تفسير سورة فاطر

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة فاطر
هذه السورة مكية.
ولما ذكر تعالى في آخر السورة التي قبلها هلاك المشركين أعداء المؤمنين، وأنزلهم منازل العذاب، تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره لنعمائه ووصفه بعظيم آلائه، كما في قوله :﴿ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ﴾

ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ

[الجزء التاسع]

سورة فاطر
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١ الى ٤٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤)
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
5
القمطير: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ الْقِشْرَةُ الرَّقِيقَةُ الَّتِي عَلَى نَوَى التَّمْرَةِ، وَيَأْتِي مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. الْجُدَدُ: جَمْعُ جُدَّةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ تَكُونُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْجَبَلِ، كَالْقِطْعَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُتَّصِلَةِ طُولًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجُدَدُ: الْخُطَطُ وَالطَّرَائِقُ. وَقَالَ لَبِيدٌ: أَوْ مَذْهَبُ جُدَدٌ عَلَى الْوَاحِدِ، وَيُقَالُ: جُدَّةُ الْحِمَارِ لِلْخَطَّةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي عَلَى ظَهْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلظَّبْيِ جُدَّتَانِ مِسْكِيَّتَانِ تَفْصِلَانِ بَيْنَ لَوْنَيْ ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ مَبَرَّاتٍ وجدة ظهره كساءين يَجْرِي بَيْنَهُنَّ دَلِيصُ
الْجُدَّةُ: الْخَطُّ الَّذِي فِي وَسَطِ ظَهْرِهِ، يَصِفُ حِمَارَ وَحْشٍ. الغريب: الشَّدِيدُ السَّوَادِ. لَغِبَ يَلْغَبُ لُغُوبًا: أَعْيَا.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ، الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ.
8
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا هَلَاكَ الْمُشْرِكِينَ أَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَهُمْ مَنَازِلَ الْعَذَابِ، تَعَيَّنَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَمْدُهُ تَعَالَى وَشُكْرُهُ لِنَعْمَائِهِ وَوَصْفُهُ بِعَظِيمِ آلَائِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «١».
وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَالزَّهْرِيُّ: فَطَرَ، جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا وَنَصَبَ مَا بَعْدَهُ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: فَإِمَّا عَلَى إِضْمَارِ الَّذِي فَيَكُونُ نَعْتًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا بِتَقْدِيرِ قَدْ فِيمَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ الِاسْمِيِّ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا الْحَالُ فَيَكُونُ حَالًا مَحْكِيَّةً، وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ محذوف، أي هُوَ فَطَرَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى خَالِقُهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، والسموات وَالْأَرْضُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَالَمِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْحَمْدُ يَكُونُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ عَلَى النِّعْمَةِ، ونعم الله عاجلة، والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «٢»، إشارة إلى أن النِّعْمَةِ الْعَاجِلَةِ وَدَلِيلُهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا «٣»، والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ «٤»، إِشَارَةٌ إِلَيْهَا أَيْضًا، وَهِيَ الِاتِّقَاءُ، فَإِنَّ الِاتِّقَاءَ وَالصَّلَاحَ بِالشَّرْعِ وَالْكِتَابِ. وَالْحَمْدُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَالْحَشْرِ، وَدَلِيلُهُ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها «٥» مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ «٦»، وَهُنَا إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ البقاء في الآخرة، دليله: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «٧». ففاطر السموات وَالْأَرْضِ شَاقُّهُمَا لِنُزُولِ الْأَرْوَاحِ مِنَ السَّمَاءِ، وَخُرُوجِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْأَرْضِ دَلِيلُهُ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ: أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَّصِلٌ بِآخِرِ مَا مَضَى، لِأَنَّ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ بَيَانٌ لِانْقِطَاعِ رَجَاءِ مَنْ كَانَ فِي شَكٍّ مُرِيبٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِ وَبَشَّرَهُ بِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ مُبَشِّرِينَ، وَأَنَّهُ يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الرَّحْمَةِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: جَاعِلٌ بِالرَّفْعِ، أَيْ هُوَ جَاعِلٌ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَجَاعِلُ رَفْعًا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، الْمَلَائِكَةَ نَصْبًا، حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ يعمر،
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٤٥.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ٢.
(٤) سورة الكهف: ١٨/ ١.
(٥) سورة سبأ: ٣٤/ ٢، وسورة الحديد: ٥٧/ ٤.
(٦) سورة سبأ: ٣٤/ ٣.
(٧) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠٣.
9
وَخُلَيْدُ بْنُ نَشِيطٍ: جَعَلَ فِعْلًا مَاضِيًا، الْمَلَائِكَةَ نَصْبًا، وَذَلِكَ بَعْدَ قِرَاءَتِهِ فَاطِرِ بِأَلِفٍ، وَالْجَرِّ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً «١». وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ:
رُسْلًا بِإِسْكَانِ السِّينِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمَ. وَقَالَ الزمخشري: وقرىء الذي فطر السموات وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةَ. فَمَنْ قَرَأَ: فَطَرَ وَجَعَلَ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمَلُ إِخْبَارًا مِنَ الْعَبْدِ إِلَى مَا أَسْدَاهُ إِلَيْنَا مِنَ النِّعَمِ، كَمَا تَقُولُ: الْفَضْلُ لِزَيْدٍ أَحْسَنَ إِلَيْنَا بِكَذَا خَوَّلَنَا كَذَا، يَكُونُ ذَلِكَ جِهَةَ بَيَانٍ لِفِعْلِهِ الْجَمِيلِ، كَذَلِكَ يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: فَطَرَ، جَعَلَ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نِعَمًا لَا تُحْصَى. وَمَنْ قَرَأَ: وَجَاعِلِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا اسْمَا فَاعِلٍ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ، فَيُكُونَانِ صِفَةً لِلَّهِ، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِي نَصْبِ رُسُلًا. فَمَذْهَبُ السِّيرَافِيِّ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إِضَافَتُهُ إِلَى اسْمَيْنِ نصب الثاني. وَمَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَأَمَّا مَنْ نَصَبَ الْمَلَائِكَةَ فَيَتَخَرَّجُ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَهِشَامٍ فِي جَوَازِ إِعْمَالِ الْمَاضِي النَّصْبَ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ إِعْرَابُهُ بَدَلًا.
وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَقْبَلٌ تَقْدِيرُهُ: يَجْعَلُ الْمَلَائِكَةَ رُسُلًا، وَيَكُونُ أَيْضًا إِعْرَابُهُ بَدَلًا. وَمَعْنَى رُسُلًا بِالْوَحْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَوَامِرِهِ، وَلَا يُرِيدُ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا كُلُّهُمْ رُسُلًا. فَمِنَ الرُّسُلِ:
جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَعِزْرَائِيلَ، وَالْمَلَائِكَةُ الْمُتَعَاقِبُونَ، وَالْمَلَائِكَةُ الْمُسَدِّدُونَ حُكَّامُ الْعَدْلِ وَغَيْرُهُمْ، كَالْمَلَكِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَعْمَى والأبرص والأقرع.
وأَجْنِحَةٍ جَمْعُ جَنَاحٍ، صِيغَةُ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَقِيَاسُ جَمْعِ الْكَثْرَةِ فِيهِ جَنَحَ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسْمَعْ كَانَ أَجْنِحَةٍ مُسْتَعْمَلًا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَتَقَدَّمَ الكلام عَلَى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ مُشْبَعًا، وَلَكِنِ الْمُفَسِّرُونَ تَعَرَّضُوا لِكَلَامٍ فِيهِ هُنَا، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ صِفَاتُ الْأَجْنِحَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَنْصَرِفْ لِتَكْرَارِ الْعَدْلِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا عُدِلَتْ عَنْ أَلْفَاظِ الْأَعْدَادِ مِنْ صِيَغٍ إِلَى صِيَغٍ أُخَرَ، كَمَا عُدِلَ عُمَرُ عَنْ عَامِرٍ، وَحَذَامِ عَنْ حَاذِمَةٍ، وَعَنْ تَكْرِيرٍ إِلَى غَيْرِ تَكْرِيرٍ. وَأَمَّا بِالْوَصْفِيَّةِ، فَلَا تَقْتَرِنُ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ الْمَعْدُولَةِ وَالْمَعْدُولِ عَنْهَا. أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ بِنِسْوَةٍ أَرْبَعٍ وَبِرِجَالٍ ثَلَاثَةٍ فَلَا يُعَرَّجُ عَلَيْهَا؟ انْتَهَى. فَجَعَلَ الْمَانِعَ لِلصَّرْفِ هُوَ تَكْرَارُ الْعَدْلِ فِيهَا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا امْتَنَعَتْ مِنَ الصَّرْفِ لِلصِّفَةِ وَالْعَدْلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَلَا تَرَاكَ، فَإِنَّهُ قَاسَ الصِّفَةَ فِي هَذَا الْمَعْدُولِ عَلَى الصِّفَةِ فِي أَفْعَلَ وَفِي ثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الصِّفَةِ لَمْ يَعُدُّوهُ عِلَّةً، بَلِ اشْتَرَطُوا فِيهِ. فَلَيْسَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا فِي أَرْبَعٍ، لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ تَاءَ التَّأْنِيثِ. وَلَيْسَ شَرْطُهُ فِي ثَلَاثَةٍ مَوْجُودًا، لِأَنَّهُ لَمْ يجعل علة
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٩٦.
10
مَعَ التَّأْنِيثِ. فَقِيَاسُ الزَّمَخْشَرِيِّ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، إِذْ غَفَلَ عَنْ شَرْطِ كَوْنِ الصِّفَةِ عِلَّةً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عُدِلَتْ عَنْ حَالِ التَّنْكِيرِ، فَتَعَرَّفَتْ بِالْعَدْلِ، فَهِيَ لَا تَنْصَرِفُ لِلْعَدْلِ وَالتَّعْرِيفِ، وَقِيلَ:
لِلْعَدْلِ وَالصِّفَةِ. انْتَهَى. وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَشْهُورُ، وَالْأَوَّلُ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَكَ الْوَاحِدَ مِنْ صِنْفٍ لَهُ جَنَاحَانِ، وَآخَرَ ثَلَاثَةٌ، وَآخَرَ أَرْبَعَةٌ، وَآخَرَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا روي أن لجبريل سِتَّمِائَةِ جَنَاحٍ، مِنْهَا اثْنَانِ يَبْلُغُ بِهِمَا الْمَشْرِقَ إِلَى الْمَغْرِبِ. قَالَ قَتَادَةُ:
وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَتَكَلَّمُ عَلَى كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْأَجْنِحَةِ، وَعَلَى صُورَةِ الثَّلَاثَةِ بِمَا لَا يُجْدِي قَائِلًا:
يُطَالِعُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى أَنَّ فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْمَلَكِ جَنَاحَانِ، وَلِبَعْضِهِمْ ثَلَاثَةٌ، وَلِبَعْضِهِمْ أَرْبَعَةٌ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ ثَلَاثَةً لِوَاحِدٍ، لَمَا اعْتَدَلَتْ فِي مُعْتَادٍ مَا رَأَيْنَا نَحْنُ مِنَ الْأَجْنِحَةِ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ ثَلَاثَةٌ لِوَاحِدٍ، كَمَا يُوجَدُ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَجْنِحَةِ مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي اللُّغَةِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: يُزِيلُ بَحْثَهُ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَيْنَا عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، أَقَلُّ مَا يَكُونُ لِذِي الْجَنَاحِ، إِشَارَةً إِلَى الْجِهَةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ شَيْءٌ فَوْقَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَنِعْمَتِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَهُمْ وَجْهٌ إِلَى اللَّهِ يَأْخُذُونَ مِنْهُ نِعَمَهُ وَيُعْطُونَ مَنْ دُونَهُمْ مِمَّا أَخَذُوهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ «١»، وَقَوْلُهُ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «٢»، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً «٣»، فَهُمَا جَنَاحَانِ، وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ مِنَ الْخَيْرِ بِوَاسِطَةٍ، وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُهُ لَا بِوَاسِطَةٍ. فَالْفَاعِلُ بِوَاسِطَةٍ فِيهِمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثُ جِهَاتٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ جِهَاتٍ وَأَكْثَرُ.
انْتَهَى. وَبَحْثُهُ فِي هَذِهِ، وَفِي فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَحْثٌ عَجِيبٌ، وَلَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ فَهْمِ الْعَرَبِ مِنْ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي حَمَّلَهَا مَا حَمَّلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَثْنَى وَمَا بَعْدَهُ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْنِحَةِ، وَقِيلَ: أُولِي أَجْنِحَةٍ مُعْتَرِضٌ، ومَثْنى حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُسُلًا، أَيْ يُرْسَلُونَ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ. قِيلَ: وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ أُولِي أَجْنِحَةٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمْ رُسُلًا، جَعَلَ لَهُمْ أَجْنِحَةً لِيَكُونَ أَسْرَعَ لِنَفَادِ الْأَمْرِ وَسُرْعَةِ إِنْفَاذِ الْقَضَاءِ. فَإِنَّ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا تُقْطَعُ بِالْأَقْدَامِ إِلَّا فِي سِنِينَ، فَجُعِلَتْ لَهُمُ الْأَجْنِحَةُ حَتَّى يَنَالُوا الْمَكَانَ الْبَعِيدَ فِي الْوَقْتِ الْقَرِيبِ كالطير.
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٩٣- ١٩٤.
(٢) سورة النجم: ٥٣/ ٥.
(٣) سورة النازعات: ٧٩/ ٥.
11
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ: تَقْرِيرٌ لِمَا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنَ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِغْرَابِ مِنْ خَبَرِ الْمَلَائِكَةِ أُولِي أَجْنِحَةٍ، أَيْ لَيْسَ هَذَا بِبِدْعٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْخَلْقِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا فِي الْأَجْنِحَةِ الَّتِي لِلْمَلَائِكَةِ، أَيْ يَزِيدُ فِي خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ الْأَجْنِحَةَ. وَقَالُوا: فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ الْخَلْقُ الْحَسَنُ، أَوْ حُسْنُ الصَّوْتِ، أَوْ حُسْنُ الْخَطِّ، أَوْ لِمَلَاحَةٍ فِي الْعَيْنَيْنِ أَوِ الْأَنْفِ، أَوْ خِفَّةُ الرُّوحِ، أَوِ الْحُسْنُ، أَوْ جُعُودَةُ الشَّعْرِ، أَوِ الْعَقْلُ، أَوِ الْعِلْمُ، أَوِ الصَّنْعَةُ، أَوِ الْعِفَّةُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَالْحَلَاوَةُ فِي الْفَمِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ. وَالْآيَةُ مُطْلَقَةٌ تَتَنَاوَلُ كُلَّ زِيَادَةٍ فِي الْخَلْقِ، وَقَدْ شَرَحُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِالْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَمَا يَشَاءُ عَامٌّ لَا يَخُصُّ مُسْتَحْسَنًا دُونَ غَيْرِهِ. وَخَتَمَ الْآيَةَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْفَتْحُ وَالْإِرْسَالُ اسْتِعَارَةٌ لِلْإِطْلَاقِ، فَلا مُرْسِلَ لَهُ مَكَانَ لَا فَاتِحَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شيء يطلق اللَّهُ.
