تفسير سورة آل عمران

بيان المعاني
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

القرابات البعيدة «بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» وحكمه من الميراث وغيره إذا كانوا على دين واحد ودار واحدة، وإلا لا توارث بينهم كما مر آنفا «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥) » لا يعزب عن علمه شيء، وقد تمسك أبو حنيفة رضي الله عنه في هذه الآية في أحكام توريث ذوي الأرحام، وقال الشافعي
رضي الله عنه إن هذه الآية مقيدة لآية النساء المفصلة للإرث. وسنأتي على ما يتعلق في الآيتين ١١٧ وما بعدهما منها على هذا إن شاء الله. وإن معنى كتاب الله هو حكمه الذي بينه فيها، ولقائل أن يقول كيف تصح الإشارة إلى آية هي متأخرة عنها؟
فيقال انتصارا للإمام الشافعي الموجه إليه هذا الاعتراض وهو من عرفت، إنما صحت الإشارة إليه لا بالنسبة لترتيب نزول القرآن، بل بالنظر لترتيب القرآن الموجود في المصاحف الموافق لما هو في علم الله ولوحه، ومناسبة هذه السورة لما قبلها بحسب النزول ظاهر، لأن الذين يشملهم قوله تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) إلخ، منهم الذين سألوا حضرة الرسول عن تقسيم الأنفال وحلتها وحرمتها، كما أن مناسبتها لما بعدها صريح، لأن الذي وفق هؤلاء المؤمنين للتعاون والتناصر والتآخي بينهم هو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم المصدرة به السورة التي بعدها، وهكذا إذا دققت وجدت بين كل سورة وما بعدها وما قبلها مناسبة. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة آل عمران عدد ٣ و ٨٩ و ٣
نزلت في المدينة بعد سورة الأنفال وهي مئتان وثلاثة آلاف آية، وأربعمائة وثمانون كلمة، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا. لا نظير لها في عدد الآي. ونظائرها فيما بدئت به تقدم بيانها في سورة الأعراف.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى «الم (١) » «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) » ٢ سم مبالغة بمعنى القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت.
315
مطلب في وفد نجران ومناظرته مع حضرة الرسول، وبيان المحكم والمتشابه في القرآن العظيم:
نزل أوائل هذه السورة الكريمة في وفد نجران وكانوا ستين رجلا برئاسة العاقب عبد المسيح الذي لا يصدرون إلا عن أمره ورأيه في أمر دنياهم، والسيد الأيهم ثمالهم أي القائم بنفقاتهم ورحلهم، وابن حارثة بن علقمة أسقفهم أي حبرهم المطاع فيما يتعلق بأمور دينهم. ولم تر الأصحاب وفدا مهيبا مثلهم، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالإسلام، فقالوا أسلمنا قبلك، أي أنهم آمنوا بالمسيح المستقاة شريعته من الإنجيل والتوراة، ومن شريعة إبراهيم عليه السلام الذي سمى اتباعه المسلمين ودينه الإسلام، قال لهم يمنعكم ادعاؤكم بأن عيسى بن الله وعبادتكم الصليب، أي يهودا الإسخريوطي الذي صلب باسم المسيح عيسى عليه السلام، وأكلكم لحم الخنزير؟
فقالوا إذن من هو عيسى؟ فقال أنتم تعلمون أن لا يكون ولد إلا ويشبه أباه، قالوا بلى، قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الموت؟
قالوا بلى، قال ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا بلى، قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا لا، قال ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب؟ قالوا بلى، قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا بلى، قال فكيف يكون إلها ما زعمتم؟ فسكتوا، فأنزل الله صدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. وفي رواية قالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى كلمة الله وروح منه؟
قال بلى، قالوا حسبنا، فرد الله عليهم بأنه لا إله إلا هو الدائم الباقي القائم على كل شيء والمدبر لكل شيء، فكيف يثبتون له ولدا وهو لم يلد ولم يولد؟
قال تعالى «نَزَّلَ عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية «وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» على موسى وعيسى كما أنزله عليك، ولم يذكر الزبور لأنه عار عن الأحكام وهو عبارة عن أدعية واستغاثات، وكان إنزال تلك الكتب ومن قبلها الصحف «مِنْ قَبْلُ» إنزال
316
القرآن عليك يا أكمل الرسل وتشديد نزل أولا يدل على التكثير، لأن القرآن نزل نجوما فيما يقرب من ثلاث وعشرين سنة، وتخفيف أنزل ثانيا يدل على أن الكتابين نزلا جملة واحدة دفعة واحدة، وكل من هذه الكتب أنزلها الله تعالى «هُدىً لِلنَّاسِ» من الظلمات إلى النور «وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ (٣) » أعاد ذكره ثانيا تعظيما لشأنه وسماه فرقانا لفرقه بين الحق والباطل «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسله «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) » ممن كفر به كائنا من كان. واعلم أن نزول هذه الآيات بالوفد المذكور لا يمنع عمومها في غيرهم، بل هي عامة في كل ما ينطبق عليه معناها «إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» (٥) من كل نام وجماد وماء وهواء «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) » وفي هذه الآية رد على النصارى القائلين لو لم يكن عيسى إلها لما أحيا الميت بأن المستحق للألوهية هو الذي (لا يَخْفى عَلَيْهِ) الآية، وان الذي يصوره غيره لا يكون إلها، وقد دلت هذه الآية على قضية محكمة من معجزات القرآن مبهمة لم تخطر على قلب بشر وهي تماثل النطف، إذ تبين أخيرا بعد اختراع المكبرات أن نطف الحيوانات كلها مثل نطف ابن آدم لا يختلف بناؤها الجوهري ولا بعضها عن بعض إلا بالحجم والشكل والكثرة والقلة، وان التصوير لا يحصل إلا في الأرحام، ولولا ذلك لخرج الإنسان في صور حيوانات شتى، فمن أخبر محمدا صلّى الله عليه وسلم هذا الخبر الذي كان غيبا إذ لم تكن جامعة علمية نظامية ولا مدرسة كلية طبية في زمنه ليقال إنه تعلمها أو فهما منها ولذلك جاءت في كتابه، وقد أيدت هذه الآية بالآية ٨ من سورة الانفطار المارة في ج ١ وهي قوله تعالى (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) إذ لو أهملت هذه المهمة لولدت الناس غنما وكلابا وحميرا وشبهها، فورب السماء والأرض إن هذا من الإله القادر العظيم وإنه لحق مثلما أنكم تنطقون، وإنه لقول فصل وما هو بالهزل. ورحم الله الأبوصيري إذ يقول.
317
آيات حق من الرحمن محدثة قديمة صفة الموصوف بالقدم
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا عن المعاد وعن عاد وعن إرم
أنزله على من أنزل عليه قوله «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ» قطعية الدلالة على المعنى المراد لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير كما قال الأبوصيري:
محكمات فما يبقين من شبه لذي شقاق ولا يبغين من حكم
وإنما خص بعض الأحكام هنا وعممها أول سورة هود في ج ٢، لأن الإحكام الذي عممه هناك غير الإحكام الذي خصصه هنا، لأنه بمعنى الإحكام العام الذي لا يتطرق إليه التناقض والفساد، كإحكام البناء، لأن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدّمة عليه التي تخالف أحكامه، والمراد بالإحكام الخاص هنا أن بعض آياته قد يتطرق إليها التقيد والتخصيص بآيات أخرى منه لم تقيد ولم تخصص بغيرها وهي ما يسميه بعض العلماء نسخا من حيث لا نسخ بالمعنى المراد في أقوال علماء الناسخ والمنسوخ، تأمل. وهذه المحكمات لا تتأول لوضوح معانيها وظهور دلالتها فهي محفوظة من احتمال الشبه، ولهذا وصفهن الله بأنهنّ «هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ» المعول عليها بحيث لا يستهدفها التفسير والتصرف، ولا يحول حولها التغيير والتبديل بالتعبير إلى أبد الآبد «وَ» منه آيات «أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» لا يمتاز بعضها عن بعض فيتطرق إليها التفسير والتأويل، لأنها تحتمل معاني كثيرة فتحتاج للتأمل والتدبر، وقد يكل العقل عن فهم المراد منها فلا يتضح بعضه ولا يفهم المعنى منه إلا بالنظر والتدقيق والتأمل والتدبر، لأن منها ما يشبه غيرها لفظا ومعنى، وقد يشابه اللفظ اللفظ ويختلف المعنى، ويشابه المعنى المعنى ويختلف اللفظ، وإذا كان للفظ الواحد معان كثيرة صالحة لأن تؤول به أشياء متباينة فلا يعلم القصد الحقيقي الموضوع له إلا من قبل واضعه وهو الله عز وجل، لذلك فإن البشر عاجز عن معرفة المقصود منه. واعلم أن آيات القرآن كلها محكمة وحق وصدق لا بحث فيها من هذه الحيثية كما جاء في آية هود المتقدمة في ج ٢، ولكن من حيث أن كلمه يشبه بعضها بعضا في الحق والصدق، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، وجزالة النظم وصحة المعنى وحقيقة المدلول، فكله متشابه كما جاء في آية الزمر المارة في ج ٢
318
في قوله (كِتاباً مُتَشابِهاً) الآية ٢٣، وهذا هو وجه الجمع بين هذه الاية التي نحن بصددها والآيتين المذكورتين، ولا منافاة بينهما البتة، راجع الآية ٨٢ من سورة النساء الآتية، وعليه يصح أن نقول القرآن كله محكم على الوجه الذي بيناه في سورة هود، وكله متشابه على النحو الذي ذكرناه في سورة الزمر، ومحكم من وجه متشابهه من آخر على الصورة التي أوضحناها هنا. ثم اعلم أن الآيات المحكمة هي ما تشتمل على الأحكام من حلال وحرام، وأمر ونهي، ووعد ووعيد، وحدود مما قد أطلع الله عليه عباده على معناه، ولم تكرر ألفاظه بمعنى آخر، ولم يحتج إلى بيان، ومنه الآيات المدنيات في سورة الأنعام المكية في ج ٢ التي أولها (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) إلخ من ١٥١/ ١٥٣ إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ونظيرها الآيات المكيات من ٢٢/ ٢٦ ومن ٢٧/ ٣١ ومن ٣٤/ ٣٩ من سورة الإسراء المكية في ج ١ من قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (مَدْحُوراً)، وفيها الوصايا العشر المذكورة في التوراة والمشار إليها في الاصحاح الخامس من إنجيل منى بفصول متفرقة، والمتشابه ما عدا ذلك مما يحتمل التأويل والتفسير وتحوير المعنى بحسب ما يحتمله اللفظ من أوجه كثيرة. واحتاج للبيان وتكررت ألفاظه كالقصص والأخبار والأمثال من جميع ما يشبه بعضه بعضا، ومنه ما استأثر الله تعالى بعلمه فلا سبيل إلى معرفته كالخبر عن أشراط الساعة ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج وقيام الساعة والروح ومحل موت الإنسان ودفنه وكسبه ونزول الغيث وما في الأرحام، راجع الآية الأخيرة من سورة لقمان في ج ٢. ثم اعلم أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدا أو معاني كثيرة فالأول يسمى نصا كقوله تعالى (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)، والثاني إما أن تكون دلالته على مدلولين أو مدلولات متساوية أم لا فالأول يسمى المجمل كقوله تعالى (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فإنه يدل على الحيض والطهر راجع الآيتين ٢٢٢/ ٢٢٨ من سورة البقرة المارة، وقد بينا فيها أن الأرجح هو الحيض لا الطهر لتأييده بالحديث الصحيح المذكور هناك، وقد استدل من قال إنه بمعنى الطهر بقول الأعشى:
319
ففي كل عام أنت جاثم غزوة تشد لأقصاها غريم عرائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أراد أنه يخرج للغزو ولم يغش نساءه أيام طهرهن لأنه يضيع أيام الطهر بالسفر لا أيام الحيض. والثاني الذي يدل على مدلولات كثيرة فهو بالنسبة إلى الراجح ظاهر لقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) الآية ٢٢ من سورة النساء الآتية، وبالنسبة إلى المرجوح مؤول لقوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) لأنه قد يرد إلى قوله تعالى (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) الآية ١٤٥ من البقرة المارة «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ» عن الحق وميل إلى الشك كوفد نجران المار ذكره واليهود الذين أرادوا معرفة بقاء ملك محمد صلّى الله عليه وسلم من مجموع أعداد الحروف المقطعة أوائل السور القرآنية على حساب الجمل من حروف الأبجدية من ألف أبجد إلى ياء حطي آحاد، ومنه إلى س سعفص عشرات، ومنه إلى غ ضظغ مئات، إذ قالوا إن حرف نون يدل على خمسين، وق على مئة، وحروف الم تدل على بقاء ملك محمد إحدى وسبعين سنة، وحروف كهيعص تدل على ١٦٥ والمص على ١٦١، والراء على ٢٣١، والمرا على ٢٧١ سنة، ولذلك اختلط الأمر علينا فلا نؤمن بك، فنزلت «فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ» أي ليفتنوا الناس فيضلوهم عن دينهم بالتشكيك والتلبيس بداعي أن المحكم مناقض للتشابه على زعمهم «وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ» وطلب تفسيره حسبما تسول لهم أنفسهم، وتشتهيه أهواؤهم، وتميل إليه قلوبهم من التأويلات الزائغة. والآيات هذه بمعزل عما يتخيلونه من المعاني ويتصورونه من الحسبان، لقوله تعالى «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ» على الحقيقة المرادة منه «إِلَّا اللَّهُ» الذي أنزله، وذلك مثل قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وقوله بيده الملك) وكذلك ما جاء في المجيء والإتيان والقبض المنسوب إليه تعالى مما جاء في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المعبر عنها بآيات الصفات وأحاديثها، والحكمة في عدد زبانية جهنم، وحملة العرش، ودركات النار، ودرجات الجنة، وركعات الصلاة، وأيام الصوم، واختصاصه برمضان، وبعض أركان الحج، ووقت قيام الساعة، ومعنى الحروف المقطعة أوائل السور، ووقت طلوع الشمس من مغربها وظهور الدجال، ونزول عيسى
320
ابن مريم، وخروج الدابة، وبقية أشراط الساعة، وفناء الدنيا. وهنا تم الكلام بالوقف على لفظ الجلالة، وما بعده كلام مستأنف فيبتدئ القارئ بقوله «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» الثابتون فيه الذين أتقنوا أصوله وفروعه بحيث بلغوا من اليقين فيه حدا لا يتطرق إليهم الشك والشبهة معه، لأن هؤلاء الأبرار القادة الأخيار «يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ» أي المتشابه على ما هو عليه، واعتقدنا أحقيته على ما جاء من الله، واعترفنا أن أفهام البشر قاصرة عن معرفة المراد منه، وهذا هو إيمان التسليم وهو مذهب السلف الصالح كما أشرنا إليه عند كل ذكر يتعلق به، راجع الآية ٢١٠ من سورة البقرة المارة. واعلم أن هذه الجملة الأخيرة حالية، وفيها على هذه القراءة وفي الوقف على لفظ الجلالة في الجملة قبلها ثناء على الله تعالى بالإيمان بما جاء في كلامه بلا تكييف، وعليه جرى أكثر المفسرين وبه قال ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب والسيدة عائشة وأكثر التابعين وهو الموافق لسياق التنزيل، ووقف بعض القراء على كلمة (العلم) وتابعه بعض المفسرين، إلا أن الوقوف عليها يحتاج إلى كلام آخر ليكون مبتدأ، وفيه ما فيه من تعبير النظم وتبديل المعنى، تأمل. ويقول أولئك الكاملون العارفون «كُلٌّ» من المحكم والمتشابه منزل «مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» عز وجل ما علمنا منه وما لم نعلم، ويجب علينا الإيمان بهما ويفترض علينا أن نكل علم ما لم نعلم منهما إليه تعالى وتعمل بما علمناه.
روي عن ابن عباس أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه: الأول تفسير لا يسع أحدا جهله، الثاني تفسير تعرفه العرب بألسنتها، الثالث تفسير تعلمه العلماء بما علمهم الله، الرابع تفسير لا يعلمه إلا الله وهو مما استأثر الله بعلمه. والراسخون في العلم هم العلماء العاملون بما علموا المتقون فيما بينهم وبين الله، المتواضعون فيما بينهم وبين الناس، الخافضون جناحهم للمتعلمين منهم الزاهدون في الدنيا، المجاهدون أنفسهم في عبادة الله، المخلصون بأعمالهم له، ذوو القلوب الحيّة المتذكرون بما ذكرهم به ربهم «وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) » أمثال هؤلاء الراسخين الذين يقفون عند قولهم آمنا به الملهمين علمهم من الله عز وجل القائلين عند تلاوة المتشابه «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا»
عن الهدى كما أزغت قلوب أولئك المفتونين «بَعْدَ
321
إِذْ هَدَيْتَنا»
للإيمان بما جاء عنك في كتابك محكمه ومتشابهه بعد أن أرشدتنا لدينك الحق «وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» تثبتا بها على ذلك «إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (٨) كثير العطاء، اسم مبالغة من الواهب بلا أمل عوض أو قضاء غرض، وهذا هو معنى الهبة الحقيقية، ولما كانت القلوب محلا للخواطر والإرادات والنيات وهي مقدمات الأفعال وسائر الجوارح تابعة لها، خصها بالذكر، والقائلين أيضا «رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ» يوم البعث والفصل الذي ينكره عمه القلوب. والوعد في هذا اليوم الذي تجتمع فيه الخلائق بعد فنائها هو وعد حق «إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) » كما يحقق وعده في كل ما ذكره في كتابه وعلى لسان رسوله، فمن سبقت له السعادة في علمه هدي للأخذ بما أنزل الله فيحيا، ومن سبقت له الشقاوة زاغ قلبه فمال إلى التأول فوقه في الشك فهلك. وبعد أن بين الله تعالى في هذه الآيات التسع انفراده بالوهيته وبالحياة الأبدية واستحقاقه للعبادة وأنه هو الواضع للشرائع بما أنزل من الكتب على لسان الرسل، وانه واهب الحياة لكل حي، والعقل لكل عاقل ومنظم السنن للخلق، وجاعل الآيات عبرة لذوي العقول، وأنه يمهل الظالمين ليرجعوا إليه، وإن أصروا فلا يهملهم من عذابه لعدم اعتقادهم بما أوجبه عليهم من الأخذ بالكتب والطاعة للرسل، ثم ندد بالنصارى لاتخاذهم عيسى إلها بسبب بعض ما أظهره الله على يده من المعجزات، ولم يعلموا أن الله هو الذي منحه إياها لهدايتهم لدينه في زمنه، وأنه هو الذي كونه برحم أمه بلا أب وجعله آية منه لعباده، ليعلموا أن قدرته غير متوقفة على شيء من الأسباب الظاهرة، ثم انه بين لعباده أن القرآن منه محكم ومتشابه ليتفاوت الخلق في معرفته، وليعلموا من مغزاها وجوب الأخذ بظاهر المتشابه، لأن التأويل تحكم في مراد الله وهو مذموم عنده، ومن مقتضى الرسوخ بالعلم التصديق بظاهر ما أخبر الله كما يليق بجلاله لا كما تدركه عقولهم من الأمور المحسوسة، لأن أمور الله غير محدودة، وإدراك البشر محدود، والمحدود لا يحيط بغير المحدود، فالاعتراف بالعجز عما لا يدرك والسكوت عن السؤال فيه سدّ لسد مداخل الشيطان إلى الإنسان بما يؤدي لوضع الشك في القلب، والأحسن
322
لقليل العلم أن يكف عن التفكير في هذا ويتركه لأهل المعرفة الراسخين في العلم، لأن قلوب العارفين لها عيون، ترى ما لا يراه الناظرون. ثم شرع في بيان حال الكافرين عنده فقال جل جلاله «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» في الآخرة لأنهم تفكهوا في الدنيا وأخذوا لذتهم منها، فجاءوا للآخرة بلا عمل صالح «وَأُولئِكَ» الكافرون بالله ورسله الذين ابتاعوا الآخرة بالدنيا والرحمة بالعذاب «هُمْ وَقُودُ النَّارِ» (١٠) ليس لهم عند الله ما يدفع عنهم عذابها،
فدأبهم التكذيب والجحود «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» مع السيد موسى عليه السلام «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» مع رسلهم «كَذَّبُوا بِآياتِنا» التي أنزلناها لهم على أيدي رسلهم كما كذب أولئك «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ» وأهلكهم بتكذيبهم «وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» (١١) إذا عاقب وتفيد هاتان الآيتان أن الإنسان مهما أوتي من قوة مالية أو بدنية لا يقدر أن يقاوم قدرة الله، وأن الكفر بآياته سبب لنقم الدنيا والآخرة، فعلى العاقل أن يعتبر بمصير الأمم السالفة ويركن للأخذ بما جاءه على لسان رسل ربه كي ينجو مما حلّ بالمخالفين، فيا سيد الرسل «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» من قومك المحدّين لك «سَتُغْلَبُونَ» في هذه الدنيا حتما مهما كنتم عليه من قوة، ثم تقتلون وتموتون «وَتُحْشَرُونَ» في الآخرة فتحاسبون على كفركم ثم تساقون «إِلى جَهَنَّمَ» لتجاوزا على كفركم «وَبِئْسَ الْمِهادُ» (١٢) مهاد جهنم.
مطلب آيات الله في واقعة بدر. ومأخذ القياس في الأحكام الشرعية. وأن الله خلق الملاذ إلى عباده ليشكروه عليها ويعبدوه:
قال ابن عباس وغيره: لما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش وأسلموا له، فقد عرفتم أني نبي مرسل في كتابكم، فقالوا إنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب، فلو قاتلناك لعرفتنا، فأنزل الله تلك الآية وهذه «قَدْ كانَ لَكُمْ» أيها اليهود عبرة «آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا» في بدر «فِئَةٌ» قليلة مؤمنة «تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يعني حضرة الرسول وأصحابه «وَأُخْرى» فئة
323
كثيرة «كافِرَةٌ» يعني كفار قريش «يَرَوْنَهُمْ» أي الفئة الكافرة ترى المؤمنة «مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ» خلالهم فيكونون ثلاثه أمثالهم، والحال أنهم دونهم لأن المؤمنين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، والكافرون ألفا، فالقول بأنهم ثلاثة أمثالهم أوفق للمعنى، وهذا على حد قول من عنده دراهم فيقول أنا محتاج لمثليه أي ما عداه ليكون ثلاثة، فتكون هذه آية أخرى وحضور الملائكة آية ثالثة «وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده «إِنَّ فِي ذلِكَ» الغلب الواقع من القليل للكثير وتكثير القليل وتقليل الكثير بالنظر «لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (١٣) وعظة عظيمة لأولي البصائر، فالذين لا ينتفعون ببصرهم ولا ببصائرهم يخذلون ويهلكون. يفهم من هذا أن النصرة بالقوة المعنوية أكثر منه بالقوة المادية، وأن الله يكتبه لمن يشاء بقطع النظر عن العدد والعدد، وأن الثقة بالله تولد القوة في القلوب، وبسببها يكون الظفر، ويستدل منها على وجوب الاتعاظ بالحوادث وقياسها على الوقائع. ومن هذه الآية والآية الثانية من سورة الحشر الآتية أخذ العلماء القياس في الأحكام الشرعية كما أشرنا إليه في الآية ٣٥ من سورة الإسراء المارة في ج ١، وذلك لأن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره وقياسه عليه. قال تعالى «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ» المعلمة بالغرّة والتجميل الحسان الراعية بنفسها «وَالْأَنْعامِ» من الإبل والغنم وغيرها «وَالْحَرْثِ» يدخل فيه جميع الزروع والأشجار «ذلِكَ» المذكور من أصناف الزينة هو «مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» الواطية السافلة الفانية بما فيها «وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (١٤) في الآخرة التي فيها من أسباب الزينة ما هو ثابت لا يبيد، ولم ير مثله في الدنيا إلا من حيث الاسم، وان هذا التزيين في الحقيقة من عند الله تعالى، فمنهم من يسوقه تزيينه إلى الشقاء، ومنهم إلى السعادة، كما هو مدون في أزله، لأن الله تعالى هو الفاعل الخالق لأفعال العباد كلها، راجع الآية ٦١ من البقرة المارة والمحالّ التي ترشدك إليها تعلم أن الله تعالى خلق هذه الملاذّ وغيرها لعباده كي يشكروه ويعبدوه، قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)
324
الآية ٢٩ من البقرة المارة أيضا، وقال تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) الآية ٣٢ من سورة الأعراف ج ١ لا ليكفروا به ويجحدوا نعمه، وإنما قسم النساء في هذه الآية لأنهن أصل الملاذ الدنيوية، وما بعدهن من تتمة الشهوات التي يميل إليها الطبع البشري في الدنيا، ولهذا جاءت مرتبة على فطرتهم لما فيها من التباهي والتفاخر والتعالي، وقد جاءت هذه الآية بعد ما بيّنه الله تعالى في الآيات قبلها مما يحدثه في قلوب المجاهدين من الثبات وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم ووجوب الثقة بالله أعقبها بذكر ما من شأنه أن يثبط الهمم ويحول دون تسابق الناس في ميدان الجهاد، فذكر فيها أن الانهماك في هذه الشهوات يضعف محبة الله في القلب، ويثبط عن الإقدام في سبيل الله فعلى العاقل أن لا يندفع وراءها، لأنها مهما كانت فهي فانية، وأن يشغل نفسه بما يؤدي لطاعة الله ورسوله. قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء اللاهين في زحارف الدنيا «أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ» المذكور كله الذي سيكون «لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ» في الآخرة هو «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» حسان فيها مقصورة لا يراهن غيرهم ولا يرون غيرهن «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» (١٥) يؤثر ما عنده من العطاء الخلد لمن يؤثر الآخرة على الدنيا، وقد حث الله تعالى على ترك الشهوات الدنيوية لأنها فانية وقد تؤدي بصاحبها إلى الخسران في الآخرة، ورغب بما عنده من النعيم الباقي ليعملوا بما يؤملهم إليه. وهذه الآية تدل على أن الله تعالى هيأ لعباده المتقين
جزاء ما قدمت أيديهم من الخير، وعلى مخالفة ما تشتهيه أنفسهم الطّماحة، ثم وصفهم بقوله «الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ» (١٦) وهؤلاء المتحققون بتلك النعم النفيسة قد خص منهم «الصَّابِرِينَ» على البلاء «وَالصَّادِقِينَ» بما يقولون ويفعلون لذوي الحاجات وأرحامهم «وَالْقانِتِينَ» لربهم المتهجدين بالليالي «وَالْمُنْفِقِينَ» من أموالهم على الأصناف الثمانية المذكورين في الآية ٦٠ من سورة براءة الآتية «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ» لذنوبهم آناء الليل وأطراف النهار وخاصة «بِالْأَسْحارِ» (١٧)
325
ثلث الليل الأخير وإنما خص الاستغفار بها، لأنها أوقات الإجابة للقائمين وأوقات توغل نوم الغافلين. قال تعالى «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» بأنه الإله المنفرد الخالق المحيي المميت «وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ» شهدوا بما شهد الله ذاته جلت وعظمت، وشهدوا أنهم من جملة خلقه، وأنه هو وحده المدير لشنون الكون، وانه كان ولم يزل «قائِماً بِالْقِسْطِ» العدل ومتصفا بصفات الكمال «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (١٨) في تصرفاته وأفعاله وأحكامه، وبناء على هذه الشهادة الصادرة من الرب الجليل صاحب الإعطاء والمنع يجب على الخلق كافة الاعتراف بتوحيد الرب وتنزيهه عن جميع النقائص. لما قدم أحبار الشام إلى المدينة قالوا ما أشبه هذه بصفة مدينة النبي الذي يخرج آخر الزمان، ولما دخلوا عليه عرفوه بالصفة الموجودة في كتبهم، فقالوا له أنت محمد؟ قال نعم، قالوا وأنت أحمد؟ قال نعم، قالوا فإنا نسألك عن شيء، فإن أخبرتنا آمنا بك وصدقناك، قال اسألوا، قالوا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله هذه الآية فأسلموا لما رأوا من الحق والصدق فيه وفي وصفه الكامل الشامل.
قال تعالى «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» راجع الآية ٣ من المائدة الآتية (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) والآية ٨٥ الآتية وهي (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» في نبوة محمد ودينه «إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بأن الإسلام هو الدين الحق، فاختلفوا فيه «بَغْياً بَيْنَهُمْ» وحبا لبقاء الرياسة فيهم، فقالت اليهود لا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى لا دين إلا دين النصرانية كما مرّ في الآية ١١٢ من البقرة، فردّ الله عليهم بأن الدين المرضيّ عند الله هو الإسلام «وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ» ويتخذ إلها من دونه ودينا غير دينه «فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (١٩) يحاسب عباده على ما يقع منهم وأنه يجازيهم إن شاء «فَإِنْ حَاجُّوكَ» يا سيد الرسل وجادلوك في الدين وخاصموك من أجله «فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ» وحده وخص الوجه لشرفه وهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل بالنسبة إلينا، والله منزه عن الجزئية والكلية وعن جميع ما هو من سمات البشر «وَمَنِ اتَّبَعَنِي»
326
أسلموا لله أيضا، ومن هنا يراد معناه الدال على الجمع أي انقادوا بكليتهم لله وأخلصوا له الدين إخلاصا كاملا «وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» من اليهود والنصارى «وَالْأُمِّيِّينَ» من مشركي العرب وغيرهم ممن لا كتاب لهم «أَأَسْلَمْتُمْ» مثل إسلامنا هذا بأن نعبد الله وحده ولا نجعل له ولدا ولا شريكا «فَإِنْ أَسْلَمُوا» وانقادوا لله مثلكم وخضعوا خضوعكم إلى الدين الحق الثابت في كتبهم والمعترف به عند الشدائد وأسلموا إسلاما حقيقيا «فَقَدِ اهْتَدَوْا» إلى الحق وصاروا مثلكم «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عن الإسلام وأعرضوا عنكم ولم يعترفوا بما أوجبه الله فاتركهم «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ» فقط، وقد قمت به وما عليك أن لا يهتدوا، لأن القبول والاهتداء على الله «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» (٢٠) والبصير يعلم بمن يؤمن ومن يصر على كفره. وهذه الآية محكمة لا منسوخة كما قاله بعض المفسرين، لأنها مسوقة لتسلية حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم ليخفف عن نفسه من شدة حرصه على إسلامهم ويهون من تألمه على إعراضهم، وقد وضح الله لهم الشريعة التي يريد من خلقه السير عليها، وان الأديان السماوية يرجع أساسها إلى دعوة واحدة هي التوحيد لله، وان الاختلاف وقع من تلاعب الرؤساء في الديانتين اليهودية ولنصرانية بسبب ما أدخلوه من تحريم وتحليل وتغيير وتبديل على حسب أهوائهم، وان من يدعوا الناس إلى الحق فقد قام بواجب الدين ولا يضره عدم الإجابة وإعراض الناس عنه
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ» من العلماء ولأولياء «مِنَ النَّاسِ» جميعهم أولهم وآخرهم «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (٢١) عاجل وآجل، كان أنبياء بني إسرائيل بوحي إليهم بإنذار قومهم دون أن يأتيهم كتاب من الله، لأنهم ملزمون بأحكام التوراة، فكانوا يقتلونهم فيقوم رجال ممن آمن بهم فينهونهم ويأمرونهم بالكفّ عنهم، فيقتلونهم أيضا، فأخبر الله نبيه محمدا بما كان منهم ليقصه على يهود المدينة وغيرهم فيعلموا أنه بإخبار الله إياه لعلهم يؤمنون، فلم يتجع بهم «أُولئِكَ الَّذِينَ» هذه صفتهم «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا» ولعنهم الناس وأخزوهم على فعلهم ذلك فيها «وَالْآخِرَةِ» تحبط
327
فيها لأنهم يحرمون ثوابها بسبب جناياتهم تلك «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (٢٢) يخلصونهم من عذاب الله. بين الله عز وجل في هذه الآية مصير أولئك الكفرة وما أعده لهم ولمن على شاكلتهم، وذكر فيها شدة نقمته على اليهود لكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ومحاربتهم لدعوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وإن كل من يتصف بإحدى هذه الخصال الثلاث هو كافر لا ينتفع بعمله الحسن، إذ ظهر أنه لم يرد به وجه الله، وتفيد هذه الآية أن محاربة من يدعو إلى الحق تحبط الأعمال كالكفر، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب من المؤمن حتى في حالة الخوف، لأن الله تعالى مدحهم في هذه الآية وجعل منزلتهم بعد الأنبياء، وقد جاء في الحديث الصحيح أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. وقال عمر بن عبد الله:
لا نعلم عملا من أعمال البر أفضل ممن قام بالقسط فقتل عليه. وبعد أن أمر الله رسوله بالإعراض عن الكافرين وأخبره بمصيرهم أراد أن يخفف من تألمه ويقلل من حزنه على عدم قبولهم نصحه وإرشاده فقال جل قوله «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً» حظا وافرا «مِنَ الْكِتابِ» وهم اليهود «يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» فيما يختلفون فيه من أحكام التوراة. وقال بعض المفسرين القرآن لأن ما فيه موافق للتوراة غالبا «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ» عن التحاكم إليه «وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (٢٣) عنه مع أن الواجب يدعوهم للانقياد لأحكامه والإذعان لحكمه «ذلِكَ» عدم قبولهم وإعراضهم «بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» بقدر أيام عبادتهم العجل الواقعة من أسلافهم «وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» (٢٤) من زعمهم ذلك ومن قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، قال ابن عباس: دخل رسول الله على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله، فقال له فيهم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت يا محمد؟ قال على ملة إبراهيم، قال إن إبراهيم كان يهوديا، فقال صلّى الله عليه وسلم هلموا إلى التوراة لتحكم بيننا، فأبيا فنزلت. وقيل إن رجلا زنى بامرأة فقضى رسول صلّى الله عليه وسلم برجمه، فأنكرا عليه، فقال ذلك، فنزلت. قال تعالى مندّدا صنيعهم هذا «فَكَيْفَ» يكون حالهم «إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ
328
فِيهِ»
المحقق وقوعه الثابت جمع الناس فيه «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» جزاء ما قدمت في الدنيا من العمل «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (٢٥) بزيادة على جزائهم ولا نقص من ثوابهم، وتشير هذه الآية إلى التعجب من حال المذكورين فيها في الآخرة، إذ تخرس ألسنتهم الطوال فيها وتخمد أنفسهم الشامخة وتقتصر همتهم المتكابرة فيبتهون، وتشخص أبصارهم فيذلون، وتفيد أن من دعي إلى الاحتكام إلى كتاب الله وجبت عليه الإجابة، وتومىء إلى أن مجرد الانتماء إلى الأديان أو الانتساب إلى الأنبياء أو الاتصال بالأولياء لا يكون سببا لسعادة الإنسان، ولا مدادا إلى نجاته من عذاب الله، بل لا بد من العمل بالشريعة والطاعة إلى الأوامر أو النواهي، لأن من الحمق أن يدعي الرجل التمسك بدين لا يخضع لحكمه، ومن الخطأ أن يدعي الانقياد إلى الرسل ولا يعمل بإرشادهم ونصحهم، ومن الجهل أن يتلو كتابا لا يفقه معناه ولا يميل لمرماه، ومن الغرور أن يتكل على ما لم يعتقد صحته.
هذا وبعد أن بين الله تعالى لرسوله ما يقوله أهل الكتاب من التعنت وما يتذرعون به من الإعراض عن الإيمان أراد أن يبين له أن السر في ذلك هو إرادته لا غير فقال جل قوله يا سيد الرسل «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٢٦) ومن بعض قدرتك أنك «تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» بصورة ظاهرة غير محسوسة ومعلومة غير معروفة، راجع الآية ٤٩ من سورة الأنفال المارة فيما هو من هذا القبيل. أما معنى قوله «وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» فقد مرّ في الآية ١٣ من سورة فاطر في ج ١ وهي مبدوءة بالياء كهذه، ولا يوجد في القرآن آية من نوعها مبدوءة بالتاء غير هذه، فراجعها.
«وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (٢٧) تقدم تفسير مثلها كثيرا. قال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارسل والروم في أمته، وقالت اليهود لا نطيع رجلا ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية.
329
مطلب في معنى الحساب وعلامة رضاء الله على خلقه وموالاة الكفرة وتهديد من يواليهم أو يحبتهم:
واعلم أن كلمة الحساب تأتي على ثلاثة أوجه بمعنى التعب والسبب والتغير والبسط كما هي الحال هنا، وبمعنى العدد، كما في قوله تعالى (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الآية ١٤ من سورة الزمر في ج ٢، وبمعنى المطالبة كما في قوله تعالى (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الآية ٣٩ من سورة ص في ج ١، فكل ما جاء في القرآن العظيم من هذه اللفظة لا يعدو احدى هذه المعاني الثلاثة.
وما جاء في بعض الكتب المنزلة: أنا الله ملك الملوك ومالك الملك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا لي أعطفهم عليكم. وجاء في الخير أن موسى عليه السلام قال فما علامة سخطك من رضاك يا رب؟ فأوحى إليه إذا استعملت على الناس خيارهم فهو علامة رضاي، وإذا استعملت شرارهم فهو علامة سخطي. وهذا على حد قوله كما تكونوا يولى عليكم. وقوله أعمالكم عما لكم.
قالوا للحجاج الثقفي لم لا تعدل وقد شاهدت زمن عمر؟ قال تبذروا لي أنعمر لكم.
