مكية، وهي أربعة وأربعون آية، ومائتان وستة عشر كلمة، وألف وإحدى وستون حرفا.
ﰡ
قرأ نافع وابن عامرٍ: «سَالَ سَائِلٌ» بغير همز.
والباقون: بالهمز، فمن همز، فهو من السؤال، وهي اللغةُ الفاشيةُ.
ثم لك في «سأل» وجهان:
أحدهما: أن يكون قد ضمن معنى «دعا» فلذلك تعدَّى بالباءِ، كما تقول: دعوتُ بكذا، والمعنى: دعا داعٍ بعذابٍ.
والثاني: أن يكون على أصله، والباء بمعنى «عن»، كقوله: [الطويل]
٤٨٥٦ - م - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ.............................
﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان: ٥٩] وقد تقدم تحقيقه.
والأول أولى لأن التجوزَ في الفعل أولى منه في الحرف لقوته.
وأما القراءةُ بالألف ففيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها بمعنى قراءة الهمزة، وإنما خففت بقلبها ألفاً، وليس بقياس تخفيف مثلها، بل قياس تخفيفها، جعلها بَيْنَ بَيْنَ، والباء على هذا الوجه كما في الوجه الذي تقدم.
قال الزمخشريُّ: «وهي لغةُ قريش، يقولون: سلت تسال، وهما يتسايلان».
قال أبو حيَّان: وينبغي أن يتثبت في قوله: «إنها لغةُ قريش» ؛ لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز، أو أصله الهمز، كقراءة من قرأ ﴿وسَلُوا﴾ [النساء: ٣٢]، إذ لا يجوز أن يكون من «سَالَ» التي يكون عينها واواً، إذ كان يكون «وسالوا الله» مثل «خافوا» فيبعد أن يجيء ذلك كلُّه على لغةِ غير قريش، وهم الذين نزل القرآنُ بلغتهم إلا يسيراً فيه لغة غيرهم، ثم جاء في كلام الزمخشري: وهما «يتسايلان» بالياء، وهو وهم من النُّساخ، إنما الصواب: يتساولان - بالواو - لأنه صرح أولاً أنه من السؤال، يعني بالواو الصريحة.
وقد حكى أبو زيد عن العرب: إنهما يتساولان.
الثالث: إنها من السَّيلان، والمعنى: «سال» واد في جهنم، يقال له: سايل، وهو قول زيد بن ثابت.
فالعين ياء، ويؤيده قراءة ابن عباس: «سال سيل».
قال الزمخشريُّ: «والسَّيل مصدر في معنى السَّائل، كالغَوْر بمعنى الغَائِر، والمعنى: اندفع عليهم وادي عذاب»، انتهى.
والظاهر الوجه الأول لثبوت ذلك لغة مشهورة، قال: [البسيط]
٤٨٥٧ - سَالَتْ هُذيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحشَةً | ضَلَّتْ هُذِيْلٌ بِمَا سَالتْ ولمْ تُصِبِ |
وتخريجها: أن الأصل: «سائل» فحذفت عينُ الكلمة، وهي الهمزة، واللام محل الإعراب، وهذا كما قيل: هذا شاكٍ في شائك السِّلاح. وقد تقدم الكلام على مادة السؤال أول سورة «البقرة» فليلتفت إليه.
و «الباء» تتعلق ب «سال» من السيلان تعلقها ب «سأل» لِمَا يزيد.
وجعل بعضهم الباءَ متعلقة بمصدر دلَّ عليه فعل السؤالِ، كأنه قيل: ما سؤالهم؟.
فقيل: سؤالهم بعذاب، كذا حكاه أبو حيَّان عن ابن الخطيب.
ولم يعترضه، وهذا عجيب، فإنَّ قوله أولاً: إنه متعلق بمصدر دل عليه فعل السؤال
وقال الزمخشريُّ: «وعن قتادة سأل سائل عن عذاب الله بمن ينزل وعلى من يقع فنزلت، و» سأل «على هذا الوجه مضمن معنى عني واهتم، كأنه قيل: اهتم مهتم بعذاب واقعٍ».
فصل في تفسير السؤال
قال القرطبيُّ: الباء يجوز أن تكون بمعنى «عن» والسؤالُ بمعنى الدعاء، أي دعا داع بالعذاب، عن ابن عباس وغيره، يقال: دعا على فلان بالويلِ ودعا عليه بالعذاب.
ويقال: دعوتُ زيداً، أي التمستُ إحضاره، والمعنى التمس ملتمسٌ عذاباً للكافرين، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامةِ، وعلى هذا فالباءُ زائدةٌ كقوله تعالى: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠]، وقوله تعالى: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة﴾ [مريم: ٢٣]، فهي تأكيد، أي: سأل سائل عذاباً واقعاً.
«لِلكَافِرينَ» أي: على الكافرين.
قيل: هو النضر بن الحارث حيثُ قال: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢]، فنزل سؤاله، وقتل يوم «بدر» صبراً هو وعقبة بن أبي معيط، لم يقتل صبراً غيرهما، قاله ابن عباس ومجاهد.
وقيل: «إنَّ السائل هنا هو الحارثُ بن النعمان الفهري، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» مَنْ كُنْتُ مَولاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ «ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح، ثم قال: يا محمدُ، أمرتنا عن الله، أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله، فقبلناه منك، وأن نصلي خمساً، ونزكي أموالنا، فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام، فقبلناه منك، وأن نحج، فقبلناه منك، ثُمَّ لم ترض بهذا، حتى فضَّلت ابن عمك علينا، أفهذا شيءٌ منك أم من الله؟.
فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» واللَّهِ الَّذي لا إِلهَ إلاَّ هُوَ، ما هُوَ إلاَّ مِنَ اللَّه «فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذابٍ أليم، فوالله ما وصل إلى ناقته، حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه، فخرج من دبره فقتله، فنزلت ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ ».
وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش، وقيل: هو نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - سأل العذاب على الكافرين.
وقيل: هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا عليهم بالعقاب، وطلب أن يوقعه بالكفار، وهو واقع بهم لا محالة، وامتد الكلام إلى قوله تعالى ﴿فاصبر صَبْراً جَمِيلاً﴾ [المعارج: ٥]، أي: لا تستعجل فإنه قريب، وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره الله بالصبر الجميلِ.
وقال قتادة: الباءُ بمعنى «عَنْ»، فكأن سائلاً سأل عن العذاب بمن وقع، أو متى يقع، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾، أي: فاسأل عنه، وقال علقمةُ: [الطويل]
٤٨٥٨ - فإن تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ................................
أي: عن النِّساء، فالمعنى: سلوني بمن وقع العذاب، ولمن يكون، فقال الله تعالى: ﴿لِّلْكَافِرِينَ﴾ وقال أبو عليّ وغيره: وإذا كان من السؤال، فأصله أن يتعدَّى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما وإذا اقتصر على أحدهما، جاز أن يتعدى إليه بحرف الجر، فيكون التقدير: سأل سائل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب.
قوله: ﴿لِّلْكَافِرِينَ﴾. فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «سأل» مضمناً معنى «دعا» كما تقدم، أي: دعا لهم بعذاب واقع.
الثاني: أن يتعلق ب «واقع» واللام للعلة، أي نازل لأجلهم.
الثالث: أن يتعلق بمحذوف، صفة ثانية ل «عذاب» أي كائن للكافرين.
الرابع: أن يكون جواباً للسائل، فيكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هو للكافرين.
الخامس: أن تكون «اللام» بمعنى «على»، أي: واقع على الكافرين.
ويؤيده قراءة أبيّ: «على الكافرين»، وعلى هذا فهي متعلقة ب «واقع» لا على الوجه الذي تقدم قبله.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بِمَ يتصل قوله: «للكافرين» ؟.
قلت: هو على القول الأول متصل ب «عذاب» صفة له أي بعذاب واقع كائن
وعلى الثاني: هو كلام مبتدأ جواب للسائل، أي: هو للكافرين انتهى.
قال أبو حيَّان: وقال الزمخشري: أو بالفعل، أي: دعا للكافرين، ثم قال: وعلى الثاني، وهو ثاني ما ذكر في توجيهه للكافرين، قال: هو كلام مبتدأ، وقع جواباً للسائل، أي: هو للكافرين، وكان قد قرر أن «سأل» في معنى «دعا» فعدي تعديته، كأنه قال: دعا داعٍ بعذاب، من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾ [الدخان: ٥٥] انتهى، فعلى ما قرره، أنه متعلق ب «دَعَا» يعني «بسأل»، فكيف يكون كلاماً مبتدأ جواباً للسائل، أي: هو للكافرين، هذا لا يصح.
قال شهاب الدين: وقد غلط أبو حيان في فهمه عن أبي القاسم قوله: وعلى الثاني إلى آخره، فمن ثم جاء التخليط الذي ذكره الزمخشريُّ، إنما عنى بالثاني قوله عن قتادة: سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع، فنزلت، و «سأل» على هذا الوجه مضمن معنى «عني واهتم»، فهذا هو الوجه الثاني المقابل للوجه الأول، وهو أن «سأل» يتضمن معنى «دَعَا»، ولا أدري كيف تخبط حتى وقع، ونسب الزمخشري إلى الغلط، وأنه أخذ قول قتادة والحسن وأفسده، والترتيب الذي رتّبه الزمخشري، في تعلق «اللام» من أحسن ما يكون صناعة ومعنى.
قال القرطبي: وقال الحسن: أنزل اللَّهُ تعالى: ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾، وقال: لمن هو؟ فقال: «للكافرين»، فاللام في «لِلكَافِريْنَ» متعلقة ب «واقع».
وقال الفرَّاءُ: التقدير: بعذابٍ للكافرين واقع، فالواقع من نعت العذاب، فاللام دخلت للعذاب لا للواقع.
أي: هذا العذاب للكافرين في الآخرة، لا يدفعه عنهم أحدٌ.
وقيل: إن اللام بمعنى «على» أي: واقع على الكافرين كما في قراءة أبَيِّ المتقدمة.
وقيل: بمعنى «عَنْ» أي: ليس له دافع عن الكافرين.
قوله: ﴿لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾.
يجوز أن يكون نعتاً آخر ل «عذاب»، وأن يكون مستأنفاً، والأول أظهر.
وأن يكون حالاً من «عَذاب» لتخصصه، إما بالعمل وإما بالصفة، وأن يكون حالاً من الضمير في «للكافرين» إن جعلناه نعتاً ل «عَذاب».
وقال أبو البقاء: ولم يمنع النفي من ذلك؛ لأن «لَيْسَ» فعل.
كأنه استشعر أن ما قبل النفي لا يعمل فيما بعده.
وأجاب: بأنَّ النفي لما كان فعلاً ساغ ذلك.
قال أبو حيَّان: والأجود أن يكون «مِنَ اللَّهِ» متعلقاً ب «وَاقع»، و ﴿لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ جملة اعتراض بين العامل ومعموله. انتهى.
وهذا إنما يأتي على البدل، بأنَّ الجملة مستأنفةٌ، لا صفة ل «عذاب»، وهو غير الظاهر كما تقدم لأخذ الكلام بعضه بحجزة بعض.
قوله: «ذي» صفة لله، ومعنى: «ذِي المَعارِج»، أي: ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم؛ لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، قاله ابن عباس وقتادة.
«فالمعارج»، مراتبُ إنعامه على الخلق.
وقيل: ذي العظمة والعلو.
وقال مجاهدٌ: هي معارج السماءِ.
وقيل: هي السموات.
قال ابن عباس: أي: ذي السموات، سمَّاها معارج الملائكةِ، لأن الملائكةَ تعرج إلى السماءِ، فوصف نفسه بذلك.
وقيل: «المعارج» الغرف، أي: أنه ذو الغرف، أي: جعل لأوليائه في الجنة غرفاً.
وقرأ عبد الله: «ذِي المعاريج» بالياء.
يقال: معرج، ومعراج، ومعارج، ومعاريج مثل مفتاح ومفاتيح.
والمعارج: الدرجات ومنه: ﴿وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ [الزخرف: ٣٣] وتقدم الكلام على المعارج في «الزخرف».
قوله: ﴿تَعْرُجُ﴾. العامة: بالتاء من فوق.
وقرأ ابن مسعود، وأصحابه، والسلمي، والكسائي: بالياء من تحت.
وأدغم أبو عمرو: الجيم في التاء.
واستضعفها بعضهم من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء.
وأجيب عن ذلك بأنها قريبة من الشين؛ لأن النقص الذي في الشين يقرِّبها من مخرج التاء، والجيم تدغم في الشين لما بينهما من التقارب، في المخرج والصفة، كما تقدم في ﴿أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ [الفتح: ٢٩] فحُمِلَ الإدغام في التاء، على الإدغام في الشين، لما بين الشين والتاء من التقارب.
وأجيب أيضاً: بأنَّ الإدغام يكون لمجرد الصفات، وإنْ لم يتقاربا في المخرج، والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشّدة.
والجملة من «تعرج» مستأنفة.
قوله: «والرُّوحُ» من باب عطف الخاص على العام، إن أريد بالروح جبريل، أو ملك آخر من جنسهم، وأخر هنا وقدم في قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً﴾ [النبأ: ٣٨] ؛ لأن المقامَ هنا يقتضي تقدم الجمع على الواحد، من حيثُ إنه مقامُ تخويفٍ، وتهويل.
فصل في تحرير معنى الآية
﴿تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ﴾، أي: تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم.
قال ابن عبَّاسِ: الروح: جبريلُ - عليه السلام - لقوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣].
وقيل: هو ملكٌ آخر، عظيمُ الخلقةِ.
وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله، كهيئة الناس وليس بالناس.
وقال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين تقبض.
قوله: «إليه»، أي: إلى المكان الذي هو محلهم، وهو في السماء؛ لأنه محلُّ برِّه وكرامته وقيل: هو كقول إبراهيم ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي﴾ [الصافات: ٩٩]، أي: إلى الموضع الذي أمرني به.
وقيل: «إليه» إلى عرشه.
قال شهاب الدين: الضمير في «إليْهِ»، الظاهر عوده على الله تعالى.
وقيل: يعود على المكان لدلالة الحال والسياق عليه.
أظهرهما: تعلقه ب «تَعْرجُ».
والثاني: أنه يتعلق ب «دافع».
وعلى هذا فالجملة من قوله: «تعرجُ الملائكةُ» معترضة، و «كَانَ مقداره» صفةٌ ل «يوم».
قال ابن الخطيب: الأكثرون على أنَّ قوله: «فِي يَوْمٍ» صلة قوله: «تَعْرُجُ»، أي: يحصل العروج في مثل هذا اليوم.
وقال مقاتل: بل هذا من صلة قوله: «بعَذابٍ واقع» [وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: سأل سائل بعذاب واقع]، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
وعلى التقدير الأول، فذلك اليوم، إما أن يكون في الآخرة، أو في الدنيا. وعلى تقدير أن يكون في الآخرة، فذلك الطول إما أن يكون واقعاً، وإما أن يكون مقدراً، فإن كان معنى الآية: إن ذلك العُروجَ يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنةٍ، وهو يوم القيامة، وهذا قول الحسن، قال: وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط؛ إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية، ولنفيت الجنة والنار عند انتهاء تلك الغاية، وهذا غير جائز، بل المراد: أن موقفهم للحساب حين يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدُّنيا بعد ذلك يستقر أهل النار في النار، نعوذ بالله منها.
