تفسير سورة الحشر

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الحشر : آياتها أربع وعشرون وثلاث ركوعات وهي مدنية.

في الصحيحين عن سعيد ابن جبير قال قلت لابن عباس رضي الله عنه سورة الحشر قال قل سورة النضير١، وأخرج البخاري عنه أن سورة الأنفال نزلت في بدر وسورة الحشر نزلت في بني النضير.
﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١ ) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾، بيان للموصول يعني بني النضير كانوا من أولاد هارون عليه السلام ﴿ من ديارهم ﴾ التي كانت لهم بالمدينة قال ابن إسحاق : كان إجلاء بني النضير عند مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة عند مرجعه عن الأحزاب وبينهما سنتان. وسبب إخراجهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة صالح بنو النضير على أن لا تقاتلوه ولا تقاتلوهن معه فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا أو ظهر على المشركين قالت بنو النضير والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية، فلما غزا أحد وانهزم المسلمون إرتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركب كعب ابن الأشرف من بني النضير في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد ودخل أبو سفيان في أربعين من قريش وكعب في أربعين من اليهود المسجد وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة، ثم رجع وأصحابه إلى المدينة فنزل جبرائيل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب ابن الأشرف فقتله محمد ابن مسلم ذكرنا قصة قتله في سورة آل عمران في قوله تعالى :﴿ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ﴾ ٢، وكان النبي صلى الله عليه وسلم اطلع منهم على خيانات منها أنهم أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسيلم أن أخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حبرا حتى نلتقي من مكان نصف بيننا وبينك فسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك كنا فلما كان الغد غدا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبرا من يهود حتى إذا برزوا في براز من الأرض قال بعضهم لبعض كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلهم يحب أن يموت قبله فأرسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون رجلا أخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا فيسمعون منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه وخرجت ثلاثة من اليهود واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته ما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، روى القصة أبو داود والبيهقي وعبد ابن حميد وعبد الرزاق بإسناد صحيح وذكروا حديثا طويلا وفيه أن بني النضير فعلوا ذلك الغدر حين كتب إليهم قريش بعد وقعة بدر أنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لتفعلن كذا، وذكر البغوي هذه القصة وقال بعد ذلك فلما كان الغد غدا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، ومن خياناتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاهم يستعين في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو ابن أمية الضميري في منصرفه من بئر معونة فهمت اليهود أن يطرحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا من فوق الحصن فعصمه الله تعالى وأخبره به، ذكرنا القصة في سورة المائدة في تفسير قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ﴾٣ الآية، ذكر ابن حميد عن عكرمة أن الله سبحانه لما أخبر نبيه بذلك ورجع نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال لهم كنانة ابن صوريا هل تدرون لم قام محمد قالوا لا والله ما ندري وما تدري أنت، ( قال بلى والتوراة إني لأدري قد أخبر محمد بما هممتم به من الغدر فلا تخدعوا أنفسكم والله إنه رسول الله وما قام إلا أنه أخبر بما هممتم وأنه لآخر الأنبياء وكنتم تطمعون أن يكون من بني هارون فجعله الله حيث شاء وإن كتبنا والذي درسنا في التوراة التي لم تغيروا لم تبدل أن مولده بمكة وأن دار هجرته يثرب وصفته بعينها ما يخالف حرفاهما في كتابنا ولكني أنظر إليكم طاعنين يتضاعى صبيانكم قد تركتم دوركم خلوفا أموالكم وإنما هي شرفكم فأطيعوني في خصلتين والثلاثة لا خير فيها، قال ما هما قال : تسلمون وتدخلون مع محمد فتأمنوا على أموالكم وأولادكم وتكونوا على ما عليه أصحابه ويبقى بأيديكم أموالكم ولا تخرجون من دياركم قالوا لا نفارق التوراة وعهد موسى، قال فإنه مرسل إليكم أخرجوا من بلدي فقولوا نعم دما ولا مالا ويبقى أموالكم إن شئتم بعتم وإن شئتم أمسكتم، قالوا أما هذه فنعم، قال سلام ابن مشكم قد كنت لما صنعتم كارها وهو مرسل إلينا أن أخرجوا من داري فلا تعقب ما في كلامه وأنعم له بالخروج من بلده فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى محمد ابن مسلمة، فلما جاء قال اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلدي، فلما جاءهم قال إن رسول الله صلى عليه وسلم أرسله برسالة ولست أذكرها لكم حتى أعرفكم بشيء تعرفونه، فقالوا ما هو فقال أنشدكم بالتوراة التي أنزل على موسى هل تعلمون أني جئتكم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبينكم التوراة فقلتم لي في مجالسكم هنا يا ابن المسلم إن شئت أن نعذبك عذبناك وإن شئت أن نهودك هودناك فقلت بل عذبوني ولا تهودوني فإني والله ما أتهود أبدا فعذبتموني في صفحة لكم والله لكأني أنظر إليها كأنها خدعة فقلتم لي ما يمنعك من ديننا إلا أنه دين يهود كأنك تريد الحنيفة التي سمعت بها أما أن أبا عامر الراهب ليس بصاحبها بل صاحبها الضحوك القتال في عينيه حمرة ويأتي من قبل اليمن يركب البعير ويلبس الشملة وتجزى بالكسرة وسيفه على عاتقه ينطق بالحكمة كأنه سن حيكم هذه والله ليكونن بقريتكم هذه سلب وقتل مثل قالوا اللهم نعم قد قلنا وليس له فاقد، فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم أنكم قد نقضتم الذي جعلت لكم ما هممتم به من الغدر بي وأخبرهم بما كانوا هموا به وظهور عمرو ابن جحاش على البيت ليطرح عليه الصخرة، ويقول أخرجوا من بلدي وقد أجلكم عشرا فمن رأى بعد ذلك ضربت عنقه فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون وأرسلوا إلى ظهرهم بالحد فبيناهم على ذلك إذا جاءهم رسول عبد الله ابن أبي سلول سويد وأعسر قليلا يقول عبد الله ابن أبي لا تخرجوا من دياركم وأموالكم وأقيموا مع حصونكم فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم ويمدكم قريظة فإنهم لم يخذلوكم يمدكم حلفائكم من غطفان، وأرسل ابن أبي كعب ابن أسد القرظي يكلمه أن يمده أصحابه، فقال لا ينقض رجل واحد العهد فيئس ابن أبي أخطب بن قريظة وأراد أن يلحم الأمر فيما بين النضير ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يرسل إلى حيي ابن أخطب، فقال حيي أنا أرسل إلى محمد أعلمه أن لا يخرج من ديارنا فليصنع ما بدا له وطمع حيي فيما قال ابن أبي، فقال له سلام ابن مشكم لولا أن يسفه رأيك لأعتزلتك بمن أطاعني من يهود فلا تفعل يا حيي، فوالله إنك لتعلم ونعلم من معك أنه لرسول الله وإن صفته عندنا وإنما لم نتبعه لأنا حسدناه حيث خرج النبوة من بني هارون فلتقبل ما أعطانا من الأمر وتخرج من بلاده وقد عرفت أنك حالفتني في الغدر به فإذا كان أوان التمر جئنا أو جائنا إلى تمرة أو صنع ما بدا له ثم انصرف إلينا فلم يقبل حيي قوله، وأرسل حيي أخاه جدي ابن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : إنا لا نبرح من ديارنا وأموالنا فاصنع ما أنت صانع وأمره أن يأتي ابن أبي فيخبره برسالته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يعمل ما وعده من النضير فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة قول جدي ابن أخطب أظهر التكبير وكبر المسلمون لتكبيره وقال حاربت يهود، ثم دخل جدي على ابن أبي وهو في بيته ومعه نفر من جلسائه وقد نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالسير إلى بني النضير، فدخل عبد الله ابن عبد الله ابن أبي على ابنه وعلى النفر الذين معه وعنده جدي ابن أخطب فلبس درعه وأخذ سيفه وخرج بعد فجاء جدي إلى حيي فقال ما وراءك، قال الشر ساعة أخبرت محمد ما أرسلت به أظهر التكبير وقال حاربت يهود، قال وجئت ابن أبي فلم أر عنده خبرا قال أنا أرسل إلى حلفاء من غطفان فيدخلون معكم فسار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بفناء النضير فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا على جدر حصونهم يرمون بالنبل والحجارة واعتزلهم بنو قريظة فلم يعينوهم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء رجع إلى بيته في عشرة من أصحابه استعمل على العسكر عليا ويقال أبا بكر وبات المسلمون يحاصرونهم حتى أصبحوا، ثم أذن بلال فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه الذين كانوا معه فصلى بالناس في قضاء بني حطم فأرسل حيي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن نعطيك الذي سألت ونخرج من بلادك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أقبله اليوم ولكن اخرجوا منها ولكن ما حملت الإبل إلا الحلقة فقال سلام ابن مشكم وأقبل ويحكم قبل أن تقبل شرا من ذلك، قال حيي ما يكون شرا من هذا قال يسبي الذرية ويقتل القاتل مع الأموال والأموال أهون علينا، فأبى حيي أن يقبل يوما أو يومين، فلما رأى ذلك يامين ابن عمير وأبو سعيه ابن وهب قال أحدهما لصاحبه والله إنك لتعلم أنه رسول الله فما تنظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا فنزلا من الليل فأسلما وحرز أموالهما ودمائهما، وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قول محمد ابن عمر ابن سعد والبلاذري وأبو معشر وابن حبان خمسة عشر يوما، وقال ابن إسحاق وأبو عمرو ست ليال، وقال سليمان التيمي قريبا من عشرين ليلة، وقال ابن الطلاع ثلاث وعشرين ليلة، وعن عائشة خمسة وعشرين وكانوا في حصارهم يخربون بيوتهم بأيديهم مما يليهم، وكان المسلمون يخربون بأيديهم ويحرقون حتى وقع الصلح ونزلت اليهود على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، وجعل ما بين الرجل من قيس عشرة دنانير ويقال خمسة أوسق من تمر حتى قتل عمروا ابن جحاش غيلة، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بنو النضير إنا لنا ديونا على الناس فال عليه السلام تعجلوا فكان لأبي رافع على أسيد ابن حضير عشرين ومائة دينار إلى سنة فصالحه على ثمانين، فخرجت بنو النضير حملوا النساء والذرية وما استقلت به الإبل من الأمتعة فكان الرجل يهدم بيته عن إيجاف باب
١ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي باب: حديث بني النضير ﴿٤٠٢٩﴾}.
٢ سورة آل عمران الآية: ١٨٦.
٣ سورة المائدة الآية: ١١.
﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ﴾﴿ لأول الحشر ﴾ اللام بمعنى الوقت كما في قوله تعالى :﴿ قدمت لحياتي ﴾ ١ قال الزهري كانوا في سبط لم يصيبهم جلاء فيما مضى وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا وقال ابن عباس ومن شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه فكان أول حشر إلى الشام قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أخرجوا قالوا إلى أين قال إلى أرض المحشر ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى أرض الشام، وقال الكلبي إنما قال لأول الحشر لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب، ثم أجلى آخرهم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وقال مرة الهمداني كان أول الحشر من المدينة والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر وقال قتادة كان هذا أول الحشر والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا روى البخاري من حديث أنس :( أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ) من غير ذكر الآية والحشر إخراج جمع من مكان لآخر، ﴿ ما ظننتم ﴾ أيها المؤمنون، ﴿ أن يخرجوا ﴾ لشدة بأسهم ومنعتهم حال من فاعل أخرج، ﴿ وظنوا ﴾ أي بنو النضير عطف على ما ظننتم ﴿ أنهم مانعتهم حصونهم من الله ﴾ يعني أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وسلطانه، حصونهم مبتدأ ومانعتهم خبر مقدم عليه والجملة خبر أن، وتغير النظم وتقديم وإسناد الجملة لى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها وزعم أنهم في عزة ومنعة لسببها ويجوز أن يكون مانتهم مبتدأ من القسم الثاني صفة وحصونهم فاعل له والجملة خبر أن أيضا، ﴿ فأتاهم الله ﴾ أي أمر الله وعذابه وهو الاضطرار إلى الجلاء، ﴿ من حيث لم يحتسبوا ﴾ حيث ألقى الرعب في قلوبهم ﴿ وقذف في قلوبهم الرعب ﴾ الفزع والخوف كذا في القاموس أو المعنى ألقى فيها الخوف الذي يرعيها أي يملؤها كذا قال البيضاوي، وفي القاموس رعبه كمنعه ملأه عطف تفسيري على تتبعهم بيان لجهة إتيان عذابهم، ﴿ يخربون ﴾ صفة مصارع بمعنى الماضي أورد لاستحضار صورة بديعة، ﴿ بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ﴾ عطف على أيديهم من حيث أن تخريب المؤمنين سبب لبغضهم ونقض عهدهم فكأنهم استعملوهم فيه، والجملة حال من الموصول المفعول لأخرج في قوله تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا أو بدل اشتمال من قوله تعالى :﴿ وقذف في قلوبهم الرعب ﴾ كأنه تفسير له أو مستأنفة في جواب ما صنعوا قرأ أبو عمر ويخربون بالتشديد من التفعيل وهو أبلغ لما فيه من التكثير والباقون بالتخفيف من الأفعال وقيل الإخراب التعطيل وترك الشيء خرابا والتخريب أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل فكانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون منها ما يحتسنونه فيحمونه على بلهم ويخرب المؤمنون باقيها، وقال ابن زيد كانوا يقلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب حتى الأوتاد ويخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسدا وبغضا، وقال قتادة كان المسلمون يخربون ما يليهم ويخربها اليهود من داخلها، قال ابن عباس كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع لهم المقاتل وجعلوا أعداء الله ينقبون دورهم في أدبارها فيخرجون إلى بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك قوله تعالى :﴿ يخربون بيوتهم ﴾ الآية، ﴿ فاعتبروا ﴾ فانظروا واتعظوا بما نزل بهم ولا تفعلوا من الكفر والفسوق مثل ما فعلوا كيلا ينزل بكم مثل ما نزل بهم من العذاب، استدلوا بهذه الآية على حجة القياس من حيث أنه تعالى أمر بالاعتبار والمجاوزة من أصل إلى فرع لمشاركة بينهما في وصف يصلح سببا لذلك الحكم، ﴿ يا أولي الأبصار ﴾ يا ذوي العقول والبصائر قال محمد ابن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد أنه قال محمد ابن عمر حدثني إبراهيم ابن جعفر عن أبيه قال لما خرجت بنو النضير أقبل عمرو ابن سعد اليهودي فأطاف بمنازلهم فرأى خرابا ففكر ثم رجع إلى بني قريظة، فقال رأيت اليوم عبرا رأيت دار إخواننا خالية بعد ذلك العز والشرف والجلد والرأي الفاضل والعقل البارع قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم وخرجوا خروج ذل، وقد وقع قبل ذلك بابن الأشرف بياتا في بيته أفتادا وقع بابن سنية سيد يهود وأجلدهم وأنجدهم ووقع ببني قينقاع وإجلاءهم وهم جد يهود كانوا أهل عدة وسلاح ونجدة فحصرهم، فلم يخرج إنسان رأسه حتى سباهم فكلمهم فيهم فتركهم على أن إجلاءهم من يثرب يا قوم لقد رأيتم فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي وقد بشرنا به وعلمائنا آخرهم ابن السيان أبو عمير وابن حواس هما أعلم يهود جاءا من بيت المقدس يتوكفان قدومه ثم أمرنا باتباعه وأن نقرئه منهما السلام ثم ماتا على دينه ودفنا لحبرتنا هذه فأسكت بالقوم فلم يتكلم منهم متكلم فأعاد الكلام أو نحوه وخوفهم بالحرب والسبي والجلاء فقال الزبير ابن باطا والتوراة قد قرأت صفة في كتاب باطا التوراة التي نزلت على موسى ليس في المثاني التي أحدثنا، فقال له كعب ابن سعد ما يمنعك يا أبا عبد الرحمان من اتباعه قال أنت قال فلم والتوراة جعلت بينك وبينه قط ؟، قال الزبير بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا فإن اتبعته اتبعناك وإن أبيت أبينا، فأقبل عمرو ابن سعدي على كعب فقال أما والتوراة التي نزلت على موسى يوم طور سينا إنه للعز والشرف في الدنيا إنه لعلى منهاج موسى ونزل معه أمته في منزله غدا في الجنة، قال كعب نقيم على عهدنا وعقدنا فلا يخفر محمد ذمتكم وننظر ما يصنع حيي فقد أخرج إخراج ذل وصغار فلا أراه يغزو محمدا فإن ظفر بمحمد فهو ما أردنا وأقمنا على ديننا وإن ظفر بحيي فما في العيش خير تحولنا من جواره، قال عمرو ابن سعدي ولم نؤخر الأمر وهو مقبل ؟ قال كعب ما على هذا فوات متى أردت هذا من محمد أجابني إليه، قال عمرو بلى والتوراة إنه عليه نعوتا إذا سار إلينا محمد فجاءنا في حصوننا حتى ننزل على حكمه فيضرب أعناقنا قال كعب ابن أسد ما عندي في أمره إلا ما قلت ما تطيب نفسي أن أصير تابعا يقول هذا لإسرائيل ولا يعرف لي فضل النبوة لا قدر الفعال قال، عمرو ابن سعدي بل لعمري ليعرفن ذلك لك فبينما هم على ذلك لم يزعم إلا بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم قد حلت بساحتهم، فقال هذا الذي قلت لك وذلك أنهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوه في وقعة الخندق.
١ ورة الفجر الآية ٢٤.
﴿ ولولا أن كتب الله ﴾ في اللوح المحفوظ ﴿ عليهم الجلاء ﴾ أي الخروج من الوطن ﴿ لعذبهم في الدنيا ﴾ بالقتل والسبي كما فعل بني قريظة ﴿ ولهم في الآخرة عذاب النار ﴾ جملة مستأنفة يعني إن نجوا من عذاب الدنيا لا ينجون من عذاب النار في الآخرة البتة.
﴿ ذلك ﴾ لحقهم في الدنيا وما كانوا بصدده وما استحقوه من عذاب الآخرة ﴿ بأنهم ﴾ أي بسبب أنهم ﴿ شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله ﴾ يعذبه عذابا شديدا لأنه ﴿ شديد العقاب ﴾.
أخرج بن إسحاق عن يزيد ابن رومان قال لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير تحصنوا منه في الحصون فأمر بقطع النخل والتحريق فيها، وذكر محمد ابن يوسف الصالحي أنه صلى الله عليه وسلم استعمل على قطعها أبا ليلى المازني وعبد الله ابن سلام، وكان أبو ليلى يقطع العجوة وكان عبد الله بن سلام يقطع اللون فقيل لهما ذاك، فقال أبو ليلى العجوة أحرق لهم، وقال عبد الله بن سلام قد عرفت أن الله سيغنم أموالهم العجوة خير أموالهم، فلما قطعت العجوة شق النساء الجيوب وضربن الخدود ودعون بالويل، فجعل سلام ابن مشكهم يقول يا حيي العذق من العجوة بفرس فلا يطعم ثلاثين سنة تقطع، فأرسل حيي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت تنهى عن الفساد فلم تقطع النخل ووجد بعض المسلمين في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون فسادا، فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا وقال بعضهم بل نغيظهم فأنزل الله تعالى :﴿ ما قطعتم من لينة ﴾ كما فعل أبو ليلى، ما شرطية منصوب المحل مفعول لقطعتم ومن لينة بيان له يعني أي شيء قطعتم حال كونه من لينة فعلتم من اللون ويجمع على الألوان، وقيل هو من اللين كذا ذكر في الصحاح. قال البغوي اختلفوا في معنى اللينة، فقال قوم النخل كلها لينة خلا العجوة وهو قول عكرمة وقتادة، ورواية زاذان عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع نخلهم إلا العجوة، وأهل المدينة ما خلا العجوة من التمر الألوان واحدها لين ولينة وقال لزهري هو ألوان النخل كلها إلا العجوة والبرنية وقال مجاهد وعطية هي النخل كلها من غير استثناء وقال العوفي عن ابن عباس من النخل وقال سفيان هي كرام النخل وقال مقاتل هي ضرب من النخل يقال لتمرها اللون وهي شديد الصفرة يرى نواة من خارج يغيب في الضرس، وكان من أجود تمر هي أعجب إليهم وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن رصيف وأحب إليهم رصيف، ﴿ أو تركتموها قائمة على أصولها ﴾ كما فعل عبد الله ابن سلام، ﴿ فبإذن الله ﴾ خبر مبتدأ محذوف يعني فقطعه وتركه بإذن الله ليس في شيء من ذلك إثم، أخرج البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني نضير وقطع وهي البويرة، هذه الآية كذا روى أصحاب الكتب وأخرج أبو يعلى بسند ضعيف عن جابر قال رخص قطع النخل ثم شدد عليهم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله هل علينا إثم فيها قطعنا وتركنا، فأنزل الله هذه الآية ﴿ وليخزي ﴾ الله بالإذن في القطع ﴿ الفاسقين ﴾ اليهود عطف على بإذن الله وعلة لمحذوف، والجملة معطوفة على جملة تقريره وفعلتم أو إذن لكم لنخزيهم على فسقهم بما غاظهم منه.