مِنْ رَحْمَةٍ: أَيْ نِعْمَةٍ وَرِزْقٍ، أَوْ مَطَرٍ، أَوْ صِحَّةٍ، أَوْ أَمْنٍ، أو غير ذلك من صُنُوفِ نَعْمَائِهِ الَّتِي لَا يُحَاطُ بِعَدَدِهَا. وَمَا رُوِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ تَفْسِيرِ رَحْمَةٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ عَلَى الْحَصْرِ مِنْهُ، إِنَّمَا هُوَ مِثَالٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَنْكِيرُ الرَّحْمَةِ لِلْإِشَاعَةِ وَالْإِبْهَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ أَيَّةِ رَحْمَةٍ كَانَتْ سَمَاوِيَّةً أَوْ أَرْضِيَّةً، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِمْسَاكِهَا وَحَبْسِهَا، وَأَيُّ شَيْءٍ يُمْسِكُ اللَّهُ فَلَا أَحَدَ يَقْدِرُ عَلَى إِطْلَاقِهِ. انْتَهَى. وَالْعُمُومُ مَفْهُومٌ مِنِ اسْمِ الشَّرْطِ وَمِنْ رَحْمَةٍ لِبَيَانِ ذَلِكَ الْعَامِّ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ هُوَ، وَهُوَ مِمَّا اجْتُزِئَ فِيهِ بِالنَّكِرَةِ الْمُفْرَدَةِ عَنِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ الْمُطَابِقِ فِي الْعُمُومِ لِاسْمِ الشَّرْطِ، وَتَقْدِيرُهُ: مِنَ الرَّحَمَاتِ، وَمِنْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كائنا من الرَّحَمَاتِ، وَلَا يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لَا يُوصَفُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما يُمْسِكْ عَامٌّ فِي الرَّحْمَةِ وَفِي غَيْرِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ تَبْيِينٌ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا يُمْسِكُ. فَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُ مِنْ رَحْمَةٍ، وَحُذِفَتْ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ تَذْكِيرُ الضَّمِيرِ فِي فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَا، وَأُنِّثَ فِي مُمْسِكَ لَها عَلَى مَعْنَى مَا، لِأَنَّ معناها الرحمة. وقرىء: فَلَا مُرْسِلَ لَهَا، بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّفْسِيرَ هُوَ مِنْ رَحْمَةٍ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ رَحْمَةٍ: مِنْ بَابِ تَوْبَةٍ، فَلا مُمْسِكَ لَها: أَيْ يَتُوبُونَ إِنْ شاؤوا وَإِنْ أَبَوْا، وَما يُمْسِكْ: مِنْ بَابٍ، فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَهُمْ لَا يَتُوبُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مِنْ رَحْمَةٍ: مِنْ هِدَايَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ فَسَّرَ الرَّحْمَةَ بِالتَّوْبَةِ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؟ قُلْتُ: أَرَادَ بِالتَّوْبَةِ: الْهِدَايَةَ لَهَا وَالتَّوْفِيقَ فِيهَا، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ
12
ابْنُ عَبَّاسٍ، إِنْ قَالَهُ فَمَقْبُولٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَتُوبَ الْعَاصِي تَابَ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَتُبْ فَمَرْدُودٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشَاءُ التَّوْبَةَ أَبَدًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَشَاءَ بِهَا. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. مِنْ بَعْدِهِ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ بَعْدِ إِمْسَاكِهِ، كَقَوْلِهِ:
فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ «١»، أَيْ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ على علم، كقوله: ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ «٢»، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ بَعْدِ هِدَايَةِ اللَّهِ، وَهُوَ تَقْدِيرٌ فَاسِدٌ لَا يُنَاسِبُ الْآيَةَ، جَرَى فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِرْسَالِ وَالْإِمْسَاكِ، الْحَكِيمُ الَّذِي يُرْسِلُ وَيُمْسِكُ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خِطَابٌ لِقُرَيْشٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِهِ في إيجادهم. واذْكُرُوا: لَيْسَ أَمْرًا بِذِكْرِ اللِّسَانِ، وَلَكِنْ بِهِ وَبِالْقَلْبِ وَبِحِفْظِ النِّعْمَةِ مِنْ كُفْرَانِهَا وَشُكْرِهَا، كَقَوْلِكَ لِمَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: اذْكُرْ أَيَادِيَّ عِنْدَكَ، تُرِيدُ حِفْظَهَا وَشُكْرَهَا، وَالْجَمِيعُ مَغْمُورُونَ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ. فَالْخِطَابُ عَامُّ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ نَزَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ. هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ: أَيْ فَلَا إِلَهَ إِلَّا الْخَالِقُ، مَا تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَشَقِيقٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: غَيْرِ بِالْخَفْضِ، نَعْتًا عَلَى اللَّفْظِ، ومِنْ خالِقٍ مبتدأ.
ويَرْزُقُكُمْ: جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَتَهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَالْخَبَرُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَكُمْ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: غَيْرُ بِالرَّفْعِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ نَعْتًا عَلَى الْمَوْضِعِ، كَمَا كَانَ الْخَبَرُ نَعْتًا عَلَى اللَّفْظِ، وَهَذَا أَظْهَرُ لِتَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بَاسِمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ خَالِقٌ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ عَلَى أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَحَسُنَ إِعْمَالُهُ، كَقَوْلِكَ: أَقَائِمٌ زَيْدٌ فِي أَحَدِ وَجْهَيْهِ؟ وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ، إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ وَأَجْرِيَ مُجْرَى الْفِعْلِ، فَرَفَعَ مَا بَعْدَهُ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ مِنَ الَّتِي لِلِاسْتِغْرَاقِ فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ قَائِمٍ الزَّيْدُونَ؟ كَمَا تَقُولُ: هَلْ قَائِمٌ الزَّيْدُونَ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. إِلَّا تَرَى أَنَّهُ إِذَا جَرَى مَجْرَى الْفِعْلِ، لَا يَكُونُ فِيهِ عُمُومٌ خِلَافُهُ إِذَا أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ مِنْ، وَلَا أَحْفَظُ مِثْلُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَدَّمَ عَلَى إِجَازَةِ مِثْلِ هَذَا إِلَّا بِسَمَاعٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ؟ وَقَرَأَ الْفَضْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّحْوِيُّ: غَيْرَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْخَبَرُ إِمَّا يَرْزُقُكُمْ وَإِمَّا مَحْذُوفٌ، وَيَرْزُقُكُمْ مُسْتَأْنَفٌ وَإِذَا كَانَ يَرْزُقُكُمْ مُسْتَأْنِفًا، كَانَ أولى لانتفاء
(١) سورة الجاثية: ٤٥/ ٢٣.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٦. [.....]
13
صِدْقِ خَالِقٍ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، بِخِلَافِ كَوْنِهِ صِفَةً، فَإِنَّ الصِّفَةَ تُقَيِّدُ، فَيَكُونُ ثَمَّ خَالِقٌ غَيْرُ اللَّهِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِرَازِقٍ. وَمَعْنَى مِنَ السَّماءِ: بِالْمَطَرِ، وَالْأَرْضِ: بِالنَّبَاتِ، لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ: جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ: أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَلَى التَّوْحِيدِ إِلَى الشِّرْكِ، وَأَنْ يُكَذِّبُوكَ إِلَى الْأُمُورِ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ: شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا وَعَدَ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وغير ذلك. وقرأ الجمهور: الْغَرُورُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالشَّيْطَانِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو السَّمَّالِ: بِضَمِّهَا جَمْعَ غَارٍ، أَوْ مَصْدَرًا، كَقَوْلِهِ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ «١»، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ لُقْمَانَ. إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ: عَدَاوَتُهُ سَبَقَتْ لِأَبِينَا آدَمَ، وَأَيُّ عَدَاوَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي بَنِيهِ: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «٢»، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ «٣» ؟ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا: أَيْ بِالْمُقَاطَعَةِ وَالْمُخَالَفَةِ بِاتِّبَاعِ الشَّرْعِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَقْصُودَهُ فِي دُعَاءِ حِزْبِهِ إِنَّمَا هُوَ تَعْذِيبُهُمْ فِي النَّارِ، يَشْتَرِكُ هُوَ وَهُمْ فِي الْعَذَابِ، فَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْحِرْصِ حَتَّى يُبَيِّنَ صِدْقَ قَوْلِهِ فِي: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِيمَا يَسُوءُ مِمَّا قَدْ يَتَسَلَّى بِهِ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ بِالْعَذَابِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمَا مِنَ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ.
وَبَدَأَ بِالْكُفَّارِ لِمُجَاوِرَةِ قَوْلِهِ: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ، فَأَتْبَعَ خَبَرَ الْكَافِرِ بِحَالِهِ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّامُ فِي لِيَكُونَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى السَّعِيرِ، إِنَّمَا اتَّفَقَ أَنْ صَارَ أَمْرُهُمْ عَنْ دُعَائِهِ إِلَى ذَلِكَ. انْتَهَى. وَنَقُولُ: هُوَ مِمَّا عُبِّرَ فِيهِ عَنِ السَّبَبِ بِمَا تَسَبَّبَ عَنْهُ دُعَاؤُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَتَسَبَّبَ عنه العذاب. والَّذِينَ كَفَرُوا، وَالَّذِينَ آمَنُوا. مُبْتَدَآنِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ فِي الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلًا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ، أَوْ صِفَةً، وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنْ حِزْبَهُ، وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بَدَلًا مِنَ ضَمِيرِ لِيَكُونُوا، وَهَذَا كُلُّهُ بِمَعْزِلٍ مِنْ فَصَاحَةِ التَّقْسِيمِ وَجَزَالَةِ التَّرْكِيبِ.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً: أَيْ فَرَأَى سُوءَ عَمَلِهِ حَسَنًا، وَمَنْ مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: كَمَنْ لَمْ يُزَيَّنْ لَهُ، كَقَوْلِهِ:
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ «٤»، أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى «٥»، أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «٦»، ثُمَّ قَالَ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٢٢.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٣٩.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١١٩.
(٤) سورة محمد: ٤٧/ ١٤.
(٥) سورة الرعد: ١٣/ ١٩.
(٦) سورة الأنعام: ٦/ ١٢٢.
14
الظُّلُماتِ «١»، وَقَالَهُ الْكِسَائِيُّ، أَيْ تَقْدِيرُهُ: تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ لِدَلَالَةِ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فَرَآهُ حَسَنًا، فَأَضَلَّهُ اللَّهُ كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ، فَحُذِفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الزَّجَّاجُ. وَشَرَحَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْ أَنَّ الْإِضْلَالَ هُوَ خذلانه وتخليته وشأنه، وَأَتَى بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَفَمَنْ زُيِّنَ مبينا لِلْمَفْعُولِ سُوءُ رُفِعَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: زَيَّنَّ لَهُ سُوءَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَنَصَبَ سُوءَ وَعَنْهُ أَيْضًا أَسْوَأَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ مَنْصُوبًا وَأَسْوَأُ عَمَلِهِ: هُوَ الشِّرْكُ. وَقِرَاءَةُ طَلْحَةَ: أَمَنْ بِغَيْرِ فَاءٍ، قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: لِلِاسْتِخْبَارِ بِمَعْنَى الْعَامَّةِ لِلتَّقْرِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى حَرْفِ النِّدَاءِ، فَحُذِفَ التَّمَامُ كَمَا حُذِفَ مِنَ الْمَشْهُورِ الْجَوَابُ. انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالْجَوَابِ:
خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، وَبِالتَّمَامِ: مَا يُؤَدَّى لِأَجْلِهِ، أَيْ تَفَكَّرْ وَارْجِعْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ عَنْ كُفْرِ قَوْمِهِ، وَوُجُوبُ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ فِي إِضْلَالِهِ مَنْ يَشَاءُ وَهِدَايَةِ مَنْ يَشَاءُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنْ ذَهَبَ، وَنَفْسُكَ فَاعِلٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَقَتَادَةُ، وَعِيسَى، وَالْأَشْهَبُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَحُمَيدٌ وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: تُذْهِبْ من أذهب، مسند الضمير الْمُخَاطَبِ، نَفْسُكَ: نُصِبَ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ: وَالْحَسْرَةُ هَمُّ النَّفْسِ عَلَى فَوَاتِ أَمْرٍ. وَانْتُصِبَ حَسَراتٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ فَلَا تَهْلِكْ نَفْسُكَ لِلْحَسَرَاتِ، وعليهم متعلق بتذهب، كَمَا تَقُولُ: هَلَكَ عَلَيْهِ حُبًّا، وَمَاتَ عَلَيْهِ حُزْنًا، أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِلْمُتَحَسَّرِ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِحَسَرَاتٍ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، فَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، كَأَنَّ كُلَّهَا صَارَتْ حَسَرَاتٍ لِفَرْطِ التَّحَسُّرِ، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
مَشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى حَتَّى ذَهَبْنَ كَلَاكِلًا وصدروا
يريد: رجعن كلا كلا وَصُدُورًا، أَيْ لَمْ يَبْقَ إلا كلا كلها وَصُدُورُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
فَعَلَى إِثْرِهِمْ تَسَاقَطُ نَفْسِي حَسَرَاتٍ وَذِكْرُهُمْ لِي سَقَامُ
انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ مِنَ أَنَّ كلا كلا وَصُدُورًا حَالَانِ هُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ تَمْيِيزٌ مَنْقُولٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أي حتى ذهبت كلا كلها وَصُدُورُهَا. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى سُوءِ صُنْعِهِمْ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ: أَيْ فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٢٢.
15
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ، مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ.
لَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الْأُمُورِ السَّمَاوِيَّةِ وَإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ، ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الأمور الأرضية:
الرياح وإسالها، وَفِي هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ. دَلَّهُمْ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي يُعَايِنُونَهُ، وَهُوَ وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى سِيَّانِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فَقَالَ: هَلْ مررت بوادي أُهْلِكَ مَحْلًا، ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَتِلْكَ آيَتُهُ فِي خَلْقِهِ».
قِيلَ: أَرْسَلَ فِي مَعْنَى يُرْسِلُ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ فَتُثِيرُ. وَقِيلَ: جِيءَ بِالْمُضَارِعِ حِكَايَةَ حَالٍ يَقَعُ فِيهَا إِثَارَةُ الرِّيَاحِ السَّحَابَ، وَيَسْتَحْضِرُ تِلْكَ الصُّورَةَ الْبَدِيعَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَمِنْهُ فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَذَا يَفْعَلُونَ بِكُلِّ فِعْلٍ فِيهِ نَوْعُ تَمْيِيزِ خُصُوصِيَّةٍ بِحَالٍ يُسْتَغْرَبُ، أَوْ يُتَّهَمُ الْمُخَاطَبُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا:
بِأَنِّي قَدْ لَقِيتُ الْغُولَ تَهْوِي بِشُهْبٍ كَالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ
فَأَضْرِبُهَا بلاد هش فَخَرَّتْ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ
لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُصَوِّرَ لِقَوْمِهِ الْحَالَةَ الَّتِي يُشَجِّعُ فِيهَا ابْنَ عَمِّهِ عَلَى ضَرْبِ الْغُولِ، كَأَنَّهُ يُبَصِّرُهُمْ إياهم وَيُطْلِعُهُمْ عَلَى كُنْهِهَا، مُشَاهَدَةً لِلتَّعَجُّبِ مِنْ جَرَاءَتِهِ عَلَى كُلِّ هَوْلٍ، وَثَبَاتِهِ عِنْدَ كُلِّ شِدَّةٍ. وَكَذَلِكَ سَوْقُ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ بَعْدَ موتها.