فصل في الاحتجاج لهذا القول
قال القرطبي: واستدل النحاس على صحة هذا القول بما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «مَا مِنْ رجُلٍ لَمْ يُؤدِّ زكَاةَ مالِه إلاَّ جعلَ لَهُ شُجَاعاً مِنْ نَارٍ تُكْوَى بِهِ جبْهَتُهُ وظَهْرُهُ وجَنْبَاهُ يَوْمَ القِيامَةِ في يَوْمٍ كَانَ مقْدارهُ خَمْسينَ ألْفَ سَنةٍ حتَّى يقْضِيَ الله بَيْنَ النَّاسِ» وهذا يدل على أنه يوم القيامةِ.
وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا ما قدر ما بين ظهر يومنا وعصره.
وروي هذا المعنى مرفوعاً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين» ولذلك سمى نفسه ﴿سَرِيعُ الحساب﴾ [المائدة: ٤٠]، و ﴿أَسْرَعُ الحاسبين﴾ [
والمعنى: لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله، لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة.
قال البغوي: هذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل.
قال عطاء: ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا.
واعلم أنَّ هذا الطول، إنَّما يكون في حق الكافرِ، وأما في حق المؤمن فلا، لما روى أبو سعيد الخدري أنه قال: «قِيْلَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما أطولَ هذا اليوم؟ فقال:» والذي نَفْسي بِيَدهِ إنَّهُ ليَخِفُّ على المؤمنِ حتَّى إنَّهُ يكُونُ أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيهَا في الدُّنْيَا «».
وقال بعضهم: إنَّ ذلك، وإن طال، فيكون سبباً لمزيد السرورِ والراحة لأهل الجنة، ويكون سبباً لمزيد الحزنِ والغمِّ لأهل النار.
وأجيب: بأنَّ الآخرة دارُ جزاءٍ، فلا بد وأن يحصل للمثابين ثوابهم، ودارُ الثوابِ هي الجنةُ لا الموقف، فإذاً لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار.
وقيل: هذه المدة على سبيل التقدير لا على التحقيق، أي: تعرج الملائكةُ في ساعة قليلة، هذه المدة على سبيل التقدير على على التحقيق، أي: تعرج الملائكُة ساعة قليلة، لو أراد أهل الدنيا العروج إليها كان مقدار مدَّتهم خمسين ألف سنةٍ.
وعن مجاهد والحسن وعكرمة: هي مدة إقامة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنةٍ، وهو قول أبي مسلمٍ.
فإن قيل: كيف الجمعُ بين هذه، وبين قوله في سورة «السَّجدة» :﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [السجدة: ٥] وقد قال ابن عباس: هي أيام سمَّاها الله تعالى هو أعلم بها، وأنا أكره أن أقول فيها ما لا أعلم؟.
أحدها : أن يتعلق ب «سأل » مضمناً معنى «دعا » كما تقدم، أي : دعا لهم بعذاب واقع.
الثاني : أن يتعلق ب «واقع » واللام للعلة، أي نازل لأجلهم.
الثالث : أن يتعلق بمحذوف، صفة ثانية ل «عذاب » أي كائن للكافرين.
الرابع : أن يكون جواباً للسائل، فيكون خبر مبتدأ مضمر، أي : هو للكافرين.
الخامس : أن تكون «اللام » بمعنى «على »، أي : واقع على الكافرين.
ويؤيده قراءة أبيّ١ :«على الكافرين »، وعلى هذا فهي متعلقة ب «واقع » لا على الوجه الذي تقدم قبله.
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بِمَ يتصل قوله :«للكافرين » ؟.
قلت : هو على القول الأول متصل ب «عذاب » صفة له أي بعذاب واقع كائن للكافرين، أو بالفعل أي دعا للكافرين بعذاب واقع أو بواقع، أي : بعذاب نازل لأجلهم.
وعلى الثاني : هو كلام مبتدأ جواب للسائل، أي : هو للكافرين انتهى.
قال أبو حيَّان٢ : وقال الزمخشري : أو بالفعل، أي : دعا للكافرين، ثم قال : وعلى الثاني، وهو ثاني ما ذكر في توجيهه للكافرين، قال : هو كلام مبتدأ، وقع جواباً للسائل، أي : هو للكافرين، وكان قد قرر أن «سأل » في معنى «دعا » فعدي تعديته، كأنه قال : دعا داعٍ بعذاب، من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى :﴿ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ﴾[ الدخان : ٥٥ ] انتهى، فعلى ما قرره، أنه متعلق ب «دَعَا » يعني «بسأل »، فكيف يكون كلاماً مبتدأ جواباً للسائل، أي : هو للكافرين، هذا لا يصح.
قال شهاب الدين٣ : وقد غلط أبو حيان في فهمه عن أبي القاسم قوله : وعلى الثاني إلى آخره، فمن ثم جاء التخليط الذي ذكره الزمخشريُّ، إنما عنى بالثاني قوله عن قتادة : سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع، فنزلت، و «سأل » على هذا الوجه مضمن معنى «عني واهتم »، فهذا هو الوجه الثاني المقابل للوجه الأول، وهو أن «سأل » يتضمن معنى «دَعَا »، ولا أدري كيف تخبط حتى وقع، ونسب الزمخشري إلى الغلط، وأنه أخذ قول قتادة والحسن وأفسده، والترتيب الذي رتّبه الزمخشري، في تعلق «اللام » من أحسن ما يكون صناعة ومعنى.
قال القرطبي٤ : وقال الحسن : أنزل اللَّهُ تعالى :﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾، وقال : لمن هو ؟ فقال :«للكافرين »٥، فاللام في «لِلكَافِريْنَ » متعلقة ب «واقع ».
وقال الفرَّاءُ : التقدير : بعذابٍ للكافرين واقع، فالواقع من نعت العذاب، فاللام دخلت للعذاب لا للواقع.
أي : هذا العذاب للكافرين في الآخرة، لا يدفعه عنهم أحدٌ.
وقيل : إن اللام بمعنى «على » أي : واقع على الكافرين كما في قراءة أبَيِّ المتقدمة.
وقيل : بمعنى «عَنْ » أي : ليس له دافع عن الكافرين.
قوله :﴿ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴾.
يجوز أن يكون نعتاً آخر ل «عذاب »، وأن يكون مستأنفاً، والأول أظهر.
وأن يكون حالاً من «عَذاب » لتخصصه، إما بالعمل وإما بالصفة، وأن يكون حالاً من الضمير في «للكافرين » إن جعلناه نعتاً ل «عَذاب ».
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٣٢..
٣ ينظر: الدر المصون ٦/٣٧٣..
٤ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ٨/١٨٢-١٨٣..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/١٤٥) وعزاه إلى ابن المنذر..
وقال أبو البقاء : ولم يمنع النفي من ذلك ؛ لأن «لَيْسَ » فعل.
كأنه استشعر أن ما قبل النفي لا يعمل فيما بعده.
وأجاب : بأنَّ النفي لما كان فعلاً ساغ ذلك.
قال أبو حيَّان١ : والأجود أن يكون «مِنَ اللَّهِ » متعلقاً ب «وَاقع »، و ﴿ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴾ جملة اعتراض بين العامل ومعموله ". انتهى.
وهذا إنما يأتي على البدل، بأنَّ الجملة مستأنفةٌ، لا صفة ل «عذاب »، وهو غير الظاهر كما تقدم لأخذ الكلام بعضه بحجزة بعض.
قوله :«ذي » صفة لله، ومعنى :«ذِي المَعارِج »، أي : ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم ؛ لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، قاله ابن عباس وقتادة٢.
«فالمعارج »، مراتبُ إنعامه على الخلق.
وقيل : ذي العظمة والعلو.
وقال مجاهدٌ : هي معارج السماءِ٣.
وقيل : هي السماوات.
قال ابن عباس : أي : ذي السماوات، سمَّاها معارج الملائكةِ، لأن الملائكةَ تعرج إلى السماءِ، فوصف نفسه بذلك٤.
وقيل :«المعارج » الغرف، أي : أنه ذو الغرف، أي : جعل لأوليائه في الجنة غرفاً.
وقرأ عبد الله٥ :«ذِي المعاريج » بالياء.
يقال : معرج، ومعراج، ومعارج، ومعاريج مثل مفتاح ومفاتيح.
والمعارج : الدرجات ومنه :﴿ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾[ الزخرف : ٣٣ ] وتقدم الكلام على المعارج في «الزخرف ».
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/١٤٦) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/١٤٦) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ في "العظمة"..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٨٣)..
٥ ينظر: القرطبي ١٨/١٨٣..
وقرأ ابن مسعود١، وأصحابه، والسلمي، والكسائي : بالياء من تحت.
وهما كقراءتي :«فَنَادَاهُ المَلائِكَةُ ونَادَتْهُ » [ آل عمران : ٣٩ ]، «تَوَفَّاهُ وَتَوَفَّتْهُ » [ الأنعام : ٦١ ].
وأدغم أبو٢ عمرو : الجيم في التاء.
واستضعفها بعضهم من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء.
وأجيب عن ذلك بأنها قريبة من الشين ؛ لأن النقص الذي في الشين يقرِّبها من مخرج التاء، والجيم تدغم في الشين لما بينهما من التقارب، في المخرج والصفة، كما تقدم في ﴿ أَخْرَجَ شَطْئهُ ﴾[ الفتح : ٢٩ ] فحُمِلَ الإدغام في التاء، على الإدغام في الشين، لما بين الشين والتاء من التقارب.
وأجيب أيضاً : بأنَّ الإدغام يكون لمجرد الصفات، وإنْ لم يتقاربا في المخرج، والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشّدة.
والجملة من «تعرج » مستأنفة.
قوله :«والرُّوحُ » من باب عطف الخاص على العام، إن أريد بالروح جبريل، أو ملك آخر من جنسهم، وأخر هنا وقدم في قوله :﴿ يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً ﴾[ النبأ : ٣٨ ] ؛ لأن المقامَ هنا يقتضي تقدم الجمع على الواحد، من حيثُ إنه مقامُ تخويفٍ، وتهويل.
فصل في تحرير معنى الآية
﴿ تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ ﴾، أي : تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم.
قال ابن عبَّاسِ : الروح : جبريلُ - عليه السلام - لقوله تعالى :﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين ﴾ ٣.
وقيل : هو ملكٌ آخر، عظيمُ الخلقةِ.
وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله، كهيئة الناس وليس بالناس.
وقال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين تقبض.
قوله :«إليه »، أي : إلى المكان الذي هو محلهم، وهو في السماء ؛ لأنه محلُّ برِّه وكرامته وقيل : هو كقول إبراهيم ﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي ﴾[ الصافات : ٩٩ ]، أي : إلى الموضع الذي أمرني به.
وقيل :«إليه » إلى عرشه.
قال شهاب الدين٤ : الضمير في «إليْهِ »، الظاهر عوده على الله تعالى.
وقيل : يعود على المكان لدلالة الحال والسياق عليه.
قوله :«في يوم »، فيه وجهان :
أظهرهما : تعلقه ب «تَعْرجُ ».
والثاني : أنه يتعلق ب «دافع ».
وعلى هذا فالجملة من قوله :«تعرجُ الملائكةُ » معترضة، و «كَانَ مقداره » صفةٌ ل «يوم ».
قال ابن الخطيب٥ : الأكثرون على أنَّ قوله :«فِي يَوْمٍ » صلة قوله :«تَعْرُجُ »، أي : يحصل العروج في مثل هذا اليوم.
وقال مقاتل : بل هذا من صلة قوله :«بعَذابٍ واقع » [ وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير، والتقدير : سأل سائل بعذاب واقع ]٦، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
وعلى التقدير الأول، فذلك اليوم، إما أن يكون في الآخرة، أو في الدنيا. وعلى تقدير أن يكون في الآخرة، فذلك الطول إما أن يكون واقعاً، وإما أن يكون مقدراً، فإن كان معنى الآية : إن ذلك العُروجَ يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنةٍ، وهو يوم القيامة، وهذا قول الحسن، قال : وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط ؛ إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية، ولنفيت الجنة والنار عند انتهاء تلك الغاية، وهذا غير جائز، بل المراد : أن موقفهم للحساب حين يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدُّنيا بعد ذلك يستقر أهل النار في النار، نعوذ بالله منها.
فصل في الاحتجاج لهذا القول
قال القرطبي٧ : واستدل النحاس على صحة هذا القول بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«مَا مِنْ رجُلٍ لَمْ يُؤدِّ زكَاةَ مالِه إلاَّ جعلَ لَهُ شُجَاعاً مِنْ نَارٍ تُكْوَى بِهِ جبْهَتُهُ وظَهْرُهُ وجَنْبَاهُ يَوْمَ القِيامَةِ في يَوْمٍ كَانَ مقْدارهُ خَمْسينَ ألْفَ سَنةٍ حتَّى يقْضِيَ الله بَيْنَ النَّاسِ »٨ وهذا يدل على أنه يوم القيامةِ.
وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا ما قدر ما بين ظهر يومنا وعصره.
وروي هذا المعنى مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين »٩ ولذلك سمى نفسه ﴿ سَرِيعُ الحساب ﴾[ المائدة : ٤٠ ]، و ﴿ أَسْرَعُ الحاسبين ﴾[ الأنعام : ٦٢ ]، وإنما خاطبهم على قدر فهم الخلائقِ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن، وكما يرزقهم في ساعة يحاسبهم في لحظة، قال تعالى :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾[ لقمان : ٢٨ ].
والمعنى : لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله، لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة.
قال البغوي : هذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل.
قال عطاء : ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا١٠.
واعلم أنَّ هذا الطول، إنَّما يكون في حق الكافرِ، وأما في حق المؤمن فلا، لما روى أبو سعيد الخدري أنه قال :«قِيْلَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أطولَ هذا اليوم ؟ فقال :" والذي نَفْسي بِيَدهِ إنَّهُ ليَخِفُّ على المؤمنِ حتَّى إنَّهُ يكُونُ أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيهَا في الدُّنْيَا " ١١.
وقال بعضهم : إنَّ ذلك، وإن طال، فيكون سبباً لمزيد السرورِ والراحة لأهل الجنة، ويكون سبباً لمزيد الحزنِ والغمِّ لأهل النار.
وأجيب : بأنَّ الآخرة دارُ جزاءٍ، فلا بد وأن يحصل للمثابين ثوابهم، ودارُ الثوابِ هي الجنةُ لا الموقف، فإذاً لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار.
وقيل : هذه المدة على سبيل التقدير لا على التحقيق، أي : تعرج الملائكةُ في ساعة قليلة، لو أراد أهل الدنيا العروج إليها كان مقدار مدَّتهم خمسين ألف سنةٍ.
وعن مجاهد والحسن وعكرمة : هي مدة إقامة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنةٍ١٢، وهو قول أبي مسلمٍ.