أي كونوا كأبي ذرّ من أصحاب عمر في الزهد والتقوى أكن لكم كعمر في العدل والإنصاف. وهذا لا يخلصه من الله فيما جار في حكمه إذ كان عليه أن يعدل في كل حال، لأن الحاكم مكلف بالعدل أحسن الناس أم أساؤوا. وتفيد هذه الآيات أن العزة والكرامة من منح الله تعالى ينشرها على من يشاء من عباده وأن الخير كله منه، وان تقسيمه على الخلق تابع لسنن مطردة عنده تعالى يجعلها في صالح خلقه، كما أن تفاوت ساعات الليل والنهار وتداخلها بحسب تطور الفصول هو في مصلحتهم أيضا. والحكم الشرعي وجوب الاعتقاد بما ذكر من المشيئة لا على الأسباب، لأن القول بترتب الأسباب على المسببات يستلزم الدور والتسلسل ويتعارض مع كمال القدرة، وان ما قضت به حكمة الله من السنن والأسباب الظاهرة عبارة عن وسائل ومظاهر خارجية لا تأثير لها في خلق الحوادث وإيجاد المسببات، لأن الله تعالى له أن يغير تلك السنن ويعطل هاتيك الأسباب التي نراها
330
ويفعل ما هو من مقتضى مشيئته. وبعد أن أمر الله تعالى رسوله في ذلك الدعاء المشار إليه في الآيتين المارتين وأفهمه بأنه هو الذي يملك الملوك ويمنح العزة لمن يشاء من عباده ليتحققوا ويتيقنوا أن لا يكون شيء إلا بإرادته، طفق يحذره من الاتصاف بأحوال لا تتفق وكرامة المؤمن الصادق الواثق بربه، فقال «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ» أنصارا لهم وأعوانا على غيرهم «مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» إذ قد تؤدي موالاتهم للتفريط في حقوق الله والإفراط في حقوق المؤمنين «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» فيواليهم ويحبهم وينقل أخبار المسلمين إليهم «فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ» ولا قيمة لهم عند الله، ولا وزن، وقد يفضي لغضب الله انظر لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) الآية ١٤٤ من سورة النساء الآتية، وان الله تعالى نهى حتى عن اتخاذ الآباء والأبناء أولياء إذا كانوا كفارا كما سيأتي في الآية ٢٥ من سورة التوبة الآتية. وسيأتي في الآية ١١٨ مما هو من هذا القبيل وأشد، لأن موالاتهم توجب معاداة الله، وقيل في هذا:
تودّ عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب
أي ليس الحمق عنك بمفارق بل هو ملازم لك ما دمت على هذه الحالة وقول الآخر:
إذا والى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
وهذا تكرر النهي عن ذلك في القرآن العظيم كما سيأتي في الآيتين المذكورتين والآية ٥٤ من سورة المائدة وأول سورة الممتحنة وآخر سورة المجادلة الآتيات، فضلا عما جاء في الأحاديث الصحيحة من تحذير موالاتهم بصداقة أو مصاعرة أو قرابة أو نسبة أو لأمر ما من أسباب المعاشرة والتقرب إليهم، لأن المحبة يجب أن تكون لله وفي الله ومن أجله، والبغض كذلك في سبيل الله ولا نتهاك حرماته، ولأجل أوليائه، وهذا أصل من أصول الدين التي يجب التقيد فيها، وهذا لا يعني عدم مراعاة حقوقهم ومحافظتهم وكف الأذى عنهم وعيادتهم في الأفراح والأتراح وزيارتهم ومجالستهم وغيرها، لأنه حق على المسلمين كلهم لقوله صلّى الله عليه وسلم لهم ما لنا وعليهم ما علينا إذا قاموا بالشروط المأخوذة عليهم وأدّوا الجزية المفروضة عليهم،
331
أما إذا خالقوا وتجاوزوا ونقضوا فلا، والحب المذموم هو الذي يوجب ضررا دينيا أو دنيويا لعامة المسلمين وخاصتهم، وسيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المشار إليها آنفا إن شاء الله تعالى القائل «إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» فتخافوا فتنة محققة أو بغلبة الظن تضر بالمسلمين وليس بوسعكم دفعها ولا تجدون من يعصمكم منها، فإنه يجوز لكم موالاتهم ظاهرا مع الكراهة الباطنة كالمسلم المنفرد في دار الحرب، وفيما إذا ظهروا على المسلمين والعياذ بالله، ففي هاتين الحالتين وشبههما فلا بأس من مداهنتهم ومداراتهم كمن أكره على الكفر، فإنه يجب عليه أن يكون قلبه مطمئنا بالله والإيمان به كما بيناه في الآية ١٠٦ من سورة النحل المارة في ج ٢ ويشترط أن يكون الخوف صحيحا، وأن يكون القتل أو تلف العضو محققا أو بغلبة الظن، لأن دفع الضرر عن النفس بقدر الإمكان واجب، وإلا فلا يجوز حتى انه لو صبر على القتل ولم باطنهم في أمر المسلمين فهو خير له، وله عند الله الأجر العظيم لأخذه بالعزيمة وترك الرخصة، لأن الرخصة إنما تباح إذا لم ينشأ عنها مضرة عامة للمسلمين فإذا تحقق حصولها ولو بغالب الظن فليس له الأخذ بها، تدبر «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» من أن تخالفوا أمره أو تولوا أعداءه إذ يشتد غضب الله لهذين لأمرين أكثر من غيرهما «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» (٢٨) والمرجع فلا مهرب لكم أيها الناس منه. واعلموا أن من تيقّن أن مرجعه إلى الله عمل لما به رضاء ولم يقدم على ما نهاه. هذا، وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما ذهب رسول الله إلى بدر، وكان تبعه رجل من المشركين ذر جرأة ونجدة، وان المسلمين فرحوا به، فلما رآه الرسول قال له ارجع فلن أستعين بمشرك ويروون هذا عن عائشة رضي الله عنها فلا نصيب له من الصحة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم أي أعطاهم من الغنيمة شيئا رآه، لأن الرضخ عطاء غير كثير أقل من سهم المجاهد، واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، فالاستعانة بهم جائزة بشرط الحاجة والوثوق، وبدونهما لا، وعلى هذين الشرطين يحتمل خبر عائشة إن صح، وما رواه الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا وله خلفاء من اليهود، فلما خرج صلّى الله عليه وسلم يوم الأحزاب
332
قال له إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معك، فستظهر بهم على العدو، بعيد أيضا، لأن حادثة الأحزاب لم تقع قبل، أو عند نزول هذه هذه الآية وانطباقها عليها لا يعني أنها نزلت فيها، وكثير من الآيات مما نزل في مكة ينطبق على حوادث وقعت في المدينة وبالعكس، فلا يقال إنها سبب للنزول.
وعلى هذين الشرطين جاز التزوج بالكتابيات واتخاذهن والرجال منهم خدما، أما من قال بعدم جوازهم عمالا واستخدامهم بالدواوين الحكومية فهو مقيد بنفي هذين الشرطين أيضا، أما إذا كانوا متلبسين بالشرطين المذكورين وهما الحاجة والوثوق فلا بأس، تدبر. وكونهم من أهل الذمة الذين تنبغي مجاملتهم واحترامهم ومخالطتهم بالحسنى يؤيد ما نحن فيه، لأن هذا من البر الذي أمرنا الله تعالى به في الآية ٨ من سورة الممتحنة الآتية فراجعها. وقالوا أنزلت هذه الآية في حاطب ابن بلتعة، أو في عبد الله بن أبي بن سلول، وأضرابه من المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهي عامة في كل من هذا شأنه وفي من يظهر هو عورات المسلمين لأعدائهم خاصة، وما ذكرناه أعلاه الحكم الشرعي في هذه الآية، ومنه يؤخذ عدم جواز ولاية الكافر على المسلم، بأن يكون فيما أو ووصيا عليه، ولا يعقل المسلم جناية الكافر ولا الذمي لما فيه من الولاية له والنصر وان الاتقاء المرخص به في هذه الآية بشترط فيه تحقق تلف النفس أو بعض الأعضاء، أو ضرر كبير يحل فيه، والأحسن أن يأخذ بالعزيمة إذا كان فيه دفع ضرر عام عن المسلمين، أو فيه إعزاز دين المسلمين فيما يتعلق بالحروب وغيرها. وتومىء هذه الآية إلى جواز عقد المعاهدات والاتفاقات معهم إذا ضمن فيها مصلحة المسلمين، لأن النهي لا يمنع من هذا. قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الذين يوالون الكفرة خلسة «إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ» من مودتهم ومحبتهم «أَوْ تُبْدُوهُ» غير مبالين به ولا بإخوانكم المؤمنين «يَعْلَمْهُ اللَّهُ» ويعاقبكم عليه وكيف يخفى عليه حالكم هذا وهو يطلع «وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٢٩) لا يعجزه من وما فيهما، واحذروا أيها الناس «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً» مثل ما عملت لم
333
يزد ولم ينقص «وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ» محضرا أيضا كما عملته، وحذف لفظ محضر من هذه الجملة لدلالة وجوده في الأولى، كما يحذف مثله من الأول بدلالة وجوده في الثانية، وهو كثير في القرآن، ومن محسنات البديع في الكلام ولبحثه صلة في الآية ٨٦ من سورة النساء الآتية. وإن النفس التي عملت السوء «تَوَدُّ» في ذلك اليوم العصيب «لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ» بين عملها السيء «أَمَداً بَعِيداً» زمانا ومكانا بحيث لا تراه «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كررت هذه الجملة تأكيدا لزيادة الاعتناء بالاجتناب «وَاللَّهُ رَؤُفٌ ٣٠» ولذلك يحذرهم بالتباعد عما يضرهم لئلا يؤدي بهم إلى الهلاك.
مطلب من معجزات القرآن تماثيل الأعمال كالسينما وفي طاعة الله ورسوله التي لا تقبل الأولى إلا مع الثانية وهناك من الأمثال ما يقاربها:
تفيد هذه الآية أن أعمال العباد كلّها تجسم لهم يوم القيامة كما وقعت منهم وتعرض عليهم بأزمنتها وأمكنتها وهيئتها كما يعرض شريط السينما الآن فيسرون لما فيها من الخير ويساؤن لما فيها من الشر، وهذه من معجزات القرآن العظيم إذ لم يغفل شيئا مما وقع في الدنيا من أولها إلى آخرها، راجع الآية ٨٨ من سورة الأنعام والآية ٤٩ من سورة الكهف المارتين في ج ٢. وتشير أيضا إلى وجوب عدم التعرض لذات الله تعالى بالبحث عن كنهها أو تصورها وهيئتها، لأنه قد يوقع في نسبة التجسيم والتكييف وهما محالان على الله تعالى، ولهذا قال (ص) :
تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته متهلكوا. وترمي إلى أن العبد إذا كان يوم القيامة تمثل له أعماله، وأنه يسر لما حسن منها ويساء لما قبح، فعلى العاقل أن لا يقدم على ما يعاقب عليه، ويكثر مما يثاب عليه.
قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه وإلى وفد نجران القائلين إنما نقول إن عيسى بن الله محبة فيه وتعظيما له «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٣١» نزلت هذه الآية ردّا لهم وتعليما بأن طاعة الله هي محبته ولذلك أمره بقوله لهم «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» لتكونوا أحبابه وأنبيائه على أنه هو الأب الأكبر
334
لجميع الخلق «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك ولم يمتثلوا أمرك وأصروا على كفرهم «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) » ومن لا يحبه الله فإنه يبغضه يا ويله، لهذا فإنه تعالى رسم لعباده في هذه الآية طريق القرب لرضائه والحصول على محبته، وبين لهم أن ذلك يكون بمتابعة رسوله في أقواله وأفعاله وفي كل ما يندب إليه.
نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سلول إذ قال إن محمدا يريد أن يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى. مشعرة بأن طاعة الرسول هي طاعة الله ولا تتم طاعة لله إلا بطاعة الرسول. والحكم الشرعي أن طاعته واجبة كطاعة الله، والامتناع عنها يعد كفرا يعاقب عليه من المقالات التي لا تقبل الجملة الأولى منها إلا بالثانية المعطوفة عليها، فلا تقبل طاعة الله مع عدم طاعة الرسول، وإن زعم أنه مطيع ومطيع، والثانية قوله تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية ١٤ من سورة لقمان في ج ٢، فمن شكر الله ولم يشكر والديه فكأنه لم يشكر الله ولا يقبل منه شكره إن لم يشكر والديه. والثالثة قوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) الآية ٤٣ من سورة البقرة المارة وهي مكررة كثيرا في المكي والمدني، فمن لم يزك كأنه لم يقم الصلاة. وهنا يقال أربعة تحتاج إلى أربعة: ١- الحب إلى الأدب، ٢- والسرور إلى الأمن، ٣- والقرابة إلى المودة، ٤- والعقل إلى التجربة. وأربعة تؤدي إلى أربعة: ١- العقل إلى الرياسة، ٢- والرأي إلى السياسة، ٣- والعلم إلى التقوى، ٤- والحلم إلى التوقير.
وهنا مثلثات أخر: المؤمن لا يخلو من قلة أو ذلة أو علة. وثلاثة لا ينامون:
البردان والخائف والجائع. وثلاثة لا يبردون: الوجه والجاهل والمجنون، أي لا يعرفون البرد ولا مضرته. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني. وقيل:
335
وعليه فإن من ادعى محبة الله وخالف سنة رسوله كان كاذبا في دعواه، لأن من أحب حبيبا أحب من يتصل به، حتى داره وكلبه، وقال العامري:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا محال في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
هذا وبعد أن بين الله تعالى لعباده طريق الظفر بمحبته وسبيل نيل رضوانه، أراد أن يبين لهم بعض من اصطفى من عباده فقال عز قوله «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ» إسماعيل وإسحاق ويعقوب «وَآلَ عِمْرانَ» موسى وهارون وأولادهم أو مريم وعيسى إذ قد يكون المراد بعمران والد مريم والأول أولى والله أعلم، واختارهم لذاته «عَلَى الْعالَمِينَ» (٣٣) من أهل زمانهم وهذان الآلان النجيان كانا «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ» على دين واحد وعقيدة واحدة «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لمن يدعوه بنية خالصة «عَلِيمٌ» (٣٤) بمن يؤهله لهذا الاصطفاء، لأنه أعلم حيث يجعل رسالته. قال ابن عباس: قالت اليهود نحن من ذرية إبراهيم وإسحق وعلى دينهم، فأنزل الله هذه الآية ترد عليهم بأن الله اصطفى هذه الذرية للإسلام وإبراهيم كان مسلما، فلستم من ذريته ما دمتم على يهوديتكم. واذكر يا سيد الرسل لقومك وأمتّك «إِذْ قالَتِ» حنّة بنت فاقوذ «امْرَأَتُ عِمْرانَ» بن باثان أحد رءوس بني إسرائيل، قالوا كان بينه وبين عمران والد موسى ألف وثمنمئة سنة، ومقول القول «رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً» عتيقا خالصا لعبادتك لا أسفله بشيء من أمور الدنيا «فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لدعائي «الْعَلِيمُ» (٣٥) بنيتي وحقيقة نذري «فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» بأن هذه الأنثى خير من كثير من الذكور لما سيكون منها إلا أنه كان متعارفا عندهم أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة، لذلك قالت ما قالته على سبيل الاعتذار «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى» في جواز تحريرها وصلاحيتها للنبوة «وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ» ومعناه الخادمة والعابدة «وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها» أعيذها بك يا رب «مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» (٣٦) وأحصنها
336
باسمك من غوايته فلا تجعل له سبيلا عليها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: ما من بني آدم من مولود إلا نفسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من نخسه إياه إلا مريم وابنها. ثم يقول ابو هريرة اقرأوا إن شئتم (وَإِنِّي أُعِيذُها) الآية. قال تعالى مجيبا لهذه النادرة الكريمة «فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً» بأن غرس فيها الصلاح والعفّة والثقة بالله تقديرا لثقة أمها به وإخلاصها إليه وسلك بها طريق السعادة وسوى خلقها فنشأت كأحسن نساء زمانها «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» بأن جعله فيما عليها وضامنا لمصالحها وهو زوج خالتها إذ توفي والدها وهي في بطن أمها فتربت في حجرة تربية عالية، وناهيك بتربية معلمي الناس التربية حتى إذا كبرت بني لها محرابا في الكنيسة مرتفعا، وصار يتعاهدها وحده ويأتيها بطعامها وشرابها، وأول ما رأى من كرامتها على ربها أنه «كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً» فاكهة بغير أولها ولما تكررت رؤيته لتلك «قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا» الرزق ومن أين أتاك ومن الذي جاءك به وهو لا يوجد لفوات موسمه وعدم حلول أوانه «قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» لأني أراه بحضر إلى دون أن يأتي به أحد ولا تعجب أيها العم «إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (٣٧) ومن حيث لا يحتسب الإنسان بمحض الفضل مما لا يدخل تحت عد أو حصر من شيء لا ينقص ولا يحد أي أنه من ثمر الجنة إذ لا يوصف غيره بما ذكر وهذا من الإحسان الذي يأتي بلا كسب ولا عناء.
مطلب ولادة مريم من حنة وتزويج زكريا من إيشاع وقصتهما وما يتعلق فيهما:
وخلاصة هذه القصة على ما ذكروا أن زكريا عليه السلام بن آذن بن مسلمة ابن حبرون من أولاد سليمان عليه السلام تزوج إيشاع اخت حنه أم مريم عليها السلام وكانت حنة زوجة عمران أيست من الولادة فبينما هي في ظل شجرة، رأت طائرا يطعم فرخا فتحركت نفسها ودعت الله أن يهب لها ولدا على أن تتصدق به إلى بيت المقدس سادنا، فحملت بمريم فأخبرت زوجها فقال ويحك كيف إذا جئت بأنثى؟
فاهتمّا لذلك ثم مات عمران ووضعت بعده مريم فاعتذرت إلى ربها وهو عالم بذلك
337
فسمتها العابدة أو الخادمة وتضرعت إلى الله أن يعصمها ويجعلها صالحة لأنها من بيت الصالحين فلفتها وألقتها في المسجد لدى سدنته من آل هرون، وحيث كان أبوها امامهم أراد كل منهم ضمها إليه ليربيها، فاقترعوا عليها وألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها في نهر الأردن، على أن الذي يظهر قلمه تكون له، فرست كلها وهي تسع وعشرون قلما وطاف قلم زكريا فقط، فأخذها وتكفل بها وتقبلها الله منه ورضيها وأنشأها نشأه حسنة طاهرة مرضية كما ذكر الله، ولما رأى زكريا ما عندها من الفاكهة كما مر في الآية وأن أمها ولدتها بعد الكبر واليأس وكان هو أيضا لم يأته ولد، طمع في ربه عز وجل وقال الذي يقدر على هذا قادر على أن يعطيني ولدا على شيخوختي وانقراض أهل بيتي، قال تعالى «هُنالِكَ» في ذلك الوقت الذي رأى فيه معجزة الولادة مع الكبر ومعجزة وجود الفاكهة بغير أوانها وكل ذلك على خلاف العادة فقد حدا به الحال إلى أن «دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ» وهو جالس في محراب مريم «قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ» (٣٨) فأجابه عزّ وجل بقوله «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ» جبريل عليه السلام ومرافقوه «وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ» نفسه حالا وقالوا له «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى» سماه بهذا الاسم لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه وكبر أبيه «مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» أي بعيسى عليه السّلام ابن خالته، لأنه كان بكلمة كن من غير أب فوقع عليه اسم الكلمة ولأن الله تعالى بشر به أمه على لسان جبريل فسمي كلمة، ولأن الله أوحى إلى الأنبياء قبله في الكتب المنزلة أنه يخلق نبيا من غير أب، فلما ولد قالت الأحبار المطلعون على ذلك هذا هو ملك الكلمة أي الوعد الذي وعد الله به، قالوا وولد قبل عيسى بستة أشهر، وهو أول من آمن به، وان عيسى تعمد عنده، وقتل يحيى قبل رفع عيسى إلى السماء كما مر بيانه، وسبب قتله في الآية ٧ من سورة الإسراء ج ١ «وَسَيِّداً» رئيسا ليسود الناس لأنه من بيت الأسياد، وعظيما جليلا مهابا «وَحَصُوراً» لا يأتي النساء هضما لنفسه مع القدرة على الجماع، لأن العنّة نقص والأنبياء مبرءون من النقص المادي والمعنوي «وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (٢٩) لإرشاد عبادك وإعلاء كلمتك، أي
338
مرسلا لا نبيا فقط «قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ» وهاتان الحالتان لا يتأتى معهما حصول الولد إلا علي طريق خرق العادة وهو من عادتك «قالَ كَذلِكَ» مثل هذا الفعل الخطير الذي يعجز عنه البشر يحدثه ربك «اللَّهُ» العظيم الذي «يَفْعَلُ ما يَشاءُ» بأن يهب لكما ولدا وأنتما على حالتكما هذه. قالوا وكان عمره مئة وعشرين سنة، وعمر زوجته ثمانيا وتسعين سنة، وقوله هذا ليس على طريق الاستبعاد بل استعظاما للقدرة واعتذارا منه عز وجل، لأنه يعلم أن ربه قادر على أكثر من ذلك، ولكن الذي ساقه على ذلك عظم سروره وشدة فرحه بإجابة دعوته حدث به إلى ذلك، والتذاذه بسماع كلام ربه، عدا ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله بأنه كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة، وانه نسي السؤال وقت البشارة ولذلك استبعد شيئا على خلاف جريان العادة، ينفيه وجود الفاء الدالة على التعقيب بلا فاصلة تأمل.
وما قيل إن الخطاب الأخير كان مع الملائكة يرده صراحة القول باسم
(رَبِّ) وإياك أيها العاقل أن يخطر ببالك معنى الشك، فإن ساحة الأنبياء مبرأة منه البتة، فاحذر أن يحوك في صدرك شيء من هذا، قالوا أزال الله عقمهما وكبرهما وجعلهما صالحين لذلك، راجع الآية ٩٠ من سورة الأنبياء المارة في ج ٢، إذ قال فيها (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) قال بعضهم بقيا على حاهما وهو أبلغ في القدرة وأعجب، ولكن الأول أولى لصراحة القرآن بالإصلاح، وكلتا الحالتين عند الله سواء، إذ لا يعجزه شيء «قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» على حمل زوجتي «قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً» أي لا تقدر على تكليم أحد خلاها شفاها راجع الآية ١٠ من سورة مريم في ج ١ وأفضل العبادة الصمت وانتظار الفرج.
قالوا ولما حملت عقد لسانه إلا عن ذكر الله كما جاء في قوله عزّ قوله «وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ» (٤١) وهذه من المعجزات الباهرة لأن قدرته على الذكر دون الكلام مع الناس أمر خارق للعادة وإنما منع من الكلام ليخلص العبادة لله على هذه النعمة، وكان يشير لمن يكلمه بالمسبحة لأن الرمز هو الإشارة باليد أو بإحدى الأصابع أو العين أو الحاجب أو الرأس.
339
ومن قال إن صومهم كان بلا كلام خالف صريح القرآن من غير حاجة إلى العدول عن ظاهره وهو لا يجوز.
مطلب في الاصطفاء، ومن كمل من النساء، وما احتوت عليه هذه الآيات وما يتعلق بها:
قال تعالى «وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ» من الحيض والنفاس ومس الرجال ومن الذنوب والنقائص، لأنك ربيت في المسجد بكفالة أكبر الأنبياء فيه، لأنه لم يخصص لخدمة البيت أنثى غيرك «عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) » من أهل زمانك، وخصك بالإتيان بولد من غير زوج وبإسماع كلام الملائكة المقدم بالآية السابقة وفي قوله «يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ» اخضعي وأديمي القيام في الصلاة لمولاك الذي شرفك بهذه النعم «وَاسْجُدِي» له سجود تعظيم وعبادة «وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ» (٤٣) لله، قالوا قامت في عبادة ربها حتى تورمت قدماها وسالت قيحا، وكانت صلاتهم سجودا بلا ركوع وبعدها ركوعا بلا سجود، فأمرها بهما معا ولم نجمع قبل إلا لها، وجمعت لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم وصارت على هذه الصفة الحاضرة الآن بتعليم جبريل عليه السلام دون سائر الأمم، وسندوم إلى يوم القيامة إن شاء الله «ذلِكَ» الذي قصصناه عليك يا سيد الرسل هو «مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ» لتذكره لأمتك وأهل الكتابين ليعلموا أنه من غيب الله لأنك لا تقرأ ولا تكتب «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ» أي الأنبياء والأحبار الموجودين في البيت المقدّس حينما تشاوروا على طلب مريم كفالتها وحينما افترعوا على تربيتها «إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ» في النهر ليظهر لهم «أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ» فيكون أهلا لتربيتها «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ» حاضرا معهم «إِذْ يَخْتَصِمُونَ» (٤٤) في شأنها، وقد أخبرناك به لنخبر به قومك وخاصة أهل نجران الذين جاءوا ليختبروك فيستدلوا به على نبوتك. روى البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول خير نسائها (أي الأرض في عصرها) مريم بنت عمران وخير نسائها (أي على الإطلاق) خديجة بنت خويلد.
لا تدخل فاطمة رضي الله عنها لأنها كانت صغيرة حين هذا القول وهي أفضل نساء
340
الدنيا والآخرة. ورويا عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلّا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وليس في هذا الحديث ما يدل على تفضيلها على خديجة وفاطمة رضي الله عنهن، كما ليس فيه ما يدل على تفضيلها على مريم وآسية بل على من عداهما في زمانهما، يدل على هذا ما أخرج الترمذي عن أنس قال: قال صلّى الله عليه وسلم حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون إذ لم يذكر عائشة معهن، تدبر.
قال بعضهم:
ولو أن النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال
فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
ويفهم من هذا أن الاصطفا من قبل الله لأحد من خلقه لا يقتضي كونه نبيا، لأن مريم متفق على عدم نبوتها وعلى عدم صلاحية الأنثى للنبوة، ولهذا فلا يكون أيضا سببا للعصمة لأنها خاصة بالأنبياء بعد النبوة، وإنما يفيد البشارة لشموله بعين الرضاء، ومن شملته عناية الرضاء فقد نجا، وتدل على أن الرزق قد يكون بلا سبب كما وقع لمريم، ومن جحد هذا كان جاحدا لقدرة الله وهو كفر، وعلى أن صلاح الآباء ودعاءهم لأولادهم يعود عليهم بالخير كما سيأتي في الآية ٢٦ من سورة الرعد ولآية ٢٥ من سورة محمد الآتيتين، وتفد جواز النذر ووجوب الوفاء به إذا كان فربة لله تعالى، أما إذا خصص ببشر فلا، لأنه من نوع العبادة ولا تكون إلا لله كما سنفصله في الآية ٣٠ من سورة الحج الآتية إن شاء الله، وترمي إلى جواز تأديب الولد وتربيته راجع الآية ١٢ فما بعدها من سورة قمان ج ٢، وتشير إلى تعليمه من قبل أمه وتسميته حال فقد أبيه، وتوجب على الخلق الإيمان بقدرة الله فيما هو خارج عن نطاق العقل كوجود ولد بلا أب مثل عيسى عليه السلام، وان إنكاره كفر صريح، وترشد إلى أن صدور الدعاء مع الثقة بالله في وقت الحاجة لا بد وأن يجيبه الله تعالى تفضلا منه وبرّا بوعده المار ذكره في الآية ١٨٧ من سورة البقرة المارة، والآية ١٠ من سورة المؤمن في ج ٢، وتنبيه
341
إلى عدم استبعاد الإجابة ولو كانت محالا إذ لا محال على الله، وعلى الداعي أن يربط قلبه بالأسباب الظاهرة، لأن الله يعطي بلا سبب ويمنع بلا سبب، ومن السخف ما جرى على ألسنة الجهلة من قولهم قال الله (وجعلنا لكل شيء سببا) مع أن الله لم يقل هذا في كتابه، فهو كذب على الله وإنما قال في سورة الكهف (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) يعني ذا القرنين الآية ٨٤، وترمي إلى أن الله تعالى إذا اختار أحدا من خلقه رفع قدره وحفظه وعمل على يده العجائب، وان الاصطفاء مهما كان لنبي أو وليّ لا يسقط عنه التكليف كما يزعمه بعض الجهلة المتصرفة بل قد يزيد عليه من التكاليف الشرعية لتزداد رغبته وتعلو رتبته عند ربه، إذ ليس أحد في غنى عن الكمال الأنبياء فمن دونهم، كما ليس لأحد أن يستغني عن الإكنار من الطاعة. ثم طفق جل شأنه بعدد ما أنعم به على مريم فقال يا سيد الرسل اذكر لقومك «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ» كون منها ولدا بلا بعل «اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» أي معروف بهذه الجملة، وأصل عيسى يشوع إذ لا سبن في اللغة العبرية ولهذا يسمون موسى موشى والمسيح مشيح ومعناه الصديق الذي تمس يده ذوي العاهات فتبرئهم.
أما تسمية الدجال مسيحا لأنه ممسوح العين اليمنى كذاب يخرج آخر الزمان فينزل عيسى إذ ذاك من السماء فيقتله، وكان السيد عيسى عليه السّلام في زمنه صديقا كاسمه ولا يزال «وَجِيهاً» ذا جاه سام ورفعة عالية وقدر كريم وسماة شريفة ووجاهة عالية «فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» (٤٥) عند الله، وفيها إشارة إلى رفعه إلى السماء كما سيأتي بعد عشر آيات، ومن خصائصه أنه معظم عند ربه «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ» قبل أو ان كلام مثله راجع الآية ٢٠ من سورة مريم فى ج ١ إذ تكلم ببراءة أمه مما رميت فيه وهو رضيع قريب عهد بالولادة «وَكَهْلًا» بإنذارهم وبشارتهم إذ يرسله الله بعد إكمال الثلاثين من عمره، والكهل من اجتمعت قراه وكمل شبابه وتجاوز الثلاثين من عمره. قال ابن قتيبة أرسل عيسى لثلاثين من عمره ودعا الناس إلى الله ثلاثين شهرا أو ثلاث سنين على قول وهب بن منبه، ثم رفع إلى السماء «وَمِنَ الصَّالِحِينَ» (٤٦) كإبراهيم وبنيه
342
لأنه من نسله «قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ» وهذا على طريق التعجب لا شكا منها، كيف وقد رأت المعجزات في محرابها مما يشابه معجزات الأنبياء ومن ابنها كذلك، وإنما قالت ذلك لأن العادة مطردة عدم كون ولد بلا والد «قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» مما هو خارق للعادة ابداعا منه فيحصل منك ولد وأنت عذراء كما جعل آدم من الطبن وخلق حواء منه و «إِذا قَضى» الإله القادر على كل شيء «أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (٤٧) بلا كلفة ولا زمن ولا واسطة، لأن أمره بتكوين ما يريده يكون بين هذين الحرفين فيولده منك بذلك «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) » الذي سينزله عليه خاصة «وَرَسُولًا» يجعله ويرسله «إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ» خاصة وهو آخر نبي يرسل إليهم منهم وأول أنبيائهم يوسف عليه السلام ويقول لهم «أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» دالة على صدقي ونبوتي وهي «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ» أصوّر «مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ، الْأَكْمَهَ» مطموس العينين المولود أعمى «وَالْأَبْرَصَ» الذي في جلده وضح بياض شديد مكروه وهو عيب من العيوب الشرعية التي ترد بها لزوجه، وينتقل من الجدود إلى الأحقاد، وقد سماه الله سوءا في الآية ٢٣ من سورة طه فى ج ١، لقبحه في البشر والبقرة منه «وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ» في بيوتكم دون معاينة وسماع به «وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» للأكل «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخلق والإبراء والإحياء والإخبار «لَآيَةً» عظيمة على صدق رسالتي «لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٤٩» بالله لذي أرسلني إليكم «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» في التوراة من جواز العمل يوم السبت وأكل لحوم الإبل والشحوم وغيرها ورفع الآصار الثقيلة، راجع الآية الأخيرة من البقرة المارة تعلم ماهيتها، وهذا هو معنى النسخ، لأن الله بعث عيسى بشريعة أخف من شريعة موسى عليهما السلام لما رأى فيها أزلا من الصلاح لعباده في عصره، وجعل نهايتها
343
في عصر عيسى لتلك الغاية، كما هو مدون في لوحه العظيم، وعلى هذا ينطبق قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) كما أوضحناه في الآية ١٠٧ من البقرة المارة. واعلم أن كلمة إصر لا توجد إلا آخر البقرة وفي الآية ٨١ من هذه الصورة، واعلم أن كلمة إصر لا توجد إلا آخر البقرة وفي الآية ٨١ من هذه الصورة، والآية ١٥٦ من سورة الأعراف ج ١، وكلمة تدخرون لم تكرر في القرآن كله «وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ» واضحة «مِنْ رَبِّكُمْ» على كوني عبدا له ورسولا منه إليكم «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» (٥٠) لما أدعوكم إليه وهو أن تعترفوا
وتقولوا «إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ» وحده أيها الناس ولا تشركوا به شيئا كما دعت الرسل قبلي أقوامها إلى هذا، وفيه براءة له عليه السلام مما ينسب إليه من وقد نجران وغيرهم القائلين بأنه ابن الله أو أنه الإله أو جزء من الإلهية مما هو بهت وزور عليه وعلى ربه القائل لكم أيها الناس «هذا» للذي أدعوكم إليه هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (٥١) لا يتعداه إلا كافر.
مطلب معجزات عيسى عليه السلام وقصة رفعه إلى السماء وعمل حوارييه من بعده:
وإنما خص الله تعالى عيسى في هذه المعجزات لأن الغالب المرغوب في زمانه الطب، فالرجل البارع فيه معتبر عندهم فجعل الله معجزته من جنس ما يرغبون ولكن ما يعجز عنه البشر لأنهم مما برعوا في الطب لا يستطيعون إبراء الأكمه والأبرص بمجرد اللمس دون عقاقير فضلا عن إحياء الموتى، لأنه ليس في طوق البشر، وأنه عليه السلام لما ادعى النبوة تعنت عليه بنو إسرائيل وطلبوا منه أن يخلق لهم خفاشا والخفاش من أكمل الطير خلقا لأنه يطير بلا ريش وله أسنان وللأنثى ثديان، ويحيض كما تحيض النساء، وتطير بالليل وتكمن بالنهار، وتختفي في البرد وتظهر في الحر، ولها خصائص عجيبة، راجع تفصيلها في كتاب حياة الحيوان للأستاذ الدميري، فأخذ عليه السلام طينة وصورها في الظاهر مثلها وقال لها كوني بإذن الله كما يريدون، ونفخ فيها فكانت حالا وطارت أمامهم، ولم يؤمنوا، ثم كلفوه إحياء العازر ابن العجوز بعد ثلاثة أيام، فأحياه ولم يؤمنوا، ثم أحيا لهم بطلبهم بنت العاشر وبقيا حيين وولد لهما بعد إحيائهما، وأظهر معجزات
344
أخرى كثيرة من تكثير الطعام وإحياء سام بن نوح عليه السلام فقام أمامهم من قبره وقال هل قامت القيامة؟ فقال له عيسى له ولكن دعوتك بالاسم الأعظم ليؤمن قومي، ثم قال له مت، قال له على أن يعيذني الله من سكرات الموت، قال نعم فمات. وكان وهو صغير يلعب مع الصبيان ويخبرهم بما يفعل أهلهم ويقول لهم إن أكل أهلكم اليوم كذا وكذا وقد رفعوا لكم منه، فينطلقون فيجدون كما قال، ويقولون لأهلهم أخبرنا عيسى بن مريم بذلك، فصاروا يمنعون صبيانهم عن الاختلاط معه بداعي أنه ساحر، ومن هذا القبيل معجزة يوسف عليه السلام، راجع الآية ٣٧ من سورته في ج ٢، قالوا وطرق مرة الباب على دار فيها صبيان فقالوا لا أحد فيها، قال وما هؤلاء؟ قالوا خنازير، قال فليكن كذلك، فمسخوا كلهم خنازير، فهم بنوا إسرائيل ليقتلوه، فهربت به أمه إلى مصر، وإلى هذه الرحلة يشير قوله تعالى (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) الآية ٥٠ من سورة المؤمنون ج ٢ كما بيناه في الآية ٢٤ من سورة مريم ج ١، وجاء في الإصحاح الثاني من إنجيل منى أن أمه ويوسف النجار أخذاه إلى مصر خوفا عليه من الملك فيرودس أن يقتله، وهذه المعجزات دليل قاطع على نبوته عليه السّلام، فمن أنكر أحدها فهو كافر لأنه أنكر القرآن، ولا يقال إن النجم والكاهن يخبران بالغيب، لأن المنجم يستعين علي ما يخبر به واسطة سير الكواكب وامتزاجاتها وحساب الرمل وغيره وقد يخطئ كثيرا، والكاهن يستعين برائد من الجن ويخطئ كثيرا أيضا، والمنوم المغناطيسي يستعين بالواسطة وقراءة الأفكار وغيرها من الشعوذة ويخطئ كثيرا. وقد لا يقدرون أن يخبروا بشيء إذا اختلط عليهم الأمر وفيما لم يحدث المخاطب نفسه بما يسأل عنه وفيما إذا سئل في شيء لا يعرفه، وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآيات ٢٠/ ٢٣ و ١٠٢ من سورتي الأنبياء والصافات في ج ٢.