مسألة :
من هاهنا أبو حنيفة إذا حاصر الإمام حصنا للكفار أن ينقطع أشجارهم ويفسد زروعهم وهدم بيوتهم ويحرقها، قال ابن همام هذا إذا لم يغلب على الظن أنهم مأخوذون بغير ذلك، فإن كان الظن أنهم مغلوبون وأن الفتح لا بد منه كره ذلك لأنه فساد وفي غيره محل الحاجة وما أبيح إلا لها، وقال أحمد لا يجوز قطع أشجارهم إلا بأحد الشرطين أحدهما أن يفعلوا بنا مثل ذلك ثانيهما أن يكون لنا حاجة إلى قطع ذلك لنتمكن من قتالهم، وقال الشافعي يجوز إتلاف بنائهم وشجرهم لحاجة القتال والظفر بهم وكذا عن لم يرج حصولها لنا فإن رجى ندب الترك، والدليل على جواز قطع الأشجار هذه الآية والحديثين المذكورين، وما روى أحمد عن أسامة ابن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قرية قال ائتها صباحا ثم حرق قال ابن الجوزي احتجاجا لمذهبه : إنه قد روى أصحابنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشا قال لا تعودوا عينا ولا تعقروا شجرا يمنعكم من القتال، والحديثان يعني حديث ابن عمر وحديث أسامة ابن زيد محمولان على ما ذكرنا انتهى كلامه، قلنا لا يجوز على ما ذكر ابن الجوزي لأن بني نضير لم يقطعوا أشجار المدينة قط، ولا دليل على كون القطع لحاجة القتال بل الآية صريحة في أن الأمر بالقطع كان لخزي الفاسقين وكبت أعداء الله وكسر شوكتهم لا لغرض آخر لكن الظاهر أن الفتح لم يكن غالبا في الظن حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع أشجارهم يدل على قوله تعالى :﴿ ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم ﴾، وما روى أصحاب أحمد حجة على عدم جواز القطع إن صح لا يمكن أن يكون معارضا لكتاب الله المستلزم للجواز والله أعلم.
قال البغوي فلما ترك بنو النضير راعهم وضياعهم طلب المسلمون تقسيمهما بينهم كما فعل لغنائم خيبر فبين الله تعالى حكمها وقال :﴿ وما أفاء الله على رسوله ﴾ الفيء الرجوع، وأفاء بمعنى عاد، وقال الجوهري : الفيء الرجوع إلى حالة محمودة قال الله تعالى :﴿ حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا ﴾١ ﴿ فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ﴾ ٢ ولما كان الرجوع يقتضي سبق الملك قال البيضاوي أفاء بمعنى صير مجازا وبمعنى رده عليه فإنه كان حقيقيا بأن يكون له عليه السلام لأن الله خلق الإنسان لعبادته وخلق ما خلق لهم ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين ﴿ منهم ﴾ أي من بني النضير ﴿ فما أوجفتم عليه ﴾ أي ما أجريتم على تحصيله من الوجيف بمعنى سرعة السير ﴿ من خيل ولا ركاب ﴾ ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه، والمعنى أنه لم يلحق المؤمنين في تحصيل ما أفاء الله من بني النضير من المشقة بالحرب وإيجاف الخيل والركاب حتى يستحقوا الغنائم، ﴿ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء ﴾ ويقذف الرعب في قلوبهم، ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ فيفعل ما يريد تارة لوسائط في الظن وتارة بلا وسائط.
هذه الآية والأحاديث الصحيحة تدل على أن بني نضير كان خالصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صرفه عليه السلام حيث شاء، روى الشيخان في الصحيحين عن مالك ابن أوس ابن الحدثان النضيري أنه قال عمر ابن الخطاب إن الله قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعط أحدا غيره ثم قرأ ﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم ﴾ إلى قوله ﴿ قدير ﴾ فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق عليه وعلى أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله٣، وأيضا في الصحيحين عنه أنه جاء عمر حاجبه يرفأ فقال هل لك في عثمان وعبد الرحمان والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال نعم فأدخلهم فلبث قليلا ثم جاء فقال هل لك في عباس وعلي رضي الله عنه يستأذنان ؟ قال نعم، فلما دخلا قال عباس يا أمير المؤمنين إقض بيني وبين هذا وهما يختصمان في التي أفاء الله على رسوله من بني النضير فقال الرهط يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر قال ائتدوا أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا نورث ما تركناه صدقة " ، يريد بذلك نفسه قالوا قد قال ذلك فأقبل عمر على علي وعباس فقال أنشدكما بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، قالا نعم، قال فإني أحدثكم عن هذا الأمر إن الله قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء ﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم ﴾ إلى قوله ﴿ قدير ﴾، فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم والله ما اختارها دونكم ولا استأثرها عليكم فقد أعطاكموها وقسمها فيكم حتى بقي المال منها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقه سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر فأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم حينئذ جميع، وأقبل على علي وعباس يذكر أن أبا بكر فيه كما يقولان والله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد ثم توفى الله أبا بكر فقلت أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضتها سنين من إمارتي أعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر والله يعلم إني فيه صادق بارو تابع للحق ثم جئتماني كلا كما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا نورث ما تركنا صدقة )، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما، قلت إن شئتما دفعت إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه تعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت وإلا فلا تكلماني فقلتما ادفعه إلينا بذلك فدفعته إليكما أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك، فوالله الذي تقوم بإذنه السماء والأرض لا أقضي فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنه فادفعا إلي فأنا أكفيلماهما. وأيضا في الصحيحين عن عمر قال كانت أموال بني نضير مما أفاء الله على رسوله ما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ينفق على أهله نفقه سنتهم ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.
١ سورة الحجرات الآية: ٩.
٢ سورة البقرة: الآية: ٢٢٦.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: فرض الخمس ﴿٣٠٩٤﴾}.
﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ﴾ أي أموال أهل القرى بيان للأول، ولذلك لم يعطف لكنه يعم الأول يعني بني النضير وغيره، فإن قيل لو كان هذا بيانا للأول لكان للأنصار أيضا حقا في فيء بني النضير مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط من فيء بني النضير شيئا للأنصار غير ثلاثة منهم ؟، قلنا كان للأنصار أيضا فيه حقا لكنهم آثروا المهاجرين على أنفسهم وجعل حقهم لهم كما سيأتي، قال ابن عباس في تفسير أهل القرى وهي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة، وقال جلال الدين المحلي كان الصفراء ووادي القرى وينع قلت : والصحيح أن خيبر فتحت عنوة وقسمت بين أهل الحديبية على ثمانية عشر سهما كما مر في سورة الفتح. ﴿ فلله ﴾ افتتاح كلام للتبرك، وإضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه وليس المراد منه أن سهما منه له تعالى مفردا فإن الدنيا والآخرة كلها الله تعالى وهو قول الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم والشعبي وعامة الفقهاء وعامة المفسرين، وقال بعضهم يصرف سهم الله تعالى في عمارة الكعبة والمساجد، ﴿ وللرسول ولذي القربى ﴾ يعني أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب لحديث جبير بن مطعم قال لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني مطلب أتيته أنا وعثمان، فقلنا يا رسول الله هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا ) وشبك بين أصابعه رواه الشافعي وفي رواية أبو داود والنسائي ونحوه وفيه ( أنا وبنو المطلب لا نفترق في الجاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد ) وشبك بين أصابعه١، ﴿ واليتامى ﴾ الصغار الذين لا أب لهم، ﴿ والمساكين وابن السبيل ﴾ المسافر البعيد من ماله كان المستفاد فيما مر من الأية أن الفيء مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وضم هاهنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصناف المذكورة إشعارا بما يفعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المال. ولما كان مال الفيء بحيث لا نصيب فيه لرجال بعينهم كما في الغنائم للغانمين بل قسمة مفوض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى خلفائه من بعده، وجاز لهم اختيار أشخاص من الأصناف المذكورة به عليه السلام نافيا لاختصاص المال به عليه السلام والله تعالى أعلم ﴿ كي لا يكون دولة ﴾ متعلق بالظرف المستقر أعني فلله وللرسول قرأ هشام بخلاف عنه تكون بالتاء الفوقانية على التأنيث ودولة بالرفع على الفاعلية، وكان حينئذ تامة والباقون بالياء التحتانية على التذكير على أن ضمير الفاعل راجع إلى الموصول، ودولة منصوب على أنه خبر كان الناقصة. ﴿ بين الأغنياء منكم ﴾ يعني لا يكون ما يتداوله الأغنياء بينهم دون الفقراء كما كان في الجاهلية بل جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسمه على ما يراه مصلحة فيما أمر به، ثم قال :﴿ وما آتاكم ﴾ أعطاكم ﴿ الرسول ﴾ من الفيء ﴿ فخذوه ﴾ ولا تطعموا فيما زاد على ما طابت نفسه، ﴿ وما نهاكم عنه ﴾ من الغلول وغيره، ﴿ فانتهوا ﴾ ذكر هذه الجملة معترضة كيلا يطمع الناس من الرسول فيما لا يرضاه، وهذا نازل في الفيء وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، عن عبد الله ابن مسعود قال ( لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات للحسن المغيرات خلق الله ) فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت فقالت إنه قد بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هو في كتاب، فقالت قرأت كما بين اللوحين فما وجدت فيها ما تقول لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوه ﴾ قالت بلى قال فإنه قد نهى عنه٢ رواه البخاري. ﴿ واتقوا الله ﴾ في مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم معترضة أخرى، ﴿ إن الله شديد العقاب ﴾ لمن خالفه تعليل لما سبق.
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الخراج والفيء والأمارة باب: في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى ﴿٢٩٧٦﴾ وأخرجه النسائي في كتاب: قسم الفيء ﴿٤١٣٥﴾.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير باب: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه﴾ ﴿٤٨٨٦﴾.