فإن قيل : كيف الجمعُ بين هذه، وبين قوله في سورة «السَّجدة » :﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾[ السجدة : ٥ ] وقد قال ابن عباس : هي أيام سمَّاها الله تعالى هو أعلم بها، وأنا أكره أن أقول فيها ما لا أعلم١٣ ؟.
فالجوابُ١٤ : يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنةٍ، ومن أعلى سماءِ الدنيا إلى الأرض ألف سنةٍ ؛ لأن عرض كل سماءٍ خمسمائة، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة، فقوله :﴿ في يَوْمٍ ﴾ يريد : في يوم من أيام الدنيا، وهو مقدار ألف سنةٍ لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا، ومقدار خمسين ألف سنةٍ لو صعدوا إلى أعلى العرش.
٢ ينظر: الإدغام الكبير ص ١٢١..
٣ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٩٠) والبغوي (٤/٣٩٢)..
٤ ينظر: الدر المصون ٦/٣٧٤..
٥ الفخر الرازي ٣٠/١٠٩..
٦ سقط من أ..
٧ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٨٤..
٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٨٢)..
٩ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٩١)..
١٠ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٣٩٣)..
١١ أخرجه أحمد (٣/٧٥) وأبو يعلى (٢/٥٢٧) رقم (١٣٩٠) وابن حبان (٢٥٧٧-موارد) والطبري في "تفسيره" (١٢/٢٢٨) من حديث أبي سعيد الخدري.
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (١٠/٣٤٠) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى وإسناده حسن على ضعف في راويه.
والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤١٧) وزاد نسبته إلى البيهقي في "البعث"..
١٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤١٧)عن مجاهد وعكرمة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد..
١٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٨٤) عن ابن عباس..
١٤ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١١٠..
قوله
: ﴿فاصبر
صَبْراً جَمِيلاً﴾ قال ابن الخطيب: هذا متعلق ب «سألَ سَائلٌ» ؛ لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاءِ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتعنُّت فأمر بالصبر.
ومن قَرَأ: «سَالَ سَائِل»، وسيل فالمعنى جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك، والصَّبرُ الجميلُ هو الذي لا جزع فيه، ولا شكوى لغير الله.
وقيل: أن يكون صاحب مصيبة في القوم لا يدرى من هو.
قال ابنُ زيدٍ والكلبيُّ: هذه الآيةُ منسوخة بالأمر بالقتال.
قوله: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾.
الضميرُ في «إنَّهُمْ» لأهل «مكة»، وفي «يَرونَهُم، ونَرَاه» لليوم إن أريد به يوم القيامة.
قال القرطبيُّ: أي: نعلمه؛ لأن الرؤية إنما تتعلقُ بالموجودِ، كقولك: الشافعي يرى في هذه المسألةِ كذا.
وقال الأعمشُ: يرون البَعْثَ بعيداً؛ لأنهم لا يؤمنون به، كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة كمن يقول لمن يناظره: هذا بعيدٌ لا يكون.
وقيل: الضمير يعودُ إلى العذاب بالنار، أي: غير كائن، «ونراه قريباً» لأن ما هو آت، فهو قريب.
قوله: ﴿يَوْمَ تَكُونُ﴾، فيه أوجه:
الثاني: أنه يتعلق بمحذوف يدل عليه «واقع»، أي: يقع يوم يكون.
الثالث: أنه يتعلق بمحذوفٍ مقدر بعده، أي: يوم يكون كان وكيت وكيت.
الرابع: أنه بدل من الضمير في «نَرَاهُ» إذا كان عائداً على يومِ القيامةِ.
الخامس: أنَّه بدل عن «فِي يَوْمٍ»، فيمن علقه ب «واقع». قاله الزمخشري.
وإنَّما قال: فيمن علقه «بِواقعٍ» لأنه إذا علق ب «تَعْرُجُ» في أحد الوجهين استحال أن يبدل عنه هذا لأن عروج الملائكة ليس هو في هذا اليوم الذي تكون السماء كالمُهْلِ، والجبال كالعِهْنِ، ويشغل كل حميمٍ عن حميمه.
قال أبو حيان: «ولا يجوز هذا» يعني: إبداله من «في يوم» قال: لأن «فِي يَوْمٍ» وإن كان في موضع نصبٍ لا يبدل منه منصوب؛ لأن مثل هذا ليس بزائد، ولا محكوم له بحكم الزائد، ك «رُّبَّ» وإنما يجوز مراعاة الموضع في حرف الجر الزائد؛ كقوله: [الكامل]
٤٨٥٩ - أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيدٍ | إلاَّ يَداً ليْسَتْ لَهَا عَضُدُ |
قال شهاب الدين: قد تقدم أن قراءة ﴿وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] من هذا الباب فمن نصب الأرجل فليكن هذا مثله.
ثم قال أبو حيَّان: فإن قلت: الحركة في «يوم» تكون حركة بناء لا حركة إعرابٍ، فهو مجرور مثل «فِي يَوْمٍ».
قلتُ: لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين؛ لأنه أضيف إلى مُعرب، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين فيتمشى كلامُ الزمخشريِّ على مذهبهم إن كان استحضره وقصده انتهى.
قال شهاب الدين: إن كان استحضره فيه تحامل على الرجل، وأي كبير أمر في هذا حتى لا ييستحضر مثل هذا. وتقدم الكلام على المهل في «الدخان».
قيل: «العِهْنُ» هو الصُّوف مطلقاً، وقيل: يقدر كونه أحمر وهو أضعف الصوف، ومنه قول زهير: [الطويل]
٤٨٦٠ - كَأنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ | يَزَالُ بِه حَبُّ الفَنَا لمْ يُحَطَّمِ |
وقيل: يقيد كونه مصبوغاً ألواناً، وهذا أليق بالتشبيه؛ لأن الجبال متلونة، كما قال تعالى: ﴿جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ﴾ [فاطر: ٢٧].
والمعنى: أنها تلين بعد شدة، وتتفرق بعد الاجتماع.
وقيل: أول ما تتفرق الجبال تصير رمالاً ثم عِهْناً منفوشاً، ثم هباءً مَنْثُوراً.
قوله: ﴿وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً﴾.
قرأ العامة: «يَسْألُ» مبنياً للفاعل، والمفعول الثاني محذوف، فقيل: تقديره: لا يسأله نصره، ولا شفاعته لعلمه أنَّ ذلك مفقود.
وقيل: لا يسأله شيئاً من حمل أو زادٍ.
وقيل: «حَمِيْماً» منصوب على إسقاط الخافض، أي: عن حميم، لشغله عنه. قاله قتادة. لقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٧].
وقرأ أبو جعفر، وأبو حيوة، وشيبة، وابن كثير في رواية قال القرطبيُّ: والبزي عن عاصم: «يُسْألُ» مبنياً للمفعول.
فقيل: «حميماً» مفعول ثان لا على إسقاط حرف، والمعنى: لا يسأل إحضاره.
وقيل: بل هو على إسقاط «عَنْ»، أي: عن حميم، ولا ذو قرابة عن قرابته، بل كل إنسان يُسأل عن عمله، نظيره: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: ٣٨].
قوله: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ عدي بالتضعيف إلى ثان، وقام الأول مقام الفاعل، وفي محل هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في موضع الصفة ل «حَمِيم».
والثاني: أنها مستأنفة.
قلت: هو كلام مستأنف، كأنه لمَّا قال: ﴿لاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً﴾ قيل: لعله لا يبصره، فقال: «يُبَصَّرُونهُم»، ثم قال: ويجوز أن يكون «يبصرُونهُم» صفة، أي: حميماً مبصرين معرفين إياهم انتهى.
وإنما اجتمع الضميران في «يبصرُونهُم» وهما للحميمين حملاً على معنى العمومِ؛ لأنهما نكرتان في سياق النفي.
وقرأ قتادةُ: «يُبصِرُونهُمْ» مبنياً للفاعل، من «أبصَرَ»، أي: يبصر المؤمن الكافر في النار.
فصل في قوله تعالى يبصرونهم
«يُبصَّرُونهُم»، أي: يرونهم، يقال: بصرت به أبصر، قال تعالى: ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ﴾ [طه: ٩٦]، ويقال: «بصَّرَني زيدٌ بكذا» فإذا حذفت الجار قلت: بصَّرني زيدٌ، فإذا بنيت الفعل للمفعول، وقد حذفت الجارَّ، قلت: بصرت زيداً، فهذا معنى: «يُبَصَّرونهُمْ» أي: يعرف الحميمُ الحميمَ حين يعرفه، وهو مع ذلك، لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه، فيبصر الرجلُ أباه، وأخاه، وقرابته، وعشيرته، فلا يسألهُ، ولا يكلمه؛ لاشتغالهم بأنفسهم.
وقال ابن عبَّاس: يتعارفون ساعة، ثم لا يتعارفون بعد ذلك.
وقال ابن عباس أيضاً: يُبْصِرُ بعضهم بعضاً، فيتعارفون ثم يفرُّ بعضهم من بعضٍ، فالضمير في «يُبَصَّرونهُم» على هذا للكافر، والهاءُ والميم للأقرباء.
وقال مجاهدُ: المعنى: يُبَصِّرُ الله المؤمنين الكفَّار في يوم القيامةِ، فالضمير في «يُبَصَّرونهم» للمؤمنين، والهاءُ والميمُ للكفار.
وقال ابنُ زيدٍ: المعنى: يُبصِّرُ الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدُّنيا، فالضميرُ في «يُبَصَّرونَهُم» للتابعين، والهاءُ والميم للمتبوعين.
وقيل: إنه يُبصِرُ المظلومُ ظالمه، والمقتولُ قاتله.
وقيل: إن الضمير في «يُبصَّرونَهم» يرجع إلى الملائكة، أي: يعرفون أحوال
وأبو حيوة: بتنوين «عذابٍ»، ونصب «يَومئذٍ»، على الظرف.
قال ابنُ الخطيب: وانتصابه بعذاب؛ لأن فيه معنى تعذيب.
وقال أبو حيَّان هنا: «والجمهور يكسرها - أي: ميم يومئذ - والأعرج وأبو حيوة: يفتحها» انتهى.
وقد تقدم أنَّ الفتح قراءةُ نافع، والكسائي.
قوله: ﴿وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ﴾.
قال ثعلب: الفصيلةُ: الآباء الأدنون.
وقال أبو عبيدة: الفخذ.
وقال مجاهد وابن زيدٍ: عشيرته الأقربون.
وقد تقدم ذكر ذلك عند قوله: «شعوباً وقبائل».
وقال المُبرِّدُ: الفصيلةُ: القطعةُ من أعضاء الجسدِ، وهي دون القبيلةِ، وسُمِّيت عترةُ الرجلِ فصيلته تشبيهاً بالبعض منه.
قال ابنُ الخطيبِ: فصيلة الرجل: أقرباؤه الأقربون الذين فصل عنهم، وينتمي إليهم؛ لأن المراد من الفصيلة المفصولة؛ لأن الولد يكون مفصولاً من الأبوين، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَاطِمَةُ قِطعَةٌ منِّي» فلما كان مفصولاً منهما، كانا أيضاً مفصولين منه، فسُمِّيا فصيلة لهذا السببِ.
وكان يقالُ للعباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: فصيلةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن العمَّ قائم مقام الأب.
وقوله: «التي تؤويه»، أي: ينصرونه.
وقال مالك: أمُّه التي تربيه، حكاه الماورديُّ، ورواه عنه أشهبُ.
قال شهاب الدين: ولم يبدله السوسي عن أبي عمرو، قالوا: لأنه يؤدي إلى لفظ هو أثقل منه، والإبدال للتخفيف.
و «ثُمَّ نُنجِيْهِ» عطف على «يَفْتَدِي» فهو داخلٌ في خبر «لَوْ» وتقدم الكلامُ فيها، هل هي مصدريةٌ أم شرطيةٌ في الماضي، ومفعول «يَوَدُّ» محذوف، أي: يودُّ النَّجاة.
وقيل: إنها هنا بمعنى «أن» وليس بشيء، وفاعل «ينجيه» إما ضميرُ الافتداء الدالُّ عليه «يَفْتَدي»، أو ضمير من تقدم ذكرهم، وهو قوله: ﴿وَمَن فِي الأرض﴾.
و ﴿مَن فِي الأرض﴾ مجرور عطفاً على «بَنِيْهِ» وما بعده، أي: يودُّ الافتداء بمن في الأرض أيضاً و «حميماً» إما حال، وإما تأكيد، ووحد باعتبار اللفظ.
فصل فيما يترتب على معنى «فصيلته» من أحكام
إذا وقف على فصيلته، أو أوصى لها فمن ادعى العموم حمله على عشيرته، ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء الأدنى فالأدنى، والأول أكثر في النطقِ، قاله القرطبي و «تؤويه» تضمه وتؤمنهُ من خوف إن كان به، ﴿وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً﴾، أي: ويود لو فدي بهم لافتدى «ثُمَّ يُنجِيْهِ» أي: ويخلصه ذلك الفداءُ، فلا بُدَّ من هذا الإضمار، كقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: ١٢١] أي: وإن أكلهُ لفسقٌ.
وقيل: «يَودُّ المُجرمُ» يقتضي جواباً بالفاء كقوله: ﴿وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: ٩].
والجوابُ في هذه الآية «ثُمَّ يُنجِيهِ» لأنَّها من حروف العطف، أي يودُّ المجرم لو يفتدي، وينجيهِ الافتداءُ.
الضميرُ في «إنَّهُمْ » لأهل «مكة »، وفي «يَرونَهُم، ونَرَاه » لليوم إن أريد به يوم القيامة.
قال القرطبيُّ١ : أي : نعلمه ؛ لأن الرؤية إنما تتعلقُ بالموجودِ، كقولك : الشافعي يرى في هذه المسألةِ كذا.
وقال الأعمشُ : يرون البَعْثَ بعيداً ؛ لأنهم لا يؤمنون به، كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة كمن يقول لمن يناظره : هذا بعيدٌ لا يكون.
وقيل : الضمير يعودُ إلى العذاب بالنار، أي : غير كائن، «ونراه قريباً » لأن ما هو آت، فهو قريب.
أحدها : أنه متعلق ب «قريباً » وهذا إذا كان الضمير في «نراه » للعذاب ظاهراً.
الثاني : أنه يتعلق بمحذوف يدل عليه «واقع »، أي : يقع يوم يكون.
الثالث : أنه يتعلق بمحذوفٍ مقدر بعده، أي : يوم يكون كان وكيت وكيت.
الرابع : أنه بدل من الضمير في «نَرَاهُ » إذا كان عائداً على يومِ القيامةِ.
الخامس : أنَّه بدل عن «فِي يَوْمٍ »، فيمن علقه ب «واقع ». قاله الزمخشري.
وإنَّما قال : فيمن علقه «بِواقعٍ » لأنه إذا علق ب «تَعْرُجُ » في أحد الوجهين استحال أن يبدل عنه هذا لأن عروج الملائكة ليس هو في هذا اليوم الذي تكون السماء كالمُهْلِ، والجبال كالعِهْنِ، ويشغل كل حميمٍ عن حميمه.
