تفسير سورة محمد

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة محمد من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها ثمان وثلاثون
بسم الله الرحمان الرحيم
وتسمى سورة القتال

﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ﴾ أي منعوا غيرهم عن الإسلام. ويدخل فيهم المطمعون يوم بدر دخولا أوليا ؛ من الصد. يقال : صده عن الأمر صدا، منعه وصرفه عنه ؛ كأصد. أو أعرضوا عن الإسلام ؛ من الصدود. يقال : صد عنه صدودا، أعرض. ﴿ أضل أعمالهم ﴾ أبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ كالإنفاق الذي فعلوه في تلك الغزوة لمحاربته – بنصرته لرسوله الله صلى الله عليه وسلم، وإظهار دينه على الدين كله. أو جعل ما كانوا يعملونه من أعمال البر والمكارم ضلالا، أي غير هدى وغير رشاد ؛ لأنهم عملوه على غير استقامة. من الضلال، وأصله العدول عن الطريق المستقيم، وضده الهداية.
﴿ كفر عنهم سيئاتهم ﴾ محا عنهم بإيمانهم وصالح عملهم سيء أعمالهم قبل الإيمان فلم يعقبهم عليه ؛ من الكفر، وأصله ستر الشيء وتغطيته، واستعمل في المحو مجازا. ﴿ وأصلح بالهم ﴾ حالهم وشأنهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد.
﴿ كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ﴾ أي مثل ذلك البيان يبين الله للناس أحوال الفريقين
وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال، وهي اتباع المؤمنين الحق وفوزهم، واتباع الكافرين الباطل وخسرانهم.
﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا ﴾ أمر بجهادهم بعد بيان خسرانهم. والمراد بهم : المشركون ومن لا ذمة لهم من أهل الكتاب. ﴿ فضرب الرقاب ﴾ أي فاضربوا رقابهم ضربا في الحرب ؛ فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه مضافا إلى المفعول به. وهو مجاز عن القتل، وعبر به عنه لتصوير القتل بأبشع صورة، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأشرف أعضائه. ﴿ حتى إذا أثخنتموهم ﴾ أكثرتم فيهم القتل، وأوهنتموهم بالجراح، ومنعتموهم النهوض والحركة. ﴿ فشدوا الوثاق ﴾ فأحكموا قيد من أسرتموهم ؛ لئلا يفلتوا منكم. يقال : أثخن في الأرض إثخانا، سار إلى العدو وأوسعهم قتلا.
وأثخنته : أوهنته بالجراحة وأضعفته. والوثاق – بالفتح والكسر - : اسم لما يوثق به ؛ كالقيد والحبل ونحوه. وجمعه وثق ؛ كعناق وعنق. ﴿ فإما منا بعد وما فداء ﴾ أي فإما تمنون عليهم بعد الأسر بالإطلاق منا، وإنا تفدون فداء. والمن : الإطلاق بغير عوض. يقال : من عليه ؛ إذا أثقله بالنعمة، واصطنع عنده صنيعة. والفداء : ما يفدى به الأسير من الأسر. والآية محكمة على ما ذهب إليه جمهور الأئمة.
وذهب الحنفية إلى أنها منسوخة بآية " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " ١. ﴿ حتى تضع الحرب أوزارها ﴾ أوزار الحرب : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها ؛ كالسلاح والكراع، وغير ذلك من الآلات المعروفة في الحروب قديما وحديثا. ووضعها كناية عن انقضاء الحرب بهزيمة العدو أو بالموادعة. و " حتى " عند الجمهور غاية للضرب أو للشد، أو للمن والفداء معا، أو للمجموع من قوله " فضرب الرقاب " إلى آخره. بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيهم، حتى لا تبقى حرب مع المشركين بزوال شوكتهم. وعند الحنفية غاية للمن والفداء إن حملت الحرب على حرب بدر ؛ أي يمن عليهم ويفادون حتى تضع الحرب أوزارها. وغاية للضرب والشد إن حملت على جنس الحرب ؛ أي أنهم يقتلون ويؤسرون حتى لا تبقى حرب مع المشركين، بمعنى ألا يبقى لهم شوكة. وتفصيل المذاهب في الفقه.