﴿ للفقراء المهاجرين ﴾ بدل من لذي القربى وما عطف عليه فإن الرسول لا يسمى فقيرا فقد أخرج الله رسوله من الفقراء لقوله :﴿ وينصرون الله ورسوله ﴾ قيل : بدل الكل من الكل واللام في الفقراء للعهد والمراد منه هم المذكورون أعني ذوي القربى واليتامى والمساكين فلا يلزم أن لا يكون المذكورون سابقا مصرفا نظرا إلى المبدل منه لا يكون مقصودا بالنسبة بل البدل هو المقصود بالنسبة وعندي أن الفقراء المهاجرون وما عطف عليه أعم مطلقا مما سبق فإنهم استوعبوا المؤمنين إلى يوم القيامة أجمعين غنيهم وفقيرهم على ما سنذكر إن شاء الله تعالى فهذا بدل الكل من البعض وهو من قبيل الاشتمال وعلى كلا التقديرين فما سبق في الذكر من ذوي القربى وما عطف عليه وإن لم يكن مقصودا بالنسبة لفظا لكنها ذاخلة في المقصود أعني البدل أو عينه والله أعلم. ﴿ الذين أخرجوا من ديارهم ﴾ التي بمكة ﴿ وأموالهم ﴾ فإن كفارة مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم وفي الآية دليل على أن كفار مكة ملكوا أموال المهاجرين التي خلفوها وهاجروا عنها لأن الله تعالى أطلق عليهم الفقراء والفقير من لا يملك وليس من لا يملك مالا وهو في مكان لا يصل إليه فقيرا بل هو مخصوص باسم ابن السبيل ولذا عطفوا عليه في نص الصدقة، ومن هاهنا قال أبو حنيفة ومالك الكفار إذا استولت على أموال المسلمين ملكوها بشرط الإحراز بدارهم عند أبي حنيفة وبمجرد الاستيلاء عند مالك وقال الشافعي لا يملكونها وذكر ابن همام لأحمد فيه روايتين كقول أبي حنيفة وكقول الشافعي وذكر ابن الجوزي قول أحمد كقول الشافعي لا غير ويؤيد مذهب أبي حنيفة من الأحاديث ما رواه أبو داود في مراسيله عن تميم ابن طرفة قال وجد مع رجل ناقة فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقام البينة أنها له وأقام الآخر البينة أنه اشتراها من العدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أن تأخذ بالثمن الذي اشتراها به فأنت أحق وإلا فخل عنه ناقته والمرسل عندنا وعند أكثر أهل العلم حجة، وأخرج الطبراني مسندا عن تميم ابن طرفة عن جابر ابن سمرة في سنده ياسين الزيات ضعف وأخرج الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم قال في ما أحرز العدو فاستنقذه المسلمون منهم إن وجده صاحبه قبل أن يقسم فهو أحق به وإن وجد قد قسم فإن شاء أخذه بالثمن فيه حسن ابن عمارة قال الدارقطني متروك وأخرج الدارقطني عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له وإن وجده بعدما قسم فليس له شيء ) وفيه إسحاق ابن عبد الله ابن فروة ضعيف وفي طريقه الآخر رشيدين ضعيف أيضا أخرجه الطبراني عن ابن عمر مرفوعا :( من أدرك ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له فإن أدركه بعد أن يقسم فهو أحق به بالثمن ) وفيه ياسين ضعيف وبه قال الشافعي واحتجوا أيضا بأن عمر ابن الخطاب قال من أدرك ما أخذ العدو قبل أن يقسم فهو له وما قسم فلا حق له فيه إلا بالقيمة وقال هذا إنما روى عن الشعبي عن عمرو عن رجاء ابن حيوة عن عمر مرسلا وكلاهما لم يدرك عمر وروى الطحاوي بسنده إلى قبيصة ابن ذؤيب أن عمر ابن الخطاب قال فيما أخذه المشركون فأصابه المسلمون فعرفه صاحبه أي أدرك قبل أن يقسم فهو له وإن جرت فيه السهام فلا شيء له وروى فيه أيضا عن أبي عبيدة مثل ذلك وروى بإسناده إلى سليمان ابن يسار عن زيد ابن ثابت مثله، وروى أيضا بإسناده إلى قتادة عن جلاس أن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال من اشترى ما أحرز العدو فهو جائز وهذه الأحاديث وإن كانت بعضها ضعيفة وبعضها مرسلة لكنها اعتضد بعضها ببعض وصارت حجة وعملا بهذه الأحاديث شرط أبو حنيفة الإحراز وقال إن ظهر عليها المسلمون فوجدها المالكون قبل أن يقسم فهي لهم بغير شيء وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا وكذا إن دخل دار الحرب تاجر فاشترى ذلك فأخرجه إلى دار الإسلام فمالكه الأول بالخيار إن شاء أخذه بالثمن الذي اشتراه وإن شاء تركه وكذا لو وهبوا لمسلم يأخذه المالك بقيمته واستدل بعض الحنيفة بما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم لما سئل يوم الفتح أين تنزل غدا بمكة قال هل ترك لنا عقيل من منزل ؟ وجه الاحتجاج أن عقيلا استولى عليه وهو على كفره وقيل إن الحديث إنما هو دليل على أن المسلم لا يرث الكافر فإن عقيلا استولى على الرياع بإرثه أبا طالب فإنه مات وترك عليا وجعفر مسلمين وعقيلا وطالبا كافرين فورثاه والله تعالى أعلم. احتج الشافعي بحديث رواه أحمد ومسلم في صحيحه عن عمران ابن حصين قال كانت العضباء لرجل من بني عقيل وكانت من سوابق الحاج فأسر الرجل وأخذت العضباء معه فحبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجله ثم إن المشركين أغاروا على سرج المدينة وفيه العضباء وأسروا امرأة من المسلمين وكانوا إذا نزلوا يريحون إبلهم في أفنيتهم فما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد نوموا فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت على العضباء فأتت على ناقة ذلول فر كبتها ثم توجهت قبل المدينة ونذرت لئن الله عز وجل نجاها عليها لتخرنها فلما قدمت عرفت الناقة فأتوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت المرأة نذرها فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم تبسما خبرتها أو وفيتها إن الله أنجاها عليها لتنحرنيها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم ).
وجه الاحتجاج أنه لو ملكها المشركون ما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بطل نذرها وحديث رواه داود عن ابن عمر قال ذهب فرس له فأخذه الكفار فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول لله صلى الله عليه وسلم وأبق عبد له فلحق بالروم فظهر عليهم المسلمون فرد عليه خالد ابن وليد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجواب عن الحديث الأول أن ظاهر هذا الحديث يدل على أن الكفار لم يحرزوا العضباء بديارهم حيث قال وكانوا إذا نزلوا يريحون أهلهم في أفنيتهم وعن الحديث الثاني أنا نقول على حسب مقتضى هذا الحديث حيث نقول أن المشركين إذا غلبوا على أموالنا وملكوها فظهر عليهم المسلمون ووجدها ملاكها قبل القسمة ردت تلك الأموال عليها بلا شيء وبعد القسمة ردت بالقيمة وإن عبدا إذا أبق فدخل إليهم فأخذوه لم يملكوها عند أبي حنيفة ثم إذا ظهر عليهم المسلمون يأخذ المالك القديم بغير شيء موهوبا كان أو مشتري مغنوما قبل القسمة وبعده والله تعالى أعلم، ﴿ يبتغون فضلا من الله ﴾ يعني ثوبا زائدا على قدر أعمالهم أضعافا كثيرة ﴿ ورضوانا ﴾ جملة يبتغون حال مقيدة لإخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم ﴿ وينصرون الله ﴾ يعني دينه عطف على يبتغون ﴿ ورسوله أولئك هم الصادقون ﴾ في ادعاء إيمانهم وحالهم على صدق دعواهم فمن قال من الروافض إنهم كانوا منافين وكانوا كاذبين في ادعاء الإيمان كفر لاستلزام إنكار هذه الآية، وقال قتادة هؤلاء المهاجرين الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حبا لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانت فيه من شدة حتى ذكر أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه يقيم به صلبه من الجوع وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ماله وثار غيرها، قلت وكانوا يحبون القتل في سبيل الله روى البغوي في المعالم وشرح السنة عن أمية ابن خالد ابن عبد الله ابن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وروى مسلم عن عبد الله ابن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا )١ وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة ) ٢ قلت لعلهم يدخلون الجنة قبل أغنياء المهاجرين بأربعين خريفا وقبل أغنياء سائر الناس بخمسمائة سنة والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مسألة :
اختلف الأئمة أن المال الذي يحصل بلا قتال كجزية وعشر تجارة وما جلوا عنه خوفا، وما صولحوا عليه ومال مرتد قتل أو مات ومال ذمي مات بلا وارث وزكاة بني تغلب وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام وكذا أخراج الأرض هل يخمس أم لا ؟، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في أظهر قوليه لا يخمس بل جميعه لمصالح لما صلح المسلمين كسد الثغور وبناء القناطير والجسور ويعطي قضاة المسلمين والمحتسبين وعمالهم وعلمائهم منه ما يكفيهم، ويدنو منه أرزاق المقاتلة وذراريهم كذا في الهداية، وفي التجنس يعطي المعلمين والمتعلمين ويدخل فيه طلبة العلم أيضا، وقال الشافعي في القديم لا يخمس إلا ما تركوه فزعا وهربوا وفي الجديد أنه يخمس جميع ذلك ثم يجعل الخمس خمسة أسهم سهم منها لبني هاشم وبني المطلب يشرك فيه الغني والفقير وسهم لابن السبيل ويعم الأصناف الأربعة المذكورة وقيل يخص بالحاصل في كل ناحية من فيها منهم سهم لمصالح المسلمين كسد الثغور والقضاة والعلماء ويقدم الأهم، وأما الأخماس الأربعة فالأظهر أنها للمرتزقة وهم أجناد المرصدون للجهاد فيضع الإمام ديوانا فيعطي كل واحد منهم كفاية ويقدم في الإعطاء قريشا ومنهم بني هاشم والمطلب ثم عبد الشمس ثم نوفل ثم عبد العزى ثم سائر البطون الأقرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأنصار ثم سائر العرب ثم العجم ولا يثبت في الديوان أعمى ولا زمنا ولا من لا يصلح للقتال فإن فضلت الأخماس الأربعة عن حاجات المرتزقة وزع عليهم على قدر مؤنتهم والأصلح فإنه يجوز أن يقسم غلته كذلك في المنهاج، ويؤيد مذهب الجمهور في عدم التخميس ما ذكره محمد ابن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد في أموال بني النضير أنه قال عمر ابن الخطاب يا رسول الله ألا تخمس ما أصبته ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أجعل شيئا جعله الله تعالى دون المؤمنين بقوله تعالى :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ﴾ الآية كهيئته ما وقع فيه السهمان، قال ابن همام ذكروا أن قول الشافعي في تخميس الجزية مخالف للإجماع قال الكرخي ما قال به أحد قبله ولا بعده ولا في عصره ووجه قوله القياس على الغنيمة قال ابن همام إنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ونصارى نجران وفرض الجزية على أهل اليمن ولم ينقل منه التخميس ولو كان لنقل وروى أبو داوود بسند فيه ضعف أن عمر ابن عبد العزيز كتب إلى عماله أن ما حكم عمر ابن الخطاب فرآه المؤمنين عدلا موافقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم.


١ أخرجه مسلم في أوائل كتاب: الزهد والرقائق ﴿٢٩٧٩﴾}.
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: العلم باب: في القصص ﴿٣٦٦٢﴾}.
