تفسير سورة إبراهيم

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ٥٢

سورة إبراهيم
(مكية، [إلا آيتي ٢٨ و ٢٩ فمدنيتان] وآياتها ٥٢ [نزلت بعد سورة نوح] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣)
كِتابٌ هو كتاب، يعنى السورة. وقرئ: ليخرج الناس. والظلمات والنور:
استعارتان للضلال والهدى بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل، كقوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف، كأنه قيل: إلى أى نور؟ فقيل: إلى صراط العزيز الحميد. وقوله اللَّهِ عطف بيان للعزيز الحميد، لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة كما غلب النجم في الثريا. وقرئ بالرفع على: هو الله. الويل: نقيض الوأل، وهو النجاة اسم معنى، كالهلاك، إلا أنه لا يشتق منه فعل، إنما يقال: ويلا له، فينصب نصب المصادر، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات، فيقال: ويل له، كقوله سلام عليك. ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ بالويل؟ قلت: لأنّ المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد، ويضجون منه، ويقولون:
يا ويلاه، كقوله دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ مبتدأ خبره: أولئك في ضلال بعيد ويجوز أن يكون مجروراً صفة للكافرين، ومنصوبا على الذمّ، أو مرفوعا على أعنى الذين يستحبون أو هم الذين يستحبون. والاستحباب: الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة، لأنّ المؤثر
للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إليها وأفضل عندها من الآخر. وقرأ الحسن: ويصدّون، بضم الياء وكسر الصاد. يقال: صدّه عن كذا، وأصدّه. قال:
أُنَاسٌ اصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ «١»
والهمزة فيه داخلة على صدّ صدوداً، لتنقله من غير التعدّى إلى التعدّى. وأما صدّه، فموضوع على التعدية كمنعه، وليست بفصيحة كأوقفه، لأنّ الفصحاء استغنوا بصدّه ووقفه عن تكلف التعدية بالهمزة وَيَبْغُونَها عِوَجاً ويطلبون لسبيل الله زيغاً واعوجاجاً، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية، والأصل: ويبغون لها، فحذف الجار وأوصل الفعل فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أى ضلوا عن طريق الحق، ووقفوا دونه بمراحل. فإن قلت: فما معنى وصف الضلال بالبعد. قلت: هو من الإسناد المجازى، والبعد في الحقيقة للضالّ، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، كما تقول: جدّ جدّه. ويجوز أن يراد: في ضلال ذى بعد. أو فيه بعد، لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله «٢»
(١).
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم صدود السواني في أنوف الحوايم
لذي الرمة، أنشده عنه الفراء، يقال: صده عن كذا، ولغة كلب: أصده عنه إذا منعه، فوضع الصدود موضع الأصداد. والسيافى- بالفاء-: الرياح، لأنها تسفو التراب. وقيل: هي بالقاف جمع ساق أو ساقية، وهي فوق الجدول. والحوايم: الجمال العطاش، لأنها تحوم حول الماء جمع حائم، ويطلق على طير إذا اشتد عطشه حام حول الماء، فإذا ناله سقط ريشه فيغرق فيه. وجمعه حوايم أيضا. ويجوز أن يراد هنا، أو الجبال لأنها لارتفاعها تشرف من بعد كأنها حائمة، أو لأن الطير يحوم فوقها فنسبة الفعل إليها مجاز لأنها محله، يقول: قوم منعوا الناس عن أنفسهم بالسيف لمنع الرياح وضربها في أنوف. الجمال، أو في أعالى الجبال، أو كمنع السقاة إبل غيرهم عن إبلهم في السقي، أو كمنع الأنهار لبعد مائها الإبل العطاش أو الطيور العطاش عن الشرب، لأن الطيور تخاف الغرق فيه.
ويروى: عن أنوف الحوايم. وفيه تشبيه الأعداء بالعطاش وأصحاب السيوف، أو السيوف بالرياح ضمنا.
(٢). قال محمود: «أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه فلا يكون لهم حجة... الخ» قال أحمد: جميع الفصل مرضى، لكن في هذه الخاتمة نظر، لأن فيها إشعاراً بأن إعجاز القرآن من حيث اللغة العربية خاصة يتقاصر عن إعجازه، لو قدر منزلا بكل لسان، حتى إنه لو ينزل بجميع اللغات لبلغ من الوضوح إلى حد يكاد أن يكون إلجاء إلى الايمان به، وهذا فيه نظر، والقول به غير متعين، لأن المعجز يفيد العلم بصدق من ظهر على يده، ومتى حصل العلم لم يكن بين علم وعلم تفاوت ولا ترجيح، فلو نزل القرآن بجميع اللغات، لكان العلم الحاصل منه وقد نزل بلغة واحدة، هو العلم الحاصل منه ولو نزل بالجميع، لا تفاوت ولا ترجيح بين العلمين، هذا هو التحقيق، والله أعلم. والزمخشري يبنى في كثير من كلامه على أن العلوم تتفاوت وتنقسم إلى جلى وأجلى، وهو من الحق بمعزل، وإنما ظن ذلك طائفة ظاهرية، والله الموفق.
538
ولا يقولوا: لم نفهم ما خوطبنا به، كما قال وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ.
فإن قلت: لم يبعث رسول الله ﷺ إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعاً قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً بل إلى الثقلين، وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم تكن للعرب حجه فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية، لم تكن للعرب حجة أيضاً. قلت: لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل، فبقى أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول، لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر. قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة، «١» والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة، على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها- مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها، وكلم الرسول العربىّ كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً- لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء. ومعنى بِلِسانِ قَوْمِهِ بلغة قومه. وقرئ:
بلسن قومه. واللسن واللسان: كالريش والرياش، بمعنى اللغة. وقرئ: «بلسن قومه» بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة، وهو جمع لسان، كعماد وعمد وعمد على التخفيف. وقيل: الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورووه عن الضحاك. وأن الكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أدّاها كل نبىّ بلغة قومه، وليس بصحيح، لأنّ قوله لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ضمير القوم وهم العرب، فيؤدّى إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ كقوله فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن.
ولا يهدى إلا من يعلم أنه يؤمن. والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف «٢»، وبالهداية:
التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يغلب على مشيئته الْحَكِيمُ فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف
(١). قوله «والأقطار المتنازحة» أى المتباعدة جداً. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فخلق الضلال في القلب، لأن الله لا يخلق الشر عند المعتزلة، ويخلقه كالخير عند أهل السنة. (ع)
539

[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٥]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)
أَنْ أَخْرِجْ بمعنى أى أخرج، لأنّ الإرسال فيه معنى القول، كأنه قيل: أرسلناه وقلنا له أخرج. ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر، وغيره سواء في الفعلية. والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل: قولهم أو عز إليه بأن افعل، فأدخلوا عليها حرف الجر.
وكذلك التقدير بأن أخرج قومك وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم: قوم نوح وعاد وثمود. ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها، كيوم ذى قار، ويوم الفجار، ويوم قضة وغيرها، وهو الظاهر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نعماؤه وبلاؤه.
فإهلاك القرون لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر.
وقيل: أراد لكل مؤمن، لأنّ الشكر والصبر من سجاياهم، تنبيهاً عليهم.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٦]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦)
إِذْ أَنْجاكُمْ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أى إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب بعليكم؟ قلت: لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرّة عليكم عمل فيه، ويتبين «١» الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت: نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها، وإلا كان كلاما. ويجوز أن يكون «إذ» بدلا من نعمة الله، أى: اذكروا وقت إنجائكم، وهو من بدل الاشتمال. فإن قلت: في سورة البقرة يُذَبِّحُونَ وفي الأعراف يُقَتِّلُونَ وهاهنا وَيُذَبِّحُونَ مع الواو، فما الفرق؟ قلت: الفرق أنّ التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أو في على
(١). قوله «ويتبين» لعله: وتبيين. (ع)
جنس العذاب، وزاد عليه زيادة ظاهرة كأنه جنس آخر. فإن قلت: كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟ قلت: تمكينهم وإمهالهم، حتى فعلوا ما فعلوا ابتلاء من الله. ووجه آخر وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم، والبلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعا، قال تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وقال زهير:
فَأَبْلَاهُمَا خَيرَ البَلَاءِ الذِى يَبْلُوا «١»
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٧]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ من جملة ما قال مومى لقومه، وانتصابه للعطف على قوله نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ كأنه قيل: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا حين تأذن ربكم.
