تفسير سورة ق

تفسير ابن كثير ط العلمية
تفسير سورة سورة ق من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير ط العلمية .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدِ؟ قَالَ: بِقَافٍ وَاقْتَرَبَتْ «٢»، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ بِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ فُلَيْحٍ عَنْ ضَمْرَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي واقد قال: سألني عمر رضي الله عنه، فَذَكَرَهُ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] وَقَالَ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَمَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إِلَّا على لسان رسول الله، وكان يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خطب الناس «٤»، رواه مسلم مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنٍ عَنِ ابْنَةِ الْحَارِثِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ مَا حَفِظْتُ ق إِلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِهَا كُلَّ جُمُعَةٍ. قَالَتْ: وَكَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ، وَالْقَصْدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي الْمَجَامِعِ الْكِبَارِ كَالْعِيدِ وَالْجُمَعِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ، وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْمَعَادِ وَالْقِيَامِ وَالْحِسَابِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ والثواب والعقاب والترغيب والترهيب، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سُورَةُ ق (٥٠) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)
ق: حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الهجاء المذكورة في أوائل السور كقوله تعالى: ص- ن- الم- حم- طس وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ وَقَدْ أَسْلَفْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قالوا: ق جبل
(١) المسند ٥/ ٢١٧، ٢١٨.
(٢) أخرجه مسلم في صلاة العيدين حديث ١٤، ١٥، والترمذي في الجمعة باب ٣٣، والنسائي في العيدين باب ١٢، وابن ماجة في الإقامة باب ١٥٧.
(٣) المسند ٦/ ٤٣٥، ٤٣٦.
(٤) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٤٥.
367
مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَرْضِ يُقَالُ لَهُ جَبَلُ قَافٍ، وَكَأَنَّ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مِنْ خُرَافَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَخَذَهَا عَنْهُمْ بَعْضُ النَّاسِ لَمَّا رأى من جواز الرواية عنهم مما لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ وَأَشْبَاهَهُ مِنَ اخْتِلَاقِ بَعْضِ زَنَادِقَتِهِمْ، يُلَبِّسُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ أَمْرَ دِينِهِمْ، كَمَا افْتُرِيَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِ عُلَمَائِهَا وَحُفَّاظِهَا وَأَئِمَّتِهَا أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ فَكَيْفَ بِأُمَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ طُولِ الْمَدَى وَقِلَّةِ الْحُفَّاظِ النُّقَّادِ فِيهِمْ وَشُرْبِهِمُ الْخُمُورَ، وَتَحْرِيفِ عُلَمَائِهِمُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَبْدِيلِ كُتُبِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ الشَّارِعُ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:
«وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» »
فِيمَا قَدْ يُجَوِّزُهُ الْعَقْلُ، فَأَمَّا فِيمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْبُطْلَانِ وَيَغْلِبُ عَلَى الظُّنُونِ كَذِبُهُ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَكْثَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَذَا طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْخَلَفِ مِنَ الْحِكَايَةِ عَنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَلَيْسَ بِهِمُ احْتِيَاجٌ إِلَى أَخْبَارِهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، حَتَّى إِنَّ الْإِمَامَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ عليه، أَوْرَدَ هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ عن ابن عباس رضي الله عنهما فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال:
خلق الله تبارك وتعالى من وراء هذه الأرض بَحْرًا مُحِيطًا بِهَا، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ وَرَاءِ ذلك البحر جبلا يقال له ق، السماء الدنيا مرفوفة عليه «٢»، ثم خلق الله تعالى مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ الْجَبَلِ أَرْضًا مِثْلَ تِلْكَ الْأَرْضِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ بَحْرًا مُحِيطًا بِهَا، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ ق السَّمَاءُ الثانية مرفوفة عَلَيْهِ، حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرْضِينَ وَسَبْعَةَ أَبْحُرٍ وسبعة أجبل وسبع سموات، قال وذلك في قوله تعالى: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ فَإِسْنَادُ هَذَا الْأَثَرِ فِيهِ انْقِطَاعٌ، وَالَّذِي رَوَاهُ علي ابن أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قوله عز وجل ق هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالَّذِي ثَبَتَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ حَرْفٌ مِنْ حروف الهجاء كقوله تعالى: ص- ن- حم- طس- الم وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ تُبْعِدُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. وَقِيلَ: الْمُرَادُ قُضِيَ الْأَمْرُ وَاللَّهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ جل ثناؤه ق قال: دَلَّتْ عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلِمِ كَقَوْلِ الشاعر: [الرجز] قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ «٣» وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَذْفَ فِي الْكَلَامِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَيْنَ
(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٥٠، وأبو داود في العلم باب ١١، والترمذي في العلم باب ١٣، وأحمد في المسند ٢/ ١٥٩، ١٠٢، ٢١٤، ٤٧٤، ٥٠٢، ٣/ ٤٦، ٥٦.
(٢) مرفوفة عليه: أي مسقوفة عليه.
(٣) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (وقف) وتهذيب اللغة ١٥/ ٦٧٩، وتاج العروس (سين). وتفسير الطبري ١١/ ٤٠٦.
368
يُفْهَمُ هَذَا مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْحَرْفِ؟ وَقَوْلُهُ تعالى: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أَيِ الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الذِي لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: ٤٢] وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ مَا هُوَ؟ فَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّهُ قَوْلُهُ تعالى: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ وَفِي هَذَا نَظَرٌ بَلِ الْجَوَابُ هُوَ مَضْمُونُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقَسَمِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ وَإِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَتَقْرِيرُهُ وَتَحْقِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يكن القسم ملتقي لَفْظًا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ [ص: ٢] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَيْ تَعَجَّبُوا مِنْ إِرْسَالِ رسول إليهم من البشر، كقوله جل جلاله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يُونُسَ: ٢] أَيْ وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ فَإِنَّ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ.
