تفسير سورة الفتح

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وستون كلمة وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا.
﴿ بسم الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلما ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم خلقه بنعمه ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل وداده بمزيد فضله روى زيد بن أسلم عن أبيه أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه. ثم سأله فلم يجبه قال عمر فحركت بعيري حتى تقدّمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل فيّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال :«لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ ».

﴿ إنا فتحنا لك ﴾ أي : بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال ﴿ فتحناً مبينا ﴾ أي : لا لبس فيه على أحد. واختلفوا في هذا الفتح فروى عن أنس أنه فتح مكة. وقال مجاهد : فتح خيبر. والأكثرون على أنه صلح الحديبية. قال أنس : نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ إنا فتحنا لك ﴾ إلى آخر الآية عند مرجعه من الحديبية وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة فقال :«نزلت علي آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعها » فلما تلاها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم هنيأً مريئاً قد بين الله لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله تعالى :﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار ﴾ [ الفتح : ٥ ] حتى ختم الآية. وقيل : فتح الروم. وقيل : فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسيف واللسان. وقيل : الفتح الحكم لقوله تعالى ﴿ فافتح بيننا وبين قومنا بالحق ﴾ [ سورة الأعراف : ٨٩ ] وقوله تعالى ﴿ ثم يفتح بيننا بالحق ﴾ [ سورة سبأ : ٢٦ ] فمن قال هو فتح مكة قال لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه أحدها أنه تعالى لما قال ﴿ ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ﴾ [ محمد : ٣٨ ] إلى أن قال ﴿ ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ﴾ [ محمد : ٣٨ ] بين تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم.
ثانيها : لما قال تعالى :﴿ والله معكم ﴾ [ محمد : ٣٥ ] وقال تعالى ﴿ وأنتم الأعلون ﴾ [ محمد : ٣٥ ] بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون. ثالثها لما قال تعالى ﴿ فلا تنهوا وتدعوا إلى السلم ﴾ [ محمد : ٣٥ ] وكان معناه لا تسألوا الصلح بل اصبروا فإنكم تسألوا الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين فإن قيل : إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت. فكيف قال تعالى :﴿ فتحنا ﴾ بلفظ الماضي أجيب من وجهين : أحدهما فتحنا في حكمنا وتقديرنا.
ثانيهما : ما قدّره الله تعالى فهو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر واقع لا دافع له. وأمّا حجة قول الأكثرين على أنه صلح الحديبية فلما روى البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناء فتوضأ ثم تمضمض ودعا وصبه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه » وقيل : جاش حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد وقال الشعبي في قوله تعالى :﴿ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ﴾ قال فتح الحديبية غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر واطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. قال الزهري : ولم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية. وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر سواد الإسلام. وقال البغوى :﴿ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ﴾ أي : قضينا لك قضاءً مبيناً. وقال الضحاك : أي بغير مال وكان الصلح من الفتح.
واختلف قول المفسرين في معنى اللام في قوله تعالى :﴿ ليغفر لك الله ﴾ أي : الملك الأعظم. فقال البيضاوي : علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك وتكميل النفوس الناقصة وقال البغوي : قيل : اللام لام كي معناه ﴿ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ﴾ لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح. وقال الجلال المحلي : اللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب. وقال بعضهم : إنها لام القسم. والأصل ليغفرن فكسرت اللام تشبيهاً بلام كي وحذفت النون وردّ هذا : بأنّ اللام لا تكسر وبأنها لا تنصب المضارع، قال ابن عادل : وقد يقال إنّ هذا ليس بنصب، وإنما هو بقاء الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بقي ليدل عليها ولكنه قول مردود. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة ؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قال يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوّك لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض الآجل والعاجل ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سبباً للمغفرة والثواب ا. ه قال ابن عادل : وهذا الذي قاله مخالف لظاهر الآية، فإنّ اللام داخلة على المغفرة فتكون المغفرة علة للفتح والفتح معلل بها فكان ينبغي أن يقول : كيف جعل فتح مكة معللاً بالمغفرة ثم يقول لم يجعل معللاً ا. ه وقيل غير ذلك والأسلم ما اقتصر عليه الجلال المحلي واختلف أيضاً في الذنب في قوله تعالى :﴿ ما تقدّم من ذنبك ﴾ فقال البقاعي : أيّ الذي تقدّم في القتال أمرك بالاستغفار له وهو ما تنتقل عنه من مقام كامل إلى مقام فوقه أكمل منه فتراه بالنسبة إلى أكملية المقام الثاني ذنباً. وكذا قوله تعالى :﴿ وما تأخر ﴾ وقال الرازي : المغفرة المعتبرة لها درجات كما أن الذنوب لها درجات حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وقال عطاء الخراساني :﴿ ما تقدّم من ذنبك ﴾ يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك ﴿ وما تأخر ﴾ ذنوب أمّتك بدعوتك. وقال سفيان الثوري :﴿ ما تقدّم ﴾ ما عملت في الجاهلية ﴿ وما تأخر ﴾ كل شيء لم تعمله. قال البغوي : ويذكر مثل ذلك على سبيل التأكيد، كما يقال أعطى من رآه ومن لم يره. وقيل : ما تقدّم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد.
وقيل : المراد به ترك الأفضل. وقيل : الصغائر على طريق من جوّز الصغائر على الأنبياء وقيل المراد بالمغفرة : العصمة ومعنى قوله تعالى :﴿ وما تأخر ﴾ قيل : إنه وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يذنب بعد النبوّة. وقيل : ما تقدم على الفتح وما تأخر عنه وقيل : المراد ذنب المؤمنين. وقيل : غير ذلك. والأولى في ذلك : هو الأوّل واختلف أيضاً في النعمة في قوله تعالى ﴿ ويتم نعمته عليك ﴾ فقال البقاعي : بنقلتك من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ومن عالم الكون والفساد إلى عالم الثبات والصلاح الذي هو أخص بحضرته وأولى برحمته وإظهار أصحابك من بعدك على جميع أهل الملل.
وقال البيضاوي : بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوّة. وقال الجلال المحلي : بالفتح المذكور. وقيل : إن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج وهو آخر التكاليف والتكليف نعمة. وقيل : بإجلاء الأرض لك عن معانديك فإنّ من يوم الفتح لم يبق للنبيّ صلى الله عليه وسلم عدو فإنّ بعضهم قتل يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح. وقيل ويتمّ نعمته عليك في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فباستجابة دعائك في طلب الفتح. وفي الآخرة بقبول شفاعتك. وقيل غير ذلك والأوّل أولى واختلف أيضاً في معنى الهداية في قوله تعالى :﴿ ويهديك صراطاً ﴾ أي : طريقاً ﴿ مستقيماً ﴾ أي : واضحاً جلياً. فقال البقاعي : أي بهداية جميع قومك.
ولما كانت هدايتهم من هدايته أضافها سبحانه إليه إعلاماً له أنها هداية تليق بجنابه الشريف سروراً له وقال البيضاوي : في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرياسة. وقيل : يهدي بك. وقيل : يديمك على الصراط المستقيم. وقيل : جعل الفتح سبب الهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بفوائده العاجلة والآجلة. وقيل : المراد التعريف، أي لتعرف أنك على صراط مستقيم.
﴿ وينصرك الله ﴾ أي : على ملوك الأمم نصراً يليق إسناده إلى اسمه المحيط بسائر العظم ﴿ نصراً عزيزاً ﴾ أي : يغلب المنصور به كل من ناوأه ولا يغلبه شيء مع دوامه فلا ذّل بعده لأنّ الأمّة التي تتصف به لا يظهر عليها أحد والدين الذي قضاه لأجله لا ينسخه شيء، فإن قيل : إنّ الله تعالى وصف النصر بكونه عزيزاً والعزيز من له النصر أجيب من وجهين :
أحدهما : قال الزمخشري : إنه يحتمل وجوهاً ثلاثة :
الأوّل : معناه نصراً ذا عزة كقولك في عيشة راضية أي ذات رضا ثانيها : وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال له : كلام صادق. كما يقال له متكلم صادق. ثالثها : المراد نصراً عزيزاً صاحبه.
الوجه الثاني : أن يقال إنما يلزم ما ذكره الزمخشري إذا قلنا العزة في الغلبة والعزيز الغالب، وأما إذا قلنا العزيز هو النفيس القليل النظير أو المحتاج إليه القليل الوجود يقال عز الشيء في سوق كذا أي قل وجوده مع أنه محتاج إليه فالنصر كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله تعالى من الكفار المقيمين فيه من غير عدد ولا عدد.
﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ الذي أنزل ﴾ أي : في يوم الحديبية وغيره ﴿ السكينة ﴾ أي : الثبات على الدين والطمأنينة ﴿ في قلوب المؤمنين ﴾ أي : الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بعد أن دهمهم فيها ما من شأنه أن يزعج النفوس ويزيغ القلوب من صدّ الكفار ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصودهم فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس وزلزلوا حتى عمر مع أنه فاروق ومع وصفه في الكتب السالفة بأنه قرن من حديد فما الظنّ بغيره، وكان عند الصديق من القدم الثابت والأصل الراسخ ما علم به أنه لم يسابق ثم ثبتهم الله تعالى أجمعين. وقال الرازي : السكينة الثقة بوعد الله والصبر على حكم الله. وقيل : السكينة هاهنا معنى يجمع فوزاً وقوة وروحاً يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين.