أخرج ابن المنذر عن يزيد ابن الأصم أن الأنصار قالوا يا رسول الله أقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض يعني الأرض المملوكة للأنصار نصفين قال لا ولكن تكفونهم المؤنة وتقاسمونهم الثمرة والأرض أرضكم قالوا رضينا فأنزل الله تعالى يعني أنزل فيهم قوله ﴿ والذين تبوءو الدار والإيمان ﴾ الآية وروى البخاري عن أبي هريرة بلفظ قالت الأنصار اقسم بيننا وبين إخواننا النخل قال لا تكفونا المؤن ونشرككم في الثمر قالوا سمعنا وأطعنا وليس ذكر نزول الآية صحيح والمعنى تبوءوا دار الهجرة وتمكنوا في الإيمان وهم أنصار الإيمان بالمقر لدوام إثباتهم عليه وأثبت التبوء على الاستعادة التخييلية وجاز أن يكون الإيمان منصوبا بالفعل المقدر يعني وأخلصوا الإيمان من قبيل علفتها تبنا وماء باردا، وقيل المعنى تبوؤوا دار الهجرة ودار الإيمان وهي المدينة فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام سمى المدينة دار الإيمان لأنها مظهره عن جابر ابن سمرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله تعالى سمى المدينة طابة ) ١ رواه مسلم وعن جابر ابن عبد الله في حديث قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها )٢ متفق عليه وروى مسلم عن أبي هريرة بمعناه ﴿ من قبلهم ﴾ أي من قبل هجرة المهاجرين وقيل تقدير الكلام والذين تبوء الدار من قبلهم والإيمان، ﴿ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم ﴾ في أنفسهم ﴿ حاجة ﴾ قيل المحتاج إليه يسمى حاجة والمعنى طلب حاجة وقيل المراد ما يحمل عليه الحاجة من الطلب والحسد والغيظ ﴿ مما أوتوا ﴾ أي من أجل ما أعطى المهاجرون دونهم من الفيء ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار إلا ثلاثة منهم فطابت أنفس الأنصار بذلك، قال محمد ابن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تحول من بني عوف ابن عمر إلى المدينة تحول المهاجرين فتنافست فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم، اقترعوا فيهم بالسهمان فما نزل أحد من المهاجرين على أحد من الأنصار إلا بقرعة بينهم فكان المهاجرون في دور الأنصار وأموالهم فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا ثابت ابن قيس ابن شماس فقال ادع لي قومك قال ثابت الخزرج يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( الأنصار كلها فدعى الأوس والخزرج فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وأموالهم وإيثارهم على أنفسهم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله تعالى علي من بني النضير ) وكان المهاجرون على مالهم من السكنى ومساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم فتكلم سعد ابن عبادة وسعد ابن معاذ رضي الله عنه وخيراهما خيرا فقالا يا رسول الله بل تقسمه بين المهاجرين ويكونوا في دورنا كما كانوا ونادت الأنصار وجزاهم الله خيرا رضينا وسلمنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اللهم ارحم الأنصار ) فقسم رسول الله صلى الله عليهم وسلم ما أفاء الله عليه وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار من ذلك الفيء شيئا إلا رجلين كانا محتاجين سهل بني حنيف وأبا دجانة وأعطى سعد ابن معاذ رضي الله عنه عنهم سيف ابن أبي الحقيق وكان سيفا له ذكر عندهم وذكر البلاذري في فتوح البلدان له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار ليس إخوانكم من المهاجرين أموال فإن شئتم قسمت هذه وأموالكم بينكم وبينهم جميعا وإن شئتم أمسكتم أموالكم وقسم هذه فيهم خاصة قالوا بل أقسم هذه فيهم وأقسم لهم من أموالنا ما شئت فنزلت :﴿ ويؤثرون ﴾ أي يقدمون المهاجرين بأموالهم ومنازلهم ﴿ على أنفسهم ﴾ وحتى أن من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم ﴿ ولو كان بهم خصاصة ﴾ فاقة وحاجة إلى ما يؤثر قال البغوي روي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوم النضير للأنصار فذكر نحو ما ذكر البلاذري، وروى البخاري عن أبي هريرة قال :﴿ أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال :( ألا رجل يضفيه هذه الليلة يرحمه الله { فقام رجل من الأنصار فقال أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا، قالت والله ما عندي إلا قوت الصبية قال فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئني السراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت وفي رواية فهيأت طعامها ونومت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأ فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( لقد أعجب الله وأضحك من فلان وفلانة فأنزل :{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ ٣ وأخرج مسدد في مسنده وابن المنذر عن أبي المتوكل الناجي أن رجلا من المسلمين فذكر نحوه وفيه أن الرج الذي أضاف ثابت ابن شماس فنزلت فيه هذه الآية، وأخرج الواحدي من طريق ابن دثار عن ابن عمر قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال إن أخي فلان وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليهم فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك فنزلت ﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ وروى البخاري عن أنس ابن مالك قال دعى النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا لا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلنا قال :﴿ فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثره بعدي ﴾ ٤ وذكر البلاذري في فتوح البلدان أنه قال أبو بكر جزاكم الله يا معشر الأنصار فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال الغنوي :
جزى الله عنا جعفرا حين أرتعت بنا تعلنا في الوطنين فنزلت
أبوا أن يحلون ولو أنا آمنا به تلقى الذي يلقون منا طلت.
وروى الآجري في كتاب الشريعة عن قيس ابن أبي حازم نحوه، ﴿ ومن يوق شح نفسه ﴾ حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ الشح البخل والحرص كذا في القاموس وفي الصحاح بخل مع حرص قال البغوي فرق العلماء بين الشح والبخل، روي أن رجلا قال لعبد الله ابن مسعود إني أخاف أن أكون قد هلكت قال وما ذاك قال :﴿ أسمع الله يقول :{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾ وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء قال عبد الله : ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله عز وجل ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل وقال عمر ليس الشح أن يمنع الرجل ماله إنما الشح أن تطمع عين الرجل إلى ما ليس له، وقال سعيد ابن جبير الشح هو أخذ الحرام ومنع الزكاة وقيل الشح الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم وقال ابن زيد من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه ولم يدعه الشح إلى أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به فقد وقى شح نفسه، عن جابر ابن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :﴿ اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ﴾ ٥.
رواه مسلم وأحمد وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا ) ٦ رواه البغوي وكذا روى النسائي
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مسألة :
اختلف الأئمة أن المال الذي يحصل بلا قتال كجزية وعشر تجارة وما جلوا عنه خوفا، وما صولحوا عليه ومال مرتد قتل أو مات ومال ذمي مات بلا وارث وزكاة بني تغلب وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام وكذا أخراج الأرض هل يخمس أم لا ؟، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في أظهر قوليه لا يخمس بل جميعه لمصالح لما صلح المسلمين كسد الثغور وبناء القناطير والجسور ويعطي قضاة المسلمين والمحتسبين وعمالهم وعلمائهم منه ما يكفيهم، ويدنو منه أرزاق المقاتلة وذراريهم كذا في الهداية، وفي التجنس يعطي المعلمين والمتعلمين ويدخل فيه طلبة العلم أيضا، وقال الشافعي في القديم لا يخمس إلا ما تركوه فزعا وهربوا وفي الجديد أنه يخمس جميع ذلك ثم يجعل الخمس خمسة أسهم سهم منها لبني هاشم وبني المطلب يشرك فيه الغني والفقير وسهم لابن السبيل ويعم الأصناف الأربعة المذكورة وقيل يخص بالحاصل في كل ناحية من فيها منهم سهم لمصالح المسلمين كسد الثغور والقضاة والعلماء ويقدم الأهم، وأما الأخماس الأربعة فالأظهر أنها للمرتزقة وهم أجناد المرصدون للجهاد فيضع الإمام ديوانا فيعطي كل واحد منهم كفاية ويقدم في الإعطاء قريشا ومنهم بني هاشم والمطلب ثم عبد الشمس ثم نوفل ثم عبد العزى ثم سائر البطون الأقرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأنصار ثم سائر العرب ثم العجم ولا يثبت في الديوان أعمى ولا زمنا ولا من لا يصلح للقتال فإن فضلت الأخماس الأربعة عن حاجات المرتزقة وزع عليهم على قدر مؤنتهم والأصلح فإنه يجوز أن يقسم غلته كذلك في المنهاج، ويؤيد مذهب الجمهور في عدم التخميس ما ذكره محمد ابن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد في أموال بني النضير أنه قال عمر ابن الخطاب يا رسول الله ألا تخمس ما أصبته ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أجعل شيئا جعله الله تعالى دون المؤمنين بقوله تعالى :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ﴾ الآية كهيئته ما وقع فيه السهمان، قال ابن همام ذكروا أن قول الشافعي في تخميس الجزية مخالف للإجماع قال الكرخي ما قال به أحد قبله ولا بعده ولا في عصره ووجه قوله القياس على الغنيمة قال ابن همام إنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ونصارى نجران وفرض الجزية على أهل اليمن ولم ينقل منه التخميس ولو كان لنقل وروى أبو داوود بسند فيه ضعف أن عمر ابن عبد العزيز كتب إلى عماله أن ما حكم عمر ابن الخطاب فرآه المؤمنين عدلا موافقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم.


١ أخرجه مسلم في كتاب: الحج باب: المدينة تنفي شرارها ﴿١٣٨٥﴾}.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل المدينة باب: المدينة تنفي الخبث ﴿١٨٨٣﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الحج باب: المدينة تنفي شرارها ﴿١٣٨٣﴾.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير ﴿ويؤثرون على أنفسهم﴾ ﴿٤٨٨٩﴾}.
٤ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي باب: غزوة الطائف ﴿٤٣٣٠﴾}.
٥ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب باب: تحريم الظلم ﴿٢٥٧٨﴾}.
٦ أخرجه النسائي في كتاب: الجهاد باب: فضل من عمل في سبيل الله على قدمه ﴿٣١٠١﴾}.