ثم قال عز وجل مخبرا عنهم في تعجبهم أيضا من المعاد واستبعادهم لوقوعه أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أَيْ يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَبَلِينَا وَتَقَطَّعَتِ الْأَوْصَالُ مِنَّا وَصِرْنَا تُرَابًا، كَيْفَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أَيْ بَعِيدُ الْوُقُوعِ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اسْتِحَالَتَهُ وَعَدَمَ إِمْكَانِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أَيْ مَا تَأْكُلُ مِنْ أَجْسَادِهِمْ فِي الْبِلَى نَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى عَلَيْنَا أَيْنَ تَفَرَّقَتِ الْأَبْدَانُ وَأَيْنَ ذَهَبَتْ وَإِلَى أَيْنَ صَارَتْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ أَيْ حَافِظٌ لِذَلِكَ فَالْعِلْمُ شَامِلٌ وَالْكِتَابُ أَيْضًا فِيهِ كُلُّ الْأَشْيَاءِ مَضْبُوطَةٌ. قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أَيْ مَا تَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ، وَعِظَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ «١»، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ بين تبارك وتعالى سَبَبَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَاسْتِبْعَادِهِمْ مَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ فَقَالَ: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أَيْ وَهَذَا حَالُ كُلِّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ مَهْمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَالْمَرِيجُ: الْمُخْتَلِفُ الْمُضْطَرِبُ الْمُلْتَبِسُ المنكر خلاله كقوله تَعَالَى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:
٨- ٩].
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٦ الى ١١]
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠)
رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١)
(١) انظر تفسير الطبري ١١/ ٤٠٧.
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا لِلْعِبَادِ عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَظْهَرَ بِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا تَعَجَّبُوا مُسْتَبْعِدِينَ لِوُقُوعِهِ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها أَيْ بِالْمَصَابِيحِ وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي مِنْ شقوق، وقال غيره: فتوق، وقال غيره: صدوع، والمعنى متقارب كقوله تبارك وتعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْمُلْكِ: ٣- ٤] أَيْ كَلِيلٌ عَنْ أَنْ يَرَى عَيْبًا أَوْ نَقْصًا.
وَقَوْلُهُ تبارك وتعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أَيْ وَسِعْنَاهَا وَفَرَشْنَاهَا وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَهِيَ الْجِبَالُ لِئَلَّا تَمِيدَ بِأَهْلِهَا وَتَضْطَرِبَ، فَإِنَّهَا مُقَرَّةٌ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ الْمُحِيطِ بِهَا مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أَيْ مِنْ جَمِيعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَنْوَاعِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذَّارِيَاتِ: ٤٩] وَقَوْلُهُ بَهِيجٍ أَيْ حَسَنٍ نَضِرٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أَيْ ومشاهدة خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِمَا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ تَبْصِرَةٌ وَدَلَالَةٌ وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أَيْ خَاضِعٍ خَائِفٍ وَجِلٍ رَجَّاعٍ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً أَيْ نَافِعًا فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ أَيْ حَدَائِقَ مِنْ بَسَاتِينَ وَنَحْوِهَا وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَهُوَ الزَّرْعُ الَّذِي يُرَادُ لِحَبِّهِ وَادِّخَارِهِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ أَيْ طِوَالًا شَاهِقَاتٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: الْبَاسِقَاتُ الطِّوَالُ «١» لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ أَيْ مَنْضُودٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ أَيْ لِلْخَلْقِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ هَامِدَةً، فَلَمَّا نَزَلَ الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بَهِيجٍ مِنْ أَزَاهِيرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يَحَارُ الطَّرْفُ فِي حُسْنِهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا كَانَتْ لَا نَبَاتَ بِهَا فَأَصْبَحَتْ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ، فَهَذَا مِثَالٌ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ، كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَهَذَا الْمُشَاهَدُ مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِالْحِسِّ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْكَرَهُ الْجَاحِدُونَ لِلْبَعْثِ، كَقَوْلِهِ عز وجل:
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: ٥٧] وقوله تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: ٣٣] وقال سبحانه وتعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فُصِّلَتْ: ٣٩].
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٢ الى ١٥]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)
(١) انظر تفسير الطبري ١١/ ٤١١.
يقول تعالى مهددا لِكَفَّارِ قُرَيْشٍ، بِمَا أَحَلَّهُ بِأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ، مِنَ النَّقَمَاتِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الدُّنْيَا كَقَوْمِ نُوحٍ وَمَا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ تعالى بِهِ مِنَ الْغَرَقِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمْ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَهُمْ أُمَّتُهُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ سَدُومَ ومعاملتها من الغور، وكيف خسف الله تعالى بِهِمُ الْأَرْضَ، وَأَحَالَ أَرْضَهُمْ بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً بِكُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمُ الْحَقَّ. وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَهُمْ قوم شعيب عليه الصلاة والسلام وَقَوْمُ تُبَّعٍ وَهُوَ الْيَمَانِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ شَأْنِهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ مَا أَغْنَى عَنْ إعادته هاهنا، ولله الحمد والشكر.
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أَيْ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ وَهَؤُلَاءِ الْقُرُونِ كَذَّبَ رَسُولَهُ، وَمَنْ كَذَّبَ رسولا فكأنما كذب جميع الرسل كقوله جل وعلا: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٠٥] وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ وَاحِدٌ فَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَوْ جَاءَهُمْ جَمِيعُ الرُّسُلِ كَذَّبُوهُمْ فَحَقَّ وَعِيدِ أَيْ فحق عليهم ما أوعدهم الله تعالى عَلَى التَّكْذِيبِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فَلْيَحْذَرِ الْمُخَاطَبُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا رسولهم كما كذب أولئك. وقوله تعالى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أَيْ أَفَأَعْجَزَنَا ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ حَتَّى هُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْإِعَادَةِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْخَلْقِ لَمْ يُعْجِزْنَا وَالْإِعَادَةُ أَسْهَلُ منه كما قال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: ٢٧] وقال الله جل جلاله: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: ٧٨- ٧٩] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَقُولُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بأهون علي من إعادته».