وليعلم أن أخبار الأنبياء كلها حق وصدق، وبغير واسطة إذ لا واسطة لهم غير الوحي الإلهي الذي يتلقونه بواسطة الملك أو الإلهام الذي يلقى في قلوبهم من الله تعالى أو التكليم رأسا أو من وراء حجاب، كما فصلناه في الآية ٥١ من سورة الشورى في ج ٢ فراجعه. وليعلم أيضا أن السرّ في خلق الكون بما فيه تعلق
345
الإرادة الإلهية بوجوده، وان ارتباط الأسباب بالمسببات التي بلغو الناس فيها لا تأثير لها بنفسها من دون الله تعالى بل التأثير كله منحصر بقدرته، وما نراه من الارتباط في الظاهر لا يقيد سلطة الله ولا يمنع من تنفيذ إرادته، وإن تغيير الشرائع وخرق العادات وتعطيل الأسباب من الدلائل على كمال القدرة، لأن من يضع نظاما يقدر على تعديله، ويملك نقضه، وان ما يقع من التعديل والنسخ لبعض الأحكام هو في مصلحة البشر بما يوافق عصرهم ويلائم حالهم. قال تعالى «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ» من اليهود «الْكُفْرَ» به رمحاولة قتله وحان وقت رفعه إلى ربه بإخبار الله تعالى إياه «قالَ» لأصحابه الملازمين له «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» والوصول إلى طريقه وإعمار دينه ليقوم بعدي بهدي الناس وإرشادهم على حسب تعاليمي التي تلقينها من ربي؟ «قالَ الْحَوارِيُّونَ» جمع حواري بمعنى صاحب «نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ» وجنوده لإعلاء كلمة الله لأنا «آمَنَّا بِاللَّهِ» وحده واتبعناك بما جئت به من لدنه «وَاشْهَدْ» علينا أيها الرسول المتولي «بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (٥٢) لله منقادون لأوامر وممتنعون عن نواهيه، وأنا سنسير بسيرتك وننشر تعاليمك للناس ونبذل جهدنا في نصحهم ما استطعنا. وقالوا «رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ» من أحكام التوراة والإنجيل «وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ» الذي أرسلته إلينا وهو عيسى، لأن الألف واللام للعهد ولا معهود هنا غيره إذ ذاك «فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (٥٣) لك بالواحدية والوحدانية ولرسولك بالتصديق والانقياد «وَمَكَرُوا» اليهود أي اختالوا للقبض عليه وقتله تخلصا منه وحبا ببقاء الرياسة لهم وهو لا يريدها عليه السلام وإنما يريد صلاحهم «وَمَكَرَ اللَّهُ» جازاهم على مكرهم حين دلهم عليه حواريه المنافق يهوذا الأسخريوطي ليغتالوه في البيت الذي هو فيه مع بقية أصحابه، فأوقع شبهه على المنافق المذكور ورفعه من بينهم إلى السماء، فألقوا القبض على يهوذا وأوثقوه على ظن منهم أنه هو المسيح، فصار يصيح أنا الذي دللتكم عليه أنا لست المعلم يعني عيسى، إذ كانوا يسمونه معلما ولات حين مناص، لأن الله تعالى إذا عمل شيئا كان عمله كاملا من كل وجه، ولذلك فإن كل من رآه قال هذا عيسى بعينه حتى حوارييه وحتى أمه، ولذلك
346
صاروا يبكون عليه «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (٥٤) المجازين أهل الحيل، وبهذا الأخذ والرد بين اليهود إذ يقول لهم أنا لست بعيسى وهم يلكمونه ويقولون له أنت هو، تخلص بقية حوارييه من القبض عليهم، إذ كانت نيتهم اغتيال عيسى وحوارييه لأمر أراده الله وليتم مراده ببث دعوته من بعده من قبلهم. واعلم أن إضافة المكر إلى الله بمعناه لا يجوز، لذلك أول بالجراء، وكذلك الخداع والاستهزاء لأنها صفات مذمومة في الخلق فلا يليق أن يوصف بها الخالق المنزه عن سمات خلقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وخلاصة القصة أن الله تعالى لما أرسل عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ليدعوهم إليه ويتركوا ما أحدثوا من البدع ويرجعوا إلى حكم التوراة وما وعدهم به من التخفيف لبعض أحكامها وأظهر على يده المعجزات المذكورات وغيرها كقلب الماء خمرا والمشي على الماء مما ذكر في الإنجيل ومما لم يذكر، لأنه لم يشتمل على سيرته جميعها وكان في بداية أمره مر بجماعة يصطادون سمكا فقال لهم اتبعوني لنصطاد الناس فقال له أحدهم شمعون ائتنا بآية، فدعا الله فاجتمع في الشبكة سمك كثير حتى كادت تتمزق منه، فاستغاثوا بأصحاب السفينة الأخرى وملأوها، فآمنوا به واتبعوا وصار يدعو الناس وإياهم إلى الله، فاشتد ذلك على اليهود، لأنهم عرفوه أنه المسيح البشر به في التوراة، وأنه الذي يبطل دينهم ويحوله إلى أحسن، فخافوا ذهاب الرياسة منهم، فقر رأيهم على قتله، وخدعوا ملكهم بأن عيسى يريد أخذ الملك منه، وأنه على خلاف ما جاء في التوراة، وأنه ظهرت منه أقوال توجب الكفر وحاشاه من ذلك، فوافقهم على ما يريدون، فدبروا المكيدة بينهم على أن يتسلطوا عليه بواسطة أحد أتباعه، فأغروا المنافق يهوذا الأسخريوطي بثلاثين درهما على
أن يدلهم عليه ليلا بحيث لا يكون إلا هو وأصحابه الأحد عشر، وقد اطلعه الله على ذلك فاجتمع بأصحابه، وكان الخبيث معهم يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فوعظهم عيسى عليه السلام وأرشدهم وداعبهم وقال يا أصفيائي ويا خاصتي إن اليهود أجمعت على قتلي، وإن الله سيرفعني إلى السماء ويلقي شبهي على أحدكم الذي سيكفر بي ويبيعني بدراهم بسيرة، فدهشوا قوله ولم يعلم الأحد عشر من هذا الكافر الذي يجرز على ذلك، ولم يفهم الخبيث
347
يهوذا المراد من إلقاء الشبه ليتم مراد الله، وذات ليلة لم يكن فيها أحد غير المسيح اغتنم الخبيث الفرصة فذهب وأخبر اليهود وجاء معهم فأدخلهم عليه، وعند ما أشار إليهم أنه هو هذا رفعه الله تعالى وألقى شبهه عليه، فأمسكوه وصاروا يلكمونه ويوثقونه فصار يصيح إني لست هو أنا الذي دللتكم عليه على الوجه المار آنفا وذلك قوله تعالى «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ» مستوفي أجلك الأول من الدنيا إذ انتهت مدة لبثك في الأرض وقابضك من غير موت. ولئلا يصل أعداؤك إليك، ومنتقم لك من عدوك المنافق بالصلب والإهانة، وهذا هو الصواب إذ لو كان المراد الموت كما زعم العير: قال تعالى «وَرافِعُكَ إِلَيَّ» ومجلسك في سمائي مع ملائكتي، وعليه ما جاء في التفسير رافعك الآن ومتوفيك بعد، لأن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، وصار عليه السلام بعد الرفع إنسيا ملكيا وأرضيا سماويا «وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بك من أن يدنوا حضرتك الطاهرة مما أرادوا بك من القتل والصلب والهوان «وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ» وآمنوا بك. إيمانا خالصا «فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بك بالعز والنصر والغلبة والحجة الظاهرة «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» حتى انقضاء آجالهم في الدنيا والبرزخ «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» أنتم وهم في الآخرة ومن اتبعك مخلصا ومن كفر بك «فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» يوم الجزاء «فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (٥٥) من الحق الناصع. قالوا ولما دخلوا عليه ليقضوه أظلمت الأرض والسماء فظن ذروه أن ذلك من أجل صلبه، ولهذا ذكروا هذا السبب في الأناجيل الأربعة، قالوا ولما صلب المنافق الذي شبه به ذهبت إليه أمه ومريم المجدلية التي أبرأها من الجنون وصارتا تبكيان عليه، فجاءهما عيسى عليه السلام إذ نزل به جبريل من السماء وقال لهما إني لم أصلب وان ربي رفعني إلى السماء ولم يعلم اليهود أن الله ألقى شبهي على يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليّ، وانه هو الذي صلب وعذب وأهين، وان الله ربي حفظني من كيدهم وجازاه بذلك، وجمع الحواريين وأخبرهم بذلك وأمرهم أن يبثوا دعوته في الأرض وخولهم شفاء المرضى وإبراء الأكمه والأبرص، وقد تحققوا ذلك كله لأنهم لم يروا يهوذا حين القبض ولا بعد الصلب بما أقنعهم أنه هو
348
المصلوب، وجعلهم رسلا من بعده إلى الناس، ومتّعهم بوصاياه القيمة كما أشرنا إلى هذا في الآية ١٣ من سورة يس ج ١، ومن أراد التفصيل فليراجع إنجيل برنابا عليه السلام ففيه كل شيء يتعلق بهذا وغيره من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وهو أصح الأناجيل وموافق لما جاء في القرآن العظيم. وفي قوله تعالى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) إشارة إلى رفع روحه وجسده صلّى الله عليه وسلم ليلة القبض عليه، وردّ لمن قال إن الرفع كان للاهوتية (أي روحه) دون الناسوتية (أي جسده) وفيها إشارة أخرى إلى أنه عليه السلام سينزل إلى الأرض، لأن المعنى رافعك إلى الآن، ومنزلك إلى الأرض ومتوفيك فيها بعد على اعتبار التقديم والتأخير في كون الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق بهذا في الآية ٦٦ من سورة الزخرف ج ٢ فراجعها. قال تعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا» بالذل والعار والتشتيت «وَالْآخِرَةِ» بعذاب الله الشديد والتبكيت «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (٥٦) فيها يحولون دون ما يحل بهم «وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ» في الدنيا بالحياء الطيبة وبالآخرة بالجنة ونعيمها جزاء إيمانهم وتصديقهم وتحملهم الأذى في سبيل الله، وان من لم يفعل الصالحات ويقتدي بنبيه فقد ظلم نفسه «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (٥٧) المتجاوزين حدوده «ذلِكَ» الذي ذكرناه لك يا سيد الرسل من خبر عيسى
وأمه ورفعه وإهلاك عدوه «نَتْلُوهُ عَلَيْكَ» لتخبر به قومك لأنه «مِنَ الْآياتِ» الدالة على صدقك «وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ» (٥٨) المدون في لوحنا المحفوظ المحكم الذي لا يتطرق إليه الباطل ولا يأتيه الخلل، فذكر به أمتك وخاصة وقد نجران وقل لهم لا تعجبوا من كيفية خلق عيسى بلا أب لأن قدرة الله صالحة لأكثر من ذلك، وقل لهم لينتبهوا «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ» من جهة الخلق «كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» بلا أب ولا أم وجعله بشرا سويا من لحم ودم وعظام وهو أعظم من خلق عيسى وأبلغ في القدرة من خلق حواء أيضا، لأن التراب ليس فيه مادة من تلك المواد فيكون خلقه أعجب وأغرب من خلق عيسى وحواء لأنهما من مادة فيها تلك المواد المجانسة لمادته، فلا تستبعدوا على الله
349
شيئا أيها الناس ولا ترتابوا في خلقه على تلك الصورة «ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (٥٩) أي فكان كما كان، وكذلك خلق عيسى وحواء بكلمة كن فكانا كما أراد الله. واعلم يا سيد الرسل أن الذي تلوناه عليك في هذا وغيره هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» (٦٠) في هذا التمثيل أيها السامع والناقل، لأن الخطاب فيه عام لكل من يتأتى منه السمع والخطاب، وإن كان لحضرة الرسول لأن المراد به غيره وساحته بريئة من الامتراء والشك والتردد في كل ما جاء به عن ربه، فيفهم مما ذكر في هذه الآيات أن الدعوة إلى الله لا بد لها من أنصار كاملي العقيدة مخلصين مطيعين موادين، وأن الإيمان المجرد لا يكفي ما لم يقترن بعمل صالح. وتشير إلى أن تدبير الله لعباده فوق كل تدبير، فإذا شمل عبدا برعايته حفظه من كل كيد، وأنّ الوفاة في هذه الآية ليست بمعنى الموت، قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) الآية ٤٢ من سورة الزمر في ج ٢، وهذا فارق بين الموت والوفاة. والحكم الشرعي: وجوب الاعتقاد بأن خلق عيسى بن مريم بمجرد كلمة كن، وإن رفعه للسماء حيا حق لا مرية فيه، وأن كل جدل في هذا الموضوع يؤدي إلى خلاف هذا فهو كفر.
قال تعالى «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ» في عيسى من جهة خلقه ورفعه «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» بأنه كما ذكره الله لك يا سيد الرسل «فَقُلْ تَعالَوْا» أيها المجادلون المخاصمون بذلك «نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ» نحن وأنتم بأن نتضرع إلى الله ونجهد أنفسنا بالدعاء «فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» (٦١) منا ومنكم.
مطلب في المباهلة ما هي وعلى أي شيء صالح رسول الله وقد نجوان وحكاية أسير الروم.
والمباهلة الملاعنة أي ليدع كل منها ربه بأن يلعن الكاذب في قوله، فقال له وقد نجران انظرنا وقتا مناسبا كي ننظر في الأمر ونتداول بيننا ونرجع إليك، فأمهلهم، فذهبوا إلى مقرهم وتذاكروا بينهم وقالوا فقد عرفنا من هذه الآيات وما تقدمها أنه نبي مرسل، وأنا إن باهلناه هلكنا، فأجمع رأيهم على عدم المباهلة
350
والانصراف إلى بلدهم، فجاءوا إليه من الغد فإذا هو محتضن الحسن والحسين وبيده فاطمة وعلي عليهما السلام خلفه وهو يقول لهم إذا دعوت فأمنوا، فقال لهم أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا لأزاله، والله إن باهلتموه فلا يبقى على وجه الأرض نصراني، فأقدموا عليه وقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباء لك وتتركنا على ديننا، فقال إن أبيتم فأنا لا اضطركم على المباهلة ولكن أريد منكم أن تسلموا، قالوا لا نسلم، فقال أنا جزكم، قالوا لا طاقة لنا يحربكم ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا ونؤدي لك ألف حلّة في صفر وألف حلة في رجب وثلاثة وثلاثين درعا وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا، فرضي منهم وتركهم، لأنه لم يؤمر بقتالهم إذا رضخوا للجزية، ولم يؤمر بحملهم على الإيمان به. حكي أن بعض العلماء أسر في بلاد الروم فباحثهم في عبادة عيسى عليه السلام، قالوا نعبده لأنه لا أب له، فقال لهم آدم لا أب له ولا أم فهو أولى بالعبادة، قالوا لم يكن آدم يحيي الموتى، فقال إذا حزقيل أولى لأنه أحيا أربعة آلاف (راجع الآية ٢٤٣ من سورة البقرة المارة لتقف على قصتهم) وعيسى لم يحي إلا أربعة، قالوا لم يكن يبرىء الأكمه والأبرص قال إذا جرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليما، قالوا لم يرفع إلى السماء، قال فأدريس أولى لأنه رفع قبله، فلم يعتبروا، ومن يضلل الله فما له من هاد.
قال تعالى «إِنَّ هذا» الذي قصصنا عليك يا سيد الرسل «لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه «وَما مِنْ إِلهٍ» يستحق العبادة في الكون كله «إِلَّا اللَّهُ» لا عيسى ولا عزير ولا الملائكة ولا غيرهم كما يزعم أهل الكتاب وبعض المشركين العرب وغيرهم، وما ذلك إلا نقص في عقولهم، وخاصة الأصنام فلا يعبدها من فيه ذرة من عقل لأنها معرضة للهوان والذل، ومحتاجة إلى الحفظ من عابديها «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب العظيم «الْحَكِيمُ» (٦٢) البالغ في الحكمة الذي لا رب غيره «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك وفد نجران وغيرهم ولم يقبلوا نصحك وإرشادك بعد ما تبين لهم الحق فهم قوم ميالون للفساد فأعرض عنهم «فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» (٦٣) لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، فيا سيد الرسل أدعهم أولا
351
إلى المساواة معك بأن «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» لعلهم يؤمنون بك وينقادون لأمرك «فَإِنْ تَوَلَّوْا» بعد هذا أيضا وأعرضوا عن الإجابة بعد أن سويتهم بنفسك «فَقُولُوا» لهم أنت وأصحابك «اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (٦٤) لله وحده ومنقادون لأمره وأنتم وشأنكم. كررت هذه الآية المبدوءة بنا أهل الكتاب ست مرات في القرآن العظيم، هذه والآيتان الآتيتان ٦٩ و ٧٠ وفي الآية ١٧٠ من سورة النساء وفي الآيتين ١٦ و ٢١ من سورة المائدة الآتيتين. ثم ان وفد نجران تلاحى مع اليهود لقولهم إن إبراهيم كان نصرانيا بسبب قولهم إنه كان يهوديا وكل منهم يحتج بكتابه لذكره فيه فأكذبهم الله بقوله «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ» وتتخاصمون من أجله «وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ» التي تدينون بها أيها اليهود «وَالْإِنْجِيلُ» الذي تدينون به أيها النصارى «إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ» فكيف تدعون أنه كان من أحدكم ولم تحدث اليهودية ولا النصرانية إلا من بعده، فكلاكما مبطل في دعواه لأن المدة الطويلة الكائنة بين إبراهيم ونزول الكتابين إليكم دليل قاطع على كذبكم، وأن مجرد ذكره فيهما لا يدل على أنه كان يهوديا أو نصرانيا أو أنه كان يدين بهما بل كان يتعبد بما ألهمه الله وبما أنزل عليه من الصحف وبالصحف المنزلة قبله على آدم وشيث فمن بعدهما «أَفَلا تَعْقِلُونَ» (٦٥) هذا فتتنازعون فيه «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ»
من كتبكم من أمر موسى وعيسى، ولا مانع من ذلك لأن لكم فيه بعض العلم بما هو موجود في كتبكم «فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» من أمر إبراهيم الذي أغفله كتاب كل منكم ولم تعلموا من أمره على ما هو عليه شيئا فاتركوا هذا ولا تخوضوا بشيء لا تعلمونه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» ما كان عليه إبراهيم من الدين وقد أخبر به رسوله «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (٦٦) شيئا عنه، ثم إن الله تعالى أعلمهم بأنه بريء ومنزه مما قالوا فقال «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا» يوما من الأيام كما زعمتم «وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً»
352
كما أخبركم محمد «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (٦٧) قط كما زعم مشركو العرب من أهل مكة وغيرهم، وقولهم إنا أولاد إبراهيم لا يعني أنه كان على ما هم عليه تنزه وتبرأ منه، وإنما يعنون أنهم أولاد إسماعيل من جهة النسب فقط. تفيد هذه الآية إثبات دعوى المسلمين بأن إبراهيم كان مسلما لذكره في القرآن ومنع اليهود والنصارى من ادعائهما كونه كان منهما لعدم ذكره في كتبهم، فالمكابرة بعد هذا النص القاطع لا قيمة لها ومن العبث أن يبحث في أمر محكوم ببطلانه، لأن أصدق أنباء التاريخ ما جاء بالوحي المقدس، وأن الانتساب إلى إبراهيم يوجب اتباع شريعته، وإلا فهو زور يجب الانكفاف عنه، ولهذا لما أثار أهل الكتابين دعوة الانتساب إلى إبراهيم وكان المشركون قبلهم ادعوا هذه الدعوة فأنزل الله ما يكذبهم كلهم ويصدق دعوى المسلمين بقوله «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ» في زمانه وماتوا على دينه «وَهذَا النَّبِيُّ» حفيده محمد الذي اقتفى أثره في العبادة قبل نزول الوحي إليه «وَالَّذِينَ آمَنُوا» به بعد نبوته ورسالته من أمته أيضا هم أولى بإبراهيم من اليهود والنصارى والمشركين المخالفين لدينه ودين حفيده «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (٦٨) أجمع الذين يخلصون إيمانهم وأعمالهم، ومن كان الله وليه فقد فاز، وعليهم أن لا يتوجهوا بحاجاتهم في الدنيا والآخرة إلا إليه
وهو أولى بإجابتهم فيها، ومن يتوكل على الله فهو حسبه. أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن لكل نبي ولاة من المؤمنين، وان وليّي أبي وخليل ربي إبراهيم، ثم تلا هذه الآية. ورواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. قال تعالى «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ» عن الإسلام، أي أنهم لم يقتصروا على عدولهم عن الحق وإعراضهم عن قبول الحجة بل أحبوا إضلالكم أيضا «وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» لرسوخ الإيمان بالمؤمنين «وَما يَشْعُرُونَ ٦٩» أن هذا وبال عليهم لما فيه من الإثم فوق ما هم عليه من الوبال «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» (٧٠) أنها مصدقة لما في كتبكم وتعترفون أنها حق إذا تركتم التعسف ورجعتم إلى الإنصاف
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ» ت (٢١)
353
الذي تكتبونه بما يخالف ما أنزل الله عليكم وتغيرون به كلام ربكم «وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ» الذي فيها «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (٧١) أنه محرم عليكم، ذلك لأن طمر الحق ووضع الباطل محله كفر في جميع الكتب السماوية «وَقالَتْ طائِفَةٌ» أخرى من هؤلاء اليهود المعدودين «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا» أظهروا الإيمان «بِالَّذِي» بالكتاب الذي «أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» بمحمد «وَجْهَ النَّهارِ أوله وحينما تواجهون المؤمنين به «وَاكْفُرُوا آخِرَهُ» وهذا يدل على أن استعمال كلمة وجه بمعنى الأول، وعليه قول الربيع بن زياد:
من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
وقيل في الوجه نفسه:
وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عودت المزايا تعودا
«لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (٧٢) عن دينهم لقد تفنن اليهود بالتلبيس لأنهم من جند إبليس فقد استجروا أولا معاذ بن جبل وحذيفة اليمان وعمار بن ياسر وجما وحببوا لهم دينهم وترك الإسلام فنزلت فيهم الآية المتقدمة قبل هذه فلم يتجحوا ثم صاروا يحرفون الكتب الإلهية ويغيرون ما فيها من نعت الرسول والبشارة والأمر باتباعه كما فعلوا زمن عيسى، فلم يفلحوا، ثم اخترعوا هذه الطريقة الثالثة فتواطأ منهم اثنا عشر رجلا من أحبارهم بأن يؤمنوا بمحمد بادىء الرأي، يكفروا به، ليبينوا للناس أنه تبين لهم أنه على غير الحق وأنه غير النبي المبعوث آخر الزمان المخبر عنه في كتابهم، ليشككوا الناس فيه، فنزلت هذه الآية فيه ليخبر حضرة الرسول أصحابه بما دبروه من الكيد والحيل ليكونوا على بصيرة أمرهم. تشير هذه الآية إلى أن اليهود دأبهم إضمار الشر للمسلمين، فيجب أن يحذروا من مكايدهم لأنهم جبلوا على السوء، وأنهم لا يحسنون ظنهم بمن هو ليس على دينهم، وإلى هنا انتهى قول اليهود والذي حكاه الله عنهم. ثم التفت يخاطب المؤمنين بعد أن بين لهم مطويات اليهود الخبثاء، فقال «وَلا تُؤْمِنُوا» أيها المؤمنون «إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» وانقاد لأوامر شريعتكم، لأن النصير واجبة لبعضكم على بعض، وإياكم أن تركنوا لأقوال أهل الكتاب، فإنهم لا يودّ و
354
إلا ظاهرا، وإنهم يبطنون لكم الشر، وإياكم والميل إليهم، وعليكم أن تتناصحوا بينكم وتتصادقوا، فالمؤمن أخو المؤمن لا يكذبه ولا يحقره ولا يسلمه في كل حال مهما استطاع. وأعرضوا بكلكم عن خلط أهل الكتاب وخاصة اليهود فإنهم أهل بهت يريدون أن يوقعوا الشك في دينكم، وليس بنافعهم ذلك، ولم يزدهم إلا فضيحة وضلالا، ويزيد المؤمنين تصديقا ويقينا، فلا تقبلوا نصيحة ما إلا من أهل دينكم، وإن هؤلاء الأحبار وغيرهم يقصدون إضلالكم لتكونوا مثلهم، فالحذر كل الحذر منهم. ثم التفت إلى رسوله فقال «قُلْ» يا سيد الرسل إلى قومك وغيرهم «إِنَّ الْهُدى» الذي جئتكم به وأدعوكم إليه أيها الناس هو «هُدَى اللَّهِ» فتمسكوا به فهو الذي يقيكم من مكايدهم وان كل ما يأتون به من خدع وتلبيس لا يؤثر فيكم أيها المؤمنون ما دمتم متمسكين بهدى الله، لأن المؤمن المخلص لا يصده صادّ عن دينه، ولا تصدقوا أبدا «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ» من الكتاب والهدى والدين، واعلموا أنه لا نبي بعد نبيكم، ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة، ولا تصدقوا أقوال اليهود بأنهم يخاصمونكم «أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ» بأن دينهم هو الواجب التقيد به، كلا فإن دينكم خير الأديان وقد جعله الله ناسخا لما تقدمه مما يخالفه، فلا يقدرون على محاجتكم في هذا لأنكم أحق منهم وأهدى. وقد جاءت جملة إن الهدى اعتراضية لتأكيد أحقية دين الإسلام وتعجيل المسرة بالنتيجة. ويا سيد الرسل «قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده إنعاما منه «وَاللَّهُ واسِعٌ» على من يريد أن يوسع عليه، لأن خزانته لا تنفد، وعطاءه غير محدود، وهو «عَلِيمٌ» (٧٣) بمن يؤهله لعطائه ويفضله على غيره ويوسع عليه برحمته. وهذا الذي جرينا عليه في تفسير هذه الآية على رأي بعض المفسرين أولى من غيره وأحسن بالمقام. وقال أكثر المفسرين إن الخطاب في هذه الآية لليهود من تتمة ما حكاه الله عنهم، وعليه يكون المعنى لا تصدقوا أيها اليهود إلا لمن يتبع دينكم من ملتكم، لأن أحدا لم يؤت مثل ما أوتيتم من التوراة التي فيها العلم والحكمة والآيات التي أظهرها الله على يد رسولكم موسى، ولا تصدقوا أن الإسلام يخاصمونكم عند الله كما يقوله محمد، لأن دينكم
355
أقدم الأديان وأصحها (إِنَّ الْهُدى) إلخ اعتراضية أيضا، وقد أتى بها بمعنى أن الذي أنتم عليه إنما صار دينا بحكم الله وهو الهدي الذي هدى الناس إليه وأمر باتباعه، فإذا أمر باتباع دين غيره وجب الانقياد إليه إذعانا لحكمه ولكنه لم يأمر.
وقال بعض المفسرين انتهى ما حكاه الله عن اليهود عند قوله (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وما بعد خطاب لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وعليه تتجه قراءة الحسن والأعمش (أَنْ يُؤْتى) بكسر الهمزة (من إن) وما جرينا عليه أولى لسلامة الآية عن التبعيض ولمناسبتها لسياق ما بعدها وكون التفضيل المنبئة عنه هذه الآية أولى بأن يعزى لسيد الأنبياء وسيد الكتب وخير الأمم. وهذه الآية من أصعب آيات القرآن تفسيرا بعد سورة البينة، والآية ١٠٨ من المائدة الآتيتين، هذا والله أعلم، وهو الذي «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من خلقه «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (٧٤) الذي لا يوازيه فضل. تشير هذه الآية إلى أن فضل الله ورحمته لا يتقدان بسبب ولا علة وان من هداه الله لحقه عن يقين لن يرجع عن هداه بترهات المبطلين، وان التذبذب في الإنسان دليل على عدم صحة عقيدته. قال تعالى مبينا شأن أولئك الظالمين «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» عند ما تطلبه منه دون مماطلة أو جحود تقيّدا بما أمرهم الله به من أداء الأمانة «وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً» بالمطالبة والإلحاح «ذلِكَ» عدم أدائه الأمانة ناشىء عن استحلال مال من لم يكن على دينهم خلافا لدينهم «بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» أي ليس عليهم إثم في أكل أموال الأميين أمة محمد لأنهم على غير دينهم ويعزون هذا إلى التوراة، فكذّبهم الله بقوله «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بنسبة ما لم يذكره في كتابهم إليه «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (٧٥) أنه كذب، والواو هنا حالية أي يقولون ذلك والحال أنهم يعلمون خلافه وعدم صحته. قالوا نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام إذ أودع عنده رجل من قريش قبل إسلامه ألفا ومئتي أوفية من ذهب فأداها إليه حال طلبه والشق الأخير منها في فنخاص ابن عازوراء إذ استودعه رجل من العرب دينارا واحدا فجحده ولم يؤده إليه إلا بعد
356
مخاصمة وبيّنة. وهي عامة في كل من هذا شأنه من الطرفين، وقد بينا ما يتعلق بحق الأمانة أول سورة المؤمنين في ج ٢ فراجعها ولبحثها صلة آخر سورة الأحزاب الآتية. قال تعالى «بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ» الذي عاهد عليه ربه في التوراة الذي من جملته لزوم أداء الأمانة إلى أي كان «وَاتَّقى» الخيانة فيها والمماطلة بدفعها إذ عليه أن يؤدي ما ائتمن عليه لأنه من الوفاء المأمور به، والتقوى التي هي أساس الدين «فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (٧٦) روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا» قلله الله تعالى لأنه مهما كان كثيرا فهو قليل بالنسبة لما ينجم عنه، لأن فيه أكل مال الغير بغير حقه وهو عظيم عند الله تعالى لأنه أعظم من أكله أموال الناس بالباطل، راجع الآيتين ١٨٨/ ٢٨٢ من سورة البقرة المارة، والآيتين ٢٨/ ٧٢ من سورة الأحزاب الآتية، ولهذا قد وجه الله تعالى إلى أمثال هؤلاء الذمّ والمهانة في الدنيا، وأكبر لهم العقاب في الآخرة بقوله «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم في خيانة الأمانة وبيع آيات الله بالثمن البخس وكتم ما أنزل الله فيها وتبديله أو تغييره والحلف كذبا ولا يضعون نصب أعينهم العاقبة الوخيمة ولا يتخيّلون ما رتب الله عليهم من العذاب «لا خَلاقَ» حظ ولا نصيب «لَهُمْ فِي» منافع ونعيم وفضل «الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ» بما يسرّهم فيها «وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ» نظر رحمة وعطف «يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ» من أدران الذنوب وأوساخ العيوب «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ٧٧» لا تطيقه قواهم. يدخل في هذه الآية رؤساء اليهود كأبي رافع ولبابة أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأضرابهم الذين اعتادوا هذه الأفعال القبيحة تجاه ما يأخذونه من رعاعهم.
357
مطلب في الحلف الكاذب والمانّ بما أعطى والمسبل إزاره وخلف الوعد ونقض العهد:
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن منصور أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان. قال عبد الله ثم قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى هذه الآية. ولفظ المسلم هنا ليس بقيد ولا شرط في هذا الحديث والذي بعده لأن اللفظ عام فيشمل هذا الحديث كل أحد. ورويا عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية.
وعهد الله يشمل جميع العهود والمواثيق والوعود سواء كانت بين الرجل وربه أو بين الرجل وغيره، راجع الآية ٣٤ من الإسراء في ج ١ فيما يتعلق بالعهود والمعاهدات.
ورويا عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها حق امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله فيقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك. وروى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها ثلاث مرات، قلت خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال المسبل (أي إزاره) والمان (أي فيما أعطى) والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. وللنسائى المانّ بما أعطى والمسيل إزاره، إلخ. وروى مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب النار، فقالوا يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا؟ قال وإن كان قضيبا من أراك وكلمة بعد العصر في الحديث السابق مثل كلمة المسلم في غيره ليست بقيد ولا شر فسواء كانت اليمين بعد العصر والمحلوف له مسلما أو كانت في أي وقت كان والمحلوف له كتابيا أو مجوسيا فهو يمين يستحق صاحبها الوعيد المذكور. ولا يخفى أن اليم على نية المحلف لا على نية الحالف، ألا فليتيقظ المتيقظون، ولينتبه الغافلون
358
فإن الله لا يخفى عليه شيء وإنه ينظر إلى نياتكم وقلوبكم. قال تعالى «وَإِنَّ مِنْهُمْ» اليهود «لَفَرِيقاً يَلْوُونَ» يفتلون ويصرفون «أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ» التوراة عن المعنى المراد فيها إلى غيره وهو ضرب من ضروب التبديل والتحريف لكتاب الله ويفعلون ذلك «لِتَحْسَبُوهُ» أيها الناس وهو محرف مبدل «مِنَ الْكِتابِ» الذي أنزله الله عليهم والله تعالى يقول لكم أنه مغير «وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» والله يقول لكم أنه مبدل محرف «وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» وكررت هذه الجملة في لفظ متحد لقصد التأكيد وهو مطلوب هنا لا سيما في هذه المواقع لما فيها من نسبة ما لم يكن للحضرة الإلهية «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» خلافا لما هو في علمه «وَهُمْ يَعْلَمُونَ ٧٨» أنه كذب ليس من الكتاب ولا من عند الله، وكررت الجملة الأخيرة أيضا بعين ما هو في الآية ٧٥ المارة لأنها بصنف غير الصنف المبين فيها لما اجتمع اليهود مع وقد نجران، قال أبو رافع القرظي أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال السيد من وفد نجران أتريد ذلك يا محمد وأن نعبدك كما تعبد اليهود عزيرا وكما تعبد بنو مليح الملائكة؟ قال معاذ الله أن نعبد أو نأمر أو نريد غير عبادة الله وحده ما بذلك بعثت يا قوم ولا أمرني ربي به وليس هو من شأني، فأنزل الله «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي لا ينبغي هذا لأحد أصلا فضلا عن هذا الصنف الذي هو أبعد الناس عن مثله، لأن هذه النعم التي منّ الله بها عليه تمنعه من ذلك «وَلكِنْ» يقول لهم «كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» علماء حكماء تربّون الناس بأخلاقكم وآدابكم الحسنة وتعلمونهم طرق الخير وسلوك سبل الرشاد وتمحضونهم التوحيد وأن لا تنسبوا للحضرة الإلهية ما لا يليق بها، وأن تنزهوه ولا تعزو شيئا مما في هذا الكون إلا إليه وحده «بِما» بسبب ما «كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ» لغيركم «وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» (٧٩) على الغير ممن تقدمكم من أهل العلم، لأنهم لم يولوكم إلا على هذا وأن تقرءوا لمن معكم ولأنفسكم ما أنزل الله لكم حرفيا، ومن هنا جاءت النسبة لأن الرباني هو
359
المنسوب إلى الرب، وزيادة الألف والنون دلالة على كمال هذه الصفة، ومبالغة لاسم الفاعل الذي هو ربان «وَلا يَأْمُرَكُمْ» أيها البشر «أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً» وهذا تنديد في بني مليح ومن تبعهم والصابئين القائلين إن الملائكة بنات الله، واليهود والنصارى القائلين إن عزيرا والمسيح ابنا الله «أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ» أيها الناس «بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (٨٠) وهذا استفهام على طريق التعجب والإنكار وفيها من
إلقاء الروعة والمهابة ما فيها لمن كان له قلب أو ألقى السمع. وفي يأمركم ثلاث لغات: إسكان الراء لعدم توالي الحركات، والنصب بالعطف على يقول، والرفع على الاستئناف المؤيدة بقراءة ولن يأمركم بدل من ولا يأمركم الأولى وهو ما مشيت عليه، لأنه الأظهر لخلوها عن تكلف جعل الأمر بمعنى النهي عند جعل لا غير زائدة عند من يرى ذلك، لأني أرى أن لا زائد في القرآن وأن من يقول نجاء بالحرف الزائد لتحسين الكلام وتقويته وتأكيده يقال له إذا ليس بزائد لأنه أدى معنى لم يكن عند عدمه، وكل ما يجاء به لمعنى فهو غير زائد، ولأن القراءة بالنصب تستدعي صلة لا وجعلها للتأكيد فقط أو جعلها غير زائدة بجعل عدم الأمر في معنى النهي، فيكون معنى أيأمركم ينهاكم، وتستدعي القراءة التقديم على جملة (وَلكِنْ كُونُوا) إلخ تدبر. يفهم من هذه الآيات أن الأمانة وما يضاهيها لا يثاب عليها المرء إلا إذا راعى فيها خوف الله، وإن أداءها حال طلبها من الخصال الحميدة، وإن جميع الشرائع تحت على أدائها بالمعروف على الوفاء بالعهد والوعد، وإن الخيانة والنكث من الكبائر التي نهى الله ورسوله عنها، وإنما كان أداؤها محمودا لما فيه من الوثوق بالناس ومحافظة حقوقهم، وبضدها عدم الثقة وضياع الحقوق. وترمي هذه الآيات لعدم الوثوق بأهل الكتاب فيما ينقلونه من أمر الدين، وان اتخاذ الأيمان الكاذبة وسائل لبيع السلع وأخذ مال الغير حرام قطعا. وتشير أيضا إلى حرمة ما يتفكه به من معارضة الكوثر أعطيناك كلام الله كقولهم بدل إنا أعطيناك كذا، أو إنك أقصر من سورة الكوثر، أو أفرغ من فؤاد أم موسى، وقولهم والسماء والطارق أي لا يملك شيئا من حطام الدنيا على قبيل ضرب المثل، لأن كلام الله لا يجوز أن يدخله الهزل والسخرية
360
وهو منزه منهما، وعدم جواز قراءة شيء منه يقصد به إيهام سامعه أنه من كلام الله على سبيل التفكه أيضا، لأنه يعد من قبيل الانتهاك لحرمته مما قد يؤدي إلى الكفر. وتفيد الآيتان الأخيرتان إلى أن ما يدعيه أهل الكتاب من أن الأنبياء دعوا الناس إلى عبادتهم أو إلى عبادة الملائكة كذب بحت وباطل محض، يدحضه الشرع وينفيه العقل. وتفيد أن من أوتي سلطة ما ليس له أن يستعبد الناس أو يسترقهم أو يتعاظم عليهم بها، وأن ليس للبشر أن يحب الأنبياء والصالحين كحب الله ولا يخافهم كخوفه ولا يعظمهم كتعظيمه ولا ينسب إليهم ضرا ولا نفعا مطلقا.
قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما» تقرأ بفتح اللام أي من أجل الذي، وبكسرها توطئة للقسم، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف، ويكون المعنى وإذا استخلف النبيين للذي «آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ» من الكتب الإلهية، وجواب القسم قوله «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» أي الرسول والمراد به هنا محمد صلّى الله عليه وسلم لما أخرج ابن جرير عن علي كرم الله وجهه قال: لم يبعث الله نبيا، آدم فمن بعده إلا أخذ الله تعالى عليه العهد في محمد صلّى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به وليتصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه، ثم تلا هذه الآية. وإذا كان حكم الأنبياء هكذا فأممهم من باب أولى، لأن العهد مع المتبوع عهد مع التابع حتما «قالَ» تعالى بعد أخذ العهد عليهم «أَأَقْرَرْتُمْ» بهذا الميثاق «وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ» العهد «إِصْرِي» ميثاقي «قالُوا أَقْرَرْنا قالَ» تعالى لهم «فَاشْهَدُوا» على بعضكم في هذا الإقرار «وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (٨١) عليه وعلى تشاهدكم على بعضكم، ثم هدد من ينكث ذلك الميثاق بقوله «فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ» فأعرض عن هذا الميثاق ونكث عهده وأنكر شهادته ولم يؤمن بهذا الرسول «فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (٨٢) الخارجون عن الإيمان كله هذا عهد النبوة أما عهد الربوبية فقد تقدم في الآية ١٧٣ من سورة الأعراف ج ١ فراجعه. ولما تخاصم إلى حضرة الرسول وفد نجران مع اليهود في ادعاء كل منهم دين إبراهيم وقال لهما كل منكما بريء منه، وقالا له لا نرضى بقضائك ولا نأخذ
361
بدينك وأصر كل منهم على قوله أنزل الله عز وجل «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ» حكما بينهم «وَلَهُ أَسْلَمَ» انقاد وخضع «مَنْ فِي السَّماواتِ» من الملائكة «وَالْأَرْضِ» من الإنس والجن «طَوْعاً» بالنظر والاستدلال والإنصاف من النفس «وَكَرْهاً» بالقوة حال الصحة كنتق الجبل على اليهود أو عند معاينة العذاب كالغرق لآل فرعون، والإشفاء على الموت كما في قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) الآية ٨٤ من سورة المؤمن ج ٢ فرد الله عليهم (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) في الآية ٨٥ منها «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» (٨٣) في الآخرة فاتركهم يا سيد الرسل و «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا» من القرآن.
واعلم أنه لما كان الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول عدّى ما أنزل في سورة البقرة في الآية ١٣٦ المارة بإلى المفيدة للانتهاء، وعدّاه هنا بعلى المفيدة للاستعلاء على المعنيين تارة بإلى وطورا بعلى، وقدم القرآن لأنه أشرف الكتب وأجمع لمراد الله فيها «وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ» من الصحف «وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» من الصحف والوصايا «وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى» من التوراة والإنجيل «وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ» من كتب وصحف «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» لأنهم كلهم مرسلون من قبله وأن ما أنزل عليهم من عنده «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (٨٤) لا لغيره. قال تعالى «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» لأنه هو المقبول عنده لا دين غيره البتة «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (٨٥) ثواب عمله فكل من يطلب دينا غير الإسلام فقد خسر الدنيا والآخرة. تدل هذه الآيات على وجوب الإيمان بالرسل كافة، وعلى محاربة الشرك بجميع أنواعه، وأن كل ما يخالف تعاليم دين الإسلام باطل، وأن جميع ما أنزل من عند الله متحد المعنى في أصول الدين، لأن الرسل كلهم جاءوا من عند الله على وتيرة واحدة، وأن الاختلاف في الفروع وقع لمصلحة الأمم بحسب حالهم واختلاف مداركهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأن الإيمان بجميع الكتب الإلهية والعمل بآخرها وهي شريعة الإسلام واجبة على جميع الخلق، لأن التشريع الأخير يلغي ما قبله وهذه سنة الله في خلقه، وعليه جرت
362
عباده إلى الآن وإلى ما بعد حتى يأتي الله بقيام الساعة. هذا وان حضرة الرسول بعد أن صدع بأمر الله بما أنزل إليه من عنده تمنى لو أن ربه يمن عليه بإيقاع الهدى في قلوب خلقه لينقادوا إليه فيما يأمره وينهاه، فرد الله تعالى على ما وقع في قلبه وهو العالم بذات الصدور بقوله عز قوله «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ» ببعثتك وتوقعهم ظهورك اتباعا لما وجدوه في كتبهم «وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ» أي أنك صادق بدعواك الرسالة عند ما ظهرت لهم البشائر بها وانطبقت عليك الصفات المذكورة في كتبهم «وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» على صدق نبوتك، وإنما ساءهم أنك لست منهم وخافوا أن يحرموا الرياسة فعدلوا عن قبول الهدى الذي جئتهم به فظلموا أنفسهم قصدا «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (٨٦) أنفسهم ببيعهم الآخرة بالدنيا اختيارا، وقد قضت سنة الله أن لا يهدي من يعرض عن الهدى برضاه ولا يهدي إلا ذوي النفوس الطاهرة والنية الخالصة، أما هولاء الذين ألفوا الكبر والإصرار على الكفر فلا سبيل لهدايتهم «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (٨٧) وان مأواهم النار «خالِدِينَ فِيها» مع هذه الفظيعة المفضية للطرد من رحمة الله «لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» (٨٨) يؤخرون عن وقته «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الارتداد والكفر وندموا على ما وقع منهم وآمنوا وأخلصوا «وَأَصْلَحُوا» عملهم بالتوبة النصوح «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لهم «رَحِيمٌ» (٨٩) بهم وبجميع عباده وخاصة من يتوب ويحسن توبته. نزلت هذه الآيات في الحارث بن سويد الأنصاري وطعمة بن أبيرق وجموح بن الأسلت ورفقائهم التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة إلى مكة كفارا، وقد ندم أحدهم وهو الحارث وأرسل لحضرة الرسول بقبول توبته.
وآخر هذه الآيات عام في جميع الكفرة المرتد منهم وغيره، وهذه آخر ال ٨٩ آية من هذه السورة التي نزلت في وفد نجران ومحاججتهم مع اليهود ومجادلتهم مع حضرة الرسول وما تفرع عن ذلك، ولبعضها أسباب أخرى لصلاحيتها لها، لأن السبب الواحد قد يكون لأغراض كثيرة تنطبق عليها، كما أن بعضها تكون عامة
363
فيهم وفي غيرهم، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. ويفهم من هذه الآيات جواز لعن المرتد والكافر على العموم، وعدم جواز تخصيص أحد منهم باللعن إلا إذا تحقق موته على الكفر. وأن العمل الصالح شرط لقبول التوبة ممن يتوب من كفره، وأنها تمحو ذنوب التائب إذا خلصت نيته، ثم بين تعالى أن من لم يتب توبة خالصة ورجع إلى كفره فسيغلق الله في وجهه باب التوبة بقوله «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بسيدنا عيسى «بَعْدَ إِيمانِهِمْ» بسيدنا موسى وما أنزل عليهما من الإنجيل والتوراة «ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً» بجحودهم رسالة محمد وما أنزل عليه من القرآن «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» (٩٠) الذين لا سبيل إلى هدايتهم، لأن الله تعالى إنما قبل توبة المرتد والكافر على أن يطهر دخيلة قلبه بالأعمال الصالحة التي يستدل بها الناس على صحة إيمانه وقبول توبته فلا تقبل توبته، ولهذا أجمعت الأمة على أن المرتد يمهل ثلاثة أيام فإن أصر على كفره قتل وإلا فلا، أما الكافر الذي نشأ على الكفر فقد جعل الله أمامه باب التوبة مفتوحا، ووعده بغفران ما كان منه حال كفره إذا أسلم. قال تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) الآية ٣٩ من سورة الأنفال المارة، فإذا حق عليه الشقاء ومات على كفره فتبا له وسحقا، وإذا حفته السعادة فآمن نجا، قالوا نزلت هذه الآية في اليهود خاصة، وقيل في المشركين والنصارى لأنهم كفروا بمحمد وازداد كفرهم بإقامتهم على الكفر، إلا أنها لا تنطبق على المشركين لأنهم لم يؤمنوا قبل بسيدنا محمد ولا بموسى ولا بعيسى لأنهم أهل شرك انقرضت النبوة فيهم وآثارها بعد وفاة إسماعيل عليه السلام الذي لم يترك لهم كتابا أو يدون لهم شريعة يتدينون بها من بقايا الشرائع القديمة، لذلك فان نزولها باليهود أوفق للمعنى وأطبق للحال.