﴿ والذين جاءوا من بعدهم ﴾ أي بعد المهاجرين والأنصار وهم الذين أسلموا من الصحابة بعد الفتح والمؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة، ﴿ يقولون ﴾ من فاعل جاؤوا ﴿ ربنا اغفر لنا ولإخواننا ﴾ في الدين ﴿ الذين سبقونا بالإيمان ﴾ فإن السابقين لهم حق على اللاحقين حيث اهدوا بالإيمان والشرائع بتوسطهم كما اهتدوا أولئك بتوسط النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ ولا تجعل في قلوبنا غلا ﴾ حقدا وحسدا وبغضا ﴿ للذين آمنوا ﴾ من قبل من المهاجرين والأنصار، ﴿ ربنا إنك رؤوف رحيم ﴾ فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية، قال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل الفقراء المهاجرين والذين تبؤوا الدار والإيمان والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان فاجهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل روى البغوي بسنده عن عائشة قالت أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسموهم سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول :( لا يذهب هذه الأمة حتى تلعن آخرها وأولها } وروى صاحب الفصول من الإمامية الإثنا عشرية إلى جعفر محمد ابن علي الباقر أنه قال لجماعة خاضوا في أبي بكر وعمر وعثمان أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان الآية : وفي الصحيفة الكاملة أنه كان من دعاء الإمام علي ابن الحسين رضي الله عنه اللهم صل على أصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا النصيحة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره وكافئوه وأسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته واستجابوا له حيث أسمعتهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به، ومن كانوا منطوين في محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذا تعلقوا بعروته وانتفت منهم القرابات أو سكنوا في ظل قرابته فلا تنس لهم اللهم ما تركوا له وفيك وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاه لك إليك وأشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه اللهم وصل على التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك الحديث : قال مالك ابن معول قال عامر ابن شرحبيل الشعبي يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة سئلت اليهود من خير أهل ملتكم فقالوا أصحاب موسى وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم فقالوا حواري عيسى وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم فقالوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا يقوم لهم راية ولا يثبت لهم أقدام ولا يجتمع لهم راية ولا يثبت لهم أقدام ولا يجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا نار للحرب أطفأ الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض جهنم أعاذنا الله وإياكم من الهواء المضلة قال مالك ابن أنس من يبغض أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس لهم حق في فيء المسلمين ثم تلا ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى حتى أتى على هذه الآية :﴿ للفقراء المهاجرين ﴾ ﴿ والذين تبوءو الدار والإيمان ﴾ ﴿ والذين جاءو من بعدهم ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ رءوف رحيم ﴾ قال أكثر المفسرين الذين تبوؤوا الدار والإيمان للفقراء الذين جاؤوا من بعدهم وعلى هذا وصف الفقر شرط لاستحقاق الفرق الثلاثة وعندي الذين تبوؤوا معطوف على الفقراء ووصف الفقر ليس شرطا لاستحقاق واحد منهم كيف وابن السبيل مصرف اتفاقا مع أنه لا يسمى فقيرا، أو إنما ذكر وصف الفقر في المهاجرين جريا على الغالب لأن أكثر المهاجرين حينئذ كانوا فقراء لا للاحتراز كما أن في قوله تعالى :﴿ وربائبكم التي في حجوركم ﴾ ١ كونهن في الحجور ليس للاحتراز بل خرج مخرج العادة جريا على الغالب وإنما قلت هكذا للإجماع على أن مال الفيء هو للمسلمين كافة غنيهم وفقيرهم يصرف في مصالحهم ويعطي لقضاة المسلمين وعمالهم وعلمائهم وإن كانوا أغنياء وكذا للمقاتلة سواء كانوا غنيا وفقيرا، وكان أبو بكر رضي الله عنه يقسم المال بين الناس على السوية وكان عمر رضي الله عنه يفضل في القسمة بفضلهم. قال أبو يوسف في كتاب الخراج حدثني ابن أبي نجيح قال قدم علي ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مال فقال من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم عدة فليأت فجاء جابر ابن عبد الله فقال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جاء ومال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا يشير بكفيه فقال له أبو بكر خذ فأخذ بكفيه ثم عدة فوجده خمسمائة فقال خذ إليها ألفا أخذ ألفا ثم أعطى كل إنسان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعده شيئا وبقي بقية من المال فقسمه بين الناس بالسوية على الصغير والكبير والحر المملوك والأنثى فخرج على تسعة دارهم وثلث لكل إنسان فلما كان العام المقبل جال أكثر من ذلك فقسمه بين الناس فأصاب كل إنسان عشرون درهما فجاء ناس من المسلمين قالوا يا خليفة رسول الله إنك قسمت هذا فسويت بين الناس وعن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل بفضلهم قال فقال أما ما ذكرتم من السوابق والقدم فما أعرفني بذلك وإنما ذلك شيء ثواب على الله هذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة فلما كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وجائن الفتوح فضل وقال لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه ففرض أهل السوابق والقدم من المهاجرين والأنصار فمن شهد بدرا خمسة آلاف خمسة آلاف ولمن كان له إسلام كإسلام بدر دون ذلك أنزلهم على قدر منازلهم من السوابق. قال أبو يوسف وحدثني أبو معشر قال حدثني عمر مولى عفرة وغيره قال لما جاءت عمر ابن الخطاب الفتوح وجائته الأموال قال أن أبا بكر رأى في هذا المال رأيا ولي فيه رأي آخر لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه ففرض للمهاجرين والأنصار فمن شهد بدرا أربعة آلاف وفرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثنى عشر ألفا إلا صفية وجويرية فإنه فرض لهما ستة آلاف ستة آلاف فأبيا أن يقبلا فقال لهما إنما فرضت لهن للهجرة فقالتا لا إنما فرضت لهن لمكانهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لنا مثله فعرف ذلك عمر ففرض لهما اثنى عشر ألفا اثنى عشر ألفا وفرض للعباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى عشرة ألفا وفرض لأسنان ابن زيد أربعة آلاف وفرض لعبد الله ابن عمر ثلاثة آلاف فقال يا أبت لم زدته علي ألفا ما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لأبي وما كان له ما لم يكن لي فقال إن أبا أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك وكان أسامة أحب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض لأبناء المهاجرين والأنصار ألفين ألفين، فمر به عمرو ابن أبي سلمة فقال زيدوه ألفا فقال له محمد ابن عبد الرحمان ابن جحش ما كان لأبيه أبي سلمة ما لم يكن لآبائنا وما كان له ما لم يكن لنا ؟ فقال عمر إني فرضت له بأبيه أبي سلمة ألفين وزدته بأمه أم سلمة ألفا فإن كانت لك أم مثل أم لمة زدتك ألفا وفرض لأهله والناس ثمانمائة فجاءه طلحة ابن عبيد الله بأخيه ففرض له ثمانمائة فمر به النضير ابن أنس فقال عمر افرضوا له ألفين، فقال إن أبا هذا يعني يوم أحد فقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ما أراه إلا قد قتل فسل سيفه وكسر غمده وقال إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل فإن الله حي لا يموت فقاتل حتى قتل وهذا يرعى الشاء في مكان كذا وكذا فعمل عمر بهذا خلافته. قال أبو يوسف وحدثني محمد ابن إسحاق عن أبي جعفر إن عمر لما أراد أن يفرض للناس وكن رأيه آخر من رأيهم قالوا له أبدا بنفسك فقال لا فبدأ بالأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرض للعباس ثم لعلي حتى وإلى بين خمس. . . حتى انتهى إلى عدي ابن كعب، قال حدثنا المخالد ابن سعيد عن الشعبي عمن شهد عمر ابن الخطاب قال لما فتح الله عليه الفارس والروم جمع ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما ترون فإني أرى أن أجعل عطاء الناس في كل سنة وأجمع المال فإنه أعظم للبركة قالوا ضع ما رأيت فإنك إن شاء الله موفق ففرض الأعطيات فقال بمن أبدأ فقال عبد الرحمان ابن عوف أبدأ بنفسك فقال لا والله ولكن أبدأ ببني هاشم رهط النبي صلى الله عليه وسلم فكتب من شهد بدرا من بني هاشم من مولى أو عربي لكل رجل منهم خمسة آلاف وللعباس ابن عبد المطلب اثنى عشر ألفا ثم فرض لمن شهد بدرا من بني أمية ابن عبد الشمس ثم الأقرب فالأقرب إلى بني هاشم ففرض للبدريين أجمعين عربيهم ومولاهم خمسة آلاف وللأنصار أربعة آلاف أربعة آلاف وكان أول أنصاري فرض له محمد ابن مسلمة ولأزواج النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف ولعائشة إثني عشر ألفا ولمهاجرة حبشة أربعة آلاف ولعمر ابن أبي سلمة لمكان أم سلمة أربعة آلاف فقال محمد ابن عبد الله ابن جحش لم تفضل علينا ؟ فذكر نحو ما ذكر في الحديث السابق وللحسن والحسين خمسة آلاف لمكانهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فرض للناس ثلاثمائة وأربعمائة لعربي والمولى وفرض لنساء المهاجرين والأنصار ستمائة وأربعمائة وثلاثمائة ومائتين وفرض لأناس من المهاجرين ألفين ألفين وفرض لبرقيل حين أسلم ألفين وقال له دع أرضي في يدي أعمرها وأؤدي عنها الخراج ما كانت تؤدي فرفض. قال أبو يوسف وحدثني محمد ابن عمرو ابن علقمة عن أبي سلمة ابن عبد الرحمان ابن عوف عن أبي هريرة فذكر حديثا وفيه فرض للمهاجرين خمسة خمسة آلاف وللأنصار ثلاثة آلاف ولأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشر اثنا عشر ألفا فلما أتى زينب بنت جحش مالها قالت يغفر الله أمير المؤمنين لقد كان في صواحباتي من هو أقوى على قسمة هذا مني فقيل أن هذا كله لك ناصرت به فغضب وغطته بثوب ثم قالت لبعض من عندها أدخلي يدك لأن فلان الفلان فلم تزل تعطي حتى قالت لها التي قلت تدخل يدها لا أراك تذكريني ولي عليك حق قالت لك ما تحت الثوب فكشفت فإذا ثمة خمسة وثمانون درهما ثم رفعت يدها فقالت اللهم لا يدركني عطاء لعمر ابن الخطاب بعد عامي هذا أبدا فكانت أول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به زينب وذكر لنا أنها أسخى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحمل عمر ابن ثابت عطاء الأنصار فبدأ بأهل العوالي فبدأ بيني عبد الاشهل ثم الأوس لبعد منازلهم ثم الخزرج حتى كان هو آخر السائب ابن يزيد عن أبيه قال سمعت عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقول والله الذي لا إلاه إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعته وما أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك وما أنا فيه إلا كأحدكم ولكن على منازلهم لنا من كتاب الله تعالى وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجل وتلاده في الإسلام والرجل وقدمه في الإسلام والرجل وغناه في الإسلام والرجل وحاجاته في الإسلام والله لئن بقيت ليأتين الراعي لجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يحمر وجهه يعني في طلبه وكان ديوان حمير على حدة وكان يفرض لأمير والجيوش والعرى في العطاء ما بين تسعة آلاف وثمانية آلاف وسبعة آلاف على قدر ما يصلحهم من الطعام وما يقومون به من الأمور، وقال كان يفرض للمنفوس إذا ترحته
١ سورة النساء الآية: ٢٣.