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٦ الى ٢٢]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ خالقه وعلمه مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أُمُورِهِ، حَتَّى إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نُفُوسُ بَنِي آدَمَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ تعالى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ تعمل» «١» وقوله عز وجل:
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ يَعْنِي مَلَائِكَتُهُ تَعَالَى أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وريده
(١) أخرجه البخاري في الأيمان باب ١٥، ومسلم في الأيمان حديث ٢٠١، ٢٠٢، وأبو داود في الطلاق باب ١٥، والترمذي في الطلاق باب ٨، والنسائي في الطلاق باب ٢٢، وابن ماجة في الطلاق باب ١٤، ١٦، وأحمد في المسند ٢/ ٣٩٨، ٤٢٥، ٤٧٤، ٤٨١، ٤٩١.
371
إِلَيْهِ، وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْعِلْمِ فَإِنَّمَا فَرَّ لِئَلَّا يَلْزَمَ حُلُولٌ أَوِ اتِّحَادٌ وَهُمَا مَنْفَيَّانِ بِالْإِجْمَاعِ، تَعَالَى اللَّهُ وَتَقَدَّسَ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقِلْ: وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وَإِنَّمَا قَالَ:
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ كَمَا قَالَ فِي الْمُحْتَضِرِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ [الواقعة: ٨٥] يعني ملائكته.
وكما قال تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: ٩] فَالْمَلَائِكَةُ نَزَلَتْ بِالذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ إِلَيْهِ بِإِقْدَارِ اللَّهِ جل وعلا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَلِلْمَلَكِ لَمَّةٌ فِي الْإِنْسَانِ كَمَا أَنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً «١»، وَكَذَلِكَ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ «٢»، كَمَا أَخْبَرَ بذلك الصادق المصدوق ولهذا قال تعالى هاهنا: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ يعني الملكين الذين يَكْتُبَانِ عَمَلَ الْإِنْسَانِ.
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أَيْ مُتَرَصِّدٌ مَا يَلْفِظُ أَيِ ابْنُ آدَمَ مِنْ قَوْلٍ أَيْ مَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أَيْ إِلَّا وَلَهَا مَنْ يُرَاقِبُهَا مُعْتَدٍ لِذَلِكَ يَكْتُبُهَا لَا يَتْرُكُ كَلِمَةً وَلَا حَرَكَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الِانْفِطَارِ:
١٠- ١٢] وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقَتَادَةَ، أَوْ إِنَّمَا يَكْتُبُ مَا فِيهِ ثَوَابٌ وعقاب كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما، فعلى قولين وظاهر الآية الأول لعموم قوله تبارك وتعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ اللَّيْثِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ عَنْ بلال بن الحارث المزني رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكلمة من رضوان ﷺ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يكتب الله عز وجل لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بلغت، يكتب الله تعالى عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ» «٤» قَالَ: فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلَهُ شاهد في الصحيح.
(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢، باب ٢٥.
(٢) أخرجه البخاري في الأحكام باب ٢١، وبدء الخلق باب ١١، والاعتكاف باب ١١، ١٢، وأبو داود في الصوم باب ٧٨، والسنة باب ١٧، والأدب باب ٨١، وابن ماجة في الصيام باب ٦٥، والدارمي في الرقاب باب ٦٦، وأحمد في المسند ٣/ ١٥٦، ٢٨٥، ٣٠٩، ٦/ ٣٣٧.
(٣) المسند ٣/ ٤٦٩.
(٤) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢٣، والترمذي في الزهد باب ١٢، وابن ماجة في الفتن باب ١٢، ومالك في الكلام باب ٥. [.....]
372
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: صَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْخَيْرَ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ فَإِنْ أَصَابَ الْعَبْدُ خَطِيئَةً قَالَ لَهُ أَمْسِكْ، فَإِنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى نَهَاهُ أَنْ يَكْتُبَهَا وَإِنْ أَبَى كَتَبَهَا، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ يا ابن آدَمَ بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ وَوَكَلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ، فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَسَارِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ وَجُعِلَتْ فِي عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ حَتَّى تَخْرُجَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يقول تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ثُمَّ يَقُولُ: عَدَلَ وَاللَّهِ فِيكَ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ قَالَ: يَكْتُبُ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ حَتَّى إِنَّهُ لَيَكْتُبُ قَوْلَهُ أَكَلْتُ شَرِبْتُ ذَهَبْتُ جِئْتُ رَأَيْتُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عَرَضَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ فَأَقَرَّ مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ أو شر وألقي سائره، وذلك قوله تَعَالَى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: ٣٩] وَذُكِرَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَئِنُّ فِي مَرَضِهِ فَبَلَغَهُ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَنِينَ فَلَمْ يَئِنَّ أَحْمَدُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وقوله تبارك وتعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ يقول عز وجل: وَجَاءَتْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ أَيْ كَشَفَتْ لَكَ عَنِ الْيَقِينِ الَّذِي كُنْتَ تَمْتَرِي فِيهِ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أَيْ هَذَا هُوَ الَّذِي كُنْتَ تَفِرُّ مِنْهُ قَدْ جَاءَكَ فَلَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ وَلَا فِكَاكَ وَلَا خَلَاصَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَقِيلَ الْكَافِرُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ سَبَلَانُ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ بن وقاص قال: أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
حَضَرْتُ أبي رضي الله عنه وَهُوَ يَمُوتُ، وَأَنَا جَالِسَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ فَأَخَذَتْهُ غَشْيَةٌ، فَتَمَثَّلْتُ بِبَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ:
مَنْ لَا يَزَالُ دَمْعُهُ مُقَنَّعًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مَرَّةً مدقوق «١»
(١) الرواية عند ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث ٤/ ١١٥.