ومعنى تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ: أذن ربكم. ونظير تأذن وأذن: توعد وأوعد، تفضل وأفضل. ولا بدّ في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل: وإذ أذن ربكم إيذانا بليغا تنتفى عنده الشكوك وتنزاح الشبه. والمعنى: وإذ تأذن ربكم فقال لَئِنْ شَكَرْتُمْ أو أجرى تَأَذَّنَ مجرى، قال، لأنه ضرب من القول. وفي قراءة ابن مسعود: «وإذ قال ربكم لئن شكرتم»، أى لئن شكرتم يا بنى إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ وغمطتم «٢» ما أنعمت به عليكم إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ لمن كفر نعمتي.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٨]
وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
وَقالَ مُوسى إن كفرتم أنتم يا بنى إسرائيل والناس كلهم، فإنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لا بدّ لكم منه وأنتم إليه محاويج، اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكركم حَمِيدٌ مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وأياديه، وإن لم يحمده الحامدون.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٩]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٢٠٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢). قوله «وغمطتم ما أنعمت به عليكم» في الصحاح «غمط الشيء» بطره وحقره. (ع)
وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جملة من مبتدإ وخبر، وقعت اعتراضا: أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح. ولا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ اعتراض. والمعنى: أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله. وعن ابن عباس رضى الله عنه: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون، يعنى أنهم يدّعون علم الأنساب، وقد نفى الله علمها عن العباد فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل «١»، كقوله عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ أو ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه. أو وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أى هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، إقناطاً لهم من التصديق. ألا ترى إلى قوله فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وهذا قول قوى. أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء: أطبقوا أفواهكم واسكتوا. أو ردّوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت. أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون. وقيل:
الأيدى، جمع يد وهي النعمة بمعنى الأيادى، أى: ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان بالله. وقرئ: «تدعونا»، بإدغام النون مُرِيبٍ موقع في الريبة أو ذى ريبة، من أرابه، وأراب «٢» الرجل، وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٠]
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠)
أَفِي اللَّهِ شَكٌّ أدخلت همزة الإنكار على الظرف، لأن الكلام ليس في الشك، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
(١). قال محمود: «معناه عضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل... الخ» قال أحمد: وأقوى هذه الوجوه هذا الوجه الذي نبه المصنف على اختصاصه بالقوة، وإنما كان كذلك لأن إقناطهم الرسل من الايمان قولا وفعلا بوضع اليد في الفم، هو المناسب لحسدهم في الكفر. وتصدير العبارة بالحرف المؤكد ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد وليس السياق بمناسب الضحك ولا الغيظ ولا لتصميت الرسل كمناسبته لاقناطهم من القبول. ألا ترى أنهم لما أعادوا للرسل القول ولم ينكروا عليهم عودهم إلى المجادلة، دل على أنهم لم يسكتوهم أولا، ولا كان غرضهم ذلك، والله أعلم.
(٢). قوله «وأراب الرجل» لعله: أو أراب. (ع)
542
أى يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم أو يدعوكم لأجل المغفرة كقوله: دعوته لينصرنى، ودعوته ليأكل معى، وقال:
دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِى مِسْوَرا فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَىْ مِسْوَرِ «١»
فإن قلت: ما معنى التبعيض في قوله: من ذنوبكم؟ قلت: ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وقال في خطاب المؤمنين: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ إلى أن قال يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد. وقيل: أريد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى وقت قد سماه الله وبين مقداره، يبلغكموه إن آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوّة «٢» دوننا، ولو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة «٣» بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة بينة، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات والحجج، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجا.
(١). لأعرابى من بنى أسد. ولبى: بمعنى أجاب، ورسمه ابن حبيب بالألف وإن كان يائيا للفرق بينه وبين المثنى بعده. ولبى من الأسماء اللازمة للاضافة إلى الضمير، وشذ إضافته للظاهر كما هنا، من لب بالمكان لبا أقام به والمراد ملازمة إجابته إجابة بعد إجابة لا اثنين فقط، وهو منصوب على المصدرية بفعل محذوف. هذا مذهب سيبويه. وزعم يونس أنه مفرد مقصور، قلبت ألفه مع الضمير ياء كلدى وعلى، فرد عليه سيبويه بأنه لو كان كذلك لم تنقلب ألفه مع الظاهر ياء كلدى وعلى، لكنهم لما أضافوه للظاهر قلبوها ياء كما في البيت. يقول: دعوت مسورا لما أصابنى، فأجابنى فلبى يديه، أى أجاب الله دعاءه بعد إجابة، وأقحم اليدين لأنهما يرفعان عند الدعاء، فكأنهما المجابتان، أو لأن نصره حصل بهما، ففيه إشارة إلى أنه أنقذه. وقيل: إنه دعاه ليغرم عنه الدية، فأجابه، فذكر يديه لأنه بذل بهما. قيل: وكانت عادة العرب ذلك فنهى عنه. وروى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال. إذا دعا أحدكم أخاه فقال: لبيك، فلا يقولن لبى يديك، وليقل أجابك الله بما تحب.
(٢). عاد كلامه. قال: «وقولهم إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا: معناه فلم تخصون بالنبوة دوننا؟ ولو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة» ؟ قال أحمد: ومن تهالكه على الانتصار لاعتقاده تفضيل الملائكة على الرسل من البشر، يستعين حتى يحمل الكفار على أنهم كانوا يعتقدون كمعتقد القدرية في تفضيل الملك على الرسول، لأنه يدعى ذلك أمراً مركوزاً في الطباع معلوما ضرورة، والله الموفق. [.....]
(٣). قوله «لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة» هذا على مذهب المعتزلة، أما عند أهل السنة فبعض البشر أفضل. (ع)
543

[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١١ الى ١٢]

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)
إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تسليم لقولهم، وأنهم بشر مثلهم، يعنون أنهم مثلهم في البشرية وحدها، فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم، واقتصروا على قولهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوّة، لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها، لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أرادوا أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا، وما هو إلا أمر يتعلق بمشيئة الله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به، كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجرى علينا منكم. ألا ترى إلى قوله وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ومعناه: وأىّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه وَقَدْ هَدانا وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين، فإن قلت: كيف كرّر الأمر بالتوكل «١» ؟ قلت: الأول لاستحداث التوكل، وقوله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ معناه فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدّم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤)
لَنُخْرِجَنَّكُمْ، أَوْ لَتَعُودُنَّ ليكونن أحد الأمرين لا محالة، إما إخراجكم وإما عودكم حالفين «٢» على ذلك. فإن قلت: كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها. قلت: معاذ الله، ولكن العود بمعنى الصيرورة، وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون
(١). قال محمود: «إن قلت كيف كرر ذلك بعد قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ... الخ» قال أحمد: وبهذا يخرج عن وادى «من قتل قتيلا فله سلبه» والله أعلم.
(٢). قوله «حالفين» حال من فاعل قال. وعبارة النسفي «وحلفوا». (ع)
صار، ولكن عاد، ما عدت أراه عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مال. أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن به، فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ حكاية تقتضي إضمار القول، أو إجراء الإيحاء مجرى القول، لأنه ضرب منه. وقرأ أبو حيوة: «ليهلكنّ»، و «ليسكننكم» بالياء اعتباراً لأوحى، وأن لفظه لفظ الغيبة، ونحوه قولك: أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن.
والمراد بالأرض. أرض الظالمين وديارهم، ونحوه وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ. وعن النبي ﷺ «من آذى جاره ورثه الله داره «١» » ولقد عاينت هذا في مدة قريبة: كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته، فنظرت يوما إلى أبناء خالي يتردّدون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدّثتهم به، وسجدنا شكراً لله ذلِكَ إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين إسكان المؤمنين ديارهم، أى ذلك الأمر حق لِمَنْ خافَ مَقامِي موقفي وهو موقف الحساب، لأنه موقف الله الذي يقف «٢» فيه عباده يوم القيامة، أو على إقحام المقام. وقيل: خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله. والمعنى أنّ ذلك حق للمتقين، كقوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٥ الى ١٧]
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
وَاسْتَفْتَحُوا واستنصروا الله على أعدائهم إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة، كقوله تعالى رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وهو معطوف على فَأَوْحى إِلَيْهِمْ وقرئ: «واستفتحوا»، بلفظ الأمر. وعطفه على لَنُهْلِكَنَّ أى: أوحى إليهم ربهم وقال لهم لنهلكنّ وقال لهم استفتحوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا، وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وهم قومهم. وقيل: واستفتح الكفار على الرسل، ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل، وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ منهم ولم يفلح باستفتاحه مِنْ وَرائِهِ من بين يديه. قال:
(١). لم أجده.
(٢). قوله «يقف فيه عباده» في الصحاح: يتعدى ولا يتعدى. (ع)
545
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِى أَمْسَيْتَ فِيهِ يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ «١»
وهذا وصف حاله وهو في الدنيا، لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف. فان قلت: علام عطف وَيُسْقى؟ قلت:
على محذوف تقديره: من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد، كأنه أشد عذابها فخصص بالذكر مع قوله وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ. فإن قلت: ما وجه قوله تعالى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ؟ قلت: صديد عطف بيان لماء، قال وَيُسْقى مِنْ ماءٍ فأبهمه إبهاما ثم بينه بقوله صَدِيدٍ وهو ما يسيل من جلود أهل النار يَتَجَرَّعُهُ يتكلف جرعه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ دخل كاد للمبالغة. يعنى: ولا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون الإساغة، كقوله لَمْ يَكَدْ يَراها أى لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ كأنّ أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه «٢» وأحاطت به من جميع الجهات، تفظيعا لما يصيبه من الآلام. وقيل مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جسده حتى من إبهام رجله. وقيل: من أصل كل شعرة وَمِنْ وَرائِهِ ومن بين يديه عَذابٌ غَلِيظٌ أى في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشدّ مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أى استمطروا- والفتح المطر- في سنى القحط التي أرسالات عليهم بدعوة رسول الله ﷺ فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر، وهو صديد أهل النار. وَاسْتَفْتَحُوا- على هذا التفسير-:
(١).