وأثر هذه السكينة غير السكينة الوقار والخشوع وظهور الحزم في الأمور ا. ه وقال أكثر المفسرين إن هذه السكينة غير السكينة المذكورة في قوله تعالى :﴿ يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم ﴾ [ البقرة : ٢٤٨ ]
ويحتمل أن تكون هي تلك لأنّ المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلب ﴿ ليزدادوا ﴾ أي بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال لهم : إنه لا بدّ أن تدخلوا مكة وتطوفوا بالبيت ﴿ إيماناً ﴾ عند التصديق بالغيب ﴿ مع إيمانهم ﴾ الثابت من قبل هذه الواقعة أو بشرائع الدين مع إيمانهم بالله واليوم الآخر وقال القشيري : بطلوع أقمار عين اليقين على نجوم علم اليقين ثم بطلوع شمس حق اليقين على بدر عين اليقين. وقال ابن عباس : بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدّقوا زادهم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، ثم الجهاد، حتى أكمل لهم دينهم فكلما أمروا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم. وقال الضحاك : يقيناً مع يقينهم وقيل : ازدادوا إيماناً استدلالاً مع إيمانهم الفطري. فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في حق الكفار ﴿ إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ] ولم يقل مع كفرهم، وقال في حق المؤمنين ﴿ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ﴾ ؟ أجيب بأنّ كفر الكافر عنادي وليس في الوجود كفر فطري ولا في الإمكان كفر غير عنادي لينضم إلى الكفر العنادي بل الكفر ليس إلا عناداً وكذلك الكفر بالفروع، لا يقال انضم إلى الكفر بالأصول، لأنّ من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعة والانقياد. ولهذا قال تعالى ﴿ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ﴾.
﴿ ولله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ﴿ جنود السماوات والأرض ﴾ فهو قادر على إهلاك عدوّه بجنوده بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائه بأيديهم فيكون لهم الثواب وجنود السماوات والأرض الملائكة. وقيل : جنود السماوات الملائكة وجنود الأرض الجنّ والحيوانات. وقيل : الأسباب السماوية والأرضية ﴿ وكان الله ﴾ أي : الملك الأعظم أزلاً وأبداً ﴿ عليماً ﴾ أي : بالذوات والمعاني ﴿ حكيماً ﴾ في إتقان ما يصنع.
وقوله تعالى :﴿ ليدخل ﴾ متعلق بمحذوف أي : أمر بالجهاد ليدخل ﴿ المؤمنين والمؤمنات ﴾ الذين جبلتهم جبلة خير بجهاد بعضهم ودخول بعضهم في الدين بجهاد المجاهدين، ولو سلط على الكفار جنوده من أوّل الأمر فأهلكوهم أو دمّر عليهم بغير واسطة لفات دخول أكثرهم الجنة، وهم من آمن منهم بعد صلح الحديبية ﴿ جنات ﴾ أي بساتين لا يصل إلى عقولكم من وصفها إلا ما تعرفونه بعقولكم وإن كان الأمر أعظم من ذلك ﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ فأي موضع أردت أن تجري منه نهراً قدرت على ذلك ؛ لأنّ الماء قريب من وجه الأرض مع صلابتها وحسنها ﴿ خالدين فيها ﴾ أي لا إلى آخر، فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ذكر في بعض المواضع المؤمنين والمؤمنات وفي بعضها اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كقوله تعالى :﴿ قد أفلح المؤمنون ﴾ [ المؤمنون : ١ ] وقوله تعالى :﴿ وبشر المؤمنين ﴾ [ البقرة : ٢٢٣ ] أجيب بأنه في المواضع التي فيها ما يوهم اختصاص المؤمنين بالخير الموعود به مع مشاركة المؤمنات لهم ذكرهنّ الله تعالى صريحاً وفي المواضع التي فيها ما لا يوهم ذلك اكتفى بدخولهم في المؤمنين كقوله تعالى :﴿ وبشر المؤمنين ﴾ ولما كان هاهنا قوله تعالى :﴿ ليدخل المؤمنين ﴾ متعلقاً بالأمر بالقتال والمرأة لا تقاتل فلا تدخل الجنة الموعود بها فصرح الله تعالى بذكرهنّ ﴿ ويكفر ﴾ أي يستر ستراً بليغاً ﴿ عنهم سيئاتهم ﴾ فلا يظهرها، فإن قيل : تكفير السيئات قبل الإدخال فكيف ذكره بعده أجيب بأنّ الواو لا تقتضي الترتيب بأنّ تكفير السيئات والمغفرة من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة ﴿ وكان ذلك ﴾ أي : الإدخال والتكفير ﴿ عند الله ﴾ أي : الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام ﴿ فوزاً عظيماً ﴾ لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع ودفع ضر.
تنبيه :﴿ عند ﴾ متعلق بمحذوف على أنه حال من ﴿ فوزاً ﴾ ولما كان من أعظم الفوز إقرار العين بالانتقام من العدوّ وكان العدوّ الكاتم أشدّ من المجاهر المراغم.
قال تعالى :﴿ ويعذب المنافقين ﴾ المخفين للكفر المظهرين الإيمان أي : فيزيل كل ما لهم من العذوبة ﴿ والمنافقات ﴾ لما غاظهم من ازدياد الإيمان ﴿ والمشركين والمشركات ﴾ أي : المظهرين الكفر للمؤمنين وقدّم المنافقين على المشركين في كثير من المواضع ؛ لأنهم كانوا أشدّ على المؤمنين من الكفار المجاهرين ؛ لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر ويخالط المنافق لظنه إيمانه وكان يفشي أسراره وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك » ولهذا قال الشاعر :
احذر عدوّك مرّة *** واحذر صديقك ألف مرّة
فلربما انقلب الصدي *** ق فكان أخبر بالمضرّة
وقوله تعالى :﴿ الظانين بالله ﴾ أي : المحيط بصفات الكمال صفة للفريقين وأما قوله تعالى ﴿ ظنّ السوء ﴾ فقال أكثر المفسرين : هو أن لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين ﴿ عليهم دائرة السوء ﴾ أي : دائرة ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم لا يتخطاهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بضم السين والباقون بالفتح. وهما لغتان كالكره والكره والضعف والضعف من ساء إلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كل شيء، وأمّا السوء فجار مجرى الشرّ الذي هو نقيض الخير ﴿ وغضب الله ﴾ أي : الملك الأعظم بما له من صفات الجلال والجمال فاستعلى غضبه ﴿ عليهم ﴾ وهو أنه تعالى يعاملهم معاملة الغضبان بما لا طاقة لهم به ﴿ ولعنهم ﴾ أي : طردهم طرداً أنزلوا به أسفل السافلين فبعدوا به عن كل خير ﴿ وأعد ﴾ أي : هيأ ﴿ لهم ﴾ الآن ﴿ جهنم ﴾ تلقاهم بالعبوسة والتغيظ والزفير والتجهم كما كانوا يتجهمون عباد الله مع ما فيها من العذاب والحرّ والبرد والإحراق وغير ذلك من أنواع المشاق ﴿ وساءت ﴾ أي : جهنم ﴿ مصيراً ﴾ أي : مرجعاً.
وقوله تعالى :﴿ ولله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ جنود السماوات والأرض ﴾ تقدم تفسيره.
وفائدة الإعادة التأكيد وجنود السماوات والأرض منهم من هو للرحمة، ومنهم من هو للعذاب وقدّم ذكر جنود السماوات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة ليكون مع المؤمنين ملائكة الرحمة فتبشرهم على الصراط وعند الميزان، فإذا دخلوا الجنة أفضوا إلى جوار الله تعالى ورحمته والقرب منه فلا حاجة لهم بعد ذلك إلى شيء وأخرّ ذكر جنود السماوات والأرض بعد ذكر تعذيب الكفار والمنافقين ليكون معهم جنود السخط فلا يفارقونهم أبداً كما قال تعالى ﴿ عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ﴾ [ التحريم : ٦ ] فإن قيل : قال الله تعالى ﴿ وكان الله عليماً حكيماً ﴾ [ النساء : ١٧ ] وقال هنا ﴿ وكان الله ﴾ أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه أزلاً وأبداً ﴿ عزيزاً ﴾ أي : يغلب ولا يغلب ﴿ حكيماً ﴾ أي : يضع الشيء في أحكم مواضعه فلا يستطاع نقض شيء مما ينسب إليه أجيب : بأنه لما كان في جنود السماوات والأرض من هو للرحمة ومن هو للعذاب وعلم الله تعالى ضعف المؤمنين ناسب أن تكون خاتمة الآية الثانية ﴿ وكان الله عزيزاً حكيماً ﴾.
﴿ إنا ﴾ أي : بما لنا من العز والحكمة ﴿ أرسلناك ﴾ أي : بما لنا من العظمة إلى الخلق كافة ﴿ شاهداً ﴾ على أفعالهم من كفر وإيمان وطاعة وعصيان من كان بحضرتك فبنفسك ومن كان بعد موتك أو غائباً عنك فبكتابك مع ما أيدناك به من الحفظة من الملائكة الكرام ﴿ ومبشراً ﴾ أي : لمن أطاع بأنواع البشائر ﴿ ونذيراً ﴾ أي مخوّفاً لمن خالفك وعصى أمرك بالنار.
