تفسير سورة المعارج

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة المعارج من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿المعارج﴾ المصاعد والمدارج التي يرتقي بها الإِنسان جمع معرج وهو المصعد، والعروج الارتفاع إِلى السماء ومنه معراج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿المهل﴾ النحاس المذاب ﴿العهن﴾ الصوف المنفوش ﴿فَصِيلَتِهِ﴾ الفصيلة: العشيرة الذي فصل عنهم وتولد منهم ﴿لظى﴾ اسم لجهنم سميت بذلك لأن نيرانها تتلظى أي تلتهب ﴿الشوى﴾ جمع شواة وهي جلدة الرأس قال الأعشى:
418
قالت قتيلة ماله... قد جللت شيباً شواته؟
﴿هَلُوعاً﴾ كثير الجزع والضجر، قال أبو عبيدة: الهلوع هو الذي اذا مسَّه الخير لم يشكر، وإِذا مسَّه الضر لم يصبر ﴿عِزِينَ﴾ جماعات متفرقين جمع عزة وهي الجماعة المتفرقة قال الشاعر:
فجاءوا يَهْرعون إِليه حتى... يكونوا حول منبره عزينا
﴿يُوفِضُونَ﴾ يسرعون يقال: أوفض البعير اذا أسرع السير.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس أن النضر بن الحارث قال حين خوَّفهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من عذاب الله ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء﴾ [الأنفال: ٣٢] فأنزل الله ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾.
التفسِيْر: ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ أي دعا داعٍ من كفار مكة لنفسه ولقومه عذاب واقع لا محالة قال المفسرون: السائل هو «النضر بن الحارث» من صناديد قريش وطواغيتها، لمَّا خوفهم رسول الله عذاب الله قال ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢] فأهلكه الله يوم بدر، ومات شرب ميتة، ونزلت الآية بذمه ﴿لِّلْكَافِرِينَ﴾ أي دعا بهذا العذاب على الكفارين ﴿لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ أي لا رادَّ له إِذا أراد الله وقوعه، وهو نازل به لا محالة، سواءً طلبوه أو لم يطلبوه، وإِذا نزل العذاب فلن يرفع أو يُدفع ﴿مِّنَ الله ذِي المعارج﴾ أي هو صادر من الله العظيم الجليل، صاحب المصاعد التي تصعد بها الملائكة، وتنزل بأمره ووحيه، ثم فصَّل ذلك بقوله ﴿تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ﴾ أي تصعد الملائكة الأبرار وجبريل الأمين الذي خصه الله بالوحي الى الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ أي في يومٍ طوله خمسون ألف سنة من سني الدنيا قال ابن عباس: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يدخلون النار للاستقرار قال المفسرون: الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في سورة السجدة ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [السجدة: ٥] أن القايمة مواقف ومواطن، فيها خمسون موطناً كل موطن ألف سنة، وأن هذه المدة الطويلة تخف على المؤمن حتى تكون أخفَّ عليه من صلاة مكتوبة ﴿فاصبر صَبْراً جَمِيلاً﴾ أي فاصبر يا محمد على استهزاء قومك وأذاهم ولا تضجر، فإِن الله ناصرك عليهم، وهذا تسليةٌ له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، لأن استعجال العذاب إِنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمره الله بالصبر قال القرطبي:: والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه، ولا شكوى لغير الله ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً﴾ أي إن هؤلاء المستهزئين يستبعدون العذاب ويعتقدون أنه
419
غير نازل، لإِنكارهم للبعث والحساب ﴿وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾ أي ونحن نراه قريباً لأن كل ما هو آتٍ قريب.