يؤرقنى اكتئاب أبى نمير فقلبي من كآبته كئيب
فقلت له هداك الله مهلا وخير القول ذو اللب المصيب
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
لهدبة بن خشرم العذرى. ويروى: خرشم. وكان مسجونا للقتل. والتأريق: التسهير، والاكتئاب: الانكسار وتغير اللون من الحزن، والكآبة كذلك. وأبو نمير كان صديقا له، فزاره لك السجن وحزن عليه. ومهلا: مصدر بدل من اللفظ بفعله. وخبر القول: جملة اعتراضية في أثناء مقول القول. واللب: العقل. وعسى الكرب: تتمة مقول القول. ويروى: أمسيت، بالضم والفتح. وقال الجوهري «وراء» يأتى بمعنى خلف، وقد يأتى بمعنى قدام، فهو من الأضداد اه، لأنه ما وراء الشخص بجرمه عن نفسه أو عن غيره، ومواراته عن نفسه لا يمكن إلا في الخلف، فكثر فيه. أو هو مكان المواراة مطلقا، وهو في الخلف أكثر. واسم «يكون» ضمير الكرب، ووراءه متعلق بمحذوف خبر ليكون، و «فرج» فاعل بالظرف. ويجوز أن «فرج» مبتدأ و «وراءه» متعلق بمحذوف خبر له، والجملة خبر ليكون، ويجب كون المحذوف كونا تاما لا ناقصا، لئلا يحتاج إلى تقدير محذوف أيضا، فيتسلسل التقدير، ولم يجعل «فرج» مرفوع بيكون، لأن خبر أفعال المقاربة لا يرفع الأجنبى عن أسمائها. وجملة «يكون» خبر ليس «وتجريد خبرها من «أن» قليل أى عسى أن يحصل الفرج بعد الكرب.
(٢). قوله «قد تألبت عليه» أى تجمعت. أفاده الصحاح. (ع)
546
كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٨]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨)
هو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه، تقديره: وفيما يقص عليك مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. ويجوز أن يكون المعنى: مثل أعمال الذين كفروا بربهم. أو هذه الجملة خبرا للمبتدإ، أى صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول، أو يكون أعمالهم بدلا من مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا على تقدير: مثل أعمالهم، وكرماد: الخبر. وقرئ: الرياح فِي يَوْمٍ عاصِفٍ جعل العصف لليوم، وهو لما فيه، وهو الريح أو الرياح، كقولك: يوم ماطر وليلة ساكرة. وإنما السكور لريحها «١» وقرئ: في يوم عاصف، بالإضافة. وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم، من صلة الأرحام وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجازة، وغير ذلك من صنائعهم، شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به، وكونها لوجهه: برماد طيرته الريح العاصف لا يَقْدِرُونَ يوم القيامة مِمَّا كَسَبُوا من أعمالهم عَلى شَيْءٍ أى لا يرون له أثرا من ثواب، كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب بِالْحَقِّ بالحكمة والغرض الصحيح «٢» والأمر العظيم، ولم يخلقها عبثا ولا شهوة
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
وقرئ: خالق السموات والأرض إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أى هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقا آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم، إعلاما منه باقتداره على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم، يقدر على الشيء وجنس ضده وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذر،
(١). قوله «وإنما السكور لريحها» في الصحاح: سكرت الريح، تسكر سكورا: سكنت بعد الهبوب. (ع)
(٢). قال محمود: «معناه خلقها بالحكمة والغرض الصحيح... الخ» قال أحمد: وهذا من اعتزاله الخفي وقد تقدمت أمثاله.
بل هو هين عليه يسير «١»، لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فإذا خلص له الداعي إلى شيء وانتفى الصارف، تكوّن من غير توقف: كتحريك أصبعك إذا دعاك إليه داع ولم يعترض دونه صارف. وهذه الآيات بيان لإبعادهم في الضلال وعظيم خطئهم في الكفر بالله، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يعبد، ويخاف عقابه ويرجى ثوابه في دار الجزاء.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢١]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ ويبرزون يوم القيامة. وإنما جيء به بلفظ الماضي، لأنّ ما أخبر به عزّ وعلا لصدقه كأنه قد كان ووجد، ونحوه وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ، وَنادى أَصْحابُ النَّارِ ونظائر له. ومعنى بروزهم لله- والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له- أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أن ذلك خاف على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أنّ الله لا يخفى عليه خافية. أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه. فإن قلت: لم كتب «الضعفؤا» بواو قبل الهمزة؟ قلت: كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. ونظيره «علمؤا بنى إسرائيل» والضعفاء:
الأتباع والعوام. والذين استكبروا: ساداتهم وكبراؤهم، الذين استتبعوهم واستغووهم وصدورهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم تَبَعاً تابعين: جمع تابع على تبع، كقولهم: خادم وخدم وغائب وغيب «٢» أو ذوى تبع. والتبع: الأتباع، يقال: تبعه تبعا. فان قلت: أى فرق بين من في مِنْ عَذابِ اللَّهِ وبينه في مِنْ شَيْءٍ؟ قلت: الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله. ويجوز أن تكونا للتبعيض معا، بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله، أى: بعض بعض عذاب الله
(١). عاد كلامه. قال: معناه وما ذلك على الله بعزيز، أى: هين عليه، لأنه قادر بالذات الخ... قال أحمد: وهذا اعتزال صراح لهم يتقنع في إبرازه، وما أبشع قوله عن الله جل جلاله، خلص له الداعي وأمضى الصارف، وما أنباه عن سمع المحققين العارفين بآداب الله تعالى وبما يجب في حق جلاله، وقد تقدم ما فيه كفاية.
(٢). قوله «خادم وخدم وغائب وغيب» في الصحاح: وإنما ثبتت فيه الياء في التحريك، لأنه شبه بصيد وإن كان جمعا، وصيد مصدر قولك «بعير أصيد» لأنه يجوز أن ينوى به المصدر. (ع)
548
فإن قلت: فما معنى قوله لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ؟ قلت الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم «١» وعتابا على استتباعهم واستغوائهم. وقولهم فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا من باب التبكيت، لأنهم قد علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم، فأجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم: بأن الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ولم يضلوهم، إما موركين الذنب «٢» في ضلالهم وإضلالهم على الله، كما حكى الله عنهم وقالوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا، لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا. ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ. وإما أن يكون المعنى: لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. وقيل: معناه لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم، أى: لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مستويان علينا الجزع والصبر. والهمزة وأم للتسوية. ونحوه:
فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ وروى أنهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك ثم يقولون: سواء علينا. فإن قلت: كيف اتصل قوله سواء علينا بما قبله؟ قلت: اتصاله به من حيث أنّ عتابهم لهم كان جزعا مما هم فيه، فقالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، يريدون أنفسهم وإياهم، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها، يقولون: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر والأمر من ذلك أطمّ. أو لما قالوا لو هدانا الله طريق النجاة لأغنينا عنكم وأنجيناكم، أتبعوه الإقناط من النجاة فقالوا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ أى منجى ومهرب، جزعنا أم صبرنا. ويجوز أن يكون من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً، كأنه قيل: قالوا جميعا سواء علينا، كقوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
(١). قال محمود: «الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم... الخ» قال أحمد: لما استشعر دلالة الآية لعقيدة السنة المشتملة على أن الله تعالى مهما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن هد آية المشركين مما لم يشأه، ولو شاءها لاهتدوا. وإنما تنشأ هذه الدلالة من إيراد هذا الكلام عن الكفار في دار الحق حين حقت لهم الحقائق وانكشف الغطاء. والمقصود من اقتصاصه: إنذار أمثالهم في الدنيا، وتحذيرهم من الحسرة والندم في الآخرة إذا حق عليهم العذاب واعترفوا بالحق وقالوا القول المذكور، وهذا يرشد إلى أنه كلام صحيح المعنى، فلما فطن الزمخشري لذلك شرع في تقرير تخطئتهم في هذا القول في الآخرة كما خطأهم في الدنيا، ليتم له اعتقاد أن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، ومن ذلك هد آية الكفار فان الله تعالى يشاؤها في الدنيا، لكنها لم تكن. وأنى له ذلك، وسياق الآية يصوب الكلام المذكور وينذر الغافلين عنه في الدنيا، ويحذرهم من التورط فيما يؤدى إلى هذا الندم، حيث لا ينفع ويجر إلى هذه الحسرة، إذ لا ينجع، كما أورد كلام الشيطان عقيب ذلك حين يعترف بالحق في دار الحق، وحيث لا ينفعه إيمانه، فيقول:
إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم الخ. وإنما سيق تحذيراً وإنذارا اتفاقا، والله الموفق.