ثم بين تعالى فائدة الإرسال. بقوله سبحانه :﴿ ليؤمنوا بالله ﴾ أي : لا يسوغ لأحد من خلقه. والكل خلقه التوجه إلى غيره ﴿ ورسوله ﴾ أي : الذي أرسله من له كل شيء ملكاً وخلقاً إلى جميع خلقه ﴿ ويعزروه ﴾ أي يعينوه وينصرونه والتعزير نصر مع تعظيم ﴿ ويوقروه ﴾ أي : يعظموه والتوقير التعظيم والتبجيل ﴿ ويسبحوه ﴾ من التسبيح الذي هو التنزيه عن جميع النقائص أو من السبحة وهي الصلاة. قال الزمخشري : والضمائر لله عز وجلّ : والمراد بتعزير الله تعزير دينه ورسوله ومن فرّق الضمائر فقد أبعد. وقال غيره : الكنايات في قوله ﴿ ويعزروه ويوقروه ﴾ راجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها تم الكلام فالوقف على ﴿ ويوقروه ﴾ وقف تامّ ثم يبتدئ بقوله تعالى :﴿ ويسبحوه ﴾ ﴿ بكرةً وأصيلاً ﴾ أي غدوةً وعشياً أي دائماً وعن ابن عباس صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر على أنّ الكناية في ﴿ ويسبحوه ﴾ راجعة إلى الله عز وجلّ وقال البقاعي : الأفعال الثلاثة يحتمل أن يراد بها الله تعالى لأنّ من سعى في قمع الكفار فقد فعل فعل المعزر الموقر، فيكون إما عائداً على المذكور وإمّا أن يكون جعل الأسمين واحداً إشارة إلى اتحاد المسميين في الأمر فلما اتحد أمرهما وحد الضمير إشارة إلى ذلك ا. ه فعنده أنه يصح رجوع الثلاثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه فسر ﴿ ويسبحوه ﴾ بقوله ينزهوه عن كل وخيمة باختلاف الوعد بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ونحو ذلك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالياء في الأربعة على الغيبة رجوعاً إلى قوله تعالى ﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات ﴾ والباقون بالتاء على الخطاب.
ولما بين تعالى أنه مرسل ذكر أنّ من بايع رسوله فقد بايعه. فقال تعالى :
﴿ إنّ الذين يبايعونك ﴾ يا أشرف الرسل بالحديبية على أن لا يفروا ﴿ إنما يبايعون الله ﴾ أي : الملك الأعظم لأنّ عملك كله من قول أو فعل له تعالى وما ينطق عن الهوى وسميت مبايعة لأنهم باعوا أنفسهم فيها من الله تعالى بالجنة قال الله تعالى :﴿ إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة ﴾ [ التوبة : ١١١ ]
الآية «وروى يزيد بن أبي عبيد قال : قلت لسلمة بن الأكوع على أيّ شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قال : على الموت » وعن معقل بن يسار قال :«لقد رأيتني يوم الشجرة والنبيّ صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه ونحن أربعة عشر مائة قال : لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفرّ » قال أبو عيسى : معنى الحديثين صحيح بايعه جماعة على الموت. أي لا نزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل وبايعه آخرون وقالوا : لا نفر. وقوله تعالى :﴿ يد الله ﴾ أي : المتردّي بالكبرياء ﴿ فوق أيديهم ﴾ أي : في المبايعة يحتمل وجوهاً وذلك أنّ اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد وإمّا أن تكون بمعنيين فإن كانت بمعنى واحد ففيه وجهان : أحدهما قال الكلبي : نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى :﴿ بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان ﴾ [ الحجرات : ١٧ ] ثانيهما : قال ابن عباس ومجاهد : يد الله بالوفاء بما وعدهم من النصر والخير أقوى وأعلى من نصرتهم إياه. يقال : اليد لفلان أي الغلبة والقوة. وإن كانت بمعنيين ففي حق الله تعالى بمعنى الحفظ. وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة. قال السدّي : كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعونه ويد الله تعالى فوق أيديهم في المبايعة وذلك أنّ المتبايعين إذا مدّ أحدهما يده إلى الآخر في البيع وبينهما ثالث يضع يده على أيديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما يترك يد الآخر لكي يلزم العقد ولا يتفاسخان فصار وضع اليد فوق الأيدي سبباً لحفظ البيعة فقال تعالى :﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾ يحفظهم على البيعة كما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين. قال البقاعي : فلعنة الله على من حمله على الظاهر من أهل العناد ببدعة الاتحاد وعلى من تبعهم على ذلك من الذين شاقوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وسائر الأئمة الأعلام ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا أتباع فرعون اللعين وناهيك به من ضلال مبين ا. ه وقد مرّ أنّ التأويل في الآيات المتشابهات مذهب الخلف، ومذهب السلف السكوت عن التأويل وإمرار الصفات على ما جاءت وتفسيرها قراءتها والإيمان بها من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل. ﴿ فمن نكث ﴾ أي : نقض البيعة في وقت من الأوقات فجعلها كالكساء والحبل البالي الذي ينقض ﴿ فإنما ينكث ﴾ أي : يرجع وبال نقضه ﴿ على نفسه ﴾ أي : فلا يضرّ إلا هي ﴿ ومن أوفى ﴾ أي : فعل الإتمام والإكثار والإطالة ﴿ بما عاهد ﴾ وقدم الظرف في قوله ﴿ عليه الله ﴾ أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من هذه المبايعات وغيرها اهتماماً به. وقرأ حفص بضم الهاء قبل الاسم الجليل والباقون بكسر الهاء والترقيق ﴿ فسيؤتيه ﴾ بوعد مؤكد لا خلف فيه ﴿ أجراً عظيماً ﴾ لا تسع عقولكم شرح وصفه. قال ابن عادل : والمراد به الجنة وقرأ أبو عمرو والكوفيون بالياء التحتية والباقون بالنون.
ولما ذكر تعالى أهل بيعة الرضوان وأضافهم إلى حضرة الرحمن ذكر من غاب عن ذلك الجناب وأبطأ عن حضرة تلك العمرة. بقوله تعالى :﴿ سيقول ﴾ أي : بوعد لا خلف فيه ﴿ لك ﴾ أي : لأنهم يعلمون شدّة رحمتك ورفقك وشفقتك على عباد الله فهم يطمعون في قبولك من فاسد عذرهم ما لا يطمعون فيه من غيرك من خلص المؤمنين ﴿ المخلفون ﴾ أي : الذين خلفهم الله تعالى عنك فلم يرضهم لصحبتك في هذه العمرة فجعلهم كالشيء التافه الذي يخلفه الإنسان لأنه لا فائدة فيه فلا يعبأ به. وقال تعالى :﴿ من الأعراب ﴾ ليخرج من تخلف بالجسد من خلص الأنصار وغيرهم ممن كان حاضراً معه صلى الله عليه وسلم بالقلب. قال ابن عادل وابن عباس ومجاهد : يعني بالأعراب أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم. «وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب والبوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يريد حرباً فتثاقل كثير من الأعراب وتخلفوا واعتلوا بالشغل فأنزل الله تعالى فيهم ﴿ سيقول لك المخلفون ﴾ » أي : الذي خلفهم الله تعالى من الأعراب عن صحبتك إذا رجعت إليهم من عمرتك وعاتبتهم على التخلف ﴿ شغلتنا ﴾ أي : عن إجابتك في هذه العمرة ﴿ أموالنا وأهلونا ﴾ أي : النساء والذراري فأنا لو تركناهم لضاعوا لأنه لم يكن لنا من يقوم بهم وأنت قد نهيت عن ضياع المال والتفريط في العيال ثم سببوا عن هذا القول المراد به السوء قولهم ﴿ فاستغفر ﴾ أي اطلب المغفرة ﴿ لنا ﴾ من الله تعالى إن كنا أخطأنا وقصرنا فكذبهم الله تعالى في اعتذارهم بقوله سبحانه وتعالى ﴿ ويقولون بألسنتهم ﴾ أي : في الشغل والاستغفار وأكد ما أفهمه ذكر اللسان من أنه قول ظاهري نفياً للكلام الحقيقي الذي هو النفسي بكل اعتبار بقوله تعالى :﴿ ما ليس في قلوبهم ﴾ لأنهم لم يكن لهم شغل ولا كانت لهم نية في سؤال الاستغفار فإنهم لا يبالون استغفر لهم الرسول أم لا ﴿ قل ﴾ يا أشرف الرسل لهؤلاء الأغبياء واعظاً لهم مسبباً عن مخادعتهم لمن لا تخفى عليه خافية إشارة إلى أنّ العاقل يقبح عليه أن يقدم على ما هو بحيث تخشى عواقبه ﴿ فمن يملك لكم ﴾ أي : أيها المخادعون ﴿ من الله ﴾ أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه لأنه لا كفء له ﴿ شيئا ﴾ يمنعكم ﴿ إن أراد بكم ضرّاً ﴾ أي : نوعاً من أنواع الضرّ عظيماً أو حقيراً فأهلك الأموال والأهلين وأنتم محتاطون في حفظها فلم ينفعها حضوركم وأهلككم أنتم.
وقرأ حمزة والكسائي : بضم الضاد والباقون بفتحها ﴿ أو أراد بكم نفعاً ﴾ يحفظهما به في غيبتكم فلا يضرّهم بعدكم عنهم ويحفظكم في أنفسكم ﴿ بل كان الله ﴾ أي : المحيط أزلاً وأبداً بكل شيء قدرةً وعلماً ﴿ بما تعملون ﴾ أي أيها الجهلة ﴿ خبيراً ﴾ يعلم بواطن أموركم هذه وغيرها كما يعلم ظواهرها.
