تفسير سورة الفتح

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
سورة١ الفتح مدنية٢ عند ابن عباس، وقال المسور بن٣ مخرمة نزلت بين مكة والمدينة٤.
١ ع: "سورة محمد": وهو تحريف..
٢ ع : "زيادة" (قال أبو محمد مكي رضي الله عنه)..
٣ هو المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب القرشي الزهري، أبو عبد الرحمن، من فضلاء الصحابة، وفقهائهم، روى عن الخلفاء الأربعة وعمرو بن عوف القرشي والمغيرة، وروى عنه سعيد بن المسيب وعروة وآخرون، توفي سنة ٦٤ هـ. انظر: الجرح والتعديل ٨/٢٩٧، وسير أعلام النبلاء ٣/٣٩٠، وشذرات الذهب ١/٧٨، والإصابة ٣/٤١٩، والأعلام ٧/٢٢٥..
٤ انظر: تفسير القرطبي ١٦/٢٥٩، والدر المنثور وفيه الروايتين معا ٧/٥٠٧، وأسباب النزول ٢٨٥، ولباب النقول ١٩٨..

سورة الفتح
قوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (١)﴾.
المعنى: إنا حكمنا لك يا محمد حكماً ظاهراً لمن سمعه أو بلغه أنك الغالب الظافر.
6925
وقال قتادة معناه: إنا قضينا لك يا محمد قضاء بيناً.
روى عطاء والضحاك عن ابن عباس ان الله جل ذكره لما أنزل على النبي ﷺ أن يقول: ﴿وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٨]. فلما قالها شمت المشركون وكتبوا إلى اليهود بذلك، وقالوا كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به ولا بمن اتبعه، فاشتد ذلك على النبي ﷺ، فأنزل الله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾... الآية. فأخبره بما يكون من أمره وما كان، وبعاقبة المؤمنين به. والفتح: يراد به ما فتح عليه من الغنائم وأخذ القرى بالحرب وغير الحرب فقوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ﴾ منة من الله على نبيه ﷺ، فجعل المنة سبيلاً للمغفرة؛ لأن كل ما يفعله العبد من خير، فالله الموفق له، ثم الله يتفضل بالمجازاة على ذلك الفعل، وهو وَفق إليه، وأعان عليه، فكل من عنده لا إله إلا هو، فالحسنة من العبد منة من الله عليه إذ وفقه لها، ثم يجازيه على ذلك تفضلاً بعد تفضل ومنة بعد منة، وقد قيل: إن التقدير: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً تستغفر عنده ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فيكون الغفران من الله جزاء للإستغفار منه عند إتيان الفتح، أعلمه تعالى أنه إذا جاء الفتح واستغفر غفر له (ودليل
6926
هذا القول قوله: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح... فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره﴾ [النصر: ١ - ٣]. فأمره بالاستغفار عند الفتح.
والفتح في اللغة: الظفر بالمكان بالقرية أو المدينة، بحرب أو بغير حرب، عنوة أو صلحا.
قال أنس: " نزلت، ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ﴾ بعد رجوع النبي ﷺ من الحديبية، فقال النبي ﷺ: لقد نزلت علي آية أحب إليّ من جميع الدنيا لو كانت باقية لي غير فانية، لأن الدنيا لا قدر لها فيقدر بها الأمر العظيم الجليل ثم تلا: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ الآية.
فقال رجل من المسلمين: هنيئاً مريئاً هذا لك يا رسول الله فماذا لنا؟ فأنزل الله: ﴿لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ الآية ".
6927
وهذه الآية نزلت في فتح الحديبية، والحديبية بير، وكان في فتحها آية من الله، وذلك/ أن النبي ﷺ ورد هذه البير وقد نزف ماؤها، فتمضمض ﷺ وتفل فيها، فأقبل الماء حتى شرب كل من كان معه، ولم يكن بينه وبين المشركين حرب الاتراع، ثم فتح له.
وقيل معناه: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً باجتناب الكبائر ليغفر لك الصغائر.
وقيل معناه: إنا فتحنا لك بالهداية إلى الإسلام، ولام ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ الله﴾: لام قسم عند أبي حاتم والمعنى: " ليغفرن لك الله ".
وقال ابن كيسان وغيره: هي لام كي، فالمعنى: وقع الفتح لك يا محمد لتقع لك المغفرة.
قال مجاهد: ما تقدم من ذنبك قبل النبوة، وما تأخر بعد النبوة.
6928
قال الشعبي: " وما تأخر ": يعني إلى أن يموت، وقد غلط قوم فظنوا أن الفتح هنا فتح مكة، والصحيح أنه فتح الحديبية كذلك قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك.
قال الطبري الفتح هنا: الهدنة التي جرت بين النبي عليه السلام وبين مشركي قريش بالحديبية ونزلت هذه السورة في منصرف النبي عليه السلام عن الحديبية [بعد الهدنة التي جرت بينه وبين قومه.
قال أنس: " لما رجعنا ن غزوة الحديبية] وقد حيل بيننا وبين منسكنا قال: / فنحن بين الحزن والكآبة قال فأنزل الله جل ذكره عليه: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ إلى
6929
﴿مُّسْتَقِيماً﴾ فقال النبي ﷺ: " لقد أنزلت [علي] آية أحب إلي من الدنيا جميعاً.
وغزوة الحديبية هي أن رسول الله ﷺ خرج معتمراً في ذي القعدة من سنة ستٍ من الهجرة، والحديبية بئر.