من لا يزال دمعه مقنّعا لا بدّ يوما أن يهراق
هكذا ورد، وتصحيحه:
من لا يزال دمعه مقنّعا لا بدّ يوما أنّه يهراق
وهو من الضرب الثاني من بحر الرجز، ورواه بعضهم:
ومن لا يزال الدّمع فيه مقنّعا فلا بدّ يوما أنه مهراق
وهو من الضرب الثالث من الطويل، فسّروا المقنع بأنه المحبوس في جوفه»، وكذلك الرواية في النهاية في غريب الحديث للزمخشري ٣/ ١٢٨.
373
قالت: فرفع رضي الله عنه رَأْسَهُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ كما قال الله تَعَالَى:
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ الْخَيَّاطُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الْبَهِيِّ قَالَ: لَمَّا أَنْ ثَقُلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَتَمَثَّلَتْ بِهَذَا الْبَيْتِ: [الطويل]
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ «١»
فَكَشَفَ عَنْ وجهه وقال رضي الله عنه: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوْلِي وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَقَدْ أَوْرَدْتُ لِهَذَا الْأَثَرِ طُرُقًا كَثِيرَةً فِي سِيرَةِ الصديق رضي الله عنه عند ذكر وفاته، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا تَغَشَّاهُ الْمَوْتُ جَعَلَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ» «٢» وَفِي قَوْلِهِ: ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ قَوْلَانِ: [أَحَدُهُمَا] أَنَّ مَا هَاهُنَا مَوْصُولَةٌ أَيِ الَّذِي كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ بِمَعْنَى تَبْتَعِدُ وَتَنْأَى وَتَفِرُّ قَدْ حَلَّ بِكَ وَنَزَلَ بِسَاحَتِكَ [وَالْقَوْلُ الثَّانِي] أَنَّ «مَا» نَافِيَةٌ بِمَعْنَى ذَلِكَ مَا كُنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْفِرَارِ مِنْهُ وَلَا الْحَيْدِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّائِغُ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا حفص عن ابن عُمَرَ الْحُدَيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهُذَلِيُّ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الَّذِي يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ مَثَلُ الثَّعْلَبِ تَطْلُبُهُ الْأَرْضُ بِدَيْنٍ، فَجَاءَ يَسْعَى حَتَّى إِذَا أَعْيَى وَأَسْهَرَ دَخَلَ جُحْرَهُ فَقَالَتْ لَهُ الْأَرْضُ يَا ثَعْلَبُ دَيْنِي، فَخَرَجَ وَلَهُ حِصَاصٌ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تَقَطَّعَتْ عُنُقُهُ وَمَاتَ» وَمَضْمُونُ هَذَا الْمَثَلِ كَمَا لَا انْفِكَاكَ لَهُ وَلَا مَحِيدَ عَنِ الْأَرْضِ، كَذَلِكَ الْإِنْسَانُ لا محيد له عن الموت.
وقوله تبارك وتعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ وَالْفَزَعِ وَالصَّعْقِ وَالْبَعْثِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ» قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقُولُ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» فَقَالَ الْقَوْمُ: حسبنا الله
(١) البيت لحاتم الطائي في ديوانه ص ١٩٩، والأغاني ١٧/ ٢٩٥، وجمهرة اللغة ص ١٠٣٤، ١١٣٣، وخزانة الأدب ٤/ ٢١٢، والدرر ١/ ٢١٥، والشعر والشعراء ١/ ٢٥٢، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٦١، ولسان العرب (قرن)، وأساس البلاغة (حشر)، وبلا نسبة في لسان العرب (حشرج)، وهمع الهوامع ١/ ٦٥، والرواية في ديوان حاتم الطائي «أماويّ» بدل «لعمرك».
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٢، والترمذي في الجنائز باب ٧، وابن ماجة في الجنائز باب ٦٤، وأحمد في المسند ٦/ ٦٤، ٧٠، ٧٧، ١٥١.
374
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ أَيْ مَلَكٌ يَسُوقُهُ إِلَى الْمَحْشَرِ وَمَلَكٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ يَحْيَى بْنِ رَافِعٍ مَوْلًى لِثَقِيفٍ قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يَخْطُبُ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ فَقَالَ سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى الله تعالى وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا عَمِلَتْ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مَوْلَى أَشْجَعَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: السَّائِقُ الْمَلَكُ وَالشَّهِيدُ الْعَمَلُ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ والسدي، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّهِيدُ الْإِنْسَانُ نَفْسُهُ، يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ أَيْضًا.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ «١» ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي المراد بهذا الخطاب في قوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [أَحَدُهَا] أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْكَافِرُ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ يَقُولُ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ. [وَالثَّانِي] أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ لِأَنَّ الْآخِرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّنْيَا كَالْيَقِظَةِ، وَالدُّنْيَا كَالْمَنَامِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بن عباس رضي الله عنهما. [وَالثَّالِثُ] أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ يَقُولُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ، وَالْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِمَا: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْكَ، فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ بِإِنْزَالِهِ إِلَيْكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ خِلَافُ هَذَا بَلِ الْخِطَابُ مَعَ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، والمراد بقوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا يَعْنِي مِنْ هَذَا الْيَوْمِ فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي قوي لأن كل أحد يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ مُسْتَبْصِرًا حَتَّى الْكُفَّارُ فِي الدُّنْيَا، يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، لَكِنْ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا [مَرْيَمَ: ٣٨]. وقال عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: ١٢].
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٩]
وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧)
قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِعَمَلِ ابْنِ آدَمَ أَنَّهُ يَشْهَدُ عليه يوم القيامة بما فعل
(١) تفسير الطبري ١١/ ٤٢٠.