(٢). قوله «موركين الذنب» في الصحاح: ورك فلان ذنبه على غيره، أى: قرفه به اه، أى: اتهمه به. (ع)
549
والمحيص يكون مصدراً، كالمغيب والمشيب. ومكانا، كالمبيت والمصيف. ويقال: حاص عنه وجاض، بمعنى واحد.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٢]
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ لما قطع الأمر وفرغ منه، وهو الحساب، وتصادر الفريقين ودخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار. وروى أنّ الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً «١» في الأشقياء من الجنّ والإنس فيقول ذلك إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم وَوَعَدْتُكُمْ خلاف ذلك فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني، وليس الدعاء من جنس السلطان، ولكنه كقولك: ما تحيتهم إلا الضرب. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث اغتررتم بى وأطعتمونى إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم. وهذا دليل على أنّ الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه، «٢» وليس من الله إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين. ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإنّ الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه. فإن قلت:
(١). قال محمود: «روى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيبا... الخ» قال أحمد: قد حمل قول الكفار في الآية الأولى على إبطال الانتحال، لأنه لا يلائم معتقده، واستشهد على أن الكذب حينئذ غير ممتنع ولا متعذر بقول تعالى فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ثم لما ظن أن قول الشيطان هذا يلائم معتقده، اجتهد في الاستدلال على تصويبه وتصحيحه وإن كان قائله الشيطان، كل ذلك منه اتباع للهوى حيثما توجه وأية سلك. ونحن معاشر أهل السنة الملقبين عنده بالمجبرة نقول: إن الله تعالى إنما أورد هذا الكلام غير راد له، ولا مخطئ فيه الشيطان، كما اقتص كلام الكفار في الآية الأولى كذلك. ونحن نعتقد أن الملامة إنما تتوجه على المكلف وأما الله تعالى فمقدس عن ذلك.
وحجته البالغة، وقضاؤه الحق. وذلك أنا نعترف بما خلقه الله تعالى للعبد من الاختيار الذي يجده من نفسه عند تجاذب طرفى الأفعال الارادية ضرورة، وبذلك قامت الحجة له على خلقه، وإن سلبنا عن قدرة الخلق تأثيرها في الفعل، فلا تناقض إذاً بين عقيدة السنة وبين صرف الملامة إلى المكلف، والله الموفق. [.....]
(٢). قوله «يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه» هذا مذهب المعتزلة، وقوله «المجبرة» يعنى أهل السنة، ومذهبهم أن الله هو الخالق لأسباب السعادة وأسباب الشقاوة، لكن العبد له فيها الكسب. ومن هذا يتوجه عليه اللوم، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن العبد هو الخالق لها، وهو الذي يحصل لنفسه. وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)
550
قول الشيطان باطل لا يصح التعلق به. قلت: لو كان هذا القول منه باطلا لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره، على أنه لا طائل له في النطق بالباطل في ذلك المقام: ألا ترى إلى قوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ كيف أتى فيه بالحق والصدق، وفي قوله وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ وهو مثل قول الله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ لا ينجى بعضنا بعضا من عذاب الله ولا يغيثه. والإصراخ: الإغاثة. وقرئ: بمصرخي، بكسر الياء وهي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول:
قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَا تَافِىِّ قَالَتْ لَهُ مَا أنْتَ بِالمَرْضِى «١»
وكأنه قدّر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة، فحرّكها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة، حيث قبلها ألف في نحو عصاي، فما بالها وقبلها ياء؟ فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحرّكت بالكسر على الأصل.
قلت: هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات. «ما» في بِما أَشْرَكْتُمُونِ مصدرية، ومِنْ قَبْلُ متعلقة بأشركتمونى، يعنى: كفرت اليوم بإشراككم إياى من قبل هذا اليوم، أى في الدنيا، كقوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ومعنى كفره بإشراكهم إياه: تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وقيل: مِنْ قَبْلُ يتعلق بكفرت.
وما موصولة، أى: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أَشركتمونيه وهو الله عز وجل، تقول: شركت زيداً، فإذا نقلت بالهمزة قلت: أَشركنيه فلان، أى: جعلني له شريكا.
ونحو «ما» هذه «ما» في قولهم: سبحان ما سخركنّ لنا. ومعنى إشراكهم الشيطان بالله: طاعتهم
(١).
قال لها هل لك يا تافىّ قالت له ما أنت بالمرضى
ماض إذا ما هم بالمضي
قائله مجهول. وتا: اسم إشارة، أى: هل لك يا هذه المرأة رغبة في. وأصل ياء المتكلم السكون، فان حركت فبالفتح، لكن لما التقت هنا ساكنة مع الياء قبلها ساغ كسرها، على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.
وقالت: استئناف، كأنه قيل له: فماذا قالت؟ فقال: قالت له لست مرضيا، فإنك رجل ماض في كل أمرتهمّ فيه، فماض: خبر لمبتدإ محذوف. والجملة: استئناف جواب للسؤال عن علة عدم الرضا. وعبر بضمير الغيبة في قوله: هم نظراء للخير. ويجوز تقدير المبتدأ لفظ «هو» فيكون التفاتا من الخطاب إلى الغيبة، دلالة على الاعراض عنه، وذكر السبب لغيره.
551
له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها، وهذا آخر قوله إبليس. وقوله إِنَّ الظَّالِمِينَ قول الله عزّ وجلّ. ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى الله عزّ وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت، ليكون لطفا للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه، وأن يتصوّروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم. وقرئ: فلا يلومونى، بالياء على طريقة الالتفات، كقوله تعالى حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٣]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: وأدخل الذين آمنوا، «١» على فعل المتكلم، بمعنى: وأدخل أنا وهذا دليل على أنه من قول الله، لا من قوله إبليس بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق بأدخل، أى:
أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره. فإن قلت: فبهم يتعلق في القراءة الأخرى، وقولك:
وأدخلهم أنا بإذن ربهم، كلام غير ملتئم؟ قلت: الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله:
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بما بعده، أى تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ بإذن ربهم، يعنى: أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)
قرئ أَلَمْ تَرَ ساكنة الراء، كما قرئ: من يتق، وفيه ضعف ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا اعتمد مثلا ووضعه. وكَلِمَةً طَيِّبَةً نصب بمضمر، أى: جعل كلمة طيبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهو
(١). قال محمود: «وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: وأدخل الذين آمنوا على فعل المتكلم... الخ» قال أحمد:
فان قلت: ما الذي صرف الزمخشري عن حمله على الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وألجأه إلى تعليقه بما بعده، وقد كانت له في ذلك مندوحة، والالتفات على هذا الوجه كثير مستفيض. ألا ترى إلى قوله تعالى طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ثم قال تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ ولم يقل تنزيلا منا. قلت: لأمر ما صرف الكلام عن هذا الوجه، وهو أن ظاهر أُدْخِلَ بلفظ المتكلم، يشعر بأن إدخالهم الجنة لم يكن بواسطة، بل من الله تعالى مباشرة، وظاهر الاذن يشعر باضافة الدخول إلى الواسطة، فبينهما تنافر، ولكن يحسن عندي أن يعلق بخالدين، والخلود غير الدخول، فلا تنافر، والله أعلم.
تفسير لقوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كقولك: شرّف الأمير زيداً: كساه حلة، وحمله على فرس.
ويجوز أن ينتصب مَثَلًا وكَلِمَةً بضرب، أى: ضرب كلمة طيبة مثلا، بمعنى: جعلها مثلا ثم قال كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف، بمعنى هي كشجرة طيبة أَصْلُها ثابِتٌ يعنى في الأرض ضارب بعروقه فيها وَفَرْعُها وأعلاها ورأسها فِي السَّماءِ ويجوز أن يريد: وفروعها، على الاكتفاء بلفظ الجنس. وقرأ أنس بن مالك: كشجرة طيبة ثابت أصلها فإن قلت: أىّ فرق بين القراءتين؟ قلت: قراءة الجماعة أقوى معنى، لأنّ في قراءة أنس أجريت الصفة على الشجرة، وإذا قلت: مررت برجل أبوه قائم، فهو أقوى معنى من قولك: مررت برجل قائم أبوه، لأنّ المخبر عنه إنما هو الأب لا رجل. والكلمة الطيبة: كلمة التوحيد. وقيل:
كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. وعن ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة النمار، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمّان وغير ذلك. وعن ابن عمر أنّ رسول الله ﷺ قال ذات يوم: «إن الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبرونى ما هي» «١» فوقع الناس في شجر البوادي، وكنت صبيا، فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله ﷺ أن أقولها وأنا أصغر القوم. وروى: فمنعني مكان عمرو استحييت، فقال لي عمر: يا بنىّ لو كنت قلتها لكانت أحبّ إلىّ من حمر النعم، ثم قال رسول الله ﷺ «ألا إنها النخلة» وعن ابن عباس رضى الله عنهما: شجرة في الجنة وقوله فِي السَّماءِ معناه في جهة العلوّ والصعود، ولم يرد المظلة، كقولك في الجبل: طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ تعطى ثمرها كل وقت وقته الله لإثمارها بِإِذْنِ رَبِّها بتيسير خالقها وتكوينه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٦]
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦)
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ كمثل شجرة خبيثة، أى: صفتها كصفتها. وقرئ: ومثل كلمة بالنصب، عطفا على كلمة طيبة. والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك. وقيل: كل كلمة قبيحة. وأمّا الشجرة الخبيثة فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث «٢» ونحو ذلك. وقوله اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ في مقابلة قوله أَصْلُها ثابِتٌ ومعنى اجْتُثَّتْ استؤصلت. وحقيقة الاجتثاث
(١). متفق عليه وله ألفاظ.