﴿ بل ظننتم ﴾ أي : فأنتم واقفون مع الظنون الظاهرة ليس لكم نفوذ إلى البواطن. وقرأ الكسائي : بإدغام اللام في الظاء والباقون بالإظهار وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم بقوله تعالى ﴿ أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً ﴾ أي : ظننتم أنّ العدوّ يستأصلهم ولا يرجعون لما في قلوبكم من عظمة المشركين وحقارة المؤمنين فحملكم ذلك على أن قلتم ما هم في قريش إلا أكلة رأس، فإن قيل : ما الفرق بين حرفي الإضراب أجيب : بأنّ الإضراب الأول إضراب معناه ردّ أن يكون حكم الله أن لا يتبعوه وإثبات الحسد والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين أي وصفهم بما هو أعمّ منه وهو الجهل وقلة الفقه ﴿ وزين ذلك ﴾ أي : الأمر القبيح الذي هو خراب الدنيا ﴿ في قلوبكم ﴾ حتى قلتموه ﴿ وظننتم ﴾ أي : بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرّع عنه ﴿ ظنّ السوء ﴾ أي : الذي لم يدع شيئاً مما يكره غاية الكراهة إلا أحاط به وقوله تعالى :﴿ وكنتم قوماً بوراً ﴾ جمع بائر أي هالكين عند الله تعالى بهذا الظنّ وهذا بالنظر إلى الجمع من حيث هو جمع لا بالنسبة إلى كل فرد فإنه قد أخلص منهم بعد ذلك كثير وثبتوا ولم يرتدّوا.
﴿ ومن لم يؤمن ﴾ أي : منكم ومن غيركم ﴿ بالله ﴾ أي : الذي لا موجود على الحقيقة سواه ﴿ ورسوله ﴾ أي : الذي أرسله لإظهار دينه ﴿ فإنا ﴾ على مالنا من العظمة ﴿ أعتدنا ﴾ أي : له هكذا كان الأصل ولكنه قال تعالى معللاً للحكم بالوصف ﴿ للكافرين ﴾ إيذاناً بأنه لم يجمع الإيمان بهما فهو كافر وأعدّ له ﴿ سعيراً ﴾ أي : ناراً شديدة.
﴿ ولله ﴾ أي : الملك الأعظم وحده ﴿ ملك السماوات والأرض ﴾ أي : من الجنود وغيرها يدبر ذلك كله كيف يشاء ﴿ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾ أي : لا اعتراض لأحد عليه لأنه لا يجب عليه شيء ولا يكافئه أحد وليس هو كالملوك الذين لا يتمكنون من مثل ذلك لكثرة الأكفاء المعارضين لهم في الجملة وعلم من هذا أنّ منهم من يرتدّ فيعذبه ومنهم من يثبت على الإسلام فيغفر له لأنه لا يعذب بغير ذنب وإن كان له أن يفعل ذلك لأنه لا يسأل عما يفعل وملكه تامّ فتصرفه فيه عدل كيف كان ﴿ وكان الله ﴾ أي : المحيط بصفات الكمال أزلاً وأبداً لم يتجدّد له شيء لم يكن ﴿ غفوراً ﴾ أي : لذنوب المسيئين ﴿ رحيماً ﴾ أي : مكرماً ما بعد الستر بما لا تسعه العقول وقدرته على الإنعام كقدرته على الانتقام.
﴿ سيقول ﴾ أي : بوعد لا خلف فيه ﴿ المخلفون ﴾ أي : الذين تخلفوا عن الحديبية ﴿ إذا انطلقتم ﴾ أي : سرتم أيها المؤمنون ﴿ إلى مغانم لتأخذوها ﴾ أي : مغانم خيبر. وذلك أنّ المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال ولم يصيبوا من المغانم شيئاً وعدهم الله تعالى فتح خيبر وجعل غنائمها لم شهد الحديبية خاصة عوضاً عن غنائم أهل مكة حيث انصرفوا عنهم ولم يصيبوا منهم شيئاً ﴿ ذرونا ﴾ أي : على أيّ حالة شئتم من الأحوال الدنيئة ﴿ نتبعكم ﴾ أي : إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها وفي هذا بيان كذب المخلفين عن الحديبية حيث قالوا شغلتنا أموالنا وأهلونا إذ لم يكن لهم هناك طمع في الغنيمة وهنا قالوا ذرونا نتبعكم حيث كان لهم طمع في الغنيمة ﴿ يريدون ﴾ أن بذهابهم معكم ﴿ أن يبدّلوا كلام الله ﴾ أي : يريدون أن يغيروا مواعيد الملك الأعظم لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة وهذا قول جمهور المفسرين.
وقال مقاتل : يعني أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حيث أمره أن لا يسير معه منهم أحد إلى خيبر. وقال ابن زيد : هو أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما تخلف القوم أطلعه الله تعالى على ظنهم وأظهر له نفاقهم وقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ﴾ [ التوبة : ٨٣ ] وقرأ حمزة والكسائي : بكسر اللام بعد الكاف ولا ألف بعد اللام والباقون بفتح اللام وألف بعدها ﴿ قل ﴾ يا أشرف الخلق لهؤلاء المبعدين إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك فإنّ غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهمّ قولاً مؤكداً ﴿ لن تتبعونا ﴾ أي : وإن اجتهدتم في ذلك وساقه مساقة النفي وإن كان المراد به النهي مع كونه آكد ليكون علماً من أعلام النبوّة وهو أزجر وأدل على استهانتهم ﴿ كذلكم ﴾ أي مثل هذا القول البديع الشأن العالي الرتبة ﴿ قال الله ﴾ أي : الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا والعقاب لمن شاؤوا ﴿ من قبل ﴾ أي : من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئاً من هذه الأقوال بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية سبب عن قوله لهم ذلك قوله تعالى تنبيهاً على جلافتهم وفساد ظنونهم ﴿ فسيقولون ﴾ ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله تعالى ﴿ بل ﴾ إنما قلتم ذلك لأنكم ﴿ تحسدوننا ﴾ فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء وقرأ هشام وحمزة والكسائي بإدغام اللام في التاء والباقون بالإظهار. ﴿ بل كانوا ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ لا يفقهون ﴾ أي : لا يفهمون فهم الحاذق الماهر ﴿ إلا قليلاً ﴾ أي : في أمر دنياهم ومن ذلك إقرارهم باللسان لأجلها، وأمّا أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئاً.
﴿ قل ﴾ أي : يا أشرف الرسل ﴿ للمخلفين ﴾ وزاد في ذمّهم بنسبتهم إلى الجلافة بقوله تعالى ﴿ من الأعراب ﴾ أي : أهل غلظ الأكباد ﴿ ستدعون ﴾ بوعد لا خلف فيه ﴿ إلى قوم أولي ﴾ أي : أصحاب ﴿ بأس شديد ﴾ أي : شدّة في الحرب وشجاعة قال ابن عباس ومجاهد : هم أهل فارس. وقال كعب : الروم. وقال الحسن : فارس والروم. وقال : سعيد بن جبير : هوازن وثقيف. وقال قتادة : هوازن وغطفان قوم حنين. وقال الزهري ومقاتل وجماعة : هم بنو حنيفة أصحاب اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج : كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة : لم يأت تأويل هذه الآية بعد قال ابن الخازن : وأقوى هذه الأقوال قول من قال أنهم هوازن وثقيف، لأنّ الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده قول من قال أنهم بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب وقوله تعالى ﴿ تقاتلونهم أو يسلمون ﴾ فيه إشارة إلى وقوع أحد الأمرين إما المقاتلة منكم وإمّا الإسلام منهم فإن لم يسلموا كان القتال لا غير وإن أسلموا لم يكن قتال لأنّ الغرض ليس إلا إعلاء كلمة الله تعالى ﴿ فإن تطيعوا ﴾ أي : توقعوا الطاعة للداعي إلى ذلك ﴿ يؤتكم الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة ﴿ أجراً حسناً ﴾ دنيا وهو الغنيمة وأخرى وهي الجنة ﴿ وإن تتولوا ﴾ أي تعرضوا عن الجهاد ﴿ كما توليتم من قبل ﴾ أي عام الحديبية ﴿ يعذبكم ﴾ أي يخالطكم بعقوبة تزيل العذوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ﴿ عذاباً أليماً ﴾ لأجل تكرّر ذلك منكم فلما أنزلت هذه الآية، قال أهل الزمانة كيف بنا يا رسول الله فأنزل الله عز وجلّ ﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها ومن يتول يعذبه عذابا أليما ﴾.
﴿ ليس على الأعمى ﴾ أي : في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أو مع غيره من أئمة الهدى ﴿ حرج ﴾ أي : ميل بثقل الإثم لأنه لا يمكنه الإقدام على العدوّ والطلب ولا يمكنه الاحتراز منه ولا الهرب ﴿ ولا على الأعرج ﴾ وإن كان نقصه أدنى من نقص الأعمى ﴿ حرج ﴾ وفي معنى الأعرج الزمن المقعد والأقطع ﴿ ولا على المريض ﴾ أي : بأي مرض كان يمنعه ﴿ حرج ﴾ وفي معناه صاحب السعال الشديد والطحال الكبير والذين لا يقدرون على الكرّ والفرّ فهذه أعذار مانعة من الجهاد ظاهرة، ومن وراء ذلك أعذار أخر دون ما ذكر كتمريض المريض الذي ليس له من يقوم مقامه عليه.
تنبيه : جعل تعالى كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الحكم وقدم الأعمى على الأعرج لأنّ عذر الأعمى مستمر لا يمكن الانتفاع به في حرس ولا غيره بخلاف الأعرج وقدم الأعرج على المريض لأنّ عذره أشد من عذر المريض لإمكان زوال المرض عن قرب.