375
ويقول: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ أي معتمد مُحْضَرٌ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هذا كلام الملك السائق، يقول ابْنُ آدَمَ الَّذِي وَكَّلْتَنِي بِهِ قَدْ أَحْضَرْتُهُ وقد اختار ابن جرير أنه يَعُمَّ السَّائِقَ وَالشَّهِيدَ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ وَقُوَّةٌ، فَعِنْدَ ذلك يحكم الله تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ بِالْعَدْلِ فَيَقُولُ: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي قَوْلِهِ: أَلْقِيا فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ يُخَاطِبُونَ الْمُفْرَدَ بِالتَّثْنِيَةِ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَا حَرَسِيُّ اضْرِبَا عُنُقَهُ، وَمِمَّا أَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» عَلَى هذه قول الشاعر: [الطويل]
فإن تزجراني يا ابن عَفَّانَ أَنْزَجِرْ وَإِنْ تَتْرُكَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعًا «٢»
وَقِيلَ: بَلْ هِيَ نُونُ التَّأْكِيدِ سُهِّلَتْ إِلَى الْأَلْفِ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْوَقْفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ مَعَ السَّائِقِ وَالشَّهِيدِ، فَالسَّائِقُ أَحْضَرَهُ إِلَى عَرْصَةِ الْحِسَابِ، فَلَمَّا أَدَّى الشَّهِيدُ عَلَيْهِ أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِإِلْقَائِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ أَيْ كَثِيرُ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ عَنِيدٌ مُعَانِدٌ لِلْحَقِّ، مُعَارِضٌ لَهُ بِالْبَاطِلِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أَيْ لَا يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ وَلَا بِرَّ فِيهِ وَلَا صِلَةَ وَلَا صَدَقَةَ مُعْتَدٍ أَيْ فِيمَا يُنْفِقُهُ وَيَصْرِفُهُ يَتَجَاوَزُ فِيهِ الْحَدَّ.
وقال قتادة: معتد في منطقه وسيره وَأَمْرِهِ مُرِيبٍ أَيْ شَاكٌّ فِي أَمْرِهِ مُرِيبٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أَيْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عُنُقًا مِنَ النَّارِ يَبْرُزُ لِلْخَلَائِقِ فَيُنَادِي بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: إِنِّي وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالْمُصَوِّرِينَ «٣»، ثُمَّ تُلْوَى عَلَيْهِمْ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ هُوَ ابْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَتَكَلَّمُ يقول وكلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَتَنْطَوِي عَلَيْهِمْ فَتَقْذِفُهُمْ فِي غَمَرَاتِ جَهَنَّمَ».
قالَ قَرِينُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ أَيْ يَقُولُ عَنِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَدْ وَافَى الْقِيَامَةَ كَافِرًا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ شَيْطَانُهُ فَيَقُولُ: رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ أَيْ مَا أَضْلَلْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أَيْ بَلْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ ضَالًّا قابلا للباطل معاندا للحق، كما أخبر سبحانه وتعالى في الآية الأخرى في قوله:
(١) تفسير الطبري ١١/ ٤٢٢.
(٢) البيت لسويد بن كراع العكلي في لسان العرب (جزز)، والتنبيه والإيضاح ٢/ ٢٣٩، وتاج العروس (جزز)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٨٣٩، والمخصص ٢/ ٥.
(٣) أخرجه الترمذي في صفة جهنم باب ١، وأحمد في المسند ٢/ ٣٣٦.
(٤) المسند ٣/ ٤٠.
376
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: ٢٢].
وقوله تبارك وتعالى: قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ يَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لِلْإِنْسِيِّ وَقَرِينِهِ مِنَ الْجِنِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا يختصمان بين يدي الحق تعالى، فَيَقُولُ الْإِنْسِيُّ يَا رَبِّ هَذَا أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي، وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أَيْ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أَيْ عِنْدِي وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أَيْ قَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَأَنْزَلْتُ الْكُتُبَ وَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَجُ وَالْبَيِّنَاتُ وَالْبَرَاهِينُ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي قَدْ قَضَيْتُ مَا أَنَا قَاضٍ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ لست أعذب أحدا إلا بذنب أحد ولكن لا أعذب أحد إلا بذنبه بعد قيام الحجة عليه.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٠ الى ٣٥]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقُولُ لِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ تبارك وَعَدَهَا أَنْ سَيَمْلَؤُهَا مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فهو سبحانه وتعالى يَأْمُرُ بِمَنْ يَأْمُرُ بِهِ إِلَيْهَا وَيُلْقَى وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أَيْ هَلْ بَقِيَ شيء تزيدوني؟ هذا هو الظاهر في سِيَاقِ الْآيَةِ وَعَلَيْهِ تَدَلُّ الْأَحَادِيثُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ «١» عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن أبي الأسود، حدثني حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟» حَتَّى يَضَعَ قَدَمَهُ فِيهَا فَتَقُولُ: قَطُّ قَطُّ».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يَلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مزيد؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطُّ قَطُّ وَعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ فَيُسْكِنُهُمْ الله تعالى فِي فُضُولِ الْجَنَّةِ» «٣» ثُمَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِنَحْوِهِ، وَرَوَاهُ أَبَانُ الْعَطَّارُ وَسُلَيْمَانُ التيمي عن قتادة بنحوه.
(١) تفسير سورة ٥٠، باب ١.
(٢) المسند ٣/ ٢٣٤.
(٣) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٣٨.
377
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْبُخَارِيُّ «١» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، رَفَعَهُ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُوقِفُهُ أَبُو سُفْيَانَ: «يُقَالُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ، وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مزيد فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط» ورواه أبو أَيُّوبُ وَهُشَامُ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِهِ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ الْبُخَارِيُّ «٢» : وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقْطُهُمْ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رجله فيها فتقول قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عز وجل مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ».