(٢). قوله «والكشوث» في الصحاح الكشوث نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض.
قال الشاعر:
أخذ الجثة كلها ما لَها مِنْ قَرارٍ أى استقرار. يقال: قرّ الشيء قراراً، كقولك: ثبت ثباتا، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة، فهو داحض غير ثابت والذي لا يبقى إما يضمحل عن قريب لبطلانه، من قولهم: الباطل لجلج «١». وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء: ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقراً، ولا في السماء مصعداً، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٧]
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧)
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الذي ثبت بالحجة «٢» والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما. وتثبيتهم في الآخرة. أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم، لم يتلعثموا ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر. وقيل معناه الثبات عند سؤال القبر. وعن البراء ابن عازب رضى الله عنه أن رسول الله ﷺ ذكر قبض روح المؤمن فقال «ثم يعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
فيقول: ربى الله، ودينى الإسلام، ونبيي محمد، فينادى مناد من السماء أن صدق عبدى فذلك قوله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت»
«٣» وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم، وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم، كما قلد المشركون آباءهم فقالوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإضلالهم في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أوّل شيء، وهم في الآخرة أضل وأذل وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ أى ما توجبه الحكمة، لأن مشيئة الله تابعة
(١). قوله «من قولهم الباطل لجلج» في الصحاح: الحق أبلج، والباطل لجلج، أى: يردد من غير أن ينفذ. (ع)
(٢). قوله «القول الثابت الذي ثبت بالحجة» لما فسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد والخبيثة بكلمة الشرك، فالمتجه تفسير القول الثابت بقول «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وإضلال الظالمين بابقائهم على كلمة الشرك، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وأما التمسك بالحجة وتقليد الشيوخ فبعيد عن السياق. وفيه رد على أهل السنة المكتفين بالتقليد في تحقق الايمان. (ع)
(٣). هذا طرف من حديث له طويل أخرجه أبو داود وأبو عوانة والحاكم وأحمد وابن راهويه وابن أبى شيبة وأبو يعلى من رواية سعد بن عبيدة عند البخاري مرفوعا في قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ قال: نزلت في عذاب القبر. يقال له: من ربك ومن نبيك؟ فيقول: ربى الله. ونبى محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك قوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا... الآية.
للحكمة، من تثبيت المؤمنين وتأييدهم، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)
بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ أى شكر نعمة الله كُفْراً لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفراً، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلا، ونحوه وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أى شكر رزقكم حيث وضعتم التكذيب موضعه. ووجه آخر: وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر، حاصلا لهم الكفر بدل النعمة. وهم أهل مكة: أسكنهم الله حرمه، وجعلهم قوّام بيته، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم. أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر وقد ذهبت عنهم النعمة وبقي الكفر طوقا في أعناقهم. وعن عمر رضى الله عنه: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين.
وقيل: هم متنصرة العرب: جبلة بن الأيهم وأصحابه وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ ممن تابعهم على الكفر دارَ الْبَوارِ دار الهلاك. وعطف جَهَنَّمَ على دار البوار عطف بيان. قرئ لِيُضِلُّوا بفتح الياء وضمها. فإن قلت: الضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد، فما معنى اللام؟
قلت: لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد، كما كان الإكرام في قولك: جئتك لتكرمنى، نتيجة المجيء، دخلته اللام وإن لم يكن غرضا، على طريق التشبيه والتقريب تَمَتَّعُوا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمراً دونه، وهو أمر الشهوة.
والمعنى: إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣١]
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١)
المقول محذوف، «١» لأن جواب قُلْ يدل عليه، وتقديره قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا أقيموا الصلاة وأنفقوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا وجوزوا أن يكون يقيموا وينفقوا، بمعنى:
ليقيموا ولينفقوا، ويكون هذا هو المقول، قالوا: وإنما جاز حذف اللام، لأنّ الأمر الذي هو قُلْ عوض منه، ولو قيل: يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز.
فإن قلت: علام انتصب سِرًّا وَعَلانِيَةً؟ قلت: على الحال، أى: ذوى سرّ وعلانية، بمعنى:
مسرين ومعلنين. أو على الظرف، أى وقتى سر وعلانية، أو على المصدر، أى: إنفاق سر وإنفاق علانية، المعنى: إخفاء المتطوع به من الصدقات والإعلان بالواجب: والخلال: المخالة.
فإن قلت: كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ؟ «٢» قلت:
من قبل أنّ الناس يخرجون أَموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أَمثالها أو خيراً منها. وأمّا الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال، أى: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة، ولا بما ينفقون به أَموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله. وقرئ: لا بيع فيه ولا خلال، بالرفع.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣)
(١). قال محمود: «المقول محذوف... الخ» قال أحمد: وفي هذا الاعراب نظر، لأن الجواب حينئذ يكون خبراً من الله تعالى، بأنه إن قال لهم هذا القول امتثلوا مقتضاه فأقاموا الصلاة وأنفقوا، لكنهم قد قيل لهم فلم يمتثل كثير منهم، وخبر الله تعالى يجل عن الخلف، وهذه النكتة هي الباعثة لكثير من المعربين على العدول عن هذا الوجه من الاعراب من تبادره فيما ذكر بادى الرأى، ويمكن تصحيحه بحمل العام على الغالب لا على الاستغراق، ويقوى بوجهين لطيفين، أحدهما: أن هذا النظم لم يرد إلا لموصوف بالايمان الحق المنوه بإيمانه عند الأمر، كهذه الآية وكقوله وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الثاني: تكرر مجيئه للموصوفين بأنهم عباد الله المشرفون باضافتهم إلى اسم الله، وقد قالوا إن لفظ العباد لم يرد في الكتاب العزيز إلا مدحة للمؤمنين، وخصوصاً إذا انضاف إليه تعالى إضافة التشريف، فالحاصل من ذلك أن المأمور في هذه الآي من هو بصدد الامتثال وفي حيز المسارعة للطاعة، فالخبر في أمثالهم حق وصدق، إما على العموم إن أريد، أو على الغالب، والله أعلم.