مطلب وقت قبول التوبة وعدم قبولها. ومعنى البر والإثم. والتصديق بالطيب. والوقف الذري. وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان:
ومعنى قوله لن تقبل توبتهم محمول على قوله (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ) الآية ١٨ من سورة النساء الآتية، لأن الله تعالى علم قولهم فيما بينهم أنهم يبقون على الكفر
364
حتى إذا نزل بهم الموت تابوا، ولا تقبل التوبة عنده. ولا حال اليأس كما بينته في الآية المذكورة قال في بدء الأمالي:
وما إيمان شخص حال يأس بمقبول لفقد الامتثال
وقد علم أنهم لم يتوبوا قبل نزول الموت، لذلك قال لن تقبل توبتهم، وإنما يظهرونه نفاقا إيمانا كان أو توبة ولا قيمة لهما عند الله، لأنه لا يقبل إلا الخالص من الإيمان والنصوح من التوبة، وهؤلاء فضلا عن أنه لا يقبل توبتهم فإنه يزيدهم وبالا على وبالهم إذ لا تقبل توبة من أقام على شرك أو نفاق حتى يقلع عنهما أو يتوب توبة خالصة قبل وقت الحشرجة بأن يكون له أمل بالحياة،
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (٩١) ينصرونهم ويخلصونهم من ذلك. ومن المعلوم أن أحدا لا يملك يوم القيامة شيئا ولا يقبل منه الفداء على سبيل الفرض بأنه يقدر عليه لينجي نفسه من عذاب الله، فلو أمكنه التقرب إلى الله بخلاصه مما حل به بملء الأرض ذهبا لفعل، وأنّى له ذلك؟
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟
فيقول نعم، فيقول أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا الشرك. ألا فلينتبه العاصون، ألا فليحذر اللاهون، ألا فليتفطن الغافلون، وليشتروا أنفسهم من عذاب الله حال قدرتهم عليه، ولينفقوا من أموالهم قبل أن يتركوها لغيرهم ويلقون وبالهم عند الله وحدهم. تشير هذه الآية إلى مصير الذين يموتون على كفرهم والعياذ بالله بأن هذا مصيرهم، وأن ما أسلفوه من عمل لا عبرة به لأن الشرط بحصول الثواب على الأعمال هو الإسلام والإيمان، وترمي إلى أن العبرة بخواتيم العمر فمن مات مؤمنا فقد نجا والله أولى بأن يعفو عنه، ومن مات على كفره فقد هلك ولا ناصر له من الله، وهذه الآيات من ٨٤ إلى هنا تضاهي الآيات من ١٣٤ إلى ١٤٠ ومن ١٥٩ وإلى ٦٢. من سورة البقرة. قال تعالى «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ» أيها الناس ولن تعطوا الخير الكثير والإحسان الجزيل فتعدوا
365
من الأبرار المحسنين «حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» من أنفس أموالكم لتؤجروا عليها بأحسن منها، وهذه الآية بمقابل قوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الآية ٢٦٧ من سورة البقرة «وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ» نفيس تحبونه أو خبيث تكرهونه «فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (٩٢) فيجازيكم على حسبه، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا. وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك. وعن وابصة بن معبد الجهني دفين الرقة قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال جئت تسأل عن البرّ؟ قلت نعم: فقال استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأقنوك. - بالقاف أي أرضوك- وروي بالفاء وأفتوك من الفتيا، وهي الإرضاء أيضا، والمعنى وإن أقنعك المفتون بأنه ليس بإثم فلا تقبل منهم لأن الإثم يحز القلب والبر يشرحه وهذا الحديث من باب الكشف لما روي أن رابصة جاء يتخطى الناس حتى جلس بين يدي رسول الله فقال له تحدثني بما جئت به أو أحدثك، فقال بل تحدثني يا رسول الله فهو أحب إلي، قال جئت تسأل عن البر والإثم؟ قال نعم، ورويا عن أنس بن مالك قال كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه (بئر ماء) وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية قام أبو طلحة فقال يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الآية وإن أحب أموالي إلي (بئر ماء) وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال صلّى الله عليه وسلم بخ بخ ذلك مال رابح أو قال رائج أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه، وهي حائط (بستان) عظيم فيه ماء، ومن هذا أخذ الوقف الذري وتداول حتى الآن،
366
وأبقى أسماء الواقفين مخلدة بالذكر الحسن ويعيش بخيرهم جماعات يدعون لهم بالخير كلما انتفعوا، وهذا هو الصدقة الجارية التي لا ينقطع أجرها فهو رضي الله عنه أول من سن الوقف بإرشاد رسول الله فله أجره إلى يوم القيامة في صريح قوله صلّى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة إلخ الحديث، وقوله صلّى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث أحدها الصدقة الجارية (وبخ) كلمة تحسين تقال عند ما يرى الإنسان أو يسمع ما يحب ويستحسن وهي مبنية على السكون، وتكرر للمبالغة بالكسر والتنوين، ثم إن بعض الأصحاب اقتدوا بأبي طلحة وتصدقوا من أموالهم النفيسة على أقاربهم وذراريهم كعمر وابنه عبد الله وزيد بن حارثة، وتفيد هذه الآية بان الطاعة إنما تتحقق بتضحية النفيس وإنفاق العزيز من المال
وإن خير الصدقة المستمرة الدائمة وأحسنها التي تخصص للأقارب، قالوا نزل ضيف عند أبي ذرّ فقال للراعي ائتني بخير إبلي فجاءه بناقة مهزولة، فقال له خنتني، فقال الراعي وجدت خير إبلك فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر يوم حاجتي إليه يوم أوضع في قبري. ولما قال اليهود يا محمد تزعم أنك على دين إبراهيم وتأكل لحوم الإبل ولبنها وهو لا يفعل ذلك، فقال لم يحرمه إبراهيم، فقالوا كل ما نحرم اليوم بمقتضى التوراة فهو حرام على نوح وإبراهيم وانتهى إلينا كذلك، فأنزل الله عز وجل «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ» لأن يعقوب عليه السّلام اعتراه مرض قيل هو عرق النسا وقد منعه الطبيب من أكل لحوم الإبل بداعي انه يزيد في ذلك المرض فحرمه على نفسه لهذه العلة لا بتحريم الله تعالى، وقد اقتفى أولاده أثره بعدم أكلها، فلما أنزلت التوراة حرمه الله على بني إسرائيل، فأنكروا ذلك فقال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المعاندين «فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (٩٣) بأن الإبل كانت محرمة على إبراهيم فأتوا بها فلم يجدوا ذلك وظهر كذبهم، وهذا من معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلم لأنه من قبيل الإخبار بالغيب إذا لم يقرأ ولم يعرف ما في التوراة، ففي هذه الآية ردّ على قول اليهود بأن النسخ غير جائز إذ جاء بالقرآن حل لحوم الإبل، راجع الآية ١٤٥ من سورة
367
الانعام ج ٢ وهو ناسخ لما في التوراة كما جاء في الإنجيل نسخ بعض أحكامها بالنظر للمصلحة والعصر كما في الآية ٤٩ المارة، وهذا معنى قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية ١٠٧ من البقرة المارة بالنسبة لما تقتضيه المصلحة والزمان ولانقضاء الوقت المقدر للعمل فيه عند الله تعالى كما ذكر الشيخ محي الدين في فتوحاته، ومن هنا أخذت قاعدة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان، ومن هذا قول علي كرم الله وجهه لا تقسروا أولادكم على طباعكم فإنهم خلقوا لزمن غير زمانكم. قالوا والسبب في إصابة يعقوب هو أنه كان نذر لأن أعطاه الله اثنى عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا ليذبحنّ أحدهم تقربا إلى الله تعالى، ولما منّ الله عليه بذلك توجه لبيت المقدس لإيفاء نذره فلقيه ملك على صورة بشر فحسبه لصا فتصارع معه فغمزه في فخذه. فعرض له عرق النسا، ولما وصل أراد ذبح ابنه ولم يعرف أيهم يذبح، فجاءه الملك الذي عرض له وقال لا سبيل لك لذبحه لأنك لم تصل صحيحا، وإنما غمزتك في فخذك للمخرج من نذرك فكف عن ذبحه، وهناك منعه الأطباء عن أكل لحوم الإبل ولبنها، وقد ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم دواء هذا العرق بقوله: شفاء عرق النساء إلية شاة اعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم تشرب على الريق كل يوم جزءا. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه والحاكم وهو حديث صحيح كما في شرح العزيزي، قال أنس رضي الله عنه قد وصفت ذلك لثلاثمأة نفس كلهم تعافوا. وهذا والله أعلم، إذا حصل من يبس في بلاد حارة كالحجاز، لأن فيها تليينا وإنضاجا. وقيل إذا طبخ دماغ الوطواط بدهن الورد ودهن به عرق النسا يسكن وجعه بإذن الله.
ومثل ما وقع لسيدنا يعقوب وقع لعبد المطلب جد النبي صلّى الله عليه وسلم إلا أنه فدى ابنه الذي أراد ذبحه بمئة من الإبل ولهذا صارت دية الرجل مئة من الإبل. قال تعالى «فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ»
البرهان القاطع الدال على كذب اليهود وحل أكل لحوم الإبل وألبانها زمن إبراهيم عليه السلام وأصر على افترائه «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»
(٩٤) أنفسهم وغيرهم «قُلْ» يا سيد الرسل «صَدَقَ اللَّهُ» وكذبتم أيها اليهود «فَاتَّبِعُوا» أيها الناس «مِلَّةَ
368
إِبْراهِيمَ»
التي يدعوكم إليها محمد وانقادوا لأمره وليكن كل منكم «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين خاضعا لدين محمد دين الإسلام الذي هو عليه وأصحابه «وَما كانَ» إبراهيم قط «مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (٩٥) كما أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولم يعبد غير الله، وهكذا كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم يولدون على الفطرة ويتعبدون بما يلهمون من تعاليم الله أو مما كان عليه الأنبياء قبلهم.
مطلب في البيت الحوام والبيت المقدس وفرض الحج وسقوطه وتاريخ فرضه والزكاة والصوم والصلاة أيضا:
ولما قال اليهود للمسلمين بعد تبدل القبلة إن بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ومدفنهم ومهبط الوحي وفيه الصخرة الشريفة محل عروج الأنبياء إلى السماء وهي أقرب وجه الأرض فيها إليها وفلسطين أرض المحشر وأقدم قبلة استقبلت في الصلاة، أنزل الله ردا عليهم «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» قبلة «لَلَّذِي بِبَكَّةَ» وليس بيت المقدس، وجاء بالباء لأن العرب تعاقب بين الباء والميم فيقولون ضربة لازب، وضربة لازم، ومكة، وبكة، لأن الناس يتباكون حولها قديما وحديثا، ويطلق هذا اللفظ على البيت نفسه وموضع المسجد فيها مما هو محيط به، ويوجد في المسجد الأقصى محل تسميه اليهود المبكى فهم يقفون فيه يبكون حتى الآن، وسميت مكة لقلة مائها يقال مك الفصيل أمه إذا لم يبق فيها لبنا. روى البخاري ومسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض فقال المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال المسجد الأقصى، قلت كم بينهما؟ قال أربعون عاما ثم الأرض لك مسجدا، فحينما أدركتك الصلاة فصل. زاد البخاري فإن الفضل فيه «مُبارَكاً» بيت مكة تشمل بركته الأرض كلها «وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» (٩٦) فيها إذا وقفوا لزيارتها مؤمنين بربها يهتدون بهديه ويتباكون حوله طلبا لمغفرة ما سلف منهم ولما عند الله من الرحمة بهم «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ» منها «مَقامُ إِبْراهِيمَ» وهو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بنائه، راجع الآية ١٢٥ من البقرة المارة في بحثه، «وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» وهذا من جملة آياته أيضا، قال أبو حنيفة رحمه
369
الله إن من وجب عليه القصاص أو الحد لا يستوفى منه فيه ما زال ملتجئا إلى الحر.
ولكنه لا يطعم ولا يبايع ولا بشارى ويضيّق عليه حتى يخرج منه ليقنص من لئلا تتعطل الحدود، أما إذا قتل أو سرق بالحرم فيستوفى منه الحدّ فيه عقوبة له لخرقه حرمة الحرم في الحرم بخلاف الأول، وهذا هو الحكم الشرعي في هذا وقال بعض المفسرين إن معنى آمنا أي من العذاب مطلقا وهو محمول على أنه إذا لم يقترف ما يستوجب العقوبة بعد حجة مما يستدل به على قبول حجة، أما من كانت حالته قبل الحج أحسن من بعده فلا، لأن ذلك دليل على عدم القبول أجارنا الله من ذلك. تشير هذه الآية إلى أن هذا البيت وضعه الله لجميع خلقه وأوجب الأمن لمن دخله منهم أجمع وعم بركته فيهم، فمن آمن واتقى فقد فاز بخير الدنيا والآخرة، ومن أعرض فأمره إلى الله، يدل عليه قوله «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» فلم يخص فيه أحدا، بل أوجب فرض زيارته على جميع خلقه، ولم يستثن أحدا إلا العاجز، إذ أبدل من عموم لفظ الناس «مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» لأن الله تعالى لا يكلف غير المستطيع لقوله (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية الأخيرة من سورة الحج الآتية، وما قاله بعضهم من (من) فاعل لكلمة حج لا وجه له ولا عبرة فيه، إذ يكون المعنى أن الناس كلهم مكلفون بإقسار المستطيع على فعل الحج، وهذا غير معقول، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى. وتفيد اللام في لله وعلى بعدها التأكيد والتشديد على فعل الحج والحكم الشرعي وجوبه على المستطيع مرة في العمر. روى مسلم عن أبي هر قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجو فقال له رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. والقيد بالاستطاعة ينفي الوجوب على غير المستطيع لعموم القدرة على ما يوصله إليه وعدم وجود ما يكفيه وأهله مدة ذهابه وإيابه أو لعدم أمن الطريق، وما جاء عن ابن عمر في حديث الزاد والراحلة لم يثبت، ليس بمتصل وسنده فيه إبراهيم بن زيد الجوزي متروك الحديث، وقال يحيى معين إنه ليس بثقة، وكذلك ما جاء عن علي كرم الله وجه لأن في إسناده مقالا
370
وفيه هلال بن عبد الله مجهول والحارث يضعف في الحديث، وقال الترمذي فيه حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولأنهما وحدهما لا يكفيان ولا يعد القادر عليهما فقط مستطيعا، لأن المستطيع ينبغي أن يكون صحيحا قادرا على لوازم الحج ذهابا وإيابا فضلا عن دينه وحوائجه وأهله وضرورياتهم مدة ذهابه وإيابه وعلى نفقة من تلزمه نفقته أيضا، فإذا فقد شيء من هذا انتفت الاستطاعة وسقط الفرض، أما العاجز جسما لمرض أو هرم فيشترط له علاوة على ما تقدم القدرة على نفقة من يقوم بخدمته ذهابا وإيابا وإلا فلا يعد مستطيعا أيضا، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من قثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال نعم.
وذلك في حجة الوداع أخرجاه في الصحيحين- والعجز لزمانه كذلك، ويشترط مع أمن الطريق وجود الماء في كل مرحلة، ووجود الرفقة أيضا لكراهة السفر للواحد والاثنين، وإذا كان في الطريق من يطلب خفارة عند المرور منه كأعراب البادية الذين يطلبون خوّة ممن يمرّ بهم فلا يعد أمنا، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك.
هذا ولما تلا هذه الآية حضرة الرسول على جميع أهل الأديان إذ ذاك وهم المبينون في الآية ١٨ من سورة الحج الآتية، قالت اليهود والنصارى ومن تابعهم لا نحج هذا البيت ولا نصلي إليه، أنزل الله «وَمَنْ كَفَرَ» أي ومن جحد فريضة الحج فهو كافر «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» (٩٧) وعن طاعتهم لأن كلمة ومن كفر تفيد معنى ومن لم يحج، وهذا تغليظ عظيم على تارك الحج مع القدرة، وفي ذكر الاستغناء دليل على المقت والعياذ بالله والسخط على التارك له كلا. وفي قوله (الْعالَمِينَ) بدل عن/ عنه/ إشارة إلى عظيم غضب الله على من يترك الحج استغناء، لأن الاستغناء عن العالمين يتناول التارك مبدئيا ولم يخصه تهاونا بشأنه واستخفافا به.
وغير خاف أن الحج أحد أركان الإسلام الخمس، وله شروط وأركان وسنن مبينة في كتب الفقه، وذكرنا ما يتعلق بالرمي في الآية ١١٣ من سورة الصافات في
371
ج ٢، وفيها ما يرشدك إلى المواضع الأخرى الباحثة عن ذلك، ولبحثه صلة في الآية ٢٥ فما بعدها من سورة الحج الآتية، وقد فرض في السنة التاسعة من الهجر مما يدل على أن هذه الآية متأخرة في النزول عن سورتها، وقد وضعت هنا كفيره بإشارة من حضرة الرسول ودلالة من الأمين جبريل طبق ما هو عند الله. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان. وبينا أن الصوم فرض في ١٠ شعبان السنة الثانية من الهجر.
وأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء في ٢٧ رجب السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بسنتين وسبعة أشهر تقريبا، وأن الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة ورويا عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا يشير الرجال إلا لثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى. هذا، ومن آيات البيت المشرف الحجر الأسود الذي هو مبدأ الطواف وعلامة على انتهاء الشّوط ويسمى الركن وهو بيضوي الشكل بقطر ثلاثين سانتيما تقريبا، وهو مقدس لذاته ولمعنى فيه فضلا عن وجوده في البيت، وقد جاء في الخبر أنه يمين الله تعالى في الأرض، والأمر بتقبيله أو لمسه يدل على ذلك، قال ابن عباس: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن، وإنما سودته خطايا ابن آدم- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح- وله عنه قال: قال رسول الله في الحجر والله ليبعثنه يوم القيامة وله عينان يبصر فيهما ولسان ينطق به ليشهد على من استلمه بحق. وله عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب. - قال الترمذي وهذا موقوفا على ابن عمر-. قال تعالى «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ» الدالة على صدق رسالة رسوله «وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ جملة حالية أي كيف يقع منكم ذلك، والحال أن الله شهيد عليكم ويا سيد «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
372
«تَبْغُونَها»
سبيل الله الموصلة إليه «عِوَجاً» بكسر العين أي الزيغ والميل عن الاستواء في الدين والقول والعمل وكل ما لا يرى، أما الجدار والعصا وغيرهما مما تراه العين فيفتح العين راجع الآية الأولى من سورة الكهف المارة في ج ٢، «وَأَنْتُمْ شُهَداءُ» بأن الدين الحق ما عليه محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وأن ما أنتم عليه ضلال «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (٩٩) من إلقاء الشبه بقصد تشكيك الناس لصدهم عن الإيمان بمحمد واتباع دينه القويم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» (١٠٠) فاحذروهم وتباعدوا عنهم
ثم أتى بما ينم بالتعجب من طروء الكفر على الإيمان بقوله «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ» بالله ورسوله استفهام تعجب يليه جملة حالية أي كيف يكون منكم ذلك «وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ» قائم بين أظهركم، أي لا يليق بكم ذلك بل لا يتصور وقوعه منكم وأنتم على ما أنتم عليه من العقل والدراية «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ» ويتمسك بدينه ويتبع رسوله «فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (١٠١) بوصله إلى الجنة لأن من يعصمه الله يقيه من الوقوع في الآفات ويدفع عنه كل شر.
مطلب فتن اليهود وإلقائها بين المسلمين وسبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول وألفتهم:
ولما رأى شاس بن قيس اليهودي ألفة الأوس والخزرج في الإسلام بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العدوان قال والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر من يذكّرهم بوقائعهم يوم بعاث وما جرى فيه من القتل بينهم والسلب ليوقع بينهم الشحناء ويثير الضغائن الكامنة في قلوبهم، والفتنة قائمة لعن الله من أيقظها ولا سيما والناس كانوا قربي عهد بالإسلام، فذكروهم ولا زالوا يثيرون بينهم ما وقع منهم زمن الجاهلية، حتى استفز أوس بن قبطي من بني حارثة الأوسي وجبار بن صخر من بني سلمة الخزرجي، فتفاخروا وتمارون بما أغضب الفريقين، وحملهما على حمل السلاح وخرجا إلى الحرة ليتقاتلا، قاتل الله اليهود ما ألعنهم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخذ المهاجرين وخرج إليهم، فقال أجاهلية وأنا بين
373
أظهركم، وقد أكرمكم الله بالإسلام وقطع أمرهم عنكم، وألف بينكم، أترجعون إلى الكفر! الله الله، فوقع كلامه فيهم موقعا بعيدا وزاح عنهم ما بينهم وعرفوا أنها نزعة شيطانية قام بها أعداؤهم اليهود، فألقوا السلاح وتعانقوا، وتباكوا ورجعوا مع حضرة الرسول سامعين مطيعين. قال جابر فما رأيت يوما أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم، وأنزل الله الآية المارة وأعقبها بقوله جل قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (١٠٢) وهذه الآية محكمة لأن من التقوى قيام العبد بأداء ما يلزم بقدر طاقته لا أنه يأتي بكل ما يجب عليه لله ويستحقه، لأنه مما يعجز البشر عنه، ولذلك قال بعض المفسرين إن هذه الآية منسوخة بآية التغابن عدد ١٦ وهي قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) بل هذه الآية مفسرة لها لا ناسخة ولا مخصصة، فمن اتقى الله جهده فقد اتقاه حق تقواه فضلا عن أنه يوجد من الكاملين من يتق الله حق تقواه، إذ يصرف كل زمنه في عبادته والتفكر بآلائه ومصنوعاته ويتداوى بعبادته ويقول فيها:
إذا العبادة لم تنقذك من وصب كلا لعمري لم تشفك الأطباء
قال تعالى «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ» الموصل إليه وهو القرآن الآمر بالألفة والمودة والمفضي لدخول الجنة «جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» كاليهود والنصارى الآن وكما كنتم زمن الجاهلية على اختلاف ألوانكم وأجناسكم «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» كما كنتم قديما لأن أوس وخزرج أخوان شقيقان، فلما تناسلوا وكثروا وقع بينهم الخلاف فتعادوا بسبب حسد بعضهم بعضا ووضع بينهم العداء، وإذا وقع الخصام بين الأقارب كان قويا ولهذا قيل:
وظلم أولي القربى أشدّ مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
ولهذا يذكر الله تعالى بحالتهم الأولى وما آبوا إليها بقوله «وَكُنْتُمْ» قبل الإسلام اشتد بينكم الخصام حتى صرتم «عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ» ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم «فَأَنْقَذَكُمْ» الله «مِنْها»
374
بسبب إيمانكم به واتباعكم رسوله، إذ ألف بينكم الإسلام ونجاكم من الوقوع بالكفر «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشافي «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٠٣» قال مقاتل بن حبان: افتخر ثعلبة بن غنم الأنصاري من الأوس فقال منا خزيمة بن ثابت ذر الشهادتين، وحنظلة غسيل الملائكة، وعاصم بن ثابت ابن أفلح حمى الدين (واعلم أن «أفلح» اسم تفضيل من أفلح وهو خاص بمن هو أشرم الشفقة السفلى، ويقال لأشرم العلياء «أعلم» وللفرجة التي بين الشاربين تحت ضلع الأنف «نثرة» قف على هذا فقل من يعرفه) وسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته ورضي الله بحكمه في بني قريظة، فرد عليه سعد بن زرارة الخزرجي فقال منا ابي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد الذين أحكموا القرآن، وسعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم (قيل إن سعدا هذا بال في جحر فقتله الجن وقالوا فيه:
قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده. ضربناه بسهم فلم تخطئ فؤاده ولهذا كره الفقهاء البول في الجحر خوفا من حيوان يؤذي أو يؤذى) وتفاخروا فيما بينهما، وتناشدوا الأشعار، وقاموا إلى السلاح، فأتاهم رسول الله فأصلح بينهم، وأنزل الله هاتين الآيتين المتقدمتين على هذه الآية، والأول الذي ذكرناه آنفا في سبب النزول وهو قصد إيقاع الفتنة من اليهود بينهما أولى وأوفق في مناسبة سياق الآية ولفظها، لأن الحوادث التي ذكرت في تفاخرهم من حكم سعد وموته وشهادة خزيمة وموت حنظلة لم يقع قبل نزول هذه الآيات ولا في زمنها حتى يكون سبب النزول مسوفا إليها، وعلى القول بأنها متأخرة بالنزول فكذلك لا يستشهد بها على ذلك. جاء في افراد مسلم من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ألا وإني تارك فيكم ثقلين، أحدهما كتاب الله هو حبل الله المتين، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة، الحديث.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به. وروى مسلم حديث ابن أرقم بأطول من ذلك، وفيه وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي كررها مرتين.
375
واعلم أن سبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم هو أن سويد بن الصامت الذي كان شريفا في قومه ويسمى بينهم الكامل لجده وحسبه ونسبه، قدم مكة بعد مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم، فاجتمع به ودعاه للإسلام فقال له إن معي مجلد لقمان يعني كلمته وسيرته، فقال له الرسول اتلها علي فتلاها، فقال هذا حسن، وما معي أفضل منه، قرآن أنزله الله علي نورا وهدى، وتلا عليه مما كان قد نزل، فقال هذا القول حسن وانصرف إلى المدينة، وقتل يوم بغاث، فقال قومه قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الحبس أنس بن رافع وأياس بن معاذ مع فتية من بني عبد الأشهل يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال لهم هل لكم إلى خير مما جئتم به قد بعثني الله إلى العباد رسولا أدعوهم بعدم الشرك وأنزل علي الكتاب، وتلا عليهم منه، فقال أياس أي قوم والله هذا خير، فضربه أبو الحبس بخفنة من الحصباء وقال ما لهذا جئنا، وانصرف رسول الله ورجعوا إلى المدينة، وهلك أياس في واقعة فيما بينهم، ثم خرج الرسول إلى الموسم يدعوا الناس إلى الله كعادته لعله يجد من يأخذ عنه دينه فيهتدي به أو يستحسنه فيذكره لغيره كسويد بن الصامت وأياس بن معاذ المذكورين آنفا، فلقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وهم أسعد بن زرارة، وعون بن الحارث بن عفراء، ورافع بن مالك العجلاني، وقطبة بن عامر بن خريدة، وعقبة بن عامر بن باني، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، فجلس إليهم وتلا عليهم قرآنا ودعاهم إلى الإيمان، فآمنوا، وكانوا يسمعون من اليهود أن نبيا يخرج آخر الزمان ويقولون إنهم يتبعونه ويقتلونهم معه وقال بعضهم لبعض لنسبقن اليهود عليه، وقالوا للرسول سندعوا قومنا إلى اتباعك وعسى الله أن يجمعهم عليكم فلا يكون أعزّ منك، ولما دخلوا المدينة ذكروا حضرة الرسول ورغبوا أتباعهم في الإسلام، فأسلموا، وفشا الإسلام بالمدينة لما رأوا من حسن تعاليمه القيمة وعملوا بما بلغهم عنه من المذكورين، وفي الموسم الآخر قدم من المدينة اثنا عشر رجلا زكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة من الخزرج، وأبو الهيثم ابن التيهان، وعويمر بن مساعدة من الأوس، والستة الأول، فبايعوا حضرة الرسول
376
في العقبة الأولى على صيغة وصفة بيعة النساء المبينة في الآية ١٣ من سورة الممتحنة الآتية، وقال لهم الرسول إن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئا من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة، وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم، وبعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن أسعد بن زرارة وصاروا يجلسون في حائط بني ظفر، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن صفير انطلق إلى هذين الرجلين- يريد مصعبا وأسعد- فازجرهما لئلا يسفها ضعفائنا، فلولا أن أسعد ابن خالتي لكفيتكه، فأخذ حربته وتوجه نحوهما، فلما رآه سعد قال لمصعب هذا سيد قومه، فلما وصلهما قال لهما اعتزلا عنا، فقال له مصعب أو تجلس فإن رضيت أمرا قبلته، وإلا كف عنك ما تكره، قال أنصفت، فركز حربته فكلمه بما يتعلق بالإسلام من آداب وأخلاق وتوحيد الإله وتفنيد الشرك وقرأ عليه القرآن، قالا والله لقد عرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، فقال لهما ما أحسن هذا وكيف الدخول في هذا الدين؟ قالا تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتصلي ركعتين، فقال إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد وأخذ حربته وأقبل على نادي سعد، فقال سعد لمن عنده أحلف لكم إنه جاء بغير الوجه الذي ذهب به فقال يا أسيد ما فعلت؟ قال ما رأيت بهما بأسا وقالا لا نفعل إلا ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه تحقيرا لك لأنهم عرفوه
ابن خالتك، فقام مغضبا وأخذ حربته، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا أراد ذهابه إليهما ليسمع منهما، فقال أسعد لمصعب هذا والله سيد قومه، فقال له مصعب أو تقعد فتسمع فإن رغبت قبلت وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره، قال أنصفت، فقرأ عليه القرآن وعرض عليه الإسلام، قالا فعرفنا الإسلام فى وجهه والله قبل أن يتكلم، فقال وكيف الدخول في دينكم؟ قالا له مثل ما قالا لأسيد وأن مبنى هذا الدين على العفو والسماحة والغيرة والشهامة من كل ما يؤثر في قلب الكريم أمثاله، فقبل ذلك، فقام واغتسل وطهر ثيابه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته وذهب، فلما أقبل على الناس قال أسيد والله إنه رجع بغير الوجه الذي ذهب به، فلما وقف عليهم قال يا بني
377
عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم، قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقية، قال فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى في دار بني الأسهل رجل ولا امرأة إلا مسلم ومسلمة، وأمر مصعبا بتلقينهم الإسلام وتعاليمه وتحبب إليهم بالطرق التي تمرن عليها رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، ثم صار مصعب وأسعد يدعوان الناس إلى الإسلام علنا حتى لم يبق في المدينة بيت من بيوت الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار أمية ابن زيد وخطمة ووائل إذ كان فيهم أبو قيس الأسلت فوقف بهم عن الإسلام وكان شاعرا مشهورا. واعلم أن كلمة الأنصار لم تعرف قبل هجرة الرسول إلى المدينة وإنما كانوا يسمون بقبائلهم، وإنما لقّبوا بها لتشرفهم بموالاة حضرة الرسول ونصرتهم له. هذا، وفي الموسم الثالث خرج مصعب وأسيد ومعهم سبعون رجلا وامرأتان هما نسيبة بنت كعب وأم عمارة أسماء بنت عمرو أم منيع إلى مكة وأخذوا معهم أبا جابر والتقوا برسول الله بالعقبة، وكان معه العباس ولم يسلم بعد، فقام خطيبا وقال يا معشر الخزرج (وكانوا يطلقون هذه الكلمة على الأوس والخزرج) إن محمدا منا حيث علمتم وقد منعناه عن قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وأنه قد أبي إلا الانقطاع إليكم والحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم مسلموه وافون إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم به من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة، فقالوا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما شئت، فبدأ صلّى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا- أي ظهرنا ويطلق على القوة والضعف فهو من الأضداد- فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناهما كابرا عن كابر، فاعترض القول والبراء يتكلم أبو الهيثم بن التيهان، فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا وعهودا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك
378
وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال صلّى الله عليه وسلم أخرجوا لي منكم اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، قال عاصم بن عمر بن قتادة إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله قال العباس بن عبادة بن ثعلبة الأنصاري يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتوه فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، ثم قالوا فما لنا بذلك يا رسول الله إن وفينا؟ قال الجنة، قالوا ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، وأول من ضرب على يده
البراء بن معرور، ثم تتابع القوم، قال فلما بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمع قط (يا أهل الحباحب، هل لكم في مذمم والصياة معه قد أجمعوا على حربكم، فقال صلّى الله عليه وسلم هذا عدو الله إبليس هذا أرنب العقبة أي شيطانها، اسمع عدو الله والله لأفرغنّ لك) ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم انفضوا، فقال العباس بن عبادة والذي بعثك بالحق لئن شئت ليملن عليهم أي على أهل منى بأسيافنا، فقال صلّى الله عليه وسلم لم تؤمن؟؟ بذلك (ومن هنا يعلم أن هجرة رسول الله لم تكن عن ضعف وخوف كما أشرنا إليه في بحث الهجرة آخر الجزء الثاني لأنها متصورة قبل اجتماع قريش في دار الندوة على الصورة المارة في بحث الهجرة المذكور. وهذه الحادثة قبلها بسنة وستة أشهر) وما كانت إلا لظهور الإسلام وعلوه وفاقا لما هو عند الله أزلا بأن الإسلام يفشو بالمدينة قبل مكة بسنتين، ومن هنا يظهر قول عيسى عليه السلام (ألحق أقول لكم أن لا يكون نبي في قومه) فرجعنا إلى مضاجعنا وكان وقت السحر من اليوم الثاني من ذي الحجة سنة ٥٢ من ميلاده الشريف الثانية عشرة من البعثة العظيمة، فصابحوهم أجلة قريش وقالوا يا معشر الخزرج بلغنا أنكم بايعتم صاحبنا على حربنا، وإنا والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن ينشب الحرب بيننا وبينه منكم،
379
قال كعب بن مالك فانبعث بعض المشركين من قومنا يحلفون بالله ما كان شيء من هذا وما علمناه أبدا، فصدقوا لأنهم لم يعلموا بالمبايعة، ولو علموا لما اعتذروا لأنهم لا يخافون من قلة عدد أو وهن عدد، قال وكان بعضنا ينظر إلى بعض، فقاموا ورجعوا ووقانا الله من الكلام، ولولا أن سخّر الله بعض مشركيهم وحلفوا على نفي ما سمعوا وهم صادقون لصدقوا ما سمعوا به ولوقع ما وقع.
وهذا أول خير رأوه من بيعة حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وأظهروا فيها الإسلام. وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله، فقال لهم حضرة الرسول إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها وأمرهم بالهجرة إلى المدينة، وأول من هاجر أبو أسامة بن عبد الأسد المخزومي، ثم عامر ابن ربيعة، ثم عبد الله بن جحش، ثم تتابعوا حتى هاجر رسول الله على الصورة المبينة في الآية ٤٤ من سورة العنكبوت في ج ٢، ودخل المدينة يوم الاثنين في ١٢ ربيع الأول سنة ١٣ من البعثة، وجمع الله شملهم، وأزال الضغائن من بينهم بسببه صلّى الله عليه وسلم وذلك قوله (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) بعد حروب دامت مئة وعشرين سنة بين الأوس والخزرج.
مطلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجتماع والفرقة وكون هذه الأمة خير الأهم ومعنى كان والتذكير والتأنيث:
قال تعالى «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ» أيها المؤمنون «أُمَّةٌ» جماعة «يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ» الطائفة التي هذه صفتها «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (١٠٤) الفائزون بنعيم الدنيا والآخرة «وَلا تَكُونُوا» أيها المؤمنون «كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا» في أمر دينهم كأهل الكتابين والصابئين «مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» على الوحدة في الدين ولم الشعث والألفة بأن يكونوا يدا واحدة فاختلفوا «وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ١٠٥» في الآخرة لا يتصورونه عدا ما ينالهم في الدنيا من الذل والهوان والصغار والعار والخزي والخسار وما يصيبهم من قتل وأسر وسبي وجلاء.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من رأى
380
منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. لأنه لم يأخذ بالعزيمة، فعلى الرجل الحازم أن يغير المنكر ما استطاع بيده إذا كان مرتكبه من هو تحت ولايته كابن وزوجته لأنه لا يعذر بإقرارهم عليه لكونه مسؤلا عنهم عند الله. قال صلّى الله عليه وسلم. كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته.
فالرجل راع في أهله، والزوجة راعية في بيت زوجها، فإذا قصّرا سئلا، لأن كلّا منهم قادر على إزالة ما يقع من المنكر، وإلا فله أن يطلق زوجته ويطرد ابنه إذا لم يمتثل، فهذا شأن المسلم وطريق جماعة المسلمين. وأخرج أبو داود عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. والربقة الحبل الذي فيه العرى وتشد فيها الغنم، والمراد بها هنا عقد الإسلام وعهده. وروى البغوي بسنده عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من سرّه أن يسكن بحبوحة الجنة أي وسطها- فعليه بالجماعة فإن الشيطان مع الفذ- أي الواحد-. وأخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار. وأخرج عن أنس: مثل أمتي مثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله. وأخرج البخاري عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا خرقا في نصيبنا لم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا. والأمر في هذه الآية للوجوب الكفائي، أما في قوله تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) الآية ١٣٢ من سورة طه في ج ١ فهو للوجوب العيني بدليل قوله تعالى هنا (مِنْكُمْ) أي بعضكم فإذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وإلا فالكل آثم لقوله صلّى الله عليه وسلم: إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعذابه. وأخرج الإمام أحمد وأبو يعلى عن درّة بنت أبي لهب قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خير الناس؟ قال آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم. وروى الحسن
381
عنه صلّى الله عليه وسلم: من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله ورسوله وخليفة كتابه. وقد ذكر الله تعالى في صدر هذه الآية ما هو الحسن والخير ثم أتبعه بنوعيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغة في البيان. والمعروف كل شيء يعرف بالعقل حسنا ويحسنه الشرع، والمنكر عكسه أي كل شيء يعرف بالعقل منكرا ويقبحه الشرع. الحكم الشرعي: يجب وجوبا كفائيا على من آنس في نفسه الكفاية أن يتصدر لأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر على أن يكون رحب الصدر لا تصده كلمة متكلم ولا يغضبه نهر ناهر ولا يترك من أجل متعند أو متعنت لأن الترك بهذه الأسباب لا تخلصه عند الله إذا كان متعينا عليه.
قال الحسن البصري والأكمل أن لا يعيب الناس بعيب هو فيه، وأن يأمر بإصلاح عيوبهم بعد أن يصلح عيبه، وإلا فليشتغل بخاصة نفسه، وعلى الناس أن يأخذوا بقوله ولو لم يقم هو بما يأمر، ولا حجة لهم عليه بقوله تعالى (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) الآية الثانية من سورة الصف الآتية لأن المراد منها نهيه عن عدم الفعل لا عن القول، ولا بقوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) الآية ٤٤ من سورة البقرة المارة لأن التوبيخ فيها على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر، ولا يمنعه عدم أخذ الناس فيما يأمرهم وينهاهم، وإنما عليه القيام بالأمر والنهي فعلوا أم أبوا ليخلص عند الله وتكون الحجة عليهم، وإذا قام بعض الأمة في هذا سقط عن الإثم عن الباقين وآمنوا من الوعد والوعيد الوارد في قوله صلّى الله عليه وسلم: لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليسلطنّ الله عليكم سلطانا ظالما لا يجلى كريمكم ولا يرحم صغيركم، ويدعوا خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون.