وفي الحديبية كانت بيعة الرضوان، فأهلوا بذي الحليفة وأهدي رسول الله ﷺ البدن هو وظائفة من أصحابه وليس معهم من السلاح إلا السيوف فصدهم المشركون عن البيت فمضى لقتالهم، فبركت به ناقته فقال الناس خلأت، فقال رسول الله ﷺ " ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، فتخلف عن ذلك، وأراد أن يبعث بالهدي الذي كان معهم، فمنعوه،
6930
وجرت بينه وبين قريش مراسلات وقصة فيها طول، ثم أرسل
6931
النبي ﷺ عثمان بن عفان رضي الله عنهـ إلى قريش فكلمهم بما أمره به رسول الله عليه السلام فأرسلت معه قريش سهيل بن عمرو ليصالح رسول الله ﷺ، وكان بمكة ناس كثير من المسلمين فدعوا عثمان ليطوف بالبيت، فقال: ما كنت لأطوف بالبيت حتى يطوف به رسول الله ﷺ - فصالح النبي ﷺ قريشاً وكتب بينهم وبينه كتاب على أن يرجع النبي وأصحابه من مكانهم، فإذا كان العام القابل يأتي النبي ﷺ وعثمان ويخلى بينه وبين الكعبة ثلاثة أيام لا يرد عنها، وعلى ألا يدخلها هو ولا أحد من أصحابه إلا بالسلاح، وكتبوا مع ذلك شروطاً كثيرة، وبعث رسول الله ﷺ بالكتاب إلى قريش مع عثمان، وبقي سهيل بن عمرو عند النبي عليه السلام، فوقع بين أصحاب النبي
6932
ﷺ والمشركين بعض قتال ورمى بعضهم بعضا بالنبل والحجارة، فحبس المشركون عثمان، وحبس المسلمون سهيلا فعند ذلك دعا رسول الله ﷺ المسلمين إلى البيعة، ، وأراد قتالهم فبايعه المسلمون تحت الشجرة على الموت، وهي بيعة الرضوان، إذ كانت بالحديبية، وهي بير، بايعوه وهم ألف وست مائة تحت شجرة، وقيل: كانوا ألفاً وأربعة مائة بايعوه على الموت، وقيل: بايعوه على ألا يفروا. قال جابر: فبايعناه على ألا نفر وكانت الشجرة سرة وكان المسلمون ألفاً وستة مائة فيهم مائة فارس، فلما راى المشركون ذلك خافوا وبعثوا بمن كان عندهم من المسلمين وطلبوا الصلح فتركهم رسول الله والمسلمون على كآبة والمشركون خائفون.
وأمر رسول الله ﷺ أصحابه أن ينحروا بدنهم فتوقفوا حتى نحر رسول الله ﷺ هدية فنحروا / هديهم وحلق رسول الله ﷺ وحلقت طائفة من أصحابه، وقصرت طائفة فعند ذلك قال النبي ﷺ: اللهم اغفر للمحلقين [قالوا]: والمقصرين يا رسول الله [فأعادها] ثلاث مرات، ثم قال في الرابعة
6933
وللمقصرين "
، وعند ذلك أنزل الله على رسوله عليه السلام: ﴿وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ في آيات فيها ذكر صد المشركين الهدي، وأخبر تعالى لأي شيء كف أيدي المؤمنين عن المشركين فقال: ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.
يعني: ولولا أن تقتلوا من كان بمكة من المؤمنين لأطلق أيديكم أيها المؤمنون على من بمكة من الكفار، ولكن منعتم من ذلك لئلا تأثموا وأنتم لا تعلمون. وذكر حمية المكفار وذكر تصديق رؤيا رسول الله ﷺ: لتدخلوا المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، وذلك في العام المقبل على ما قاضاهم عليه رسول الله ﷺ.
فأما قوله: ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ [الفتح: ٢٧].
6934
فقيل هو دخول النبي ﷺ وأصحابه في العام المقبل مكة آمنا وأصحابه معه للعمرة.
وقيل هو فتح خيبر. وفي فتح خيبر نزلت: ﴿وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾، ولا اختلاف في ذلك،.
وكان فتح خيبر عند مالك على رأس ست سنين من الهجرة بعد منصرفهم من الحديبية، وهو الفتح الذي أثاب الله فيه أهل بيعة الرضوان، فلم يغزُ خيبر غيرهم.
وقال غير مالك: فتحت خيبر في أول سنة سبع من الهجرة وكانت مدة / الصلح الذي صالحهم عليه النبي عليه السلام: سنتين يأمن بعضهم بعضاً. ولما صالحهم النبي ﷺ، على ذلك قال رجل من المسلمين: فمن أتاهم منا يا رسول الله فهم أحق به.
قال: نعم، وأبعده الله وأسحقه ومن أتانا منهم لم نقبله، قال: نعم، فإنه من أراد فراقهم وخلاف دينهم جعل الله له فرجاً ومخرجاً، وخرجت أم كلثوم مهاجرة إلى
6935
رسول الله ﷺ وهي عاتق لم تتزوج، فقبل النبي عليه السلام هجرتها ولم يردها إلى المشركين.
وأقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد مقيداً قد أسلم، وكان والده سهيل والمشركون قد قيدوه وحبسوه؛ لأنه أسلم، واجتنب الطريق وأخذ الجبال حتى هبط على رسول الله ﷺ بالحديبية ففرح به المسلمون وتلقوه وآووه فناشدهم والده سهيل إلا ردوا عليه ابنه، فرده عليه النبي ﷺ وقال: إن يعلم الله من نفسه الصدق ينجه، فرجع سهيل يضرب وجه أبي جندل ولده بعصاً شوك، فقال له رسول الله ﷺ: هبه لي أو أجره من العذاب، فقال: " والله لا أفعل فأجاره مكرز ابن حفص وأخذ بيده وأدخله فسطاطه وظهر من آيات
6936
النبي ﷺ علامات معجزات في تلك الغزاة، من ذلك: أن الناس قالوا ليس لنا ماء، فأخرج النبي ﷺ سهماً من كنانته فأمر به فوضع في قعر قليب ليس فيه ماء، فروى الناس حتى ضربوا بعطن، ومن ذلك أن الناس شكوا إلى رسول الله ﷺ الجهد، فقال النبي ﷺ للناس: ابسطوا أبضاعكم وعيالكم، ففعلوا، ثم قال: من كان عنده بقية من زاد أو طعام فلينشره ودعا لهم، ثم قال: قربوا أوعيتكم، فأخذوا ما شاء الله وكان رسول الله ﷺ لا يأتيه أحد من عند المشركين قد أسلم، فيطلبه المشركون، إلا دفعه إليهم ولا يمضي أحد من عند المسلمين إلى المشركين مرتداً إلا تركه المسلمون لهم، فعلى ذلك وقع الصلح / فوفى بما عاهدهم عليه، فخرج قوم
6937
أسلموا من مكة، وانعزلوا في موضع يقطعون الطريق على عير قريش، وخرج أبو جندل من مكة هارباً ومعه نفر ممن أسلم فلحقوا بأولئك الذين يقطعون الطريق على عير قريش، ولم يأت منهم أحد النبي ﷺ خوفاً أن يردهم إلى المشركين، فكان أبو جندل يصلي بهم، وكان من لطف للمسلمين أنه صعب على المشركين ذلك، فوجهوا إلى النبي يسألونه أن يوجه في القوم ليقدموا عليه، وقالوا: إنا لا نسألكم في ردهم إلينا، ومن خرج إليك منا فأمسكه، ولا ترده بلا حرج عليك، فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي جندل وأصحابه أن يقدموا عليه، وأمر من اتبعهم من المسلمين أن يرجعوا إلى بلدانهم وأهليهم، وألا يعرضوا لأحد مر بهم من قريش ففعلوا.
وقوله: ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾.
معناه: يرفع ذكرك في الدنيا وينصرك على عدوك، ويغفر لك ذنوبك في الآخرة.