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ مُسْلِمٌ «٣» فِي صَحِيحِهِ. حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ: فِيَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ فِيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ فَقَضَى بَيْنَهُمَا فَقَالَ لِلْجَنَّةِ إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ إِنَّمَا أَنْتِ عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا» انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عن أبي سعيد رضي الله عنه بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ وَرَوْحٌ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «افْتَخَرَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ يَا رَبِّ يَدْخُلُنِي الْجَبَابِرَةُ وَالْمُتَكَبِّرُونَ وَالْمُلُوكُ وَالْأَشْرَافُ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ أَيْ رَبِّ يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين فيقول الله تبارك وتعالى لِلنَّارِ أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا فَيُلْقَى فِي النَّارِ أَهْلُهَا فَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، قَالَ وَيُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، وَيُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَأْتِيَهَا عَزَّ وجل فيضع قدمه عليها فتنزوي وتقول قدني قدني «٥»، وأما الجنة فيبقى
(١) كتاب التفسير تفسير سورة ٥٠، باب ١، وأخرجه الترمذي في الجنة باب ٢٠.
(٢) كتاب التفسير، تفسير سورة ٥٠، باب ١.
(٣) كتاب الجنة حديث ٣٤، ٣٥. [.....]
(٤) المسند ٣/ ١٣.
(٥) قدني، قدني: أي حسبي، حسبي.
378
فيها ما شاء تعالى أن يبقى فينشئ الله سبحانه وتعالى لَهَا خَلْقًا مَا يَشَاءُ».
[حَدِيثٌ آخَرُ] وَقَالَ الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثني عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُعَرِّفُنِي اللَّهُ تعالى نَفْسَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْجُدُ سَجْدَةً يَرْضَى بِهَا عَنِّي ثُمَّ أَمْدَحُهُ مِدْحَةً يَرْضَى بِهَا عَنِّي، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ تَمُرُّ أُمَّتِي عَلَى الصِّرَاطِ مَضْرُوبٍ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَيَمُرُّونَ أَسْرَعَ مِنَ الطَّرْفِ وَالسَّهْمِ وَأَسْرَعَ مِنْ أَجْوَدِ الْخَيْلِ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ مِنْهَا يَحْبُو وَهِيَ الْأَعْمَالُ، وَجَهَنَّمُ تَسْأَلُ الْمَزِيدَ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطُّ قَطُّ وَأَنَا عَلَى الْحَوْضِ» قِيلَ: وَمَا الحوض يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ شَرَابَهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ. وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، وَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ لَا يَشْرَبُ مِنْهُ إِنْسَانٌ فَيَظْمَأُ أَبَدًا وَلَا يُصْرَفُ فَيَرْوَى أَبَدًا» «١» وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ عَنْ نَضْرٍ الْخَزَّازِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قَالَ: مَا امْتَلَأَتْ قَالَ تَقُولُ وَهَلْ فِيَّ مِنْ مَكَانٍ يُزَادُ فِيَّ، وَكَذَا رواه الحاكم بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ وَهَلْ فِيَّ مَدْخَلٌ وَاحِدٌ قَدِ امْتَلَأْتُ. قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: لَا يَزَالُ يُقْذَفُ فِيهَا حَتَّى تَقُولَ قَدِ امْتَلَأْتُ فتقول: هل مِنْ مَزِيدٍ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَ هَذَا فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: هَلِ امْتَلَأْتِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَا يَضَعُ عَلَيْهَا قَدَمَهُ فَتَنْزَوِي وَتَقُولُ حِينَئِذٍ هل بقي في مَزِيدٍ يَسَعُ شَيْئًا؟ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَذَلِكَ حِينَ لَا يَبْقَى فِيهَا مَوْضِعٌ يَسَعُ إبرة، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ قَالَ قَتَادَةُ وأبو مالك والسدي وَأُزْلِفَتِ أُدْنِيَتْ وَقُرِّبَتْ مِنَ الْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا محالة وكل ما هو آت قريب هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ أي راجع تَائِبٌ مُقْلِعٌ حَفِيظٍ أَيْ يَحْفَظُ الْعَهْدَ فَلَا ينقضه ولا يَنْكُثُهُ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: الْأَوَّابُ الْحَفِيظُ الَّذِي لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا فَيَقُومُ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أَيْ مَنْ خَافَ اللَّهَ فِي سِرِّهِ حَيْثُ لا يراه أحد إلا الله عز وجل كقوله صلى الله عليه وسلم: «ورجل ذكر الله تعالى خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» «٢».
وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أَيْ ولقي الله عز وجل يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه
(١) انظر الدر المنثور ٦/ ١٢٧، ١٢٨.
(٢) أخرجه البخاري في الأذان باب ٣٦، والزكاة باب ١٦، ومسلم في الزكاة حديث ٩١، والترمذي في الزهد باب ٥٣، ومالك في الشعر حديث ١٤، وأحمد في المسند ٢/ ٤٣٩.
379
ادْخُلُوها أَيِ الْجَنَّةَ بِسَلامٍ قَالَ قَتَادَةُ سَلِمُوا من عذاب الله عز وجل، وسلم عليهم ملائكة الله، وقوله سبحانه وتعالى: ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أَيْ يَخْلُدُونَ فِي الْجَنَّةِ فَلَا يَمُوتُونَ أَبَدًا، وَلَا يَظْعَنُونَ أَبَدًا وَلَا يبغون عنها حولا، وقوله جلت عظمته: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها أَيْ مَهْمَا اخْتَارُوا وَجَدُوا مِنْ أَيِّ أَصْنَافِ الْمَلَاذِّ طَلَبُوا أُحْضِرَ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ عَنْ بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ: مِنَ الْمَزِيدِ أَنَّ تَمُرَّ السَّحَابَةُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَتَقُولَ: مَاذَا تُرِيدُونَ فَأُمْطِرُهُ لَكُمْ؟ فَلَا يَدْعُونَ بِشَيْءٍ إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ، قَالَ كثير: لئن أشهدني الله تعالى ذَلِكَ لَأَقُولَنَّ أَمْطِرِينَا جَوَارِيَ مُزَيَّنَاتٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ لَتَشْتَهِي الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اشْتَهَى الْمُؤْمِنُ الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ» «٢» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حسن غريب وزاد: كما يشتهي.