قال أبو حيان١ :«ولا يجوز هذا » يعني : إبداله من «في يوم » قال : لأن «فِي يَوْمٍ » وإن كان في موضع نصبٍ لا يبدل منه منصوب ؛ لأن مثل هذا ليس بزائد، ولا محكوم له بحكم الزائد، ك «رُّبَّ » وإنما يجوز مراعاة الموضع في حرف الجر الزائد ؛ كقوله :[ الكامل ]
٤٨٥٩ - أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيدٍ***إلاَّ يَداً ليْسَتْ لَهَا عَضُدُ٢
ولذلك لا يجوز «مررتُ بزيد الخياط » على موضع «بزيد » ولا «مررتُ بزيد وعمراً »، ولا «غضب على زيد وجعفراً » ولا «مررت بزيد وأخاك » على مراعاة الموضع.
قال شهاب الدين٣ : قد تقدم أن قراءة ﴿ وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ [ المائدة : ٦ ] من هذا الباب فمن نصب الأرجل فليكن هذا مثله.
ثم قال أبو حيَّان٤ : فإن قلت : الحركة في «يوم » تكون حركة بناء لا حركة إعرابٍ، فهو مجرور مثل «فِي يَوْمٍ ».
قلتُ : لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين ؛ لأنه أضيف إلى مُعرب، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين فيتمشى كلامُ الزمخشريِّ على مذهبهم إن كان استحضره وقصده انتهى.
قال شهاب الدين٥ : إن كان استحضره فيه تحامل على الرجل، وأي كبير أمر في هذا حتى لا ييستحضر مثل هذا. وتقدم الكلام على المهل في «الدخان ».
٢ نسب البيت إلى أوس بن حجر، وإلى طرفة بن العبد.
ينظر ديوان أوس ص(٢١)، وديوان طرفة ص(٤٥)، والكتاب ٢/١٣٧، وشرح أبيات سيبويه ٢/٦٨، وشرح المفصل ٢/٩٠، والمقتضب ٤/٤٢١، وأمالي ابن الحاجب ص٤٤١، والبحر المحيط ٨/٣٢٨، والدر المصون ٦/٣٧٥..
٣ الدر المصون ٦/٣٧٥..
٤ البحر المحيط ٨/٣٣٤..
٥ الدر المصون ٦/٣٧٥..
قيل :«العِهْنُ » هو الصُّوف مطلقاً، وقيل : يقدر كونه أحمر وهو أضعف الصوف، ومنه قول زهير :[ الطويل ]
٤٨٦٠ - كَأنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ*** يَزَالُ بِه حَبُّ الفَنَا لمْ يُحَطَّمِ١
الفتات : القطع، والعِهْنُ : الصُّوف الأحمر، واحده عهنة.
وقيل : يقيد كونه مصبوغاً ألواناً، وهذا أليق بالتشبيه ؛ لأن الجبال متلونة، كما قال تعالى :﴿ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ ﴾[ فاطر : ٢٧ ].
والمعنى : أنها تلين بعد شدة، وتتفرق بعد الاجتماع.
وقيل : أول ما تتفرق الجبال تصير رمالاً ثم عِهْناً منفوشاً، ثم هباءً مَنْثُوراً.
قرأ العامة :«يَسْألُ » مبنياً للفاعل، والمفعول الثاني محذوف، فقيل : تقديره : لا يسأله نصره، ولا شفاعته لعلمه أنَّ ذلك مفقود.
وقيل : لا يسأله شيئاً من حمل أو زادٍ.
وقيل :«حَمِيْماً » منصوب على إسقاط الخافض، أي : عن حميم، لشغله عنه. قاله قتادة. لقوله تعالى :﴿ لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٧ ].
وقرأ أبو١ جعفر، وأبو حيوة، وشيبة، وابن كثير في رواية قال القرطبيُّ٢ : والبزي عن عاصم :«يُسْألُ » مبنياً للمفعول.
فقيل :«حميماً » مفعول ثان لا على إسقاط حرف، والمعنى : لا يسأل إحضاره.
وقيل : بل هو على إسقاط «عَنْ »، أي : عن حميم، ولا ذو قرابة عن قرابته، بل كل إنسان يُسأل عن عمله، نظيره :﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾[ المدثر : ٣٨ ].
٢ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٦٥..
أحدهما : أنها في موضع الصفة ل «حَمِيم ».
والثاني : أنها مستأنفة.
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما موقع «يُبصَّرُونهُم » ؟
قلت : هو كلام مستأنف، كأنه لمَّا قال :﴿ لاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ﴾ قيل : لعله لا يبصره، فقال :«يُبَصَّرُونهُم »، ثم قال : ويجوز أن يكون «يبصرُونهُم » صفة، أي : حميماً مبصرين معرفين إياهم انتهى.
وإنما اجتمع الضميران في «يبصرُونهُم » وهما للحميمين حملاً على معنى العمومِ ؛ لأنهما نكرتان في سياق النفي١.
وقرأ قتادةُ :«يُبصِرُونهُمْ » مبنياً للفاعل، من «أبصَرَ »، أي : يبصر المؤمن الكافر في النار.
فصل في قوله تعالى يبصرونهم
«يُبصَّرُونهُم »، أي : يرونهم، يقال : بصرت به أبصر، قال تعالى :﴿ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ ﴾[ طه : ٩٦ ]، ويقال :«بصَّرَني زيدٌ بكذا » فإذا حذفت الجار قلت : بصَّرني زيدٌ، فإذا بنيت الفعل للمفعول، وقد حذفت الجارَّ، قلت : بصرت زيداً، فهذا معنى :«يُبَصَّرونهُمْ » أي : يعرف الحميمُ الحميمَ حين يعرفه، وهو مع ذلك، لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه، فيبصر الرجلُ أباه، وأخاه، وقرابته، وعشيرته، فلا يسألهُ، ولا يكلمه ؛ لاشتغالهم بأنفسهم.
وقال ابن عبَّاس : يتعارفون ساعة، ثم لا يتعارفون بعد ذلك٢.
وقال ابن عباس أيضاً : يُبْصِرُ بعضهم بعضاً٣، فيتعارفون ثم يفرُّ بعضهم من بعضٍ، فالضمير في «يُبَصَّرونهُم » على هذا للكافر، والهاءُ والميم للأقرباء.
وقال مجاهدُ : المعنى : يُبَصِّرُ الله المؤمنين الكفَّار في يوم القيامةِ، فالضمير في «يُبَصَّرونهم » للمؤمنين، والهاءُ والميمُ للكفار٤.
وقال ابنُ زيدٍ : المعنى : يُبصِّرُ الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدُّنيا، فالضميرُ في «يُبَصَّرونَهُم » للتابعين، والهاءُ والميم للمتبوعين٥.
وقيل : إنه يُبصِرُ المظلومُ ظالمه، والمقتولُ قاتله.
وقيل : إن الضمير في «يُبصَّرونَهم » يرجع إلى الملائكة، أي : يعرفون أحوال الناس، فيسوقون كلَّ فريقٍ إلى ما يليق بهم، وتمَّ الكلامُ عند قوله :«يُبصَّرُونَهُم ». قوله :«يَوَدُّ المُجرِمُ »، أي : يتمنَّى الكافرُ ﴿ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ ﴾، أي : من عذاب جهنم، وقيل : المرادُ بالمجرم كلُّ مذنب، وتقدم الكلام على قراءتي «يَومئذٍ » فتحاً وجرًّا في «هود » والعامة : على إضافة «عَذابِ » ل «يَومِئذٍ ».
وأبو حيوة٦ : بتنوين «عذابٍ »، ونصب «يَومئذٍ »، على الظرف.
قال ابنُ الخطيب٧ : وانتصابه بعذاب ؛ لأن فيه معنى تعذيب.
وقال أبو حيَّان٨ هنا :«والجمهور يكسرها - أي : ميم يومئذ - والأعرج وأبو حيوة : يفتحها » انتهى.
وقد تقدم أنَّ الفتح قراءةُ نافع، والكسائي.
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٢٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/١٤٨)..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٨٤)..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٣٠) وذكره الماوردي (٦/٩٢)..
٥ ينظر المصدر السابق..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٦٧، والدر المصون ٦/٣٧٦..
٧ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١١٢..
٨ البحر المحيط ٨/٣٣٤..
قال ثعلب : الفصيلةُ : الآباء الأدنون.
وقال أبو عبيدة : الفخذ.
وقال مجاهد وابن زيدٍ : عشيرته الأقربون١.
وقد تقدم ذكر ذلك عند قوله :«شعوباً وقبائل »٢.
وقال المُبرِّدُ : الفصيلةُ : القطعةُ من أعضاء الجسدِ، وهي دون القبيلةِ، وسُمِّيت عترةُ الرجلِ فصيلته تشبيهاً بالبعض منه.
قال ابنُ الخطيبِ٣ : فصيلة الرجل : أقرباؤه الأقربون الذين فصل عنهم، وينتمي إليهم ؛ لأن المراد من الفصيلة المفصولة ؛ لأن الولد يكون مفصولاً من الأبوين، قال عليه الصلاة والسلام :«فَاطِمَةُ قِطعَةٌ منِّي »٤ فلما كان مفصولاً منهما، كانا أيضاً مفصولين منه، فسُمِّيا فصيلة لهذا السببِ.
وكان يقالُ للعباس رضي الله عنه : فصيلةُ النبي صلى الله عليه وسلم لأن العمَّ قائم مقام الأب.
وقوله :«التي تؤويه »، أي : ينصرونه.
وقال مالك : أمُّه التي تربيه، حكاه الماورديُّ، ورواه عنه أشهبُ.
قال شهاب الدين : ولم يبدله السوسي عن أبي عمرو، قالوا : لأنه يؤدي إلى لفظ هو أثقل منه، والإبدال للتخفيف.
وقرأ الزهريُّ :«تؤويهُ٥، وتُنجِيهُ » بضم هاء الكناية، على الأصل.
و «ثُمَّ نُنجِيْهِ » عطف على «يَفْتَدِي » فهو داخلٌ في خبر «لَوْ » وتقدم الكلامُ فيها، هل هي مصدريةٌ أم شرطيةٌ في الماضي، ومفعول «يَوَدُّ » محذوف، أي : يودُّ النَّجاة.
وقيل : إنها هنا بمعنى «أن » وليس بشيء، وفاعل «ينجيه » إما ضميرُ الافتداء الدالُّ عليه «يَفْتَدي »، أو ضمير من تقدم ذكرهم، وهو قوله :﴿ وَمَن فِي الأرض ﴾.
٢ آية ١٣ من سورة الحجرات..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١١٢..
٤ أخرجه البخاري (٧/١٣١-١٣٢) كتاب فضائل الصحابة: باب مناقب فاطمة (٣٧٦٧) والبيهقي (٧/٦٤) من حديث المسور بن مخرمة..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٦٧، والبحر المحيط ٨/٣٢٦، والدر المصون ٦/٣٧٦..
فصل فيما يترتب على معنى «فصيلته » من أحكام
إذا وقف على فصيلته، أو أوصى لها فمن ادعى العموم حمله على عشيرته، ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء الأدنى فالأدنى، والأول أكثر في النطقِ، قاله القرطبي١ و «تؤويه » تضمه وتؤمنهُ من خوف إن كان به، ﴿ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ﴾، أي : ويود لو فدي بهم لافتدى «ثُمَّ يُنجِيْهِ » أي : ويخلصه ذلك الفداءُ، فلا بُدَّ من هذا الإضمار، كقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾[ الأنعام : ١٢١ ] أي : وإن أكلهُ لفسقٌ.
وقيل :«يَودُّ المُجرمُ » يقتضي جواباً بالفاء كقوله :﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾.
والجوابُ في هذه الآية «ثُمَّ يُنجِيهِ » لأنَّها من حروف العطف، أي يودُّ المجرم لو يفتدي، وينجيهِ الافتداءُ.
قال القرطبيُّ: «وإنما تكون بمعنى» حقًّا «، وبمعنى» لا «وهي هنا تحتمل الأمرين، فإذا كانت بمعنى» حقًّا «فإن تمام الكلام» ينجيه «وإذا كانت بمعنى» لا «كان تمامُ الكلام عليها. إذ ليس ينجيه من عذاب الله إلا الافتداءُ».
قوله: ﴿إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً﴾ في الضَّمير ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ضميرُ النارِ، وإن لم يجر لها ذكرٌ لدلالة لفظ عذابٍ عليها.
والثاني: أنه ضميرُ القصةِ.
الثالث: أنه ضميرٌ مبهمٌ يترجم عنه الخبرُ، قاله الزمخشريُّ. وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾ [الأنعام: ٢٩].
أحدها: أن يكون «لَظَى» خبر «إن» أي إن النار لظى، و «نزاعة للشوى» خبر ثان، أو خبر مبتدأ مضمر، أي هي نزاعة، أو تكون «لَظَى» بدلاً من الضمير المنصوب و «نزَّاعةً» خبر «إنَّ».
وعلى الثاني: تكون «لَظَى نزَّاعةً» جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبراً ل «إنَّ»، مفسرة لضمير القصةِ، وكذا على الوجه الثالثِ.
ويجوز أن تكون «نزَّاعةً» صفة ل «لَظَى» إذا لم نجعلها علماً، بل بمعنى اللهبِ، وإنما أنِّثَ النعتُ، فقيل: «نزَّاعةً» لأن اللهب بمعنى النارِ، قاله الزمخشريُّ.
وفيه نظرٌ؛ لأن «لَظَى» ممنوعةٌ من الصرف اتفاقاً.
قال أبو حيان بعد حكايته الثالث عن الزمخشري: «ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر، وليس هذا من المواضع التي يُفسِّر فيها المفرد الضمير، ولولا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصةِ لحملت كلامه عليه».
قال شهاب الدين: متى جعله ضميراً مبهماً، لزم أن يكون مفسراً بمفردٍ، وهو إما «لَظَى» على أن تكون «نزَّاعةً» خبر مبتدأ مضمر، وإما «نزَّاعةٌ» على أن تكون «لَظَى» بدلاً من الضمير وهذا أقربُ، ولا يجوز أن تكون «لَظَى، نزَّاعةٌ» مبتدأ وخبر، والجملة خبر ل «إنَّ» على أن يكون الضميرُ مبهماً، لئلاَّ يتحد القولان، أعني هذا القول، وقول: إنَّها ضميرُ القصةِ ولم يُعهد ضميرٌ مفسرٌ بجملة إلا ضمير الشأنِ والقصةِ.
وقرأ العامة: «نزَّاعةٌ» بالرفع.
وقرأ حفص، وأبو حيوة والزَّعفرانِيُّ، واليَزيديُّ، وابنُ مقسم: «نزَّاعةً» بالنصب. وفيها وجهان:
أحدهما: أن ينتصب على الحال، واعترض عليه أبو علي الفارسي، وقال: حمله على الحال بعيدٌ، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال.
قال القرطبيُّ: «ويجوز أن يكون حالاً على أنه حالٌ للمكذبين بخبرها».
وفي صاحبها أوجه:
أحدها: أنه الضمير المستكنُّ في «لَظَى» ؛ وإن كانت علماً فهي جاريةٌ مجرى المشتقات ك «الحارث والعباس»، وذلك لأنها بمعنى التلظِّي، وإذا عمل العلم الصريح
٤٨٦١ - أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَان... ضمنه بمعنى أنا المشهور في بعض الأحيان.