﴿ ومن يطع الله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفاً. المانع منها من يشاء وإن كان قوياً ﴿ ورسوله ﴾ من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه بأيّ طاعة كانت ﴿ يدخله ﴾ أي : الله الملك الأعظم جزاء له ﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ أي : من أيّ موضع أردت أجريت نهراً ﴿ ومن يتولّ ﴾ أي يعرض عن الطاعة ويستمّر على الكفر والنفاق ﴿ يعذبه ﴾ أي على توليه في الدارين أو إحداهما ﴿ عذاباً أليماً ﴾ أي مؤلماً وقرأ نافع وابن عامر ندخله ونعذبه بالنون فيهما والباقون بالياء التحتية.
ولما بين تعالى حال المخلفين بعد قوله تعالى ﴿ إنّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ﴾ عاد إلى حال بيان المبايعين. بقوله تعالى :﴿ لقد رضي الله ﴾ أي : الذي له الجلال والكمال ﴿ عن المؤمنين ﴾ أي : الراسخين في الإيمان أي فعل بهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح وما قدّر لهم من الثواب وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا مع ما أعدّ لهم في الآخرة فالآية تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور مشاهدة وقوله تعالى ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ يبايعونك ﴾ منصوب برضى واللام في قوله تعالى ﴿ تحت الشجرة ﴾ للعهد الذهني وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية ولأجل هذا الرضا سميت بيعة الرضوان وقصتها «أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام حين نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة فهموا به فمنعه الأحابيش واحدها حبوش وهو الفوج من قبائل شتى فلما رجع دعا عمر ليبعثه فقال : إني أخافهم على نفسي لما أعرف من عدواتي إياهم وما بمكة عدوي يمنعني ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني وأحب إليهم عثمان بن عفان فبعثه فخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته فوقروه وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال ما أفعل قبل أن يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبس عندهم فأرجف أنهم قتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة » روى البغوي من طريق الثعلبي «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة » وقال سعيد بن المسيب : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها. وروي أنّ عمر مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال : أين كانت فجعل بعضهم يقول هاهنا وبعضهم يقول هاهنا فلما كثر اختلافهم قال سيروا قد ذهبت الشجرة. وروى جابر بن عبد الله قال :«قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض وكنا ألفاً وأربعمائة ولو كنت اليوم مبصراً لأريتكم مكان الشجرة ».
وقيل :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصانها قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائماً على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه فرفعت الغصن عن ظهره وبايعوه على الموت دونه على أن يفرّوا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم اليوم خير أهل الأرض » وكان عدد المبايعين ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين. وروى سالم عن جابر قال : كنا خمس عشرة مائة. وقال عبد الله بن أبي أوفى : كنا أصحاب الشجرة ألفاً وثلاثمائة. ولما دل على إخلاصهم بما وصفهم سبب عنه قوله تعالى ﴿ فعلم ﴾ أي : بما له من الإحاطة ﴿ ما في قلوبهم ﴾ أي : من الصدق والوفاء فيما بايعوا عليه ﴿ فأنزل السكينة ﴾ أي الطمأنينة والأمن بسبب الصلح ﴿ عليهم ﴾ أو بالتشجيع وسكون النفس في كل حالة ترضي الله ورسوله فلم يخافوا عاقبة القتال لما ندبوا إليه وإن كانوا في كثرة الكفار كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ﴿ وأثابهم ﴾ أي : أعطاهم جزاء لهم على ما وهبوه من الطاعة ﴿ فتحاً قريباً ﴾ هو فتح خيبر عقب انصرافهم. وعن الحسن : فتح هجر.
ونبه تعالى بصيغة منتهى الجموع في قوله تعالى :﴿ ومغانم ﴾ على أنها عظيمة ثم صرّح بذلك بقوله تعالى ﴿ كثيرة تأخذونها ﴾ وهي مغانم خيبر وكانت أرضاً ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ﴿ وكان الله ﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿ عزيزاً ﴾ يغلب ولا يغلب ﴿ حكيماً ﴾ أي : يقضي ما يريد فلا ينقض فحكم لكم بالغنائم ولأعدائكم بالهلاك على أيديكم ليثيبكم عليه.
﴿ وعدكم الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ مغانم ﴾ وحقق معناها بقوله تعالى :﴿ كثيرة تأخذونها ﴾ أي : فيما يأتي من بلدان شتى لا تدخل تحت حصر. وليس المغانم كل الثواب بل الجنة والنظر إلى وجهه الكريم قدّامهم. وإنما هي كعاجلة عجل بها ولهذا قال تعالى :﴿ فعجل لكم ﴾ أي : من الغنائم ﴿ هذه ﴾ أي : مغانم خيبر ﴿ وكف أيدي الناس عنكم ﴾ «وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها همت قبائل من أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة فكف الله تعالى أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم فنكصوا » وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح. وقوله تعالى :﴿ ولتكون ﴾ أي : هذه المعجلة عطف على مقدّر أي لتشكروه ولتكون ﴿ آية ﴾ أي : علامة في غاية الوضوح ﴿ للمؤمنين ﴾ أي : أنهم من الله تعالى بمكان أو صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في وعدهم فتح خيبر في حين رجوعه من الحديبية أو وعدهم الغنم أو عنواناً لفتح مكة.
﴿ ويهديكم صراطاً ﴾ أي : طريقاً ﴿ مستقيماً ﴾ أي : يثبتكم على الإسلام ويزيدكم بصيرة ويقيناً بصلح الحديبية وفتح خيبر. «وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرّم ثم خرج في سنة سبع إلى خيبر » روى أنس بن مالك «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح ينظر فإن سمع أذاناً كف عنهم وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم قال فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلاً فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب وركبنا وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : والله محمد والخميس أي الجيش فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين » وروى إياس بن سلمة قال : حدّثني أبي قال :«خرجنا إلى خبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجعل عمي عامر يرنجز بالقوم ثم قال :
تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدّينا ولا صلينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا ***
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا، قال : أنا عامر فقال : غفر لك ربك وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد إلا استشهد قال : فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له يا نبيّ الله لولا متعتنا بعامر قال فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول :
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب ***
قال : فبرز له عامر بن عثمان فقال :
قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مقامر
فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فرجع سيف عامر على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه قال : فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت : يا رسول الله بطل عمل عامر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال ذلك قلت ناس من أصحابك قال : من قال ذلك بل له أجره مرتين ثم أرسلني إلى عليّ وهو أرمد فقال : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في عينيه فبرئ وأعطاه الراية وخرج مرحب وقال :
أنا الذي سمتني أمي مرحب شاكي السلاح بطل مجرّب
فقال علي كرّم الله تعالى وجهه :
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره
أكيلكم بالسيف كيل السندره ***
قال : فضرب رأس مرحب فقتله. ثم كان الفتح على يديه » ومعنى أكيلكم بالسيف كيل السندره أي : أقتلكم قتلاً واسعاً ذريعاً. والسندرة مكيال واسع. قيل : يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي. والسندرة أيضاً العجلة والنون زائدة قال ابن الأثير وذكرها الجوهري في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها. وروي فتح خيبر من طرق أخر في بعضها زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض.
وقوله تعالى :﴿ وأخرى ﴾ صفة مغانم مقدّراً مبتدأ وقيل : هي مبتدأ والخبر ﴿ لم تقدروا عليها ﴾ وهي كما قال ابن عباس : فارس والروم وما كانت العرب تقدر تقاتل فارس والروم بل كانوا خولاً لهم حتى قدروا عليهما بالإسلام. وقال الضحاك : هي خيبر وعدها الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها. وقال قتادة : هي مكة. وقال عكرمة : حنين. وقال البقاعي : هي والله أعلم غنائم هوازن التي لم يحصل قبلها ما يقاربها. ﴿ قد أحاط الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرةً وعلماً ﴿ بها ﴾ أي : علم أنها ستكون لكم ﴿ وكان الله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً ﴿ على كل شيء ﴾ منها ومن غيرها ﴿ قديراً ﴾ أي : بالغ القدرة لأنه بكل شيء عليم.
﴿ ولو قاتلكم الذين كفروا ﴾ وهم أهل مكة ومن وافقهم وكانوا قد اجتمعوا وجمعوا الأحابيش ومن أطاعهم وقدّموا خالد بن الوليد طليعة لهم إلى كراع الغميم ولم يكن أسلم بعد ﴿ لولوا ﴾ أي : بغاية جهدهم ﴿ الأدبار ﴾ منهزمين ﴿ ثم ﴾ أي : بعد طول الزمان وكثرة الأعوان ﴿ لا يجدون ﴾ أي : في وقت من الأوقات ﴿ ولياً ﴾ أي : من يفعل معهم فعل القريب من الشفقة ﴿ ولا نصيراً ﴾ ينصرهم.
ولما كانت هذه عادة جارية قديمة مع أولياء الله تعالى حيثما كانوا من الرسل وأتباعهم ﴿ وإنّ جندنا لهم الغالبون ﴾ [ الصافات : ١٧٣ ]. قال تعالى :﴿ سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً ﴾.
﴿ سنة الله ﴾ أي : سنّ المحيط بكل شيء علماً غلبة أنبيائه وأتباعهم ﴿ التي قد خلت من قبل ﴾ أي : فيمن مضى من الأمم. كما قال تعالى :﴿ لأغلبنّ أنا ورسلي ﴾ [ المجادلة : ٢١ ] ﴿ ولن تجد ﴾ أيها السامع ﴿ لسنة الله ﴾ أي : الذي لا يخلف قوله، لأنه محيط بجميع صفات الكمال ﴿ تبديلاً ﴾ أي : تغييراً من مغيّر ما يغيرها بما يكون بدلها ثم عطف على ما تقديره هو الذي سنّ هذه السنة العامة.