﴿ ألم تر إلى الذين نافقوا ﴾ يعني عبد الله ابن سلول وأصحابه ﴿ يقولون لإخوانهم ﴾ في الكفر أو الصداقة والموالاة ﴿ الذين كفروا ﴾ جهارا، ﴿ من أهل الكتاب ﴾ وهم اليهود من بني النضير والقريظة وقد ذكرنا قصة عبد الله ابن سلول أنه أرسل إلى بني النضير رسولين وقال تخرجوا أن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال أسلم ناس من بني قريظة وكان منهم منافقون نزلت فيهم هذه الآية وعلى هذا المراد بالأخوة في النسب فكان المنافقون لبني النضير ﴿ لئن أخرجتم ﴾ من دياركم من المدينة ﴿ لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم ﴾ وأي في قتالكم أو خذلانكم أحدا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ﴿ أبدا وإن قوتلتم ﴾ ويعني إن قاتلكم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ﴿ لننصرنكم ﴾ عليهم. ﴿ والله يشهد ﴾ حال من فاعل يقولون ﴿ إنهم ﴾ أي المنافقون ﴿ لكاذبون ﴾ منصوب بتقدير القول يعني والله يشهد ويقول إنهم لكاذبون أ و هو متعلق بيشهد بتضمن القول.
ثم بين كذبهم بقوله ﴿ لئن أخرجوا ﴾ أي اليهود ﴿ لا يخرجون ﴾ أي المنافقون جواب للقسم لفظا وجزاء للشرط معنى وكذا قوله تعالى :﴿ لا ينصرونهم ﴾، ﴿ معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ﴾، وفيه معجزة حيث كان الأمر في المستقبل كذلك فإن بني نضير أخرجوا ولم يخرج معهم عبد الله ابن أبي سلول ولا منافقوا قريظة وقريظة قوتلوا وقتلوا لم ينصرهم منافقوا مدينة ﴿ ولئن نصروهم ﴾ على الفرض والتقدير وقال الزجاج معناه لو قصدوا نصر اليهود، ﴿ ليولن الأدبار ثم لا ينصرون ﴾ أي كفار اليهود ولا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصروهم، وجاز أن يكون ضمير لا ينصرون راجعا إلى المنافقين.
﴿ لأنتم ﴾ أيها المسلمون ﴿ أشد رهبة ﴾ أي مرهوبة ﴿ في صدورهم ﴾ أي المنافقين ﴿ من الله ﴾ حيث يؤمنون باللسان دون القلب مخافة الناس دون الله تعالى العالم بما في الصدور ﴿ ذلك ﴾ الخوف منكم دون الله تعالى﴿ بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ أي لا يعرفون الله تعالى وعظمته وأن الله تعالى : هو النافع والضار وأفعال العباد إنما هي مخلوقة له تعالى فهو الحقيق بأن يخشى دون غيره.
﴿ لا يقاتلونكم ﴾ أي الكفار والمنافقون ﴿ جميعا ﴾ أي مجتمعين على عزم واجتهاد ولإلقاء الله تعالى الرعب في قلوبهم ﴿ إلا في قرى محصنة ﴾ بالأروب والخناديق يعني لا يبرزون بقتالكم رهبة منكم ﴿ أو من وراء جدر ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو جدار بكسر الجيم وفتحا لدال وألف بعدها على التوحيد وأمال أبو عمرو فتح الدال والباقون بضم الجيم والدال على الجميع ﴿ بأسهم ﴾ يعني صبرهم وشجاعتهم ﴿ بينهم ﴾ يعني في مقابلة الكفار بعضهم بعضا ﴿ شديد ﴾ يعني ليس ذلك الرهبة منكم لضعفهم وجنبهم فإنهم أشد بأسا إن حارب بعضهم بعضا بل لقذف الله الرعب في قلوبهم معجزة لرسوله وإظهار الدين فإن الشجاع يجبن والعزيز يذل إذا حارب الله ورسوله ﴿ تحسبهم ﴾ يا محمد ﴿ جميعا ﴾ مجتمعين متفقين على حربكم ﴿ وقلوبهم شتى ﴾ إي متشتتة بسبب إلقاء الرعب فإن في حالة شدة الخوف لا يتقرر قلبه على نهج مستقيم بل قد يريد الحرب نظرا إلى مصالح دنيوية وقد يريد الفرار لاستيلاء الرعب والخوف ﴿ ذلك ﴾ التشتت ﴿ بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ الحق من الباطل ولا يتدبرون ولا يفهمون أن هذا الرعب إنما استولى عليهم لكفرهم ومحاربتهم بالنبي المحق صلى الله عليه وسلم.
﴿ كمثل الذين من قبلهم ﴾ يعني مثلهم أي بني النضير كمثل الذين من قبلهم ﴿ قريبا ﴾ يعني أهل بدر من مشركي مكة كذا قال مجاهد وقال ابن عباس يعني ببني قينقاع من اليهود هم قوم عبد الله ابن سلام كانوا حلفاء عبد الله ابن أبي سلول أو عبادة ابن الصامت وغيرهما من قومهما وكانوا أشجع يهود وكانوا صاغة ﴿ ذاقوا وبال أمرهم ﴾ يعني سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وذلك أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا وادعته اليهود كلها كتب بينه وبينهم كتابا وألحق كل قوم بحلفائهم وجعل بينه وبينهم أمانا وشرط علهم شروطا منهما أن لا يظاهروا عليه عدوا، فلما كانت يوم بدر كانت قينقاع أول يهود ونقضوا العهد وأظهروا البغي والحسد، فبينما هم على ما هم عليه من إظهار عداوة ونبذ العهد قدمت امرأة من العرب يحلب لها فباعت بسوق بني قينقاع وجلست إلى صايغ بها لحلي فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فلم تفعل فعمد الصانع إلى طرف ثوبها من ورائها فحله بشوكة وهي لا تشعر فلما قامت بدت عورتها فضحكوا منها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديا وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ونبذوا العهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود وغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع وأنزل الله سبحانه :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ﴾، فقال صلى الله عليه وسلم إنما أخاف من بني قينقاع فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية حمل لواءه حمزة ابن عبد المطلب واستخلف على الدينة أبا لبابة فتحصنوا فحاصرهم أشد الحصار، فقاموا على ذلك خمسة عشرة ليلة حتى قذف الله في قلوبهم الرعب فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن للرسول صلى الله عليه وسلم أموالهم وأن لهم النساء والذرية فكنفوا واستعمل على كنافهم المنذر ابن قوامة السلمي ومشي عبادة ابن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله أنوي الله ورسوله وابرأ من حلف هؤلاء الكفار فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، وقال يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أرسلني وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا بوجهه ظللا قال ويحك أرسلني قال والله لا أرسلك حتى تحسن إلي في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة درع قد صغرني من الأحمر والأسود ونحصدهم في الغداة واحدة إني والله امرئ أخشى الدوائر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خلوهم لعنهم الله ولعن من معهم وتركهم من القتل وأمرهم أن يجلوا من المدينة فخرجوا بعد ثلاث وولي إخراجهم منها عبادة ابن الصامت وقال محمد ابن مسلمة فجعلوا بأذرعات وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاثة نسع ودرعين وثلاثة رماح وثلاثة أسياف ووجد في منازلهم سلاحا كثيرا وآلة الصناعة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صيغة والخمس وقسم أربعة أخماسه على أصحاب فكان أول خمس بعد بدر وكان هذه الواقعة يوم السبت لنصف من شوال سنة ٢ه على رأس عشرين شهرا من مهاجرته صلى الله عليه وسلم ونزل في عبادة ابن الصامت وعبد الله ابن أبي سلول ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ﴾ آيات من سورة المائدة إلى قوله ﴿ هم الغالبون ﴾١ الآية وقد ذكرنا في المائدة ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ في الآخرة يعني لا ينقصى عذابهم في الآخرة بما أصابهم وبال أمرهم في الدنيا
١ سورة المائدة الآية: ٥١ ـ ٥٦.
﴿ كمثل الشيطان ﴾ أي مثل المنافقين عبد الله ابن أبي سلول وأشباهه في اغترار اليهود على القتال كمثل الشيطان، ﴿ إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك ﴾ قال البغوي روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال كان راهب في الفترة يقال له برصيصا يعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة وأن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال ألا أجد أحدا يكفيني أمرا برصيصا فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس على وجه الوحي فدفعه جبرائيل إلى أقصى أرض الهند فقال الأبيض لإبليس أنا أكفيك فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه وكان لا ينفتل من صلاته إلا في عشرة أيام ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لم يجبه فقال له إنك ناديتني وكنت مشتغلا عنك فما حاجتك ؟ قال حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأتوب بك وأقتبس من علمك وعملك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك فقال برصيصا إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنا فإن الله سيجعل لك فيما أدعوا للمؤمنين نصيبا إن استجاب لي ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما بعدها فلما انفتل رآه قائما يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده قال ما حاجتك ؟ قال حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام معه حولا يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوما ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يوما مرة وربما مدة إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا إني منطلق فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك اجتهادا مما أرى وكان بلغنا عنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته للذي رأى منه شدة اجتهاده فلما ودعه قال له الأبيض إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه يشفي الله به السقيم ويعافي به المبتلي والمجنون قال برصيصا أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلا إني أخاف إن علم به الناس شغلوني عن العبادة فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال قد والله أهلكت الرجل قال فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقته ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن لصاحبكم جنونا أفأعالجه ؟ قالوا نعم فقال لهم إني لا أقوى على جنتيه ولكن أرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه انطلقوا إلى برصيصا قال عنده الاسم الأعظم الذي إذا دعا به أجاب فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان فكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيعافون وانطلق الأبيض إلى جارية من بنات ملوك بني إسرائيل بين ثلاثة أخوة وكان أبوهم ملكهم فمات واستخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل فجاء الأبيض إلى تلك الجارية فعذبها وخنقها ثم جاء إليهم في صورة متطيب فقال لهم أتريدون أن أعالجها قالوا نعم قال إن الذي عرض لها ما ورد ولا يطلق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده إذا جاء شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردونها صحيحة قالوا ومن هو قال برصيصا الزاهد قالوا وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنا من هذا قال ابنوا صومعة إلى جنب صومعته حتى تشرفوا عليه فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعة ثم قولوا هي أمانة عندك فاحتسب فيها قال انطلقوا إليه فسألوه فأبى عليهم فبنوا صومعة على ما أمرهم به الأبيض فوضعوا الجارية في صومعة فقالوا هذه أختنا هذه أمانة فاحتسب فيها ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا من صلاته رأى الجارية وما بها من جمال فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم فجاءها شيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب الشيطان ثم أقبل على صلاته ثم جاءها فخنقها وكانت تكشف عن نفسها فجاء الشيطان وقال واقعها فستتوب بعد ذلك والله تعالى غفار الذنوب والخطايا فتدرك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت فظهر حملها، فقال له الشيطان ويحك قد افتضحت يا برصيصا فهل لك أن تقتلها وتتوب فأن سألوك فقل ذهب بها شيطانها فلم أقدر عليه فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها فبقي طرفه خارجها من التراب ثم رجع برصيصا إلى صومعة فأقبل على صلاته إذا جاءه إخوتها يتعادون أختهم وكانوا يجيئون في فرط يسألون عنها ويوصونه بها فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا قال قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه فصدقوه فأنصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال ويحك إن برصيصا قد فعل بأختك كذا وكذا وإنه دفنها في موضع كذا فقال الأخ في نفسه هذا حلم وهو من عمل الشيطان فإن برصيصا خير من ذلك قال فتتابع عليه ثلاث ليال مرات ليلا فلم يكترث فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال الأوسيط مثل ما قال الأكبر فلم يخبر به أحدا فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال أصغرهم لأخويه والله لقد رأيت كذا وكذا وقال الأوسط وأنا والله قد رأيت مثله. . . فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا قال أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم تتهموني فقالوا والله ما نتهمك واستحيوا منه فانصرفوا فجاءهم الشيطان، وقال ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وإن طرف خارج من التراب فانطلقوا فرأوا أختهم على ما أرادوا في النوم فمشوا في مواليهم وغلمانهم معهم الفؤوس والمساحي، فهدموا صومعته فأنزلوه ثم كتفوه فانطلقوا به إلى الملك فأقر على نفسه وذلك أن الشيطان أتاه فقال تقتلها ثم تكابر يجتمع عليه أمران قتل ومكابرة اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشية فلما صلب أتاه الأبيض قال يا برصيصا أتعرفني قال لا قال أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فأستجيب لك ويحك ما اتقيت الله في أمانتك خنت أهلها فإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل أما استحيين فلم يزل يعيره ثم قال في آخر ذلك ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت أشباهك من الناس فإن مت على هذه الحالة فلم يفلح أحد من نظرائك قال فكيف أصنع ؟ قال تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك ما أنت فيه فآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك قال وما هي ؟ قال تسجد لي قال أفعل فسجد له فقال يا برصيصا هذا الذي أردت منك صار عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني بريء منك ﴿ إني أخاف الله رب العالمين ﴾ إنما قال ذلك رياء وإلا فالخشية من الله تعالى لم يخلق في الشياطين وقيل المراد بالإنسان الجنس ويقول الشيطان أكفر إغارءه على الكفر إغراء الأمر المأمور وقوله إني بريء بقوله في الآخرة مخافة أن يشاركه في العذاب وينفعه ذلك نظيره قوله تعالى :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ﴾ ١ وقيل المراد بالإنسان أبو جهل قال له إبليس يوم بدر :﴿ لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عاقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله ﴾ ٢ يعني من الهلاك في الدنيا.