لما كانا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ وَقِيلَ: فَسُقْنَا وَأَحْيَيْنَا، مَعْدُولًا بِهِمَا عَنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ
16
إِلَى مَا هُوَ أَدْخَلُ فِي الِاخْتِصَاصِ وَأَدَلُّ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ:
أَيْ أَرْسَلَ بِلَفْظِ الْمَاضِي. لِمَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ وَمَا يَفْعَلُهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: كُنْ، لَا يَبْقَى زَمَانًا وَلَا جُزْءَ زَمَانٍ، فَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ لِوُجُوبِ وُقُوعِهِ وَسُرْعَةِ كَوْنِهِ، وَلِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ قَدَّرَ الْإِرْسَالَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَعْلُومَةِ وَإِلَى الْمَوَاضِعِ الْمُعَيَّنَةِ. وَلَمَّا أَسْنَدَ الْإِثَارَةَ إِلَى الرِّيحِ، وَهِيَ تُؤَلَّفُ فِي زَمَانٍ، قَالَ: فَتُثِيرُ، وَأَسْنَدَ أَرْسَلَ إِلَى الْغَائِبِ، وفي فَسُقْناهُ، وفَأَحْيَيْنا إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ عَرَّفَ نَفْسَهُ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الْإِرْسَالُ، ثُمَّ لَمَّا عُرِفَ قَالَ: أَنَا الَّذِي عَرَفْتَنِي سُقْتُ السَّحَابَ فَأَحْيَيْتُ الْأَرْضَ. فَفِي الْأَوَّلِ تَعْرِيفٌ بِالْفِعْلِ الْعَجِيبِ، وَفِي الثَّانِي تَذْكِيرٌ بِالْبَعْثِ. وَفَسُقْنَاهُ وَفَأَحْيَيْنَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ فَتُثِيرُ وَأَرْسَلَ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ منا الْفَرْقِ بَيْنَ أَرْسَلَ وَفَتَثِيرُ لَا يَظْهَرُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً «١»، وَفِي الْأَعْرَافِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ «٢»، كَيْفَ جَاءَ فِي الْإِرْسَالِ بِالْمُضَارِعِ؟ وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْكَلَامِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْبَلَاغَةِ. وَأَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الْأَعْرَافِ سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ «٣». وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا يَفْعَلُهُ تَعَالَى إِلَى آخِرِهِ، وَكُلُّ فِعْلٍ، وَإِنْ كَانَ أُسْنِدَ إِلَى غَيْرِهِ مَجَازًا، فَهُوَ فِعْلُهُ حَقِيقَةً، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُسْنِدُهُ إِلَى ذَاتِهِ، وَبَيْنَ مَا يُسْنِدُ إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ هُوَ إِيجَادُهُ وَخَلْقُهُ. وَالنُّشُورُ، مَصْدَرُ نَشَرَ: الْمَيِّتُ إِذَا حَيِيَ، قَالَ الْأَعْشَى:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ الناشر
والنشر: مُبْتَدَأٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ قَبْلَهُ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ، وَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ لِجِهَاتٍ لَمَّا قَبِلَتِ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ الْحَيَاةَ اللَّائِقَةَ بِهَا، كَذَلِكَ الْأَعْضَاءُ تَقْبَلُ الْحَيَاةَ. أَوْ كَمَا أَنَّ الرِّيحَ يَجْمَعُ قِطَعَ السَّحَابِ، كَذَلِكَ تُجْمَعُ أَجْزَاءُ الْأَعْضَاءِ وَأَبْعَاضُ الْأَشْيَاءِ أَوْ كَمَا يَسُوقُ الرِّيَاحَ وَالسَّحَابَ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ، يَسُوقُ الرُّوحَ وَالْحَيَاةَ إِلَى الْبَدَنِ. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ: أي الْمُغَالَبَةَ، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ: أَيْ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَالْمُغَالِبُ مَغْلُوبٌ. وَنَحَا إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَقَالَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «٤». وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ وَطَرِيقَهَا القويم
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٤٨.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٥٧.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ٥٧.
(٤) سورة مريم: ١٩/ ٨١.
17
وَيُحِبُّ نَيْلَهَا، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ: أَيْ بِهِ وَعَنْ أَمْرِهِ، لَا تُنَالُ عِزَّتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ عِلْمَ الْعِزَّةِ، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ: أَيْ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِهَا. وَقِيلَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ:
أي لَا يَعْقُبُهَا ذِلَّةٌ، وَيُصَارُ بِهَا لِلذِّلَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ الْكَافِرُونَ يَتَعَزَّزُونَ بِالْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «١». وَالَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةِ قُلُوبِهِمْ كَانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِالْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «٢»، فَبَيَّنَ أَنْ لَا عِزَّةَ إِلَّا لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَائِهِ وَقَالَ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «٣». انْتَهَى. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «٤»، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «٥» وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، لِأَنَّ الْعِزَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ بِالذَّاتِ، وَلِلرَّسُولِ بِوَاسِطَةِ قُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ. فَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَوَّلًا غَيْرُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ثَانِيًا. وَمَنِ اسْمُ شَرْطٍ، وَجُمْلَةُ الْجَوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ. فَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: فَهُوَ مَغْلُوبٌ، وَعَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ: فيطلبها مِنَ اللَّهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ: فَلْيُنْسِبْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ: فَهُوَ لَا يَنَالُهَا وَحُذِفَ الْجَوَابُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ قَتَادَةَ:
فَلْيَطْلُبْهَا من الْعِزَّةُ لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يُرِيدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ «٦»، وَانْتُصِبَ جَمِيعًا عَلَى الْمُرَادِ، وَالْمُرَادُ عِزَّةُ الدُّنْيَا وَعِزَّةُ الْآخِرَةِ.
والْكَلِمُ الطَّيِّبُ: التَّوْحِيدُ وَالتَّحْمِيدُ وَذِكْرُ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: ثَنَاءٌ بِالْخَيْرِ عَلَى صَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ لِسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَدَوِيًّا حَوْلَ الْعَرْشِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ بِذِكْرِ صَاحِبِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَصْعَدُ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنْ صَعِدَ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ: مَرْفُوعًا، فَالْكَلِمُ جَمْعُ كَلِمَةٍ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالسُّلَمِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ: يُصْعَدُ مِنْ أُصْعِدَ
، الْكَلَامُ الطَّيِّبُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَصْعَدُ مِنْ صَعِدَ الْكَلَامُ: رَقِيَ، وَصُعُودُ الْكَلَامِ إِلَيْهِ تَعَالَى مَجَازٌ فِي الْفَاعِلِ وَفِي الْمُسَمَّى إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِي جِهَةٍ، وَلِأَنَّ الْكَلِمَ أَلْفَاظٌ لَا تُوصَفُ بِالصُّعُودِ، لِأَنَّ الصُّعُودَ مِنَ الْأَجْرَامِ يَكُونُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كِنَايَةٌ عن
(١) سورة مريم: ١٩/ ٨١.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٣٩.
(٣) سورة المنافقون: ٦٣/ ٨. [.....]
(٤) سورة النساء: ٤/ ١٣٩.
(٥) سورة فاطر: ٣٥/ ١٠.
(٦) سورة آل عمران: ٣/ ٢٦.
18
الْقَبُولِ، وَوَصْفُهُ بِالْكَمَالِ. كَمَا يقال: علا كعبه وارتفاع شَأْنُهُ، وَمِنْهُ تَرَافَعُوا إِلَى الْحَاكِمِ، وَرُفِعَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ عُلُوٌّ فِي الْجِهَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُمَا. فَالْعَمَلُ مُبْتَدَأٌ، وَيَرْفَعُهُ الْخَبَرُ، وَفَاعِلُ يَرْفَعُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ يَعُودُ عَلَى الْكَلِمِ، أَيْ يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُعْرَضُ الْقَوْلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنْ وَافَقَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ قُبِلَ، وَإِنْ خَالَفَ رُدَّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، قال: إذ اذكر اللَّهَ الْعَبْدُ وَقَالَ كَلَامًا طَيِّبًا وَأَدَّى فَرَائِضَهُ، ارْتَفَعَ قوله مع عمله وإذ قَالَ وَلَمْ يُؤَدِّ فَرَائِضَهُ، رُدَّ قَوْلُهُ عَلَى عَمَلِهِ وَقِيلَ: عَمَلُهُ أَوْلَى بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ يَرُدُّهُ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَاضِيَ لِفَرَائِضِهِ إِذْ ذَكَرَ اللَّهَ وَقَالَ كَلَامًا طَيِّبًا، فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ لَهُ مُتَقَبَّلٌ، وَلَهُ حَسَنَاتُهُ وَعَلَيْهِ سَيِّئَاتُهُ، وَاللَّهُ يَتَقَبَّلُ مِنْ كُلِّ مَنِ اتَّقَى الشِّرْكَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ، وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَكْسَ هَذَا الْقَوْلِ: ضَمِيرُ الْفَاعِلِ يَعُودُ عَلَى الْكَلِمِ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، أَيْ يَرْفَعُهُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَالْهَاءُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، أَيْ يَرْفَعُهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، أَيْ يَقْبَلُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا أرجع الْأَقْوَالِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ عَامِلَهُ وَيُشَرِّفُهُ، فَجَعَلَهُ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْطُوفًا عَلَى الْكَلِمِ الطَّيِّبِ، أَيْ يَصْعَدَانِ إِلَى اللَّهِ، وَيَرْفَعُهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، أَيْ يَرْفَعُهُمَا اللَّهُ، ووحد الضمير لا شتراكهما فِي الصُّعُودِ، وَالضَّمِيرُ قَدْ يَجْرِي مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَيَكُونُ لَفْظُهُ مُفْرَدًا، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّثْنِيَةُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ صُعُودُهُمَا مِنْ ذَاتِهِمَا، بَلْ ذَلِكَ بِرَفْعِ اللَّهِ إياهما. وقرأ عيس، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، بِنَصْبِهِمَا عَلَى الِاشْتِغَالِ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ الْكَلِمِ أَوْ ضَمِيرُ اللَّهِ، وَمَكَرَ لَازِمٌ، وَالسَّيِّئَاتُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ الْمَكِرَاتِ السَّيِّئَاتِ، أَوِ الْمُضَافِ إِلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ أَضَافَ الْمَكْرَ إِلَى السَّيِّئَاتِ، أَوْ ضَمَّنَ يَمْكُرُونَ مَعْنَى، يَكْتَسِبُونَ، فَنَصَبَ السَّيِّئَاتِ مَفْعُولًا بِهِ. وَإِذَا كَانَتِ السَّيِّئَاتِ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ، أَوْ لِمُضَافٍ لِمَصْدَرٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنَى بِهِ مَكِرَاتِ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، إِذْ تَذَاكَرُوا إِحْدَى ثَلَاثِ مَكِرَاتٍ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَنْفَالِ: إِثْبَاتُهُ، أَوْ قَتْلُهُ، أَوْ إِخْرَاجُهُ وأُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ مَكَرُوا تِلْكَ الْمَكِرَاتِ. يَبُورُ أَيْ يَفْسِدُ وَيَهْلِكُ دُونَ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ، إِذْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مَكَّةَ وَقَتَلَهُمْ وَأَثْبَتَهُمْ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مَكِرَاتِهِمْ جَمِيعًا وَحَقَّقَ فِيهِمْ قَوْلَهُ: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «١»، وقوله:
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٣٠.
19
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «١»، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، ويبور خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ:
وَمَكْرُ أُولئِكَ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ هُوَ فَاصِلَةً، وَيَبُورُ خَبَرٌ، وَمَكْرُ أُولَئِكَ وَالْفَاصِلَةُ لا يَكُونُ مَا بَعْدَهَا فِعْلًا، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ إِلَّا عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ لَهُ فَإِنَّهُ أَجَازَ فِي كَانَ زَيْدٌ هُوَ يَقُومُ أَنْ يَكُونَ هُوَ فَصْلًا وَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ: مِنْ حَيْثُ خَلَقَ أَبِينَا آدَمَ. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ: أَيْ بِالتَّنَاسُلِ. ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً: أَيْ أَصْنَافًا ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، كَمَا قَالَ: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً «٢». وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدَّرَ بَيْنَكُمُ الزَّوْجِيَّةَ، وَزَوَّجَ بَعْضَكُمْ بَعْضًا، وَمِنْ فِي مِنْ مُعَمَّرٍ زَائِدَةٌ، وَسَمَّاهُ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، وَهُوَ الطَّوِيلُ الْعُمُرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْ عُمُرِهِ عَائِدٌ عَلَى مُعَمَّرٍ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَعُودُ عَلَى مُعَمَّرٍ الَّذِي هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْمُرَادُ غَيْرُ الَّذِي يُعَمَّرُ، فَالْقَوْلُ تَضَمَّنَ شَخْصَيْنِ: يُعَمَّرُ أَحَدُهُمَا مِائَةَ سَنَةٍ، وَيُنْقَصُ مِنَ الْآخَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو مَالِكٍ: الْمُرَادُ شَخْصٌ وَاحِدٌ، أَيْ يُحْصِي مَا مَضَى مِنْهُ إِذْ مَرَّ حَوْلٌ كَتَبَ ذَلِكَ ثُمَّ حَوْلٌ، فَهَذَا هُوَ النَّقْصُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
حَيَاتُكَ أَنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلَّمَا مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: مَعْنَى وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ: لَا يَخْتَرِمُ بِسَبَبِهِ قُدَرَةُ اللَّهِ، وَلَوْ شَاءَ لَأَخَّرَ ذَلِكَ السَّبَبَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ، لَمَّا طُعِنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ دَعَا اللَّهَ لَزَادَ فِي أَجَلِهِ، فَأَنْكَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقَالُوا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «٣»، فَاحْتُجَّ بِهَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ قول ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِالْأَجَلَيْنِ، وَبِنَحْوِهِ تَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا يُنْقَصُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَسَلَّامٌ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ، وَهَارُونُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَلَا يَنْقُصُ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يراد كتاب اللَّهِ عِلْمُ اللَّهِ، أَوْ صَحِيفَةُ الْإِنْسَانِ. انْتَهَى.
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ: هَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنَّهُ مِمَّا لَا مَدْخَلَ لِصَنَمٍ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ، وَشَرْحُ: وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ في سورة
(١) هذه السورة آية رقم ٤٣.
(٢) سورة الشورى: ٤٢/ ٥٠.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ٣٤.
20
الْفُرْقَانِ «١». وَهُنَا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ صِفَةٌ لِلْعَرَبِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: سائِغٌ شَرابُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
سَائِغٌ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَاغَ. وَقَرَأَ عِيسَى: سَيِّغٌ عَلَى وَزْنِ فَيْعِلٍ، كَمَيِّتٍ وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ. وَقَرَأَ عِيسَى أَيْضًا: سَيْغٌ مُخَفَّفًا مِنَ الْمُشَدَّدِ، كَمَيْتٍ مُخَفَّفِ مَيِّتٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِلْحٌ، وَأَبُو نَهِيكٍ وَطَلْحَةُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ:
وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا مِنْ مَالِحٍ، فَحُذِفَ الْأَلِفُ تَخْفِيفًا. وَقَدْ يُقَالُ: مَاءٌ مِلْحٌ فِي الشُّذُوذِ، وَفِي الْمُسْتَعْمَلِ: مَمْلُوحٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ضَرَبَ الْبَحْرَيْنِ، الْعَذْبَ وَالْمِلْحَ، مَثَلَيْنِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. ثُمَّ قَالَ عَلَى صِفَةِ الِاسْتِطْرَادِ فِي صِفَةِ الْبَحْرَيْنِ وَمَا عُلِّقَ بِهَا: مِنْ نِعْمَتِهِ وَعَطَائِهِ. وَمِنْ كُلٍّ، مِنْ شَرَحَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلْفَاظًا مِنَ الْآيَةِ تَكَرَّرَتْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ طَرِيقَةِ الِاسْتِطْرَادِ، وَهُوَ أَنْ يُشَبِّهَ الْجِنْسَيْنِ بِالْبَحْرَيْنِ، ثُمَّ يُفَضِّلَ الْبَحْرَ الْأُجَاجَ عَلَى الْكَافِرِ، بِأَنَّهُ قَدْ شَارَكَ الْعَذْبَ فِي مَنَافِعَ مِنَ السَّمَكِ وَاللُّؤْلُؤِ، وَجَرْيِ الْفُلْكِ فِيهِ. وَلِلْكَافِرِ خُلُوٌّ مِنَ النَّفْعِ، فَهُوَ فِي طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ «٢» الْآيَةَ. انْتَهَى. لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ: يُرِيدُ التِّجَارَاتِ وَالْحَجَّ وَالْغَزْوَ، أَوْ كُلَّ سَفَرٍ لَهُ وَجْهٌ شَرْعِيٌّ.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ: تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْجُمَلِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ، مِنْ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ، وَالْإِيجَادِ مِنْ تُرَابٍ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَإِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ، وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الْغَرِيبَةِ هُوَ اللَّهُ فَقَالَ:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، وَهِيَ أَخْبَارٌ مُتَرَادِفَةٌ وَالْمُبْتَدَأُ ذلِكُمُ، واللَّهُ رَبُّكُمْ خبران، ولَهُ الْمُلْكُ جُمْلَةُ مُبْتَدَأٍ فِي قِرَانِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِي حُكْمِ الْإِعْرَابِ إِيقَاعُ اسْمِ اللَّهِ صِفَةً لِاسْمِ الْإِشَارَةِ وَعَطْفَ بَيَانٍ، وَرَبُّكُمْ خَبَرٌ، لَوْلَا أَنَّ الْمَعْنَى يَأْبَاهُ. انْتَهَى. أَمَّا كَوْنُهُ صِفَةً، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَلَمٌ، وَالْعَلَمُ لَا يُوصَفُ بِهِ، وَلَيْسَ اسم جنس كالرجال، فَتُتَخَيَّلُ فِيهِ الصِّفَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْلَا أَنَّ الْمَعْنَى يَأْبَاهُ، فَلَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى يَأْبَاهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ المذكورة ربكم، أي مالكم، أَوْ مُصْلِحُكُمْ، وَهَذَا مَعْنًى لَائِقٌ سَائِغٌ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هِيَ الْأَوْثَانُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَدْعُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَعِيسَى، وَسَلَّامٌ، وَيَعْقُوبُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَامِلِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ جُبَارَةَ: يَدْعُونَ بِالْيَاءِ، اللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَسَلَّامٌ، وَالنَّهَاوَنْدِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ الْجَلَّاءِ عَنْ نُصَيْرٍ، وَابْنُ حبيب
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٥٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٧٤.