وقوله: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ أي: يرشدك ديناً لا اعوجاج فيه
6938
فيستقيم بك إلى رضا ربك وإلى طريق الجنة.
أي: ينصرك على أعدائك نصراً لا يغلبك غالب، وقيل معناه نصراً ذا عز لا ذل معه.
قال: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين﴾ أي: جعل السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين إلى الإيمان بالله ورسوله ﷺ ليزدادوا إيماناً وتصديقاً مع تصديقهم. قال ابن عباس: السكينة الرحمة، وقال: بعث النبي ﷺ بشهادة أن لا إله إلا الله فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم فقال: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٤] الآية.
قال ابن عباس: فأوثق إيمان أهل السماوات والأرض وأصدقه وأكمله شهادة لا إله إلا الله.
ثم قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض﴾ أي: عبيده وخلقه ينتقم ممن يشاء من أعدائه.
ثم قال: ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ أي: لم يزل ذا علم بما هو كائن قبل كونه وما خلقه عاملون قبل خلقهم، حكيماً في تدبيره خلقه.
قال: ﴿لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: فتح لك يا محمد لتشكر ربك على ما أعطاك وليحمد المؤمنون / ربهم على ما وعدهم به أنه سيدخلهم بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبداً.
﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أي: بغطيها ويسترها فلا يحاسبهم بها.
﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً﴾ أي: وكان إدخالهم الجنة الموصوفة وستره على ذنوبهم عند الله ظفراً منهم بما كانوا يأملونه (ونجاة من العذاب كثيراً).
قال: ﴿وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات [والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظَنَّ السوء]﴾.
أي: فتح الله لك يا محمد ليعذب هؤلاء المذكورين وظنهم السوء، وأنهم كانوا يظنون أن لن يعود الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين الشيطان ذلك في قلوبهم فرد الله دائرة السوء عليهم: ومعنى دائرة السوء: (دائرة العذاب والهلاك).
وقال الخليل وسيبويه: السوء هنا: الفساد.
وقال الفراء: الفتح [في السنين: الشر في الشر، قال: وقلما تقول العرب دائرة السوء إلا بالضم، واختار الفراء الفتح في السين] لأن العرب تقول: هو رجل سوء، بالفتح، ولا تقوله بالضم.
والسُّوء بالضم اسم الفعل، وبالفتح الشيء بعينه.
ثم قال: ﴿وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ﴾ أي: نالهم بغضبه ولعنهم أي: وأبعدهم من رحمته، وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة. ﴿[وَسَآءَتْ] مَصِيراً﴾ أي: ساءت جهنم منزلا لهم.
قوله: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض﴾.
أي: ولله كل من في السماوات والأرض عبيداً له وأنصاراً له على أعدائه، ولم يزل الله (عزيزاً لا يغلبه غالب)، حكيما في تدبيره خلقه.
ثم قال: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [٨].
انتصبت الثلاثة الألفاظ على الحال، وهي حال مقدرة. أي: مقدرين بشهادتك يا محمد (على أمتك يوم القيامة) ومقدرين تبشيرك أمتك بما أعد الله لهم من النعيم. إن أطاعوك ومقدرين إنذارك من كفر بك ما أعد الله له من العذاب إن مات على كفره.
قال: ﴿لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾.
أي: فعل الله ذلك بك يا محمد / ليؤمن بك (من سبق في علم الله) أنه يؤمن.
قال ابن عباس: تعزروه: يعني الإجلال، وتوقروه هو التعظيم.
قال قتادة: وتعزروه: تنصروه، وتوقروه: تفخموه.
وقال عكرمة: تعزروه: تقاتلون معه بالسيف.
وقال ابن زيد: وتعزروه وتوقروه: هو الطاعة لله تعالى.
وقال المبرد: تعزروه: تبالغوا في تعظيمه، ومنه عزر السلطان الإنسان؛ أي: بالغ
6942
في أدبه فيما دون الحد.
وقال علي بن سليمان: معنى وتعزروه: يمنعون منه وتنصرونه.
قال الطبري: معنى التعزير في هذا الموضع المعونة بالنصر.
وقرأ الجحدري: تعزروه بالتخفيف.
وقرأ محمد اليماني: وتعزّروه بالزاءين، من العز؛ أي: تجعلونه عزيزاً ويقال: عززه يعززه جعله عزيزاً وقواه، ومنه قوله: ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ [يس: ١٣].
وقيل إن قوله: وتعزروه وتوقروه لله. وقيل هو للنبي ﷺ فأما " وتسبحوه "
6943
فلا تكون إلا لله.
وتنزهوا الله عن السوء في بعض القراءات وتسبحوا الله.
وقوله: ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ أي: ظرفان تصلون لله في هذين الوقتين.
قال: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ أي: إن الذين يبايعونك يا محمد بالحديبية، وذلك حين حبس المشركون عثمان بن عفان بايع أصحاب النبي ﷺ على ألا يفروا عند لقاء العدو، ثم صرفهم الله عن المشركين وقتالهم، لئلا يهلك من بمكة من المسلمين ولا يعلم بهم أصحاب النبي ﷺ، وهو قوله: ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ﴾ [الفتح: ٢٥] إلى قوله: ﴿أَلِيماً﴾ [الفتح: ٢٥].
وقوله: ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ أي: إنما يبايعون ببيعتهم إياك الله، لأن الله ضمن لهم الجنة.
وقوله: ﴿يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: يده فوق أيديهم عند البيعة.
وقيل: قوة الله فوق قوتهم في نصرتهم رسوله.
وقيل: معناه يد الله في الثواب والفواء لهم فوق أيديهم في الوفاء بما بايعوك عليه.
وقيل: معناه يد الله في الهداية لهم فوق أيديهم في الطاعة.
ثم قال: ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ﴾ أي: من نكث البيعة ولم يف بما بايع عليه فإنما نكثه راجع عليه لأنه يحرم نفسه الأجر الجزيل، والعطاء العظيم في الآخرة. ثم قال: ﴿وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله﴾ في إيمانه.
﴿فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ أي: ومن أوفى ببيعتك وما عهد على نفسه من نصرك يا محمد فسيؤتيه [الله] أجراً عظيماً وهو الجنة والنجاة من النار.
قال: ﴿سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا﴾.
نزلت هذه الآية في الأعراب الذين حول المدينة من مزينة وجهينة وأسلم، وغيرهم تخلفوا عن النبي ﷺ عام الحديبية، فلما رجع النبي / وظفر وسلم أتوه يسألونه الاستغفار لهم وفي قلوبهم خلاف ذلك، ففضحهم الله.