قال تعالى واذكر لقومك يا محمد «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» من المؤمنين يوم القيامة فيسرون ويتباهون على رءوس الأشهاد «وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» الكافرين فيه فيتحسرون على ما وقع منهم في الدنيا ويفتضحون في ذلك الموقف العظيم «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ» فيقال لهم على ملأ الناس «أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» بالله يوم أعطيتموه العهد والميثاق في عالم الذر «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» (١٠٦) فيه ولنقضكم العهد الذي عاهدتم عليه
382
ربكم «وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ» بإيفائهم العهد وقيامهم بما أمروا به واجتنابهم لما نهوا عنه «فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (١٠٧) لا يتحولون عنها أبدا، والمراد بالرحمة هنا الجنة «تِلْكَ» حالة الفريقين يوم القيامة هي «آياتُ اللَّهِ» القاضية بذلك «نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» كما أنزلت بالحق لتتلوها على قومك ليأخذوا بها ويحفظوا أنفسهم من عاقبة يوم القيامة فيقوها من الظلم بالدنيا «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ» (١٠٨) بإركاسهم في النار وإنما هم يسببوه لأنفسهم ويريدون ظلم غيرهم بإعراضهم عن الأخذ بآيات الله «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (١٠٩) فيقضي بها وحده بالعدل. واعلم أن اسوداد الوجه يحصل للكافر من شدة ما يلاقي من الهول، قال الشاعر:
ومن الحدثان نسوة آل سعد بمقدار سمدن له سمودا
إلى أن قال:
فرد شعورهن السود بيضا وردّ وجوههن البيض سودا
كما أن ابيضاض وجه المؤمنين يحصل من السرور العظيم الذي يرونه فتبتهج وتنبسط، وقيل في المعنى:
وتنبسط الوجوه لأمر خير كما تغبر من شر تراه
وقال غيره:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وفي هذا البيت اكتساب المضاف التأنيث من المضاف اليه كما في قوله:
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
وقد يكتسب التذكير أيضا كما في قوله:
انارة القلب مكسوف بطوع هوى وقلب عاص الهوى يزداد تنويرا
تحذر هذه الآية الناس عاقبة أمرهم إذا هم لم يقوموا بأوامر الله تعالى بما ذكر ألا فليقلع الناس عما هم عليه قبل حلول الأجل وليزداد الطائعون طاعة لينالوا ما وعدهم الله به من الخير. هذا ولما قال مالك بن الصيفي ووهب بن يهوذا اليهوديان
383
لعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة نحن أفضل منكم، أنزل الله تعالى على رسوله خطابا له ولأمته قوله جل قوله:
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» ولهذا وصفتم بالأخيرية على غيركم من الأمم «وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ» كإيمانكم بمحمد وكتابه «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» من الإصرار على ما هم عليه الذي يؤدي بهم إلى شر العاقبة وليس كل أهل الكتاب على ضلال «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ» كالنجاشي وأصحابه من النصارى الذين آمنوا قبلا وعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود المتوقع إيمانهم، لأنهم يصدقون الرسول ويؤمنون بكتابه ويميلون للإسلام، وهؤلاء آمنوا بعد نزول هذه الآيات كما سيأتي في الآية ١٧ من سورة النساء «وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (١١٠) ويدخل في هذا الخطاب جميع الأمة المحمدية أولها وآخرها إلى قيام الساعة بحسب معناها على أنه إذا كان المخاطب به محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فهو على حد قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) الآية ١٤ من البقرة ونحوه فإنه خطاب عام يشمل الكل وإن كان بحسب اللفظ للحاضرين فقط، روى نهر بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) إلخ قال أنتم تتممون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله- أخرجه الترمذي- وفي حديث آخر افترقت الأمم إلى اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي وهنا سبعون باعتبار بعض الأمم تضم فرقا أخرى، وكان هنا ناقصة تدل على تحقيق الشيء بصفته في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابق أو لا حق، وتحمل تارة على الانقطاع كما في قولك كان التمر موجودا، والرجل قائما، وطورا على الدوام كقولك كان البر محمودا، وكان ربك رحيما، ومنه (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) الآية، ولها ارتباط بالآيات قبلها، وقد سبق بيان المعروف الذي تتسابق إليه النفوس الطيبة وتتسارع له ذوو المروءات والشهامة، وملاك الأمر فيه محصور في قوله صلّى الله عليه وسلم: (التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله) لأنه إما أن يكون لواجب الوجود لذاته وهو الله جل شأنه ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته والخضوع لأمره
384
والخشوع لجنابه والاقنات لباب عزته والاعتراف بكونه موصوفا بصفات الكمال مبرأ عن النقائص أو للمكنى بذاته، وهو إما أن يكون حيوانا فيجب إظهار الشفقة عليه بغاية ما يقدر عليه إنسانا كان أو غيره، وإذا كان جمادا فعلى العاقل أيضا أن ينظر إليه بعين التعظيم من حيث أنه مخلوق لله، لأن كل ذرة من ذرات الوجود فيها سرّ وحكمة لله تعالى ودليل على وجوده وبرهان على توحيده، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية ٤٥ من الإسراء في ج ١ وقال أمية بن الصلت:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
ففعل المعروف لكل بما يناسبه معروف عند الله وتسر النفس بفعله إذا كانت طيبة طاهرة، ولله در القائل:
ويهتزّ للمعروف في طلب العلا... لتذكر يوما عند سلمى شمائله
هذا إذا فعله لسلمى، فكيف إذا فعله لربها، فإنه يذكره في ملئه الأعلى، وشتان بين هذا وذاك، فالسعيد من يصرف عمله وماله وجاهه في مرضاة الله، والشقي من يعكس، وكل ميسر لما خلق له، قال:
ولست أرى السعادة جمع مال... ولكن التقي هو السعيد
هذا إذا رافقته عناية الله، وإلا فكما قال:
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيّرت... ظنون مربيه وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر... وموسى الذي رباء فرعون مرسل
روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: خير الناس قرني (أي الزمن الذي هو فيه وهو ما بين الثلاثة والثلاثين سنة والمائة) ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. قال عمران لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم ان بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن. زاد في رواية: ويحلفون ولا يستحلفون. ورويا عن ابن مسعود خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم تجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته وذلك لقلة يقينهم
385
وضعف دينهم وعدم مبالاتهم في الزور والعياذ بالله، ولذلك قال الفقهاء: من شهد قبل أن يستشهد لا تقبل شهادته، أي لما فيها من التهمة بسبب تسابقه عليها، أما إذا كان لديه شهادة لصاحب حق لا يعرفه كقاصر أو غائب فعليه أن يخبر صاحب الحق بذلك ليشهد له عند الاقتضاء، وهذا لا يدخل في الحديثين المارين، بل هو مأجور لما فيه من إظهار الحق، راجع الآية ٢٨٢ من سورة البقرة المارة. ورويا عن أبي سعيد الخدري، قال: قال صلّى الله عليه وسلم لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
هذا ولما عمد اليهود إلى ضر المؤمنين وصاروا يتداولون في إساءتهم ووقع في قلوب المؤمنين شيء من الرهب لما يعلمون من كيدهم ومكرهم أنزل الله تطمينا لهم قوله جل وعلا «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً» هو ما يقع من بذاءة لسانهم من الشتم والتهديد والطعن في الدين «وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ» لا يقدرون عليكم، لأن الله ألقى الرعب في قلوبهم منكم، ولذلك فإنهم إذا أقدموا على قتالكم «يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ» يهربون أمامكم خوفا منكم ويخذلون بنصرة الله لكم «ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» (١١١) عليكم أبدا، وذلك لأنهم «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ» من الله فصاروا يتوقعون القتل والسبي والجلاء، ووقع عليهم الصغار والهوان بضرب الجزية عليهم «أَيْنَما ثُقِفُوا» وجدوا وقبضوا ولم يأمنوا منكم «إِلَّا بِحَبْلٍ» عهد وذمة وأمان «مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ» أمان وذمة «مِنَ النَّاسِ» أي المؤمنين «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» استوجبوه بسوء فعلهم ورجعوا به وأملوا أنفسهم فيه «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ» خوف الفقر مع اليسار وخوف الفزع مع الأمن «ذلِكَ» الغضب والذلة والمسكنة «بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ» الكفر والقتل «بِما عَصَوْا» الله وخالفوا أمره وتعاليم رسله وجحدوا كتابه «وَكانُوا يَعْتَدُونَ» (١١٢) على أنفسهم وعلى غيرهم ويتجاوزون حدود ربهم. واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ست آيات مبدوءة بحرف الضاد هذه والآية ١٠ من سورة التحريم الآتية والآية ٧٥ من سورة النحل و ٢٧ من سورة الروم و ٢٩ من سورة الزمر و ٢٧ من سورة النازعات
386
المارات في ج ٢. أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والطبراني بسند حسن واللفظ للأخيرين عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب فأنزل الله «لَيْسُوا سَواءً» أي ليس المؤمنون الذين يصلونها مثل غيرهم ممن لم يصلها ثم ذكر ما يزيل إيهام تساويهم بقوله «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ» على طاعة الله «يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ» (١١٣) لهيبة الله ويقرءون في صلاتهم وهم قيام خاشعين لربهم، وهذا لأن التلاوة لا تكون عادة في السجود بل في الصلاة حالة القيام، لأن الركوع والسجود فيهما التسبيح فقط، وإنما أطلق السجود على الصلاة كما ذكرنا في تأويل الآية لأنه أقرب حالات المصلي إلى ربه، فيكون من هذه الجهة معظم الصلاة مكنى به عنها، وهذه الطائفة «يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «مِنَ الصَّالِحِينَ» (١١٤) لقرب الله وجنته، فلا يتساوون مع أمة مذمومة عاصية لربها لا تؤمن ولا تسارع للخير بل بقيت على ضلالها راجع الآية ١٥٦ من سورة الأعراف ج ١ والآية ١١١ من البقرة المارة وما ترشدك إليه من الآيات، وهؤلاء هم الذين سبق ذكرهم بالآية الأولى ولم يذكرها الله ثانيا اكتفاء بذكرها أولا، وهذا مما هو جار على عادة العرب فانهم يستغنون بذكر أحد الضدين عن الآخر قال أبو ذؤيب:
دعاني إليها القلب إني امرؤ لها مطيع فلا أدري أرشد طلابها
أي أو ضلال اكتفاء بذكر الضد أولا، ومثله في القرآن كثير، راجع الآية ٨١ من سورة النحل في ج ٢. ومما يدل على أن سبب نزول هذه الآية ما ذكر في الحديث وإن المعنى لا يستوي اليهود المذكورون بالآية التي قبلها وأمة محمد المقصودون في هذه الآية، مارواه الطبري بسند صحيح عن المنكدر أنه قال:
خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة وأنه أخر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة والناس ينتظرون في المسجد، فقال: أما انكم لن تزالوا في صلاة
387
ما انتظرتموها، ثم قال أما إنها صلاة لم يصلها أحد ممن كان قبلكم من الأمم.
وما نقل عن ابن عباس أنها نزلت حينما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة وأمية بن شعبة وأسيد بن عبد وغيرهم، وإن اليهود قالوا لو لم يكونوا أشرارنا لما تركوا دينهم لا يصح لأن عبد الله بن سلام لم يسلم بعد كما أشرنا إلى ذلك آنفا في الآية ١١٠ وفي الآية ٢٠ من سورة الأحقاف ج ٢. قال ابن عباس ولما قال اليهود إن الذين أسلموا خسروا أعمالهم الصالحة وأموالهم لا لتجائهم إلى المؤمنين الفقراء، ردّ الله عليهم بقوله «وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ» ولم يحرموا ثوابه البتة بل يحفظ لهم تقواهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» (١١٥) قبل إيمانهم وبعده.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (١١٦) أبدا.
هذه الآية عامة في جميع أنواع الكافرين، وما قيل إنها خاصة باليهود قيل لا يلتفت إليه، ونظيرها الآية ١٠ المارة إلا أن خاتمتها تختلف عن هذه، ثم أنزل الله في بيان صدقات الكفار على الإطلاق أيضا في قوله عن قولهَ ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا»
من جميع أصناف النفقات معدوم من الثواب عند الله لأنه للرياء والسمعة والتفاخر، ولهذا جعل الله مثلهَ مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ»
برد شديد أو حر مزيدَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»
بمعاصي الله وتجاوز حدودهَ أَهْلَكَتْهُ»
جزاء ظلمهمَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ»
بمحق ثوابهم منهاَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
(١١٧) لأنهم لم يبتغوا بها وجه الله في الدنيا فلم ينتفعوا بها في الآخرة، وهكذا كل نفقة ينفقها الرجل مؤمنا كان أو كافرا إذا لم يطلب بها مرضاة الله تكون عاقبتها الحرمان، بل قد يعذب من أجلها إذا كان في معصية أو لمعصية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً» أخصاء وأصفياء ولجاء «مِنْ دُونِكُمْ» من غير ملتكم وممن لا تعتمدون عليهم منكم أيضا، لأنهم ليسوا منكم إذا لم يكونوا مثلكم لأنهم «لا يَأْلُونَكُمْ» لا يقصرون فيما يعود عليكم بالشرّ والخذلان «خَبالًا» خسارا بنقص عقولكم «وَدُّوا» تمنوا ورجوا «ما عَنِتُّمْ» ما يوقعكم بالإثم والمشقة، أما ترونهم أيها
388
المؤمنون «قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» بشتمكم والطعن في دينكم «وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» بغضا لكم مما يظهرونه لكم «قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ» الدالة على صنعكم من موالاتهم والأضرار المرتبة عليها، فاحذروا موالاتهم «إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» (١١٨) مغزى هذا النهي، راجع الآية ٤٨ المارة ويتأكد هذا النهي في الحروب، لأن المؤمنين إذا اتخذوا فيها عمداء من غيرهم لا بدّ وان يعود عليهم اتخاذهم بالشر، لأن قضايا الحرب هامة جدا فلا يسوغ الاعتماد بها إلا على خلصاء الأمة، ولا يجوز الإدلاء بشيء مما يتعلق به إلا لمن يعتمد عليه منهم أنفسهم، وما تقوضت حكومة العباسيين ومن بعدهم إلا لهذا السبب، وخاصة الأندلس والأتراك أيضا.
مطلب حقد اليهود والمنافقين ورؤية حضرة الرسول وقصة أحد وما وقع فيها:
لهذا فإن هتلر زعيم الريح أخرج اليهود كافة من بلاده لما تحقق لديه أنهم هم السبب في انكسار الألمان في الحرب الواقعة سنة ٩١٤ م وقد يوجد منهم الآن وزراء في حكومتي انكلترا وأميركا ولا بد أن ينالهما الضرر منهم فيسببون تبديد ممالكهم إذا هم لم يوافقوهم على آرائهم من إنشاء دولة لهم حسبما وعدهم بلفور الظالم الغاشم لأن مقتضى دينهم المتمسكين به عدم النصح لعير اليهود واستحلال دم ومال غيرهم وتحريم النفع لغيرهم وهم أكبر عدو للنصارى عامة وللمؤمنين خاصة فإذا لم تنتبه هاتان الحكومتان إلى مكايدهم ودسائسهم فسوف يندمون ولات حين مندم هذا وتشير هذه الآية إلى رجوع عبد الله بن أبي بن سلول بجماعته وانخذالهم عن جماعة المسلمين في غزوة أحد الآتي بيانها، قال تعالى «ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ» وتفشون إليهم أسراركم وتتخذونهم أولياء وهم لا يخلصون إليكم «وَلا يُحِبُّونَكُمْ» ولا يقابلونكم بمثل ما تقابلونهم بل يتربصون بكم الدوائر ويظهرون لكم المحبة مداهنة لتطلعوهم على خفايا أموركم «وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ» بجميع ما أنزل الله من الكتب لأن أل فيه للجنس فيدخل فيه عامة الكتب والصحف السماوية وهم لا يؤمنون إلا بقسم من التوراة «وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا» نفاقا منهم إذ
389
يبطنون الكفر بدينكم «وَإِذا خَلَوْا» مع قومهم «عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» الكامن في قلوبهم يود أحدهم أن يقطعه إربا إربا وعض الأنامل عادة النادم الأسيف العاجز عن الانتقام أو تضييع وقته «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (١١٩) ومخبر نبيه بأحوالكم كلها واعلموا أيها المؤمنون «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ» من خير ونصر وغيرهما «تَسُؤْهُمْ» حسدا وعدوانا «وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ» من شر وخذلان وشبههما «يَفْرَحُوا بِها» تشفيا فيكم «وَإِنْ تَصْبِرُوا» على أذاهم وتجثنبوا موالاتهم «وَتَتَّقُوا» الله ربكم وتعتصموا به وتتوكلوا عليه فهو خير لكم و «لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» لأن الله يحفظكم منهم «إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» (١٢٠) وإنه يخبركم به لتتقوه فلا يضركم كيدهم، نزلت هذه الآيات في رجال من المسلمين كانوا يواصلون اليهود لما بينهم من قرابة ورضاع وصداقة وخلطة في الأموال والسكن قبل الإسلام
ولما أخبرهم حضرة الرسول ارتدعوا وجانبوهم، قال تعالى «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ» أي خرجت غدوة من بيت زوجتك عائشة لتوطن وتهيء وتمهد و «تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ» مجالس ومواضع «لِلْقِتالِ» للمقاتلين من قومك «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما تقوله لهم «عَلِيمٌ» (١٢١) بما يقع لك ولأمتك واذكر لهم «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» تجنبا عن القتال وتضعفا عن اللقاء وهذا الهمّ من قبيل جيشان النفس لا العزم والتصميم لأنه بمعناه الأخير بعيد عنهم وهم أصحاب محمد وهو معهم وإنما هو على حد قول القائل:
أقول لها إذا جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
أي حدثت نفسها بذلك، ومما يؤيد هذا قوله تعالى «وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» ومن كان الله وليه لا يجبن ولا يضعف كيف وهو ناصرهما وعاصمهما «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (١٢٢) ومن يتوكل على الله يكفه ويجعل له من ضيقه مخرجا ويهيء له ما يرومه من حيث لا يحتسب، روى البخاري ومسلم عن جابر قال:
نزلت فينا هذه الآية وقال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما يسرني
390
أنها لم تنزل لقول الله (وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) لما فيها من الشرف لهم بولاية الله.
لما انكسرت قريش في وقعة بدر المار ذكرها في الآية ٨ من سورة الأنفال ورجعوا خائبين قال بعضهم لبعض إن محمدا وتركم وقتل خياركم، وحث بعضهم بعضا على جمع المال واستعدوا للقتال وخرجوا قاصدين المدينة بقيادة أبي سفيان ومعه زوجته هند بنت عتبة حتى نزلوا على شفير الوادي بمقابل المدينة، فاستشار الرسول أصحابه فأشار عليه بعضهم بأن لا يخرجوا إليهم فإذا دخلوا المدينة قتلوهم فيها وأشار الآخرون بالخروج، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم أعجبه الرأي الأول لرؤيا رآها وهي أنه رأى في ذباب سيفه ثلما فأوولها هزيمة، ورأى أنه أدخل يده في درع منيعة فأوولها المدينة، إلا أن الآخرين كرروا عليه الخروج، فلبس لامته واستعد، فندم الذين أشاروا عليه وقالوا كيف نشير على نبي يأتيه الوحي واعتذروا وطلبوا إليه العدول عن رأيهم، فقال لا ينبغي لنبي يلبس لا مته فيضعها حتى يقاتل، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى وصل الشوط قريبا من أحد، والشوط حائد عند جبل أحد، انعزل عبد الله بن أبي بن سلول بأصحابه وانخذل راجعا مع المنافقين بحجة أن ليس هناك قتال، ومضى الرسول وأصحابه حتى نزلوا الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وتهيأ صلّى الله عليه وسلم للقتال، وصف أصحابه كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا أخره، أو داخلا قدمه، وأمرّ على الرماة عبد الله بن جبير وقال له انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتوننا من خلفنا إن كان علينا أو لنا، فاثبت مكانك لا يؤتين من قبلك، وعبأ الآخرين وقال لا تقاتلوا حتى نأمركم، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وظاهر صلّى الله عليه وسلم بين درعين، وأكد على عبد الله وأصحابه أن لا يبرحوا مكانهم ولا يتبعوا المدبرين، وقال لن نزال غالبين ما لبثتم في مكانكم، وتعبأت قريش وعلى ميمنتها خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة ابن أبي جهل، وصار النساء يضربن بالدفوف وينشدن الأشعار، فقاتلوا حتى حميت الحرب. وروى البخاري عن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا وهم الرماة عبد الله بن جبير، فقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا
391
هربنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فهزمهم الله، قال فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسواقهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله ابن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله؟ فقالوا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك قوله تعالى (والرسول يدعوكم في أخراكم فلم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين رجلا، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم أصاب من المشركين يوم بدر مئه وأربعين، سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا، فقال أبو سفيان أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات، ثم قال أفي القوم عمر؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه فقال كذبت يا عدوّ الله إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك، ولا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال يوم بيوم بدر والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم أر ما يسوءني.
ثم أخذ يرتجز ويقول أعلى هبل أعلى هبل، فقال صلّى الله عليه وسلم ألا تجيبوه؟ فقالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال قولوا الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان إن لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال صلّى الله عليه وسلم ألا تجيبوه؟ قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. وكان النبي أثناء الحرب أخذ سيفا وقال من يأخذ هذا بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن؟ فأخذه أبو دجانه سماك بن حرشه الأنصاري فاعتم بعمامة حمراء وصار يتبختر في مشيته، فقال صلّى الله عليه وسلم إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموقع. قال فلما نظرت الرماة المشركين وقد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب، فقال بعضهم لبعض لا تجاوزوا أمر الرسول، فلم يصغوا، وثبت عبد الله بن جبير ونفر دون العشرة، فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في قلبه، أي في الذين هم أمامه من قومه ليتبعوه، وحمل على اصحاب رسول الله فهزموهم، وحملوا على الرماة فقتلوهم، وأقبلوا على المسلمين، وتحولت
392
الريح دبورا بعد ما كانت صبا، وانقطعت صفوف المسلمين، واختلطوا فطفقوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا من الدهش، ورمى عبد الله بن قمئة حضرة الرسول بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله، وتفرق عنه أصحابه، ونهض إلى صخرة ليعلوها، فلم يستطع وكان قد ظاهر بين درعين، فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى على الصخرة، فقال صلّى الله عليه وسلم أوجب طلحة وكان حوله أبو بكر وعمر والعباس والزبير وعبد الرحمن بن سعد وتكاثر عليه المشركون وهو وأصحابه يذبونهم بأيديهم وثيابهم، ووقفت هند والنسوة يمثلن بالقتلى حتى جعلن من الآذان والأنوف قلائد وأعطينها وحشيا، وبقرت كبد حمزة رضي الله عنه فأخذت قطعة منه فلاكتها فلم تسغها فلفظتها، وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل الرسول فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو صاحب رايته صلّى الله عليه وسلم فقتله وهو يظن أنه قتل حضرة الرسول، فرجع وقال قتلت محمدا، وصاح صارخ إبليس عليه اللعنة ألا إن محمدا قتل، فانكفأ الناس، قالوا ولما فشا في الناس خبر قتل رسول الله، قال بعض المسلمين ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وقال المنافقون نلحق بديننا الأول، وقال أنس بن النضر إن كان محمد قتل فلم يقتل ربه، وما تصنعون بالحياة بعده، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال اللهم إني أعتذر إليك من هؤلاء المسلمين، وأبو إليك مما جاء به المشركون، ثم شد سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله رحمة واسعة. ثم جعل رسول الله يقول إليّ عباد الله، فاجتمع إليه نحو ثلاثين وكشفوا المشركين عنه، ثم رأى رسول الله رجلا في صورة مصعب حامل لواءه، فقال تقدم يا مصعب فقال لست، بمصعب فعرف أنه ملك، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه- السّية بالتخفيف ما يظهر من طرفي القوس- ونقل له رسول الله كنانته، وقال إرم فداك أبي وأمي، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر قوسين أو ثلاثة يومئذ، وكان الرجل يمر ومعه جعبة النبل فيقول انثرها لأبي طلحة وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله إذ كان يقي بها الرسول حتى يبست، وأصببت عين قتادة بن النعمان حتى
393
وقعت على وجهه فردها الرسول لمكانها فصارت أحسن ما كانت عليه، ثم انصرف الرسول من مكانه فأدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول لا نجوت إن نجوت، فتناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه في عنقه، فسقط وخار خوار الثور يقول قتلني محمد، فقال له أصحابه لا بأس، فقال لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم ومات بعد يوم. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشتد غضب الله على من قتله نبي في سبيل الله. اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه نبي الله. ولما صار الرسول يدعو الناس من على الصخرة عرفه كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول
الله، فأشار إليه أن اسكت، فانحدرت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على الفرار، فقالوا فديناك يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا، قالوا قد قتلت فولينا مدبرين من الرعب، فنزلت هذه الآية والتي بعدها والآيات ٤٨/ ٤٩/ ٥٠ من سورة القلم في ج ١ كما أشرنا إليها فيها.
مطلب من أمي قديم، إلى حزن حادث وفي الربا ومفاسده. ووجود الجنة والنار والأوراق النقدية:
وفي هذه الساعة من يوم الثلاثاء ١٤ صفر سنة ١٣٥٨ جاء إليّ قائد الدرك السيد محمد أمين العاشق الحديدي من أهالي دير الزور نعى إلي بمزيد الأسف وفاة ملك العراق المحبوب الشريف غازي الأول بسبب اصطدام سيارته بعامود الكهرباء في بغداد، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته وجبر مصاب أهل البيت والمسلمين أجمع بفقده، وعوضهم خيرا منه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون، فتركت القلم إلى العزاء بهذا المصاب الأليم وبصفتي وكيلا للقائمقام بقضاء القنيطرة علاوة على وظيفة القضاء أمرت بتنكيس الأعلام الرسمية وقعدت لأتقبل التعزية، وهكذا لمدة ثلاثة أيام، ثم عدت بعد انتهاء العزاء إلى ما أنا فيه جعلها الله خاتمة المصائب إلى إكمال هذا الحزن الذي فيه من أسى ما وقع لجده في حادثة أحد التي تكبد فيها حضرة الرسول ما تكبد من مشاق بسبب مخالفة أصحابه أوامره، ولكن ما قدره الله أزلا فهو كائن لا محالة.
394
قال تعالى «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» لقلة عددكم وعددكم «فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (١٢٣) نعمه، فإن التقوى هي الأساس الأقوى لنيل كل خير ودفع كل ضر، ولم تكرر لفظة بدر بالقرآن.
واذكر يا محمد لقومك «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ» يوم بدر وعليه اكثر المفسرين وقيل يوم أحد ولكل وجهة في تأويل القلة بالنسبة ليوم أحد، والكثرة بالنسبة ليوم بدر، وهو أحوج لأنه أول بادرة وقعت من المسلمين تقوية لقلوبهم وخذلانا لأعدائهم، ومقول القول «أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» (١٢٤) من قبل الله منزلين الخوف بقلوب أعدائكم «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ» من ساعتهم مأخوذ من فارت القدر إذا غلت واستعير إلى السرعة الشديدة التي لا ريث فيها، ولذلك وصف الفور «هذا» لتأكيد السرعة فكأن المؤمنين لما رأوا كثرة المشركين وبلغهم أنه سيأتيهم مدد، حصل لبعضهم خوف بسبب قلتهم، فقال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلم ما ذكره الله في صدر الآية وأكد لهم قربه لنصرتهم بقوله هذا، كأنه ينظر إلى نزول الملائكة من السماء ويشير إليهم قائلا هذا «يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» (١٢٥) معلمين بعلامات يعرفها الفارس يوم اللقاء، قال عنترة:
فتعرفوني أنني أنا ذلكم شاركي السلاح في الحوادث معلم
قال تعالى «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ» إمداد الملائكة «إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» بالنصر والمعونة «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» فتقوى ولا يتخللها الجزع من كثرة عدوها «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ» الذي لا غالب له النادر الوجود «الْحَكِيمِ» (١٢٦) بإعطائه النصر والظفر لمن يريد لا لمن نريد نحن حسبما هو كائن في علمه لأن كل ما يكون في الكون عبارة عن إظهار ما هو مدون أزلا عنده، لا من الملائكة ولا هو منكم، وقد فعل الله ذلك «لِيَقْطَعَ طَرَفاً» يهلك طائفة «مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ» يوهنهم ويصرعهم على وجوههم «فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» (١٢٧) من الظفر الذي أملوه في غزوتهم هذه. تشير هذه
395
الآية إلى أن القصد من إنزال الملائكة في حادثة أحد هو هذا لا غير، ولهذا ذكرهم بنصرهم بواسطة الملائكة في حادثة بدر مع قلتهم لأخذهم بتعاليم الرسول، وكان مددهم بألف من الملائكة لأن عدوهم كان ألفا، قال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ) الآية ١٠ من سورة الأنفال المارة فكان النصر لكم وفي واقعة أحد هذه قد أغاثكم أولا بثلاثة آلاف لتكثير سوادكم بأعين عدوكم، وإلا فملك واحد يكفي لإبادتهم، ألم تر كيف أدخل السيد جبريل جناحه تحت قرى قوم لوط الأربع ورفعها إلى العلو ثم قلبها كما مرت الإشارة إليه في الآية ٨٢ من سورة هود ج ٢، وان عدد الخمسة آلاف مشروط (١) بالصبر (٢) والتقوى (٣) ومجيء الكفار مددا، وبما أن مدد الكفار لم يأت لسماعهم بخذلان قومهم فالآية لا تشير إلى حضورهم إلا بتلك الشروط الثلاثة، وكان الوعد بإنزال الخمسة آلاف ليناسب عدد الكفار فيها كما كان الألف مناسبا لحادثة بدر بالنسبة لعددهم والله أعلم. قالوا إن الملائكة في حادثة أحد لم تقاتل إلا عند الدفاع عن الرسول.
روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد. وقال عمير بن إسحاق لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فنى النبل أتاه فنثره وقال إرم أبا إسحاق، إرم أبا إسحاق، فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف ذلك الرجل. ولهذا قال ابن عباس إن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وفي بقية الحوادث تنزل تكثيرا لسواد المسلمين، وحمل ما جاء في هذا الحديث وهذا الخبر على أنهما كانا جبريل وميكائيل، ومعنى يقاتلان أي يذبان ويدافعان عنه ويردان ضربات المشركين عنه بعد ما أصابه ما أصابه، ولم يغلب المؤمنون إلا بسبب مخالفتهم تعاليم حضرة الرسول كما مرّ. قال تعالى «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» (١٢٨) روى مسلم عن مالك بن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كسرت رباعيته وشجّ في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو
396
يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله هذه الآية وذلك لما رأى رسول الله تمثيلهم بحمزة وتجاسرهم عليه أراد أن يدعو عليهم. وقيل إنه أقسم ليمثلنّ في سبعين من خيارهم فرد الله عليه لعلمه بإسلام بعضهم وأنه قد يولد منهم من يوحد الله تعالى، ولهذا خاطبه بأن أمر إهلاكهم ليس لك بل هو لي وحدي إن شئت عذبتهم بظلمهم وإن شئت عفوت عنهم ووفقتهم للإيمان، وهنا نزلت الآيات من آخر سورة النحل كما ألمعنا إليها في محلها ج ٢. وما قيل إن هذه الآية نزلت في حادثة بئر معونه ينافيه سياق التنزيل وسياقه ومؤخره. قال تعالى «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وما فيهما كيف يشاء فينصر من يشاء ويخذل من يشاء و «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (١٢٩) بعباده لا يعجل عقوبتهم لسابق علمه بما يئول أمرهم إليه، فقد أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية، فنزلت الآية، ثم يتوب عليهم كلهم كما سيأتي بعد هذا، وكان قدوم قريش إلى أحد يوم الأربعاء في ١٢ شوال سنة ٣ من الهجرة وخروج الرسول وأصحابه بعدم. ومن هنا يعلم أن الآيات من ٩٠ إلى إلى ١٢٧ نزلت متأخرة عما بعدها كما هو معلوم من سياق القصص تأمل، وكان التقاء الجمعين يوم السبت الخامس عشر منه، وسبب الانكسار ما ذكره الله من المخالفة لأمر الرسول لأنه حذرهم من مبارحة أمكنتهم وأكد عليهم ملازمتها سواء غلبوا أم غلبوا كما مر آنفا في الآية ١٢٢، وقد أراد الله بذلك أن يمنعهم عن العود إلى مثلها فيتباعدوا عن مخالفته ولا يتجاسروا على معارضته ولا يميلوا إلى غير رأيه، وأن لا يدخل في قلب أحد منهم ريب بأن ما يريده هو الصواب وليعلموا أن ظفرهم يوم بدر كان ببركة نبيهم وطاعته ولطف الله ومعونته لا بقوتهم.
وسيأتي لهذه الحادثة زيادة تفصيل بعد هذه الآيات الواردة كالمعترضة بين آيات القصة وهي قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ» بالابتعاد عن تعاطي جميع أنواع الربا «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (١٣٠)
397
في الآخرة فتفوزوا بالسعادة وزيادة الثواب المتوقفين على التقوى في المحرمات كافة ومن تعاطي الربا في الدنيا لأنه من الكبائر
بدليل قوله تعالى «وَاتَّقُوا النَّارَ» بانكفافكم عنه لأنه يؤدي إليها، ويوجب الوقوع فيها وذوق عذابها المؤلم وهي «الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» (١٣١) وهيئت لهم لاستحلالهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل. وأنتم أيها المؤمنون إذا لم تنتهوا عن الربا يكون مصيركم مصيرهم.
تشير هذه الآية بهذا التهديد والوعيد لهذا الصنف من الناس وهي أخوف آية في القرآن إذ أوعد الله المؤمنين بما أعده للكافرين إن لم يجتنبوا محارمه، وهذه الآية والآية ٤٤ من سورة البقرة المارة تؤيد أن النار مخلوقة ومهيأة للكفار، كما أن الجنة معدة ومهيأة للمؤمنين، وهما كافيتان المراد على قول القائلين بعدم وجود الجنة والنار وأن الله سيخلقهما بعد، فضلا عن الآيات الأخر المثبتة وجودهما والأحاديث المخبرة عن ذلك، وخاصة حديث المعراج المصرح فيه اطلاع حضرة الرسول عليهما ليلة أسري به، راجع أول سورة الإسراء ج ١، فلم يبق من قيمة لما يتقولونه بعدم خلقهما بعد هذا تدبر «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» فيما يأمركم وينهاكم عنه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (١٣٢) فتخلصون من النار وتدخلون الجنة برحمته.
هذا، وقد ذكرنا في الآية ٣٩ من سورة الروم في ج ٢ ما يتعلق بربا البيوع كالعينة وشبهها وفي الآية ٢٧٥ فما بعدها من البقرة المارة ما يتعلق بربا النسيئة وهذه الآية الثانية النازلة في الربا المبينة ربا الفضل وهو نوع آخر من أنواع الربا الثلاثة وهو أعظمها إثما عند الله تعالى، راجع الآية ١٧٥ من البقرة، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا استحق الدين الذي أصله ربا أو غيره على المدين ولم يقدر على إيفائه يقول له الدائن زدني في المال لأزيدك في الأجل، فيفعل مضطرا لعدم القدرة على أدائه ولربما استحق ثانيا وثالثا فيزيده في المال ويزيده في الأجل حتى يكون الفضل أكثر من الأصل، ولذلك شدد الله تعالى فيه ونهى عن أكله، وقد حرم الله الربا بأنواعه الثلاثة في هذه الآيات الثلاث وبالأحاديث التي ذكرناها قبل وفي سورة البقرة وحديث أحمد الذي لفظه: درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية في الإسلام. وحديث ابن جرير وأبي الدنيا: الربا اثنان
398
وستون بابا أدناها الذي يقع على أمه. وحديث النسائي قال ابن مسعود إن النبي صلّى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، إذا علموا ذلك يلعنون على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة. وهذه الآيات الثلاث كلها محكمة، لأن كلا منها في نوع مخصوص كما بيناه في محله، وما قاله بعضهم من أن هذه الآية ناسخة للآية والآيات من سورتي الروم والبقرة لا مستند له ولا حجة ولا دليل، بل جاءت تبين أن عذاب هذا الصنف كعذاب الكفرة، لأن التضعيف في الربا دلالة على الاستحلال والعياذ بالله.
هذا وما قاله بعضهم من أن آية البقرة مطلقة وآية آل عمران مقيدة لها فلا يكون الربا محرما إلا بالأضعاف المضاعفة لا وجه له ولا حجة ولا عبرة به، لأن قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) في البقرة نص على العام، وأل فيه إما أن تكون للجنس فيكون مطلقا في سياق النهي فيعم ضرورة كل أنواعه، وآية آل عمران هذه نص على فرد من أفرد ذلك العام ولا تعارض بين منطوقيهما، وإن التعارض بين منطوق الأول ودلالة الخطاب في الثانية لا يتحقق إلا إذا لم تكن هناك فائدة للقيد غير فائدة التخصيص، وقد اتفق علماء الأصول على ترجيح المنطوق على المفهوم في باب المطلق والمقيد ولو لم يكن للقيد فائدة أخرى، وعليه فلا تعارض بين هاتين الآيتين وبقي الحكم للعام على فرض أن أضعاف مضاعفة ليس لها فائدة في التقيد بها غير التخصيص باتفاق الأصوليين، وإما أن تكون للاستعراق فيكون من قبيل العام أيضا وحاصله كذلك نص على العام ونص على فرد من أفراده، ولا تعارض بين منطوقيهما، وإنما التعارض بين منطوق الأول ومفهوم الثاني، ولا عبرة بالمفهوم حتى يكون القيد ليس له فائدة غير فائدة التخصيص، وقد اتفقت العلماء على أن القيد للتقبيح والتشنيع، ومثله مثل خشية إملاق في قوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) لأن القتل منهى عنه سواء وجد خوف الفقر والفاقة أم لا كما أشرنا إليه في الآية ٣٣ من سورة الإسراء في ج ١ والآية ١٥ من سورة الأنعام في ج ٢ ومثل (أَرَدْنَ تَحَصُّناً) في قوله تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) الآية ٣٣ من سورة النور الآتية، لأن الإكراه على البغاء ممنوع شرعا سواء أريد التحصن أم لا كما سنوضحه في محله إن شاء الله. وهذا الأسلوب
399
وهو التنصيص على أشنع الحالات وأقبحها أسلوب معروف في لغة العرب وكتاب الله وسنة رسوله، لأنه أدخل في الزجر وأقوى باعث على امتثال النهي، لا أنه هو العلّة التي يدور عليها الحكم وجودا وعدما، بل العلة غيره، وهذا هو أقبح الصور التي سيتحقق فيها، والذي يقطع الشك في تحريم القليل والكثير ويرد قول القائل بحل قليل الربا الذي يعين بالاجتهاد على زعمه الفاسد (ويجهل أن لا اجتهاد في مورد النص) ويعتبران آية (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) ناسخة لآية (وَحَرَّمَ الرِّبا) لأنها مطلقة ومتأخرة عنها والمتأخر ينسخ المتقدم أو يقيده أو يخصصه، قوله تعالى (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لأنها جملة حاصرة للخبر المقدم على المبتدأ المؤخر وللصفة على الموصوف، لأن معناها لكم رءوس أموالكم التي خرجت من أيديكم لا غيرها، ثم تأكيدها بقوله (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) فهو تأكيد يدفع كل احتمال ويقطع كل شك ويجتث كل شبهة، لأن معناه لا تظلمون الآخذ بأن تأخذوا منه أكثر مما أعطيتموه، ولا تظلمون أنفسكم بحط شيء من رأس مالكم فتأخذوا أنقص منه إلا ما عفوتم، وعلى هذا فلم يبق من شك أن الحكم للعام باتفاق العلماء وعلى جميع قواعد الأصوليين. على أنا قد ذكرنا آنفا في تفسير الآية ٢٧٥ من البقرة أن هذه الآية مقدمة في النزول على آية البقرة لأنها آخر آية نزلت في العقود، فلم يبق محل لدعوى النسخ، تدبر ما يأتي فيما يدل على ما ذكرناه. هذا، وأن ما استأنس به هذا القائل بحل الربا القليل وعدم تحريمه إلا أن يكون أضعافا مضاعفة من قول عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيها الناس ثلاث وددت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ينتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب الربا.