(٢). قوله «بأنه لا بيع فيه ولا خلال» هذه القراءة بالبناء على الفتح. (ع)
556

[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
اللَّهُ مبتدأ، والَّذِي خَلَقَ خبره، ومِنَ الثَّمَراتِ بيان للرزق، أى: أخرج به رزقا هو ثمرات. ويجوز أن يكون مِنَ الثَّمَراتِ مفعول أخرج، ورِزْقاً حالا من المفعول، أَو نصباً على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق بِأَمْرِهِ بقوله كن دائِبَيْنِ يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم «١» وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ من للتبعيض، أى آتاكم بعض جميع ما سألتموه، نظراً في مصالحكم. وقرئ من كلّ بالتنوين، وما سألتموه نفى ومحله النصب على الحال أى: آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، ويجوز أن تكون ما موصولة، على: وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أَحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال لا تُحْصُوها لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها، هذا إذا أَرادوا أَن يعدوها على الإجمال. وأمّا التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله لَظَلُومٌ يظلم النعمة بإغفال شكرها كَفَّارٌ شديد الكفران لها. وقيل ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. والإنسان للجنس، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)
هَذَا الْبَلَدَ يعنى البلد الحرام، زاده الله أَمناً، وكفاه كل باغ وظالم، أَجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام آمِناً ذا أمن. فإن قلت: أَى فرق بين قوله اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وبين قوله اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً؟ قلت: قد سأل في الأوّل أَن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمناً وَاجْنُبْنِي وقرئ: وأجنبنى، وفيه ثلاث لغات: جنبه الشر، وجنبه، وأجنبه، فأهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد، وأهل نجد
(١). قوله «وسباتكم» في الصحاح: السبات النوم، وأصله الراحة، ومنه قوله تعالى وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. (ع)
557

[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
اللَّهُ مبتدأ، والَّذِي خَلَقَ خبره، ومِنَ الثَّمَراتِ بيان للرزق، أى: أخرج به رزقا هو ثمرات. ويجوز أن يكون مِنَ الثَّمَراتِ مفعول أخرج، ورِزْقاً حالا من المفعول، أَو نصباً على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق بِأَمْرِهِ بقوله كن دائِبَيْنِ يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم «١» وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ من للتبعيض، أى آتاكم بعض جميع ما سألتموه، نظراً في مصالحكم. وقرئ من كلّ بالتنوين، وما سألتموه نفى ومحله النصب على الحال أى: آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، ويجوز أن تكون ما موصولة، على: وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أَحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال لا تُحْصُوها لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها، هذا إذا أَرادوا أَن يعدوها على الإجمال. وأمّا التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله لَظَلُومٌ يظلم النعمة بإغفال شكرها كَفَّارٌ شديد الكفران لها. وقيل ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. والإنسان للجنس، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)
هَذَا الْبَلَدَ يعنى البلد الحرام، زاده الله أَمناً، وكفاه كل باغ وظالم، أَجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام آمِناً ذا أمن. فإن قلت: أَى فرق بين قوله اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وبين قوله اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً؟ قلت: قد سأل في الأوّل أَن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمناً وَاجْنُبْنِي وقرئ: وأجنبنى، وفيه ثلاث لغات: جنبه الشر، وجنبه، وأجنبه، فأهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد، وأهل نجد
(١). قوله «وسباتكم» في الصحاح: السبات النوم، وأصله الراحة، ومنه قوله تعالى وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. (ع)
جنبني وأجنبنى، والمعنى: ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها وَبَنِيَّ أراد بنيه من صلبه. وسئل ابن عيينة: كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنما، واحتج بقوله وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم، قالوا:
البيت حجر، فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار، فاستحب أن يقال: طاف بالبيت، ولا يقال: دار بالبيت إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فأعوذ بك أن تعصمني «١» وبنىّ من ذلك، وإنما جعلن مضلات، لأنّ الناس ضلوا بسببهنّ، فكأنهنّ أضللنهم، كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أى افتتنوا بها واغتروا بسببها فَمَنْ تَبِعَنِي على ملتي وكان حنيفا مسلما مثلي فَإِنَّهُ مِنِّي أى هو بعضى لفرط اختصاصه بى وملابسته لي، وكذلك قوله «من غشنا فليس منا» «٢» أى ليس بعض المؤمنين، على أنّ الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي. وقيل: معناه ومن عصاني فيما دون الشرك.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣٧]
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)
مِنْ ذُرِّيَّتِي بعض أولادى وهم إسماعيل ومن ولد منه بِوادٍ هو وادى مكة غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لا يكون فيه شيء من زرع قط، كقوله قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا الاستقامة لا غير. وقيل للبيت المحرم، لأنّ الله حرم التعرض له والتهاون به، وجعل ما حوله حرما لمكانه، أو لأنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه كل جبار، كالشىء المحرم الذي حقه أن يجتنب، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه، أو لأنه حرّم على الطوفان أى منع منه، كما سمى عتيقا لأنه أعتق منه فلم يستول عليه لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ اللام متعلقة بأسكنت، أى: ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق، إلا ليقيموا
(١). قوله «فأعوذ بك أن تعصمني» لعله أن لا تعصمني. (ع)
(٢). أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وابن حبان من حديث ابن مسعود وإسحاق والبزار من حديث ابن عمر. والبخاري في التاريخ. والطبراني في الأوسط من حديث البراء. والبزار من حديث عائشة. وابن أبى شيبة من حديث أبى الحمراء. والحاكم من رواية عمير بن سعيد النخعي وابن أبى شيبة من رواية جميع بن عمير عن خالد بن برزة والطبراني من حديث أبى موسى والبيهقي في الشعب من طريق حسين بن عبد الله بن ضمرة عن أبيه عن جده عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، كذلك أخرجه البيهقي في الشعب، وأخرجه الطبراني من هذا الوجه. فلم يذكر عليا. وأخرجه أبو نعيم عن أنس وعن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبى ربيعة عن جده به.
558
الصلاة عند بيتك المحرم، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك، متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع، مستسعدين بجوارك الكريم، متقربين إليك بالعكوف عند بيتك، والطواف به، والركوع والسجود حوله، مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ أفئدة من أفئدة الناس، ومن للتبعيض، ويدل عليه ما روى عن مجاهد: لو قال أَفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم، وقيل: لو لم يقل مِنْ لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند. ويجوز أن يكون مِنْ للابتداء، كقولك: القلب منى سقيم، تريد قلبي، فكأنه قيل: أفئدة ناس، وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة. وقرى: آفدة، بوزن عاقدة. وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون من القلب كقولك: آدر، في أدؤر. والثاني:
أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت، أى، جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم. وقرئ: أفدة، وفيه وجهان: أن تطرح الهمزة للتخفيف، وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين. وأن يكون من أفد تَهْوِي إِلَيْهِمْ تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا ونزاعا من قوله:
يَهْوِى مَخَارِمَهَا هُوِىَّ الأَجْدَلِ «١»
وقرئ: تهوى إليهم، على البناء للمفعول، من هوى إليه وأهواه غيره. وتهوى إليهم، من هوى يهوى إذا أحب، ضمن معنى تنزع فعدّى تعديته وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مع سكناهم
(١).
هو الكشوث فلا أصل ولا ورق ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر (ع)
فإذا نبذت له الحصاة رأيته ينزو لوقعتها طمور الأخبل
وإذا يهب من المنام رأيته كرتوب كعب الساق ليس بزمل
وإذا رميت به الفجاج رأيته يهوى مخارمها هوى الأجدل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتبلل
لأبى كبير الهذلي، يصف تأبط شراً بالتيقظ والشجاعة، يقول: إذا رميت له الحصاة مجرباً له هل هو نائم أو صاح، ينزو: أى يثب بسرعة، طمور الأخيل: أى وثوب الأخيل، أى ينهض كنهوضه: وهو طير تتشاءم منه العرب، وأصله من التخيل، وقيل من الخيلاء. ورتب رتوباً: انتصب انتصاباً وارتفع ارتفاعاً، أى: رأيته يرتفع عن الأرض كارتفاع كعب الساق. والزمل والزمال والزميل- بتشديد الميم فيها-: هو الضعيف الملتف بثيابه، ثم قال:
وإذا قذفته في نواحي الأمكنة المتسعة، رأيته يهوى مخارمها، أى: يسرع في سلوك مسالكها الضيقة، كهوى الأجدل وهو الصقر، أى كاسراعه في الطيران. ويروى: الجندل وهو الحجر. والأسرة: خطوط الجبهة جمع سرار. والعارض: السحاب المعترض في الأفق. والمتهلل: اللامع، أو المرتفع الذي سيمطر. وروى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: كنت قاعدة أغزل عند رسول الله ﷺ وهو يخصف نعله، فنحضر جبينه عرفا، فتولد في عينى نوراً، فجعلت أنظر إليه فقال: ما تنظرين؟ فقلت له ذلك، وقلت: أما والله لو رآك الهذلي لعلم أنك أحق بشعره، فقال: وما قال: قلت: وإذا نظرت... البيت. فوضع ما في يده وقام فقبل ما بين عينى وقال:
جزاك الله خيرا، ما سررت كسرورى بكلامك. [.....]
559
واديا ما فيه شيء منها، بأن تجلب إليهم من البلاد لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب ليس فيه نجم «١» ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجلّ أجاب دعوته فجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثمارا، وفي أى بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذى زرع، وهي اجتماع البواكير والفواكه «٢» المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجيب، متعنا الله بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه، وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم عليه السلام، ورزقنا طرفا من سلامة ذلك القلب السليم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)
النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى الله تعالى إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ تعلم السرَّ كما تعلم العلن علماً لا تفاوت فيه، لأنّ غيباً من الغيوب لا يحتجب عنك. والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب، وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وتخشعا لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل أياديك، وولهاً إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده، ورغبة في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حسن الملكة. وعن بعضهم: أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح، فأراد أن يذكره فقال: مثلك لا يذكر استقصارا ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها. وقيل: ما نخفى من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء. وقيل: ما نخفى من كآبة الافتراق، وما نعلن:
يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم. قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا نخشى، تركتنا إلى كاف وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من كلام الله عز وجل تصديقا لإبراهيم عليه السلام، كقوله وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أو من كلام إبراهيم، يعنى:
وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان. «ومن» للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه
(١). قوله «في واد يباب ليس فيه نجم» أى خراب. والنجم: نبات لا ساق له، كذا في الصحاح. (ع)
(٢). قوله «وهي اجتماع البواكير والفواكه» الباكورة: أول الفاكهة، كما في الصحاح. (ع)
شيء ما. عَلَى في قوله عَلَى الْكِبَرِ بمعنى مع، كقوله:
إنِّى عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِى... أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ «١»
وهو في موضع الحال، معناه: وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر. روى أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتى عشرة سنة، وقد روى أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين. وإسحاق لتسعين. وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة. والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ كان قد دعا ربه وسأله الولد، فقال: رب هب لي من الصالحين، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته فإن قلت: الله تعالى يسمع كل دعاء، أجابه أو لم يجبه. قلت: هو من قولك: سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله. ومنه: سمع الله لمن حمده. وفي الحديث «٢» «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن «٣» » فإن قلت: ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء؟ قلت: إضافة الصفة إلى مفعولها، وأصله لسميع الدعاء. وقد ذكر سيبويه فعيلا في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، كقولك: هذا ضروب زيداً، وضراب أخاه، ومنحار إبله، وحذر أموراً، ورحيم أباه ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعا على الإسناد المجازى.