أي: سيقول لك يا محمد إذا رجعت إلى الحديبية الذين (تخلفوا في أهليهم). وقعدوا عن صحبتك والخروج معك إلى مكة معتمرين كما خرجت، معتذرين عن تخلفهم عنك: شغلتنا عن الخروج معك معالجة أموالنا، وأصلاح معائشنا وأهلينا فاستغفر لنا ربك لتخلفنا عنك، وكان النبي ﷺ لما أراد الخروج إلى مكة معتمراً استنفر العرب، الذين حول المدينة ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له
6945
بحرب أن يصدوه عن البيت، ثم أحرم بالعمرة، وساق الهدي ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب فتثاقل عنه كثير من الأعراب فتخلفوا عنه، ففيهم نزل هذا.
وقال مجاهد: هم أعراب المدينة من جهينة ومزينة تخلفوا عن الخروج مع النبي ﷺ إلى مكة غداة الحديبية ثم أنزل الله تكذيبهم في عذرهم فقال: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي: يسألونك يا محمد الاستغفار من فعلهم من غير توبة تنعقد عليها قلوبهم، ولا ندم على فعلهم.
وجاء بلفظ " ألسنتهم " توكيداً وفرقاً بين المجاز والحقيقة.
ثم قال: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً﴾ أي: قل يا محمد لهؤلاء الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج معك إلى مكة، من يملك لكم من الله شيئاً.
6946
﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً﴾ / أي: من يدفع عنكم الضر إذا أراده الله بكم حين عصيتم رسوله وتخلفتم عن الخروج معه، واعتذرتم بما لا تعتقده قلوبكم.
ثم قال: ﴿بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ أي: بل [لم] يزل الله ذا خبر بما تعملون وما تعتقدون، لا يخفى عليه شيء من ذلك.
قال: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً﴾.
هذا خطاب للأعراب الذين تخلفوا عن الخروج مع النبي ﷺ إلى مكة لما اعتذروا وكذبوا في اعتذارهم، فأكذبهم الله ثم أعلمهم بما علم من اعتقادهم في رسول الله ﷺ والمؤمنين فقال: بل ظننتم أيها الأعراب أن النبي ﷺ والمؤمنين لا يرجعون إلى المدينة أبداً من غزوتهم، فلذلك تخلفتم عن الخروج معهم لأنكم شغلتكم أموالكم وأهلوكم كما زعمتم في عذركم.
ثم قال: ﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء﴾ أي: زين لكم الشيطان ذلك، وقال لكم لا يرجع النبي والمؤمنون إلى المدينة أبداً، وأنهم سيهلكون في غزوهم، وظننتم أن الله لا ينصر نبيّه ومن أطاعه، وذلك ظن السوء.
ثم قال: ﴿وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ أي: هلكى باعتقادكم وظنكم.
والبور في اللغة: الشيء الذي لا قيمة له ولا فائدة فيه ك لا شيء ".
قال قتادة بوار: فاسدين.
قال ابن زيد البور: الذي لا خير فيه.
قال مجاهد بوراً: هلكى.
أي: ومن لم يؤمن منكم أيها العرب ومن غيركم بالله ورسوله فقد كفر، وقد اعتدنا لمن كفر سعيراً من النار يسعر عليهم (في جهنم) إذا وردوها يوم القيامة.
يقال سعرت النار: إذا أوقدتها سعراً، ويقال: سعرتها أيضاً إذا حركتها ومنه قولهم أنه (لمسعر حرب): أي: محركها وموقدها.
قال: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾.
أي: له سلطان ذلك، فلا أحد يقدر على رده عما يريد من تعذيبه من أراد تعذيبه ولا عن ستر من أراد الستر عليه وإدخاله الجنة، وهذا تنبيه وحق لهؤلاء الأعراب
الذين تخلفوا عن رسول الله على التوبة والمراجعة إلى أمر الله وأمر رسوله: أي: بادروا إلى التوبة فإن الله يغفر لمن تاب، لا يرده عن ذلك راد.
﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي: لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين وذا رحمة لهم.
قال: ﴿سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا﴾.
أي: سيقول لك يا محمد ولأصحابك هؤلاء الأعراب الذين تخلفوا عن محبتك والخروج معك إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ يعني ما وعد الله به المؤمنين من غنائم خيبر، وعدهم ذلك بالحديبة وهو قوله: ﴿وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾ وهو فتح خيبر فأعلم الله نبيه عليه السلام أن المتخلفين عنه سيقولون له إذا خرج إلى فتح خيبر وأخذ غنائمها دعنا نتبعك.
ثم قال: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله﴾ / أي: يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعده أهل الحديبية، وذلك أن الله وعدهم غنائم خيبر بالحديبة عوضاً من غنائم أهل مكة إذا أنصرفوا على صلح.
قال مجاهد: رجع رسول الله ﷺ عن مكة فوعده الله مغانم كثيرة فعجلت له خيبر، فأراد المتخلفون أن يتبعوا النبي ﷺ ليأخذوا من المغانم فيغيروا وعد الله الذي خص به أهل الحديبية.
6949
وقيل إن معنى قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله﴾ أي: يريدون أن يخرجوا معك في غزوك (وقد قال الله): ﴿فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً﴾ [التوبة: ٨٣].
قال ابن زيد: أرادوا أن يخرجوا مع النبي ﷺ وأن يبدلوا كلام الله الذي قال لنبيه: ﴿فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً﴾ وذلك حين رجع من غزوة تبوك.
وأنكر هذا القول الطبري؛ لأن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة، قال: والصواب الذي قاله قتادة ومجاهد: أنهم يريدون أن يغيروا وعد الله الذي خص به أهل الحديبية، وذلك: مغانم خيبر وغيرها.
وقوله: ﴿قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ﴾ أي: كذلك قال لنا الله من قبل مرجعنا إليكم من الحديبية ان غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية / دون غيرهم ممن لم يشهدها، فليس لكم أن تتبعونا لأنكم تخلفتم عن الحديبية.
ثم قال: ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ أي: تحسدوننا أن نصيب معكم من الغنائم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم.
ثم قال: ﴿بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي: لا يعقلون عن الله ما له عليهم إلا
6950
يسيراً، ولو كانوا يعقلون ما قالوا ذلك.
قوله: ﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ﴾.
أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين تخلَّفوا من الأعراب عن أن يخرجوا معك إلى الحديبية، وطلبوا أن يتبعوك إلى أخذ غنائم خيبر ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يصلحون.
قال ابن عباس: أهل فارس، وهو قول مجاهد وابن زيد.
وقال الحسن، وابن أبي ليلى: هم فارس والروم.
6951
وقال عكرمة: هم هوازن يوم حنين، وكذلك (قال ابن جبير) هوازن وثقيف.
