١١
www.daralnawader.com
4
Icon