قوله تعالى :﴿ وهو الذي كف ﴾ أي : وحده ﴿ أيديهم ﴾ أي : الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم. فإنّ الكف مشروع لكل أحد ﴿ عنكم وأيديكم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ عنهم ببطن مكة ﴾ أي : بالحديبية وقيل التنعيم. وقيل وادي مكة. وقيل : داخل مكة ﴿ من بعد أن أظفركم ﴾ أي : أظهركم ﴿ عليهم ﴾ وهذا تبيين لما تقدّم من قوله تعالى :﴿ ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ﴾ [ الفتح : ٢٢ ] بتقدير أنه كما كف أيديهم عنكم بالفرار وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم روى ثابت عن أنس بن مالك «أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخذهم سلماً فاستحياهم فنزلت هذه الآية ». وقال عبد الله بن مغفل المزني : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله أبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جئتم في عهد أو هل جعل لكم أحد أماناً قالوا : اللهم لا فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وعن ابن عباس أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت وقيل : إن ذلك كان يوم فتح مكة وبه استشهد أبو حنيفة على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحاً ﴿ وكان الله ﴾ أي : المحيط بالجلال والإكرام أزلاً وأبداً وقرأ ﴿ بما يعملون ﴾ أبو عمرو : بالياء التحتية أي الكفار. والباقون بالتاء الفوقية، أي : أنتم ﴿ بصيرا ﴾ أي : محيط العلم ببواطن ذلك كما هو محيط بظواهره.
ولما كان ما مضى من وصف الكفار يشمل كفار مكة وغيرهم عينهم بسبب كفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن البيت الحرام. بقوله تعالى :﴿ هم ﴾ أي : أهل مكة ومن لاقهم ﴿ الذين كفروا ﴾ أي : أوغلوا في هذا الوصف ببواطنهم وظواهرهم ﴿ وصدّوكم ﴾ زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية ﴿ عن المسجد الحرام ﴾ أي : منعوكم الوصول إلى مكة ونفس المسجد والكعبة للإحلال مما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة.
روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم كل منهما يصدق حديث صاحبه قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً وساق معه سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل وكانت كل بدنة عن عشرة نفر فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عتبة الخزاعي.
وقال : إنّ قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت الحرام.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أشيروا عليّ أيها الناس أترون أني أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن لجوا تكن عنقاً قطعها الله أو ترون نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه فقال أبو بكر يا رسول الله إنما جئت عامداً لهذا البيت لا نريد قتال أحد ولا حرباً فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال امضوا على اسم الله فنفروا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ خالداً بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بغبرة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته. فقال الناس : حل حل فألحت فقالوا : خلأت أي حرنت القصواء.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال : والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت. قال : فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل من الماء يتبرضه الناس تبرضاً فلم تلبث الناس أن نزحوه وشكا الناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم العطش فنزع سهماً من كنانته وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له ناجية بن عمير وهو سائق بدن النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل في البئر فغرزه في جوفه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال : إني تركت كعب ابن لؤي وعامر بن لؤي نزلا مع جمع أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت الحرام فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم مدّة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري. هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره فقال بديل : سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشاً فقال : إنا قد جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول قال : سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال : أي قوم ألستم بالوالد. قالوا : بلى قال : أو لست بالولد. قالوا بلى. فقال فهل تتهموني قالوا : لا قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني. قالوا : بلى. قال : فإنّ هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته قالوا : ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت أحداً من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فو الله إني أرى وجوهاً وأشواباً من الناس خليقاً أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكر الصدّيق : امصص بظر اللات والعزى أنحن نفر عنه وندعه. فقال : من ذا. قالوا : أبو بكر فقال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال : وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة قائم على رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه وقال : من هذا قالوا : المغيرة بن شعبة فقال : أي غدر ألست أسعى في غدرتك. وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمّا الإسلام فهدم ما قبله وأمّا المال فلست منه في شيء ثم إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بعينيه قال : فو الله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن أي ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً والله إن أي ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم وما يجدون النظر إليه تعظيماً له وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من بني كنانة دعوني آته فقالوا : ائته فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا فلان من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثوها له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدّوا عن البيت.
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنّ هذا من قوم يتألهون فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صدّه. الهدي في قلائده قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محله.
قالوا له : اجلس فإنما أنت رجل أعرابيّ لا علم لك فغضب الحليس عند ذلك، وقال : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أن تصدّوا عن بيت الله من جاءه معظماً له والذي نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.
فقالوا : مه كف عنايا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به فقام رجل يقال له مكرز بن حفص. فقال : دعوني آته فقالوا له ائته فلما أشرف عليهم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاءه سهيل بن عمر. وقال عكرمة : لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : قد سهل لكم من أمركم قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال : هات نكتب بيننا وبينك كتاباً فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل : أمّا الرحمن فلا أدري من هو ولكن اكتب باسمك اللهمّ كما كنت تكتب فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعلي : اكتب باسمك اللهمّ. ثم قال : اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله.
قال الزهري : وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ». فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو واصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن الناس فيه ويكف بعضهم عن بعض فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل : والله لا تتحدّث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذاك من العام المقبل. فكتب فقال سهيل : وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً. وروى ابن إسحاق عن البراء قصة الصلح وفيها قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله قال : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ثم قال لعلي : امح رسول الله فقال : والله لا أمحوك أبداً فقال فأرينه فأراه إياه فمحاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده.
وفي رواية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله قال البراء : صالح على ثلاثة أشياء على أنّ من أتى من المشركين يردّه إليهم ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه على أن يدخلها من قابل ويقيم بها ثلاثة أيام ولا يدخلها بجلبان السلاح السيف والقوس ونحوه. وروى في صلح الحديبية طرق أخر في بعضها زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض.
وقوله تعالى ﴿ والهدي ﴾ معطوف على كم من صدوكم أي وصدوا الهدي وهو البدن التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعين.
وقوله تعالى :﴿ معكوفاً ﴾ أي : محبوساً حال وقوله تعالى :﴿ أن يبلغ محله ﴾ أي : مكانه الذي ينحر فيه عادة وهو الحرم بدل اشتمال ﴿ ولولا رجال ﴾ أي : مقيمون بين أظهر الكفار بمكة ﴿ مؤمنون ﴾ أي : غريقون في الإيمان فكانوا لذلك أهلاً للوصف بالرجولية ﴿ ونساء مؤمنات ﴾ أي : كذلك حبس الكل عن الهجرة العذر لأنّ الكفار لكثرتهم استضعفوهم فمنعوهم الهجرة، على أنّ ذلك شامل لمن جبله الله تعالى على الخير وعلم منه الإيمان وإن كان في ذلك الوقت كافراً ﴿ لم تعلموهم ﴾ أي : لم يحط علمكم بهم من جميع الوجوه لتميزوهم بأعيانهم عن المشركين لأنهم ليس لهم قوّة التمييز منهم وأنتم لا تعرفون أماكنهم لتعاملوهم بما هم له أهل ولاسيما في حال الحرب والطعن والضرب ثم أبدل من الرجال والنساء قوله تعالى :﴿ أن تطؤوهم ﴾ أي تؤذوهم بالقتل أو ما يقاربه من الجراح والضرب والنهب ونحو ذلك.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ أشدد وطأتك على مضر » ﴿ فتصيبكم ﴾ أي : فيتسبب عن هذا الوطء أن تصيبكم ﴿ منهم ﴾ أي : من جهتهم وبسببهم ﴿ معرّة ﴾ أي : مكروه كوجوب الدية والكفارة بقتلهم والتأسف عليهم وتغيير الكفار بذلك والإثم بالتقصير في البحث مفعلة من عرّه إذا عراه ما يكرهه وقوله تعالى :﴿ بغير علم ﴾ متعلق بأن
ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب بين وقته وفيه بيان العلة. فقال تعالى :﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ جعل الذين كفروا ﴾ أي : ستروا ما تراءى من الحق في مرائي عقولهم وقوله تعالى :﴿ في قلوبهم ﴾ أي : في قلوب أنفسهم يجوز أن يتعلق بجعل على أنها بمعنى ألقى فتتعدّى لواحد أي إذ ألقى الكافرون في قلوبهم الحمية وأن يتعلق بمحذوف على أنه مفعول ثان قدّم على أنها بمعنى صير ﴿ الحمية ﴾ أي : المنع الشديد والإباء الذي هو في شدّة حرّه ونفوذه في أشدّ الأجسام كالسمّ والنار وأنشدوا :
ألا إنني منهم وعرضي عرضهم كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما
وقرأ أبو عمر وفي الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي : بضم الهاء والميم والباقون : بكسر الهاء وضم الميم وأظهر الذال عند الجيم نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون وقوله تعالى :﴿ حمية الجاهلية ﴾ بدل من الحمية قبلها ووزنها فعلية وهي مصدر يقال حميت من كذا حمية وحمية الجاهلية : هي التي مدارها مطلق المنع سواء كان بحق أم باطل فتمنع من الإذعان للحق ومبتناها على التشفي على مقتضى الغضب لغير الله فتوجب تخطي حدود الشرع ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرّفة لزيارة البيت العتيق الذي الناس فيه سواء. قال مقاتل : قال أهل مكة قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلوا علينا فتتحدّث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا واللات والعزى لا يدخلونها علينا فهذه حمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم.