وقال الزهري: هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب.
وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد.
وقال كعب: هم الروم يقاتلهم هؤلاء القوم أو يسلمون بغير قتال.
6952
ومن قرأ " يسلموا " فمعناه: حتى يعلموا أو إلا أن يسلموا.
ثم قال: ﴿فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً﴾ أي: يعطيكم الله على إجابتكم لقتال هؤلاء القوم الجنة.
﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي: وإن تتخلفوا عن قتال هؤلاء القوم كما تخلفتم عن الخروج مع النبي ﷺ إلى الحديبية يعذبكم عذاباً أليماً في الآخرة.
قال: ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ﴾ ليس عليهم ضيق إذا تخلفوا عن الجهاد مع المؤمنين للعذر الذي نزل بهم، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم.
ثم قال: ﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي: تحت أشجارها الأنهار.
﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ أي: يعص الله ورسوله، ويدع الجهاد إذا دعي إليه يعذبه عذاباً أليماً في الآخرة.
قال: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة﴾.
يعني: بيعة أصحاب النبي ﷺ يوم الحديبية سنة ست، وفتح خيبر سنة سبع، وقال مالك: سنة ست أو هو الفتح القريب، واعتمر [رسول الله ﷺ] سنة سبع، وفتح مكة سنة ثمان، وحج أبو بكر ونادى علي براءة سنة تسع، وحج النبي ﷺ سنة عشر.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ".
وقد قال الله تعالى: ﴿ لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة﴾.
ومن رضي الله عنهـ لم يدخل النار أبداً، وكانوا بايعوه على منابزة قريش لما حبسوا عثمان، وظن المؤمنون أنه قتل وأشاع إبليس في عسكر الرسول ﷺ أن عثمان قتل وصدوا النبي عن البيت فبايعوه على ألا يفروا ولا يولوهم الأدبار أسفاً
6954
على عثمان وكان النبي عليه السلام أرسله إلى المشركين بمكة في عقد الصلح وإعلامهم أنه إنما جاء ليعتمر معظماً للبيت وللحرم فأبطأ عثمان، فقيل قد قتل فبايع النبي ﷺ أصحابه على قتالهم ثم بلغه أن عثمان سالم لم يقتل وهي بيعة الرضوان، وكانت الشجرة سرة فكان الذين بايعوه ألفاً وأربع مائة، وقي ألفاً وخمس مائة، وقيل ألف وثلاث مائة، وقيل ألف وست مائة.
وقال ابن عباس: كانوا ألفاً وخمس مائة وخمسة وعشرين.
وقوله: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي: علم الله ما في قلوب المؤمنين من صدق النية في مبايعتهم والوفاء بذلك: ﴿فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ﴾ [أي]: فأنزل الله الطمأنينة عند علمه بصدق فعلهم عليهم.
قال قتادة: / أنزل عليهم الصبر والوقار.
6955
ثم قال: ﴿وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾ أي: وعوضهم من غنائم مكة غنائم خيبر بعقب رجوعهم من الحديبية سنة ست عند مالك، والفتح: فتح خيبر قاله قتادة وغيره وعليه أكثر المفسرين.
وقال بعضهم هو فتح الحديبية وذلك سلامة المؤمنين، ورجوعهم سالمين مأجورين /.
ثم قال: ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾ (أي: وأثاب هؤلاء الذين بايعوا النبي ﷺ تحت الشجرة بما أكرمهم به من الرضا ورجوعهم سالمين)، وبغنائم كثيرة يأخذونها من أموال اليهود بخيبر.
﴿وَكَان الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ أي: لم يزل ذا عزة في انتقامه من أعدائه، حكيماً في تدبيره خلقه.
قال: ﴿وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه﴾ يعني: غنائم خيبر عجلها الله لأهل بيعة الرضوان بعد منصرفهم من الحديبية سنة ست.
وقيل أول سنة سبع، وهذه مخاطبة لأهل بيعة الرضوان (خاصة أنهم) سيغنمون مغانم كثيرة.
6956
قال مجاهد: هي من لدن نزلت هذه الآية إلى اليوم.
وحكى ابن زيد عن أبيه: أنها مغانم خيبر.
ثم قال: ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه﴾.
قال قتادة: هي غنائم خيبر عجلت، والمؤخرة كل غنيمة يغنم [المؤمنون] من ذلك الوقت إلى أن تقوم الساعة.
وقال ابن عباس: ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه﴾ هو الصلح الذي كان بين النبي ﷺ وقريش ودلَّ على ذلك قوله:
﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ﴾ أي: وكف أيدي المشركين عنكم أيها المؤمنون بالحديبية.
روي: " أن المشركين بعثوا عروة بن مسعود الثقفي إلى النبي ﷺ لما
6957
أتاهم عام الحديبية فأكرم النبي عليه السلام إتيانه وأدناه فقال للنبي ﷺ: أتريد أن تقسم البيعة التي أعزها الله، هذه والله قريش لبست، لك جلود النسور وقلوب السباع تقسم بالله لا تدخل مكة أبداً. هذا خلق على الخيل في كراع الغميم وهذه العوذ المطانيل: يعني النساء التي لهن أطفال، تتعوذ بالله من إتيانك مكة، فقال النبي ﷺ: يا أبا سعود لم نأت لهذا، وإنما أتينا معتمرين نحل من عمرتنا وننحر هدينا، ونرجع إلى بلدنا، فاذهب إلى أخوانك وأعلمهم ذلك "، فرجع عروة إلى مكة فقال لهم: إني قد رأيت بختنصر في ملكه، ورأيت كسرى في ملكه ورأيت ملك اليمن، والله ما رأيت ملك قط مثل محمد في أصحابه، والله ما تقع منه شعرة إلا صدوها ولا نخامة إلا ابتلعوها والله ليملكن ما فوق رؤوسكم وما تحت أرجلكم، فابعثوا إليه من يقاضيه على ترك الحرب فيما بينكم وبينه، فبعثوا وقاضوه على أن يرجع ويعتمر في العام المقبل.
وقال قتادة: كف الله أيدي اليهود عن المدينة حين صار النبي ﷺ إلى
6958
الحديبية وإلى خيبر وهو اختيار الطبري، لأن كف أيدي المشركين من أهل مكة عن المؤمنين قد ذكره الله بعد هذه الآية، فقال: ﴿وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ [الفتح: ٢٤] فدل أن الكف الأول غير هذا، فهو كف أيدي اليهود عن المدينة في غيبة النبي ﷺ وأصحابه.
وروي عن ابن عباس والحسن في قوله: ﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ﴾ قال: هو عيينة بن حصن الفزاري وقومه وعوف بن مالك النضري ومن معه جاءوا لينصروا أهل خيبر ورسول الله ﷺ محاصر لهم فألقى الله في قلوبهم الرعب وكفهم عن النبي ﷺ وأصحابه.