الثاني: أنَّه فاعل «تَدعُو» وقدمت حاله عليه، أي: تدعو حال كونها نزَّاعةً.
ويجوز أن تكون هذه الحالُ مؤكدةً، لأنَّ «لَظَى» هذا شأنها، وهو معروف من أمرها، وأن تكون مبنيةً؛ لأنه أمرٌ توقيفيّ.
الثالث: أنه محذوف هو والعامل تقديره: تتلظَّى نزاعة، ودل عليه «لَظَى».
الثاني من الوجهين الأولين: أنها منصوبة على الاختصاص، وعبَّر عنه الزمخشريُّ بالتهويل. كما عبَّر عن وجه رفعها على خبر ابتداء مضمر، والتقدير: أعني نزاعةٌ وأخصُّها.
وقد منع المبردُ نصب «نزَّاعة»، قال: لأن الحال إنما يكون فيما يجوز أن يكون وألاّ يكون و «لَظَى» لا تكون إلا نزَّاعةً، قاله عنه مكِّيٌّ.
وردَّ عليه بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً﴾ [البقرة: ٩١]، ﴿وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً﴾ [الأنعام: ١٢٦] قال: فالحق لا يكون إلا مصدقاً، وصراط ربِّك لا يكونُ إلاَّ مستقيماً.
قال شهاب الدين: المُبرِّدُ بني الأمر على الحال المبنيةِ، وليس ذلك بلازم؛ إذ قد وردت الحال مؤكدة كما أورده مكيٌّ، وإن كان خلاف الأصلِ، واللظى في الأصل: اللهب، ونقل علماً لجهنم، ولذلك منع من الصرف.
وقيل: هو اسم للدَّركة الثانية من النارِ، والشَّوى: الأطراف جمع شواة، ك «نوى، ونواة» ؛ قال الشاعر: [الوافر]
٤٨٦٢ - إذَا نَظرَتْ عَرفْتَ النَّحْرَ مِنْهَا... وعَيْنَيْهَا ولمْ تَعْرفْ شَواهَا
يعني: أطرافها.
وقيل: الشَّوى: الأعضاء التي ليست بمقتل، ومنه: رماه فأشواه، أي لم يُصِبْ مقتله، وشوى الفرس: قوائمه، لأنه يقال: عَبْلُ الشَّوى.
وقيل: الشَّوى: جمع شواة وهي جلدة الرأس؛ وأنشد الأصمعي: [مجزوء الكامل]
٤٨٦٣ - قَالتْ قُتَيْلَةُ: مَا لَهُ... قَدْ جُلِّلتْ شَيْباً شَواتُه
فصل في معنى الآية
قال ثابت البناني والحسن: «نزَّاعةً للشَّوى» : أي لمكارم وجهه. وعن الحسن أيضاً: إنه الهام.
وقال أبو العالية: لمحاسن وجهه.
وقال قتادة: لمكارم خلقته وأطرافه.
وقال الضحاك: تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئاً.
وقال الكسائي: هي المفاصل.
وقيل: هي القوائم والجلود.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
٤٨٦٤ - سَلِيمُ الشَّظَى، عَبْلُ الشَّوى، شَنِجُ النَّسَا | لَهُ حَجَباتٌ مُشرفاتٌ على الفَالِ |
يجوز أن يكون خبراً ل «إنَّ» أو خبراً لمبتدأ محذوف، أو حال من «لَظَى» أو من «نزَّاعةً» على القراءتين فيها؛ لأنها تتحملُ ضميراً.
فصل في المراد بالآية
المعنى: تدعُو «لَظَى» من أدبر في الدنيا عن الطَّاعة لله «وتولَّى» عن الإيمان ودعاؤها أن تقول: يا مشرك إليَّ يا كافر إليَّ.
وقال ابن عباس: تدعُو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح: إليَّ يا كافر، إليَّ يا منافق، ثم تلتقطهم كما تلتقط الطَّير الحبَّ.
وقال ثعلبٌ: «تَدعُو»، أي: تهلك، تقول العربُ: دعاك الله، أي: أهلكك اللَّهُ.
وقال الخليلُ: إنَّه ليس كالدُّعاء «تعالوا» ولكن دعوتها إياهم تمكنها منهم، ومن تعذيبهم.
وقيل: الدَّاعي: خزنة جهنَّم أضيف دعاؤهم إليها.
ومثله قول الشاعر: [الكامل]
٤٨٦٥ - ولقَدْ هَبَطْنَا الوادِيِيْنِ فَوادِياً | يَدْعُو الأنيسَ بِهِ الغضِيضُ الأبْكَمُ |
قال القرطبيُّ: «والقولُ الأولُ هو الحقيقةُ لظاهر القرآنِ، والأخبار الصحيحة».
قال القشيريُّ: ودعا لَظَى بخلقِ الحياةِ فيها حين تدعُو، وخوارقُ العادةِ غداً كثيرة.
قوله: ﴿وَجَمَعَ فأوعى﴾. أي: جمع المال فجعله في وعاءٍ، ومنع منه حق الله تعالى، فكان جموعاً منوعاً.
قال ابن الخطيب: «جَمَعَ» إشارة إلى حبّ الدنيا، والحِرْص عليها، «وأوْعَى» إشارة إلى الأمل، ولا شكَّ أنَّ مجامع آفات الدين ليست إلاَّ هذه.
وقيل: «جَمَعَ» المعاصي «فأوْعَى» أي: أكثر منها حتى أثقلتهُ، وأصرَّ عليها، ولم يَتُبْ منها.
وعلى الثاني : تكون «لَظَى نزَّاعةً» جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبراً ل «إنَّ»، مفسرة لضمير القصةِ، وكذا على الوجه الثالثِ.
ويجوز أن تكون «نزَّاعةً» صفة ل «لَظَى» إذا لم نجعلها علماً، بل بمعنى اللهبِ، وإنما أنِّثَ النعتُ، فقيل :«نزَّاعةً» لأن اللهب بمعنى النارِ، قاله الزمخشريُّ.
وفيه نظرٌ ؛ لأن «لَظَى» ممنوعةٌ من الصرف اتفاقاً.
قال أبو حيان١ بعد حكايته الثالث عن الزمخشري :«ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر، وليس هذا من المواضع التي يُفسِّر فيها المفرد الضمير، ولولا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصةِ لحملت كلامه عليه».
قال شهاب الدين٢ : متى جعله ضميراً مبهماً، لزم أن يكون مفسراً بمفردٍ، وهو إما «لَظَى» على أن تكون «نزَّاعةً» خبر مبتدأ مضمر، وإما «نزَّاعةٌ» على أن تكون «لَظَى» بدلاً من الضمير وهذا أقربُ، ولا يجوز أن تكون «لَظَى، نزَّاعةٌ» مبتدأ وخبر، والجملة خبر ل «إنَّ» على أن يكون الضميرُ مبهماً، لئلاَّ يتحد القولان، أعني هذا القول، وقول : إنَّها ضميرُ القصةِ ولم يُعهد ضميرٌ مفسرٌ بجملة إلا ضمير الشأنِ والقصةِ.
وقرأ العامة :«نزَّاعةٌ » بالرفع.
وقرأ حفص، وأبو حيوة والزَّعفرانِيُّ، واليَزيديُّ، وابنُ مقسم :«نزَّاعةً » بالنصب٣. وفيها وجهان :
أحدهما : أن ينتصب على الحال، واعترض عليه أبو علي الفارسي، وقال : حمله على الحال بعيدٌ، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال.
قال القرطبيُّ٤ :«ويجوز أن يكون حالاً على أنه حالٌ للمكذبين بخبرها ».
وفي صاحبها أوجه :
أحدها : أنه الضمير المستكنُّ في «لَظَى » ؛ وإن كانت علماً فهي جاريةٌ مجرى المشتقات ك «الحارث والعباس »، وذلك لأنها بمعنى التلظِّي، وإذا عمل العلم الصريح والكنية في الظروف، فلأن يعمل العلم الجاري مجرى المشتقات في الأحوال أولى، ومن مجيء ذلك قوله :[ السريع أو الرجز ]
٤٨٦١ - أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَان٥ ***. . .
ضمنه بمعنى أنا المشهور في بعض الأحيان.
الثاني : أنَّه فاعل «تَدعُو » وقدمت حاله عليه، أي : تدعو حال كونها نزَّاعةً.
ويجوز أن تكون هذه الحالُ مؤكدةً، لأنَّ «لَظَى » هذا شأنها، وهو معروف من أمرها، وأن تكون مبنيةً ؛ لأنه أمرٌ توقيفيّ.
الثالث : أنه محذوف هو والعامل تقديره : تتلظَّى نزاعة، ودل عليه «لَظَى ».
الثاني من الوجهين الأولين : أنها منصوبة على الاختصاص، وعبَّر عنه الزمخشريُّ بالتهويل. كما عبَّر عن وجه رفعها على خبر ابتداء مضمر، والتقدير : أعني نزاعةٌ وأخصُّها.
وقد منع المبردُ نصب «نزَّاعة »، قال : لأن الحال إنما يكون فيما يجوز أن يكون وألاّ يكون و «لَظَى » لا تكون إلا نزَّاعةً، قاله عنه مكِّيٌّ.
وردَّ عليه بقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً ﴾[ البقرة : ٩١ ]، ﴿ وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ﴾[ الأنعام : ١٢٦ ] قال : فالحق لا يكون إلا مصدقاً، وصراط ربِّك لا يكونُ إلاَّ مستقيماً.
قال شهاب الدين٦ : المُبرِّدُ بني الأمر على الحال المبنيةِ، وليس ذلك بلازم ؛ إذ قد وردت الحال مؤكدة كما أورده مكيٌّ، وإن كان خلاف الأصلِ، واللظى في الأصل : اللهب، ونقل علماً لجهنم، ولذلك منع من الصرف.
وقيل : هو اسم للدَّركة الثانية من النارِ، والشَّوى : الأطراف جمع شواة، ك «نوى، ونواة » ؛ قال الشاعر :[ الوافر ]
٤٨٦٢ - إذَا نَظرَتْ عَرفْتَ النَّحْرَ مِنْهَا***وعَيْنَيْهَا ولمْ تَعْرفْ شَواهَا٧
يعني : أطرافها.
وقيل : الشَّوى : الأعضاء التي ليست بمقتل، ومنه : رماه فأشواه، أي لم يُصِبْ مقتله، وشوى الفرس : قوائمه، لأنه يقال : عَبْلُ الشَّوى.
وقيل : الشَّوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس ؛ وأنشد الأصمعي :[ مجزوء الكامل ]
٤٨٦٣ - قَالتْ قُتَيْلَةُ : مَا لَهُ*** قَدْ جُلِّلتْ شَيْباً شَواتُه٨
وقيل : هو جلد الإنسان، والشَّوى أيضاً : رُذال المال، والشيء اليسير.
فصل في معنى الآية
قال ثابت البناني والحسن :«نزَّاعةً للشَّوى » : أي لمكارم وجهه٩. وعن الحسن أيضاً : إنه الهام١٠.
وقال أبو العالية : لمحاسن وجهه١١.
وقال قتادة : لمكارم خلقته وأطرافه١٢.
وقال الضحاك : تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئاً١٣.
وقال الكسائي : هي المفاصل.
وقيل : هي القوائم والجلود.
قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٤٨٦٤ - سَلِيمُ الشَّظَى، عَبْلُ الشَّوى، شَنِجُ النَّسَا***لَهُ حَجَباتٌ مُشرفاتٌ على الفَالِ١٤
قوله :﴿ تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ ﴾.
يجوز أن يكون خبراً ل «إنَّ» أو خبراً لمبتدأ محذوف، أو حال من «لَظَى» أو من «نزَّاعةً» على القراءتين فيها ؛ لأنها تتحملُ ضميراً.
فصل في المراد بالآية
المعنى : تدعُو «لَظَى» من أدبر في الدنيا عن الطَّاعة لله «وتولَّى» عن الإيمان ودعاؤها أن تقول : يا مشرك إليَّ يا كافر إليَّ.
وقال ابن عباس : تدعُو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح : إليَّ يا كافر، إليَّ يا منافق، ثم تلتقطهم كما تلتقط الطَّير الحبَّ.
٤ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٨٦..
٥ تقدم..
٦ ينظر الدر المصون ٦/٣٧٧..
٧ ينظر القرطبي ١٨/١٨٧..
٨ ينظر القرطبي ١٨/١٨٦، والبحر ٨/٣٢٥، والدر المصون ٦/٣٧٧..
٩ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤١٩) عن ثابت وعزاه إلى ابن المنذر وذكره القرطبي (١٨/١٨٧) عن ثابت والحسن..
١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٣٢)..
١١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٣٩٤) والقرطبي (١٨/١٨٧)..
١٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/١٤٦) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر..
١٣ ينظر تفسير الماوردي (٦/٩٣) والبغوي (٤/٣٩٤) والقرطبي (١٨/١٦٧)..
١٤ ينظر: ديوانه (٣٦)، ولسان العرب (شظي) والقرطبي ١٨/١٨٧..
يجوز أن يكون خبراً ل «إنَّ» أو خبراً لمبتدأ محذوف، أو حال من «لَظَى» أو من «نزَّاعةً» على القراءتين فيها ؛ لأنها تتحملُ ضميراً.
فصل في المراد بالآية
المعنى : تدعُو «لَظَى» من أدبر في الدنيا عن الطَّاعة لله «وتولَّى» عن الإيمان ودعاؤها أن تقول : يا مشرك إليَّ يا كافر إليَّ.
وقال ابن عباس : تدعُو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح : إليَّ يا كافر، إليَّ يا منافق، ثم تلتقطهم كما تلتقط الطَّير الحبَّ.
وقال ثعلبٌ :«تَدعُو »، أي : تهلك، تقول العربُ : دعاك الله، أي : أهلكك اللَّهُ.
وقال الخليلُ : إنَّه ليس كالدُّعاء «تعالوا » ولكن دعوتها إياهم تمكنها منهم، ومن تعذيبهم.
وقيل : الدَّاعي : خزنة جهنَّم أضيف دعاؤهم إليها.
وقيل : هو ضرب مثل، أي : أنها تدعوهم بلسان الحال، أي : إنَّ مصير من أدبر، وتولى إليها، فكأنَّها الدَّاعية لهم.
ومثله قول الشاعر :[ الكامل ]
٤٨٦٥ - ولقَدْ هَبَطْنَا الوادِيِيْنِ فَوادِياً*** يَدْعُو الأنيسَ بِهِ الغضِيضُ الأبْكَمُ١
الغضيضُ الأبكمُ : الذباب، وهو لا يدعو، وإنَّما طنينه نبَّه عليه فدعا له.
قال القرطبيُّ٢ :«والقولُ الأولُ هو الحقيقةُ لظاهر القرآنِ، والأخبار الصحيحة ».
قال القشيريُّ : ودعا لَظَى بخلقِ الحياةِ فيها حين تدعُو، وخوارقُ العادةِ غداً كثيرة.