21
وَابْنُ يُونُسَ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَأَبُو عُمَارَةَ عَنْ حَفْصٍ. وَالْقِطْمِيرُ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنْ رِجَالِهِ، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْقُمْعُ الَّذِي فِي رَأْسِ التَّمْرَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِفَافَةُ النَّوَاةِ وَقِيلَ:
الَّذِي بَيْنَ قُمْعِ التَّمْرَةِ وَالنَّوَاةِ وَقِيلَ: قِشْرُ الثَّوْمِ وَأَيًّا مَا كَانَ، فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْقَلِيلِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَبُوكَ يُخَفِّفُ نَعْلَهُ مُتَوَرِّكًا مَا يَمْلِكُ الْمِسْكِينُ مِنْ قِطْمِيرِ
لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، لِأَنَّهُمْ جَمَادٌ وَلَوْ سَمِعُوا، هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ لَهُمْ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ، يتبرؤون مِنْهَا. وَقِيلَ: مَا نَفَعُوكُمْ، وَأَضَافَ الْمَصْدَرَ: فِي شِرْكِكُمْ، أَيْ بِإِشْرَاكِكُمْ لَهُمْ مَعَ اللَّهِ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُمْ كَقَوْلِهِ:
مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ «١»، فَهِيَ إِضَافَةٌ إِلَى الْفَاعِلِ. وَقَوْلُهُ: يَكْفُرُونَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَا يَظْهَرُ هُنَالِكَ مِنْ جُمُودِهَا وَبُطْئِهَا عِنْدَ حَرَكَةِ نَاطِقٍ، وَمُدَافَعَةِ كُلِّ مُحْتَجٍّ، فَيَجِيءُ هَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ، كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:
وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِمَيَّةَ نَاطِقٍ تُخَاطِبُنِي آثَارُهُ وَأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلَاعِبُهْ
وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ، قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْخَبِيرُ هُنَا أَرَادَ بِهِ تَعَالَى نَفْسَهُ، فَهُوَ الْخَبِيرُ الصَّادِقُ الْخَبَرِ، نَبَّأَ بِهَذَا، فَلَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ مِنْ تَمَامِ ذِكْرِ الْأَصْنَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا يُخْبِرُكَ مِثْلُ مَنْ يُخْبِرُكَ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ لَا يَصْدُقُ فِي تَبَرُّئِهَا مِنْ شِرْكِكُمْ مِنْهَا، فَيُرِيدُ بِالْخَبِيرِ عَلَى هَذَا الْمَثَلِ لَهُمَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَهِيَ قَدْ أَخْبَرَتْ عَنْ نَفْسِهَا بِالْكُفْرِ بِهَؤُلَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يُخْبِرُكَ بِالْأَمْرِ مُخْبِرٌ، هُوَ مِثْلُ خَبِيرٍ عَالِمٍ بِهِ، يُرِيدُ أَنَّ الْخَبِيرَ بِالْأَمْرِ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُكَ بِالْحَقِيقَةِ دُونَ سَائِرِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ حَالِ الْأَوْثَانِ هُوَ الْحَقُّ، لِأَنِّي خَبِيرٌ بِمَا أُخْبِرُ بِهِ. وَقَالَ فِي التَّجْرِيدِ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ لَمَّا أُخْبِرَ بِأَنَّ الْخَشَبَ وَالْحَجَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْطِقُ وَيُكَذِّبُ عَابِدَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ لَوْلَا إِخْبَارُ اللَّهِ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ بِرَبِّهِمْ يَكْفُرُونَ، أَيْ يَكْفُرُونَ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ كَوْنِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ أَمْرًا عَجِيبًا هُوَ كما قال، لأن
(١) سورة يونس: ١٠/ ٢٨.
22
الْمُخْبِرَ عَنْهُ خَبِيرٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأَحَدٍ، أَيْ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ هُوَ كَمَا ذَكَرَ، لَا يُنَبِّئُكَ أَيُّهَا السَّامِعُ كَائِنًا مَنْ كُنْتَ مِثْلُ خَبِيرٍ.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ، إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ، وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ، ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ هَذِهِ آيَةُ مَوْعِظَةٍ وَتَذْكِيرٍ، وَأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ مُحْتَاجُونَ إِلَى إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْعَامِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَعَرَّفَ الْفُقَرَاءَ لِيُرِيَهُمْ شَدِيدَ افْتِقَارِهِمْ إِلَيْهِ، إِذْ هُمْ جِنْسُ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ مفتقر إِلَيْهِ، فَلِضَعْفِهِمْ جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ جَمِيعُ هَذَا الْجِنْسِ وَلَوْ نَكَّرَ لَكَانَ الْمَعْنَى: أَنْتُمْ، يَعْنِي الْفُقَرَاءَ، وَقُوبِلَ الْفُقَرَاءُ بِالْغَنِيِّ، وَوُصِفَ بِالْحَمِيدِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ جَوَادٌ مُنْعِمٌ، فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى مَا يُسْدِيهِ مِنَ النِّعَمِ، مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ الْغَنِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ: أَيْ إِنْ يَشَأْ إِذْهَابَكُمْ يُذْهِبْكُمْ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ بِإِهْلَاكِهِمْ. وَما ذلِكَ: أَيْ إِذْهَابُكُمْ، وَالْإِتْيَانُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بِعَزِيزٍ، أَيْ بِمُمْتَنِعٍ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُرِيدُهُ. وَمَعْنَى: بِخَلْقٍ جَدِيدٍ: بَدَلَكُمْ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ «١».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَخْلُقُ بَعْدَكُمْ مَنْ يَعْبُدُهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ ذِكْرِ الْإِذْهَابِ بَعْدَ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْغَنِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ «٢». وَجَاءَ أَيْضًا تَعْلِيقُ الْإِذْهَابِ مَخْتُومًا آخِرَ الْآيَةِ بِذِكْرِ الْقُدْرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً «٣».
(١) سورة محمد: ٤٧/ ٣٨.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٣٣.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١٣٣.
23
رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: اكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ وَعَلَيَّ وِزْرُكُمْ، فَنَزَلَتْ.
وَأَخْبَرَ تَعَالَى، لَا يَحْمِلُهُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الذُّنُوبِ وَالْجَرَائِمِ. وَيُقَالُ: وَزَرَ الشَّيْءَ: حَمَلَهُ، وَوَازِرَةٌ: صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ نَفْسٌ وَازِرَةٌ: حَامِلَةٌ، وَذَكَرَ الصِّفَةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَوْصُوفَ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَا تُرَى إِلَّا حَامِلَةً وِزْرَهَا، لَا وِزْرَ غَيْرِهَا، فَلَا يُؤَاخِذُ نَفْسًا بِذَنْبِ نَفْسٍ، كَمَا يَأْخُذُ جَبَابِرَةُ الدُّنْيَا الْجَارَ بِالْجَارِ، وَالصَّدِيقَ بِالصَّدِيقِ، وَالْقَرِيبَ بِالْقَرِيبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ تَطَرَّفَ مِنَ الْحُكَّامِ إِلَى أَخْذِ قَرِيبٍ بِقَرِيبِهِ في جريمة، كَفِعْلِ زِيَادٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ ظُلْمٌ، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ ربما أعان المجرم بموازرة وَمُوَاصَلَةٍ، أَوِ اطِّلَاعٍ عَلَى حَالِهِ وَتَقْرِيرٍ لَهَا، فَهُوَ قَدْ أَخَذَ مِنَ الْجُرْمِ بِنَصِيبٍ. انْتَهَى. وَكَأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ تَأَوَّلَ أَفْعَالَ زِيَادٍ وَمَا فَعَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ سِيرَتُهُ قَرِيبَةً مِنْ سِيرَةِ الْحَجَّاجِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي فِي الْعَنْكَبُوتِ، لِأَنَّ تِلْكَ فِي الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ يَحْمِلُونَ أَثْقَالَ إِضْلَالِ النَّاسِ مَعَ أَثْقَالِ ضَلَالِهِمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ أَثْقَالُهُمْ، مَا فِيهَا مِنْ ثِقْلِ غَيْرِهِمْ شَيْءٌ. أَلَا تَرَى: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ «١» ؟
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ: أَيْ نَفْسٌ مُثْقَلَةٌ بِحِمْلِهَا، إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ: أَيْ لَا غِيَاثَ يَوْمَئِذٍ لِمَنِ اسْتَغَاثَ، وَلَا إِعَانَةَ حَتَّى أَنَّ نَفْسًا قَدْ أَثْقَلَتْهَا الْأَوْزَارُ لَوْ دَعَتْ إِلَى أَنْ يُخَفَّفَ بَعْضُ وِزْرِهَا لَمْ تُجَبْ وَإِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ بَعْضَ قَرَابَتِهَا مِنْ أَبٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ أَخٍ فَالْآيَةُ قَبْلَهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عَدْلِ اللَّهِ فِي حُكْمِهِ وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ نَفْسًا بِغَيْرِ ذَنْبِهَا وَهَذِهِ فِي نَفْيِ الْإِعَانَةِ وَالْحِمْلُ مَا كَانَ عَلَى الظَّهْرِ فِي الْأَجْرَامِ فَاسْتُعِيرَ لِلْمَعَانِي كَالذُّنُوبِ وَنَحْوِهَا فَيُجْعَلُ كُلُّ مَحْمُولٍ مُتَّصِلًا بِالظَّهْرِ كَقَوْلِهِ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «٢»، كَمَا جُعِلَ كُلُّ اكْتِسَابٍ مَنْسُوبًا إِلَى الْيَدِ. وَقَرَأَ الجمهور: لا يحمل بالياء، مبينا لِلْمَفْعُولِ وَأَبُو السَّمَّالِ عَنْ طَلْحَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ زَادَانَ عَنِ الْكِسَائِيِّ: بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ فَوْقٍ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَتَقْتَضِي هَذِهِ الْقِرَاءَةُ نَصْبَ شَيْءٍ، كَمَا اقْتَضَتْ قِرَاءَةُ الجمهور رفعه، والفاعل بيحمل ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى مَفْعُولِ تَدْعُ الْمَحْذُوفِ، أَيْ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ نَفْسًا أُخْرَى إِلَى حَمْلِهَا، لَمْ تَحْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا.
وَاسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَدْعُوِّ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَدْعُ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: وَتُرِكَ الْمَدْعُوُّ لِيَعُمَّ وَيَشْمَلَ كُلَّ مَدْعُوٍّ. قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ اسْتِفْهَامُ إِضْمَارٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ ذَا قُرْبَى لِلْمُثْقَلِ؟ قُلْتُ: هُوَ مِنَ الْعُمُومِ الْكَائِنِ عَلَى طريق البلد. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاسْمُ كَانَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ وَلَوْ كَانَ. انْتَهَى، أَيْ ولو كان
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ١٢. [.....]
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٣١.
24
الدَّاعِي ذَا قُرْبَى مِنَ الْمَدْعُوِّ، فَإِنَّ الْمَدْعُوَّ لَا يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئًا. وَذُكِرَ الضَّمِيرُ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مُثْقَلَةٌ، لَا يُرِيدُ بِهِ مُؤَنَّثَ الْمَعْنَى فَقَطْ، بَلْ كُلَّ شَخْصٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
وَإِنْ تَدْعُ شخصا مثقلا. وقرىء: وَلَوْ كَانَ ذُو قُرْبَى، عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، أي ولو حضر إذا ذَاكَ ذُو قُرْبَى وَدَعَتْهُ، لَمْ يَحْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: قَدْ كَانَ لَبَنٌ، أَيْ حَضَرَ وَحَدَثَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَظْمُ الْكَلَامِ أَحْسَنُ مُلَاءَمَةً لِلنَّاقِصَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: عَلَى أَنَّ الْمُثْقَلَةَ إِذَا دَعَتْ أَحَدًا إِلَى حملها لا يحمل منه، وَإِنْ كَانَ مَدْعُوُّهَا ذَا قُرْبَى، وَهُوَ مَعْنَى صَحِيحٌ مُلْتَئِمٌ.
وَلَوْ قُلْتَ: وَلَوْ وُجِدَ ذُو قُرْبَى، لَتَفَكَّكَ وَخَرَجَ عَنِ اتِّسَاقِهِ وَالْتِئَامِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ نَسَقٌ مُلْتَئِمٌ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَتَفْسِيرُهُ كَانَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، يُؤْخَذُ الْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ تَفْسِيرَ مَعْنًى، وَلَيْسَ مُرَادِفًا وَمُرَادِفُهُ، حَدَثَ أَوْ حَضَرَ أَوْ وَقَعَ، هَكَذَا فَسَّرَهُ النُّحَاةُ.
وَلَمَّا سَبَقَ مَا تَضَمَّنَ الْوَعِيدَ وَبَعْضَ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، كَانَ ذَلِكَ إِنْذَارًا، فَذَكَرَ أَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يُجْدِي وَيَنْفَعُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ. بِالْغَيْبِ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَيْ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ غَافِلِينَ عَنْ عَذَابِهِ، أَوْ يَخْشَوْنَ عَذَابَهُ غَائِبًا عَنْهُمْ. وَقِيلَ: بِالْغَيْبِ فِي السِّرِّ، وَقِيلَ:
بِالْغَيْبِ، أَيْ وَهُوَ بِحَالِ غَيْبِهِ عَنْهُمْ إِنَّمَا هِيَ رِسَالَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَنْ تَزَكَّى، فِعْلًا مَاضِيًا، فَإِنَّما يَتَزَكَّى: فِعْلًا، مُضَارِعُ تَزَكَّى، أَيْ وَمَنْ تَطَهَّرَ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّمَا ثَمَرَةُ ذَلِكَ عَائِدَةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِنَّمَا زَكَاتُهُ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَالتَّزَكِّي شَامِلٌ لِلْخَشْيَةِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَقَرَأَ الْعَبَّاسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَمَنْ يَزَّكَّى فَإِنَّمَا يَزَّكَّى، بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ وَشَدِّ الزَّايِ فِيهِمَا، وَهُمَا مُضَارِعَانِ أَصْلُهُمَا وَمَنْ يَتَزَكَّى، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ، كَمَا أُدْغِمَتْ فِي الذَّالِ فِي قَوْلِهِ: يَذَّكَّرُونَ «١». وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَطَلْحَةُ: وَمَنِ ازَّكَّى، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ. وَاجْتِلَابِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي الِابْتِدَاءِ وَطَلْحَةُ أَيْضًا: فَإِنَّمَا يَزَّكَّى، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ: وَعْدٌ لِمَنْ يَزَّكَّى بِالثَّوَابِ.
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الْآيَةَ: هِيَ طَعْنٌ عَلَى الْكَفَرَةِ وَتَمْثِيلٌ. فَالْأَعْمَى الْكَافِرُ، وَالْبَصِيرُ الْمُؤْمِنُ، أَوِ الْأَعْمَى الصَّنَمُ، وَالْبَصِيرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَا، أَيْ لَا يَسْتَوِي مَعْبُودُهُمْ وَمَعْبُودُ الْمُؤْمِنِينَ. وَالظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ، وَالظِّلُّ وَالْحَرُورُ: تَمْثِيلٌ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، تَمْثِيلٌ لِمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ. وَالْحَرُورُ: شِدَّةُ حَرِّ الشَّمْسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْحَرُورُ: السَّمُومُ، إِلَّا أَنَّ السَّمُومَ تَكُونُ بِالنَّهَارِ، وَالْحَرُورُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَقِيلَ: بِاللَّيْلِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قال
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٢٦ وغيرها من السور.
25
رُؤْبَةُ: الْحَرُورُ بِاللَّيْلِ، وَالسَّمُومِ بِالنَّهَارِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ كَمَا حَكَى الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ السَّمُومَ يَخْتَصُّ بِالنَّهَارِ. وَيُقَالُ: الْحَرُورُ فِي حَرِّ اللَّيْلِ، وَفِي حَرِّ النَّهَارِ. انْتَهَى.
