ﰡ
[الآيات]
حم يا حافظ حدود الله ومراقب وحيه والهامه في عموم حالاتك وأوقاتك
وَحق الْكِتابِ الْمُبِينِ الذي هو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم
إِنَّا من مقام عظيم جودنا أَنْزَلْناهُ اى ابتدأنا انزاله إليك تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ كثيرة الخير والبركة هي ليلة القدر او البراءة وانما أنزلناه مشتملا على الاحكام والمواعظ والعبر والأمثال والقصص والتواريخ والرموز والإشارات المنبهة على المعارف والحقائق إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ مخوفين بانزال ما فيه من الأوامر والنواهي والوعيدات الهائلة على من انصرف عن جادة العدالة الإلهية وانحرف عن الصراط المستقيم وانما أنزلناه إليك في ليلتك هذه إذ
فِيها يُفْرَقُ يميز ويفصل عندك يا أكمل الرسل بعد ما تمكنت في مقر العز والتمكين كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ اى محكم صادر عن محض الحكمة المتقنة الإلهية ولهذا صار عموم ما ذكر في كتابك هذا
أَمْراً محكما مبرما نازلا مِنْ عِنْدِنا بمقتضى حضرة علمنا وكمال قدرتنا ووفور حكمتنا ليكون هداية لك وإرشادا لعموم عبادنا المتابعين لك المهتدين بهدايتك إِنَّا قد كُنَّا في عموم الأوقات والحالات مُرْسِلِينَ رسلا مبشرين ومنذرين ومنزلين عليهم كتبا مبينة مصلحة لأحوال عبادنا بعد ما أفسدوا على أنفسهم وصار ذلك الإرسال والإنزال
رَحْمَةً نازلة مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وسنة سنية بين عموم عباده حين ظهر الفساد فيهم وفشا الجدال فيما بينهم وبالجملة إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لمناجاة عباده نحوه بألسنة استعداداتهم وقابلياتهم الْعَلِيمُ بحاجاتهم ونياتهم فيها وكيف لا يرحمهم ولا يصلح أحوالهم مع انه سبحانه هو بذاته (٥)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من الكوائن المركبة منهما يعنى مربى الكل ومظهره هو بالاستقلال والانفراد إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ اى من ارباب المعرفة واليقين فاعرفوه كذلك ووحدوه هكذا إذ
لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ بصرافة وحدته وتنزهه عن وصمة الشرك مطلقا هو يُحْيِي وَيُمِيتُ اى يظهر ويوجد عموم ما يوجد وكذا يعدم عموم ما يعدم بمد ظله اليه وقبضه عنه ارادة واختيارا وكيف لا وهو سبحانه رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ لا مربى لكم ولهم سواه وبالجملة لو تأمل عموم العباد في دلائل توحيده ونظروا في آيات ألوهيته وربوبيته لعرفوا يقينا وحدة ذاته
بَلْ هُمْ اى أكثرهم فِي شَكٍّ في غفلة وتردد يَلْعَبُونَ ويترددون في اودية الظنون والجهالات حسب آرائهم الفاسدة واهويتهم الباطلة بالنسبة اليه سبحانه
فَارْتَقِبْ يا أكمل الرسل وانتظر لهم مترقبا بإلمام البلاء عليهم بعد ما قد أصروا على كفرهم وشركهم واذكر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مظلم مُبِينٍ عظيم
يَغْشَى النَّاسَ اى يحيط بهم وينزل عليهم بحيث تيقنوا ان
رَبَّنَا اكْشِفْ بفضلك وجودك عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا بعد ما كشفت عنا عذابنا مُؤْمِنُونَ موقنون بوحدانيتك مصدقون بكتابك ورسولك. وذلك ان قريشا لما بالغوا في الاستهزاء بالرسول والتهكم معه صلّى الله عليه وسلّم ومع ضعفاء المؤمنين دعا عليهم صلّى الله عليه وسلّم فقال اللهم اعنى عليهم بالسبع الشداد كسبع يوسف عليه السلام فأجاب الله دعاءه فاخذهم بالقحط فأكلوا الميتة والجيف وهلك كثير منهم فيغشاهم يومئذ دخان عظيم يسمع كل منهم كلام صاحبه ولا يراه من ظلمة الدخان فقالوا صارخين متضرعين هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب انا مؤمنون وقد كانوا عليه حتى جاء ابو سفيان الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال انك قد جئت بصلة الرحم وان قومك قد هلكوا من الجهد فدعا لهم فكشف الله عنهم جهدهم ومع ذلك لم يوفوا بعهدهم الذي عهدوا بعد الكشف لذلك رد الله عليهم بقوله