وقوله: ﴿وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: ولتكون المغانم (آية للمؤمنين ودلالة) على صدق النبي ﷺ لأنه أخبرهم بما سيكون.
6959
وقال الطبري معناه: وليكون كف أيدي اليهود عن عيالكم عبرة للمؤمنين وهو قول قتادة.
ثم قال: ﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ أي: ويرشدكم الله أيها المؤمنون طريقا واضحاً لا اعوجاج فيه وهو أن تتقوا في أموركم كلها ربكم، إذ هو الحائط عليكم ولعيالكم.
قال: ﴿وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا﴾ [أي: وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها].
قال ابن عباس وابن أبي ليلى والحسن: هي فارس والروم.
وعن ابن عباس أيضاً: هي خيبر، وقاله الضحاك وابن زيد وابن إسحاق.
وقال قتادة: هي مكة قد أحاط الله بها أي: بأهلها.
﴿وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾ أي: لم يزل ذا قدرة على كل شيء.
قال: ﴿وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار﴾ أي: ولو قاتلكم يا أهل بيعة
الرضوان مشركو مكة لانهزموا عنكم وولوكم أدبارهم، ثم لا يجدون ولياً / يواليهم عليكم، ولا نصيراً ينصرهم عليكم.
قال: ﴿سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ﴾ أي: سن الله انهزام المشركين بين يدي المؤمنين سنة قد خلت من قبلكم في الأمم الماضية، " فَسُنّة " مصدر عملت فيه جملة ليت من لفظه، وهي قوله /: ﴿لَوَلَّوُاْ الأدبار﴾ ولن يجد يا محمد لسنة الله التي سنها في الأمم الماضية تبديلاً بل ذلك دائم في كل أمة يخذل المشركين وينصر المؤمنين.
قال: ﴿وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾.
والله الذي كف أيدي المشركين عنكم أيها المؤمنون بالحديبية إذ خرجوا ليصيبوا منكم، وكف أيديكم عنهم: أي: أرضاكم بالصلح وترك قتال المشركين.
قال أنس بن مالك: هبط ثمانون رجلاً من أهل مكة من جبل التنعيم عند صلاة الفجر على رسول الله عليه السلام وأصحابه ليقتلوهم فأخذهم رسول الله ﷺ ثم
6961
أعتقهم فنزلت الآية فيهم.
فالله كف أيديهم عن قتل رسول الله وأصحابه وكف أيدي المؤمنين عن قتلهم حين أخذوهم فأعتقوهم وهو قوله.
﴿مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ أي: كف أيديكم عن قتلهم من بعد أن أخذتموهم أسرى وظفرتم بهم فأعتقتموهم.
قال قتادة: بعث المشركون أربعين رجلاً أو خمسين وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله ﷺ ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، فأخذوا أخذاً فأتي بهم رسول الله فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم بعد أن رموا في عسكر رسول الله ﷺ بالحجارة والنبل.
قال قتادة: بطن مكة: الحديبية.
ثم قال: ﴿وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ أي: لم يزل بصيراً بأعمالكم وأعمالهم لا يخفى عليه منها ولا من غيرها شيء.
6962
قوله: ﴿هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام﴾.
أي: هؤلاء المشركون من قريش هم الكافرون الصادون لكم عن دخول المسجد الحرام، والصادون الهدي محبوساً على أن يبلغ محله.
وروي أن النبي ﷺ لما منع دخول مكة عام الحديبية، وهي سنة ست قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: أليس قد وعدنا الله أن ندخل، فقال أبو بكر: أوعدك الدخول في هذا العام، وروى أن النبي ﷺ قال مثل ذلك. والعامل في " أن " ﴿مَعْكُوفاً أَن﴾ ويجوز أن يكون ﴿صَدُّوكُمْ﴾، والمعنى صدوكم عن دخول المسجد الحرام لتمام عمرتكم، وصدوا الهدي عن أن يبلغ موضع نحره، وذلك دخول الحرام، وكان النبي ﷺ ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة، وكان الناس سبع مائة رجل فكانت البدنة عن عشرة، قال ذلك المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، (وقد
6963
تقدم الاختلاف) في عدتهم، وكان رسول الله ﷺ وأصحابه خرجوا معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي حتى إذا كانوا بالحديبية وهي بير يقرب مكة صدهم المشركون عن دخول الحرم فصالحهم النبي ﷺ على أن يرجع من عامه ذلك إلى المدينة وذلك سنة ست، ثم يرجع من العام المقبل وهو سنة سبع فيكون بمكة ثلاث ليال ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب ولا يخرج بأحد من أهلها، فنحر هديه في مكانه وحلقوا في مكانهم، فلما كان العام المقبل سنة سبع أقبل رسول الله ﷺ وأصحابه فدخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة فعوضهم الله من صدهم في ذي القعدة ودخولهم مكة في ذي القعدة من العام المقبل فهو قوله تعالى: ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ﴾ [البقرة: ١٩٤].
ثم قال: ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.
أي: لولا أنه بمكة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لا تعلمون أيها المؤمنون مكانهم وأشخاصهم فتقتلوهم بغير علم فتأثموا ويعيركم بذلك المشركون وتلزمهم
6964
الدية. والباء في " بغير " متعلقة " فتطئوهم "، " وأن " في قوله " أن تطئوهم " بدل من رجال بدل الاشتمال وقيل هي بدل من الهاء، والميم في " تعلموهم " والمعنى يرجع إلى شيء واحد: لسلطكم الله عليهم، فجواب " لولا " محذوف دل عليه الكلام. /
والتقدير لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنون (ونساء مؤمنات) لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم ولكنه تعالى حال بينكم وبين ذلك.
﴿لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي: لم يأذن لكم في قتالهم وقتلهم ليسلم من كفار مكة من قدر الله له أن يسلم فيدخل في رحمة الله.
وقيل المعنى: لولا رجال مؤمنون في أصلاب المشركين وأرحام المشركات ونساء مثل ذلك لعذبنا الذين كفروا.
ثم قال /: ﴿لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي: لو زال من بمكة
6965
من المؤمنين وخرجوا من بين ظهراني المشركين لقتلنا من بقي بمكة من المشركين بالسيف.
وقال الضحاك: لو تزيلوا: يعني من كان بمكة من المؤمنين المستضعفين.
والمعرَّة: المفعلة من العرِّ وهو الجَرَبْ، والمعنى فيصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة على من أطاق، أو صيام شهرين متتابعين.
" وأن " في قوله: ﴿أَن تَطَئُوهُمْ﴾ بدل من رجال أو بدل من الهاء والميم في ﴿تَطَئُوهُمْ﴾ وهو بدل الاشتمال.