﴿ ولكن ليبلوا بعضكم ببعض ﴾ أي ولكن أمركم الله بالقتال ليختبر بعضكم ببعض ؛ فيمتحن المؤمنين بالكافرين تمحيصا للمؤمنين. ويمتحن الكافرين بالمؤمنين تمحيقا للكافرين.
١ آية ٥ التوبة..
﴿ عرفها لهم ﴾ يهدي أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم، لا يخطئونها كأنهم ساكنوها منذ خلقوا ؛ وذلك بإلهام منه تعالى.
﴿ فتعسا لهم ﴾ فهلاكا لهم. يقال : تعس – من باب منع وسمع – هلك. أو إذا خاطبت قلت : تعست ؛ كمنعت، وإذا حكيت قلت : تعس ؛ كسمع. وأتعسه الله : أهلكه. و " تعسا " منصوب على المصدر بفعل مضمر من لفظه. واللام لتبين المخاطب ؛ كما في سقيا له، أي أعنى له.
﴿ دمر الله عليهم ﴾ أهلك ما يختص بهم من النفس والأهل والمال. يقال : دمره الله، أهلكه ودمر عليه : أهلك ما يختص به ؛ والثاني أبلغ. وأتى ب " على " لتضمين التدمير معنى الإيقاع أو الهجوم ونحوه.
﴿ ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا ﴾ ناصرهم على أعدائهم.
﴿ والنار مثوى لهم ﴾ مسكن لهم ومأوى، وجمعه مثاوي.
﴿ وكأين من قرية ﴾ أي وكثير من قرية [ ١٤٦ آل عمران ص ١٢٧ ].
﴿ مثل الجنة ﴾ أي صفتها، مبتدأ خبره : " كمن هو خالد في النار ". أي أمثل الجنة كمثل
جزاء من هو خالد في النار ؟ وقدر الاستفهام في المبتدأ لأنه مرتب على الإنكار السابق في قوله : " أفمن كان على بينة من ربه ". ﴿ غير آسن ﴾ غير متغير الطعم والريح ؛ لطول مكث ونحوه. وفعله من باب ضرب ودخل، وفي لغو من باب طرب. ﴿ من عسل مصفى ﴾ خالص مما يخالطه. قيل : هو تمثيل لما يجري الأشربة في الجنة ؛ بأنواع ما يستطاب منها، أو يستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينقصها وينغصها، والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها.
﴿ وسقوا ماء حميما ﴾ مفرطا في الحرارة ؛ مكان تلك الأشربة اللذيذة التي لأهل الجنة.
﴿ ماذا قال آنفا ﴾ أي مبتدئا. أي ما القول الذي ائتنفه الآن قبل مفارقتنا له ؟ منصوب على الحال من فاعل " قال ". ومقصود المنافقين بهذا : الاستهزاء لا الاستعلام الحقيقي. وهو اسم فاعل بتجريد فعله من الزوائد ؛ لأنه لم يسمع له فعل ثلاثي، بل سمع ائتنف يأتنف واستأنف يستأنف، بمعنى ابتدأ. ﴿ طبع الله على قلوبهم ﴾ ختم عليها بالكفر ؛ فلم تتجه للخير.
﴿ وآتاهم تقواهم ﴾ أعانهم على تقواهم. أو أعطاهم جزاءها.
﴿ فهل ينظرون إلا الساعة.. ﴾ أي لم يذكهم بإتيان الساعة ما مضى من أحوال الأمم وما جاء من أخبارها، فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان الساعة نفسها فجأة ؛ إذ لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر سوى المفاجأة بها، فقد ظهرت علامتها ولم يرفعوا لها رأسا ؛ فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة. و " أشراطها " علاماتها، ومنها بعثته صلى الله عليه وسلم. جمع شرط – بالتحريك – وهو العلامة، وأصله الإعلام. يقال : أشرط فلان نفسه لكذا،
أعلمها له وأعدها ؛ ومنه الشرطي – كتركي وجهني – الجمع شرط. سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها﴿ فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ﴾ فكيف لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة بغتة ؟.