وَلَا يُرَدُّ عَلَى رُؤْبَةَ، لِأَنَّهُ مِنْهُ تُؤْخَذُ اللُّغَةُ، فَأَخْبَرَ عَنْ لُغَةِ قَوْمِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الظِّلُّ هُنَا: الْجَنَّةُ، وَالْحَرُورُ: جَهَنَّمُ، وَيَسْتَوِي مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَكْتَفِي بِفَاعِلٍ وَاحِدٍ. فَدُخُولُ لَا فِي النَّفْيِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ لِقَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ «١». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دُخُولُ لَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى هَيْئَةِ التَّكْرَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ وَلَا النُّورُ وَالظُّلُمَاتُ، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْأَوَائِلِ عَنِ الثَّوَانِي، وَدَلَّ مَذْكُورُ الْكَلَامِ عَلَى مَتْرُوكِهِ. انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَقْدِيرِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا نَفَى اسْتِوَاءَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَقْدِيرِ نَفْيِ اسْتِوَائِهِمَا ثَانِيًا وَادِّعَاءِ مَحْذُوفَيْنِ؟ وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا قَامَ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو، فَتُؤَكِّدُ بلا مَعْنَى النَّفْيِ، فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَقَرَأَ زَادَانُ عَنِ الْكِسَائِيِّ: وَمَا تَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ، وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْمَنْفِيِّ عَنْهَا الِاسْتِوَاءُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ. وَذَكَرَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ الْبَصِيرُ. وَلَوْ كَانَ حَدِيدَ النَّظَرِ لَا يُبْصِرُ إِلَّا فِي ضَوْءٍ، فَذَكَرَ مَا هُوَ فِيهِ الْكَافِرُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، وَمَا هُوَ فِيهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَآلَهُمَا، وَهُوَ الظِّلُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ فِي ظِلٍّ وَرَاحَةٍ، وَالْكَافِرَ بِكُفْرِهِ فِي حَرٍّ وَتَعَبٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلًا آخَرَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَوْقَ حَالِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، إِذِ الْأَعْمَى قَدْ يُشَارِكُ الْبَصِيرَ فِي إِدْرَاكٍ مَا، وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُدْرِكٍ إِدْرَاكًا نَافِعًا، فَهُوَ كَالْمَيِّتِ، وَلِذَلِكَ أَعَادَ الْفِعْلَ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، كَأَنَّهُ جَعَلَ مَقَامَ سُؤَالٍ، وَكَرَّرَ لَا فِيمَا ذَكَرَ لِتَأْكِيدِ الْمُنَافَاةِ. فَالظُّلُمَاتُ تُنَافِي النُّورَ وَتُضَادُهُ، وَالظِّلُّ وَالْحَرُورُ كَذَلِكَ، وَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يَكُونُ بَصِيرًا. ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ الْعَمَى، فَلَا مُنَافَاةَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ. وَالْمُنَافَاةُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ دَائِمَةٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظِّلِّ عَدَمُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُنَافَاةُ أَتَمَّ، أُكِّدَ بِالتَّكْرَارِ. وَأَمَّا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ، فَيَصِيرُ مَحَلًّا لِلْمَوْتِ. فَالْمُنَافَاةُ بَيْنَهُمَا أَتَمُّ مِنَ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ قَدْ يَشْتَرِكَانِ فِي إِدْرَاكٍ مَا، وَلَا كَذَلِكَ الْحَيُّ. وَالْمَيِّتُ يُخَالِفُ الْحَيَّ فِي الْحَقِيقَةِ، لَا فِي الْوَصْفِ، عَلَى مَا بُيِّنَ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقُدِّمَ الْأَشْرَفُ فِي مثلين، وهو الظل والحر وَأُخِّرَ فِي مَثَلَيْنِ، وَهُمَا الْبَصِيرُ وَالنُّورُ، وَلَا يُقَالُ لِأَجْلِ السَّجْعِ، لِأَنَّ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، بَلْ فِيهِ. وَفِي الْمَعْنَى: وَالشَّاعِرُ قَدْ يُقَدِّمُ ويؤخر لأجل
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٣٤.
26
السَّجْعِ وَالْقُرْآنُ. الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَاللَّفْظُ فَصِيحٌ، وَكَانُوا قَبْلَ الْمَبْعَثِ فِي ضَلَالَةٍ، فَكَانُوا كَالْعُمْيِ، وَطَرِيقُهُمُ الظُّلْمَةُ. فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ، وَاهْتَدَى بِهِ قَوْمٌ، صَارُوا بَصِيرِينَ، وَطَرِيقُهُمُ النُّورُ، وَقَدَّمَ مَا كَانَ مُتَقَدِّمًا مِنَ الْمُتَّصِفِ بِالْكُفْرِ، وَطَرِيقَتُهُ عَلَى مَا كَانَ مُتَأَخِّرًا مِنَ الْمُتَّصِفِ بِالْإِيمَانِ وَطَرِيقَتِهِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْمَآلَ وَالْمَرْجِعَ، قَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّحْمَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَضَبِ، كَمَا جَاءَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، فَقَدَّمَ الظِّلَّ عَلَى الْحَرُورِ.
ثُمَّ إِنَّ الْكَافِرَ الْمُصِرَّ بَعْدَ الْبَعْثَةِ صَارَ أَضَلَّ مِنَ الْأَعْمَى، وَشَابَهَ الْأَمْوَاتَ فِي عَدَمِ إِدْرَاكِ الْحَقِّ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ: الَّذِينَ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلَا الْأَمْواتُ: الَّذِينَ تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا. وَهَؤُلَاءِ كَانُوا بَعْدَ إِيمَانِ مَنْ آمَنَ، فَأَخَّرَهُمْ لِوُجُودِ حَيَاةِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ مَمَاتِ الْكَافِرِ. وَأَفْرَدَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ، لِأَنَّهُ قَابَلَ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ، إِذْ قَدْ يُوجَدُ فِي أَفْرَادِ الْعُمْيَانِ مَا يُسَاوِي بِهِ بَعْضَ أَفْرَادِ الْبُصَرَاءِ، كَأَعْمًى عِنْدَهُ مِنَ الذَّكَاءِ مَا يُسَاوِي بِهِ الْبَصِيرَ الْبَلِيدَ. فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ مَقْطُوعٌ بِهِ، لَا بَيْنَ الْأَفْرَادِ. وَجُمِعَتِ الظُّلُمَاتُ، لِأَنَّ طُرُقَ الْكُفْرِ مُتَعَدِّدَةٌ وَأُفْرِدَ النُّورُ، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْحَقَّ وَاحِدٌ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْرَادِ وَبَيْنَ هَذَا الْوَاحِدِ فَقَالَ: الظُّلُمَاتُ لَا تَجِدُ فِيهَا مَا يُسَاوِي هَذَا النُّورَ.
وَأَمَّا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ، إِذْ مَا مِنْ مَيِّتٍ يُسَاوِي فِي الْإِدْرَاكِ حَيًّا، فَذَكَرَ أَنَّ الْأَحْيَاءَ لَا يُسَاوُونَ الْأَمْوَاتَ، سَوَاءٌ قَابَلْتَ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ، أَمْ قَابَلْتَ الْفَرْدَ بِالْفَرْدِ.
انْتَهَى. مِنْ كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ.
ثُمَّ سَلَّى رَسُولَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ: أَيْ إِسْمَاعُ هَؤُلَاءِ مَنُوطٌ بِمَشِيئَتِنَا، وَكَنَّى بِالْإِسْمَاعِ عَنِ الَّذِي تَكُونُ عَنْهُ الْإِجَابَةُ لِلْإِيمَانِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أنه ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، قَالَ: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ: أَيْ هَؤُلَاءِ، مِنْ عَدَمِ إِصْغَائِهِمْ إلى سماع الْحَقِّ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ هُمْ قَدْ مَاتُوا فَأَقَامُوا فِي قُبُورِهِمْ. فَكَمَا أَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْكَ قَوْلَ الْحَقِّ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ أَمْوَاتُ الْقُلُوبِ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ، وَالْحَسَنُ بِمُسْمِعِ مَنْ، عَلَى الْإِضَافَةِ وَالْجُمْهُورُ: بِالتَّنْوِينِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ: أَيْ مَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُبَلِّغَ وَتُنْذِرَ. فَإِنْ كَانَ الْمُنْذَرُ مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ سَمِعَ وَاهْتَدَى، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ ضَلَالَهُ فَمَا عَلَيْكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَهْدِي وَيُضِلُّ. وبِالْحَقِّ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ مُحِقٌّ. أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَيْ مُحِقًّا، أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِرْسَالًا بِالْحَقِّ، أَيْ مَصْحُوبًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ صِلَةُ بَشِيرٍ وَنَذِيرٍ، فَنَذِيرٌ عَلَى بَشِيرٍ بِالْوَعْدِ الْحَقِّ وَنَذِيرٌ بِالْوَعِيدِ. انْتَهَى. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْحَقِّ هَذَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ مَعًا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ كَلَامُهُ
27
عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ ثَمَّ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: بِالْوَعْدِ الْحَقِّ بَشِيرًا، وَبِالْوَعِيدِ الْحَقِّ نَذِيرًا، فَحَذَفَ الْمُقَابِلَ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ، الْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ كُلِّ أُمَّةٍ. إِمَّا بِمُبَاشَرَةٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ وَمَا يُنْقَلُ إِلَى وَقْتِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْآيَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا مَا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَعْنَاهُ لَمْ يُبَاشِرْهُمْ وَلَا آبَاؤُهُمُ الْقَرِيبِينَ، وَإِمَّا أَنَّ النِّذَارَةَ انْقَطَعَتْ فَلَا. ولما شرعت آثار النذرات تَنْدَرِسُ، بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ عِلْمِ الْكَلَامِ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْعَرْضِ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ، وَلَا تُوجَدُ أُمَّةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَتِ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ وعبارته. وَاكْتَفَى بِذِكْرِ نَذِيرٌ عَنْ بَشِيرٍ، لِأَنَّهَا مَشْفُوعَةٌ بِهَا فِي قَوْلِهِ: بَشِيراً وَنَذِيراً، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ، وَحُذِفَ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ: مَسْلَاةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي أَوَاخِرِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ، تَوَعُّدٌ لِقُرَيْشٍ بِمَا جَرَى لِمُكَذِّبِي رُسُلِهِمْ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ.
لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى وَحْدَانِيَّتَهُ بِأَدِلَّةٍ قَرَّبَهَا وَأَمْثَالٍ ضَرَبَهَا، أَتْبَعَهَا بِأَدِلَّةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَأَرْضِيَّةٍ فَقَالَ:
أَلَمْ تَرَ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الظَّاهِرِ جِدًّا. وَالْخِطَابُ للسامع، وتر مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، لِأَنَّ إِسْنَادَ إِنْزَالِهِ تَعَالَى لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلنَّقْلِ، وَإِنْ كَانَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ مُشَاهَدًا بِالْعَيْنِ، لَكِنَّ رُؤْيَةَ الْقَلْبِ قَدْ تَكُونُ مُسْنَدَةً لِرُؤْيَةِ الْبَصَرِ وَلِغَيْرِهَا. وَخَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَخَامَةِ، إِذْ هُوَ مُسْنَدٌ لِلْمُعَظَّمِ الْمُتَكَلِّمِ. وَلِأَنَّ نِعْمَةَ الْإِخْرَاجِ أَتَمُّ مِنْ نِعْمَةِ الْإِنْزَالِ لِفَائِدَةِ
28
الْإِخْرَاجِ، فَأُسْنِدَ الْأَتَمُّ إِلَى ذَاتِهِ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمَا دُونَهُ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَلْوَانَ، إِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ مِنْ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَالْخُضْرَةِ وَالسَّوَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَلْوَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَوْسَعُ وَأَكْثَرُ مِنَ الْأَلْوَانِ بِمَعْنَى الْأَصْبَاغِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُخْتَلِفاً أَلْوانُها، عَلَى حَدِّ اخْتَلَفَ أَلْوَانُهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُخْتَلِفَةٌ أَلْوَانُهَا، عَلَى حَدِّ اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهَا، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ تَلْحَقَ التَّاءُ، وَأَنْ لَا تَلْحَقَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جُدَدٌ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الدَّالِ، جَمْعُ جُدَّةٍ. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: قَطْعٌ مِنْ قَوْلِكَ: جَدَدْتُ الشَّيْءَ:
قَطَعْتُهُ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: جَمْعُ جُدَّةٍ، وَهِيَ مَا تُخَالِفُ مِنَ الطَّرِيقِ فِي الْجِبَالِ لَوْنَ مَا يَلِيهَا. وَعَنْهُ أَيْضًا، بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ: جَمْعُ جَدِيدَةٍ وَجُدُدٍ وَجَدَائِدَ، كَمَا يُقَالُ فِي الِاسْمِ: سَفِينَةٌ وَسُفُنٌ وَسَفَائِنُ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
جَوْنُ السَّرَاةِ أَمْ جَدَائِدُ أَرْبَعُ وَعَنْهُ أَيْضًا: بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالدَّالِ، وَلَمْ يُجِزْهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي الْمَعْنَى، وَلَا صَحَّحَهُ أَثَرًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الْمُبِينُ، وَضَعَهُ مَوْضِعَ الطَّرَائِقِ وَالْخُطُوطِ الْوَاضِحَةِ الْمُنْفَصِلِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ جُدَدٌ فِي جَمْعِ جَدِيدٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِمَعْنَى الْجَدِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: جُدَدٌ جَمْعُ جَدِيدٍ بِمَعْنَى: آثَارٌ جَدِيدَةٌ وَاضِحَةُ الْأَلْوَانِ. انْتَهَى. وَقَالَ: مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا، لِأَنَّ الْبَيَاضَ وَالْحُمْرَةَ تَتَفَاوَتُ بِالشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ، فَأَبْيَضُ لَا يُشْبِهُ أَبْيَضَ، وَأَحْمَرُ لَا يُشْبِهُ أَحْمَرَ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ. وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَغَرابِيبُ عَلَى حُمْرٌ، عَطْفُ ذِي لَوْنٍ عَلَى ذِي لَوْنٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْطُوفٌ عَلَى بِيضٌ أَوْ عَلَى جُدَدٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنَ الْجِبَالِ مُخَطَّطٌ ذُو جُدَدٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ، بِمَعْنَى: ذُو جُدَدٍ بِيضٍ وَحُمْرٍ وَسُودٍ، حَتَّى تَؤُولَ إِلَى قَوْلِكَ:
وَمِنِ الْجِبَالِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ، كَمَا قَالَ: ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ يَعْنِي: وَمِنْهُمْ بَعْضٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: أَلْوَانُهَا.
انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْغَرَابِيبَ، وَهُوَ الشَّدِيدُ السَّوَادِ، لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ جَعْلُهُ شَدِيدَ السَّوَادِ، وَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي غَايَةِ السَّوَادِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَلْوَانٌ، بَلْ هَذَا لَوْنٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ الْبِيضِ وَالْحُمْرِ، فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِيضٌ وَحُمْرٌ لَيْسَا مَجْمُوعَيْنِ بِجُدَّةٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ الْمَعْنَى: جُدَدٌ بِيضٌ، وَجُدَدٌ حُمْرٌ، وَجَدَدٌ غَرَابِيبُ. وَيُقَالُ:
29
أَسْوَدُ حَلَكُوكٌ، وَأَسْوَدُ غِرْبِيبٌ، وَمِنْ حَقِّ الْوَاضِحِ الْغَايَةِ فِي ذَلِكَ اللَّوْنِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قُدِّمَ الْوَصْفُ الْأَبْلَغُ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْمَعْنَى، لَكِنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ الْفَصِيحَ يَأْتِي كَثِيرًا عَلَى هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغِرْبِيبُ تَأْكِيدٌ لِلْأَسْوَدِ، وَمِنْ حَقِّ التَّوْكِيدِ أَنْ يَتْبَعَ الْمُؤَكَّدَ، كَقَوْلِكَ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ، وَأَبْيَضُ يَقِقٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَوَجْهُهُ أَنْ يَظْهَرَ الْمُؤَكَّدُ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ الَّذِي بَعْدَهُ تَفْسِيرًا لِمَا أُضْمِرَ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَالْمُؤْمِنِ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرِ وَإِنَّمَا يُفْعَلُ لِزِيَادَةِ التَّوْكِيدِ، حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ مِنْ طَرِيقِ الْإِظْهَارِ وَالْإِضْمَارِ جَمِيعًا. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ حَذْفَ الْمُؤَكَّدِ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ مَالِكٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ سُودٌ غَرَابِيبُ. وَقِيلَ: سُودٌ بَدَلٌ مِنْ غَرَابِيبُ، وَهَذَا أَحْسَنُ، وَيُحَسِّنُهُ كَوْنُ غَرَابِيبُ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ تَأْكِيدًا، وَمِنْهُ مَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «أن الله يبغض الشيخ الغريب»
، يَعْنِي الَّذِي يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
الْعَيْنُ طَامِحَةٌ وَالْيَدُ سَابِحَةٌ وَالرِّجْلُ لَائِحَةٌ وَالْوَجْهُ غِرْبِيبُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَمِنْ تَعَاجِيبِ خَلْقِ اللَّهِ غَالِيَةٌ الْبَعْضُ مِنْهَا مِلَاحِيٌّ وَغِرْبِيبُ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالدَّوَابِّ، مُشَدَّدَ الْبَاءِ وَالزُّهْرِيُّ: بِتَخْفِيفِهَا، كَرَاهِيَةَ التَّضْعِيفِ، إِذْ فِيهِ الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ. كَمَا هَمَزَ بَعْضُهُمْ وَلَا الضَّالِّينَ «١»، فِرَارًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَحُذِفَ هُنَا آخِرُ الْمُضَعَّفَيْنِ وَحُرِّكَ أَوَّلُ السَّاكِنِينَ. وَمُخْتَلِفَةٌ، صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ خَلْقٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ، أَيْ كَاخْتِلَافِ الثَّمَرَاتِ وَالْجِبَالِ فَهَذَا التَّشْبِيهُ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ قَبْلَهُ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ حَسَنٌ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ الثَّانِي يَخْرُجُ مَخْرَجَ السَّبَبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَمَا جَاءَتِ الْقُدْرَةُ فِي هَذَا كُلِّهِ.
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ: أَيِ الْمُخْلِصُونَ لِهَذِهِ الْعِبَرِ، النَّاظِرُونَ فِيهَا.
انْتَهَى. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِنَّمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَجْرُورِ قَبْلَهَا، وَلَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ السَّبَبِ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: كَذَلِكَ يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ، أَيْ لِذَلِكَ الاعتبار،
(١) سورة الفاتحة: ١/ ٧.
30
وَالنَّظَرُ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ واختلاف ألوانها يخشى الله. وَلَكِنَّ التَّرْكِيبَ جَاءَ بِإِنَّمَا، وَهِيَ تَقْطَعُ هَذَا الْمَجْرُورَ عَمَّا بَعْدَهَا، وَالْعُلَمَاءُ هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوهُ بِصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، فَعَظَّمُوهُ وَقَدَّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَخَشَوْهُ حَقَّ خَشْيَتِهِ، وَمَنِ ازْدَادَ بِهِ عِلْمًا ازْدَادَ مِنْهُ خَوْفًا، وَمَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِهِ أَقَلَّ كَانَ آمَنَ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ فِي الْخَشْيَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْخَشْيَةُ حَتَّى عُرِفَتْ فِيهِ.
وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ قَالَ: الْمَعْنَى مَا يَخْشَى اللَّهَ إِلَّا الْعُلَمَاءُ، فَغَيْرُهُمْ لَا يَخْشَاهُ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَخْصِيصُ الْعُلَمَاءِ لَا الْحَصْرُ، وَهِيَ لَفْظَةٌ تَصْلُحُ لِلْحَصْرِ وَتَأْتِي أَيْضًا دُونَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ. انْتَهَى.
وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ، إِذْ ظَاهِرُهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ، حَيْثُ عَدَّدَ آيَاتِهِ وَأَعْلَامَ قُدْرَتِهِ وَآثَارَ صَنْعَتِهِ، وَمَا خَلَقَ مِنَ الْفِطَرِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَجْنَاسِ، وَمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى صِفَاتِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا يَخْشَاهُ مِثْلُكَ وَمَنْ عَلَى صِفَتِكَ مِمَّنْ عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ وَرَفْعِ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي حَنِيفَةَ عَكْسُ ذَلِكَ، وَتُؤُوِّلَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ اسْتِعَارَةٌ لِلتَّعْظِيمِ، لِأَنَّ مَنْ خَشِيَ وَهَابَ أَجَلَّ وَعَظَّمَ مَنْ خَشِيَهُ وَهَابَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَنْهُمَا. وَقَدْ رَأَيْنَا كُتُبًا فِي الشَّوَاذِّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذَكَرَهَا عَنْ أَبِي حَيْوَةَ أَبُو الْقَاسِمِ يُوسُفُ بْنُ جُبَارَةَ فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ: تَعْلِيلٌ لِلْخَشْيَةِ، إِذِ الْعِزَّةُ تَدُلُّ عَلَى عُقُوبَةِ الْعُصَاةِ وَقَهْرِهِمْ، وَالْمَغْفِرَةُ عَلَى إِنَابَةِ الطَّائِعِينَ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ.
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ: ظَاهِرُهُ يَقْرَأُونَ، كِتابَ اللَّهِ: أَيْ يُدَاوِمُونَ تِلَاوَتَهُ. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن الشِّخِّيرِ: هَذِهِ آيَةُ الْقُرَّاءِ، وَيَتَّبِعُونَ كِتَابَ اللَّهِ، فَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: يَأْخُذُونَ بِمَا فِيهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أَصْحَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورضي عنهم وقال:
«عطاءهم الْمُؤْمِنُونَ». وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى وَصْفَهُمْ بِالْخَشْيَةِ، وَهِيَ عَمَلُ الْقَلْبِ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَهُوَ عَمَلُ اللِّسَانِ. وَأَقامُوا الصَّلاةَ: وَهُوَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ، وَيُنْفِقُونَ: وَهُوَ الْعَمَلُ الْمَالِيُّ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقُ: يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ.
تِجارَةً لَنْ تَبُورَ: لَنْ تَكْسُدَ، وَلَا يَتَعَذَّرَ الرِّبْحُ فِيهَا، بَلْ يُنْفِقُ عِنْدَ اللَّهِ. لِيُوَفِّيَهُمْ:
مُتَعَلِّقٌ بِيَرْجُونَ، أَوْ بِلْنَ تَبُورَ، أَوْ بِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلُوا ذَلِكَ، أَقْوَالٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْتَ: يَرْجُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى وَأَنْفَقُوا رَاجِينَ لِيُوَفِّيَهُمْ، أَيْ فَعَلُوا جَمِيعَ ذَلِكَ لِهَذَا الْغَرَضِ. وَخَبَرُ إِنَّ قَوْلُهُ: إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ لِأَعْمَالِهِمْ، وَالشُّكْرُ مَجَازٌ عَنِ
31
الْإِثَابَةِ. انْتَهَى. وَأُجُورُهُمْ هِيَ الَّتِي رَتَّبَهَا تَعَالَى عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَزِيَادَتُهُ مِنْ فَضْلِهِ. قَالَ أَبُو وَائِلٍ: بِتَشْفِيعِهِمْ فِيمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِتَفْسِيحِ الْقُلُوبِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «بِتَضْعِيفِ حَسَنَاتِهِمْ».
وَقِيلَ: بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ. وَالْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَمِنْ: لِلتَّبْيِينِ أَوِ الْجِنْسِ أَوِ التَّبْعِيضِ، تخريجات للزمخشري. ومُصَدِّقاً: حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ وَحْيًا، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنِ قَارِئًا كَاتِبًا، وَأَتَى بِبَيَانِ مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ اللَّهُ تَعَالَى.
إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ: عَالِمٌ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا، بَصِيرٌ بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَحَيْثُ أَهَّلَكَ لِوَحْيِهِ، وَاخْتَارَكَ بِرِسَالَتِهِ وَكِتَابِهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ.
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ، وَثُمَّ قِيلَ: بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقِيلَ: لِلْمُهْلَةِ، إِمَّا فِي الزَّمَانِ، وَإِمَّا فِي الْإِخْبَارِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْكِتَابُ فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى: أَنْزَلْنَا الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ، وَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا اسْمُ جِنْسٍ. وَالْمُصْطَفَوْنَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ أَنَّ الْمَعْنَى:
الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، أُورِثَتْ أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلَّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَوْرَثَهُمُ الْإِيمَانَ، فَالْكُتُبُ تَأْمُرُ بِاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ، فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَا عَامِلُونَ بِمُقْتَضَاهَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ كَانَ مَعْنَى الْمِيرَاثِ:
انْتِقَالَ شَيْءٍ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، وَلَمْ تَكُنْ أُمَّةٌ انْتَقَلَ إِلَيْهَا كِتَابٌ مِنْ قَوْمٍ كَانُوا قَبْلَهُمْ غَيْرَ أُمَّتِهِ.
فَإِذَا قُلْنَا: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ، كَانَ الْمَعْنَى: أَوْرَثْنَا كُلَّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى نَبِيٍّ، ذَلِكَ النَّبِيَّ وَأَتْبَاعَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمُصْطَفَوْنَ أُمَّةُ الرَّسُولِ، وَمَعْنَى أَوْرَثْنَا، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْطَيْنَا، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ عَطَاءٌ. ثُمَّ قَسَّمَ الْوَارِثِينَ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ مَكِّيٌّ: فَقِيلَ هم المذكورون فِي الْوَاقِعَةِ. فَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ الْمُقَرَّبُ، وَالْمُقْتَصِدُ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ يُرْوَى مَعْنَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، قَالُوا: الضَّمِيرَ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْعِبَادِ. فَالظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، وَالْمُقْتَصِدُ الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي، وَالسَّابِقُ التَّقِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَالُوا: هُوَ نَظِيرُ مَا فِي الْوَاقِعَةِ.
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ هُمْ فِي أُمَّةِ الرَّسُولِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ مُكَذِّبًا ضَالًّا لَا يُورَثُ الْكِتَابَ وَلَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الْوَاقِعَةِ أَصْنَافُ الْخَلْقِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: سَابِقُنَا أَهْلُ جِهَادٍ، وَمُقْتَصِدُنَا أَهْلُ حَضَرِنَا، وَظَالِمُنَا أَهْلُ بَدْوِنَا، لَا يَشْهَدُونَ جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً. وَقَالَ مُعَاذٌ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: الَّذِي مَاتَ عَلَى كَبِيرَةٍ لَمْ
32
يَتُبْ مِنْهَا، وَالْمُقْتَصِدُ: مَنْ مَاتَ عَلَى صَغِيرَةٍ وَلَمْ يُصِبْ كَبِيرَةً لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، وَالسَّابِقُ: مَنْ مَاتَ نائبا عَنْ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ أَوْ لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: الْعَاصِي الْمُسْرِفُ، وَالْمُقْتَصِدُ: مُتَّقِي الْكَبَائِرِ، وَالسَّابِقُ: الْمُتَّقِي عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الظَّالِمُ: مَنْ خَفَّتْ حَسَنَاتُهُ، وَالْمُقْتَصِدُ: مَنِ اسْتَوَتْ، وَالسَّابِقُ: مَنْ رَجَحَتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَسَّمَهُمْ إِلَى ظالم مجرم، وهو المرجأ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَمُقْتَصِدٍ، وَهُوَ الَّذِي خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَسَابِقٍ، مِنَ السَّابِقِينَ. انْتَهَى. وَذَكَرَ فِي التَّجْرِيدِ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ قَوْلًا فِي هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عِمْرَانَ الْحَوْفِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي شُجَاعٍ، وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: سَبَّاقٌ وَالْجُمْهُورُ. سَابِقٌ، قِيلَ: وَقُدِّمَ الظَّالِمُ لِأَنَّهُ لَا يَتَّكِلُ إِلَّا عَلَى رَحِمَهُ اللَّهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلْإِيذَانِ بِكَثْرَةِ الْفَاسِقِينَ مِنْهُمْ وَغَلَبَتِهِمْ، وَأَنَّ الْمُقْتَصِدَ قَلِيلٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ، وَالسَّابِقُونَ أَقَلُّ مِنَ الْقَلِيلِ. انْتَهَى. بِإِذْنِ اللَّهِ: بِتَيْسِيرِهِ وَتَمْكِينِهِ، أَيْ أَنَّ سَبْقَهُ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، بَلْ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إِلَى إِيرَاثِ الْكِتَابِ وَاصْطِفَاءِ هذه الأمة.
وجَنَّاتُ على هذا مبتدأ، ويَدْخُلُونَها الخبر. وجنات، قرأة الْجُمْهُورِ جَمْعًا بِالرَّفْعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِخْبَارًا بِمِقْدَارِ أُولَئِكَ الْمُصْطَفَيْنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ:
جَنَّاتُ بَدَلٌ مِنَ الْفَضْلُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ جُعِلَتْ جَنَّاتُ عَدْنٍ بَدَلًا مِنَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الَّذِي هُوَ السَّبْقُ بِالْخَيْرَاتِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ؟ قُلْتُ: لَمَّا كَانَ السَّبَبَ فِي نَيْلِ الثَّوَابِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمُسَبَّبِ كَأَنَّهُ هُوَ الثَّوَابُ، فَأُبْدِلَتْ عَنْهُ جَنَّاتُ عَدْنٍ.
انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ قِرَاءَةُ الْجَحْدَرِيِّ وَهَارُونَ، عَنْ عَاصِمٍ. جَنَّاتِ، مَنْصُوبًا عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَيْ يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا. وَقَرَأَ رَزِينٌ، وَحُبَيْشٌ، وَالزُّهْرِيُّ: جَنَّةٌ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: يُدْخَلُونَهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَالْجُمْهُورِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ فِي يدخلونها عائدا عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَعَائِشَةَ، وَمُحَمَّدِ بن الحنيفة، وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ
، وَأَبِي إِسْحَاقَ السُّبَيْعِيِّ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَقَرَأَ عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَابِقُنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ».
وَمَنْ جَعَلَ ثَلَاثَةَ الْأَصْنَافِ هِيَ الَّتِي فِي الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَدْخُلُونَهَا عَائِدٌ عِنْدَهُ عَلَى الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى السَّابِقِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى السَّبْقِ بَعْدَ التَّقْسِيمِ، فَذَكَرَ ثَوَابَهُمْ. والسكوت عن الآخرين مَا فِيهِ مِنْ
33
وُجُوبِ الْحَذَرِ، فَلْيَحْذَرِ الْمُقْتَصِدُ، وَلْيَهْلِكِ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ حَذَرًا، وَعَلَيْهِمَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ الْمُخَلِّصَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِمَا
رَوَاهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَابِقُنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ»
، فَإِنَّ شَرْطَ ذَلِكَ صِحَّةُ التَّوْبَةِ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ، وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَلَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مَنِ اسْتَقْرَأَهَا اطَّلَعَ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَلَمْ يُعَلِّلْ نَفْسَهُ بِالْخِدَاعِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُحَلَّوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَشَدِّ اللَّامِ، مَبْنِيًّا للمفعول.
وقرىء: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، مِنْ حَلِيَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ حَالٍ، إِذَا لَبِسَتِ الْحُلِيَّ. وَيُقَالُ: جِيدٌ حَالٍ، إِذَا كَانَ فِيهِ الْحَلْيُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ الْكَلَامُ عَلَى يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْحَزَنَ: بفتحتين وقرىء بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ، ذَكَرَهُ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ، وَالْحَزَنُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَحْزَانِ، وَقَدْ خَصَّ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا وَأَكْثَرُوا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: حَزَنٌ: أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا يُصِيبُ هُنَالِكَ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مِنَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ. وَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: مَعِيشَةُ الدُّنْيَا الْخَيْرُ وَنَحْوُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
حَزَنُ الدُّنْيَا فِي الْحَوْفَةِ أَنْ لَا يَتَقَبَّلَ أَعْمَالَهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: حَزَنُ الِانْتِقَالِ، يَقُولُونَهَا إِذَا اسْتَقَرُّوا فِيهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَوْفُ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَزَنٌ: تَظَالُمُ الْآخِرَةِ، وَالْوُقُوفُ عَنْ قَبُولِ الطَّاعَاتِ وَرَدِّهَا، وَطُولُ الْمُكْثِ عَلَى الصِّرَاطِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ:
حَزَنٌ: زَوَالُ الْغَمِّ وَتَقَلُّبُ الْقَلْبِ وَخَوْفُ الْعَاقِبَةِ، وَقَدْ أَكْثَرُوا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: كِرَاءُ الدَّارِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ حَزَنٍ مِنْ أَحْزَانِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا حَتَّى هَذَا. إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، لَغَفُورٌ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى دُخُولِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ الْجَنَّةَ، وشكور: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى السَّابِقِ وأنه كثير الحسنات.