قال: ﴿إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية﴾.
نزلت هذه الآية في سهيل بن عمرو وجهه المشركون إلى النبي ﷺ ليحضر
6966
كتاب الصلح فامتنع أن يكتب في الكتاب ﴿بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ﴾، وأن يكتب فيه ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله﴾، وقال: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، وامتنع هو وأصحابه من دخول النبي وأصحابه مكة.
قال الزهري: كانت حميتهم أنهم لم يقروا أن محمداً نبي الله ولم يقروا بباسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينه وبين البيت.
والعامل في قوله: " إذا جعل ": " لعذبنا " فلا يبتدأ بها، ويجوز أن يكون العامل فعلاً مضمراً معناه: اذكر إذ جعل، فتبتديء بها إن شئت.
والحمية: الأنفة والإنكار.
ثم قال: ﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين﴾ أي: أنزل عليهم الصبر والطمأنينة.
ثم قال: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ أي: وألزم الله المؤمنين قول لا إله إلا الله، وكانوا أحق بها من المشركين، وكانوا هم أهلها.
قال علي بن أبي طالب وابن عباس: كلمة التقوى لا إله إلا الله. وكذلك
6967
روي عن النبي ﷺ، وهو قول مجاهد وقتادة، والضحاك وعكرمة وعطاء وابن عمر وابن زيد.
وزاد عطاء فقال: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقال الزهري: كلمة التقوى بسم الله الرحمن الرحيم وهو قول المسور ومروان لأن المشركين منعوا علي بن أبي طالب أن يكتب في كتابه الصلح: " بسم الله الرحمن الرحيم ".
وعن مجاهد وعطاء أنها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وفي قراءة عبد الله " وكانوا أهلها وأحق [بها] ".
ثم قال: ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ أي: لا يخفى عليه شيء من جميع أحوالكم.
ثم قال: ﴿لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾.
6968
لقد صدق الله رسوله رؤياه التي أراه في منامه. أراه الله أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين لا يخافون أهل الشرك، يقصروا بعضهم رأسه، ويحلقا بعضهم.
قال مجاهد: " رآى النبي ﷺ في نومه بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحروا بدنهم بالحديبية: أين رؤيا محمد ﷺ؟ قال ابن زيد: قال النبي لأصحابه: إني رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رءوسكم ومقصرين " فلما نزل بالحديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك، وقالوا ابن رؤياه فأنزل الله ﴿لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق﴾ فأعلمهم أنهم سيدخلون من غير ذلك العام، وأن رؤيا محمد حق.
وقوله: ﴿إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾.
فحكى ما جرى في الرؤيا من قول الملك له في منامه.
وقيل: إنما جرى لفظ الاستثناء لأنه خوطب في منامه على ما أدبه الله به في قوله: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤] فخوطب في منامه، وأخبر بها يلزمه
6969
أن يقول لأصحابه كما لو كان هو المخبر بذلك لهم من عند نفسه.
وقيل /: إنما وقع الاستثناء على من يموت منهم قبل الدخول لأنهم على غير يقين من بقائهم كلهم حتى يدخلوا، ومثله قوله ﷺ: " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " فوقع الاستثناء على من قد لا يموت على دينه.
[وقيل: بل خاطبهم على ما يعقلون].
وقيل: بل خاطبهم على ما أدبه الله به وأمره به في قوله: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ الآية.
6970
وقيل: هو استثناء من آمنين، أي: لتدخلن المسجد الحرام آمنين إن شاء الله ذلك، ولا يجوز أن يكون ذلك استثناء من الله، لأن الله عالم بعواقب الأمور، وإنما يكون مثل هذا الاستثناء من المخلوقين الذين لا يعلمون عواقب الأمور، ولا يدرون بأن ذلك الشيء يكون أو لايكون، والله عالم بما يكون وبما لا يكون.
وقال بعض العلماء: إنما أتى الاستثناء في هذا لأن الله خاطب / الناس على ما يعرفه وعلى ما يجب لهم أن يقولوا.
وقيل معنى " إن شاء الله ": إن أمركم الله بالدخول.
وقال نفطويه المعنى فيه: كائن الدخول إن شاء الله ذلك، فليس فيه ضمان على الله أنه لا بد من الدخول، ولكن لما قال: ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ دل على
6971
إنفاد المشيئة، وكان الدخول لأنه أخبر أن دون المشيئة فتحاً قريباً فعلم بهذا الوعد أن المشيئة [نافذة] والدخول كائن، فيصير المعنى لتدخلن المسجد الحرام إذا جاءت المشيئة.
قال نفطويه: كانت العدة من الله للمؤمنين بالدخول سنة ست، وصدوا سنة سبع، ودخلوا سنة ثمان، وحج أبو بكر بالناس سنة تسع وفيها نادى على علي رضي الله عنهـ ببراءة، وفتحت مكة سنة عشر، وحج النبي ﷺ سنة إحدى عشرة.
والحلق للرجال والتقصير للنساء، وقد يجوز للرجال أن يقصروا. والحلق أفضل ومن أجل جواز التقصير للرجال قال: ﴿وَمُقَصِّرِينَ﴾ ولم يقل ومقصرات، فغلَّب المذكر.
وقيل: إن الاستثناء في الآية أنما وقع على من مات منهم أو قتل وقيل إنّ " إنْ " بمعنى " إذ ".
ثم قال ﴿لاَ تَخَافُونَ﴾ أي: تدخلون غير خائفين.
6972
قوله: ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾.
أي: علم الله أن بمكة رجالاً ونساءً مؤمنين، فلو دخلتموها أيها المؤمنون ذلك العام لقتلتم منهم فتلزمكم الديات ويقرعكم بذلك المشركون، فردكم عن مكة من أجل ذلك.
ثم قال: ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ أي: فجعل الله لكم من دون صدكم عن البيت فتحاً قريباً، وهو فتح خيبر فتحها النبي ﷺ وأصحابه في ذلك العام واقتسم أهل الحديبية خاصة مغانمها.
وقال مجاهد: الفتح القريب نحرهم الهدي بالحديبية، ورجعوا فافتتحوا خيبر، ثم قضوا عُمرتهم في السنة المقبلة.
وقيل المعنى: فجعل الله من دون رؤيا رسول الله ﷺ فتحاً قريباً وهو فتح خيبر.
6973
قال: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى [الدين كُلِّهِ]﴾.
يعني: محمداً ﷺ أرسله بالرشد إلى الصراط المستقيم، وبالدين القوي الحق وهو الإسلام ليظهره على الدين كله، ليبطل به الملل كلها، فلا يكون دين إلا دينه، وذلك أمر سيكون عند نزول عيسى ﷺ.