٢ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٨٧..
قال ابن الخطيب١ :«جَمَعَ » إشارة إلى حبّ الدنيا، والحِرْص عليها، «وأوْعَى » إشارة إلى الأمل، ولا شكَّ أنَّ مجامع آفات الدين ليست إلاَّ هذه.
وقيل :«جَمَعَ » المعاصي «فأوْعَى » أي : أكثر منها حتى أثقلتهُ، وأصرَّ عليها، ولم يَتُبْ منها.
قال الضحاك: المرادُ بالإنسان هنا الكافر.
وقيل: عام لأنه استثنى منه المصلين، فدلَّ على أن المراد به الجنس، فهو كقوله: ﴿إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ﴾ [العصر: ٢، ٣]. و «هَلُوعاً» حال مقدرة.
والهلع مُفسَّر بما بعده، وهو قوله «إذَا، وإذَا».
فقلت: قد فسَّره اللَّهُ، ولا يكون أبينَ من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خيرٌ بخل به ومنعه. انتهى.
وأصله في اللغة على ما قال أبو عبيد: أشدّ الحرص وأسوأ الجزع، وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة وغيرهما.
وقد هَلِع - بالكسر - يهلع هلعاً وهلاعاً فهو هلع وهالع وهلوع، على التكثير.
وقيل: هو الجزع والاضطرابُ السريع عند مسِّ المكروه، والمنع السَّريعُ عند مسِّ الخير من قولهم: «ناقةٌ هلوَاع»، أي: سريعة السير، قال المفسرون: معناه: أنه لا يصبر في خير ولا شر، حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي.
روى السدِّي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: الهِلوَاع، الحريصُ على ما لا يحل له.
وقال عكرمة: هو الضَّجور.
وقال الضحاك: هو الذي لا يشبع.
والمَنُوع: هو الذي إذا أصاب حق المال منع منه حق الله تعالى.
وقال ابن كيسان: خلق اللَّهُ الإنسان يحبّ ما يسرُّه، ويرضيه، ويهربُ مما يكرهه، ثم تعبّده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكرهُ.
وقال أبو عبيدة: الهِلواعُ الذي إذا مسَّهُ الخيرُ لم يشكر، وإذا مسَّهُ الضُّرُّ لم يَصْبِرْ.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «شَرُّ مَا أعْطِي العَبْدُ شُحُّ هَالِعٌ، وجُبْنٌ خَالِعٌ».
والعرب تقول: ناقةٌ هلواعة، وهلواع إذا كانت سريعة السَّير خفيفة؛ قال: [الكامل]
٤٨٦٦ - صَكَّاءُ ذِعلِبةٌ إذَا استَدْبَرْتَهَا | حَرَجٌ إذَا اسْتقَبلْتَهَا هِلواعُ |
فصل في إعراب الآية
«جزُوْعاً، ومَنُوعاً» فيهما ثلاثةٌ أوجهٍ:
أحدها: أنهما منصوبان على الحال من الضمير في «هَلُوعاً»، وهو العاملُ فيهما، والتقدير: هَلُوعاً حال كونه جَزُوعاً، وقت مسِّ الشَّرِّ، ومنوعاً وقت مس الخير، والظَّرفان معمولان لهاتين الحالتين.
وعبَّر أبو البقاء عن هذا الوجه بعبارة أخرى فقال: «جَزُوعاً» حال أخرى، والعاملُ فيها «هَلُوعاً».
فقوله: «أخْرَى» يوهم أنها حالٌ ثانية وليست متداخلة لولا قوله: والعامل فيها هلوعاً.
والثاني: أن يكونا خبرين ل «كان»، أو «صار» مضمرة، أي: إذا مسَّه الشَّرُّ كان، أو صار جَزُوعاً، وإذا مسَّه الخيرُ كان أو صار منوعاً، قاله مكيٌّ.
وعلى هذا ف «إذا» شرطية، وعلى الأول ظرف محض، العامل فيه ما بعده كما تقدم.
الثالث: أنَّهما نعتٌ ل «هَلُوعاً»، قاله مكيٌّ، إلاَّ أنَّه قال: وفيه بعد؛ لأنك تنوي به التقديم بعد «إذا» انتهى.
وهذ الاستبعادُ ليس بشيء، فإنَّه غايةُ ما فيه تقديمُ الظرف على عامله.
وإنَّما المحذورُ تقديمه معمول النعت على المنعوت.
فصل في كلام القاضي
قال القاضي: قوله تعالى ﴿إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً﴾ نظير قوله: ﴿خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: ٣٧]، وليس المرادُ أنَّه مخلوقٌ على هذه الصفة؛ لأن الله - تعالى - ذمَّه عليها، والله - تعالى - لا يُذمُّ فعله، ولأنه استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك الخصلةِ المذمومةِ، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى، لما قدروا على تركها.
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّ الهلع لفظ واقع على أمرين:
أحدهما: الحالةُ النفسانيةُ التي لأجلها يقدم الإنسانُ على إظهار الجزع والفزع.
والثاني: تلك الأفعالُ الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالةِ النفسانيةِ،
وأما الحالةُ النفسانيةُ التي هي الهلع في الحقيقة، فهي مخلوقةٌ على سبيل الاضطرار.
فصل في المراد بالشر والخير في الآية
قوله: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً﴾.
قيل: المرادُ بالخيرِ والشر: الغِنَى والفقرُ، أو الصحةُ والمرض، والمعنى: أنَّه إذا صار فقيراً أو مريضاً أخذ في الجزعِ والشكايةِ، وإذا صار غنياً، أو صحيحاً أخذ في منعِ المعروف، وشحَّ بمالِه.
فإن قيل: حاصلُ هذا الكلام أنَّه نُفُورٌ عن المضار لطلب الراحة، وهذا هو اللائقُ بالعقل، فلم ذمَّهُ الله عليه.
فالجوابُ: إنَّما ذمَّهُ اللَّهُ عليه لقصور نظرهِ على الأمورِ العاجلةِ، والواجبُ عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حالٍ.
قوله: ﴿إِلاَّ المصلين﴾.
قال النخعيُّ: المرادُ ب «المصلين» : الذين يؤدونَ الصلاة المكتوبة.
وقال ابن مسعودٍ: هم الذين يصلونها لوقتها، فأمَّا تركها فكفرٌ.
وقيل: هم الصحابة وقيل: هم المؤمنون عامّةً.
قوله: ﴿الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ﴾ أي: على مواقيتها.
وقال عقبة بن عامر: الذين إذا صلُّوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً.
و «الدائم» الساكن، ومنه: «نهى عن البول في الماء الدائم»، أي: الساكن.
وقال ابن جريج والحسن: هم الذين يكثرون فعل التَّطوع منها.
فإن قيل: كيف قال: ﴿على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ﴾ وقال في موضع آخر: ﴿على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: ٩].
قوله: ﴿والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ﴾.
قال قتادة وابن سيرين: يريد الزكاة المفروضة.
وقال مجاهد: سوى الزكاة، وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: صلة الرَّحمِ وحمل الكل.
والأول أصح؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم، والمعلوم هو المقدر، وسوى الزكاة ليس بمعلوم إنما هو قدرُ الحاجةِ، وذلك يقل ويكثرُ.
وقال ابنُ عباسٍ: من أدَّى زكاة مالهِ فلا جناح عليه أن لا يتصدق، وأيضاً فالله - تعالى - استثناهُ ممن ذمَّه، فدلَّ على أنَّ الذي لا يُعْطِي هذا الحقَّ يكونُ مذموماً، ولا حقَّ على هذه الصفةِ إلا الزكاة.
وقوله: ﴿لِّلسَّآئِلِ والمحروم﴾. تقدَّم في الذَّاريات.
قوله: ﴿والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين﴾ [المعارج: ٢٦]، أي: بيوم الجزاء، وهو يوم القيامة، أي: يؤمنون بالبعث، والنشور.
﴿والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾، أي: خائفون، والإشفاق: الخوف إما من تركِ واجبٍ، وإما من فعلِ محظورٍ، ثم أكَّد ذلك الخوف بقوله:
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾.
قال ابن عباسٍ: لمن أشرك أو كذَّب أنبياءه.
وقيل: لا يأمنه أحدٌ، بل الواجبُ على كل أحد أن يخافه ويشفق منه.
﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون﴾ تقدَّم تفسيرهُ في سورة «المؤمنون» [المؤمنين: ٥، ٦، ٧].
وقرىء: «لأمَانتِهِم» على التوحيد، وهي قراءةُ ابن كثير وابن محيصن.
ف «الأمانة» اسم جنسٍ تدخل فيها أماناتُ الدينِ، فإنَّ الشرائعَ أماناتٌ ائتمنَ اللَّهُ عليها عباده، ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع، وقد مضى ذلك.
قوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ﴾.
قرأ حفص: «بِشَهادَاتِهِمْ» جمعاً، اعتباراً بتعدد الأنواع، والباقون: بالإفراد، أو المرادُ الجنس.
قال الواحديُّ: والإفرادُ أولى؛ لأنه مصدرٌ، فيفرد كما تفرد المصادرُ، وإن أضيف إلى الجمع ك ﴿لَصَوْتُ الحمير﴾ [لقمان: ١٩] ومن جمع ذهب إلى اختلافِ الشَّهاداتِ.
قال أكثرُ المفسرينَ: يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد يقومون بها عند الحُكَّام، ولا يكتمونها.
وقال ابن عبَّاس: بشهادتهم: أن الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
قوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾.
قال قتادةُ: على وضوئها وركوعها وسجودها، فالدوام خلاف المحافظة فدوامهم عليها محافظتهم على أدائهِا لا يخلُّون بها، ولا يشتغلون عنها بشيءٍ من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يُراعُو إسباغَ الوضوءِ لها، ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها، وآدابها، ويحفظونها من الإحباط باقتراف المآثمِ، فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات، والمحافظة على أحوالها، ذكره القرطبيُّ.
ثم قال: ﴿أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾، أي: أكرمهم الله فيها، بأنواع الكرامات.
فصل في المراد بالشر والخير في الآية
قوله :﴿ إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً ﴾.
قيل : المرادُ بالخيرِ والشر : الغِنَى والفقرُ، أو الصحةُ والمرض، والمعنى : أنَّه إذا صار فقيراً أو مريضاً أخذ في الجزعِ والشكايةِ، وإذا صار غنياً، أو صحيحاً أخذ في منعِ المعروف، وشحَّ بمالِه.
فإن قيل : حاصلُ هذا الكلام أنَّه نُفُورٌ عن المضار لطلب الراحة، وهذا هو اللائقُ بالعقل، فلم ذمَّهُ الله عليه.
فالجوابُ : إنَّما ذمَّهُ اللَّهُ عليه لقصور نظرهِ على الأمورِ العاجلةِ، والواجبُ عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حالٍ.
قوله :﴿ إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً ﴾.
قيل : المرادُ بالخيرِ والشر : الغِنَى والفقرُ، أو الصحةُ والمرض، والمعنى : أنَّه إذا صار فقيراً أو مريضاً أخذ في الجزعِ والشكايةِ، وإذا صار غنياً، أو صحيحاً أخذ في منعِ المعروف، وشحَّ بمالِه.
فإن قيل : حاصلُ هذا الكلام أنَّه نُفُورٌ عن المضار لطلب الراحة، وهذا هو اللائقُ بالعقل، فلم ذمَّهُ الله عليه.
فالجوابُ : إنَّما ذمَّهُ اللَّهُ عليه لقصور نظرهِ على الأمورِ العاجلةِ، والواجبُ عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حالٍ.
قال النخعيُّ : المرادُ ب «المصلين » : الذين يؤدونَ الصلاة المكتوبة١.
وقال ابن مسعودٍ : هم الذين يصلونها لوقتها، فأمَّا تركها فكفرٌ٢.
وقيل : هم الصحابة وقيل : هم المؤمنون عامّةً.
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٢٤٠) وعزاه إلى ابن أبي شيبة..
وقال عقبة بن عامر : الذين إذا صلُّوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً١.
و «الدائم » الساكن، ومنه :«نهى عن البول في الماء الدائم »، أي : الساكن.
وقال ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التَّطوع منها٢.
فإن قيل : كيف قال :﴿ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ وقال في موضع آخر :﴿ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٩ ].
قال ابن الخطيب٣ : دوامُهم عليها ألا يتركوها في وقتٍ من الأوقاتِ، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها، حتى يأتي بها على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجدِ الشريفةِ والاجتهاد في تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة، وألاّ يلتفت يميناً ولا شمالاً، وأن يكون حاضر القلب فاهماً للأذكار، مطلعاً على حكم الصَّلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلواتِ.
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ ينظر الفخر الرازي ٣٠/١١٤..
قال قتادة وابن سيرين : يريد الزكاة المفروضة١.
وقال مجاهد٢ : سوى الزكاة، وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : صلة الرَّحمِ وحمل الكل٣.
والأول أصح ؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم، والمعلوم هو المقدر، وسوى الزكاة ليس بمعلوم إنما هو قدرُ الحاجةِ، وذلك يقل ويكثرُ.
وقال ابنُ عباسٍ : من أدَّى زكاة مالهِ فلا جناح عليه أن لا يتصدق٤، وأيضاً فالله - تعالى - استثناهُ ممن ذمَّه، فدلَّ على أنَّ الذي لا يُعْطِي هذا الحقَّ يكونُ مذموماً، ولا حقَّ على هذه الصفةِ إلا الزكاة.
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ذكره الرازي في "تفسيره" ٣٠/١١٥..
قال ابن عباسٍ : لمن أشرك أو كذَّب أنبياءه١.
وقيل : لا يأمنه أحدٌ، بل الواجبُ على كل أحد أن يخافه ويشفق منه.
وقرئ١ :«لأمَانتِهِم » على التوحيد، وهي قراءةُ ابن كثير وابن محيصن.
ف «الأمانة » اسم جنسٍ تدخل فيها أماناتُ الدينِ، فإنَّ الشرائعَ أماناتٌ ائتمنَ اللَّهُ عليها عباده، ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع، وقد مضى ذلك.
قرأ حفص١ :«بِشَهادَاتِهِمْ » جمعاً، اعتباراً بتعدد الأنواع، والباقون : بالإفراد، أو المرادُ الجنس.
قال الواحديُّ : والإفرادُ أولى ؛ لأنه مصدرٌ، فيفرد كما تفرد المصادرُ، وإن أضيف إلى الجمع ك ﴿ لَصَوْتُ الحمير ﴾[ لقمان : ١٩ ] ومن جمع ذهب إلى اختلافِ الشَّهاداتِ.
قال أكثرُ المفسرينَ : يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد يقومون بها عند الحُكَّام، ولا يكتمونها.
وقال ابن عبَّاس : بشهادتهم : أن الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله٢.
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٨٩)..
قال قتادةُ : على وضوئها وركوعها وسجودها، فالدوام خلاف المحافظة فدوامهم عليها محافظتهم على أدائهِا لا يخلُّون بها١، ولا يشتغلون عنها بشيءٍ من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يُراعُوا إسباغَ الوضوءِ لها، ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها، وآدابها، ويحفظونها من الإحباط باقتراف المآثمِ، فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات، والمحافظة على أحوالها، ذكره القرطبيُّ٢.
٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٨٩..
روي أنَّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستمعون كلامه، ويستهزئون به
وقال أبو مسلمٍ: ظاهر الآية يدل على أنهم هم المنافقون، فهم الذين كانوا عنده، وإسراعهم المذكور هو الإسراعُ في الكفر، لقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ [آل عمران: ١٧٦].
و «الإهْطَاعُ» : الإسراعُ.
قال الأخفش: «مُهْطعيْنَ»، أي: مُسرِعيْنَ، قال: [الوافر]
٤٨٦٧ - بِمكَّةَ أهْلُهَا ولقَدْ أرَاهُمْ | إليْهِ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ |
وقيل: ما بالهم يسرعون في التكذيب لك.
وقيل: ما بالُ الذين كفروا يسرعون إلى السَّماع منك ليعيبوكَ ويستهزئوا بك.
وقال عطيةُ: «مُهْطِعيْنَ» : مُعْرضِيْنَ.
وقال الكلبيُّ: ناظرين إليك تعجُّباً.
وقال قتادةُ: مادّين أعناقهم مديمي النظر إليك، وذلك من نظر العدو، وهو منصوبٌ على الحال.
قال القرطبيُّ: نزلت في جميع المنافقين المستهزئين، كانوا يحضرونه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ولا يؤمنون به، و «قبلك»، أي: نحوك.
قوله: ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ﴾.
أي: عن يمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشماله حلقاً حلقاً وجماعات.
قوله: «عِزيْنَ»، حالٌ من «الَّذين كَفرُوا».
وقيل: حال من الضمير في «مُهْطعِينَ» فيكونُ حالاً متداخلة، و «عَن اليَميْنِ»، يجوز أن يتعلق ب «عزين» ؛ لأنَّه بمعنى متفرقين. قاله أبو البقاء.
وأن يتعلق ب «مُهْطِعيْنَ» أي: مسرعين عن هاتين الجهتين، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال، أي: كائنين عن اليمين. قاله أبو البقاء.
و «عَزِيْنَ» جمع عزة، والعِزَة: الجماعة. قال مكيٌّ.
قال مكيٌّ: «وإنما جمع بالواو والنون؛ لأنه مؤنث لا يعقل؛ ليكون ذلك عوضاً مما حذفَ منه».
قال شهاب الدين: قوله: لا يعقل سَهْو، لأن الاعتبار بالمدلولِ، ومدلوله - بلا شك - عقلاء. واختلفوا في لام «عِزَة» على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّها «واو» من: «عزوته أعزوه»، أي: نسبته، وذلك أنَّ المنسوبَ مضمومٌ إلى المنسوب إليه، كما أنَّ كلَّ جماعةٍ مضموم بعضها إلى بعض.
الثاني: أنَّها «ياء»، إذ يقال «عَزيتُه» - بالياء - أعزيه بمعنى عزوته، فعلى هذا في لامها لغتانِ.
الثالث: أنَّها هاءٌ، وتجمع تكسيراً على «عِزَهٍ» نحو كسرة وكِسَر، واستغني بهذا التكسير عن جمعها بالألف والتاء، فلم يقولوا: «عزات» كما لم يقولوا في «شفة وأمة: شفَات ولا أمات» استغناء ب «شِفَاه وإماء».
وقد كثر ورودُه مجموعاً ب «الواو» والنون؛ قال الراعي: [الكامل]
٤٨٦٨ - أخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إنَّ عَشِيرَتِي | أمْسَى سَرَاتُهُم عِزينَ فُلُولاَ |
٤٨٦٩ - ونَحْنُ وجنْدَلٌ بَاغٍ تَركْنَا | كَتَائِبَ جَنْدلٍ شتَّى عِزينَا |
٤٨٧٠ - وقِرْنٍ قَدْ تَركْتُ لِذِي وليٍّ | عليْهِ الطَّيْرُ كالعُصَبِ العِزينِ |
٤٨٧١ - تَرانَا عِنْدَهُ واللِّيلُ دَاجٍ | عَلى أبْوَابِهِ حِلقاً عِزينَا |
٤٨٧٢ - فَلَمَّا أن أتَيْنَ على أضَاخٍ | تَركْنَ حَصاهُ أشْتَاتاً عِزينَا |
وقال الأصمعيُّ: العِزُونَ: الأصنافُ، يقال: في الدَّار عزون، أي: أصناف.
وفي «الصِّحاح» :«العِزَةُ» الفرقة من الناس.
وقيل: العِزَة: الجماعةُ اليسيرةُ كالثلاثة والأربعة.
وقال الراغبُ: «وقيل: هو من قولهم: عَزَا عزاء فهو عز إذا صبر، وتعزَّى: تصبَّر، فكأنَّها اسم للجماعة التي يتأسَّى بعضها ببعض».
قال القرطبيُّ: ويقال: عِزُونَ، وعُزُون - بالضم - ولم يقولوا: عزات، كما قالوا: ثبات، قيل: كان المستهزئون خمسة أرهُطٍ.
وقال الأزهريُّ: وأصلها من قولهم: عَزَا فلانٌ نفسه إلى بني فلانٍ يعزوها عزواً إذا انتمى إليهم، والاسم: «العَزْوَة»، كلُّ جماعةٍ اعتزوها إلى آخر واحد.
قوله: ﴿أَن يُدْخَلَ﴾.
العامة: على بنائه للمفعول.
وزيد بن علي، والحسن، وابن يعمر، وأبو رجاء، وعاصم في رواية، قال القرطبي: وطلحة بن مصرف، والأعرج على بنائه للفاعل.
فصل في تعلق الآية بما بعدها
لما قال المستهزئون: إن دخل هؤلاء الجنَّة كما يقولُ محمدٌ فلندخلنَّها قبلهم، أجابهم الله - تعالى - بقوله: ﴿كَلاَّ﴾ لا يدخلونها، ثم ابتدأ فقال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ﴾ أي: أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نُطفةٍ، ثم من علقة، ثم كما خلق سائر جنسهم، فليس لهم فضلٌ يستوجبون به الجنة، وإنما يستوجب بالإيمان، والعمل الصالح، ورحمة الله تعالى.
وقال قتادة في هذه الآيةِ: إنَّما خلقت يا ابن آدم من قذرٍ فاتَّقِ اللَّهَ.
وروي أنَّ مطرف بن عبد الله بن الشِّخيرِ، رأى المهلَّب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خَزّ وجُبة خَزّ، فقال له: يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله؟.
فقال له: أتعرفني، قال: نعم، أوّلك نطفةٌ مذرةٌ، وآخرك جيفةٌ قذرةٌ، وأنت تحمل العذرةَ، فمضى المهلَّب وترك مشيته.
قال ابن الخطيب: ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً:
أحدها: لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث، فكأنه قيل لهم: كلا إنكم منكرون للبعث فمن أين تطمعون بدخولِ الجنَّة.
وثانيها: أنَّ المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين - كما تقدّم - فقال تعالى: إنَّ هؤلاء المستهزئين مخلوقون مما خلقوا، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار؟.
وثالثها: أنَّهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة، ولم يتصفوا بالإيمانِ، والمعرفةِ، فكيف يليق بالحكمة إدخالهم الجنة؟.
وقيل: معنى قوله: ﴿خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ﴾، أي: مراحل ما يعلمون وهو الأمر والنَّهي والثوابُ والعقابُ.
كقول الأعشى: [المتقارب]
٤٨٧٣ - أأزْمَعْتَ من آلِ لَيْلَى ابْتِكَارا | وشَطَّتْ على ذِي هَوَى أنْ تُزَارَا |
أي : عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقاً حلقاً وجماعات.
قوله :«عِزيْنَ »، حالٌ من «الَّذين كَفرُوا ».
وقيل : حال من الضمير في «مُهْطعِينَ » فيكونُ حالاً متداخلة، و «عَن اليَميْنِ »، يجوز أن يتعلق ب «عزين » ؛ لأنَّه بمعنى متفرقين. قاله أبو البقاء.
وأن يتعلق ب «مُهْطِعيْنَ » أي : مسرعين عن هاتين الجهتين، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال، أي : كائنين عن اليمين. قاله أبو البقاء.
و «عَزِيْنَ » جمع عزة، والعِزَة : الجماعة. قال مكيٌّ.
قال مكيٌّ :«وإنما جمع بالواو والنون ؛ لأنه مؤنث لا يعقل ؛ ليكون ذلك عوضاً مما حذفَ منه ».
قيل : إن أصله : عزهة، كما أنَّ أصل سنة : سنهة، ثم حذفت الهاء، انتهى.
قال شهاب الدين١ : قوله : لا يعقل سَهْو، لأن الاعتبار بالمدلولِ، ومدلوله - بلا شك - عقلاء. واختلفوا في لام «عِزَة » على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنَّها «واو » من :«عزوته أعزوه »، أي : نسبته، وذلك أنَّ المنسوبَ مضمومٌ إلى المنسوب إليه، كما أنَّ كلَّ جماعةٍ مضموم بعضها إلى بعض.
الثاني : أنَّها «ياء »، إذ يقال «عَزيتُه » - بالياء - أعزيه بمعنى عزوته، فعلى هذا في لامها لغتانِ.
الثالث : أنَّها هاءٌ، وتجمع تكسيراً على «عِزَهٍ » نحو كسرة وكِسَر، واستغني بهذا التكسير عن جمعها بالألف والتاء، فلم يقولوا :«عزات » كما لم يقولوا في «شفة وأمة : شفَات ولا أمات » استغناء ب «شِفَاه وإماء ».
وقد كثر ورودُه مجموعاً ب «الواو » والنون ؛ قال الراعي :[ الكامل ]
٤٨٦٨ - أخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إنَّ عَشِيرَتِي***أمْسَى سَرَاتُهُم عِزينَ فُلُولاَ٢
وقال الكميت :[ الوافر ]
٤٨٦٩ - ونَحْنُ وجنْدَلٌ بَاغٍ تَركْنَا*** كَتَائِبَ جَنْدلٍ شتَّى عِزينَا٣
وقال عنترةُ :[ الوافر ]
٤٨٧٠ - وقِرْنٍ قَدْ تَركْتُ لِذِي وليٍّ***عليْهِ الطَّيْرُ كالعُصَبِ العِزينِ٤
وقال آخر :[ الوافر ]
٤٨٧١ - تَرانَا عِنْدَهُ واللِّيلُ دَاجٍ***عَلى أبْوَابِهِ حِلقاً عِزينَا٥
وقال الشاعرُ :[ الوافر ]
٤٨٧٢ - فَلَمَّا أن أتَيْنَ على أضَاخٍ*** تَركْنَ حَصاهُ أشْتَاتاً عِزينَا٦
والعزة لغةً : الجماعة في تفرقة، قاله أبو عبيدة.
ومنه حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم «أنه خرج إلى أصحابه فرآهم حلقاً، فقال :" مَا لِي أراكُمْ عِزيْنَ، ألا تصفُّونَ كما تُصَفُّ المَلائِكةُ عِندَ ربِّهَا "، قالوا : وكيف تصف الملائكةُ ؟ قال :" يتمون الصف الأول فيتراصون في الصف " ٧.
وقال الأصمعيُّ : العِزُونَ : الأصنافُ، يقال : في الدَّار عزون، أي : أصناف.
وفي «الصِّحاح »٨ :«العِزَةُ » الفرقة من الناس.
وقيل : العِزَة : الجماعةُ اليسيرةُ كالثلاثة والأربعة.
وقال الراغبُ :«وقيل : هو من قولهم : عَزَا عزاء فهو عز إذا صبر، وتعزَّى : تصبَّر، فكأنَّها اسم للجماعة التي يتأسَّى بعضها ببعض ».
قال القرطبيُّ٩ : ويقال : عِزُونَ، وعُزُون - بالضم - ولم يقولوا : عزات، كما قالوا : ثبات، قيل : كان المستهزئون خمسة أرهُطٍ.
وقال الأزهريُّ : وأصلها من قولهم : عَزَا فلانٌ نفسه إلى بني فلانٍ يعزوها عزواً إذا انتمى إليهم، والاسم :«العَزْوَة »، كلُّ جماعةٍ اعتزوها إلى آخر واحد.
٢ رواية الديوان: "أولى أمر الله".
ينظر ديوانه (٢٢٨)، وغريب القرآن لابن قتيبة (٤٨٦) ومجاز القرآن ٢/٢٧٠، ومعاني الفراء ٣/١٨٦، والقرطبي ١٨/١٩٠ والبحر ٨/٣٢٥، والدر المصون ٦/٣٧٩، والطبري ٢٩/٤٧..
٣ ينظر ديوانه (٢٧٤) والقرطبي ١٨/١٩٠، والبحر ٨/٣٢٥، والدر المصون ٣٧٩..
٤ ينظر القرطبي ١٨/١٩٠، والبحر ٨/٣٢٥، والدر المصون ٦/٣٧٩..
٥ ينظر البحر ٨/٣٢٥، والقرطبي ١٨/١٩٠، والدر المصون ٦/٣٨٠..
٦ ينظر اللسان(عزا)، والقرطبي ١٨/١٩٠، والبحر ٨/٢٥، والدر المصون ٦/٣٧٩..
٧ أخرجه مسلم (١/٣٢٢) والطبري في تفسيره (١٢/٢٤١)، وأبو داود (٢/٦٧٣) كتاب الأدب: باب في التحلق رقم (٤٨٢٣)، وأحمد (٥/٩٣) من حديث جابر بن سمرة.
وأخرجه ابن حبان (٣١٢-موارد) والطبري (١٢/٢٤١) وابن مردويه كما في "الدر المنثور" (٦/١٤٢) من حديث أبي هريرة وفي الباب عن أنس بن مالك ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٢١) وعزاه إلى عبد بن حميد..
٨ ينظر: الصحاح ٦/٢٤٢٠..
٩ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٩٠..
فصل في تعلق الآية بما بعدها
لما قال المستهزئون : إن دخل هؤلاء الجنَّة كما يقولُ محمدٌ فلندخلنَّها قبلهم، أجابهم الله - تعالى - بقوله :﴿ كَلاَّ ﴾ لا يدخلونها، ثم ابتدأ فقال :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ أي : أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نُطفةٍ، ثم من علقة، ثم كما خلق سائر جنسهم، فليس لهم فضلٌ يستوجبون به الجنة، وإنما يستوجب بالإيمان، والعمل الصالح، ورحمة الله تعالى.
وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمينَ ويتكبرون عليهم، فقال :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾، أي : من القذر، فلا يليقُ بهم هذا التكبرُ.
وقال قتادة في هذه الآيةِ : إنَّما خلقت يا ابن آدم من قذرٍ فاتَّقِ اللَّهَ١.
وروي أنَّ مطرف بن عبد الله بن الشِّخيرِ، رأى المهلَّب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خَزّ وجُبة خَزّ، فقال له : يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله ؟.
فقال له : أتعرفني، قال : نعم، أوّلك نطفةٌ مذرةٌ، وآخرك جيفةٌ قذرةٌ، وأنت تحمل العذرةَ، فمضى المهلَّب وترك مشيته٢.