وفي رواية: الحد بالحاء. وقوله رضي الله عنه إلا أن آخر ما نزل من القرآن هو آية الربا. ثم توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يفسرها لنا، فدعوى الربا والريبة هو استيناس بغير محله، لأن عمر وسائر الأصحاب رضوان الله عليهم يعلمون ما بينه الله ورسوله من تحريم الربا الذي كان يتعاطى بالجاهلية قليله وكثيره، وجميع أنواعه لا سيما وأن الرسول قال في خطبته المشهورة في حجة الوداع على رءوس الأشهاد: كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
400
ألا وان حضرة الرسول بين بالأحاديث المتقدمة في سورة البقرة ما يكون فيه الربا من الأنواع الستة مما حدا بسيدنا عمر رضي الله عنه أن يقول ما قال وهو ما بينه الرسول صلّى الله عليه وسلم بأحاديثه التي بلغت عمر وما يلتحق بها فحسب، أو أن المراد بالربا معناه اللغوي، فيدخل فيه ما ذكره الرسول وما لم يذكره مما يتدرج تحت المعنى اللغوي الذي هو زيادة على مزيد عليه في معاملة بين طرفين عينا كانت أو نقدا، حاضرة أو نسيئة، ويدخل في هذا الباب الأوراق النقدية التي أحدثتها الحكومة وأمرت بالتعامل بها بدلا من الذهب والفضة بين الناس في مبايعاتهم وأنكحتهم وغيرهم إذا بيعت بالتفاضل حالا أو نسيئة، لأن الله تعالى حرم الربا بصورة عامة لم يقيده بشيء ما، والحديث الشريف إنما عد الأشياء الستة لأنها كانت مما يرابى بها بالمدينة ولم يحصرها بها ليقال لا يجوز أن يزاد على ما ذكره الرسول، ولا يقال إن هذه الأوراق من قبيل العروض فلا مانع من التفاضل ببيعها، لأن العروض لها قيم خاصة معروفة ومجهولة، أما الأوراق النقدية لولا طابع الدولة فلا قيمة لها، لأن الذي جعلها تتداول بين الناس بمثابة الذهب والفضة هو طابع الدولة وتكفلها بدفع قيمتها عند الحاجة. واعلم أن القول بعدم الربا في هذه الأوراق يجرّ إلى القول بعدم وجوب الزكاة فيها والنقد المتداول كله منها، فيتعطل ركن من أركان الدين الإسلامي والعياذ بالله. هذا، ونعود إلى البحث الأول فنقول وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق: إذا كان المراد بالربا معناه اللغوي أي مطلق الزيادة اعتبار بإطلاق الآية المندرج تحتها كل ما فيه تفاضل فيا ترى ما حد هذا الاندراج، أيشمل ما قصد وما لم يقصد فيشمل زيادة العين وزيادة الانتفاع وغيرهما، أم لا يشمل إلا ما قصد إليه في المعاملة فحسب، أم هو المراد؟ فلهذا ود عمر أن يكون بينه الرسول حتى لا يقع في هذا التورط الشاق وهذه المسئولية العظيمة، وكيف لا وهو إن أخذ بالأول من غير مرجح له وحمل الناس عليه أوقعهم في معاملات كثيرة قد تكون الآية شاملة لها إن كان المراد المعنى الثاني، وإن أخذ بالمعنى الثاني ولم يكن مرادا في نفس الأمر أحرج الأمة وضيق عليها فيما لا قطع فيه، لذلك احتاط لنفسه في الفتوى وأخذ بأحوط الأمرين لأنه تردد بين احتمال مبيح واحتمال محرم، ت (٢٦)
401
ولما كان من الأحوط الأخذ بالتحريم فقد نصح لهم أن يتركوا ما فيه ريبة في ذلك اتباعا لقوله صلّى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وقوله صلّى الله عليه وسلم: الحلال بيّن والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه. فالتقي الورع الذي يخشى عتاب الله يجتنب كل ما فيه شبهة ربا من نقد ومكيل وموزون وما يقوم مقام النقد من أوراق نقدية وغيرها حتى بيع العينة التي نهى الرسول عنها بأحاديث متعددة وهي أن يبيع الرجل آخر سلمة بثمن ثم يشتريها منه بأنقص مما باعها، لأن هذا من باب الاحتيال على الله بشأن الربا، وهو لا تخفى عليه خافية، ألا ترى أن بني إسرائيل لما احتالوا على صيد السمك الذي نهاهم الله عنه يوم السبت مسخوا قردة وخنازير كما بيناه في الآية ١٦٤ من سورة الأعراف في ج ١؟ ولهذا البحث صلة في الآية ٦٣ من سورة المائدة الآتية وفي الآية ١٦ من سورة النساء أيضا فراجعهما. وان قول عمر رضي الله عنه في الأثر الأول (وأبواب من أبواب الربا) يفيد أن
اشتباهه لم يكن مداره القلة والكثرة في تحريم الربا ولكن فيما لم يعهد إليهم فيه عهد منه مما لم يتبيّنه ولم ينته إليه علمه من غير الأمور الستة التي كانت متعارفة في المدينة ولم يقل صلّى الله عليه وسلم لا ربا في غيرها ليكمل الاحتجاج به إلى عموم الآية وهي (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) أي بجميع أنواعه وأصنافه من كل ما فيه زيادة تأمل. هذا واعلم أن قوله في الأثر الثاني (إن آخر القرآن تنزيلا هو آية الربا) كما ألمعنا إليه في الآية ٢٧٥ من البقرة المارة، أي إن الآية التي هي من آخر ما نزل من القرآن هي آية البقرة وقد علمت أنها تمنع القليل والكثير. ومما يدل على أن المراد بآية البقرة ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير أنه قال:
من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبض قبل أن يقسرها لنا، فدعوا الربا والريبة، أي كل ما يشك به من الربا. ولو أن عمر رضي الله عنه كان مدار اشتباهه في الآية على عدم التمييز بين الربا القليل الذي هو حلال، والربا الكثير الذي هو حرام، لكانت آية آل عمران هذه هي محل الاشتباه، ولو كان
402
في هذه الآية لديهم من ريبة لسألوا عنها حضرة الرسول لأنها نزلت قبل وفاته بكثير، لأن آية قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية ٤ من المائدة، نزلت بعدها، وقد عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعدها واحدا وثمانين يوما ولم ينزل بعدها إلا آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الآية ٢٨٠ من البقرة المارة، فراجعهما.
هذا وقد علمت مما تقدم أن الأثرين حجة عليه لا له، وإن تذرعه بالاجتهاد مردود عليه، إذ لا اجتهاد في مورد النص، وممنوع إذ يصادم قوله تعالى (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) الآية، وقوله صلّى الله عليه وسلم وان ربا الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، مما يدل دلالة صريحة على أن آخر آية في الربا نزولا هي آية البقرة المذكورة. واعلم أن القصد من معارضة هذا المعارض إرادته إباحة إنشاء المصارف (البنوك) وأخذ الناس منها بربا يسير أقل من ربح البايع فيما يبيعه، وهذا لمن يتكلم بحق إرادة الباطل مثل دعاة السفور وهم يريدون الخلاعة لا غير، وإذا بحثنا في هؤلاء الذين يأخذون من المصارف تجدهم إنما يأخذونه لغير حاجة ماستة لأنهم إما يريدون تكثير زراعتهم إن كانوا مزارعين، وتجارتهم إن كانوا تجارا، أو زواجا أو بناء أو ملكا ما أو بذخا ليساووا من هو فوقهم وأكبر منهم وأغنى، أو طمعا بربحه اليسير وإعطائه بأضعاف ريحه لمن لا يقدر أن يأخذ من المصرف ليكاثر وينامي غيره به ومع هذا إنا نرى الذين تعاطوا هذا لم يتيسر لهم ما أملوه، فلم تمض مدة حتى ترى الملاك حجزت أملاكه، ولتاجر أعلن إفلاسه، والمزارع صار يستلف على زراعته لأداء ما عليه منه، والآخر أصبح فقيرا معدما، وهذا هو السر في قوله تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) فكان الأحسن لهذا والأجدر به أن يكون داعيا إلى الله موصيا الناس بالقناعة بما في أيديهم، ويحث الأغنياء على زكاة أموالهم لكفاية الفقراء، ويحبذ لهم القرض لمن يأمنوا على أدائه لهم وجواز إعطاء الفقير بما دون حد الغنى من الزكاة، فلو أعطى هؤلاء وأقرض الآخرون لقدر الفقراء على تأمين معيشتهم من البيع والشراء بالأشياء العادية من الخضروات وشبهها مما هو من حوائج العامة فيغنيهم الله من فضله ويبارك لمن ساعدهم ويعطى هذا المحبذ للمصارف والأخذ منها أكثر مما يعطونه أهلها، لأن
403
عطاء الله ممدود، وعطاءهم مقصور محدود، فيتكل على الله ويمنع أولئك من الأخذ من المصارف والاشتغال بما في أيديهم فهو أنفع لهم من الازدياد بما يوجب دمارهم، ويعلمهم بأن أخذ بعضهم من بعض سواء كان بطريق القرض أو التجارة أو الصدقة أبقى للرابطة بينهم، واحفظ لمادة التفاضل، قال صلّى الله عليه وسلم: لا تزال أمتي بخير ما تفاضلت.
وقال تعالى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الآية ٧٢ من سورة النحل، وقال (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية ٢٥٣ من البقرة المارة، ولهذا فإن نظام العالم لا يقوم ولا يدوم إلا بهذه الصورة. وإذا أنعمت نظرك علمت أن الربا لا يجوز بوجه من الوجوه، لأن المال الذي يعطيه الغني إلى الفقير هو مقدار ما بذل من جهود إلى الهيئة الاجتماعية فلا يستحق عليها مزيدا، ولأنه ليس سلعة معينة بيد الآخذ ينهكها العمل ويؤثر فيها الاستعمال حتى يستحق تعويضا في نظيرهما، ولأن كل ما حصله الآخذ بواسطتها إنما يكون بجهوده، وهو المستحق لثمرة حصلت بها دون سواء، ولأن الزائد الذي يدفعه إلى المرابي إنما هو زيادة أخذها من جهوده فوق ما قدم للوجود من جهود، فأخذه لها من غير استحقاق ظلم بحت ومعاملة مخالفة للنظامه الفطري الذي هو التعاون الموجب للتوادد والتحابب بين الناس، لأن معاملة الربا تؤدي للتنازع والتفرقة والبغض والحقد، وكل هذا مما يضر بالمجتمع ويرهقه ويضعف مادة التناصر المجبولة عليها الفطر السليمة، فضلا عن أنه فيه قلب لوضع الذهب والفضة لأنهما بعد أن وضعا مقياسا للأشياء ووساطة في نظام التبادل أصبحا سلعا يقصد بها الربح الربوي مما يسبب تعطيلا للأيدي العامة اتكالا على ما يدره إليها من ربح الربا فيجعل مجهود العامل لغيره وليس له حق فيه أو بينه وبين المرابي، وهذا مما ينهكه أيضا ويضاعف جهوده على حساب غيره فلا يستطيع القيام بأعباء الحياة. وإن هذه الطريقة تجعل المال دولة بين الأغنياء إرهاقا للفقير بأخذ مجهوده ليتنعم الغني ويبلس الفقير، ومن هنا تنشأ العداوة والضغائن وتقع التفرقة والبغضاء، وتضعف الروح المعنوية بين المجتمع الإنساني، فتحصل الأضرار التي لا تتلافى حتى يعقد الفقير في قلبه التربص للانتقام من الغني أو الانتحار لنفسه، ولأنه يؤدي لاحتكار النقدين لقصد التعامل بالربا فقط فيقلان في أيدي الناس
404
وهم محتاجون إليها، فيشق عليهم التعامل مع غيرهم الذي وضع للتسهيل والتيسير، فيخل نظام الفطرة الاجتماعية في وجوه الكسب، فيقع تحت براثنه ضحايا من الناس هم أحوج في حياتهم لأقل قليل من مجهوداتهم، ولأن فيه مخاطرة من جهة الآخذ إذا ألزم نفسه أن يدفع كسبا المرابي محققا في نظير ما يؤمل كسبه، إذ قد يخيب ظنه فيخسر فيشق عليه أداء الزيادة للمرابي، ولأنه يعود الناس الطمع بما في أيدي الغير، فتقسو قلوب بعضهم على بعض فيفقدون ملكة التعاون والتراحم والتعاطف بعضهم على بعض، فتنقطع بينهم عرى المساعدة حالة الشدة، ويحرمون من الثناء والحمد، وتنهال عليهم المذمة والدعاء والشتم في الدنيا فضلا عن حرمانهم في الآخرة الثواب المعين للقرض الذي هو أفضل من الصدقة، ولقائهم عذاب الله الأليم.
فهذه اثنتا عشر خصلة كل واحدة منها كافية للقول بحرمة الربا على القطع، وفي كل منها مفسدة كافية للقول بمنعه، فما بالك إذا تحلقت جميعها، فهل تهد قوى الأمة وتنقص فضلها وتحطم كمالها وتقطع بينها مادة التواصل أم لا؟ قل بلى، ولا يقولها إلا موفق من يوم قالوا بلى لله القائل «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (١٣٣).
أخرج ابن جرير عن التنوخي رسول هرقل قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكتاب هرقل وفيه إنك كنت تدعو إلى جنّة عرضها السموات والأرض فأين النار؟
فقال صلّى الله عليه وسلم فأين الليل إذا جاء النهار؟ أي أن القادر على إذهاب الليل قادر على أن يخلق النار حيث يشاء، أو أنها بعرض هذه السموات والأرض المرئية الآن، لا اللّتين تبدلان، راجع الآية ٤٨ من سورة إبراهيم في ج ٢، وفي خبر لأبي هريرة مما يؤيد هذا، وما قاله بعضهم بأن عرضها ثخنها بحيث لو عرضت لبلغ ثخنها ثخن السموات والأرض فليس بشيء وهو خلاف الظاهر وبعيد عن المعنى وعن المأثور، وهذه الآية تؤيد وجود الجنة كما بيناه في الآية ١٣١ المارة.
مطلب في التقوى وكظم الغيظ والعفو والإحسان، ومكارم الأخلاق والتنزه عن مذامتها:
ثم بين هؤلاء المتقين بقوله «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ» أموالهم فيما خلقت لها ابتغاء مرضاة الله بلا منّ ولا أذى ولا طريق محرم «فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» أي في
405
حالتي العسر واليسر، فلا يتركون الإنفاق سواء كانوا في عرس أو حبس.
«وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ» الجارعين مضضه عند امتلاء نفوسهم منه فلا يظهرونه بقول ولا فعل بل يصبرون ويسكتون، لأن الكظم حبس الشيء عند امتلائه، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
وعليه قول ابن الوردي:
اتق الله فتقوى الله ما جاررت قلب امرئ إلا وصل
ليس من يقطع طرقا بطلا إنما من يتق الله البطل
وقالت عائشة لخادم أغاظها: لله درّ التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء.
وذلك أن شفاء الغيظ بالبطش والانتقام، وقد حالت التقوى والحلم دونه، ونعم الحائل والمانع. ولهذا قالوا: كن من العاقل إن أحرجته، ومن الأحمق إن مازحته، ومن الجاهل إن عاشرته، ومن الفاجر إن خاصمته، ومن الكريم إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته على حذر. روى سهل بن معاذ عن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيّره في أي الحور شاء- أخرجه الترمذي وأبو داود «وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» إذا جنوا عليهم فلم يؤاخذوهم وقد يحسنون إليهم بالعطاء فضلا عن إحسانهم بالعفو «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (١٣٤) عامة ومحبة الله أعظم درجات ثوابه وخاصة لمثل هؤلاء، لأن من يعفو وهو قادر فقد تذرع بالصبر وعرف أن ذلك من قضاء الله وقدره فلم يتبرم ولم يسخط فكان من الصادقين الذين إذا قالوا صدقوا وإذا عاهدوا وفوا وإذا ائتمنوا أدّوا، فيكون من القانتين الذين سلمت أعمالهم من الرياء وأقوالهم من السمعة طلبا لما عند الله، وهذا كله من حسن الخلق الذي منّ الله عليهم به، قال محمد بن ثور الهلالي:
وإنما الأمم الأخلاق ما صلحت فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا
وقال غيره:
406
فإذا رزقت خليقة محمودة فقد اصطفاك مقسّم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال وذا علم وذاك مكارم الأخلاق
والمال إن لم تدخره محصنا بالعلم كان نهاية الإملاق
والعلم إن لم تكتنفه شمائل تعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخلاق
«وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» فعلة قبيحة كالزّنى واللواطة وغيرهما «أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» باقتراف الذنوب صغارا كانت أو كبارا كالقبلة واللمس والنظر للأجنبية والأمرد بشهوة والربا والغصب والخمر والقمار وما شابههما من الذنوب ثم «ذَكَرُوا اللَّهَ» وعرفوا بأنه سيسألهم عنها يوم لقائه فاستحيوا منه وخافوا عتابه وعقابه قبل أن يلقوه «فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ» هذه وتابوا وأنابوا وندموا على فعلها وعزموا على عدم العودة لمثلها يوشك أن يغفرها لهم «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» الرؤوف الرحيم بعباده، وفي هذه الجملة شيء من البشارة العظمى أي لا أحد يفعل ذلك غيره وهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وذلك كله بمقتضى كرمه إذ لا مفزع للمذنبين غير فضله ورحمته ولطفه وإحسانه، ولا ملجأ إلا لكرمه وعفوه وعطفه وامتنانه «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا» من تلك الذنوب بل أفعلوا عنها حالا من غير توان في الإقامة على شيء منها «وَهُمْ يَعْلَمُونَ ١٣٥» أن ما وقع منهم مؤاخذون عليه وأن لهم ربا يغفر لمن يرجع إليه ويعفو عمن يلتجىء إليه، لأن التوبة مع الإصرار على الذنب استهزاء وسخرية بالرب يوجبان المقت والعياذ بالله، قال صلّى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وقال صلّى الله عليه وسلم:
التائب من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزىء بربه. واعلم أن في إعداد النار للكافرين في الآية ١٣ المارة وإعداد الجنة للمتقين في هذه الآية بشارة عظيمة على تقوية رجاء المؤمنين المتقين المتصفين بالصفات المذكورة برحمة الله تعالى لدخول الجنة المهيأة لهم، وتباعدهم عن النار المعدة لغيرهم إذا لم يسلكوا طريقها، قال القائل:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
وعلى كل يجب الاستعانة بالله تعالى على حفظ النفس من الذنوب، إذ لا مانع له منها إلا هو، وقد صدق من قال:
407
من استعان بغير الله في طلب فإن ناصره عجز وخذلان
روى أبو صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آخى بين أنصاري وثقفي فخرج الثقفي في غزوة واستخلف أخاه الأنصاري على أهله فدخل عليها وقبل يدها ثم ندم ووضع التراب على رأسه وهام في البرية لأنه رأى في عمله هذا وقاحة مذمومة وانسلاخا من الإنسانية ومنشؤهما لجاج النفس في تعاطي القبح، وهي مغايرة للحياء الذي هو انقباض النفس عن القبائح وهو من خصائص الإنسانية ومغاير للخجل الذي هو صون النفس لفرط الحياء ويحمد في النساء والصبيان، فلما جاء الثقفي سأل امرأته عنه فقالت لا أكثر الله مثله وذكرت له ما وقع منه فذهب في طلبه وجاء به إلى أبي بكر فذكر له قصّته وقال هلكت فقال أبو بكر ويحك أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم، ثم جاء عمر فقال مثل ذلك، فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلم فقال مثل ذلك وأنزل الله هذه الآية. وقال ابن مسعود: قال المؤمنون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفارته مكتوبة على عتبة بابه اجدع أنفك أو أذنك أو افعل كذا، فسكت صلّى الله عليه وسلم، فنزلت. وقال عطاء في رواية ابن عباس بأنها نزلت في تيها التمار جاءت إليه امرأة تشتري منه تمرا فضمّها وقبلها وندم. والأول أولى. أخرج أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل همّ فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم. وروى أبو يعلى في مسنده وابن السني أبو بكر بن محمد بن أحمد: من استغفر الله دبر كل صلاة ثلاث مرات فقال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان فرّ من الزحف. تشير الجملة الأخيرة من هذا الحديث للبشارة بإدخال الكبائر أيضا وما ذلك على الله بعزيز. وأخرج الترمذي عن أنس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء (أي ما عاينته منها)
408
ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا (أي ما يقارب ملئها) ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. وقد ألمعنا إلى ما يتعلق في هذا البحث في الآية ٤٣ من سورة الشورى في ج ٢ فراجعه.
قال تعالى «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم «جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» (١٣٦) في هذه الدنيا الجنة عند الله تعالى والأمن من العقاب وحسن الثواب على عمله الصالح وتوبته النصوح. هذا وقد ذكرنا أن هذه الآيات من آية الربا إلى هنا معترضة بين قصة أحد لمناسبات وأسباب ذكرت خلالها. ثم ذكر الله تعالى ما فيه تسلية لحضرة الرسول وأصحابه عما وقع لهم في حادثة أحد بقوله «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ» طرق وعادات في الأمم الماضية بإهلاك العصاة وإثابة الطائعين أيها المؤمنون (قد تأتي الأمة بمعنى السنة والسنن بمعنى الأمم) كما قيل:
ما عاين الناس من فضل كفضلكم ولا رأوا مثلكم في سالف السنن
أي الأمم «فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» (١٣٧) ليهون عليكم ما وقع بكم لأن الذين كذبوا الرسل قبلهم أمهلهم الله ولم يعجل عقوبتهم ثم استأصلهم بالهلاك وكذلك كفار قريش فإن الله يمهلهم حتى يبلغ الكتاب أجله فيستأصلهم إذا لم يؤمنوا كغيرهم الذين لم تسكن مساكنهم من بعدهم ويستدل على ما وقع بهم من أطلال ديارهم وآثارهم التي ينطق لسان حالها:
إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
ولا مناقشة في المثل إذ يجوز أن يضرب على حسن الصنايع والأفعال وعلى قبحها وسوءها بحسب المقام ولكل مقام مقال كما لكل مقال مقام «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» (١٣٨) حدود الله الواقفين بعيدا عن حماه المتفكرين في آلائه العاملين لرضائه العارفين مصيرهم إليه والعاقبة المحمودة عنده «وَلا تَهِنُوا» أيها المؤمنون فتضعفوا عن الجهاد وتجبنوا عنه بسبب ما أصابكم في هذه الحادثة ففيه هوان لكم وذلة لمن بعدكم بل عليكم بمتابعته ففيه العزة والاحترام «وَلا تَحْزَنُوا» على قتلاكم فإنهم لقوا ربهم وغشيتهم رحمته وعمهم رضوانه فهم
409
شهداء في الدنيا سعداء في الآخرة «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» بالنصر والغلبة لأنكم أصبتم منهم ببدر أكثر ما أصابوا منكم بأحد والعاقبة الحسنة لكم، فاصبروا واطمأنوا ولا تجزعوا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (١٣٩) بما وعدكم الله به فلا تهنوا على ما وقع منكم ولا تحزنوا على ما فاتكم ولا على ما أصابكم والأحسن أن تؤول (إِنْ) هنا بمعنى إذ على التعليل أي إنما يحصل لكم العلو على غيركم لأنكم مؤمنون بالله مصدقون لما جاء به رسوله «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ» أيها المؤمنون في أحد «فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ» أعدائكم «قَرْحٌ مِثْلُهُ» إذ قتل منهم سبعون وأسر سبعون في حادثة بدر، والقرح بالفتح الجراحة وبالضمّ المها، وقد قتل من الكفرة نيف وعشرون رجلا وجرح كثيرون في حادثة أحد.
مطلب الأيام دول بين الناس، وكون الجهاد لا يقرب الأجل، وكذب المنافقين، واللغات التي تجوز في كأين:
«وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» من واحد لآخر ومن طائفة لأخرى، كما قيل:
فيوما علينا ويوما لنا ويوما نساء ويوما نسر
وكلمة نداولها لم تكرر في القرآن، ومنه الدنيا دول تنتقل من أمة إلى غيرها وقيل:
هي الأمور كما شاهدتها دول من سرّه زمن ساءته أزمان
«وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» أن هذا التداول يتميّز فيه المؤمن الصادق من المبطن المنافق الذي يرجع عن دينه لأدنى نكبة، قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) الآية ١٢ من سورة الحج الآتية «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» جمع شهيد وهو من مات في صف القتال وسمي شهيدا لأنه يشهد على الأمم يوم القيامة مع الأنبياء ولأنه يشهد له في الموقف العظيم لدى رب العالمين على أنه قتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (١٤٠) من الكافرين والمنافقين وغيرهم لذلك لا يقدر لهم الشهادة كما لم يقدر لهم الإيمان
«وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» في هذا التداول فيعرفون الحكمة منه فيطهرهم وينقيهم من ذنوبهم وكرر هذا الفعل في الآية ١٥٤ الآتية، وكلمة يمحق في الآية ٢٧٦ من
410
البقرة فقط وفي قوله «وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» (١٤١) يمحوهم ويفنيهم فلا يبقى لهم ذكر بخلاف المؤمنين فإن في قتلهم شهداء بقاء لذكرهم «أَمْ حَسِبْتُمْ» أيها المؤمنون «أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ» دار الكرامة مجانا بلا ثمن «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» بصدق وإخلاص «وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (١٤٢) منكم على الأذى والقتل، أي ليظهر للناس صبركم على المشاق في أمر دينكم كما هو معلوم عند الله. تشير هذه الآية إلى تبكيت الذين انخذلوا ورجعوا من الطريق بعد أن خرجوا مع الرسول وهم عبد الله بن سلول وأصحابه لأنهم في مثابة المنهزمين من الجهاد لشدة جبنهم مع أنهم كانوا يتغنون بالجهاد بين الناس ويحبذونه فأظهر الله كذبهم وقيل:
وإذا ما خلا الحبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
والمعنى: أتظنون أن تدخلوا الجنة أيها الناس كما يدخلها هؤلاء الذين بذلوا مهجهم لربهم يوم أحد؟ كلا لا تحلموا بذلك أبدا وذلك أن هؤلاء المنهزمين كانوا يتمنون الشهادة بسبب ما أخبر الله عن الكرامة التي حازها شهداء بدر فلما حان وقتها هربوا فحرموا منها فأنزل الله تعالى «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» (١٤٣) فكيف تنهزمون وهذا زيادة في توبيخهم وتقريعهم على هزيمتهم، ثم ندّد ما وقع من بعضهم فقال جل قوله «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» رجعتم إلى دينكم الأول. يقال لكل من رجع إلى ما كان عليه رجع وراءه ونكص على عقبيه «وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً» بل يضر نفسه كما أن قتل محمد وموته لا يوجب وهنا في الدين أو ضعفا بأهله ورجوعا عنه لأن الأنبياء قبله لم ينشأ عن قتلهم أو موتهم ارتداد أتباعهم بل تبروا على طريقة أنبيائهم ودعوا الناس إليها، وهذا توبيخ وتبكيت للمنافقين الذين قالوا عند ما سمعوا أن محمدا قتل نرجع إلى ديننا الأول وتقريع لبعض المسلمين الذين قالوا ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان كما مر في الآية ١٢٢ «وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» (١٤٤)
411
نعمة الإسلام الثابتين على دينهم في السراء والضراء مثل أنس بن النضر إذ قال إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل وقال لأولئك ما تصنعون بالحياة بعده فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه، ثم قال إني اعتذر يا رب إليك من هؤلاء المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون ثم شد سيفه وقاتل حتى قتل رحمه الله، قال عبد الله بن رواحة حين نهض إلى الموت في جملة ما قال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة... وضربة ذات قرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي... أرشدك الله من غاز وقد رشدا
وقال الحارث بن ظالم المزني:
فأقتل أقواما لئاما أذلة... يعضون من غيظ رءوس الأباهم
ولما سئل حضرة الرسول عن المراد بالشاكرين هنا فقال إن أبا بكر وأصحابه هم الشاكرون وقد التفوا حوله ووقره كلهم بأنفسهم. قال تعالى «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» لا يتعداه ولا يتقدمه، تفيد هذه الجملة أن الجهاد والجرأة لا تقدم أجل الإنسان، والجبن والحذر لا يؤخره، فلا يموت الإنسان إلا بأجله المقدر له عند ربه ولو خاض في المهالك واقتحم المعارك وفيها إشارة إلى حفظ الرسول من القتل مع تكالب الأعداء عليه وحرصهم على قتله وإعلام بأن الحذر لا يغني عن القدر وإيذان بأن المقتول ميت بأجله، قال صاحب الجوهرة:
وميت بعمره من يقتل... وغير هذا باطل لا يقبل
«وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا» بعمله وطاعته «نُؤْتِهِ مِنْها» جزاء عمله كالذين تركوا مكانهم الذي عينه لهم حضرة الرسول وحذرهم مفارقته فتركوه وطلبوا الغنيمة حتى سببوا الانكسار «وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها» كالذين ثبتوا في محلهم الذي أمرهم بالبقاء به والذين ثبتوا مع الرسول، وهي عامة في جميع الأعمال وخصوصها في أهل أحد لا ينفي عمومها وهكذا غيرها من الآيات لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب «وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» (١٤٥)
412
الذين يريدون بعملهم وجه الله، ولا تعد هذه الجملة مكررة لأنها منصرفة لمعنى آخر بالنسبة لما قبلها. روى البغوي بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له. وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها- وفي رواية يتزوجها- فهجرته إلى ما هاجر إليه.
قال تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» نسبة للرب وقيل جماعات كثيرة والربيّة الواحدة عشرة آلاف مثل قوم طالوت المار ذكرهم في الآية ٢٥٠ من سورة البقرة المارة «فَما وَهَنُوا» خافوا ولا جبنوا عند اللقاء في قتال الكفرة «لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» من القتل والأسر والجروح «وَما ضَعُفُوا» عن قتال عدوهم «وَمَا اسْتَكانُوا» خضعوا واستسلموا لهم ولكنهم ثبتوا وصبروا «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» (١٤٦) الذين لم يجزعوا في الجهاد ولم يفزعوا من الكثرة. واعلم أن كلمة كأين فيها خمس قراءات الأولى بإثبات النون في الوقف والخط وبالتشديد وهي اللغة المشهورة فيها كما هنا، والثانية كائن على وزن اسم الفاعل بلا ياء وعليها قوله:
وكائن لنا فضل عليكم ومنّة قديما ولا تدرون ما من منعم
والثالثة بالياء مع الهمزة بلا نون كأي، والرابعة بالياء قبل الهمزة وبعدها النون كيئن وتقرأ بسكون الياء وكسر الهمزة، والخامسة كئن بكاف مفتوحة وهمزة مكسورة ونون ساكنة وعليها قوله:
كئن من صديق خلته صادق الإخا أبان اختباري أنه لمداهن
قال تعالى «وَما كانَ قَوْلَهُمْ» أي الربيون عند اللقاء «إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا» أي إفراطنا وتجاوزنا حد العبودية «وَثَبِّتْ أَقْدامَنا» عند لقاء عدونا وأزل من قلوبنا الفزع والرعب
413
«وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» (١٤٧) نعمتك الجاحدين دينك المكذبين نبيك «فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا» بالنصر والغنيمة والثناء «وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» بالغفران ودخول الجنان ومرافقة الأعيان لحسن صنيعهم «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (١٤٨) في أعمالهم ونياتهم، وهذه الآيات فيها تعليم من الله لعباده بأن يفعلوا كفعلهم ويقولوا كقولهم. قال الله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا» من المنافقين واليهود الذين يشيرون عليكم بترك الجهاد ويخوفونكم عاقبته «يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» في الكفر الذي كنتم فيه «فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» (١٤٩) في الدنيا والآخرة «بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ» فأطيعوه واستعينوا به «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» (١٥٠) لكم وهؤلاء الذين يغرونكم ويغرّونكم لا قدرة لهم على نصركم «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» في الدنيا منكم حتى تقهروهم ويظهر دينكم على سائر الأديان
«بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ» بسبب اتخاذهم شريكا لله، والله تعالى ليس له شريك ولهذا قال «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة وهو مثوى كل ظالم «وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ» (١٥١) النار، وفي هذه الآية بشارة عظيمة للمسلمين لما فيها من إخبار الله تعالى لهم بالظفر في الدنيا ووعد لهم بالمغفرة في الآخرة، ويوجد في القرآن ٣٦ آية مبدوءة بلفظ بل. قال تعالى «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» بالنصر والظفر قبلا في واقعة بدر وفي واقعة أحد أيضا لأن الظفر كان لهم مبدئيا وقد هزموا المشركين إلا أن أهل النبل لما خالفوا أمر الرسول وتركوا مواقعهم التي عينها لهم طلبا للغنيمة رأى الكفّار خلو ظهور المسلمين منهم كروا عليهم فغلبوهم وانقلب الأمر كما تقدم في القصة آنفا، واذكروا عباد الله «إِذْ تَحُسُّونَهُمْ» تقتلونهم وعليه قول عتبة الليثي:
نحسهم بالبيض حتى كأننا نفلق منهم بالجماجم حنظلا
وقد استشهد بهذا البيت ابن عباس على أن معنى الحس القتل، وقال غيره:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد فحس به الأعداء عرض العساكر
ومعنى حسّه أصاب حاسته بآفة فأبطلها ولذا قال بعضهم: تبطلون حسهم بالقتل
414
الذريع. وما كان ذلك إلا «بِإِذْنِهِ» إذ أجاز لكم قتالهم فقتلوا بقضاء الله وقدره «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» الذي أمركم به رسولكم فقلتم وما نصنع بمكاننا وقد انهزم وغلبوا وقلتم إنما أمرنا أن لا نبرح مكاننا حتى الغلب وقد كان ولكنكم خالفتم «وَعَصَيْتُمْ» أمره إذ قال لكم لا تبارحوا أبدا غلبنا أو غلبنا «مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ» من النصر والظفر بأعدائكم تركتم مواقعكم الحربية المقدر نصر الله على ثبوتكم فيها وخذلانه لكم على مبارحتها وذلك لأن «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا» فترك موقعه وذهب ابتغاء الغنيمة ولم تعلموا ما يصيبكم بسبب مخالفة رسولكم «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» فثبت مكانه وحافظ على وصية رسوله حتى قتل كالأمير عبد الله بن جبير ورفقائه رحمهم الله «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ» عن الكافرين وكف معونته لكم فغلبوكم بسبب خلو ظهركم من أهل النيل الذين كانوا مانعين الكفرة من الوصول إليكم حسب التعبئة التي رتبها حضرة الرسول، وفعل ذلك «لِيَبْتَلِيَكُمْ» يمتحنكم ويختبركم ليعلم صبركم وثباتكم ويظهر لكم ضعيفي الإيمان من غيرهم الذين تعودوا الارتداد وطلب المعونة من المنافقين الذين سببوا لكم الهزيمة والانكسار بتركهم مواقعهم التي أمروا بالبقاء فيها «وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ» أيها المخلصون لما يعلم من نيتكم حين مبارحتكم أمكنتكم إذ غلب على ظنكم استمرار هزيمتهم وأمنتم من كرّتهم فأقدمتم على الغنيمة لئلا يختص بها أصحابكم وليس لأمر آخر، وهذا لم يعجل عقوبتكم بفضله «وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (١٥٢) خاصة والعالمين عامة، وفي هذه الآية دليل على أن مرتكب الكبيرة مؤمن لأن الله سماهم مؤمنين مع أنهم خالفوا أمر الرسول بأشد الأوقات ومخالفته من الكبائر، وردّ لمن قال إن مرتكب الكبيرة كافر خلافا لما عليه إجماع أهل السنة والجماعة القائل قائلهم:
ومن يمت ولم يتب من ذنبه... فأمره مفوض لربه
واذكروا أيها المؤمنون «إِذْ تُصْعِدُونَ» بضم التاء أي في الأرض هربا من عدوكم لأن هذا الفعل من أصعد والإصعاد الإبعاد في الأرض، وقرىء بفتح التاء من صعد إذ يقال صعد في الجبل والصعود الارتقاء من الأسفل إلى الأعلى وضده
415
الهبوط «وَلا تَلْوُونَ» تلتفتون حال انهزامكم «عَلى أَحَدٍ» منكم بفتح الهمزة والحاء، وما قاله بعض المتهوكين بضمها لا صحة له ولم يقرأ بها أحد من القراء إذ لا معنى لها هنا، والقراءة الصحيحة على فتحها أي لا تنظرون ولا تميلون على أحد منكم لتعينوه أو تخلّصوه بل كل منكم هارب على جهة لا يهمه شأن غيره وكان الأجدر بكم أن تنأنوا وتراعوا بعضكم فتساعدوا العاجز وتعينوا الجريح وتعاونوا المريض وتأخذوهم معكم ولا تتركونهم لأعدائكم ليجهزوا عليهم «وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» يناديكم من ورائكم: إلي عباد الله من كر فله الجنة ولم تلتفتوا إليه ولم تعلموا أن من فرّ له النار، ولولا عفو الله عنكم إكراما لرسولكم لعاقبكم «فَأَثابَكُمْ غَمًّا» بالقتل والجرح مع الهزيمة «بِغَمٍّ» آخر أذقتموه رسولكم بعصيانكم له حتى سببتم له كسر رباعيته وجرح وجهه والفشل والهزيمة لغيركم من إخوانكم وهذه الخصال ليست من شأن المؤمنين الموقنين وسميت العقوبة هنا غما مجازا لأن لفظ الثواب يغلب استعماله في الخبر وقد يستعمل بالشر كما في قوله:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا
والأداهم هي القيود الحديد، والمحدرجة السياط، وقال الأمير لرجل والله لأحملنك على الأدهم فقال له مثل الأمير من يحمل على الأدهم والأسفر والأحمر، فقد صرف كلامه من المجاز إلى الحقيقة فعفا عنه لبلاغته وحسن ردّه. فتعلموا أيها الناس الفصاحة والبلاغة فكم أنجت من مهالك. روي أن الحجاج منع التجول ليلا وأوعد على المخالفة، وذات يوم صادف ثلاثة فأمر بتوقيفهم ثم استحضرهم وسألهم فقال أحدهم:
أنا ابن من دانت الرءوس له يأخذ من مالها ومن دمها
فقال اتركوه لعله ابن أحد الأمراء، وقال الآخر:
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره وإن نزلت يوما فسوف تعود
فقال اتركوه لعله ابن أحد الأكارم، وقال الثالث:
416
فقال اتركوه لعله ابن أحد الشجعان فإذا هم حجام وفوال وحائك، فقد خلصتهم فصاحتهم من ظلمه. أي إنما أذاقكم ذلك الغم بسبب الغم الذي أذقتموه رسولكم وإنما عفا عنكم «لِكَيْلا تَحْزَنُوا» مرة أخرى «عَلى ما فاتَكُمْ» من النفع وتنهالوا عليه خلافا لما أمرتم به «وَلا» تحزنوا على «ما أَصابَكُمْ» من الضر بسبب عفو الله عنكم «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (١٥٣) في ذلك الوقت وغيره، وقد علم أن نيتكم لم تكن سيئة لأنكم تحققتم الظفر وعزوف العدو عن كرّه عليكم من بعد هزيمته «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً» ثم فسّر هذه الأمنة بكونها «نُعاساً» نوما خفيفا لإزالة الرعب عنكم لأن الخائف لا ينام وهذه من جملة أفضال الله تعالى عليكم وجعله «يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» أيها المؤمنون دون طائفة. روى البخاري ومسلم عن أنس عن أبي طلحة قال:
كنت فيمن يغشاهم النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي، مرارا يسقط وآخذه.