وقيل: إنه كان هذا إعلان النبي ﷺ قد قهر أهل الأديان كلها في وقته، وفي خلافة أبي بكر وعمر.
وقال ابن عباس معناه: ليظهره على أمر الدين كله.
ثم قال: ﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ أي: كفى به شهيداً على نفسه أنه سيظهرك على أمر الدين الذي بعثك به. هذا قول الحسن، وهو اختيار الطبري. ففي هذا إعلام من الله لنبيه عليه السلام أنه سيفتح مكة وغيرها من البلدان.
قال: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ أي: وأتباعه من أصحابه هم أشداء على الكفار، أي: ذوو غلظة عليهم وشدة وذوو رحمة فيما بينهم يرحم بعضهم بعضاً ويغلظون على الكفار عداوة في الله.
قال قتادة: ألقى الله في قلوبهم الرحمة لبعضهم من بعض.
ثم قال: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً﴾.
6974
أي: ترى أصحاب محمد تارة ركعاً وتارة سجداً يلتمسون بذلك من فعلهم في ركوعهم وسجودهم وغلظتهم على الكفار، ورحمة بعضهم لبعض فضلاً من الله / أن يدخلهم في رحمته ويرضى عنهم.
ثم قال: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود﴾.
قال ابن عباس معناه: أثر صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة.
قال عطية: مواضع السجود في وجوههم يوم القيامة أشد بياضاً من اللبن وهو قول مقاتل.
قال الحسن: هو بياض في وجوههم يوم القيامة، وعنه هو بياض في
6975
وجوههم، وعن ابن عباس: أن ذلك في الدنيا وهو السمت الحسن.
وقال مجاهد: أما أنه ليس الذي ترون، ولكنه سيماء الإسلام، وسمته وخشوعه وتواضعه.
وقال الحسن: هو الصفرة التي تعلو الوجه من السهر والتعب، وهو قول ابن عطية.
وقال ابن جبير وعكرمة: هو أثر التراب (وأثر الطهور).
وقال ابن وهب: أخبرني مالك أنه ما يتعلق بالجبهة من تراب الأرض.
6976
ورواه مطرف عن مالك أيضاً.
وأصل السيمي: العلامة.
ثم قال: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة﴾.
أي: هذا الذي تقدم من صفاتهم ونعتهم في التوراة.
ثم قال: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ﴾.
أي: وصف أصحاب محمد في الإنجيل ونعتهم فيه كزرع أخرج شطئه، أي: فراخه.
يقال: أَشْطَأَ الزَّرْعُ يُشْطِيءُ أَشْطاً: إِذا أَفْرَخَ.
فشبههم الله في الإنجيل بالزرع الذي أخرج فراخه، وذلك أنهم في أول
6977
دخولهم الإسلام كانوا عدداً قليلاً / كالزرع في أول ما يخرج، ثم جعلوا يتزايدون ويكثرون، كالزرع إذا أخرج فراخه فكثر وعظم بها، ونما، فيكون الأصل ثلاثين وأربعين وأكثر بالفراخ فكذلك أصحاب النبي ﷺ كانوا قليلاً ثم تزايدوا وكثروا فكانت هذه صفتهم في التوراة والإنجيل من قبل أن يخلق الله السماوات والأرض فكان مثلهم في التوراة غير مثلهم في الإنجيل، هذا قول أكثر المفسرين، وهو اختيار الطبري، وروى عن مجاهد أنه قال: المثلان منصوصان فيهم في التوراة والإنجيل.
قوله: ﴿فَآزَرَهُ﴾ أي: قواه، يعني فقوى الشطء الزرع، وذلك أن الزرع أول ما يخرج رقيق الأصل ضعيفاً، فإذا أخرج فراخه غلظ. أصله وتقوى فكذلك
6978
أصحاب النبي ﷺ كانوا قلة ضعفاء ومستضعفين، فلما كثروا وتقووا قتلوا المشركين.
ثم قال: ﴿فاستغلظ﴾ أي: فاستوى الزرع على سوقه لما غلظ وتقوى بخروج الفراخ.
والسوق جمع ساق، وسوقه: أصوله.
وعن ابن عباس أنه مثل للنبي ﷺ بعثه الله وحده كخروج الزرع مفرداً، ثم بعث الله قوماً آمنوا به فتقوى بهم كالزرع إذا أخرج فراخه فتقوى بها وغلظ. هذا معنى قوله.
وقيام معنى: ﴿فاستوى على سُوقِهِ﴾ أي: تلاحق الفراخ بالأصول فاستوى جميع ذلك، كم تلاحق من آمن من أصحاب النبي ﷺ بعضهم ببعض فاستوى جميعهم في الإيمان.
6979
قال ابن زيد: " فآزره "، فاجتمع ذلك فالتفت كالمؤمنين كانوا قليلاً ثم تزايدوا فتأيدوا.
ثم قال: ﴿يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار﴾ أي: يعجب هذا الزارع حين استغلظ واستوى على سوقه، فحسن عند زارعيه.
وقوله: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار﴾ فاللام متعلقة بمحذوف، والتقدير: فعل ذلك بهم ليغيظ بهم الكفار، والتقدير: فعل ذلك ليغيظ بمحمد وأصحابه الكفار، فالمعنى فعل ذلك بمحمد وأصحابه ليغيظ الكفار.
ثم قال: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ الآية.
أي: وعد الله الذين صدقوا محمداً وعملوا الأعمال الصالحات من أصحاب محمد أجراً عظيماً ففضلهم بذلك على غيرهم.
وقيل: معنى وعد الله الذين تثبتوا على الإيمان من أصحاب محمد أجراً عظيماً، وستراً على ذنوبهم.
وقد روى سفيان الثوري عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله:
6980
﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله﴾ إلى آخر السورة، أن ﴿الذين مَعَهُ﴾ أبو بكر ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار﴾ عمر بن الخطاب ﴿رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾: عثمان ابن عفان، ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً﴾، علي بن أبي طالب ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً﴾: طلحة والزبير ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود﴾ / عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص،
6981
﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل﴾: أبو عبيدة بن الجراح، ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ﴾ بأبي بكر الصديق، فاستغلظ بعمر، ﴿فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع﴾ بعثمان، ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار﴾ بعلي، ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أصحاب محمد ﷺ.
وقد روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " لا يجتمع حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلا في قلب مؤمن ".
وسئل: أبو هريرة عن القدر فقال: اكتف منه بآخر سورة الفتح، يريد ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ (أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار)﴾ آخر السورة، ثم قال أبو هريرة: " إن الله نعتهم قبل أن يخلفهم ".
6982
Icon