قال ابن الخطيب٣ : ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً :
أحدها : لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث، فكأنه قيل لهم : كلا إنكم منكرون للبعث فمن أين تطمعون بدخولِ الجنَّة.
وثانيها : أنَّ المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين - كما تقدّم - فقال تعالى : إنَّ هؤلاء المستهزئين مخلوقون مما خلقوا، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار ؟.
وثالثها : أنَّهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة، ولم يتصفوا بالإيمانِ، والمعرفةِ، فكيف يليق بالحكمة إدخالهم الجنة ؟.
وقيل : معنى قوله :﴿ خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾، أي : مراحل ما يعلمون وهو الأمر والنَّهي والثوابُ والعقابُ.
كقول الأعشى :[ المتقارب ]
٤٨٧٣ - أأزْمَعْتَ من آلِ لَيْلَى ابْتِكَارا*** وشَطَّتْ على ذِي هَوَى أنْ تُزَارَا٤
أي : من أجل ليلى.
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٩١)..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١١٧..
٤ ينظر القرطبي ١٨/١٩١..
وقرأ جماعة: «فلأقسم» دون ألفٍ.
والجحدري وابن محيصن وأبو حيوة، وحميد: بإفرادهما، وهي مشارقُ الشمس ومغاربها.
وقوله: «إنَّا لقَادِرُونَ»، جواب القسم: ﴿على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ﴾ أي: نقدر على إهلاكهم، وإذهابهم، والإتيان بخير منهم، ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾، أي: لا يفوتنا شيء، ولا يعجزنا أمرٌ نريده.
قوله: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ﴾، أي: اتركهم يخوضُوا في أباطيلهم، ويلعبوا في دنياهم على جهة الوعيد، واشتغل أنت بما أمرت به. وقد تقدم تفسيره في سورة «الطور».
واختلفوا فيما وصف الله به نفسه بالقدرة عليه، هل خرج إلى الفعل أم لا؟.
فقيل: بدل بهم الأنصار والمهاجرين.
وقيل: بدل الله كفر بعضهم بالإيمان.
وقيل: لم يقع هذا التبديلُ، وإنما ذكر الله ذلك تهديداً لهم لكي يؤمنوا.
قوله: ﴿حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ﴾.
قرأ ابن محيصن ومجاهد وأبو جعفر: «يَلْقُوا» مضارع «لَقى»، والمعنى: أنَّ لهم يوماً يلقون فيه ما وعدوا، وهذه الآية منسوخةٌ بآية السَّيف، ثُمَّ ذكر ذلك اليوم فقال:
﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث﴾، يجوز أن يكون بدلاً من «يومهم» أو منصوب بإضمار «أعني».
ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون خبر ابتداءٍ مضمر، وبني على الفتح، وإن أضيف إلى معرب، أي: هو يوم يخرجون، كقوله: ﴿هذا يَوْمُ يَنفَعُ﴾ [المائدة: ١١٩]. وتقدم الكلام عنه مشبعاً.
والعامة: على بناء «يَخْرجُونَ» للفاعل.
وقرأ السلميُّ والمغيرة، وروي عن عاصمٍ: بناؤه للمفعول.
قوله: «سِراعاً»، حال من فاعل «يَخْرجُونَ»، جمعُ سِرَاع ك «ظِرَاف» في «ظَريف»، و «كأنَّهُمْ» حال ثانية منه، أو حال من ضمير الحال، فتكونُ متداخلة.
قوله: ﴿إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾. متعلق بالخبر.
والعامَّة: على «نَصْبٍ» بالفتح، وإسكان الصاد.
وابن عامر وحفص: بضمتين.
وأبو عمران [الجوني] ومجاهد: بفتحتين.
والحسن وقتادة وعمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهم: بضم النون، وإسكان الصاد.
؟؟؟ فالأولى: هو اسم مفرد بمعنى العلمِ المنصوب الذي يُسْرعُ الشخصُ نحوه.
وقال أبو عمرو: هو شَبكةُ الصَّائدِ، يُسْرِع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته.
وأمَّا الثانية، فتحتملُ ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة.
وأنشد للأعشى: [الطويل]
٤٨٧٤ - وذَا النُّصُبِ المَنْصُوبِ لا تَعْبُدَنَّهُ | لِعاقِبَةٍ واللَّهَ ربَّك فاعْبُدَا |
الثاني: إنَّه جمعُ «نِصَاب» ك «كُتُب» و «كِتَاب».
الثالث
: أنَّه جمع «نَصْب» نحو: «رَهْن ورُهُن، وسَقْف وسُقُف» وهذا قول أبي الحسن.
وجمع الجمع: أنصاب.
وقال النحاسُ: وقيل: نُصُبٌ ونَصْبٌ، بمعنى واحد، كما قيل: عُمْر وعُمُر وأسُد وأسْد جمع أسَد.
وأما الثالثة: ففعلٌ بمعنى مفعول، أي: منصوب كالقَبضِ والنَّقضِ.
والرابعة: تخفيفٌ من الثانية، والنصب أيضاً: الشر والبلاء، ومنه قوله تعالى: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: ٤١].
؟؟؟؟؟؟؟
فصل في معنى قوله: نصب
قال ابن عباس: «إلى نصب»، أي إلى غاية، وهي التي ينتهي إليها بصرُك.
وقال الكلبيُّ: هو شيءٌ منصوب علمٌ أو رايةٌ.
وقال الحسنُ: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمسُ إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أوَّلهم على آخرهم.
و «يُوفضُونَ» : يُسْرعُونَ.
وقيل: يستبقون.
وقيل: يسعون.
وقيل: ينطلقون، وهي متقاربة، والإيفاض: الإسراع؛ قال الشاعر: [المتقارب]
٤٨٧٥ - فَوَارسُ ذبْيانَ تَحْتَ الحَدِي | دِ كالجِنِّ يُوفِضْنَ منْ عَبْقَرِ |
٤٨٧٦ -..................... كُهُولٌ وشُبَّانٌ كجِنَّةِ عَبقَرِ
وقال الآخر: [الرجز]
٤٨٧٧ - لأنْعَتَنْ نَعَامَةً مِيفَاضَا... وقال الليثُ: وفضَتِ الإبل تَفضِي وفُضاً، وأوفضها صاحبُها، فالإيفاض متعد، والذي في الآية لازم يقال: وفض وأوفض، واستوفض بمعنى: أسْرَع.
قوله: ﴿خَاشِعَةً﴾. حال إما من فاعل «يُوفِضُونَ» وهو أقرب، أو من فاعل «يَخرُجونَ» وفيه بعدٌ منه، وفيه تعدد الحال لذي حالٍ واحدةٍ، وفيه الخلافُ المشهورُ.
و «أبْصارُهُمْ» فاعل، والمعنى: ذليلةٌ خاضعةٌ لا يعرفونها لما يتوقعونه من عذاب الله.
قوله: ﴿تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾، قرأ العامةُ، بتنوين «ذلَّة»، والابتداء ب «ذلِكَ اليَوْمَ»، وخبره «الَّذي كَانُوا».
و «تَرهَقُهمْ» يجوز أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً من فاعل «يُوفضُونَ» أو «يَخرُجُونَ»، ولم يذكر مكي غيره.
ومعنى: «ترهَقهُمْ»، أي: يغشاهم الهوانُ والذلة.
قال قتادة: هو سوادُ الوُجوهِ.
والرَّهقُ: الغشيان: ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام، يقال: رهقه - بالكسر - يرهقه رهقاً، أي: غشيه.
ومنه قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ﴾ [يونس: ٢٦].
﴿ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾، أي: يوعدونه في الدنيا أنَّ لهم فيه العذاب، وأخرج الخبر بلفظ الماضي؛ لأن ما وعد الله به، فهو حقٌّ كائنٌ لا محالةَ.
روى الثَّعلبيُّ عن أبيِّ بن كعبٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ سأل سَائلٍ، أعْطاهُ اللَّهُ ثَوابَ الَّذينَ لأمَانَاتِهِمْ وعهْدِهِمْ راعثونَ، والَّذينَ هُمْ على صَلأتِهِمْ يُحَافِظُونَ».
واختلفوا فيما وصف الله به نفسه بالقدرة عليه، هل خرج إلى الفعل أم لا ؟.
فقيل : بدل بهم الأنصار والمهاجرين.
وقيل : بدل الله كفر بعضهم بالإيمان.
وقيل : لم يقع هذا التبديلُ، وإنما ذكر الله ذلك تهديداً لهم لكي يؤمنوا.
قوله :﴿ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ ﴾.
قرأ ابن محيصن ومجاهد١ وأبو جعفر :«يَلْقُوا » مضارع «لَقى »، والمعنى : أنَّ لهم يوماً يلقون فيه ما وعدوا، وهذه الآية منسوخةٌ بآية السَّيف،
﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث ﴾، يجوز أن يكون بدلاً من «يومهم » أو منصوب بإضمار «أعني ».
ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون خبر ابتداءٍ مضمر، وبني على الفتح، وإن أضيف إلى معرب، أي : هو يوم يخرجون، كقوله :﴿ هذا يَوْمُ يَنفَعُ ﴾[ المائدة : ١١٩ ]. وتقدم الكلام عنه مشبعاً.
والعامة : على بناء «يَخْرجُونَ » للفاعل.
وقرأ السلميُّ والمغيرة١، وروي عن عاصمٍ : بناؤه للمفعول.
قوله :«سِراعاً »، حال من فاعل «يَخْرجُونَ »، جمعُ سِرَاع ك «ظِرَاف » في «ظَريف »، و «كأنَّهُمْ » حال ثانية منه، أو حال من ضمير الحال، فتكونُ متداخلة.
والأجداثُ : القبور، ونظيره :﴿ فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴾ [ يس : ٥١ ]، أي : سِرَاعاً إلى إجابة الدَّاعي.
قوله :﴿ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾. متعلق بالخبر.
والعامَّة : على «نَصْبٍ » بالفتح، وإسكان الصاد.
وابن عامر وحفص : بضمتين٢.
وأبو عمران [ الجوني ]٣ ومجاهد : بفتحتين.
والحسن وقتادة وعمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهم٤ : بضم النون، وإسكان الصاد.
فالأولى : هو اسم مفرد بمعنى العلمِ المنصوب الذي يُسْرعُ الشخصُ نحوه.
وقال أبو عمرو : هو شَبكةُ الصَّائدِ، يُسْرِع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته.
وأمَّا الثانية، فتحتملُ ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة.
وأنشد للأعشى :[ الطويل ]
٤٨٧٤ - وذَا النُّصُبِ المَنْصُوبِ لا تَعْبُدَنَّهُ***لِعاقِبَةٍ واللَّهَ ربَّك فاعْبُدَا٥
يعني : إيَّاك وذا النُّصُبِ.
الثاني : إنَّه جمعُ «نِصَاب » ك «كُتُب » و «كِتَاب ».
الثالث : أنَّه جمع «نَصْب » نحو :«رَهْن ورُهُن، وسَقْف وسُقُف » وهذا قول أبي الحسن.
وجمع الجمع : أنصاب.
وقال النحاسُ : وقيل : نُصُبٌ ونَصْبٌ، بمعنى واحد، كما قيل : عُمْر وعُمُر وأسُد وأسْد جمع أسَد.
وأما الثالثة : ففعلٌ بمعنى مفعول، أي : منصوب كالقَبضِ والنَّقضِ.
والرابعة : تخفيفٌ من الثانية، والنصب أيضاً : الشر والبلاء، ومنه قوله تعالى :﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾[ ص : ٤١ ].
فصل في معنى قوله : نصب
قال ابن عباس :«إلى نصب »، أي إلى غاية، وهي التي ينتهي إليها بصرُك٦.
وقال الكلبيُّ : هو شيءٌ منصوب علمٌ أو رايةٌ٧.
وقال الحسنُ : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمسُ إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أوَّلهم على آخرهم٨.
و «يُوفضُونَ » : يُسْرعُونَ.
وقيل : يستبقون.
وقيل : يسعون.
وقيل : ينطلقون، وهي متقاربة، والإيفاض : الإسراع ؛ قال الشاعر :[ المتقارب ]
٤٨٧٥ - فَوَارسُ ذبْيانَ تَحْتَ الحَدِي***دِ كالجِنِّ يُوفِضْنَ منْ عَبْقَرِ٩
وعبقر : موضع تزعم العرب أنه من أرض الجنِّ ؛ قال لبيد :[ الطويل ]
٤٨٧٦ -. . . *** كُهُولٌ وشُبَّانٌ كجِنَّةِ عَبقَرِ١٠
وقال الآخر :[ الرجز ]
٤٨٧٧ - لأنْعَتَنْ نَعَامَةً مِيفَاضَا١١ ***. . .
وقال الليثُ : وفضَتِ الإبل تَفضِي وفُضاً، وأوفضها صاحبُها، فالإيفاض متعد، والذي في الآية لازم يقال : وفض وأوفض، واستوفض بمعنى : أسْرَع.
٢ ينظر: السبعة ٦٥١، والحجة ٦/٣٢٢، ٣٢٣، وإعراب القراءات ٢/٣٩٣-٣٩٤..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٧١، والبحر المحيط ٨/٣٣٠، والدر المصون ٦/٣٨٠..
٤ ينظر السابق..
٥ تقدم..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٩٢)..
٧ ينظر المصدر السابق..
٨ ينظر المصدر السابق..
٩ ينظر القرطبي ١٨/١٩٢، والبحر ٣٣٠٨، والدر المصون ٦/٣٨١..
١٠ عجز بيت وصدره:
ومن غاد من إخوانهم وبنيهم ***...
ينظر ديوانه (٥٤)، ولسان العرب (عبقر)، والصحاح (عبقر)..
١١ ينظر البحر ٨/٣٣٠، والدر المصون ٦/٣٨١..
و «أبْصارُهُمْ » فاعل، والمعنى : ذليلةٌ خاضعةٌ لا يعرفونها لما يتوقعونه من عذاب الله.
قوله :﴿ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾، قرأ العامةُ، بتنوين «ذلَّة »، والابتداء ب «ذلِكَ اليَوْمَ »، وخبره «الَّذي كَانُوا ».
وقرأ يعقوب والتمَّارُ١ : بإضافةِ «ذلَّة » إلى «ذلك » وجر «اليَوْم » ؛ لأنه صفةٌ، و «الَّذِي » نعتٌ لليومِ.
و«تَرهَقُهمْ » يجوز أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً من فاعل «يُوفضُونَ » أو «يَخرُجُونَ »، ولم يذكر مكي غيره.
ومعنى :«ترهَقهُمْ »، أي : يغشاهم الهوانُ والذلة.
قال قتادة : هو سوادُ الوُجوهِ.
والرَّهقُ : الغشيان : ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام، يقال : رهقه - بالكسر - يرهقه رهقاً، أي : غشيه.
ومنه قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ ﴾[ يونس : ٢٦ ].
﴿ ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾، أي : يوعدونه في الدنيا أنَّ لهم فيه العذاب، وأخرج الخبر بلفظ الماضي ؛ لأن ما وعد الله به، فهو حقٌّ كائنٌ لا محالةَ.