والمقامة: هِيَ الْإِقَامَةُ أَيِ الْجَنَّةُ، لِأَنَّهَا دَارُ إِقَامَةٍ دَائِمًا لَا يُرْحَلُ عَنْهَا. مِنْ فَضْلِهِ: مِنْ عَطَائِهِ.
لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ: أَيْ تَعَبُ بَدَنٍ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ: أَيْ تَعَبُ نَفْسٍ، وَهُوَ لَازِمٌ عَنْ تَعَبِ الْبَدَنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اللُّغُوبُ: الْوَضْعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النَّصَبُ: التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ الَّتِي تُصِيبُ الْمُنْتَصِبَ الْمُزَاوِلَ لَهُ، وَأَمَّا اللُّغُوبُ: فَمَا يَلْحَقُهُ من القتور بِسَبَبِ النَّصَبِ. فَالنَّصَبُ نَفْسُ الْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ، وَاللُّغُوبُ نَتِيجَتُهُ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ مِنَ الْكَلَالِ وَالْفَتْرَةِ. انْتَهَى. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا انْتَفَى السَّبَبُ انْتَفَى مُسَبَّبُهُ، فَمَا حُكْمُهُ إِذَا نُفِيَ السَّبَبُ وَانْتَفَى مُسَبَّبُهُ؟ وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا شَبِعْتُ وَلَا أَكَلْتُ، وَلَا يَحْسُنُ مَا أَكَلْتُ وَلَا شَبِعْتُ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ
34
مِنِ انْتِفَاءِ الْأَكْلِ انْتِفَاءُ الشِّبَعِ، وَلَا يَنْعَكِسُ، فَلَوْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا إِعْيَاءٌ وَلَا مَشَقَّةٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مُخَالَفَةَ الْجَنَّةِ لِدَارِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ أَمَاكِنَهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: مَوْضِعٌ يُمَسُّ فِيهِ الْمَشَاقُّ وَالْمَتَاعِبُ كَالْبَرَارِي وَالصَّحَارِي، وَمَوْضِعٌ يُمَسُّ فِيهِ الْإِعْيَاءُ كَالْبُيُوتِ وَالْمَنَازِلِ الَّتِي فِيهَا الصِّغَارُ، فَقَالَ: لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَظَانَّ الْمَتَاعِبِ لِدَارِ الدُّنْيَا وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ: أَيْ وَلَا نَخْرُجُ مِنْهَا إِلَى مَوْضِعِ نَصَبٍ وَنَرْجِعُ إِلَيْهَا فَيَمَسُّنَا فِيهَا الْإِعْيَاءُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لُغُوبٌ، بِضَمِّ اللَّامِ،
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالسُّلَمِيُّ: بِفَتْحِهَا.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَا يُلْغَبُ بِهِ، كَالْفُطُورِ وَالسَّحُورِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ، كَأَنَّهُ لُغُوبٌ، كَقَوْلِهِمْ: مَوْتٌ مَائِتٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الَّلَوَامِحِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْقَبُولِ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً لِمُضْمَرٍ، أَيْ أَمْرٌ لُغُوبٌ، وَاللُّغُوبُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا لِلْأَحْمَقِ. قَالَ أَعْرَابِيٌّ: إِنَّ فُلَانًا لُغُوبٌ جَاءَتْ كِتَابِي فَاحْتَقَرَهَا، أَيْ أَحْمَقُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ أَنَّثْتَهُ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ صَحِيفَةً؟
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ، إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً، قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً.
لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَقَرَّهُمْ، ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ هُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ مُقَابِلُوهُمْ، لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ: أَيْ لَا يُجْهَزُ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا بَطَلَتْ حَوَاسُّهُمْ فَاسْتَرَاحُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَمُوتُوا، بِحَذْفِ النُّونِ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ النَّفْيِ، وَهُوَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيِ النَّصْبِ فَالْمَعْنَى انْتَفَى الْقَضَاءُ عَلَيْهِمْ، فَانْتَفَى مُسَبَّبُهُ، أَيْ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ وَلَا يَمُوتُونَ، كَقَوْلِكَ: مَا تأتينا فتحدثنا، أي ما يَكُونُ حَدِيثٌ، انْتَفَى الْإِتْيَانُ، فَانْتَفَى الْحَدِيثُ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعْنَى النَّصْبِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا، إِنَّمَا تَأْتِي وَلَا تُحَدِّثُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى هُنَا:
35
لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ مَيِّتِينَ، إِنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ وَلَا يَمُوتُونَ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَالْحَسَنُ: فَيَمُوتُونَ، بِالنُّونِ، وَجْهُهَا أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى لَا يُقْضَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ.
انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ: هُوَ عَطْفٌ، أَيْ فَلَا يَمُوتُونَ، لِقَوْلِهِ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «١»، أَيْ فَلَا يَعْتَذِرُونَ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ نَوْعُ عَذَابِهِمْ. وَالنَّوْعُ فِي نَفْسِهِ يَدْخُلُهُ أَنْ يُحْيَوْا وَيُسْعَدُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَلَا يُخَفَّفْ بِإِسْكَانِ الْفَاءِ شَبَّهَ الْمُنْفَصِلَ بِالْمُتَّصِلِ، كَقَوْلِهِ:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَجْزِي كُلَّ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَنَصَبَ كُلَّ وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو حَاتِمٍ عَنْ نَافِعٍ: بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، كُلُّ بِالرَّفْعِ. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ: بُنِيَ مِنَ الصَّرْخِ يَفْتَعِلُ، وَأُبْدِلَتْ مِنَ التَّاءِ طَاءٌ، وَأَصْلُهُ يَصْرِخُونَ، وَالصُّرَاخُ: شِدَّةُ الصِّيَاحِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
صَرَخَتْ حُبْلَى أَسْلَمَتْهَا قَبِيلُهَا وَاسْتُعْمِلَ فِي الِاسْتِغَاثَةِ لِجِهَةِ الْمُسْتَغِيثِ صَوْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَطُولُ اصْطِرَاخِ الْمَرْءِ فِي بُعْدِ قَعْرِهَا وَجُهْدُ شَقِيٍّ طَالَ فِي النَّارِ مَا عَوَى
رَبَّنا أَخْرِجْنا: أَيْ قَائِلِينَ رَبَّنَا أخرجنا منها، أي من النَّارِ، وَرُدَّنَا إِلَى الدُّنْيَا.
نَعْمَلْ صالِحاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَيْ مِنَ الشِّرْكِ، وَنَمْتَثِلُ أَمْرَ الرُّسُلِ، فَنُؤْمِنُ بَدَلَ الْكُفْرِ، وَنُطِيعُ بَدَلَ الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ.
هَلِ اكْتَفَى بِصَالِحًا، كَمَا اكتفى به في فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً «٢» ؟ وَمَا فَائِدَةُ زِيَادَةِ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ عَلَى أَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ صَالِحًا آخَرَ غَيْرَ الصَّالِحِ الَّذِي عَمِلُوهُ؟ قُلْتُ:
فَائِدَتُهُ زِيَادَةُ التَّحَسُّرِ عَلَى مَا عَمِلُوهُ مِنْ غَيْرِ الصَّالِحِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِهِ، وَأَمَّا الْوَهْمُ فَزَائِلٌ بِظُهُورِ حَالِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَرُكُوبِ الْمَعَاصِي، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحْسِنُونَ صُنْعًا فَقَالُوا: أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَحْسَبُهُ صَالِحًا فَنَعْمَلَهُ. انْتَهَى. رُوِيَ أَنَّهُمْ يُجَابُونَ بَعْدَ مِقْدَارِ الدُّنْيَا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَوْقِيفٍ وَتَقْرِيرٍ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ مُدَّةَ يَذَّكَّرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مَا يَذَّكَّرُ فِيهِ، مَنِ اذَّكَّرَ، بِالِادْغَامِ وَاجْتِلَابِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ مَلْفُوظًا بِهَا فِي الدَّرْجِ. وَهَذِهِ الْمُدَّةُ، قَالَ الْحَسَنُ:
الْبُلُوغُ، يُرِيدُ أَنَّهُ أَوَّلُ حَالِ التَّذَكُّرِ، وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: ثَمَانِ عَشْرَةَ سنة.
(١) سورة المرسلات: ٧٧/ ٣٦.
(٢) سورة السجدة: ٣٢/ ١٢.
36
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عِشْرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْبَعُونَ وَقِيلَ: خَمْسُونَ. وَقَالَ عَلِيٌّ: سِتُّونَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَجاءَكُمُ مَعْطُوفٌ عَلَى أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: قَدْ عَمَّرْنَاكُمْ، كَقَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «١»، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «٢»، ثُمَّ قَالَ: وَلَبِثْتَ فِينا «٣» وَقَالَ وَوَضَعْنا «٤»، لأن المعنى قدر بيناك وَشَرَحْنَا. وَالنَّذِيرُ جِنْسٌ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلُّ نَبِيٍّ نَذِيرُ أمته. وقرىء: النُّذُرُ جَمْعًا، وَقِيلَ:
النَّذِيرُ: الشَّيْبُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَسُفْيَانُ، وَوَكِيعٌ، وَالْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ، وَالْفَرَّاءُ، وَالطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: مَوْتُ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَقِيلَ: كَمَالُ السُّفْلِ.
فَذُوقُوا: أَيْ عَذَابَ جَهَنَّمَ. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: عَالِمٌ مُنَوَّنًا، غَيْبَ نَصْبًا وَالْجُمْهُورُ: عَلَى الْإِضَافَةِ. وَمَجِيءُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِيبَ مَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ يُعَذَّبُونَ دَائِمًا مُدَّةَ كُفْرِهِمْ. كَانَتْ مُدَّةً يَسِيرَةً مُنْقَطِعَةً، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تنطوى عليه المصدور مِنَ الْمُضْمَرَاتِ. وَكَانَ يَعْلَمُ مِنَ الْكَافِرِ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْكُفْرُ فِي قَلْبِهِ، بِحَيْثُ لَوْ دَامَ إِلَى الْأَبَدِ مَا آمَنَ بِاللَّهِ وَلَا عَبَدَهُ.
وَخَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَخُلَفَاءُ: جَمْعُ خَلِيفٍ وَيُقَالُ لِلْمُسْتَخْلَفِ: خَلِيفَةٌ وَخَلِيفٌ، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَخْلَفَهُمْ بَدَلُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، فَلَمْ يَتَّعِظُوا بِحَالِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ، وَلَا اعْتَبَرُوا بِمَنْ كَفَرَ، وَلَمْ يَتَّعِظُوا بِمَنْ تَقَدَّمَ.
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ: أَيْ عِقَابُ كُفْرِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ وَقِيلَ: لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَالْمَقْتُ:
أَشَدُّ الِاحْتِقَارِ وَالْبُغْضِ وَالْغَضَبِ، وَالْخَسَارُ: خَسَارُ الْعُمُرِ. كَأَنَّ الْعُمُرَ رَأْسُ مَالٍ، فَإِنِ انْقَضَى فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، فَقَدْ خَسِرَهُ وَاسْتَعَاضَ بِهِ بَدَلَ الرِّبْحِ بِمَا يَفْعَلُ مِنَ الطَّاعَاتِ سُخْطَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ، بِحَيْثُ صَارُوا إِلَى النَّارِ.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ، قَالَ الْحَوْفِيُّ: أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ ذَلِكَ لِلتَّقْرِيرِ، وَفِي التَّحْرِيرِ:
أَرَأَيْتُمْ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَخْبِرُونِي، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ. يَقُولُ الْقَائِلُ: أَرَأَيْتَ مَاذَا فَعَلَ زَيْدٌ؟ فَيَقُولُ السَّامِعُ: بَاعَ وَاشْتَرَى، وَلَوْلَا تَضَمُّنُهُ مَعْنَى أَخْبِرُونِي لَكَانَ الْجَوَابُ نَعَمْ أَوْ لَا.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَأَيْتُمْ يَنْزِلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَنْزِلَةَ أَخْبِرُونِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرُونِي بَدَلٌ مِنْ أَرَأَيْتُمْ لِأَنَّ مَعْنَى أَرَأَيْتُمْ أَخْبِرُونِي، كَأَنَّهُ قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ وَعَنْ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْإِلَهِيَّةَ وَالشِّرْكَةَ، أَرُونِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ اسْتَبَدُّوا بِخَلْقِهِ دُونَ اللَّهِ، أَمْ لَهُمْ مَعَ الله
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٨.
(٢) سورة الشرح: ٩٤/ ١.
(٣) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٨.
(٤) سورة الشرح: ٩٤/ ٢.
37
شركة في خلق السموات؟ أَمْ مَعَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَنْطِقُ بِأَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُ؟ فَهُمْ عَلَى حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، أَوْ يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي آتَيْناهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً «١»، أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ «٢».
بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ: وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ، بَعْضاً: وَهُمُ الْأَتْبَاعُ، إِلَّا غُرُوراً وَهُوَ قَوْلُهُمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «٣». انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: أَرُونِي بَدَلٌ مِنْ أَرَأَيْتُمْ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ إِذَا أُبْدِلَ مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ الْأَدَاةِ عَلَى الْبَدَلِ، وَأَيْضًا فَإِبْدَالُ الْجُمْلَةِ مِنَ الْجُمْلَةِ لَمْ يُعْهَدْ فِي لِسَانِهِمْ، ثُمَّ الْبَدَلُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ هُنَا، لِأَنَّهُ لَا عَامِلَ فِي أَرَأَيْتُمْ فَيُتَخَيَّلُ دُخُولُهُ عَلَى أَرُونِي. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي الْأَنْعَامِ عَلَى أَرَأَيْتُمْ كَلَامًا شَافِيًا. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ أَرَأَيْتُمْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَهِيَ تَطْلُبُ مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَنْصُوبٌ، وَالْآخَرُ مُشْتَمِلٌ عَلَى اسْتِفْهَامٍ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَا صَنَعَ؟ فَالْأَوَّلُ هُنَا هُوَ شُرَكاءَكُمُ، وَالثَّانِي مَاذَا خَلَقُوا، وَأَرُونِي جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ فِيهَا تَأْكِيدٌ لِلْكَلَامِ وَتَسْدِيدٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّهُ تَوَارَدَ عَلَى مَاذَا خَلَقُوا، أَرَأَيْتُمْ وَأَرُونِي، لِأَنَّ أَرُونِي قَدْ تَعَلَّقَ عَلَى مَفْعُولِهَا فِي قَوْلِهِمْ: أَمَا تَرَى، أَيْ تَرَى هَاهُنَا، وَيَكُونُ قَدْ أُعْمِلَ الثاني على المختار عند الْبَصْرِيِّينَ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَأَيْتُمُ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا، وَأَرُونِي أَمْرُ تَعْجِيزٍ لِلتَّبْيِينِ، أي أعملتم هَذِهِ الَّتِي تَدْعُونَهَا كَمَا هِيَ وَعَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنِ الْعَجْزِ، أَوْ تَتَوَهَّمُونَ فِيهَا قُدْرَةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَهَا عَاجِزَةً، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَهَا؟ أَوْ تَوَهَّمْتُمْ لَهَا قُدْرَةً، فَأَرُونِي قُدْرَتَهَا فِي أَيِّ شَيْءٍ هِيَ، أَهِيَ فِي الْأَرْضِ؟
كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ إِلَهٌ فِي السَّمَاءِ، وَهَؤُلَاءِ آلِهَةٌ فِي الْأَرْضِ. قَالُوا: وَفِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ صُوَرُهَا، أم في السموات؟ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ بِاسْتِعَانَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَالْمَلَائِكَةُ شُرَكَاءُ فِي خَلْقِهَا، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ صُوَرُهَا، أَمْ قُدْرَتُهَا فِي الشَّفَاعَةِ لَكُمْ؟ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا خَلَقُوا شَيْئًا، وَلَكِنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ، فَنَعْبُدُهُمْ لِتَشْفَعَ لَنَا، فَهَلْ مَعَهُمْ مِنَ اللَّهِ كِتَابٌ فِيهِ إِذْنُهُ لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ؟ انْتَهَى. وَأَضَافَ الشُّرَكَاءُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ جَعَلُوهُمْ شركاء لله، أَيْ لَيْسَ لِلْأَصْنَامِ شِرْكَةٌ بِوَجْهٍ إِلَّا بِقَوْلِهِمْ وَجَعْلِهِمْ، قِيلَ:
وَيُحْتَمَلُ شُرَكَاءُكُمْ فِي النَّارِ لِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «٤».