وأخرجه الترمذي عنه قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد وذكر نحو رواية البخاري بزيادة. والطائفة الأخرى هم المنافقون ليس لهم إلا هم أنفسهم أجبن قوم أرغبه وأخذله للحق وهم المعنيّون بقوله تعالى «وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» فتشربوا بالخوف وظن السوء بالله وبإخوانهم لأنهم «يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» أي بإخلاف وعده رسوله ويعتقدون أنه لا ينصره وأصحابه وكان ظنهم هذا «ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ» الذين لا يعتقدون بوجود الإله ولا يعترفون بكتبه ولا يصدقون رسله ويجحدون اليوم الآخر والقضاء والقدر لأنهم «يَقُولُونَ هَلْ لَنا» أي مالنا «مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ» فلم نقاتل، وذلك أن رئيسهم عبد الله بن سلول أشار على النبي بعدم الخروج لقتال أحد ولم يأخذ بقوله ولهذا راق لهم ما وقع بالنبي وأصحابه فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المنافقين «إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ» وحده ولو شاء لما خرجنا ولكنه شاء ذلك ليري قومنا نتيجة مخالفتهم لأمر رسوله وليعلم أنه أعلم بضروب الحرب وفنونه من تعبئة الجنود وتعيين المواقع والكر والإقدام والإحجام والوقوف وغيرها، وهؤلاء المنافقون «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ» من الكفر والشك في وعد الله «ما لا يُبْدُونَ لَكَ» ت (٢٧)
417
من الإيمان والتصديق «يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» أي لما قتل في هذه المعركة لو أطاعنا محمد «قُلْ» لهم يا أكمل الرسل لا تظنوا هذا الظن وعزة ربي وجلاله «لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ» أي لخرجوا من بيوتهم قاصدين «إِلى مَضاجِعِهِمْ» مصارعهم التي قتلوا فيها فقتلوا فيها بنفس الوقت لأن التدبير لا يقاوم التقدير والإنسان لا يجاوز أجله راجع الآية ٧٧ من سورة النساء الآتية «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ» فيخرج ما في ضمائركم ليطلع عليها الناس كما هو عالم فيها قبل خلقها «وَلِيُمَحِّصَ» يزيل ويذهب ويمحق «ما فِي قُلُوبِكُمْ» من شك وريبة فيما تصورتموه ويظهر ما تكنونه من العداوة لله ورسوله والمؤمنين وما تعتقدونه فيهم لترتدعوا «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (١٥٤) ودخائلها لا يخفى عليه شيء من أفعالكم ونياتكم وأقوالكم، ثم التفت جل شأنه إلى المؤمنين فقال «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» في أحد فانهزموا وتركوكم ونبيكم فلم يبق مع حضرة الرسول غير ثلاثة عشر رجلا من المهاجرين وسبعة من الأنصار «إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ» بإلقاء الخوف في قلوبهم وذلك «بِبَعْضِ ما كَسَبُوا» وهو جزاء تركهم مواضعهم الحربية حين التعبئة ومخالفتهم أمر القائد الأعظم الذي هو أعلم منهم بفنون الحرب وأبوابها لأنه يتلقى علمه فيها وفي غيرها من لدنا «وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ» لصدور تلك المخالفة عن نية حسنة بظنهم إذ رأوا أن ثباتهم فيها يحرمهم من الغنيمة فلم يكن تركهم وفرارهم عنادا ولا لقصد شيء ولا لخذلان إخوانهم وليس فرار زحف لأنهم كانوا غالبين «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لهم ولغيرهم ممن يقع منه ذنب لا عن قصد سيىء ولا استحلالا ولا تهاونا «حَلِيمٌ» (١٥٥) لا يعجل العقوبة على المذنبين ولا يؤاخذ حسني النية ومن يخطىء في اجتهاده كهؤلاء.
مطلب المقتول ميت بأجله، وأنواع العبادة ثلاثة، وبحث في الشورى ومن يشاور، وخطبة أبي طالب:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا» أي المنافقين، سماهم كفارا لأنهم أشد ضررا على المؤمنين من الكفار، ومما يدل على أن المراد بالكفار
418
هم قوله جل قوله «وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ» سافروا فيه «أَوْ كانُوا غُزًّى» فماتوا أو قتلوا «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» مع أنهم لا بد من موتهم في ذلك الوقت وفي ذلك السبب وفاقا لما قدره الله عليهم في أزله ولكن سخرهم لهذا القول الباطل «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ» القول «حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» غما وأسفا وأسى فيقولون ذلك ويلومون أنفسهم على الخروج فيقتلونها هما وندما، ولو كانوا مؤمنين حقا لعلموا أن القتل والإماتة بقضاء الله وقدره ولهما زمان ومكان وسبب يقعان فيه لا يتخطيانه وقد يتيسر إليه الإنسان أو يذهب إليه من تلقاء نفسه ليقع مراد الله وفق ما هو مدون في أزله وقيل في المعنى:
أنا ابن الذي خاض الصفوف بنعله فيضرب يمناها طورا ويسراها
إذا ما حمام المرء كان ببلدة دعته إليها حاجة فيطير
«وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ» بسبب وبلا سبب ومن شيء وبلا شيء «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (١٥٦) قرئ بالتاء على أن الخطاب للمؤمنين وبالياء على طريق الالتفات للكافرين والأول أولى وأنسب بسياق السياق. واعلم أن رؤية الله تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازات على المرئي كالمعلوم، وفي الآية تهديد للمؤمنين لأنهم وإن كانوا لم يماثلوهم فيما ذكر إلا أن حصول الندم في قلوبهم على الخروج يقتضي ذلك «وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» خير لكم من أن تموتوا على فراشكم «أَوْ مُتُّمْ» في سفركم قبل خوضكم المعركة «لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ» لكم وكذلك في كل سفر طاعة «وَرَحْمَةٌ» عظيمة لكم منه في ذلك وهذا «خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (١٥٧) غيركم من حطام الدنيا وهم قعود في بيوتهم وقيل في المعنى:
إذا مت كان الناس صنفان شامت وآخر مثن بالذي أنا صانع
ثم أكد ذلك بقوله مع القسم أيضا «وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ» (١٥٨) في الآخرة فيجازيكم على حسب أعمالكم ونياتكم أي إذا كان هلاككم بأي سبب كان فمرجعكم إلى الله لا مرجع إلا إليه ولا معول إلا عليه ولا ثواب إلا منه ولا عقاب إلا عنه، قال الحسين رضي الله عنه وعن والديه:
419
فإن تكن الأبدان للموت أنشئت فقتل امرئ بالسيف والله أفضل
ويستفاد من هذه الآية أن مقامات العبودية ثلاثة: فمن عبد الله تعالى خوفا من ناره وهي أدنى مقامات العبودية (إذ ما تحتها إلا الرياء والنفاق الذين يخلد صاحبهما بالنار) فهذا قد يؤمنه الله مما يخاف وإليه الإشارة بقوله (لَمَغْفِرَةٌ)، ومن عبده طمعا في جنته آتاه الله ما رجاه وإليه الإشارة بقوله (وَرَحْمَةٌ) لأن الرحمة من اسماء الجنة، وهذه العبادة فوق تلك وكلاهما من حظوظ النفس، ومن عبده باعتباره إله حق مستحق للعبادة لذاته ولو لم يخلق نارا ولا جنة تشوقا إلى وجهه الكريم فتلك العبادة الخالصة وهي أشرف أنواع العبادات على الإطلاق، ولهذا فإنه تعالى وعده بما أراد ووعده الحق وإليه الإشارة بقوله (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) جعلنا الله منهم ومن أتباعهم. قال تعالى «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» يا سيد الرسل على ما هم عليه من غلظة وفظاظة فترفقت بهم وتلطفت عليهم وتحملت جفاهم فتشكر محسنهم وتعفو عن مسيئهم حتى التفوا حولك وأحبوك لما أوتيته من أخلاق كريمة تعاملهم بها وآداب عالية تعلمهم إياها وتدعوهم لما فيه صلاحهم «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ» جافيا قاسيا عجولا فقابلت فعلهم في أحد على أثر ما وقع منهم حالة توغر صدورهم فأنبتهم وكدرتهم «لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» وتفرقوا عنك ولكن الله الذي رباك فأحسن خلقك وأدّبك فأحسن تأديبك وجعلك سهلا يسرا رقيقا رفيقا فلم تعاملهم في الشدة ولم تحنق عليهم ولم تلمهم على فعلهم حالة تأثرهم على ما بدر منهم مما زاد في ندمهم وأسفهم وأكثر تحسرهم على تفريطهم بأمرك ولحقهم الخجل من أن يقابلوك لأنهم رأوا أنفسهم مقصرين لا عذر لهم ولهذا فإنا قد عفونا عنهم «فَاعْفُ» أنت أيضا «عَنْهُمْ» مخالفتهم هذه وزلتهم وإفراطهم «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» ربك وربهم وادع لهم أن لا يعودوا لمثلها فإنهم قد نالوا جزاءهم الدنيوي بما وقع فيهم من القتل والذل. واعلم أنك مجاب الدعوة، فلا تدعو عليهم، بل اسأل ربك الخير لهم «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» تطييبا لقلوبهم حتى يتيقنوا رضاك عنهم قلبا وقالبا، وذلك أن سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمور التي يساقون إليها يشق عليهم لأن ذلك يعدونه من عدم
420
المبالات بهم وإلا فإن الله تعالى يعلم أن ما لنبيّه من حاجة لمشورة أحد من خلقه ولكن أراد استجلاب عطفهم على رسوله وانفراز مودته في قلوبهم وجعل المشورة سنة لمن بعده على الإطلاق وعلى كل الرأي بعد المشورة له خاصة وليس عليه أن يتقيد برأيهم لأنه أوسع فكرا منهم وأصوب رأيا وأكبر تدبيرا وتدبرا في العواقب.
وهذا في الأمور التي لم ينزل فيها وحي أما ما نزل فيها الوحي فلا خيار له هو نفسه فيه فضلا عن أخذ رأي غيره. واعلم أن المشاورة في الأمور ممدوحة مطلوبة ومحمودة قال بعضهم:
وشاور إذا شاورت كل مهذب لبيب أخى حزم لترشد بالأمر
ولا تك ممن يستبد برأيه فتعجز أو لا تستريح من الفكر
الم تر أن الله قال لعبده وشاورهم في الأمر حتما بلا نكر
وعلى المستشير ألا يشاور من لا يثق به ولا يحبه ولذلك قالوا سبعة لا يشاورون:
١- جاهل لأنه يضل ٢- وعدو لأنه يريد الهلاك ٣- وحسود لأنه يتمنى زوال النعمة ٤- ومراء لأنه يقف مع رضاء الناس ٥- وجبان لأنه يهرب من كل ما يرعب فلا يميل إلا إلى سفاسف الأمور ٦- وبخيل لأنه يحرص على ماله فهو على نفسه أحرص فلا رأي له في العز ٧- ذوي هوى لأنه أسير هواه فلا خير في رأيه. وقالوا أيضا لا يشاور معلم الصبيان الذي لا يخالط الناس لقصر رأيه ولا راعي غنم يقوم معها وينام معها، ومن يخالط النساء دائما، وصاحب الحاجة لأنه أسير حاجته فيلائم صاحبها على رأيه، ويشاور من عناهم القائل بقوله:
عليم حكيم ما هو عند رأيه نظار إلى ما تبدوا إليه مذاهبه
بصير بأعقاب الأمور كأنما يخاطبه عن كل أمر عواقبه
وقال صلّى الله عليه وسلم المستشار مؤتمن وعليه يجب على العدو إذا استشاره عدوه أن يسديه نصحه هذا، وإذا استشرت صاحبك فأشار عليك بما لم تره موافقا أو لم تحمد عاقبته فلا تلمه أو تعاقبه لأنه أدى لك ما يحبه لنفسه وأنت غير ملزم برأيه. قال تعالى «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» أي إذا قطعت الرأي بعد المشورة التي هي كالاستيناس والاستطلاع لأن في احتكاك الآراء يظهر القصد الأحسن من الحسن
421
وتستبين الغاية المنشودة كالنار الناشئة من تصادم الحجرين وعلى كل فليكن توكلك على الله في تنفيذ ما تصمم عليه «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ١٥٩ عليه في كل أمورهم، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية ٧٢ من سورة النحل ج ١ والآية ٢٨ من سورة الشورى في ج ٢، وتشير هذه الآية إلى أن الرأي للأمير والفقرة الأخيرة منها تؤكد عدم التقيد برأي الغير. قال تعالى «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فيما بعد كما نصركم في بدر «فَلا غالِبَ لَكُمْ» البتة «وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ» كما وقع لكم في أحد «فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ» أي لا أحد أبدا «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (١٦٠) لا على غيره وقد بينا ما يتعلق بالتوكل في الآية ٤٠ من سورة الواقعة في ج ١، ولم تنته بعد الآيات النازلة في واقعة أحد إذ لم يذكر الله في حادثة مثل ما أنزل فيها لأنها أول فاجعة أصابت المسلمين. وما قيل إن هذه الآيات الأخيرة بعد آية الرّبا نزلت في حادثة بدر لا صحة له ولا ينطبق على شيء منها
وإنما الآية الآتية قد يكون لها علاقة في غنائم بدر فقط وهي قوله تعالى «وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ» أي ما صح ولا استقام لأي نبي أن يخون في الغنائم البتة لمنافاته مرتبة النبوة التي هي أعلى المراتب وأسمى الكمال الإنساني وأشرفه، وهذا للامتناع العقلي مثله في قوله تعالى (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) الآية ٢٥ من سورة مريم وقوله (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) الآية ٦٠ من سورة النمل في ج ١، وقرئ يغل على البناء للمجهول على أنها من أغللته إذا نسبته للغلول كما تقول أكفرته إذا نسبته للكفر قال الكميت:
وطائفة قد أكفرتني بحبكم وطائفة قالت مسيء ومذنب
أي لا يجوز لأحد أن ينسبه للغلول «وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» حاملا له على عنقه في النار ليزداد فضيحة «ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» إن خيرا فخير وإن شرا فشر «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (١٦١) فتيلا من جزاء أعمالهم والصحيح أنها أيضا في حادثة أحد لأن الرماة لما رأوا هزيمة المشركين ظنوا أن يقول الرسول من أخذ شيئا فهو له كما فعل في بدر، وهذا الذي حدا بهم إلى ترك مراكزهم لا غير فعاتبهم الرسول وقال لهم أظننتم ذلك فيّ
422
فأنزل الله هذه الآية. قال تعالى «أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ» كالمهاجرين والأنصار الذين جاهدوا ولم يبرحوا مكانهم ولم يتركوا رسولهم «كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ» أي رجع من ساحة الحرب لخذلان الرسول وأصحابه وهم المنافقون المار ذكرهم «وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (١٦٢) هي لأهلها لأن عبد الله ابن سلول وأصحابه ماتوا على الكفر وان المعبر عنهم برضوان الله «هُمْ» الذين اتبعوا الرسول لأن رضاء الله باتباعه صلّى الله عليه وسلم «دَرَجاتٌ» في التفضيل عند الله والذين تخلفوا عنه باءوا بسخط الله فهم دركات في غضبه والكل منهم متفاوتون «عِنْدَ اللَّهِ» في الثواب والعقاب «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» (١٦٣) عليم بما يستحقه كل منهم، لأن البصير لا تخفى عليه خافية مهما دقت وخفي حجمها وأمرها، قال تعالى «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ» فأحسن وتفضل وأنعم «عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» خاصة والعرب عامة «إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» من جنسهم ولسانهم وليسهل عليهم الأخذ منه وليثقوا به، قال أبو طالب في خطبة خديجة رضي الله عنها إلى محمد صلّى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا سدنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، وإن ابني هذا محمد بن عبد الله لا يوزن بفتى إلا رجح، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل، وقد صدق والله رحمه الله وحقق فراسته، إذ أرسله إليهم «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ» من دنس الشرك ودرن الخبث ونجاسة المحرمات ووسخ الأرجاس «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» في تضاعيف تعليمهم مدارك آيات الله المنزلة عليه ومعاني السنة التي يسنها لهم «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ» بعثته إليهم «لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (١٦٤) لا يخفى على أحد. قال تعالى «أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ» بحادثة أحد من هزيمتكم وقتل خمسة وسبعين من رجالكم فإنكم «قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها» من أعدائكم يوم بدر إذ قتلتم سبعين وأسرتم سبعين وهزمتموهم أيضا يوم أحد أولا وقتلتم منهم نيفا وعشرين عدا الجرحى «قُلْتُمْ أَنَّى هذا» أي كيف نغلب ولم أصابنا هذا وقد وعدنا النصر، ومن أين جاءنا هذا الخذلان
423
والرسول معنا «قُلْ» لهم يا سيد الرسل إن هذا الانكسار «هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» بسبب مخالفتكم رأي رسولكم أولا بالخروج، إذ كان رأيه البقاء بالمدينة حتى يجابهوهم فيها فيقاتلهم، وثانيا مبارحتكم أمكنتكم التي أمركم الثبات فيها في ساحة الحرب وحذركم وقال لكم إذا رأيتمونا تخطفنا الطير أو رأيتمونا هزمناهم ووطأناهم فلا تتركوها، ولذلك خذلتم «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (١٦٥) ومن قدرته قدر خذلانكم على مخالفتكم تلك ولم ينصركم عليهم تأديبا لكم كي لا تعودوا لمثلها «وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» من قتل وهزيمة في هذه الحادثة «فَبِإِذْنِ اللَّهِ» وإرادته وتقديره «وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ» (١٦٦) منكم من يصبر على الأذى في سبيل الله، ومن يجزع ويظن بالله ما لا يليق به، أي يختبر الله ذلك منهم فيظهره لعباده «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا» فيظهر نفاقهم للناس أيضا ويفضحهم بينهم، وإلا فإن الله عالم بذلك كله ومدون في أزله، وإن ما وقع هو طبق علمه. وكلمة النفاق لم تعرفها العرب قبل، أخذت من نافقاء اليربوع، لأن حجره له بابان إذا طلب من أحدهما هرب من الآخر، فوضع في الإسلام علامة على تلك الطائفة التي تبطن الكفر وتظهر الإسلام وتكمن الغيظ والبغض وتعلن الرضاء والمودة وتضمر الحقد والحسد وتجهر بخلافهما «وَقِيلَ لَهُمْ» والقائل هو جابر بن عبد الله بن جزام الأنصاري والمقول له عبد الله
أبي سلول وأصحابه «تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ» أعداء الله إعلاء لكلمة الله «أَوِ ادْفَعُوا» الأعداء عن المجاهدين إخوانكم وكثروا سوادهم إن لم تقاتلوا «قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» ولم نرجع، وقال عبد الله ما ندري علام نقاتل أنفسنا «هُمْ» المنافقون القائلون هذا القول «لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ» يوم مقالتهم هذه لجابر جوابا لقوله يا قوم اذكروا الله فلا ترجعوا وتخذلوا نبيكم عند حضور عدوه «أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ» لأنهم أظهروا نفاقهم وجاهروا بعنادهم وكانوا «يَقُولُونَ» كلمة الإيمان أمام الأصحاب «بِأَفْواهِهِمْ» قولا خارجيا «ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» المحشوة بالكفر الخالية من الإيمان «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» (١٦٧) في قلوبهم قبل تكلمهم بالإيمان نفاقا، وهؤلاء هم «الَّذِينَ
424
قالُوا لِإِخْوانِهِمْ»
المنافقين في المدينة «وَقَعَدُوا» عن الجهاد بقصد خذلان الرسول، ثم بين ما قالوه لإخوانهم بقوله «لَوْ أَطاعُونا» أولئك المؤمنون الذين خرجوا مع الرسول وقعدوا معنا «ما قُتِلُوا» في واقعة أحد فرد الله عليهم بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل «فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (١٦٨) أن قعودكم يمنعكم منه لأن المقتول ميت بعمره، وإذا كان الموت لا بد منه فليمت العاقل في سبيل الله، راجع الآية ١٥٨ المارة.
وتفيد هذه الآية أن المنافق شر من الكافر، وأن الحذر لا يغني عن القدر، وأن الموت في سبيل الله أشرف من الموت على الفراش وهو كذلك.
مطلب في حياة الشهداء، وخلق الجنة والنار، وقصة أهل بنو معونة، وما قاله معبد الخزاعي:
قال تعالى «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً» كغيرهم ينقطع ذكرهم بالدنيا كلا «بَلْ أَحْياءٌ» يخلد ذكرهم فيها بما نالوه بسببه من الشهادة في الذب عن دينهم وعرضهم وبلادهم وكيانهم، لذلك يبقى ذكرهم الحسن شائع في الدنيا وفي الآخرة «عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (١٦٩) رزقا كريما لا نعرفه كما أن حياتهم حياة لا نعقلها، إذ اختصهم الله بها، لا نطلع على كنهها بالحس، ولا ندركها بالبصر، لأنها من أحوال البرزخ، ولا طريق للعلم بها إلا الاعتقاد الجازم بما ذكره الله، فلو رأيتهم أيها الرائي هناك «فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» من الكرامة والإحسان والنعيمه يفرحون «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» من إخوانهم الأحياء بأنهم إذا نالتهم الشهادة ولحقوهم إلى دار العزة يكونون مثلهم، وإذا رأيتهم تيقنت «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من أحوال الآخرة «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (١٧٠) على ما فاتهم من الدنيا لأن الخير الذي رأوه أنساهم إياها
«يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ» والتنوين في هاتين النكرتين يدل على التكثير فيكون المعنى نعمة كبيرة وفضل عظيم بما رزقوا من خير مقيم، كما أنهم يستبشرون لإخوانهم المار ذكرهم. ولا تكرار هنا لأن الأول لغيرهم والثاني لهم «وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» (١٧١)
425
الآخرين الذين جاهدوا ولم يتوفقوا للشهادة لأنهم سعداء مدّ الله في آجالهم ليكثر ثوابهم، فلهؤلاء ما ذكر الله، أما الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر أقعدهم أو أمر من الرسول بالبقاء للمحافظة على المدن ومن فيها من العاجزين والأطفال والنساء والقيام بشئونهم فإن الله تعالى يثيبهم على حسب نياتهم وإخلاصهم. روى البخاري ومسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن عمر عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ) إلخ فقال أما انا قد سألنا عن ذلك (يدلّ على أن هذا الحديث مرفوع) فقال (يعني محمد صلّى الله عليه وسلم) أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال هل تشتهون شيئا؟
قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاثا، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا، قالوا يا رب نريد أن ترد علينا أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى (وهو راء) أن ليس لهم حاجة تركوا. هذا إخبار الله ورسوله عن المقتول في سبيل الله بأنه حي، وعليه فلا يجوز الدخول في هذا وأمثاله بالعقل، فإن العقل لمثله عقال يفسد ولا يصلح، بل يجب الدخول على هذا وأمثاله بالإيمان الصرف الذي من ورائه الإيقان الذي من ورائه العيان، فالعقل هذا كالملح المفسد لبعض، المصلح لآخر، تأمل وتروّ وتأنّ، ولا تقل هنا بالتأني تضيع الفرص والله يرشدك للصواب، راجع ما قدمناه في نظير هذه الآية الآية، ١٥١ من سورة البقرة المارة. واعلم أن في هذا الحديث دلالة على وجود الجنة وأنها مخلوقة خلافا لمن قال بخلافه، ودليل أيضا على عدم فناء الروح، وعلى أن المحسن ينعم في الآخرة وفي البرزخ، والمسيء يعذب فيهما، وهذا هو المذهب الحق، وإن ما جاء في هذا الحديث ليس بمستحيل على الله لأنه قادر على أن يصوّر أرواحهم على هيئة الطير. أما القول بحياة الجسد فهو وإن لم يكن بعيدا على من يحيي العظام وهي رميم ويخلق البشر من النطفة وآدم من الطين وحواء من اللحم وعيسى من غير أب، وكون هذا الكون علويه وسفليه بلفظ كن، إلا أنه لم تجر عادة الله جلت قدرته بذلك، وليس فيه مزيد فضل أو عظيم منّة، ولا إليه حاجة، بل فيه ما فيه من إيقاع الشكوك والأوهام،
426
وتكليف ضعفة المؤمنين بالإيمان به دون جدوى. وما حكي عن مشاهدة بعض الشهداء الأقدمين كاملي الأجساد وأن قروحهم تشخب دما عند رفع أيديهم عنها أو نقلهم من محلهم فلعله مبالغة أو حديث خرافة عند بعض الناس الذين يعدون ناقله أو قائله في هذا الزمن من سفهة الأحلام وسخفاء العقول، راجع الآية ٤٣ من سورة الزمر في ج ٢ وما تشير إليه من المواضع التي لها علاقة لما في هذا البحث وإلى هنا انتهت الآيات النازلة في حادثة أحد. وما قيل إن هذه الآية الأخيرة نزلت في شهداء بدر لا يصح، لأن الذي نزل فيهم هي آية ١٥٤ من سورة البقرة المارة. وقال بعض المفسرين إنها نزلت في أهل بئر معونة، ويستدل بما رواه البخاري ومسلم قال: بعث رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر، وفي رواية: بعث خالي أخا لأم سليم واسمه خزام، في سبعين راكبا، فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن آمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله وإلا كنتم مني قريبا، فتقدم، فأمنوه، فبينما هو يحدثهم عن رسول الله إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه، فأنقذه، فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلا منهم أعرج صعد الجبل، قال همام وأراه آخر معه، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم، قال فكنا نقرأ (أن بلغوا عنا قومنا أن لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) وهذا إن صح فهو من كلام جبريل لحضرة الرسول وليس من القرآن، إذ لو كان منه لأثبت فيه، وقد ذكرنا أن كل ما هو من هذا القبيل ليس من القرآن، يدل على هذا قوله) ثم نسخ بعد (أي أنهم نهوا عن قراءة تلك الجملة) فدعا عليهم رسول الله أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني عصبة الذين عصوا الله ورسوله. وفي رواية. رعلا وذكوان وبني لحيان استمدوا لرسول الله بسبعين رجلا من الأنصار كنا نسيهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة (أرض ببني عامر وحرة بني سليم) قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقنت عليهم شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصيه وبني لحيان، قال أنس فقرأنا فيهم قرآنا ثم رفع (أي ما ذكر أعلاه) وليس
427
بشيء إذ ليس كل ما يخبر به جبريل حضرة الرسول يكون قرآنا، أما قوله فكنا نقرأ فهو عبارة عن تكرار ما قاله جبريل عليه السلام لحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام بشأنهم، وقراءته حكايته، إذ لو كان قرآنا لدون في
الصحف كغيره فيما كان يكتب عليه التي كانت في بيت عائشة ثم حفصة التي نقلها القراء في زمن عثمان إلى المصاحف، وحفظت كغيرها من قبل الكتبة، لذلك فلا معنى لقوله ثم نسخ، يدل عليه عدم بيان ما نسخ به، إذ لكل منسوخ ناسخ بما يدل على أن ذلك ليس من القرآن، ومن هنا شرع القنوت عند نزول كل حادثة بالمسلمين في الصلوات. وفي رواية لمسلم: جاء أناس إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فسألوه أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار وذكر نحو ما تقدم، وذلك في شهر صفر السنة الرابعة من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، وهذا الخبر على فرض صحته كما جاء ليس نصا في سبب النزول، إذ قيل إن الذي نزل فيهم هو قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية المارة، وكذلك لا يكاد يصح لأن السبب في نزولها قد ذكرناه في الآية ١٢٧ المارة، وقد بينا غير مرّة أن لا مانع من تعدد الأسباب، وأن آية واحدة قد تكون لعدة حوادث، والله أعلم. قال تعالى «الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» وسارعوا بالإجابة «مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ» (١٧٢) عند الله لانقيادهم لأمر رسولهم. نزلت هذه الآية في غزوة حمراء الأسد بعد الانصراف من غزوة أحد، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت لعروة يا ابن أختي كان أبوك منهم والزبير وأبو بكر لما أصاب نبي الله ما أصاب يوم أحد وانصرف المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يذهب في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلا كان فيهم أبو بكر والزبير، قال فمر برسول الله صلّى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك، فقال يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك، ولوددنا أن الله أعفاك فيهم، ثم خرج معبد من عند رسول الله حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا
428
على الرجعة إلى رسول الله وقالوا قد أصبنا جل أصحابه وقادتهم لنكرّن على بقيتهم ولنفرغنّ منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراءك يا معبد؟ قال محمد قد خرج عليكم بطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم، وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال أبو سفيان ما تقول؟ قال والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل، قال فو الله لقد أجمعنا على الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، فقال والله إني أنهاك عن ذلك، فو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت أبياتا قال وما قلت، قال قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
توري بأيد كرام لا تبابلة عند اللقاء ولا ميل معاذيل
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم إذا تغطغطت البطحاء بالخيل
أتى نذير لأهل السيل ضاحية لكل ذي اربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وحش تقابله وليس يوصف ما أنذرت بالفيل
قالوا فثنى ذلك أبو سفيان ومن معه. ومن هنا يعلم أن الكذب لمصلحة جائز كما بينته في الآية ٢٦ من سورة الأحزاب الآتية، وبأثناء هذا مر ركب من عبد القيس فقال أين تريدون؟ قالوا المدينة لأجل الميرة، قال فهل أنتم مبلغون عنا محمدا رسالة وأحمل لكم آبالكم زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا نعم، قال إذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، وانصرف أبو سفيان إلى مكة.
مطلب غزوة حمراء الأسد، وبدر الصغرى، وأحاديث في فضل الجهاد والرباط:
ومرّ ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال صلّى الله عليه وسلم وأصحابه حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم انصرف رسول الله راجعا إلى المدينة بعد ثالثة، فنزل قوله تعالى «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ» أي ركب عبد القيس المار ذكره «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» يعني أبا سفيان وقومه «فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ» هذا القول «إِيماناً» على إيمانهم وفي هذه
429
الجملة دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص كما بيناه في الآية الثانية من سورة الأنفال المارة «وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» (١٧٣) قال عكرمة نزلت هذه الآية في بدر الصغرى، لأن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى نقابل إن شئت، فقال صلّى الله عليه وسلم بيننا وبينك ذلك إن شاء الله، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل بمجنة من ناحية مرّ الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع، وفي خلف وعده هذا قال عبد الله بن رواحة:
وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا لأبت ذميما وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أف لدينكم وأمركم الشيء الذي كان غاويا
وأني وإن عنفتموني لقائل فدّى لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا
فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا، فقال له أبو سفيان يا نعيم إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي يوم بدر الصغرى، وهذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن وبدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جرأة، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنا في جمع كثير لا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يد سهل ابن عمرو وهو يضمنها لك وبعد أن استدعاه وتعهد له بذلك أتى المدينة فوجد الناس متجهزين لميعاد أبي سفيان، فقال لهم لو عدلتم عن خروجكم لكان خيرا لكم، إني والله قد رأيتهم وما أعدوه لكم، والله لإن أتوكم في دياركم وقراركم لم يفلت منكم إلّا الشريد، أفتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم ما ليس لكم بطاقة لمقابلته، وو الله إن أخذوا بكم لا يفلت منكم أحد. فكره أصحاب الرسول الخروج، فقال صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأخرجنّ لهم ولو وحدي، فرجع الجبان وتأهب
430
الشجاع، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فخرج في أصحابه حتى وافوا بدرا، وأقاموا فيها، ولما قضي الموسم ولم يحضر أبو سفيان وأصحابه وكان معهم تجارات ونفقات فباعوها وربحوا بالدرهم اثنين وكان مدة سوق بدر ثمانية أيام، وسيأتي لهذه الغزوة بحث في الآية ٤٧ من سورة النساء الآتية إن شاء الله، وعليه فإن سياق الآية يفيد الارتباط بما قبلها، وإنها قصة واحدة، وقد يجوز الوجه الآخر، والله أعلم. روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا) أي الفقرة الأخيرة فيها وهي (حَسْبُنَا اللَّهُ) إلخ قالها إبراهيم حين ألقي بالنار، وقالها محمد حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، ويؤيد الحادثتين قوله تعالى «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» (١٧٤) وعلى اعتبار نزولها في بدر الصغرى يكون المراد بالناس أبا نعيم هذا إذ يجوز في لسانهم إطلاق الناس على الواحد باعتبار أنه إذا قال قولا ورضي به غيره، حسن إضافة ذلك القول إليهم كلهم، وعليه يكون قوله تعالى «إِنَّما ذلِكُمُ» الذي خوفكم بجمع أبي سفيان هو «الشَّيْطانُ» أبو نعيم الذي رشاه أبو سفيان بعشرة من الإبل على أن يفتري تلك الفرية ولم يفز ببغيته، وقد خسر الدنيا والآخرة، وعلى المعنى الأول ركب عبد القيس الذي مرت الإشارة إليه في الآية ١٧٢ وهي المعبر عنه بالشيطان الذي «يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ» المنافقين إخوان المشركين «فَلا تَخافُوهُمْ» أيها المؤمنون لأنهم ضعفاء لا يستنصرون بالله ولا يعتمدون عليه، وكذلك المنافقون الّذين يأخذون بقوله، جبناء، لا يثقون بالله ويشكون في وعده ودعوة نبيه، فانبذوهم «وَخافُونِ» أنا وحدي الجبار القاهر عظيم البطش «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (١٧٥) بي وبرسولي، ثم التفت يخاطب سيد المخاطبين بقوله «وَلا يَحْزُنْكَ» يا حبيبي «الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» من المنافقين والمشركين فإنهم لا يضرونك والله معك «إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» بمسارعتهم لقتالك الذي هو نفسه كفر، وإنما يضرون أنفسهم «يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ» ويكلهم إلى الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (١٧٦) لا تطيقه قواهم لأنه من إله عظيم.
431
هذا، وعلى القول الأول تكون هذه الآية آخر قصة أحد لأنها متعلقة بما قبلها، وغزوة حمراء الأسد تبع لها وعلى الثاني يكون آخرها قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ومن قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) الآيات إلى هنا تعتبر نازلة في واقعة بدر الصغرى، والله أعلم. روى البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
ورويا عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
ورويا عن أبي سعد قال: أتى رجل رسول الله ﷺ فقال أي الناس أفضل؟
قال مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، قال ثم من؟ قال رجل في شعب من الشعاب يعبد الله تعالى، وفي رواية يتقي الله ويدع الناس شره. ورويا عن أنس بن مالك قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما بأحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما في الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين. راجع ما يتعلق في بحث الدين في الآية ٢٨٠ من البقرة المارة. وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء قال: قال صلّى الله عليه وسلم يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته. وأخرج الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما يجد الشهيد مس القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القرحة. وروى البخاري عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من احتبس فرسا في سبيل الله، الحديث تقدم في الآية ٦٠ من سورة الأنفال المارة ومعه أحاديث كثيرة في هذا البحث. وأخرج الترمذي وأبو داود عن فضالة بن عبد الله قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل، فإنه ينمّي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر. ورويا عن سهل بن سعد المذكور من الحديث الثاني في هذه الأحاديث المارة بزيادة: والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما فيها. وروى مسلم عن سلمان قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن
432
مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ» أي المنافقين لأنهم كفروا بعد إيمانهم فغبنوا وخابوا وخسروا أنفسهم لأنهم ببيعتهم الخاسرة «لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» بل خسروا أنفسهم وحدها في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١٧٧) في الآخرة، ولا تكرار في جملة (لن يضروا الله) وفي جملة (ولهم عذاب أليم) لأنها في الآية الأولى في جميع الكفار وهذه في المنافقين المتخلفين فقط وتلك مختومة بلفظ عظيم وهذه بلفظ أليم. قال تعالى «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بتاء الخطاب لحضرة الرسول وبالياء على الغيبة لعموم الكفار، ولا يخصصها قول من قال إنها نزلت بالمشركين وبعض يهود بني قريظة والنضير الذين سبق ذكرهم وسبق في علم الله عدم إيمانهم «أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ» نمهلهم ونؤخرهم ليعتقدوا أن ذلك «خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ» كلا لا يظنوا ذلك بل هو شر لهم بدليل قوله عز قوله «إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً» فتكثر أوزارهم في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (١٧٨) في الآخرة ينسون بكبير هوانه عز الدنيا وما فيها لو كانت كلها لهم.
روى البغوي بسنده عن عبد الرحمن عن أبيه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله، قيل فأي الناس شر؟ قال من طال عمره وساء عمله. وقال ابن الأنباري: قال صلّى الله عليه وسلم إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله لخلقه، ثم تلا هذه الآية. قال تعالى «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» بحيث لم يعرف المخلص من غيره «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» وذلك أن المؤمنين سألوا رسول الله آية يعرفون بها المخلص من المنافق، فأنزل الله هذه الآية أي لم يترككم على هذا الاختلاط والالتباس بل لا بد وأن يبين المؤمن الموقن والكافر المصر. وهذا بعد واقعة أحد، لأن المؤمن ثبت على إيمانه وازداد إخلاصا، والمنافق جاهر في نفاقه وازداد كفرا فظهر للناس حال الطرفين «وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» أيها المؤمنين توا لتميزوا بين الطرفين لأن هذا من الغيب وهو من خصائص الله. واعلم أن فعل يذر لا ماضي له، راجع الآية ٢٧٨ من البقرة المارة، ت (٢٨)
433
ولا تنوهموا أن رسولكم يعلم شيئا دون تعليمنا إياه لأن شأنه في الغيب شأن غيره «وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» فيطلعه على ما يشاء من غيبه دلالة على نبوته لخلقه لئلا يبطنوا له خلاف ما يظهرونه «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» كلهم محمد فمن قبله «وَإِنْ تُؤْمِنُوا» بالرسل كلهم «وَتَتَّقُوا» جميع ما نهيتم عنه «فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (١٧٩) من الرب العظيم الذي يعطي العظيم «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» زيادة على كفايتهم «هُوَ خَيْراً لَهُمْ» كلا أيها الإنسان الكامل «بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ» بالدنيا بالذم وبالآخرة سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ» على رءوس الأشهاد «يَوْمَ الْقِيامَةِ» فيراهم أهل الموقف، لأنهم لم ينفقوا ما أعطيناهم في طرق الخير ثم تركوه لغيرهم وتحملوا عقابه «وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لأن أهلهما يموتون وهو الباقي الوارث لهم «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (١٨٠).
مطلب في الزكاة وعقاب تاركها، وتحذير العلماء من عدم قيامهم بعلمهم، وحقيقة النفس:
نزلت هذه الآية في مانعي الزكاة بدليل تشديد الوعد فيها، لأن منع صدقة الشرع لا تستلزم هذا التهديد، يؤيد هذا ما جاء في تخريج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثل له يوم القيامة شجاع أقرع (حية عظيمة) له زبيبتان (شعرتان في لسانه) بطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهمزتيه (شدقه) ثم يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية. وهذا الحديث مفسر لقوله تعالى (سيطوقون ما بخلوا به) وروى البخاري عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة، قال فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت (وهذا من كمال أدبه رضي الله عنه إذ لم يرد أن يتجاسر على سؤال حضرة الرسول وهو قاعد) ومن هنا ين التمسك بالأدب مع العلماء لمن يسألهم عن أمر دينه أكثر من غيرهم، فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم، ما من
434
صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت عليه وأسمن تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس- لفظ مسلم- وخرجه البخاري بمعناه في موضعين، وتتمة هذا الحديث تأتي بالآية ٢٦ من سورة التوبة الآتية. هذا ومن قال إن هذه الآية نزلت في الذين يكتمون نعت محمد صلّى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم فقد ذهل القصد وأغفل المطلوب وأخطأ المرمى، لأن الله تعالى لما بين الباذلين أموالهم وأنفسهم في الجهاد أتبعه في الباذلين المال لأنه من لوازم الجهاد وضرورياته، وقد سبقت آيات كثيرة في الكاتمين نعت الرسول، فلا حاجة لأن تؤول غيرها على خلاف ظاهرها ولا نجهد الفكر بأن هذه ناسخة وهذه منسوخة من حيث لا ناسخ ولا منسوخ كما اعتاد بعض المفسرين حتى تجارءوا على مخالفة ظاهر التنزيل بلا جدوى، وحتى ان بعضهم جرؤا على النظم الكريم مثل صاحب الجمل عفا الله عنه، راجع الآية ٥ من سورة الحج الآتية وما ترشدك إليه من سورة يونس في ج ٢، ألا فليحذر العالم أن يخرج عن حد الاعتدال اغترارا بما آتاه الله من ذرة علم، فكثير ممن هو أعلم منه وأعلم هوى به علمه إلى أسفل سافلين، أعاذنا الله تعالى من ذلك ووقانا ممّا هنالك.