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى اى من اين يتأتى منهم التذكر والاتعاظ وَقَدْ جاءَهُمْ لتكميلهم وإرشادهم رَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الفضل والعظم أكمل من كل الرسل
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ مدبرين واعرضوا عن دعوته ودينه مصرين على ما هم عليه وَلم يقتصروا على مجرد التولي والاعراض بل قالُوا في شأنه صلّى الله عليه وسلّم كلا ما لا يليق بعلو مكانه حيث قال بعضهم انه مُعَلَّمٌ يعلمه بعض الأعجمين مع انه ﷺ أمي وقال البعض الآخر انه مَجْنُونٌ مخبط مختل العقل يتكلم بكلام المجانين مع انه اعقل الناس وارشدهم. ثم قال سبحانه على سبيل الاخبار والتنبيه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما أخذ يدعو لهم بالكشف والتفريج
إِنَّا من مقام عظيم جودنا معك يا أكمل الرسل كاشِفُوا الْعَذابِ المحيط بهم بدعائك زمانا قَلِيلًا في دار الاختبار الا انهم لم يوفوا بعدهم الذي عهدوا معك لصرافتهم وانهماكهم في الكفر ثم خاطبهم سبحانه مخبرا إياهم بما سيصدر عنهم فقال إِنَّكُمْ وان كشفنا العذاب عنكم ايها الضالون المكذبون لأنتم عائِدُونَ راجعون الى كفركم وضلالكم غب الكشف والفرج مبادرون على ما قد كنتم عليه ونحن حينئذ منتقمون عنكم مجازون لكم بأسوء الجزاء وأشد العذاب والنكال اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى اى يوم نأخذهم وننتقم عن جرائمهم وآثامهم في يوم القيامة والطامة الكبرى كيف ينقذون أنفسهم من عذابنا الذي لا مرد له يومئذ وبالجملة إِنَّا مُنْتَقِمُونَ منهم البتة حينئذ على الوجه الأشد الأفظع. ثم قال سبحانه تسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وتسكينا لقلبه عما أهمه وأحزنه من استهزاء قومه معه واستخفافهم عليه
وَكما امتحنا وجربنا قريشا بإرسالك إليهم مع انا نعلم منهم انهم لم يؤمنوا بك ولم يهتدوا بهدايتك أصلا بل اوقعناهم في فتنة عظيمة وبلية فظيعة لَقَدْ فَتَنَّا وامتحنا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ كذلك بإرسال أخيك موسى الكليم إليهم وَقد جاءَهُمْ رَسُولٌ مرسل من لدنا كَرِيمٌ مكرم لدينا بأنواع الكرامات مؤيد من عندنا بالمعجزات الباهرة مبلغ لهم بمقتضى الوحى الإلهي قائلا لهم
أَنْ أَدُّوا اى بان أدوا إِلَيَّ حق الله وأرسلوا معى عِبادَ اللَّهِ بنى إسرائيل وبالجملة إِنِّي لَكُمْ من قبل ربي وربكم رَسُولٌ أَمِينٌ مأمون مصون عن الكذب والافتراء غير متهم به لدلالة ما عندي من المعجزات على صدقى في دعوى الرسالة
وَعليكم أَنْ لا تَعْلُوا ولا تكبروا عَلَى اللَّهِ وعلى قبول وحيه وتصديق رسوله في دعوته الى وحدته ولا تنكروا له ولا تكذبوه إِنِّي آتِيكُمْ
حجة واضحة دالة على صدقى في دعواي
وَمع وضوح الحجة وسطوع البرهان ان تظهروا على بالعناد والمكابرة اتكالا على شوكتكم وكثرتكم فانا لا أبالي بكم وبشوكتكم واستيلائكم بل إِنِّي عُذْتُ يعنى قد التجأت انا وثقت بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ من أَنْ تَرْجُمُونِ وتضربوني بالحجارة او تشتموني باللسان
وَبالجملة إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي ولم تقبلوا منى قولي ودعوتي فَاعْتَزِلُونِ وابعدوا عنى لا علىّ ولا لي ولا لكم ولا عليكم وبعد ما قد كذبوه بل قصدوا مقته وقتله