﴿ واستغفر لذنبك... ﴾ أي استغفر الله مما يعد بالنسبة لمنصبك ذنبا، وهو ترك الأولى بك، وهو الفترات والغفلات من الذكر الذي كان شأنه صلى الله عليه وسلم الدوام عليه. فإذا فتر وغفل عن ذلك بالاشتغال بالنظر في مصالح المسلمين عدّ ذلك ذنبا واستغفر منه، وإن كان في ذاته من أعظم الطاعات وأشرف العبادات ؛ وحسنات الأبرار سيئات المقربين. ﴿ والله يعلم متقلبكم ومثواكم ﴾ أي كل متقلب لكم وكل إقامة. والمراد : أنه يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها. والمتقلب : المتصرف ؛ من التقلب وهو التصرف. والمثوى : المسكن والمأوى.
﴿ نظر المغشي عليه من الموت ﴾ أي كنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره. والمراد : أنهم يشخصون نحوه بأبصارهم، وينظرون إليه نظرا شديدا من شدة كراهتهم للقتال معه ؛ إذ فيه عز للإسلام، ونصر للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم لهم كارهون مبغضون. ﴿ فأولى لهم ﴾ كلمة توعد وتهدد. وهي فعل ماض بمعنى قارب، وفاعله ضمير الهلاك بقرينة السياق، واللام مزيدة : أي قاربهم ما يهلكهم. أو اسم تفضيل بمعنى أحق وأحرى. خبر لمبتدأ محذوف، واللام بمعنى الباء ؛ أي العقاب أجدر بهم وأحرى.
﴿ طاعة ﴾ مبتدأ﴿ وقول معروف ﴾ عطف عليها، والخبر محذوف ؛ أي أمثل بكم من غيرها.
وقيل : " أولى " مبتدأ، و " طاعة " خبر و " لهم " متعلق ب " أولى " واللام بمعنى الباء ؛ أي أولى بهؤلاء المنافقين من النظر إليك نظر المغشي عليه من الموت : طاعة وقول معروف.
﴿ فهل عسيتم إن توليتم ﴾ أي فهل يتوقع منكم أيها المنافقون إن توليتم أمور الناس وكنتم
حكما﴿ أن تفسدوا في الأرض ﴾ بما ترتكبون من المنكرات تناحرا على الولاية، وتكالبا على الدنيا﴿ وتقطعوا أرحامكم ﴾ بالبغي والظلم والقتل !. وهو من عطف الخاص على العام. والاستفهام للتوبيخ والتقريع.
﴿ أم على قلوب أقفالها ﴾ أي بل أعلى قلوب قاسية أقفالها، فهي لا تقبل التدبر والتفكر في الآيات ! ؟ والاستفهام للتقرير. والأقفال : جمع قفل وهو الحديد الذي يغلق به الباب. والمراد : التسجيل عليهم بأن قلوبهم مغلقة، لا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر
﴿ إن الذين ارتدوا على أدبارهم ﴾ رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والضلال، وهم المنافقون﴿ من بعد ما بين لهم الهدى ﴾ بالدلائل الواضحة والمعجزات الظاهرة﴿ الشيطان سول لهم ﴾ زين لهم ارتدادهم ؛ من التسويل [ آية ١٨ يوسف ص ٣٨٠ ]. ﴿ وأملى لهم ﴾ بفتح الهمزة ؛ أي مد لهم في الأماني والآمال، وأسباب الغواية والضلال ؛ من الإملاء وهو الإبقاء ملاوة من الدهر، أي برهة منه.
وقرئ " أملى " بالبناء للمفعول، و " لهم " نائب الفاعل، و الجملة مستأنفة ؛ أي أمهلوا ومد في أعمارهم.
﴿ ذلك ﴾ أي ارتدادهم﴿ بأنهم ﴾ أي بسبب أنهم﴿ قالوا للذين كرهوا... ﴾ أي لبني قريظة والنضير من اليهود الكارهين لنزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ مع علمهم بأنه من عند الله حسدا وطمعا في نزوله على أحد منهم. ﴿ والله يعلم إسرارهم ﴾ إخفاءهم ما يقولون. مصدر أسررت إسرارا، بمعنى كتمته.
﴿ أم حسب الذين في قلوبهم مرض... ﴾ أي بل أحسب هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين : أن لن يظهر الله أحقادهم الشديدة للرسول صلى الله عيه وسلم والمؤمنين فتبقى مستورة ؟ والاستفهام للإنكار. والأضغان : جمع ضغن، وهو الحقد الشديد. يقال : ضغن صدره ضغنا – من باب تعب – حقد ؛ والاسم الضغن. ومنه تضاغن القوم واضطغنوا، أن انطووا على الأحقاد.