والمراد سماع الله.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وبعض ذرّيتى، عطفا على المنصوب في اجعلنى، وإنما بعض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذرّيته كفار، وذلك قوله لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أى
(١). ترين: أصله ترأيين كتفعلين، نقلت فتحة الهمزة إلى الراء، ثم حذفت وحذفت الياء الأولى بعد قلبها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. يقول. إنى مع ما تنظرينه من كبرى وهرمى الموجب للخرف عادة، عارف بالأمور متيقظ لها. وكنى عن ذلك بقوله: أعرف من أين تؤكل الكتف، أى: أعرف جواب هذا الاستفهام، ويروى:
من حيث، فلعل من زائدة. قال بعضهم: تؤكل الكتف من أسفلها ويشق أكلها من أعلاها، وهو مثل يضرب للجرب المتفطن للأمور.
(٢). متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(٣). قوله «كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن» في الصحاح: كاذنه لمن يتغنى... الخ. (ع)
عبادتي وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في قراءة أبىّ: ولأبوىّ. وقرأ سعيد بن جبير:
ولوالدي، على الإفراد، يعنى أباه. وقرأ الحسن بن على رضى الله عنهما: ولولدىّ، يعنى إسماعيل وإسحاق. وقرئ: لولدي، بضم الواو. والولد بمعنى الولد، كالعدم والعدم. وقيل: جمع ولد، كأسد في أسد. وفي بعض المصاحف: ولذرّيتى. فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ قلت: هو من مجوّزات العقل «١» لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف. وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء. وقيل: بشرط الإسلام. ويأباه قوله إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفاراً صحيحا لا مقال فيه، فكيف يستثنى الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أى يثبت، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل، والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها. ونحوه قولهم: ترجلت الشمس: إذا أشرقت وثبت ضوؤها، كأنها قامت على رجل. ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازيا، أو يكون مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ وعن مجاهد: قد استجاب الله له فيما سأل، فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته، وجعل البلد آمنا، ورزق أهله من الثمرات. وجعله إماما، وجعل في ذريته من يقيم الصلاة، وأراه مناسكه، وتاب عليه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال:
كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ الآية، رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣)
فإن قلت: يتعالى الله عن السهو والغفلة، فكيف يحسبه رسول الله ﷺ وهو أعلم الناس به غافلا حتى قيل وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا؟ قلت: إن كان خطابا لرسول الله ﷺ ففيه وجهان. أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا، كقوله وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، كما جاء في الأمر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ والثاني: أنّ المراد بالنهى عن حسبانه غافلا، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يريد الوعيد. ويجوز أن يراد: ولا تحسبنه يعاملهم معاملة
(١). قوله «هو من مجوزات العقل» يعنى على مذهب المعتزلة أن العقل قد يدرك الحكم بدون شرع، ومذهب أهل السنة أن لا حكم قبل الشرع حتى يدرك بدونه، فافهم. (ع)
562
الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم، المحاسب على النقير والقطمير، وإن كان خطابا لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلا، لجهله بصفاته، فلا سؤال فيه. وعن ابن عيينة: تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له. من قال هذا؟ فغضب وقال: إنما قاله من علمه. وقرئ: يؤخرهم، بالنون والياء تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أى أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي. وقيل: الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم، أى:
لا يطرفون، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان. أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم. الهواء: الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، فوصف به فقيل: قلب فلان هواء إذا كان جبانا لا قوّة في قلبه ولا جرأة. ويقال للأحمق أيضا: قلبه هواء. قال زهير:
مِنَ الظُّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ «١»
لأنّ النعام مثل في الجبن والحمق. وقال حسان:
فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَوَاءُ «٢»
(١).
كأن الرحل منها فوق صعل... من الظلمان جؤجؤه هواء
أصك مصلم الأذنين أجنى... له بالسن تنوم وآء
لزهير بن أبى سلمى يصف ناقته. والصعل: المنجرد شعر الرأس والصغير الرأس. والظلمان: جمع ظليم وهو ولد النعام، والجؤجؤ: الصدر. والهواء: الخالي الفارغ، وجعل صدره فارغا ليكون أسرع في السير إلى طعامه. والأصك:
الذي تصطك ركبتاه عند المشي لطول رجليه. وصلمه: قطعه. والتصليم: مبالغة. ويقال: أجنى الثمر إذا أدرك، وأجنت الأرض: كثر كلؤها وخصيها. والسن، المكان المستوى واسم موضع بعينه. والتنوم- وزن تنور-:
شجر تنفلق كمامه عن حب صغير تأكله أهل البادية، يغلب على لونه السواد. قيل: وهو شجر الشهدانج. والآء: جنس من الشجر واحده آءة. وقيل: ثمر ذلك الشجر يطلق على نوع من الصوت: والتنوم: فاعل أجنى، أى كثر له في ذلك المكان هذان النوعان.
(٢).
ألا أبلغ أبا سفيان عنى... فأنت مجوف نخب هواء
بأن سيوفنا تركت عبيداً... وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمداً فأجبت عنه... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء... فشركما لخيركما الفداء
أمن يهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
فان أبى ووالده وعرضي... لعرض محمد منكم وقاء
لحسان يهجو أبا سفيان قبل إسلامه. وألا التنبيه، والمأمور بالابلاغ غير معين، وكان الظن أن يقول: فانه، أى: أبا سفيان، لكن خاطبه بالذم لأنه أغيظ. ويجوز أن المأمور أبو سفيان، فهو منادى بحذف حرف النداء.
والمجوف والنخب والهواء: خالي الجوف، أو فارغ القلب من العقل والشجاعة. وروى بدل هذا الشطر «مغلغلة فقد برح الخفاء» والمغلغلة: الحارة من الغلة بالضم، وهي شدة العطش والحرارة. وقيل. المنقولة من مكان لآخر، وبرح كسمع: ذهب وزال. وقيل: ظهر واتضح من براح الأرض وهو البارز منها، فالخفا بمعنى التستر أو السر.
وإسناد الترك للسيوف مجاز عقلى، لأنها آلة للفعل. وعبيد بالتصغير قبيلة، وكذلك عبد الدار، وسادتها مبتدأ.
والإماء خبره، والجملة في محل المفعول الثاني لتركت، أى صيرت عبيداً لا سادة لها إلا النساء، وصيرت عبد الدار كذلك، يعنى: أننا أفنينا رجالهما الرؤساء الأشراف، فأشرافهما النساء لا غير، بل يجوز أنهم سواء الحرائر أيضاً، فلم يبق إلا الرقائق. وأتهجوه: استفهام توبيخي، والواو بعده للحال، أى: لا ينبغي ذلك شر وخير، من قبيل أفعل التفضيل، واختصا بحذف همزتهما تخفيفاً لكثرة استعمالهما، لكن المراد بهما هنا أصل الوصف لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان، والجملة دعائية، دعا عليه بأن يكون فداء الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الانصاف في الكلام، ولذلك لما سمعه الحاضرون قالوا: هذا نصف بيت قالته العرب، فعليك بالانصاف وأمن يهجو: استفهام إنكارى، أى ليس من يهجوه منكم ومن يمدحه وينصره منا مستويين. ويحتمل أن الهمزة للتنبيه، أو للنداء، والمنادى محذوف، أى: يا قوم أبى سفيان إن الذي يهجو رسول الله منكم والذي يمدحه وينصره منكم مستويان في عدم الاكتراث بهما وروى: فمن، ولا بد من تقدير، أى: من يهجوه ويخذله منكم ليقابل الخذلان النصر كالهجو والمدح، ثم إن في هذا دليلا على جواز حذف الموصول، وقد أجازه الكوفيون والأخفش، وتبعهم أبو مالك، وشرط كونه معطوفا على موصول آخر كما هنا. وقوله: ووالده، أى والد أمى. ويروى:
ووالدتي. والوقاء: ما يتوقى به المكروه، كالترس وزن الحزام والرباط للمفعول به الفعل، فهو إما بمعنى اسم مفعول أو اسم الآلة، ورأيت في كلام الزمخشري ما يفيد تسمية هذا الوزن باسم المفعول. وفي الهمع ما يفيد أنه جاء شاذا من أوزان الآلة، كأراث لما تؤرث به النار، أى تضرم به، وسراد لما يسرد به، أى يحزز به. ولما سمع ﷺ قوله «وعند الله في ذلك الجزاء» قال: جزاك الله الجنة بإحسان. ولما سمع قوله «فان أبى» قال: وقال الله حر النار بإحسان. وتقريره ﷺ على المكافأة بالذم، يدل على الجواز.