فَدَعا رَبَّهُ وتضرع نحوه بقوله أَنَّ هؤُلاءِ المفسدين المسرفين قَوْمٌ مُجْرِمُونَ منهمكون في الغي والضلال لا ينفعهم نصحى ولا يؤثر فيهم قولي ودعوتي يا ربي وبعد ما ايس عن ايمانهم بل خاف عن مكرهم وطغيانهم قلنا له ان كان الأمر كذلك
فَأَسْرِ بِعِبادِي اى سر معهم لَيْلًا على سبيل الفرار منهم وبعد ما علموا خروجك إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ اى يتبعكم فرعون وجنوده ليلحقوا بكم ويستأصلوكم وبعد ما وصلتم الى البحر غدوة وهم على اثركم مدركون بكم فاضرب حينئذ بعصاك البحر فإذا انفلق من ضربك البحر وتفرق من كمال قدرتنا وهيبتنا فادخل أنت اصالة ومن معك تبعا لك بلا خشية وخوف من الغرق فاعبروا سالمين
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ بعد عبوركم رَهْواً ذا فجوة وانفلاق ولا تقصد الى اجتماعه ولا تدع بجمعه خوفا من عبورهم ولا تضربه بالعصاء ليجتمع كما ضربته بها لانفلاقه وبالجملة لا تخف من ضررهم واضرارهم إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ بعد دخولهم البتة فلا تخف منهم ومن ادراكهم ولا تحزن من اقتحامهم على الفور ففعل موسى عليه السلام كذلك فعبروا سالمين وترك البحر على هيئته فاقتحمه فرعون وجنوده بأجمعهم اغترارا بعبورهم وبافتراق البحر وانفلاقه فلما دخلوا جميعا مزدحمين اتصل البحر فغرقوا بالكلية وبعد ما هلكوا
كَمْ تَرَكُوا اى كثيرا تركوا مِنْ جَنَّاتٍ متنزهات بهية وَعُيُونٍ جاريات فيها
وَزُرُوعٍ كثيرة في حواليها وَمَقامٍ كَرِيمٍ اى محافل مزينة ومنازل حسنة في خلالها
وَنَعْمَةٍ وافرة اى اسباب تنعم وترفه من الامتعة والنسوان قد كانُوا فِيها اى في الجنات فاكِهِينَ متنعمين مترفهين
كَذلِكَ فعلنا معهم من كمال قدرتنا بعد ما أردنا إهلاكهم وانتقامهم بسبب تكذيبهم واستكبارهم على رسولنا وهكذا نفعل مع كل مكذب متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وَبعد ما تركوا الكل على ما كان وهلكوا قد أَوْرَثْناها اى تلك الجنات وما يتفرع عليها من المستلذات المتروكات قَوْماً آخَرِينَ لا قرابة بينهم نسبا ودينا وهم بنوا إسرائيل وبعد ما هلكوا واستؤصلوا
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ اى لم تبكيا ولم تعتدا بهلاكهم واستئصالهم مثل اعتدادهما لهلاك المؤمنين وفقدهم قال صلّى الله عليه وسلّم ما من عبد مؤمن الا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله فإذا مات فقداه وبكيا عليه وعن المرتضى الأكبر كرم الله وجهه إذا مات المؤمن بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء وَهم من غاية انهماكهم في الغي والضلال واستيحالهم بالمقت والهلاك ما كانُوا مُنْظَرِينَ ممهلين مؤخرين الى وقت آخر بل اخذتهم العزة باثمهم بحيث لا يمهلهم الله ولا يسوف عليهم ساعة
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ وهو استعبادهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم استذلالا بهم واستهانة عليهم وانما نجيناهم كرامة منا إياهم وامتنانا عليهم وكيف لا يهينهم العذاب النازل عليهم الناشئ
مِنْ فِرْعَوْنَ الطاغي المتجبر المتكبر على الأرض إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ عموم الْمُسْرِفِينَ المفسدين
وَبالجملة لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ اى بنى إسرائيل واصطفيناهم من بين سائر الأمم المعاصرين معهم عَلى عِلْمٍ متعلق منا إياهم بأنهم أحقاء بالرياسة والسيادة وانواع الثروة والجاه عَلَى الْعالَمِينَ لكثرة ظهور الأنبياء والرسل فيهم ومنهم
وَبعد ما اخترناهم آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ العظام الدالة على كمال اختصاصهم بمزيد الشرف والكرامة ما فِيهِ بَلؤُا واختبار مُبِينٌ ظاهر نختبر به إخلاصهم ورسوخهم على الايمان. ثم لما أوضح سبحانه تفضيح حال المجرمين المكذبين لرسل الله قال