وقوله تعالى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ كقوله عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ:
٢٦] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ الرُّومِيِّ أَنَّهَا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ الْقَاضِي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ أبي اليقظان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قَالَ: يَظْهَرُ لَهُمُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ مَرْفُوعًا فَقَالَ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْأَزْهَرِ مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ عن عبد الله بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه يقول: أتى جبرائيل عليه الصلاة والسلام بِمِرْآةٍ بَيْضَاءَ فِيهَا نُكْتَةٌ «٣» إِلَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذِهِ؟» فَقَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ فُضِّلْتَ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، فَالنَّاسُ لَكُمْ فِيهَا تَبَعٌ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَلَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ، وَلَكُمْ فِيهَا سَاعَةٌ لا يوافقها مؤمن، يدعو الله تعالى فيها بِخَيْرٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ وَهُوَ عِنْدَنَا يَوْمُ الْمَزِيدِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا جِبْرِيلُ وما يوم المزيد؟» قال عليه السلام: إن ربك تبارك وتعالى اتَّخَذَ فِي الْفِرْدَوْسِ وَادِيًا أَفْيَحَ «٤» فِيهِ كُثُبُ الْمِسْكِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى ما شاء من
(١) المسند ٣/ ٩.
(٢) أخرجه الترمذي في الجنة باب ٢٣، وابن ماجة في الزهد باب ٣٩، والدارمي في الرقاق باب ١١٠.
(٣) النكتة: هي الأثر في الشيء كالنقطة من غير لونه.
(٤) الوادي الأفيح: الواسع.
380
مَلَائِكَتِهِ، وَحَوْلَهُ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ عَلَيْهَا مَقَاعِدُ النبيين، وحفت تلك المنابر مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ عَلَيْهَا الشُّهَدَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ، فَجَلَسُوا مِنْ وَرَائِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْكُثُبِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا رَبُّكُمْ قَدْ صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا نَسْأَلُكَ رِضْوَانَكَ، فَيَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ عَنْكُمْ وَلَكُمْ عَلَيَّ مَا تَمَنَّيْتُمْ وَلَدَيَّ مَزِيدٌ. فَهُمْ يُحِبُّونَ يَوْمَ الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتَوَى فِيهِ رَبُّكُمْ عَلَى الْعَرْشِ وَفِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ تقوم الساعة.
هكذا أورده الإمام الشافعي رحمه الله فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ مِنَ الْأُمِّ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقد أورد ابن جرير «١» هذا الحديث مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا، وَذَكَرَ هَاهُنَا أَثَرًا مُطَوَّلًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَفِيهِ غَرَائِبُ كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَنَّةِ لَيَتَّكِئُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ، ثُمَّ تَأْتِيهِ امْرَأَةٌ فَتَضْرِبُ عَلَى مَنْكِبِهِ فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنَ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَيَرُدُّ السَّلَامَ فَيَسْأَلُهَا مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ أَنَا مِنَ الْمَزِيدِ وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً أَدْنَاهَا مِثْلُ النُّعْمَانِ مِنْ طُوبَى فَيَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَلَيْهَا مِنَ التِّيجَانِ إِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ مِنْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عن دراج به.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠)
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَ هؤلاء المكذبين مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أَيْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وعمروها أكثر مما عمروها ولهذا قال تعالى هاهنا: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قال ابن عباس رضي الله عنهما: أَثَّرُوا فِيهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ وَقَالَ قَتَادَةُ: فَسَارُوا فِي الْبِلَادِ أَيْ سَارُوا فِيهَا يَبْتَغُونَ الْأَرْزَاقَ وَالْمَتَاجِرَ وَالْمَكَاسِبَ أَكْثَرَ مِمَّا طُفْتُمْ أَنْتُمْ فِيهَا، وَيُقَالُ لِمَنْ طَوَّفَ فِي الْبِلَادِ نَقَّبَ فِيهَا، قَالَ امرؤ
(١) تفسير الطبري ١١/ ٤٣١.
(٢) المسند ٣/ ٧٥.
381
القيس: [الوافر]
لَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى رَضِيتُ مِنَ الغنيمة بالإياب «١»
وقوله تعالى: هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أَيْ هَلْ مِنْ مَفَرٍّ كَانَ لَهُمْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَهَلْ نَفَعَهُمْ مَا جَمَعُوهُ وَرَدَّ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ إِذْ جَاءَهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَأَنْتُمْ أَيْضًا لَا مَفَرَّ لَكُمْ وَلَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ ولا محيص. وقوله عز وجل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أَيْ لَعِبْرَةٌ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَيْ لُبٌّ يَعِي بِهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَقْلٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ أي استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله وَتَفَهَّمَهُ بِلُبِّهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ يَعْنِي لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ شَهِيدٌ وَقَالَ شَاهِدٌ بِالْقَلْبِ «٢»، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْعَرَبُ تَقُولُ أَلْقَى فُلَانٌ سَمْعَهُ إِذَا اسْتَمَعَ بِأُذُنَيْهِ، وَهُوَ شاهد بقلب غَيْرُ غَائِبٍ «٣»، وَهَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وقوله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فِيهِ تقرير للمعاد لأن من قدر على خلق السموات وَالْأَرْضِ وَلِمَ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتِ الْيَهُودُ- عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ- خَلَقَ اللَّهُ السموات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَهُمْ يُسَمُّونَهُ يوم الراحة فأنزل الله تعالى تَكْذِيبَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ وَتَأَوَّلُوهُ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي من إعياء ولا تعب ولا نصب، كما قال تبارك وتعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْأَحْقَافِ: ٣٣] وَكَمَا قَالَ عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: ٥٧] وقال تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها [النَّازِعَاتِ: ٢٧].