﴿ فأنزل الله ﴾ أي : الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء بسبب حميتهم ﴿ سكينته ﴾ أي : الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله والروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدوّ والنصر عليه إنزالاً كافياً ﴿ على رسوله ﴾ الذي عظمته من عظمته ففهم عن الله مراده في هذه القضية فجرى على أتم ما يرضيه ﴿ وعلى المؤمنين ﴾ أي : الغريقين في الإيمان لأنهم أتباع رسوله وأنصار دينه فألزمهم قبول أمره وحماهم من همزات الشياطين ولم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية فيقاتلوا غضباً لأنفسهم فيتعدوا حدود الشرع ﴿ وألزمهم ﴾ أي : المؤمنين إلزام إكرام وتشريف لا إلزام إهانة وتعنيف ﴿ كلمة التقوى ﴾ فإنها السبب الأقوى وهي كل قول أو فعل ناشئ عن التقوى وأعلاه كلمة الإخلاص المتقدّمة في القتال وهي لا إله إلا الله التي هي أحق الحق ولا بدّ من قول محمد رسول الله وإلا لم يتم إسلامه وعن الحسن : كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد. ومعنى إضافتها إلى التقوى إنها سبب التقوى وأساسها، وقيل : كلمة أهل التقوى وقيل هي بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله ﴿ وكانوا ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ أحق بها ﴾ أي : كلمة التقوى من الكفار ﴿ وأهلها ﴾ أي : وكانوا أهلها في علم الله تعالى لأنّ الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير ﴿ وكان الله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرةً ﴿ بكل شيء ﴾ من ذلك وغيره ﴿ عليماً ﴾ أي : محيط العلم.
وروي «أنه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام في المدينة عام الحديبية قبل خروجه أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين ويحلقون ويقصرون فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا فلما خرجوا معه وصدّهم الكفار بالحديبية رجعوا وشق عليهم ذلك وراب بعض المنافقين فأنزل الله قوله تعالى :﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ﴾
﴿ لقد صدق الله ﴾ أي : الذي لا كفؤ له المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ رسوله ﴾ الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الأخبار عما لا يكون أنه يكون فيكف إذا كان المخبر رسوله ﴿ الرؤيا ﴾ التي هي من الوحي أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوّاً كبيراً. فحذف الجار وأوصل الفعل. كقوله تعالى :﴿ صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴾ [ الأحزاب : ٢٣ ] وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري «قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم : ما بال الناس قالوا : أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فخرجنا نرجف فوجدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته على كراع الغميم فلما اجتمع عليه الناس قرأ ﴿ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ﴾ فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده » ففيه دليل على أن المراد بالفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل فقال جل ذكره ﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ﴾ أخبر أن الرؤيا التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق وقوله تعالى ﴿ بالحق ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه يتعلق بصدق. ثانيها : أن يكون صفة مصدر محذوف أي صدقاً ملتبساً بالحق أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص وبين من في قلبه مرض. ثالثها : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق. رابعها : له قسم وجوابه ﴿ لتدخلن ﴾ أي بعد هذا دخولاً قد تحتم أمره ﴿ المسجد ﴾ أي : الذي يطاف فيه بالكعبة ولا يكون دخوله إلا بدخول الحرم ﴿ الحرام ﴾ أي : الذي أجاره من امتهان الجبابرة ومنعه من كل ظالم. قال الزمخشري : وعلى تقديره قسماً إمّا أن يكون قسماً بالله تعالى فإنّ الحق من أسمائه تعالى وأمّا أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل.
فإن قيل : ما وجه دخول ﴿ إن شاء الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال أجيب بأوجه :
أحدها : أنه تعالى ذكره تعليماً لعباده الأدب لأن يقولوا في غداتهم مثل ذلك متأدبين بآداب الله ومقتدين بسنته لقوله تعالى ﴿ ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً ٢٣ إلا أن يشاء الله ﴾ [ الكهف : ٢٣ ٢٤ ].
ثانيها : أن يريد لتدخلنّ جميعاً إن شاء الله. ولم يمت منكم أحد.
ثالثها : أن ذلك كان على لسان ملك فأدخل الملك إن شاء الله.
رابعها : إنها حكاية ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقص عليهم. وقال أبو عبيدة : أن بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله. كقوله تعالى ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ [ الجمعة : ٩ ].
خامسها : إنها للتبرّك وقيل هي متعلقة بآمنين فالاستثناء مواقع على الأمن لا على الدخول لأن الدخول لم يكن فيه شك كقوله صلى الله عليه وسلم عند دخول المقبرة " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت.
وقوله تعالى :﴿ آمنين ﴾ حال من فاعل لتدخلن وكذا ﴿ محلقين رؤوسكم ﴾ أي : كلها ﴿ ومقصرين ﴾ أي : بعضها أي منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين لا تخشون إلا الله تعالى وفيه إشارة إلى أنهم يتمون الحج من أوّله إلى آخره فقوله ﴿ لتدخلن ﴾ فيه إشارة إلى الأوّل وقوله ﴿ محلقّين ﴾ ﴿ ومقصرين ﴾ إشارة إلى الآخر فإن قيل محلقين حال الداخلين والداخل لا يكون إلا محرماً والمحرم لا يكون محلقاً أجيب بأنّ قوله آمنين معناه متمكنين من أن تتموا الحج محلقين ومقصرين وأشار بصيغة التفعيل إلى الكثرة فيهما غير أن التقديم يفهم أنّ الأول أكثر.
وقوله تعالى :﴿ لا تخافون ﴾ أي : لا يتجدّد لكم خوف بعد ذلك يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً ثالثة أمّا من فاعل لتدخلنّ أو من ضمير آمنين أو محلقين أو مقصرين فإن كانت حالاً من آمنين أو حالاً من فاعل لتدخلنّ فهي حال للتوكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدّرة إلا قوله ﴿ لا تخافون ﴾ إذا جعل حالاً فإنها مقدّرة أيضاً فإن قيل : قوله تعالى :﴿ لا تخافون ﴾ معناه غير خائفين وذلك يحصل بقوله تعالى :﴿ آمنين ﴾ أجيب : بأنّ فيه كمال الأمن لأنّ بعد الحلق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم. فقال تدخلون آمنين وتحلقون ويبقى أمنكم بعد خروجكم من الإحرام ﴿ فعلم ﴾ أي : الله في الصلح من المصلحة ﴿ ما لم تعلموا ﴾ من المصالح فإنّ الصلاح كان في الصلح وإنّ دخولكم في سنتكم سبب لوطء المؤمنين والمؤمنات وهو قوله تعالى :﴿ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ﴾ [ الفتح : ٢٥ ] الآية.
فإن قيل : الفاء في قوله تعالى :﴿ فعلم ﴾ فاء التعقيب فقوله تعالى :﴿ فعلم ﴾ وقع عقب ماذا أجيب : بأنه إن كان المراد من ﴿ فعلم ﴾ وقت الدخول فهو عقب صدق وإن كان المراد فعلم المصلحة فالمراد علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب والتقدير لما حصلت المصلحة في العام القابل فعلم ما لم تعلموا من المصلحة المتجدّدة ﴿ فجعل ﴾ أي : بسبب إحاطة علمه ﴿ من دون ﴾ أي : أدنى رتبة من ﴿ ذلك ﴾ أي : الدخول العظيم في هذا العام ﴿ فتحاً قريباً ﴾ يقويكم به من فتح خيبر ووضع الحرب بين العرب بهذا الصلح واختلاط بعض الناس بسبب ذلك ببعض الموجب لإسلام ناس كثيرة تتقوون بهم فتكون تلك الكثرة والقوّة بسبب هيبة الكفار المانعة لهم من القتال فقتل القتلى ترفقاً بأهل حرم الله إكراماً لهذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ هو الذي أرسل رسوله ﴾ أي : الذي لا رسول أحق منه بإضافته إليه ﴿ بالهدى ﴾ أي : الكامل الذي يقتضي أن يهتدي به أكثر الناس تأكيداً لبيان صدق الله تعالى للرّؤيا لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي لا يريه ما لا يكون فيحدث الناس فيظهر خلافه فيكون ذلك سبباً للضلال.
فإن قيل : الرؤيا للواقع قد تقع لغير المرسل أجيب : بأنّ ذلك قليل لا يقع لكل أحد تنبيه الهدي يحتمل أن يكون هو القرآن كقوله تعالى :﴿ أنزل فيه القرآن هدى للناس ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] وعلى هذا قوله تعالى :﴿ ودين الحق ﴾ هو ما فيه من الأصول والفروع ويحتمل أن يكون الهدي هو المعجزة أي أرسله بالمعجزة فيكون قوله تعالى ﴿ ودين الحق ﴾ إشارة إلى ما شرع والألف واللام في الهدى يحتمل أن تكون للعهد وهو قوله تعالى :﴿ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ﴾ وأن تكون للتعريف أي كل ما هو هدى تنبيه دين الحق يحتمل أن يكون المراد دين الله لأنّ الحق من أسماء الله تعالى ويحتمل أن يكون الحق نقيض الباطل فكأنه قال ودين الأمر الحق ﴿ ليظهره ﴾ أي : دينه ﴿ على الدين كله ﴾ أي : جميع باقي الأديان ﴿ وكفى بالله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿ شهيداً ﴾ أي : على أنك مرسل بما ذكر كما قال تعالى :﴿ محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزارع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾.