قال تعالى «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ» نكتب أيضا «قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ» من قبل أسلافهم «بِغَيْرِ حَقٍّ» عدوانا محضا «وَنَقُولُ» لهم في الآخرة عند ما يطرحون بالنار ويستغيثون بنا فيها «ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» (١٨١) فيها «ذلِكَ» العذاب الشديد ينالكم «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» من أعمال منكرة «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» (١٨٢) فلا يعذب أحدا بلا جرم، قال دخل أبو بكر رضي الله عنه بيت المدارس فقال لحبر اليهود فنخاص بن عازوراء على ملإ من قومه قد جاءكم محمد بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، فاتق الله وآمن وصدق واقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب، فقال يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض إذن هو الفقير ونحن أغنياء، فغضب أبو بكر وضربه وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم
435
لضربت عنقك يا عدو الله، فذهب وشكاه إلى الرسول فاستدعاه وقال ما حملك يا أبا بكر على ما صنعت؟ قال يا رسول الله إنه قال قولا عظيما، زعم أن الله فقير وهم أغنياء، فجحد فنخاص ذلك، فأنزل الله هذه الآية تكذيبا له وتصديقا لأبي بكر، وقد سمع الله قول «الَّذِينَ قالُوا» أي فنخاص المذكور وأضرابه لمالك بن الصيفي ووهب بن يهوذا وزيد بن تابوت وحيي بن أحطب وكعب بن الأشرف «إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا» في التوراة على لسان موسى «أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ» آية نبوته حتى نصدقه كما وقع لابن آدم هابيل ومن بعده من الأنبياء فأنزل الله جل جلاله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ» كزكريا ويحيى وعيسى «وَبِالَّذِي قُلْتُمْ» من القربان وغيره «فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ» بعد أن أتوكم بما طلبتم منهم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (١٨٣) في دعواكم «فَإِنْ كَذَّبُوكَ» يا حبيبي في هذا مع علمهم بصدقه فلا تحزن ولا تضجر «فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» نوح وصالح وهود وإبراهيم وغيرهم مع أنهم «جاؤُ بِالْبَيِّناتِ» لأقوامهم «وَالزُّبُرِ» الكتب، يقال لكل كتاب فيه حكمة زبور، والقربان لكل ما يتقرب به، والزبر هي الكتب وبه سمي زبور داود عليه السلام، لأنه يزبر به الناس أي يزجرهم عن الباطل ويدعوهم إلى الحق «وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ» (١٨٤) الواضح كالتوراة والإنجيل ويطلق القربان على كل عبادة مالية أو بدنية وعلى الأقوال والأفعال المادية والمعنوية يدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم: الصوم جنة والصلاة قربان وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل فإذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة جمعوها فتجيء نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة، فيكون دليلا على القبول، وإذا لم يقبل منهم يبقى على حاله ولم تنزل عليه نار تأكله. ولهذا البحث صلة في الآية ٢٧ من سورة المائدة الآتية قال السدي إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة أن من جاءكم يزعم أنه رسول فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، وحتى يأتيكم المسيح ومحمد، وكانت هذه العادة باقية إلى بعثة المسيح، ثم ارتفعت وزالت. ولما قال بعض الأصحاب
436
يا رسول الله إن الله أنزل (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) وهذا خاص في بني آدم لأن الخطاب لهم فأين ذكر موت الجن والأنعام والوحوش والملائكة والطيور وغيرها، فأنزل الله كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» ووجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها التهديد للكفرة بالمعاد، وهذه الجملة مكررة في الآية ٢٥ من سورة الأنبياء والآية ٢٧ من سورة العنكبوت في ج ٢ وفي غيرهما أيضا، أي لا ليهمنك تكذيبهم فمرجعهم إليّ بعد الموت وسأجازيهم على تكذيبهم وأكافئك على صبرك بدلالة قوله «وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» قليلها وكثيرها خفيها وظاهرها «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» بالسعادة الأبدية لأن كل أحد قبل الدخول فيها خائف فزع منتظر ما يفعل به. ومن هنا يعلم حقيقة ما ذكرناه في الآية ٤٥ من سورة الأعراف ج ١ بأن لا دار غير الجنة والنار «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (١٨٥) لمن آثرها على الآخرة أما من طلبها للآخرة فهي متاع بلاغ لها جائز طلبه، والمتاع كل ما يمنع به الإنسان من مال أو غيره، والغرور كل ما يغتر به أنه دائم
وهو بال فإن، شبّه الدنيا بمتاع معيب دلّسه البايع على المشتري حتى إذا ظهر له عيبه وتبين غبنه فيه ندم، لأنه غرّ به. واعلم أن العلماء اختلفوا في حقيقة النفس والروح فمن قائل إنهما اسمان مترادفان لمعنى واحد، وعرّفوه بأنه جسم لطيف له مادة خاصة خلق منها وجعل على شكل معين وصورة معينة توجد داخل هذا البدن وهو مخالف لماهيته وينفذ في الأعضاء ويسري فيها سريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم مشابها لهذه الأعضاء وأفادها منه الحسّ والحركة الإرادية وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها خرجت عن قبول تلك الآثار وفارقت الروح البدن فانتقلت إلى العالم الثاني. ولا يجاريهم في هذا الرأي بعض أهل العلم والتصوف الذين يقولون إن للإنسان غير بدنه حياة وروحا ونفسا، وإن ما سبق من التعريف إنما ينطبق على النفس فقط لا على الروح، أما الروح فقال بعضهم ما قاله الله عز وجل (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) الآية ٨٦
437
من سورة الإسراء ج ١ لأن الله أخفى حقيقتها وعلمها عن خلقه. وقال بعضهم إنها نور من نور الله وحياة من حياته. وقال بعضهم إنها معنى مرتفع عن الوقوع تحت النسق واللون، وإنها جوهر بسيط مثبت في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدبير، وانه لا يجوز عليه صفة قلة ولا كثرة، وهي على ما وصفت من انبعاثها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية، وانها في كل حيوان العالم بمعنى واحد، فلا طول لها، ولا عرض، ولا عمق، ولا لون، ولا بعض، ولا وزن، ولا هي في العالم ولا خارجة عنه، ولا مجانبة، ولا مباينة، وتعلقها بالبدن لا بالحلول فيه، ولا بالمجاورة، ولا بالمساكنة، ولا بالالتصاق، ولا بالمقابلة، وإنما هو بالتدبير له فقط، وما الحياة إلا المظهر الخارجي للدلالة على وجود الروح. هذا وإن الباحث في القرآن عن حقيقة الأمر يرى أن الله سبحانه قد أطلق النفس على الذات بجملتها كما في قوله تعالى (فسلموا على أنفسكم) الآية ٦١ من سورة النور الآتية، وقوله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) الآية ٢٨ من سورة النساء الآتية، وقوله تعالى (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) الآية ١١١ من سورة النحل في ج ٢، وقوله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) الآية ٣٨ من سورة المدثر في ج ١ إلى غيرها من الآيات، ولم تطلق الروح بالقرآن على البدن ولا على النفس ولا عليهما معا، وإنما أطلق الروح في القرآن على الوحي الإلهي في قوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) الآية ٥٣ من الشورى ج ٢ وقال (يلقي الروح من أمره على من يشاء) الآية ٦١ من سورة المؤمن أيضا وأطلقت أيضا على القوة في قوله تعالى (وأمدهم بروح منه) الآية ٢٢ من سور المجادلة الآتية ولم تقع تسمية روح الإنسان في القرآن إلا بالنفس قال تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة) الآية ٢٨ من سورة والفجر، وقال (ولا أقسم بالنفس اللوامة الآية الثانية من سورة القيامة، وقال تعالى (ونفس وما سواها) في ج ١، وقال تعالى (إن النفس لأمارة بالسوء) وقال (أخرجوا أنفسكم اليوم) الآيتين من سورة يوسف و ٩٣ من سورة الأنعام في ج ٢، والآية المارة (كل نفس ذائقة الموت) وغيرها من أول سورة النساء الآتية وشبهها. إلا أن الثابت في القرآن
438
والسنة أن النفس ذات قال بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن، وقد وصفها الله تعالى بذلك بآيات متعددة، فقال جل قوله (والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم) وقال (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) الآيتين المشار إليهما أعلاء وما ضاهاهما من الآيات، مما يدل ذلك، وأن حضرة الرسول سئل عن الروح فأنزل الله (قل الروح من أمر ربي) الآية المارة أيضا، ولم يسأل عن النفس ولم يخبر عنها أنها جوهر أم عرض، وأن قوله تعالى (الله يتوفى الأنفس) الآية ٤٢ من سورة الزمر ج ٢ لأكبر برهان على النفس غير الروح وأن الوفاة بمعنى القبض للنفس، وأنه يفقد عاقليتها
وشعورها، وأما الموت فهو للبدن بانتزاع الروح منه، فيتخلص من هذا كله أن الإنسان مكوّن من جوهرين فقط هما النفس وهي الجوهر الشفاف الذي لا يرى وهي الأصل في الإنسان وهي موضع التكليف والسؤال والثواب والعقاب. الثاني البدن وهو الهيكل الجثماني والمظهر الخارجي لها، وعليه فتكون الروح أمرا خارجيا عن تكوين الإنسان إلا أنه قائم به، ومظهرها الخارجي الحياة، لأن الروح قوة إلهية خصصت لحركة المخلوقات ونحوها، فهي موجودة في كل إنسان وحيوان وشجر، تبعث فيهم الحياة والنشاط، فهي أشبه بقوة الكهرباء، لأن وسائل توليدها ظاهرة ومظهرها في الخارج واضح، إلا أن حقيقتها سرّ من أسرار الله لم يعرف بعد، فقوة الحياة في جميع الخلق واحدة لا تتجزأ، يهبها الله لمن قدرت له الحياة منحة منه تعالى، ولا نعرف إلا أن اسمها الروح وأنها أمر من أمر الله وسر من أسراره الخفية كالذي نفخه بآدم بعد خلقه، والذي نفخ في مريم حتى حملت بعيسى وولدته. هذا وكما وقع الخلاف في معنى الروح اختلفوا في مصيرها، فمنهم من قال إنها تفنى لقوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) الآية الأخيرة من سورة القصص في ج ١، ومنهم من قال بخلوها لكونها روحانية خلقت من الملكوت وترجع إليه خالدة لأنها من قوى الله عز وجل، فهي خالدة بخلوده، وإن اتصالها بالإحياء عبارة عن اتصال القدرة بالمقدور. أما النفس فإنها تفنى لأنها مخلوقة ولها بداية وكل ماله بداية له نهاية، قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ
439
الْمَوْتِ)
الآية المفسرة، وعلى هذا يكون تفسير الآية ١٢ من سورة المؤمن في ج ٢ أن الموقة الأولى للبدن بزوال الحياة عنه، والثانية للنفس يوم ينفخ في الصور، والحياة الأولى هذه الحياة الدنيا، والثانية في الآخرة التي أولها يوم البعث ولا آخر لها.
وقال بعض العلماء إن العلاقة بين الروح والنفس والبدن على أنواع قد تجتمع كلها في حياتنا هذه العادية وتنفرد الروح بالبدن دون النفس حالة النوم، والنوم قد يكون طبيعيا وقد يكون بسبب آخر كالبنج والتنويم المغناطيسى، وقد تتصل النفس بالبدن من غير الروح بعد مفارقة الروح له حالة الموت وتظل سابحة بمفردها في العالم غير المنظور إلى نهاية هذه الحياة الدنيا، وذلك يوم النفخ في الصور المشار إليه بقوله تعالى بالآية ٦٩ من سورة الزمر في ج ٢ ثم تبدأ الحياة الأخرى.
ثم فصلوا هذا فقالوا إن الله تعالى جعل الدور ثلاثا: دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار، ووضع لكل دار أحكاما تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأنفس تبعا لها، ولذلك جعل أحكام الشريعة مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافها، وجعل أحكام البرزخ على الأنفس والأبدان تبعا لها، فكما تبعت النفوس الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت لألمها والتذت براحتها وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان النفوس البرزخ في نعيمها وعذابها، وكما كانت النفوس هنا خفية والأبدان ظاهرة تكون هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها، وتجري أحكام البرزخ على النفوس التي باشرت أسباب النعيم والعذاب فتسري منها إلى الأبدان.
وضربوا لذلك مثلا بحال النّائم فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على نفسه أصلا والبدن تبعا لها، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا، فتراه يقوم من نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، إلا أنه حينما يفيق تراه متأثرا مما يلاقي خيرا كان فيكون منبسط النفس أو شرا فتراه منقبضا منكمشا. والسر في هذا أن الحكم لما جرى على النفس استعانت بالبدن من خارجه ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس كما يقع أحيانا فتراه يقوم مرعوبا من الخوف فيفيق من نومه. ويعلم من هذا أن النفس كما أنها تتألم وتنعم في نومها
440
ويصل ذلك إلى بدنها بطريق التبعية فكذلك في البرزخ إلا أنه أعظم لأن تجرد النفس هناك أكمل وأقوى وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع، فإذا كان يوم الحشر في دار القرار تتحد النفوس بأبدانها فيشتركان في الشعور بالعذاب والنعيم ويصير الحكم عليهما مباشرة ظاهرا باديا. وما استدلوا به على التمييز بين النفس والروح قوله تعالى (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) الآية ٦٠ من سورة الأنعام ج ٢. وليعلم أن فعل جرح هذا واجترحوا في الآية ٢٠ من سورة الجاثية في ج ٢ لم يكرر في القرآن، وقوله تعالى (الله يتوفى الأنفس) الآية المارة آنفا، أي أنه تعالى ينتزع النفوس من أبدانها التي فقدت الحياة وهي التي لم تمت في منامها أي ينتزع النفوس من أبدانها الحية في منامها فيمسك التي قضي عليها الموت فلا يعيدها لبدنها ويرسل الأخرى أي يعيد نفس النائم إلى بدنه الحي فتبقى فيه إلى بلوغ أجلها المقدر لمفارقتها بدنها. هذا وإن إمساكه تعالى النفس التي قضى عليها الموت لا يمنع ردها إلى جسدها الميت في وقت ردّا عارضا لا يوجب له الحياة المعهودة في الدنيا، فكما أن النائم تكون روحه في جسده وهو حي حياة غير حياة المستيقظ لأنها من غير نفس فلا يحس ولا يشعر مع أنه يتحرك وقد يمشي ويتكلم كما هو مشاهد في بعض الأشخاص، فكذلك الميت إذا أعيدت نفسه إلى جسده كانت له حياة أخرى عكس حياة النائم فإنه يحس ويشعر ولكنه لا يتحرك لأنه من غير روح، وقد وردت آيات وأحاديث تدل على بقاء النفس وتعارفها بعد مفارقة أبدانها إلى أن يرجعها الله تعالى إلى أجسادها في الحياة الأخرى، قال تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) الآيات ١٦٩/ ١٧٠/ ١٧١ المارات آنفا، وفي الحديث الذي رواه جرير قال أصحاب رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك فإذا مت رفعت فوقنا فلم نرك، فأنزل الله (ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) الآية ٦٩ من سورة النساء الآتية، كما مر في الآيات المذكورة، وسيأتي في تفسير هذه الآية، وقد ثبت عن رسول الله أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه، وأنه قال: ما من رجل يزور قبر أخيه إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم. وفي حديث آخر لما
441
مات بشر بن البداءة بن معمر وجدت عليه أمه وجدا شديدا وقالت يا رسول الله لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام؟
فقال صلّى الله عليه وسلم نعم والذي نفسي بيده يا أم بشر إنهم ليتعارفون كما يتعارف الطير في رءوس الشجر. وكان لا يهلك هالك من بني سلمة إلا أرسلت معه أم بشر السلام إلى ابنها. وجاء في حديث آخر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاها أهل الرحمة من عند الله كما يتلقى البشر أهل الدنيا، فيقولون أنظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد، فيسألونه ماذا فعل فلان، وماذا فعلت فلانة، وهل تزوجت فلانة، وناهيك حديث الصحيحين لما أمر صلّى الله عليه وسلم بإلقاء قتلى بدر في القليب ثم وقف عليهم وناداهم بأسمائهم، فقال له عمر ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟! فقال له والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، ولكنهم لا يستطيعون جوابا. وقد كان الأقدمون يتصلون بالعالم غير المنظور بواسطة المنام، ثم توصل العلم أخيرا إلى مخاطبة النفوس بواسطة التنويم المغناطيسي بما يدل على اتصال النفوس بعضها ببعض بعد الوفاة، وأنها حية حياة برزخية لا نعلم كنهها وقد مر أن تكلمنا على أن النفس والروح هل هما شيء واحد أم لا في الآية ٨٦ من سورة الإسراء في ج ١ فراجعها.
مطلب إخبار الله تعالى عما يقع على المؤمنين وقتل كعب بن الأشرف والاعتبار والتفكر والذكر وفضلهما وصلاة المريض:
ثم التفت جل شأنه يخاطب المؤمنين بما يصيبهم بعد مما هو أشد مما حل بهم في أحد فقال مقسما وعزتي وجلالي «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ» فيما بستقبل من الزمان فتنهبون وتسلبون وتهانون «وَأَنْفُسِكُمْ» فتقتلون وتؤسرون وتعذبون «وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» اليهود والنصارى «وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» بالله غيره فيدخل فيه الكفرة كافة «أَذىً كَثِيراً» متنوعا قولا وفعلا «وَإِنْ تَصْبِرُوا» على ذلك مع محافظتكم على دينكم «وَتَتَّقُوا» الله فتعملوا بما يأمركم وينهاكم «فَإِنَّ ذلِكَ» الصبر على ذلك الأذى مع المحافظة على التقوى «مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» (١٨٦) بشير صدر
442
هذه الآية إلى قول الفلاسفة إن النفس هي الجسم المعاين دون ما فيه من المعنى الباطن كما أشرنا إلى هذا المعنى آنفا في بحث النفس، وإنما خاطب الله تعالى حضرة الرسول وأصحابه المؤمنين كافة بهذا ليوطنهم على احتمال ما سيلقونه من الشدائد التي لا تقابل إلا بالصبر لئلا يرهقوا عند نزولها بهم على غرة فيجزعوا أو يشمئزوا، وهي عامة اللفظ والمعنى محكمة ثابتة الحكم بين الناس إلى يوم القيامة، وقد ظهر مصداقها في زماننا هذا بتولية الإفرنسيين علينا وفعل بعضهم كما ذكر الله في الآية ٢٤ من سورة النمل ج ١، وها نحن أولاء صابرون على أذاهم، وعسى الله أن يزيحهم عنا بتقوى أهل التقوى منا وهو على كل شيء قدير، إذ أصاب بعض المؤمنين منهم ما ذكره الله ولم يجدوا بدا إلا الصبر، فنسأله أن يقيض لنا من يجمع كلمة المسلمين ويرد لهم مجدهم ويدفع عنهم من يتسلط عليهم، ولا لوم إلا على أنفسنا، لأن ذلك كله بما كسبت أيدينا من ظلمنا بعضنا لبعض وتعاظمنا وانتصارنا للقوي والغني وعدم التفاتنا للضعيف والفقير والسكوت على المعاصي وهدر الحقوق والتقاطع ولا حول ولا قوة إلا بالله. روى البخاري ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله، قال محمد ابن سلمة أتحب أن أقتله؟ قال نعم، قال فأذن لي فلأقل، قال قل، فأتاه فقال له وذكر ما بينهم، وقال إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وقد عنانا، فلما سمعه قال وأيضا والله لتبلغه، قال إنا قد اتبعناه ونكره الآن أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء بصير أمره، قال وقد أردت أن تسلفني سلفا، قال فما ترهن عندي تأمينا لما تستلفه؟ فقال له ما شئت، قال أترهنني نساءكم، قال أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا، قال له ترهنون أولادكم؟ قال يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسقين من تمر، ولكن نرهنك اللّامة (أي السلاح) قال نعم، وأوعده أن يأتيه بالحارث وأبي عيسى بن جبير وعباد بن بشير، قال فجاءوا فدعوه ليلا، فنزل إليهم، قالت امرأته إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم، قال إنما هو محمد ورضيعي أبو ناثلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب، قال محمد لأصحابه إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه، فإذا استحكمت منه فدونكم، قال فلما نزل وهو متوشح
443
قالوا نجد منك ريح الطيب، قال نعم نحن فلأنه أعطر نساء العرب، فال فتأذن لي أن أشم منه؟ قال نعم، فتناول فشم، ثم قال أتأذن لي أن أعود، قال نعم، قال فاستمكنني من رأسه، ثم قال دونكم فقتلوه. وزاد أصحاب السير فاختلف عليه أسيافهم فلم تغن شيئا، قال محمد بن سلمة فذكرت معولا في سيفي فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار، قال فرضعته في شذروته (صرّته) (والشذر خرز معروف وقطع من الذهب المتلقطة من معدنه قبل إذابته) ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، ووقع عدو الله، وأصيب الحارث بن إدريس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا، فخرجنا وقد أبطأ علينا، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة حتى أتانا فحملناه وجئنا به رسول الله آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه وأخبرناه وجئناه برأسه وتفل على جرح صاحبنا فبرىء، وأنزل الله في شأنه هذه الآية. وعلى فرض صحة نزولها فيه لا يمنع شمولها لغيره وعمومها لآخر الزمان، وكعب هذا من ألدّ الخصوم لحضرة الرسول وقد أشرنا إليه في الآية السابقة وما قبلها. قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ» عن
أحد منهم لا كلّا ولا بعضا بل تبينوه كله لكل أحد بلا عوض فلم يفعلوا ولهذا قال تعالى «فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ» أي الكتمان لما في الكتاب «ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» (١٨٧) هذه الآية وإن كانت خاصة في اليهود والنصارى فلا يبعد أن يشمل مضمونها علماء هذه الأمة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولأنهم أشرف أهل الكتب السماوية كما أن كتابهم أشرف الكتب ورسولهم أشرف الرسل. أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سئل علما فكتمه الجم بلجام من نار. ولأبي داود: من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة. والمراد بالعلم هنا علم الدين وما يتعلق به والتنكير فيه للتعظيم بما يدل على ذلك ولأن هذا الجزاء الكبير لا يترتب إلا على العلوم الدينية البحتة بدليل قول أبي هريرة لولا ما أخذ الله عز وجل (أي من العهد والميثاق) على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء وتلا هذه الآية، والعهد الذي أخذ هو على الإيمان
444
بالله وجميع أنبيائه كما في الآية ٨١ المارة. قال تعالى «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا» من حطام الدنيا على ما زينوه للناس من الضلال بكتمان الحق وإظهار غيره باطلا «وَيُحِبُّونَ» مع عملهم القبيح ذلك «أَنْ يُحْمَدُوا» عليه وعلى تسميتهم علماء «بِما لَمْ يَفْعَلُوا» من الوفاء بميثاق الله وعهده على الإخبار بما في كتبهم من الحق والصدق بأنهم ناجون من العذاب كلا «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» ونجاة منه بل لا بد من انغماسهم فيه «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١٨٨) جدا فلا تظننّ عذابهم بسيطا بل هو شديد لا تطيقه قواهم، وهذه الآية أيضا وإن كانت خاصة بالمذكورين فمعناها عام شامل لكل من هذا شأنه، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ إلا ما خصص أو قيد «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» هذا تفريع على قوله آنفا (إن الله فقير) الآية، أي كيف يكون فقيرا وهو مالك لما بين السموات والأرض وما فوقهما وتحتهما «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (١٨٩) ومن كان كذلك فلا يليق أن يسمى فقيرا قاتل الله قائل ذلك.
قال تعالى «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ» عظيمات على قدرتنا «لِأُولِي الْأَلْبابِ» (١٩٠) الذين خلص لبتهم عن الهوى خلوص اللب عن القشر فمن أراد عبرة فليعتبر فيهما والويل كل الويل لمن يقرأ ولم يتفكر وينظر ولا يعتبر لأن المراد بأولي الألباب هم أهل القلوب الحية المطهرة، أما الذين صدأت قلوبهم وغشى عليها الرّين بسبب كثرة المعاصي فلا يفهمون من التفكر والنظر شيئا. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
بت في بيت خالتي ميمونه فتحدث رسول الله وأهله ساعة ثم وقد، فلما كان ثلث الليل الأخير قعد فنظر إلى السماء فقال (إن في خلق السموات والأرض) الآية، على أنه كان في بني إسرائيل من إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة فعبدها فتى فلم تظله فقالت له أمه لعلك فرطت منك فرطة في مدتك قال ما أذكر، قالت لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر، قال لعل، قالت فما أوتيت إلا من ذلك.
ولهذا وصف الله أولي الألباب بقوله «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ» مضطجعين «وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ»
445
بكيفية اختراعهما وعظمهما وبناء السموات وبسط الأرض وإبداعهما على غير مثال سابق وما فيهما من الكواكب المسخرة لمنافع الخلق والجبال التي لولاها لمادت بأهلها والوديان والأنهر والمعادن المختلفة والنظر في كيفياتها وكمياتها وأشكالها وألوانها واختلاف سيرها، ويديمون هذا في جميع أحوالهم دون غفلة، ثم يقولون «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» ولا عبثا ولا لعبا بل لحكم أردتها «سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (١٩١) وهذا تعليم من الله لعباده بأن يقولوا هكذا ويثنوا على الله بما هو أهله وينزهونه عما لا يليق بحضرته الكريمة كلما نظروا إليهما ثم يذكرون حاجتهم.
وفي الآية دلالة على صحة صلاة المريض والرخصة فيها. روى البخاري عن عمران ابن حصين قال كانت بي بواسير فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب. ودليل على ندب ذكر الله تعالى في كل حال والمداومة عليه، روى مسلم عن عائشة قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل في كل أحيانه. وأخرج أبو ذر عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة (نقص وتبعة) ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة وما مشى ممشى لا يذكر الله فيه إلا كانت من الله عليه ترة أي حسرة وندامة مستمرة لا تتلافى. والفكر اعمال الخاطر في الشيء وتردد القلب فيه، وهو قوة متطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل ولا يمكن التفكر إلا فيما له صورة في القلب، ولهذا قالوا تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله لأنه منزه عن الصورة، ولذا قال تعالى (ويتفكرون في خلق) الآية أي في عجائبها وغرائب صنعها، وكون السماء بلا عمد أو بعمد لا ترى، وكون الأرض على الماء أو الهواء راكدة أو متحركة بيضوية أو مدورة أو مربعة أن مستطيلة للاستدلال بذلك على قدرة القادر وحكمته البالغة، وليعلموا أن خالقهما عظيم ومدبرهما حكيم وان عظم الخلق يدل على عظم الخالق وعظمة آياته:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
ولينظر إلى آثار قدرته في هذين الهيكلين العظيمين وإلى من فيهما من الخلق:
446
إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
وقدمنا ما يتعلق في تفسير هذه الآية ٥٠ من سورة الروم ج ٢ فراجعها، وقولوا في دعائكم يا ذوي العقول «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ» أهنته وأذللته وفضحته وهذا خاص للمخلدين فيها بدليل قوله «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» (١٩٢) في ذلك اليوم ولا تمسك في هذه الآية للقائلين أن كل مؤمن لا يدخل النار احتجاجا بقوله تعالى (يوم لا يخزي الله النبي) الآية ٦ من التحريم الآتية لأن هذه الآية محمولة على نفي الإخزاء حينما يكونون معه صلّى الله عليه وسلم وفضلا عن هذا فإن مذهب أهل السنة جواز دخول بعض المؤمنين النار وخروجهم منها، لأن مرتكب الكبيرة مؤمن وإن كان فاسقا، وهذا الجواب لا يتجه على مذهبهم لأنهم يقولون الفاسق يخلد في النار ومرتكب الكبيرة كافر، ويجوز حملها على العموم لأن مجرد إدخال النار خزي وعار سواء أخرج منها أو لا وهذا أولى إذ لا مقيد ولا مخصص لها نصا، ولأن لفظ الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك، والمشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والإثبات على معتبيه جميعا فيسقط الاستدلال به لأحدهما وقولوا أيضا «رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ» وهو محمد سيد الأكوان لقوله تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) الآية من أواخر سورة النحل ج ٢ ومن قال إن المنادي هو القرآن قال ليس كل أحد سمع النبي والقرآن مقروء ومسموع إلى الأبد ويقول ذلك المنادي «أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ» أيها الناس وأجيبوه بقولكم «فَآمَنَّا» بربنا وما أنزل إليها على لسان رسولنا «رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا» صغيرها وكبيرها خفيها وجليها قصدها وخطأها وسهوها وتعمدها وجميع أنواعها اعفوها لنا يا ربنا «وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ» (١٩٣) واحشرنا في زمرتهم، قال المفسرون إن اغفر وكفّر بمعنى واحد وكررا لفظا للتأكيد لأن الإلحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوبة ومطلوبة، مع أن الغفران مصدر غفر بمعنى الستر، والتكفير مصدر كفّر بمعنى الفداء لأن الكفارات شرعت لذلك، يقال كفر عن يمينه إذا أدى الكفارة، والألفاظ العربية وإن كانت متقاربة في المعنى ففيها تفاوت، وقل أن تجد كلمتين تدل على معنى واحد فقط من كل وجه إلا في اختلاف
447
اللغات مثل (كل) بمعنى ثقيل في العربية وهو في التركية بمعنى أقرع وما أشبه ذلك فهكذا.
قال تعالى آمرا عباده بأن يقولوا في دعائهم أيضا «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى» لسان «رُسُلِكَ» من الخير في الدنيا والآخرة، ولا يقال كيف سألوه انجاز وعده وهو لا يخلف الميعاد وهم معترفون بذلك لأنهم التوفيق فيما يحفظ لهم انجاز وعده، ولهذا اتبعوهم بقولهم «وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» (١٩٤) لأن المقصود منه طلب التوفيق على الطاعة والعصمة ممّا يحول دون تأهلهم، لذلك فلا يقال أيضا لا حاجة إليه لأنه متى حصل الثواب اندفع العقاب، وإن طلب عدم الخزي خوفا من أن تظهر لهم أعمال ليست بالحسبان مما سيكون لغيرهم. قال تعالى (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) الآية ٤٧ من سورة الروم ج ٢، أي وهم يظنون أنهم على عمل صالح فقط، قال صلّى الله عليه وسلم: إن أحدكم ليتكلم الكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أربعين خريفا. الا فليتق الغافل ولا يهرف بما لا يعرف، ولا يتكلم بمعصية قصد إضحاك الناس أو سرورهم فيقع بمثل هذا المبين في الآية والحديث. قال تعالى «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ» دعاءهم، وقال لهم «أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ» أيها المؤمنون وأثببكم على أعمالكم القولية والفعلية كلكم «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» لا أفضل أحدا على أحد إلا بالتقوى «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» وأثيبكم عليها أيضا على ما تعملونه من الخير فيما بينكم فمن قضي لأخيه حاجة قضيت له حوائج، ومن رحمه رحمته وأكرمته، ومن عفى عنه زلته أقلت عثرته يوم القيامة وعفوت عنه «فَالَّذِينَ هاجَرُوا» منكم بطوعهم «وَ» الذين «أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ» قهرا من قبل أعدائهم «وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي» بسبب إسلامهم ومتابعتهم رسولي وجهادهم معه لإعلاء كلمتي «وَقاتَلُوا» أعداءه وأعداءهم «وَقُتِلُوا» بسبب ذلك «لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» مهما كانت ولا أؤاخذهم عليها وأبد لها لهم حسنات «وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً» لهم ورحمة بهم وتفضلا ولطفا وإحسانا عليهم وكرامة لهم «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ» (١٩٥) على أحسن الأعمال وثوابا مطلقا على غيرها.
448
أخرج الترمذي عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله ما أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله هذه الآية، ثم خاطب سيد المخاطبين بقوله «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ» (١٩٦) على حد (إياك أعني واسمعي يا جارة) لأنه صلّى الله عليه وسلم لا يغتر بذلك وإنما أراد به غيره كما في أمثال هذه الآية من الآيات آخر سورة القصص في ج ١ وشبهها أي لا تغتر أيها الإنسان بما ترى من ذلك لأنه «مَتاعٌ قَلِيلٌ» يتمتعون به في هذه الدنيا الفانية القليلة ثم يتركونه فيها وبالا عليهم «ثُمَّ مَأْواهُمْ» في الآخرة «جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» (١٩٧) هي لأهلها.
قيل إن بعض المؤمنين لما رأى حالة الكفار قال أرى أعداء الله في سعة من العيش ونحن أصحاب محمد وأحباب الله في جهد منه، فأنزل الله هذه الآية تنديدا بسعة الكفرة وأنزل بعدها ما يسر المؤمنين بقوله «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ» عنده في الآخرة خير مما أعطاه لأعدائه في الدنيا وهو «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» أبدا، ويقول الله تعالى جعلناها لهم «نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» إكراما لهم وتقدمة لقراهم «وَما عِنْدَ اللَّهِ» المعطي هذا النزل لعباده أولا من النعيم الدائم والخير الوافر ما هو «خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» (١٩٨) من الدنيا وما فيها جزاء أعمالهم الحسنة وإحسانهم لغيرهم وهو خير مما يتقلب به الكافرون من حطام الدنيا وزخارفها الزائلة المنغمصة بالأكدار، روى البخاري عن عمر بن الخطاب قال: جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإذا هو في مشربة غرفة أو علية وانه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرط مصبور (القرط ورق السلم نبات معروف، ومصبور معناه مجموع كالصبرة من الطعام) وعند رجليه أهب (أي جلود) معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت، فقال ما يبكيك؟ قلت يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله؟ فقال أما ترضى يا ابن الخطاب أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قال بلى يا رسول الله. قال تعالى «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ» يؤمن ب «ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» من القرآن «وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ» من التوراة والإنجيل «خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» كغيرهم ممن ت (٢٩)
449
يحرف ويبدل لقاء ما يأخذه من حطام الدنيا من الرعاع ولحب بقاء الرياسة والمال «أُولئِكَ» الذين هذا وصفهم «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (١٩٩) يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة رجل واحد كطرفة عين أحدكم من حيث لا يعلمون هذه السرعة. هذا ولا يفهم من لفظ (قليلا) أن الذين يبيعونها بكثير غير مذمومين، بلى هم مذمومون مدحورون أيضا، وإنما سماه الله قليلا لأنه مهما كان كثيرا فهو قليل بالنسبة للمبيع الذي لا يوازى بالدنيا وما فيها ولا بحرف منه. وهذه الآية عامة في جميع أهل الكتاب الذين حسن إسلامهم، لا ينافي عمومها ما قالوه بأنها نزلت في النجاشي الذي اسمه أصحمة بالحبشية ومعناه بالعربية عطية، إذ آمن على يد من هاجر سنة خمس من البعثة من أصحاب رسول الله قبل نزول سورة والنجم.
مطلب فيما وقع للنجاشي مع أصحاب رسول الله ووفد قريش. ومأخذ قانون عدم تسليم المجرمين السياسيين. والصلاة على الغائب:
وخلاصة قصته أن قريشا لما عادت من بدر مكسورة جمعت مالا وأهدته إلى النجاشي مع عمرو بن العاص وحمادة بن معيط ليسلمهم جعفر بن أبي طالب وأصحابه الذين هاجروا إليه قبلا لينتقموا منهم، فلما وصلا دخلا عليه ساجدين إذ كان تحيته السجود، وبعد أن قدما له الهدايا وتحية قومهم قالا إن قومنا شاكرون لك ولأصحابك محبون لكم ويؤيدون شعائركم، وإنهم يحذرونك من هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل منا يزعم أنه رسول الله لم يتبعه إلا السفهاء وقد بعثهم إليك ليفسدوا دينك وملكك ورعيتك، فادفعهم إلينا لنكفيكهم، وآية ما قلنا أنهم لن يسجدوا لك إذا استدعيتهم، فأمر بهم، فلما حضروا قال جعفر يستأذن عليك حزب الله، فقال النجاشي مروه فليعد كلامه، ففعل، فقال النجاشي نعم ليدخلوا بأمان الله وذمته، فنظر عمرو إلى صاحبه وقال ألا تسمع كيف يرطنون (الرطانة الكلام بالأعجمية) فدخلوا وسلموا ولم يسجدوا، فقال ألا ترى استكبارهم، فقال النجاشي لم تحيّوني بالسجود، وقد علمتم أنه تحيّتي، فقالوا كان السجود تحيّتنا ونحن نعبد الأوثان، فلما شرفنا الله بنبينا الصادق علمنا تحية أهل الجنة، وهي السلام
450
فحييناك بها لأن السجود لا ينبغي إلا لله الذي ملكك، فعرف النجاشي ذلك لما يعلمه من التوراة والإنجيل، ثم ذكر لهما ما جاء به عمرو وصاحبه وقال لجعفر تكلم، قال أنت ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا تريد الظلم، وأنا أجيب عن أصحابي فمر أحد هذين يتكلم وليصمت الآخر فتسمع محاورتنا، ففعل فقال سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار، فإن كنا عبيدا أبقنا فردنا إلى أسيادنا، فسأله فقال أحرار كرام، فقال النجاشي نجوا من العبودية، فقال سلهما هل أرقنا دما بغير حق فوجب علينا القصاص به فتردنا من أجله إليهم ليقتصّوا منا، فسألهم فقالا لا، فقال سلهما هل أخذنا أموال أحد بغير حق فوجب علينا قضاؤها ولم نؤدها وهربنا من أجل ذلك، فسألهما وقال لهما أي النجاشي إن كان قنطار فعلي قضاؤه، قالا لا ولا قيراط، فقال سلهم إذا ما يريدون منا؟ فقال النجاشي إذا ما تطلبون منهم؟ قالا كنا وإياهم على دين واحد دين آبائنا فتركوه واتبعوا غيره، فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا فتردهم إلى دينهم، فقال جعفر أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان، وقد كنا نعبد الحجارة ونكفر بالله، فقيض الله لنا نبيا منا فهدانا إلى دين الإسلام دين إبراهيم عليه السلام، وانزل الله عليه كتابا ككتاب ابن مريم، فقال النجاشي تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك، فأمر بضرب الناقوس فاجتمع إليه القسس والرهبان، فقال أنشدكم بالله هل تجدون بين عيسى والقيامة مرسلا؟ قالوا نعم، اللهم بشرنا به عيسى وقال من آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي، فقال النجاشي ماذا يقول لكم هذا الرجل؟ قال يأمرنا بالمعروف وبحسن الجوار وصلة الرحم وأن نعبد الله وحده، وينهانا عن المنكر، قال اقرأ علي شيئا مما يقرأ عليكم، فقرأ سورة العنكبوت والروم، ففاضت عيناه وأصحابه من الدمع، وقالوا زدنا، فقرأ سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال انهم يشتمون عيسى وأمه، فقال على رسلكم هذا شيء عظيم ثم قال لهما ما تقولون في عيسى وأمه؟ قال اسمع أيها الملك ما أمرنا الله ورسوله أن نقول فيهما، فقرأ عليهم سورة مريم، فرفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين وقال والله ما زاد المسيح على ما تقولون بقدر هذا، ثم قال لجعفر وأصحابه أنتم سيوم بأرضي، (أي آمنون) من سبكم أو أذللكم أو آذاكم غرم، ابشروا
451
ولا تخافوا فلا دهورة على حزب ابراهيم، أي لا تبعة، وهذه الكلمة وكلمة سيوم بلغة الحبشة ومعناها ما ذكر، قالوا ثم رد الهدية على عمرو ورفيقه، وقال هذه رشوة، والله ملكني بلا رشوة، فلا سبيل إلى إجابة طلبكم، ومن ذلك اليوم عرف عدم جواز تسليم المجرمين السياسيين إلى الدولة الخارجين عنها واتخذت الحكومات عمله هذا دستورا، ونظمت فيه قوانين عليها عملهما حتى الآن، ورجعا خائبين، ولما مات النجاشي رحمه الله نعاه جبريل لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم فأخبر أصحابه بوفاته وصفهم وصلّى بهم عليه صلاة الغائب، فلما رأى ذلك المنافقون قال بعضهم لبعض انظروا إلى محمد يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط، ولم يعلموا أنه أسلم على يد رسل رسول
الله، وانه مات مسلما. ومن هنا شرعت الصلاة على الميت الغائب، وأخذ بها الأئمة عدا أبي حنيفة، إذ عدها خصوصية للنجاشي، وقيل نزلت هذه الآية في أربعين رجلا من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا، والآية صالحة لهذا كله ولغيره مما ينطبق على معناها إلى يوم القيامة، فقال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا» على ما أنتم عليه والصبر على ترك الشكوى وقبول القضاء والقدر وصدق الرضاء «وَصابِرُوا» غيركم من الكفار والمنافقين وغالبوهم على الصبر في الشدائد كلها وخاصة الجهاد وانفاق المال في سبيله «وَرابِطُوا» على ثغوركم بأن تكونوا مستعدين لقتال متهيئين للهجوم على من يريد قربها ساهرين على محافظتها، راجع ما يتعلق في بحث الرباط الآيتين ١٦٧ المارة و ٦٠ من سورة الأنفال المارة أيضا. «وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (٢٠٠) بلقائه وتسرون برضائه وتفرحون بعطائه. قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لم يكن في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة، واستدل بما روي عن أبي هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلم الا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟
قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره (البرد ونحوه) وكثرة الخطا الى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط- أخرجه مسلم- ولا مقال في هذا الحديث لأنه صحيح ورجاله ثقات، ولكن في هذا التأويل صرف اللفظ عن ظاهره دون صارف، فإذا لم يكن رباط في زمنه صلّى الله عليه وسلم فقد كان بعده، ويكون
452
Icon