. ثم أخبر تعالى عن هول العذاب وشدته وعن أهوال يوم القيامة فقال ﴿يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل﴾ أي تكون السماء سائلة غير متماسكة، كالرصاص المذاب قال ابن عباس: كدردي الزيت أي كعكر الزيت ﴿وَتَكُونُ الجبال كالعهن﴾ أي وتكون الجبال متناثرة متطايرة، كالصوف المنفوش إِذا طيَّرته الريح قال القرطبي: العهن الصوف الأحمر أو ذو الألوان، شبَّه الجبال به في تلونها ألواناً، وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً، ثم عهناً منفوشاً، ثم هباءً منثوراً.. هذه حال السماء والأرض في ذلك اليوم المفزع، أما حال الخلائق فهي كما قال تعالى ﴿وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً﴾ أي لا يسأل صديق صديقه، ولا قريب قريبه عن شأنه، لشغل كل إِنسانٍ بنفسه، وذلك لشدة ما يحيط بهم من الهول والفزع ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ أي يرونهم ويعرفونهم، حتى يرى الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته، فلا يسأله ولا يكلمه بل يفر منه كقوله تعالى ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٤٣٧] قال ابن عباس: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ أي يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون بينهم، ثم يفرُّ بعضهم من بعض ﴿يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ﴾ أي يتمنى الكافر مرتكب جريمة الجحود والتكذيب لو يفدي نفسه من عذاب الله، بأعز من كان عليه في الدنيا من ابنٍ، وزوجةٍ، وأخٍ ﴿وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ﴾ أي وعشيرته التي كانت تضمه إِليها، ويتكل في نوائبه عليها، وليس هذا فحسب بل يتمنى لو يفتدي بجميع أهل الأرض ﴿وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ﴾ أي وبجميع من في الأرض من البشر وغيرهم ثم ينجو من عذاب الله، ولكن هيهات أن ينجو المجرم من العذاب، أو ينقذه ذلك من شدة الكرب، وفادح الخطب، قال الإِمام الفخر: ﴿ثُمَّ﴾ لاستبعاد الإِنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده، وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه ﴿كَلاَّ إِنَّهَا لظى﴾ ﴿كَلاَّ﴾ أداة زجر وتعنيف أي لينزجر هذا الكافر الأثيم وليرتدع عن هذه الأماني، فليس ينجيه من عذاب الله فداء، بل أمامه جهنم، تتلظَّى نيرانها وتلتهب ﴿نَزَّاعَةً للشوى﴾ أي تنزعٍ بشدة حرها جلدة الرأس من الإِنسان كلما قلعت عادت كما كانت زيادة في التنكيل والعذاب، وخصَّها بالذكر لأنها أشد الجسم حساسيةً وتأثيراً بالنار ﴿تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى﴾ أي تنادي جهنم وتهتف بمن كذب بالرحمن، وأعرض عن الإِيمان، قال بان عباس: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح تقول: إِليَّ يا كافر، إِليَّ يا منافق، ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب ﴿وَجَمَعَ فأوعى﴾ أي وتدعو من جمع المال وخبأه وكنزه في الخزائن والصناديق، ولم يؤد منه حقَّ الله وحق المساكين قال المفسرون: والآية وعيدٌ شديد لمن يبخل بالمال، ويحرص على جمعه، فلا ينفقه في سبيل الخير، ولا يخرج منه حقك الله
420
حقَّ المسكين، وقد كان الحسن البصري يقول: يا ابن آدم سمعتَ وعيدَ الله ثم أوعيت الدنيا جمعتها من حلالٍ وحرام!! ثم أخبر تعالى عن طبيعة الإِنسان، وما جبل عليه من الحرص الشديد على جمع حطام الدنيا فقال ﴿إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً﴾ أي إِن الإِنسان جبل على الضجر، لا يصبر على بلاء، ولا يشكر على نعماء قال المفسرون: الهلع: شدة الحرص وقلة الصبر، يقال: جاع فهلع، والمراد بالإِنسان العموم بدليل الاستثناء، والاستثناء معيار العموم، ثم فسَّره تعالى بقوله ﴿إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً﴾ أي إِذا نزل به مكروه من فقر، أو مرضٍ، أو خوف، كان مبالغاً في الجزع مكثراً منه، واستولى عليه اليأس والقنوط ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً﴾ أي وإِذا أصابه خيرٌ من غنى، وصحة وسعة رزق كان مبالغاً في المنع والإِمساك، فهو إِذا أصابه الفقر لم يصبر، وإِذا أغناه الله لم ينفق قال ابن كيسان: خلق الله الإِنسان يحب ما يسره، ويهرب مما يكرهه، ثم تعبَّده بإِنفاق ما يحب والصبر على ما يكره ﴿إِلاَّ المصلين﴾ استثناهم من أفراد البشر الموصوفين بالهلع، لأن صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا، فلا يجزعون من شرها ولا يبخلون بخيرها ﴿الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ﴾ أي مواظبون على أداء الصلاة، لا يشغلهم عنها شاغل، لأن نفوسهم صفت من أكدار الحياة، بتعرضهم لنفحات الله ﴿والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ﴾ أي في أموالهم نصيبٌ معيَّن فرضه الله عليهم وهو الزكاة ﴿لِّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ أي للفقير الذي يسأل وتكيفف الناس، والمحروم الذي يتعفف عن السؤال، فيُظن أنه غنيٌ فيحرم كقوله تعالى
﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف﴾ [البقرة: ٢٧٣] ﴿والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين﴾ أي يؤمنون بيوم الحساب والجزاء، ويصدِّقون بمجيئه تصديقاً جازماً لا يشوبه شك أو ارتياب، فيستعدون له بالأعمال الصالحة ﴿والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ أي خائفون على أنفسهم من عذا بالله، يرجون الثواب ويخافون العقاب ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾ أي لأن عذاب الله لا ينبغي أن يأمنه، إِنسان، إِلاَّ من آمنَّه الرحمن والأمور بخواتيمها.. إِنَّ هؤلاء المصدقين المشفقين قلَّما تزدهيهم الدنيا، أو يبطرهم نعيمها، أو يجزعون على ما فاتهم من حطامها، فسواءٌ عليهم أخسروا حظوظ الدنيا أم غنموا، إِذ أن لديهم من الكفر في جلال ربهم، وذكر معادهم، ما يشغلهم عن الجزع إِذا مسَّهم الشر، ويربأ بهم عن المنع إِذا مسهم الخير، ثم ذكر تعالى الفريق الخامس من الموفقين للخيرات وفعل الطاعات فقال ﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ أي أعفاء لا يرتكبون المحارم، ولا يتلوثون بالمآثم، قد صانوا أنفسهم عن الزنى والفواحش ﴿إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ أي يقتصرون على ما أحلَّ الله لهم من الزوجات المنكوحات، والرقيقات المملوكات ﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ أي فإِنهم غير مؤاخذين لأن وضع الشهوة فيما أباح الله من الزوجات والمملوكات، حلالٌ يؤجر عليه الإِنسان، لما فيه من تكثير النسل والذرية ﴿فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون﴾ أي فمن طلب لقضاء شهوته غير الزوجات والمملوكات، فقد تعدَّى حدود الله وعرَّض نفسه لعذاب الله قال الطبري: من التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته أو ملك يمينه، ففاعلوا ذلك هم العادون، الذين تعدوا حدود ما أحل الله لهم، إِلى ما
421
حرَّمه عليهم، فهم الملومون ﴿والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ أي يؤدون الأمانات، ويحفظون العهود، فإِذا ائتمنوا لم يخونوا، وإِذا عاهدوا لم يغدروا ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ﴾ أي يشهدون بالحق على القريب والبعيد، ولا يكتمون الشهادة ولا يغيرونها، بل يؤدونها على وجهها الكامل، بحيث تصان بها حقوق الناس ومصالحه، وخصَّها بالذكر مع اندراجها في الأمانات، تنبيهاً على فضلها لأن في إِقامتها إِحياء للحقوق، وفي تركها تضييع للحقوق ﴿وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ هذا هو الوصف الثامن من أوصاف المؤمنين الذين وفقهم الله إِلى تطهير نفوسهم من خلق الهلع المذموم أي يراعون شرائط الصلاة ويلتزمون آدابها، ولا سيما الخشوع والتدبر ومراقبة الله فيها، وإِلاَّ كانت حركات صورية لا يجني البعد ثمرتها، فإِن فائدة الصلاة أن تكف عن المحارم
﴿إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر﴾ [العنكبوت: ٤٥] ولما كانت الصلاة عمود الإِسلام بولغ في التوكيد فيها، فذكرت في أول الخصال الحميدة وفي آخرها، ليعلم مرتبتها في الأركان التي بني عليها الإِسلام، قال القرطبي: ذكر تعالى من أوصافهم في البدء ﴿الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ﴾ ثم قال في الختم ﴿وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ والدوام غير المحافظة، فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها، لا يخلون بها ولا يشتغلون عها بشيءٍ من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إِسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها وآدابها، ويحفوظها من الإِحباط باقتراف المآثم، فالدوام يرجع الى نفس الصلوات، والمحافظة ترجع الى أحوانها، وبعد أن ذكر تعالى أوصاف المؤمنين المتقين، ذكر مآلهم وعاقبتهم فقال ﴿أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾ أي أولئك المتصفون بتلك الأوصاف الجليلة، والمناقب الرفيعمة، مستقرون في جنات النعيم، التي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات، مع الإِنعام والتكريم بأنواع الملاذ والمشتهيات، لا تصافهم بمكارم الأخلاق ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ﴾ ؟ أي ما لهؤلاء الكفرة المجرمين، مسرعين نحوك يا محمد، ما دين أعناقهم إِليك، م مقبلين بأبصارهم عليك؟ قال المفسرون: كان المشركون يجتمعون حول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حلقاً حلقاً، يسمعون كلامه ويستهزئون به وبأصحابه، ويقولون: إِن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محد فلندخلنها قبلهم فنزلت الآية ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ﴾ أي جالسين عن يمينك وعن شمالك فرقاً فرقاً، وجماعات جماعاتٍ يتحدثون ويتعجبون؟ قال أبو عبيدة: عزين أي جماعات جماعات في تفرقة ومنه «مالي أراكم عزين؟ ألا تصفون كما تصفُّ الملائكة عند ربها» ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ استفهام إِنكاري مع التقريع والتوبيخ أي أيطمع كل واحد من هؤلاء الكفار، أن يدخله الله جنات النعيم، وقد كذب خاتم