إِنَّ هؤُلاءِ المسرفين المكذبين لك يا أكمل الرسل يعنى قريشا خذلهم الله لَيَقُولُونَ من غاية انكارهم بقدرة الله وبما اخبر به الرسول ونطق به الكتاب من الأمور المتعلقة بالنشأة الآخرة
إِنْ هِيَ اى الموتة التي تعرض لنا إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى التي تطرأ علينا في دار الدنيا وتزيل حياتنا عنا وَبالجملة ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ مبعوثين من قبورنا احياء ثم نحشر للحساب والجزاء كما زعمتم ايها المفترون الكاذبون وان أردتم تصديقنا إياكم في هذه الدعوى
فَأْتُوا بِآبائِنا الذين قد انقرضوا وأسلافنا الذين مضوا احياء كما كانوا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم وبالجملة انما قالوا ما قالوا تهكما واستهزاء وبعد ما قد أصروا على عنادهم وبالغوا في انكارهم رد الله عليهم على ابلغ وجه وآكده بقوله مستفهما على سبيل التقريع والتوبيخ
أَهُمْ يعنى قريشا خذلهم الله خَيْرٌ مالا وجاها وثروة وسيادة أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ اسم لمن ملك الحمير ككسرى لملوك الفارس وقيصر لملوك الروم والمراد ابو كرب (٥) سعيد بن منيل آمن بنبينا قبل مبعثه فتنحى عنه قومه معللين انك قد تركت ديننا وأرادوا مقته فاخذهم الله بجرمهم هذا فاهلكهم وَالَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الهالكة كعاد وثمود أَهْلَكْناهُمْ مع شدة قوتهم وبسطتهم وكثرة شوكتهم وبالجملة إِنَّهُمْ بأجمعهم قد كانُوا أقواما مُجْرِمِينَ بالجرائم العظام الموجبة للمقت والهلاك أمثال جرائمكم ايها المجرمون المسرفون
وَبالجملة ما خَلَقْنَا وأظهرنا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من الممتزجات لاعِبِينَ عابثين بلا طائل بل
ما خَلَقْناهُما واظهرناهما على هذا النمط والنظام العجيب المشتمل على انواع التغيرات من الكائنات والفاسدات إِلَّا بِالْحَقِّ ليستدلوا بها على وحدة ذاتنا وكمال علمنا وقدرتنا ومتانة حكمتنا واستقلالنا في تدبيراتنا وتصرفاتنا في ملكنا وملكوتنا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لقصور نظرهم عن ادراك الحكم والأسرار الإلهية لا يَعْلَمُونَ ولا يشعرون الا المحسوسات العادية وبالجملة ما أولئك الحمقى الهلكى القاصرون عن النظر والاستدلال القانعون باللذات الوهمية البهيمية من هذا النظام العجيب الا كالأنعام والهوام بل هم أضل سبيلا وأسوأ حالا منها اذكر لهم يا أكمل الرسل
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ الذي يمتاز فيه المحق عن المبطل والهادي المهتدى عن الضال المضل مِيقاتُهُمْ وموعد جزائهم وقطع خصوماتهم أَجْمَعِينَ فيجازى كل منهم حسب ما حوسب ان خيرا فخير وان شرا فشر واذكر ايضا
يَوْمَ لا يُغْنِي لا يدفع ولا يرفع مَوْلًى عَنْ مَوْلًى قرابة عن قرابة شَيْئاً من الإغناء والدفع مما كتب له من الجزاء ثوابا كان او عقابا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ اى لا ينصر بعضهم ببعض على سبيل المظاهرة والمعاونة
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ بمقتضى فضله وجوده او قبل شفاعة احد في حق احد عناية منه وعفوا إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم مراداته الرَّحِيمُ المشفق على عباده عند انابتهم ورجوعهم نحوه فانه يقبل توبتهم ويعفو زلتهم. ثم قال سبحانه
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ المعدة
كَالْمُهْلِ اى الذهب المذاب او دردى الزيت الأسود وهو من شدة حرقته وحرارته يَغْلِي فِي الْبُطُونِ