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي آتَيْناهُمْ عَائِدٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ، لِتُنَاسِبَ الضَّمَائِرَ، أي هل مع
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٣٥.
(٢) سورة الزخرف: ٤٣/ ٢١.
(٣) سورة يونس: ١٠/ ١٨.
(٤) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩٨. [.....]
38
ما جَعَلَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ فِيهِ أَنَّ لَهُ شَفَاعَةً عِنْدَهُ؟ فَإِنَّهُ لا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ:
عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَيَكُونُ الْتِفَاتًا خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ وَتَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ لِلْخِطَابِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ عِبَادَةَ هَؤُلَاءِ إِمَّا بِالْعَقْلِ، وَلَا عَقْلَ لِمَنْ يَعْبُدُ مَا لَا يَخْلُقُ مِنَ الْأَرْضِ جُزْءًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَلَا لَهُ شِرْكٌ فِي السَّمَاءِ وَإِمَّا بِالنَّقْلِ، وَلَمْ نُؤْتِ الْمُشْرِكِينَ كِتَابًا فِيهِ أَمْرٌ بِعِبَادَةِ هَؤُلَاءِ، فَهَذِهِ عِبَادَةٌ لَا عَقْلِيَّةً وَلَا نَقْلِيَّةً.
انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ، وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ: عَلى بَيِّنَةٍ، بِالْإِفْرَادِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْجَمْعِ.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ أَمْرِ الْأَصْنَامِ وَوَقَفَ الْحُجَّةَ عَلَى بُطْلَانِهَا، عَقَّبَهُ بِذِكْرِ عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِيَتَبَيَّنَ الشَّيْءُ بِضِدِّهِ، وَتَتَأَكَّدَ حَقَارَةُ الْأَصْنَامِ بِذِكْرِ عَظَمَةِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ تَنْتَقِلَا عن أماكنها وتسقط السموات عَنْ عُلُوِّهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ تَزُولَا عَنِ الدَّوَرَانِ. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ الْأَرْضَ لَا تَدُورُ.
وَيَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ السَّمَاءَ لَا تَدُورُ، وَإِنَّمَا تَجْرِي فِيهَا الْكَوَاكِبُ. وَقَالَ: كَفَى بِهَا زَوَالًا أَنْ تَدُورَ، وَلَوْ دَارَتْ لَكَانَتْ قَدْ زَالَتْ. وَأَنْ تَزُولَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لَهُ، وَقُدِّرَ لِئَلَّا تَزُولَا، وَكَرَاهَةَ أَنْ تَزُولَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُمْسِكُ: يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَزُولَا، فَيَكُونُ مَفْعُولًا ثَانِيًا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، أَيْ يَمْنَعُ زَوَالَ السموات وَالْأَرْضِ، بَدَلَ اشْتِمَالٍ. وَلَئِنْ زالَتا: إِنْ تَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى الْمُمْكِنِ، فَإِنْ قَدَّرْنَا دُخُولَهَا عَلَى الْمُمْكِنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عِنْدَ طَيِّ السَّمَاءِ وَنَسْفِ الْجِبَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ، ثُمَّ وَاقِعٌ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ، أَيْ وَلَئِنْ جَاءَ وَقْتُ زَوَالِهِمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، أَيْ وَلَئِنْ فَرَضْنَا زَوَالَهُمَا، فَيَكُونُ مِثْلَ لَوْ فِي الْمَعْنَى. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَلَوْ زَالَتَا، وَإِنْ نَافِيَةٌ، وَأَمْسَكَهُمَا فِي مَعْنَى الْمُضَارِعِ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ قَبْلَ لَامِ التَّوْطِئَةِ فِي لَئِنْ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمُضَارِعِ لِدُخُولِ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ «١». أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «٢» : أَيْ لَيَظَلُّوا، فَيُقَدَّرُ هَذَا كُلُّهُ مُضَارِعًا لِأَجْلِ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَجَوَابُ إِنْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإِنْ أَمْسَكَهُما جَوَابُ الْقَسَمِ فِي وَلَئِنْ زالَتا، سَدَّ مَسَدَّ الْجَوَابَيْنِ. انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّهُ دَلَّ عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، وَإِنْ أُخِذَ كَلَامُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَوْ سَدَّ مَسَدَّهُمَا لَكَانَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ بِاعْتِبَارِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٤٥.
(٢) سورة الروم: ٣٠/ ٥١.
39
جَوَابِ الشَّرْطِ، وَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ بِاعْتِبَارِ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مَعْمُولًا غَيْرَ معمول. ومن فِي مِنْ أَحَدٍ لِتَأْكِيدِ الاستغراق، وَمِنْ فِي مِنْ بَعْدِهِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ تَرْكِ إِمْسَاكِهِ. وَسَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ: مَنْ لَقِيتَ؟ قَالَ كَعْبًا، قَالَ: وَمَا سَمِعْتُهُ يقول؟ قال: إن السموات عَلَى مَنْكِبِ مَلَكٍ، قَالَ: كَذَبَ كَعْبٌ، أَمَا تَرَكَ يَهُودِيَّتَهُ بَعْدُ؟ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِجُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ، وَكَانَ رَجِلَ: أَيْ كَعْبُ الْأَحْبَارِ فِي كَلَامٍ آخِرُهُ مَا تَمَكَّنَتِ الْيَهُودِيَّةُ فِي قَلْبٍ وَكَادَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
اتِّصَافُهُ بِالْحِلْمِ وَالْغُفْرَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السَّمَاءَ كَادَتْ تَزُولُ، وَالْأَرْضَ كَذَلِكَ، لِإِشْرَاكِ الْكَفَرَةِ، فَيُمْسِكُهَا حُكْمًا مِنْهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَتَرَبُّصًا لِيَغْفِرَ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةٍ أُخْرَى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ «١» الْآيَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
حَلِيماً غَفُوراً، غَيْرَ مُعَاجِلٍ بِالْعُقُوبَةِ، حَيْثُ يُمْسِكُهَا، وَكَانَتَا جَدِيرَتَيْنِ بِأَنْ تُهَدْهِدَ الْعَظْمَ كَلِمَةُ الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ «٢» الْآيَةَ.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً، وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً.
الضَّمِيرُ فِي وَأَقْسَمُوا لِقُرَيْشٍ. وَلَمَّا بَيَّنَ إِنْكَارَهُمْ لِلتَّوْحِيدِ، بَيَّنَ تَكْذِيبَهُمْ لِلرُّسُلِ.
قِيلَ: وَكَانُوا يَلْعَنُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى حَيْثُ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَقَالُوا: لَئِنْ أَتَانَا رَسُولٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى من إحدى الْأُمَمِ. فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَذَّبُوهُ. لَئِنْ جاءَهُمْ: حِكَايَةٌ لِمَعْنَى كَلَامِهِمْ لَا لِلَفْظِهِمْ، إِذْ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ لَئِنْ جَاءَنَا نَذِيرٌ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، أَيْ مِنْ وَاحِدَةٍ مُهْتَدِيَةٍ مِنَ الْأُمَمِ، أَوْ مِنَ الْأُمَّةِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا إِحْدَى الْأُمَمِ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى غَيْرِهَا، كَمَا قَالُوا: هُوَ أَحَدُ الْأَحَدَيْنِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَحَدِ، يُرِيدُونَ التَّفْضِيلَ فِي الدَّهَاءِ وَالْعَقْلِ بِحَيْثُ لَا نَظِيرَ لَهُ، وقال الشاعر:
(١) سورة مريم: ١٩/ ٩٠.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٩٠.
40
حَتَّى اسْتَشَارُوا فِيَّ أَحَدَ الأحد شاهد يرادا سِلَاحَ مَعَدِّ
فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ. مَا زادَهُمْ: أَيْ مَا زَادَهُمْ هُوَ أَوْ مَجِيئُهُ. إِلَّا نُفُوراً: بُعْدًا مِنَ الْحَقِّ وَهَرَبًا مِنْهُ. وَإِسْنَادُ الزِّيَادَةِ إِلَيْهِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي أَنْ زَادُوا أَنْفُسَهُمْ نُفُورًا، كَقَوْلِهِ:
فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «١»، وَصَارُوا أَضَلَّ مِمَّا كَانُوا. وَجَوَابُ لَمَّا: مَا زادَهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى حَرْفِيَّةٍ لَمَّا لَا ظَرْفِيَّتِهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ ظَرْفًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى عَامِلِهَا الْمَنْفِيِّ بِمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ «٢»، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ «٣». وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْتِكْباراً مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ سَبَبُ النُّفُورِ وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ، وَمَكْرَ السَّيِّئِ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْتِكْباراً، فَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْضًا، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى الِابْتِعَادِ مِنَ الْحَقِّ هو الاستكبار والْمَكْرُ السَّيِّئُ، وَهُوَ الْخِدَاعُ الَّذِي تَرُومُونَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْكَيْدُ لَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَكْرُ السيء هُوَ الشِّرْكُ. وَقِيلَ: اسْتِكْباراً بَدَلٌ مِنْ نُفُوراً، وَقَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: حَالٌ، يَعْنِي مُسْتَكْبِرِينَ وَمَاكِرِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، ومكر السيء مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَمَكْرَ السَّيِّئِ مَعْطُوفًا عَلَى نُفُوراً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ومكر السيء، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: بِإِسْكَانِهَا، فَإِمَّا إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَإِمَّا إِسْكَانًا لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ وَإِجْرَاءٍ لِلْمُنْفَصِلِ مُجْرَى الْمُتَّصِلِ، كَقَوْلِهِ: لَنَا إِبِلَانِ. وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَحْنٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا صَارَ لَحْنًا لِأَنَّهُ حَذَفَ الْإِعْرَابَ مِنْهُ.
وَزَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي كَلَامٍ وَلَا شِعْرٍ، لِأَنَّ حَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ دَخَلَتْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَعَانِي، وَقَدْ أَعْظَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ بِهَذَا، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَقِفُ عَلَى مَنْ أَدَّى عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَأَنَّ الثَّانِي لَمَّا لَمْ يَكُنْ تَمَامَ الْكَلَامِ أَعْرَبَهُ، وَالْحَرَكَةُ فِي الثَّانِي أَثْقَلُ مِنْهَا فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا ضَمَّةٌ بَيْنَ كَسْرَتَيْنِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَمَكْرَ السيء مَوْقُوفًا عِنْدَ الْحُذَّاقِ بِيَاءَيْنِ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ لِلِاضْطِرَارِ. وَأَكْثَرَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ، وَالِاحْتِجَاجِ لِلْإِسْكَانِ مِنْ أَجْلِ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ وَالِاضْطِرَارِ، وَالْوَصْلِ بِنِيَّةِ الْوَقْفِ، قَالَ: فَإِذَا سَاغَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ القراءة
(١) سورة التوبة: ٩/ ١٢٥.
(٢) سورة سبأ: ٣٤/ ١٤.
(٣) سورة يوسف: ١٢/ ٦٨.
41
مِنَ التَّأْوِيلِ، لَمْ يَسُغْ أَنْ يُقَالَ لَحْنٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: مَا ثَبَتَ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَوِ التَّوَاتُرِ أَنَّهُ قرىء بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَوَازِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَحْنٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَعَلَّهُ اخْتَلَسَ فَظُنَّ سُكُونًا، أَوْ وَقَفَ وَقْفَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ ابْتَدَأَ وَلا يَحِيقُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: ومكر السيء، بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا مَكْسُورَةٍ، وَهُوَ مقلوب السيء المخفف من السي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا يجزون من حسن بسيّ وَلَا يَجْزُونَ مِنْ غِلْظٍ بِلِينِ
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَمَكْرًا سَيِّئًا، عَطَفَ نَكِرَةً عَلَى نَكِرَةٍ وَلا يَحِيقُ: أَيْ يُحِيطُ وَيَحُلُّ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَكْرُوهِ. وقرىء: يُحِيقُ بِالضَّمِّ، أَيْ بِضَمِّ الياء المكر السيء: بِالنَّصْبِ، وَلَا يَحِيقُ اللَّهُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَعَاقِبَةُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَثِيرًا نَرَى الْمَاكِرَ يُفِيدُهُ مَكْرُهُ وَيَغْلِبُ خَصْمَهُ بِالْمَكْرِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَكْرَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَكْرُ بِالرَّسُولِ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى الْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ، وَلَا يَحِيقُ إِلَّا بِهِمْ حَيْثُ قُتِلُوا بِبَدْرٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَامٌّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ،
فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنِ الْمَكْرِ وَقَالَ: «لَا تَمْكُرُوا وَلَا تُعِينُوا مَاكِرًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمَمْكُورُ بِهِ أَهْلًا فَلَا يَزِدْ نَقْصًا».
وَثَالِثُهَا:
أَنَّ الْأُمُورَ بِعَوَاقِبِهَا، وَمَنْ مَكَرَ بِهِ غَيْرُهُ وَنَفَّذَ فِيهِ الْمَكْرَ عَاجِلًا فِي الظَّاهِرِ، فَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْفَائِزُ، وَالْمَاكِرُ هُوَ الْهَالِكُ. انْتَهَى.
وَقَالَ كَعْبٌ لا بن عَبَّاسٍ فِي التَّوْرَاةِ «مَنْ حَفَرَ حُفْرَةً لِأَخِيهِ وَقَعَ فِيهَا»، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. انْتَهَى.
وَفِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ «مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا». وسُنَّتَ الْأَوَّلِينَ: إِنْزَالُ الْعَذَابِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِرُسُلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَجَعَلَ اسْتِقْبَالَهُمْ لِذَلِكَ انتظارا له منهم.
وسنة الْأَوَّلِينَ أَضَافَ فِيهِ الْمَصْدَرَ. وفي لِسُنَّتِ اللَّهِ إِضَافَةٌ إِلَى الْفَاعِلِ، فَأُضِيفَتْ أَوَّلًا إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ بِهِمْ، وَثَانِيًا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَنَّهَا. وَبَيَّنَ تَعَالَى الِانْتِقَامَ مِنْ مكذبي الرُّسُلِ عَادَةً لَا يُبَدِّلُهَا بِغَيْرِهَا وَلَا يُحَوِّلُهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِمْ مِمَّا كَانُوا يُشَاهِدُونَهُ فِي مَسَايِرِهِمْ وَمَتَاجِرِهِمْ، فِي رِحْلَتِهِمْ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ، وَعَلَامَاتِ هَلَاكِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، كَدِيَارِ ثَمُودَ وَنَحْوِهَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ
42
الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الرُّومِ. وَهُنَاكَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً «١» : اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَهُنَا: وَكانُوا: أَيْ وَقَدْ كَانُوا، فَالْجُمْلَةُ حَالٌ، فَهُمَا مَقْصِدَانِ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ: أَيْ لِيَفُوتَهُ وَيَسْبِقَهُ، مِنْ شَيْءٍ: أي شيء، ومِنْ لِاسْتِغْرَاقِ الْأَشْيَاءِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً: فَبِعِلْمِهِ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ، وَبِقُدْرَتِهِ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حِلْمَهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ فَقَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا: أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي النَّحْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِظُلْمِهِمْ «٢»، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي النَّحْلِ، وَهُنَاكَ عَلَيْها «٣»، وَهُنَا عَلَى ظَهْرِها، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَلْفُوظٌ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ. وَلَمَّا كَانَتْ حَامِلَةً لِمَنْ عَلَيْهَا، اسْتُعِيرَ لَهَا الظَّهْرُ، كَالدَّابَّةِ الْحَامِلَةِ لِلْأَثْقَالِ، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا هُوَ الظَّاهِرُ بِخِلَافِ بَاطِنِهَا. فَإِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً: تَوَعُّدٌ لِلْمُكَذِّبِينَ، أَيْ فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٩.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٦١.
(٣) سورة النحل: ١٦/ ٦١.
43
Icon