﴿ محمد رسول الله ﴾ أي : الملك الذي لا كفؤ له فهو الرسول الذي لا رسول يساويه فإنه رسول إلى جميع الخلق من أدرك زمانه بالفعل في الدنيا ومن تقدّمه بالقوّة فيها وبالفعل في الآخرة يوم يكون الكل تحت لوائه وقد أخذ على الأنبياء كلهم الميثاق بأن يؤمنوا به إن أدركوه وأخذ ذلك الأنبياء على أممهم وأشار بذكر هذا الاسم بخصوصه في سورة الفتح إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الخاتم بما أشارت إليه الميم التي مخرجها ختام المخارج واستنبط بعض العلماء من محمد ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً فقال فيه ثلاث ميمات وإذا بسطت كل منهما قلت فيه م ي م وعدّتها بحساب الجمل الكبير تسعون فيحصل منها مائتان وسبعون وإذا بسطت الحاء والدال قلت دال بخمسة وثلاثين، وحاء بتسعة فالجملة ما ذكر والاسم واحد فتم عدد الرسل كما قيل أنهم ثلاثمائة وخمسة عشر وقد تقدّم الكلام على أولي العزم منهم في سورة الأحقاف.
تنبيه : يجوز أن يكون محمد خبر مبتدأ مضمر لأنه لما تقدّم ﴿ هو الذي أرسل رسوله ﴾ دل على ذلك المقدّر أي هو أي الرسول بالهدى محمد. ورسول الله بدل أو بيان أو نعت وأن يكون محمد مبتدأ وخبره رسول الله وقيل غير ذلك.
ولما ذكر الرسول ذكر المرسل إليهم فقال تعالى ﴿ والذين معه ﴾ أي : بمعية الصحبة من الصحابة وحسن التبعية من التابعين لهم بإحسان ﴿ أشدّاء ﴾ أي : غلاظ ﴿ على الكفار ﴾ منهم لا تأخذهم بهم رأفة بل هم معهم كالأسد على فريسته لأنّ الله تعالى أمرهم بالغلظة عليهم لا يرحمونهم ﴿ رحماء بينهم ﴾ أي : متعاطفون متوادّون كالوالد مع الولد.
كما قال تعالى ﴿ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ﴾ [ المائدة : ٥٤ ] وعن الحسن بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه، ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التذلل وهذا التعطف فيشددوا على من ليس من دينهم ويتحاموه ويعاشروا إخوانهم المؤمنين في الإسلام متعطفين بالبر والصلة والمعونة وكف الأذى والاحتمال منهم.
تنبيه : والذين معه مبتدأ خبره أشدّاء على الكفار ورحماء بينهم خبر ثان وقيل غير ذلك. ثم بين تعالى الحامل لهم على ذلك بقوله سبحانه وتعالى ﴿ تراهم ﴾ أي : أيها الناظر لهم ﴿ ركعاً سجداً ﴾ أي : دائمين الخشوع فأكثر أوقاتهم صلاة قد غلبت صفة الملكية على صفاتهم الحيوانية فكانت الصلاة آمرة بالخير مصينة عن كل نقص وضير.
ثم أشار إلى إخلاصهم بقوله تعالى ﴿ يبتغون ﴾ أي : يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم تغليباً لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم ﴿ فضلاً ﴾ أي : زيادة من الخير ﴿ من الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال من الجلال والجمال الذي أعطاهم ملكة العظمة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرأفة على أوليائه ﴿ ورضواناً ﴾ أي : رضاً منه عظيماً بما نالهم من رحمته التي هيأهم بها للإحسان إلى عياله فنزعوا الهوى من صدورهم فصاروا يرونه وحده سيدهم المحسن إليهم لا يرون سيداً غيره ولا محسن سواه.
ثم بين كثرة صلاتهم. بقوله تعالى :﴿ سيماهم ﴾ أي : علامتهم التي لا تفارقهم ﴿ في وجوههم ﴾ ثم بين تعالى العلامة بقوله ﴿ من أثر السجود ﴾ وهو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة كما قال تعالى ﴿ يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ] رواه عطية العوفيّ عن ابن عباس. وعن أنس هو استنارة وجوههم من كثرة صلاتهم. وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال مجاهد هو السمت الحسن والخشوع والتواضع والمعنى أنّ السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به. وقال الضحاك : هو صفرة الوجه. وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال عكرمة : هو أثر التراب على الجباه. قال أبو العالية : لأنهم يسجدون على التراب لا على الثياب. وقال عطاء : استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل لأنّ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
قال بعضهم : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. قال البقاعي : ولا يظن أنّ من السيما ما يصنعه بعض المرائين من أثر هيئة السجود في جبهته فإنّ ذلك من سيما الخوارج. وفي نهاية ابن الأثير في تفسير الثقات ومنه حديث أبي الدرداء أنه رأى رجلاً بين عينيه مثل ثغنة البعير فقال : لو لم يكن هذا كان خيراً يعني كان على جبهته أثر السجود وإنما كرهها خوفاً من الرياء عليه. وعن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود » وعن بعض المتقدّمين : كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فيرى بين عينيه ركبة البعير فلا ندري أثقلت الرؤوس أم خشنت الأرض. وإنما أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق.
ثم أشار تعالى إلى علو مرتبة ذلك الوصف بقوله سبحانه :﴿ ذلك ﴾ أي : هذا الوصف العالي جداً البديع المثال البعيد المنال ﴿ مثلهم ﴾ أي : صفتهم ﴿ في التوراة ﴾ وهاهنا تم الكلام فإن مثلهم : مبتدأ وخبره في التوراة وقوله تعالى :﴿ ومثلهم في الإنجيل ﴾ أي : الذي نسخ الله تعالى به بعض أحكام التوراة مبتدأ وخبره ﴿ كزرع ﴾ أي : مثل زرع ﴿ أخرج شطأه ﴾ أي : فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ وهل يختص ذلك بالحنطة فقط أو بها وبالشعير أو لا يختص خلاف مشهور قال الشاعر :
أخرج الشطأ على وجه الثرى ومن الأشجار أفنان الثمر
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان : بفتح الطاء والباقون بإسكانها. وهما لغتان كالنهر والنهر وأدغم أبو عمرو الجيم في الشين بخلاف عنه ثم سبب عن هذا الإخراج قوله تعالى :﴿ فآزره ﴾ أي : قواه وأعانه. وقرأ ابن ذكوان : بقصر الهمزة بعد الفاء والباقون بالمدّ. ﴿ فاستغلظ ﴾ أي : فطلب المذكور من الزرع والشطء الغلظ وأوجده فتسبب عن ذلك اعتداله ﴿ فاستوى ﴾ أي : قوى واستقام وقوله تعالى :﴿ على سوقه ﴾ متعلق باستوى ويجوز أن يكون حالاً أي كائناً على سوقه أي قائماً عليها، هذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون.
قال قتادة : مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقيل : الزرع محمد صلى الله عليه وسلم والشطء : أصحابه والمؤمنون. وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه أبو بكر الصدّيق. أشدّاء على الكفار : عمر بن الخطاب. رحماء بينهم : عثمان بن عفان. تراهم ركعاً سجداً : علي بن أبي طالب يبتغون فضلاً من الله العشرة المبشرون بالجنة كمثل زرع محمد صلى الله عليه وسلم أخرج شطأه أبو بكر فآزره عمر، فاستغلظ عثمان يعني استغلظ عثمان بالإسلام، فاستوى على سوقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه استقام الإسلام بسيفه.
﴿ يعجب الزرّاع ﴾ قال : المؤمنون ﴿ ليغيظ بهم الكفار ﴾ قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم : لا يعبد الله سراً بعد اليوم روى أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«أرحم أمّتي أبو بكر، وأشدّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أبيّ، وأعلمهم بالحرام والحلال معاذ بن جبل، ولكل أمّة أمين وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح » وفي رواية أخرى وأقضاهم علي وروى بريدة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة ».
تنبيه : يعجب حال أي معجباً وهنا تم الكلام.
وقوله تعالى ﴿ ليغيظ بهم الكفار ﴾ فيه أوجه : أحدها : أنه متعلق بمحذوف دل عليه تشبيههم بالزرع في نمائهم وقوّتهم. قال الزمخشري : أي شبههم الله تعالى بذلك ليغيظ. ثانيها : أنه متعلق بما دل عليه قوله تعالى ﴿ أشدّاء ﴾ متعلق على الكفار الخ أي : جعلهم بهذه الصفات ليغيظ. ثالثها : أنه متعلق بقوله تعالى :﴿ وعد الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ الذين آمنوا ﴾ لأنّ الكفار إذا سمعوا بعزة المؤمنين في الدنيا وما أعدّ الله لهم في الآخرة غاظهم ذلك. وقوله تعالى :﴿ وعملوا الصالحات ﴾ فيه إشارة إلى تصديق دعواهم ومن في قوله تعالى :﴿ منهم ﴾ للبيان لا للتبعيض لأنهم كلهم كذلك فهي كقوله تعالى :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ﴾ [ الحج : ٣٠ ] ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصراً عما يجب لله تعالى من العبادة. أشار إلى ذلك بقوله تعالى :﴿ مغفرة ﴾ أي : لما يقع منهم من الذنوب والهفوات ﴿ وأجراً عظيماً ﴾ بعد ذلك الستر وهو الجنة. وهما أيضاً لمن بعدهم ممن يأتي.
فائدة قد جمعت هذه الآية الخاتمة لهذه السورة جميع حروف المعجم وفي ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم وعلوّ نصرهم رضي الله عنهم وحشرنا معهم نحن ووالدينا ومحبينا وجميع المسلمين بمنه وكرمه.
Icon