وأصل الكلمة من الضغن "، وهو الالتواء والاعوجاج في قوائم الدابة والقناة وكل شيء.
﴿ فلعرفتهم بسيماهم ﴾ أي بعلامات تسمهم بها. يقال : سوم الفرس تسويما، جعل له سيمة أي علامة. ﴿ ولتعرفنهم في لحن القول ﴾ لحن القول : أسلوب من أساليبه المائلة عن الطريق المعروفة ؛ كأن يعدل عن ظاهره من التصريح إلى التعريض والإبهام. وكان المنافقون يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله عليه وسلم مما ظاهره حسن ويريدون به القبيح، ومما ظاهره الاتباع وهم بخلاف ذلك. يقال : لحنت له ألحن لحنا، إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفي على غيره ؛ فلحنه هو – بالكسر – أي فهمه. ويقال : فهمته من لحن كلامه وفحواه ومعاريضه بمعنى واحد.
﴿ ولنبلونكم ﴾ أي ولنعاملنكم معاملة المختبر بالأمر بالجهاد ونحوه من التكاليف الشاقة.
﴿ حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ﴾ علما شهوديا يشهده غيرنا، مطابقا لما نعلمه علما غيبيا ؛ فنستخرج منكم ما جبلتم عليه مما لا يعلمه أحد منكم. أو علما يتعلق به الجزاء.
﴿ وشاقوا الرسول ﴾ أي عادوه وخالفوه، وهم بنو قريظة والنضير. أو قوم نافقوا بعد الإيمان. أو المطمعون يوم بدر. وأصل المشاقة : أن تصير في شق غير شق صاحبك.
﴿ ولا تبطلوا أعمالكم ﴾ بارتكاب المعاصي، أو بالنفاق أو الرياء، أو المن بالإسلام أو بالعجب.
﴿ فلا تهنوا ﴾ لا تضعفوا عن قتال الكافرين الذين يصدون عن سبيل الله. وفعله كوعد وورث وكرم. ﴿ وتدعوا إلى السلم ﴾ أي ولا تدعوهم إلى الصلح والمسالمة خورا وإظهار للعجز﴿ وأنتم الأعلون ﴾ في الحجة، الأغلبون بقوة الإيمان﴿ والله معكم ﴾ بنصره﴿ ولن يتركم أعمالكم ﴾ لن ينقضكم أجور أعمالكم. يقال : وترث زيدا حقه – من باب وعد – نقصته. ووترث الرجل : إذا قتلت له قتيلا، أو سلبت ماله ما ذهبت به. ومحل النهي عن الدعوة إلى صلح الكفار ومسالمتهم إذا لم تكن بالمسلمين حاجة بهما ؛ وإلا جاز الجنوح إلى السلم، وهو محمل قوله تعالى : " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله " ١.
١ آية ٦١ الأنفال..
﴿ لعب ولهو ﴾ باطل وغرور، لا ثبات لها ولا اعتداد بها، فكيف تمنعكم عن طلب نعيم الآخرة والسعي إليه ؟.
﴿ إن يسألكموها فيحفكم ﴾ أي فيجهدكم بطلبها كلها﴿ تبخلوا ﴾ بها فلا تعطوها. والإحفاء والإلحاف : المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء. يقال : أحفاه في المسألة، إذا لم يترك شيئا من الإلحاح. وأجفى شاربه : استأصله وأخذه أخذا متناهيا. وأصله من أحفيت البعير : جعلته حافيا ؛ أي منسجح الخف من المشي حتى يرق. ﴿ ويخرج أضغانكم ﴾ ويظهر أحقادكم ؛ لمزيد حبكم للمال.
﴿ ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ﴾ أي يبخل عن داعي نفسه لا عن داعي ربه. أو يبخل على نفسه. يقال : بخل عليه وعنه – كفرح وكرم – بمعنى ؛ لأن البخل فيه معنى المتع والإمساك "، ومعنى التضييق على من منع عنه المعروف، فعدى ب " عن " نظرا للأول، وبعلى نظرا للثاني. والله أعلم.
Icon