١ سورة إبراهيم الآية: ٢٢.
٢ سورة الأنفال الآية: ٤٨.
﴿ فكان عاقبتهما ﴾ أي الإنسان والشيطان ﴿ أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاؤا الظالمين ﴾.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ﴾ أي نفس كل أحدكم ﴿ ما قدمت ﴾ يعني أي شيء قدمت من عمل صالح ينجيه أو سيء يوبقه فينزع عنه ويستغفر منه ﴿ لغد ﴾ أي ليوم القيامة سماه غدا لنوه أو لأن الدنيا كيوم واحد والآخرة غد في الحديث ﴿ الدنيا يوم ولنا فيها صوم ﴾، ﴿ واتقوا الله ﴾ تكرير للتأكيد أو الأول لأداء الواجبات والثاني لترك المحارم لاقترانه لقوله :﴿ إن الله خبير بما تعملون ﴾ وهو كالوعيد على المعاصي.
﴿ ولا تكونوا كالذين نسوا الله ﴾ فلا يبالون بإتيان مناهيه وترك أوامره ﴿ فأنساهم أنفسهم ﴾ أي حظوظ أنفسهم حتى لم يقدموا لها خيرا وأراهم يوم القيامة من الهول وأنساهم أنفسهم ﴿ وأولئك هم الفاسقون ﴾ الكاملون في الفسق.
﴿ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ﴾ أي الذين استمهنوا أنفسهم فاستحقوا النار الذين استكملوا أنفسهم فاستحقوا الجنة، استدل الشافعية بهذه الآية أن المسلم لا يقتل بالكافر قصاصا وليس شيء فإن المراد عدم مساواتهم في الآخرة حيث قال الله تعالى ﴿ أصحاب الجنة هم الفائزون ﴾ بالنعيم المقيم.
﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ﴾ قيل هذا تمثل وتخييل يعني لو جعل في الجبل تميزا وأنزل عليه القرآن تخشع وتشقق وتصدع من خشية الله مع صربته ورزانته حذرا من أن لا يؤدي حق الله عز وجل في تعظيم القرآن والكافر يعرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها وجاز أن يقال أن الجمادات إن كانت في الظاهر عديمات الشعور لكنها بالنسبة إلى خالقها ذات شعور وخشية قال الله تعالى :﴿ وإن منها لما يهبط من خشية الله ﴾١ وقال النبي صلى الله عليه وسلم :( الجبل ينادي الجبل أي فلان جبل هل مر بك أحد يذكر الله فإذا قال نعم استبشر ) ٢ الحديث ﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾ في الآية توبيخ على عدم تفكر الإنسان وتدبره وعدم تخشعه عند تلاوة القرآن لقساوة قلبه.
١ سورة البقرة الآية: ٧٤.
٢ رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح انظر مجمع الزوائد في كتاب الأذكار باب في البقاع التي يذكر الله تعالى عليها ﴿١٦٧٨٣﴾}.
﴿ هو الله الذي لا إلاه إلا هو عالم الغيب والشهادة ﴾ قد بسطنا الكلام في تفسير الغيب والشهادة في سورة الجن في تفسيره قوله تعالى :﴿ فلا يظهر على غيبه أحدا ٢٦ إلا من ارتضى من رسول ﴾ ١ ﴿ هو الرحمان الرحيم ﴾.
١ سورة الجن: الآية ٢٦ـ ٢٧.
﴿ هو الله الذي لا إلاه إلا هو الملك القدوس ﴾ الظاهر من كل عيب البليغ في النزاهة عما لا يليق به، ﴿ السلام ﴾ ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة، ﴿ المؤمن ﴾ قال ابن عباس الذي آمن الناس من ظلم وآمن من آمن به من عذاب فهو من الأمان ضد التخويف، وقيل معناه الصدق لرسله باظهار المعجزات، ﴿ المهيمن ﴾ الشهيد على عباده بأعمالهم يقال همن يهمن إذا كان رقيبا على الشيء كذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل كذا قال في القاموس حيث قال همن على كذا إذا صار رقيبا حافظا، وكذا قال الخليل وقيل أصله ما من الأمن قلبت همزة الثانية ياء أو الأولى هاء ومعناه المؤمن كذا قال ابن زيدان معناه المصدق، وقال سعيد ابن المسيب والضحاك وابن كيسان هو اسم من أسماء الله تعالى في الكتب السماوية الله تعالى أعلم بتأويله، ﴿ العزيز الجبار ﴾ قال ابن عباس هو العظيم وجبروت الله عظيمه فهو صفة ذات وقيل هو من الجبر بمعنى الإصلاح يقال جبرت الأمر وجبرت العظم إذا أصلحته بعد الكسر فهو يغني الفقير ويصلح الكسر في الحديث ( جابر العظم الكسير ) وقال السدي ومقاتل هو الذي يقهر الناس ويجبر على أراد سئل بعضهم عن معنى الجبار قال هو القهار الذي إذا أراد أمرا فعل لا يقدر أحد على أن يحجره، ﴿ المتكبر ﴾ التفعل للمبالغة والكبر والكبرياء الامتناع فهو الممتنع عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا وقيل المتكبر المتعظم، وقيل ذو الكبرياء وهو الملك، ﴿ سبحان الله عما يشركون ﴾ إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك.
﴿ هو الله الخالق ﴾ المقدر للأشياء كما قال يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا خلقا من بعد خلق وفي القاموس المبدأ الشيء المخترع على غير مثال سبق، ﴿ البارئ ﴾ الموجود للأشياء بريا من التفاوت في القاموس برأ الله الحق كجعل برءا وبرؤوا خلقهم، ﴿ المصور ﴾ قال البغوي المماثل للمخلوق بالعلامات التي يتميز بها بعضها عن بعض يقال هذه صورة الأمر أي مثاله فأولا يكون خلقا ثم برأ ثم تصويرا وفي الصحاح ما يتنقش به الأعيان ويتميز بها عن غيرها وذلك ضربان : أحدهما محسوس يدركه الخاصة والعامة بل يدركه الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الإنسان والفرس والجهاد بالمعاينة قلت : ومنه ما امتاز به زيد من عمرو، الثاني معقول يدركه الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص بها الإنسان من الفعل والمعاني التي خص به شيء دون شيء وإلى الصورتين أشار الله تعالى بقوله :﴿ خلقناكم ثم صورناكم ﴾١ وقال :﴿ وصوركم فأحسن صوركم ﴾ ٢ وقال :﴿ في أي صورة ما شاء ركبك ٨ ﴾ ٣ وقال ﴿ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ﴾ ٤ وقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله تعالى خلق آدم على صورته )٥ فالصورة أراد بها ما خص الإنسان به من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة وبها فضله على كثير من الخلق وإضافة إلى الله على سبيل الملك لا على سبيل البعضية والتشبيه تعالى عن ذلك وذلك على سبيل التشريف كقوله بيت الله وناقة الله، قلت : ويمكن أن يراد به خلقه تعالى على صفاته من العلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك التي بها لبس خلقه الخلافة وامتاز به عما عداه وأحتمل ثقل الأمانة وجاز أن يكون ضمير صورته راجعا إلى آدم. ويعني خلقه على صورة لم يعط أحدا غيره والله تعالى أعلم ﴿ له ﴾ تعالى :﴿ الأسماء الحسنى ﴾ الدالة على محاسن الصفات والمعاني ﴿ يسبح له ما في السموات والأرض ﴾ لتنزهه عن النقائص كلها، ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ الجامع للكمالات كلها فإنها راجعة إلى الكمالات في القدرة والعلم، عن المعقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى ويمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا من قال حين يمسي كان بتلك المنزلة )٦ رواه الترمذي وقال حديث غريب وعن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من قرأ خواتيم الحشر من ليلة أو نهار فقبض في ذلك اليوم فقد أوجب الجنة ) رواه ابن عدي والبيهقي وسنده ضعيف.
١ سورة الأعراف الآية: ١١.
٢ سورة التغابن الآية: ٣.
٣ سورة الإنفطار الآية: ٨.
٤ سورة آل عمران الآية: ٦.
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان باب: بدء السلام ﴿٦٢٢٧﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب باب: النهي عن ضرب الوجه ٢٦١٢}.
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل القرآن ﴿٢٩٢٢﴾}.
Icon