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ اى كالماء الحار إذا أشد غليانه في المرجل كيف هو وهو مثله يغلى في بطون اهل النار قال صلّى الله عليه وسلّم اتقوا الله حق تقاته ولو ان قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرت على اهل الدنيا معيشتهم ما داموا فيها فكيف حال من هو طعامه هي دائما ولم يكن له غذاء سواها. أعاذنا الله منها ومن أمثالها. وبالجملة هم مبتلون بهذا العذاب الى حيث قطع أمعاءهم ومع ذلك العذاب الهائل يقال من قبل الحق للزبانية الموكلين عليهم على الدوام
خُذُوهُ اى المسرف الأثيم فَاعْتِلُوهُ اى ادفعوه وسوقوه بشدة العنف والزجر المفرط إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ اى وسطه
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مثل ما في جوفه مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ليستغرقوا بالعذاب الشديد استغراقا تاما وقولوا له عند صبكم وتعذيبكم على وجه التهكم والتوبيخ
ذُقْ ايها المتجبر الطاغي طعم العذاب الهائل إِنَّكَ في نفسك وعلى مقتضى زعمك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ الغالب المقصور على الغلبة والكرامة بين اهل الوادي ثم قولوا لهم بعد تشديد العذاب عليهم تفظيعا لهم وتفضيحا
إِنَّ هذا العذاب والنكال الذي أنتم فيه الآن ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تمارون وتشكون في النشأة الاولى ثم ذكر سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه مقر المؤمنين المتقين ومنزلتهم في النشأة الاخرى فقال
إِنَّ الْمُتَّقِينَ المجتنبين عن محارم الله في عموم أوقاتهم وحالاتهم بعد ما انقرضوا عن نشأة الاختبار والابتلاء فِي مَقامٍ أَمِينٍ اى مقر مأمون مصون عن طريان التغير والانتقال محروس عن وصمة الغفلة والضلال وبالجملة متمكنون
جَنَّاتٍ
متنزهات العلم والعين والحق عُيُونٍ
جاريات من انواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات اللدنية ومن كمال تلذذهم وترفههم باللذات الروحانية
يَلْبَسُونَ من البسة ارباب الكشف والشهود المترقين في مراقى درجات القرب والوصول مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ اى مما رق وغلظ من عروض المعارف والحقائق الى ان صاروا مُتَقابِلِينَ في المحبة متماثلين في الوجد والحضور
كَذلِكَ ينكشف لهم الأمر بعد انقراضهم عن نشأة الدنيا وعالم الحجاب وَمع ذلك القرب والوصول والوجد والحضور زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ مصورات من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية والخصائل السنية التي تأدبوا بها مع ربهم في النشأة الاولى
يَدْعُونَ اى يطالب بعضهم بعضا حين تمكنهم واستقرارهم فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ ملذة لأرواحهم وأشباحهم من الفواكه الحاصلة لهم من شجرة اليقين العلمي والعيني والحقي آمِنِينَ عن غوائل الشيطان وتسويلاته وتزييناته كما في النشأة الاولى وبالجملة هم احياء عند ربهم بحياته الازلية الابدية باقون ببقائه السرمدي بحيث
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ اى طعم مرارة الموت المعطل عن التلذذ باللذات اللدنية الروحانية إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى التي قد ذاقوها عند افتراقهم عن لوازم نشأة الإمكان وانقطاعهم عن مقتضيات عالم الناسوت وانفطامهم منها وَبالجملة بعد ما وصلوا الى فضاء الوجوب وحصلوا في عالم اللاهوت وَقاهُمْ وحفظهم ربهم عَذابَ الْجَحِيمِ اى من عذاب بقعة الإمكان ونشأة الناسوت والأركان وبالجملة انما اعطوا
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وامتنانا منه سبحانه عليهم بلا استحقاق منهم واستجلاب بطاعاتهم ذلِكَ الذي بشر الله به عباده المتقين هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الكريم لا فوز أعظم منه