422
المرسلين؟ ﴿كَلاَّ﴾ ردع وزجر أي ليس الأمر كما يطمعون، فإِنهم لا يدخلونها أبداً ثم قال ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ﴾ أي خلقناهم من الأشياء المستقذرة، من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، فمن أين يتشرفون بدخول جنات النعيم قبل المؤمنين، وليس لهم فضل يستوجبون به دخول الجنة؟ وإِنما يستوجب دخول الجنة من أطاع الله قال القرطبي: كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم فقال تعالى ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ﴾ أي من القذر فلا يليق بهم هذا التكبر ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب﴾ أي فأقسم برب مشارق الشمر والقمر والكواكب ومغاربها ﴿إِنَّا لَقَادِرُونَ على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ﴾ أي قادرون على إهلاكهم، واستدالهم بقومٍ أفضل منهم وأطوع لله ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ أي ولسنا بعاجزين عن ذلك ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ﴾ أي اتركهم يا محمد يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم، واشتغل أنت بما أُمرت به، وهو أمرٌ على جهة الوعيد والتهديد للمشركين ﴿حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ﴾ أي حتى يلاقوا ذلك اليوم العصيب الرهيب، الذي لا ينفعهم فيه توبة ولا ندم ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً﴾ ويخرجون من القبور إِلى أرض المحشر مسرعين ﴿كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ أي كأنهم يسعون ويستبقون إِلى أصنامهم التي نصبوها ليعبدوها، شبَّه حالة إِسراعهم إِلى موقف الحساب، بحالة إسراعهم وتسابقهم في الدنيا، الى آلهتهم وطواغيتهم، وفي هذا التشبيه تهكم بهم، وتعريض بسخافة عقولهم، إِذ عبدوا ما لا يستحق العبادة، وتركوا عبادة الواحد الأحد ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ أي خاضعة منكسرة أبصارهم إِلى الأرض لا يرفعونها خجلاً من الله ﴿تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ أي يغشاهم الذل والهوان من كل مكان، وعلى وجوههم آثار الذلة والانكسار ﴿ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾ أي هذا هو اليوم الذي وعدوا به في الدنيا وكانوا يهزءون ويكذبون، فاليوم يرون عقابهم وجزائهم!!
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين ﴿بَعِيداً.
. قَرِيباً﴾
وبين ﴿اليمين.. والشمال﴾ وبين ﴿المشارق والمغارب﴾.
٢ - جناس الاشتقاق ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ﴾ وكذلك ﴿تَعْرُجُ المعارج﴾.
٣ - ذكر الخاص بعد العام تنبيهاً لفضله وتشريفاً له ﴿تَعْرُجُ الملائكة والروح﴾ الورح هو جبريل.
٤ - التشبيه المرسل المجمل ﴿يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل وَتَكُونُ الجبال كالعهن﴾ لحذف وجه الشبه.
٥ - ذكر العام بعد الخاص ﴿لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ.. وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً﴾ جاء بالعموم بعد الخصوص لبيان هو الموقف.
٦ - المقابلة اللطيفة ﴿إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً﴾ قابله بقوله ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً﴾.
٧ - الاستفهام الإِنكاري للتقريع والتوبيخ ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ ؟
٨ -
423
الكناية الفائقة الرائقة ﴿كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ﴾ كناية عن المني القذر، مع النزاهة التامة في التعبير، وحسن الإِيقاظ والتذكير، بألطف عبارة وأبلغ إِشارة.
٩ - التشبيه المرسل المجمل ﴿كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ وفي تشبيههم بذلك تهكم بهم، وتعريض بسخافة عقولهم، وتسجيل عليهم بالجهل المشين بالإِسراع في عبادة غير من يستحق العبادة،
١٠ - السجع المرصَّع كأنه الدر والياقوت مثل ﴿كَلاَّ إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً للشوى تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى﴾ الخ.
تنبيه: نبَّه تعالى بقوله ﴿إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً﴾ الآيات إِلى طبائع البشر، فبيَّن أنَّ الإِنسان يتسرع إِلى مشتهاه، اتباعاً لهواه، وأنه مفرط في الهلع والجزع، فإِن مسه خير شحت به نفسه، وإِن نزل به شر اشتد له قلقه، ثم استنثى من ذلك الخلق الذميم أصنافاً من البشر، وهم الذين جمعوا مع الإِيمان صالح الأعمال.
424
Icon