563
وعن ابن جريج أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ صفر من الخير خاوية منه. وقال أبو عبيدة: جوف لا عقول لهم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧)
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ مفعول ثان لأنذر وهو يوم القيامة. ومعنى أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة
564
دعوتك واتباع رسلك. أو أريد باليوم: يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدّة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب، كقوله لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ. أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ على إرادة القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بطرا وأشرا، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأمّلوا بعيداً. وما لَكُمْ جواب القسم، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله أَقْسَمْتُمْ ولو حكى لفظ المقسمين لقيل: ما لنا مِنْ زَوالٍ والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء. وقيل. لا تنتقلون إلى دار أخرى يعنى كفرهم بالبعث، كقوله وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ يقال: سكن الدار وسكن فيها. ومنه قوله تعالى وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ لأنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث، والأصل تعدّيه بفي، كقولك: قرّ في الدار وغنى فيها وأقام فيها، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل: سكن الدار كما قيل: تبوّأها وأوطنها. ويجوز أن يكون: سكنوا «١»، من السكون، أى: قرّوا فيها واطمأنوا طيبي النفوس، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد، لا يحدّثونها بما لقى الأوّلون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم، فيعتبروا ويرتدعوا وَتَبَيَّنَ لَكُمْ بالإخبار والمشاهدة كَيْفَ أهلكناهم وانتقمنا منهم. وقرئ: ونبين لكم، بالنون وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ أى صفات ما فعلوا وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ أى مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ لا يخلوا إمّا أن يكون مضافا إلى الفاعل كالأوّل، على معنى: ومكتوب عند الله مكرهم، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه، أو يكون مضافا إلى المفعول على معنى: وعند الله مكرهم الذي يمكرهم «٢» به، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلا لتفاقمه وشدته، أى:
وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال. معداً لذلك، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها، كقوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أنّ الجبال مثل لآيات الله وشرائعه، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً. وتنصره قراءة ابن
(١). قوله «ويجوز أن يكون سكنوا» لعله: سكنتم. (ع)
(٢). قوله «وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به» الذي في الصحاح المكر: الاحتيال والخديعة، وقد مكر به.
والمكر أيضاً: المغرة، وقد مكره فامتكر، أي خضبه فاختضب اه، وهو يفيد أن المكر بمعنى الاحتيال لا يتعدى بنفسه، فتدبر. (ع)
565
مسعود: وما كان مكرهم. وقرئ: لتزول، بلام الابتداء، على: وإن كان مكرهم من الشدّة بحيث تزول منه الجبال ونتقلع من أماكنها. وقرأ على وعمر رضى الله عنهما: وإن كاد مكرهم مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ يعنى قوله إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي. فإن قلت: هلا قيل: مخلف رسله وعده؟ ولم قدم المفعول الثاني على الأوّل «١» ؟ قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا، كقوله إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ثم قال رُسُلَهُ ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً- وليس من شأنه إخلاف المواعيد- كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟
وقرئ: مخلف وعده رسله، بجرّ الرسل ونصب الوعد. وهذه في الضعف كمن قرأ «قتل أولادهم شركائهم». عَزِيزٌ غالب لا يماكر ذُو انتِقامٍ لأوليائه من أعدائه.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٨ الى ٥١]
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ انتصابه على البدل من يوم يأتيهم. أو على الظرف للانتقام.
والمعنى: يوم تبدّل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة، وكذلك السموات. والتبديل: التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك: بدّلت الدراهم دنانير. ومنه بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ وفي الأوصاف، كقولك: بذلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً، فنقلتها من شكل إلى شكل. ومنه قوله تعالى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ واختلف في تبديل الأرض والسموات، فقيل: تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها. وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وعن ابن عباس: هي تلك الأرض وإنما تغير، وأنشد:
(١). قال محمود: «إن قلت لم قدم المفعول الثاني على الأول... الخ» ؟ قال أحمد: وفيما قاله نظر، لأن الفعل متى تقيد بمفعول انقطع إطلاقه، فليس تقديم الوعد في الآية دليلا على إطلاق الفعل باعتبار الموعود، حتى يكون ذكر الرسل بائناً كالأجنبى من الإطلاق الأول، ولا فرق في المعنى الذي ذكره بين تقديم ذكر الرسل وتأخيره ولا يفيد تقديم المفعول الثاني إلا الإيذان بالعناية في مقصود المتكلم والأمر بهذه المثابة في الآية، لأنها وردت في سياق الانذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله تعالى به على ألسنة الرسل، فالمهم في التهديد ذكر الوعيد. وأما كونه على ألسنة الرسل فذلك أمر لا يقف التخويف عليه ولا بد، حتى لو فرض التوعد من الله تعالى على غير لسان رسول، لكان الخوف منه حسبياً كافياً، والله أعلم.
566
وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الّذِينَ عَهِدْتَهُمْ وَلَا الدَّارُ بِالدَّارِ الّتِى كُنْتَ تَعْلَمُ «١»
وتبدّل السماء بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها، وكونها أبوابا.
وقيل: يخلق بدلها أرض وسموات أخر. وعن ابن مسعود وأنس: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة. وعن على رضى الله عنه: تبدّل أرضا من فضة، وسموات من ذهب.
وعن الضحاك: أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف. وقرئ: يوم نبدّل الأرض، بالنون «٢».
فإن قلت: كيف قال الْواحِدِ الْقَهَّارِ؟ قلت: هو كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ لأنّ الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب ولا يعازّ فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار، كان الأمر في غاية الصعوبة والشدّة مُقَرَّنِينَ قرن بعضهم مع بعض. أو مع الشياطين.
أو قرنت أيديهم ألى أرجلهم مغللين. وقوله فِي الْأَصْفادِ إمّا أن يتعلق بمقرّنين، أى:
يقرنون في الأصفاد. وإمّا أن لا يتعلق به، فيكون المعنى: مقرّنين مصفدين. والأصفاد:
القيود: وقيل الأغلال، وأنشد لسلامة بن جندل:
وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَدْ لَاقَى صِفَاداً بَعَضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمِ سَاقِ «٣»
القطران: فيه ثلاثة لغات: قطران، وقطران، وقطران: بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء، وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ، فتهنأ به الإبل الجربي، فيحرق الجرب بحرّه وحدّته، والجلد، وقد تبلغ حرارته الجوف، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وقد يستسرج به، وهو أسود اللون منتن الريح، فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص، لتجتمع عليهم الأربع: لذع القطران. وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين، وكل ما وعده الله أو وعد به في الآخرة، فبينه وبين ما نشاهد من جنسه من لا يقادر قدره، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامى والمسميات ثمة، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه، ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه.
وقرئ: من قطران، والقطر: النحاس أو الصفر المذاب. والآنى: المتناهي حرّه وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ كقوله تعالى أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ
(١). يقول: ليس الناس اليوم هم الناس الذين عهدتهم سابقا، لفناء الأحياء من بينهم، وليست الدار اليوم هي الدار التي كنت تعلمها، لتبدل أحوالها وتغير أوصافها.
(٢). قوله «وقرئ نبدل الأرض بالنون» لعله ونصب الأرض والسماوات، فلتحرر. القراءة. (ع)
(٣). لسلامة بن جندل. وزيد الخيل: هو الذي سماء النبي ﷺ زيد الخير. قد لاقى: أى نال من أعدائه صفادا، أى قيدا وغلا. واستعار العض لقرص الصفاد اليابس الصلب على طريق التصريحية، والباء للإلصاق، وأقحم لفظ العظم للمبالغة في العض حتى وصل العظم. [.....]
567
لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه، كالقلب في باطنه، ولذلك قال تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ وقرئ: وتغشى وجوههم، بمعنى تتغشى: أى يفعل بالمجرمين ما يفعل لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ
مجرمة ما كَسَبَتْ أو كل نفس من مجرمة ومطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم على أنه يثيب المطيعين لطاعتهم.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٥٢]
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ كفاية في التذكير والمواعظة، يعنى بهذا ما وصفه من قوله فَلا تَحْسَبَنَّ إلى قوله سَرِيعُ الْحِسابِ. وَلِيُنْذَرُوا معطوف على محذوف، أى لينصحوا ولينذروا بِهِ بهذا البلاغ. وقرئ: ولينذروا، بفتح الياء، من نذر به إذا علمه «١» واستعدّ له وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد، لأنّ الخشية أمّ الخير كله.
عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة إبراهيم أُعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد» «٢»
(١). قوله «من نذر به إذا علمه» في الصحاح: نذر القوم بالعدو- بكسر الذال- إذا علموا. (ع)
(٢). يأتى إسناده في آخر الكتاب.
Icon