وقوله عز وجل: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ يَعْنِي الْمُكَذِّبِينَ اصْبِرْ عَلَيْهِمْ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَكَانَتِ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ ثِنْتَيْنِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أُمَّتِهِ حَوْلًا ثُمَّ نُسِخَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ وُجُوبُهُ ثُمَّ بعد ذلك نسخ الله تعالى ذَلِكَ كُلَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَلَكِنْ مِنْهُنَّ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ
(١) يروى البيت:
وقد نقبت في الأفاق حتى رضيت من السلامة بالإياب
وهو لامرئ القيس في ديوانه ص ٤٣، ولسان العرب (نقب)، وجمهرة الأمثال ١/ ٤٨٤، والعقد الفريد ٣/ ١٢٦، والفاخر ص ٢٦٠، وكتاب الأمثال ص ٣٤٩، والمستقصى ٢/ ١٠٠، ومجمع الأمثال ١/ ٢٩٥، وتهذيب اللغة ٩/ ١٩٧، وتاج العروس (نقب)، وتفسير الطبري ١١/ ٤٣٢.
(٢) انظر تفسير الطبري ١١/ ٤٣٣.
(٣) تفسير الطبري ١١/ ٤٣٣.
382
الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ فَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِيهِ، فَإِنِ استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ «٢» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَبَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بِهِ.
وقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أَيْ فَصَلِّ لَهُ كَقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: ٧٩] وَأَدْبارَ السُّجُودِ قَالَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما: هُوَ التَّسْبِيحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ المقيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نعتق. قال صلى الله عليه وسلم: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا إِذَا فَعَلْتُمُوهُ سَبَقْتُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُمْ؟ تُسَبِّحُونَ وَتُحَمِّدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» قَالَ: فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله.
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» «٣» وَالْقَوْلُ الثاني أن المراد بقوله تعالى: وَأَدْبارَ السُّجُودِ هُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ وَابْنِ عباس وأبي هريرة وأبي أمامة رضي الله عنهم وَبِهِ يَقُولُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عن عاصم بن ضمرة عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى أَثَرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ. وَرَوَاهُ أبو داود والنسائي من حديث
(١) المسند ٤/ ٣٦٥، ٣٦٦. [.....]
(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٠، باب ٢، ومسلم في المساجد حديث ٢١١، وأبو داود في السنة باب ١٩، والترمذي في الجنة باب ١٦، ١٧، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣.
(٣) أخرجه البخاري في الأذان باب ١٥٥، والدعوات باب ١٧، ومسلم في المساجد حديث ١٤٢، والزكاة حديث ٥٣، وأبو داود في الوتر باب ٢٤، وابن ماجة في الإقامة باب ٣٢، والدارمي في الصلاة باب ٩٠، وأحمد في المسند ٢/ ٢٣٨، ٥/ ١٦٧، ١٦٨.
(٤) المسند ١/ ١٢٤.
383
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ، زَادَ النَّسَائِيُّ وَمُطَرِّفٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ رِشْدِينَ بْنِ كُرَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بت لَيْلَةٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثم خرج إلى الصلاة فقال يا ابن عَبَّاسٍ «رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِدْبَارَ النُّجُومِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِدْبَارَ السُّجُودِ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ بِهِ. وَقَالَ:
غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأنه بات في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها، وَصَلَّى تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً «١» ثَابِتٌ فِي الصحيحين وغيرهما. فأما هذه الزيادة فغريبة لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَرِشْدِينُ بْنُ كُرَيْبٍ ضَعِيفٌ، وَلَعَلَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه، والله أعلم.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
يَقُولُ تَعَالَى: وَاسْتَمِعْ يا محمد يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكًا أَنْ يُنَادِيَ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَيَّتُهَا الْعِظَامُ البالية والأوصال المتقطعة، إن الله تعالى يَأْمُرُكُنَّ أَنْ تَجْتَمِعْنَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ يَعْنِي النَّفْخَةَ فِي الصُّورِ الَّتِي تَأْتِي بِالْحَقِّ الَّذِي كَانَ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ يَمْتَرُونَ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أَيْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أَيْ هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ مَصِيرُ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ، فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
وقوله تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً وَذَلِكَ أَنَّ الله عز وجل ينزل مطرا من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها فِي قُبُورِهَا، كَمَا يَنْبُتُ الْحَبُّ فِي الثَّرَى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إِسْرَافِيلَ فَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَقَدْ أُودِعَتِ الْأَرْوَاحُ فِي ثُقْبٍ فِي الصُّورِ فَإِذَا نَفَخَ إِسْرَافِيلُ فِيهِ خَرَجَتِ الْأَرْوَاحُ تَتَوَهَّجُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى الْجَسَدِ الَّذِي كَانَتْ تَعْمُرُهُ فَتَرْجِعُ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا، فَتَدِبُّ فِيهِ كَمَا يَدِبُّ السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُمْ فَيَقُومُونَ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ سِرَاعًا مُبَادِرِينَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [الْقَمَرِ: ٨] وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: ٥٢].
(١) أخرجه البخاري في الأذان باب ٥٨.
384
وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» «١»، وقوله عز وجل: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أَيْ تِلْكَ إِعَادَةٌ سهلة علينا، يسيرة لدينا كما قال جل جلاله: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [الْقَمَرِ: ٥٠].
وقال سبحانه وتعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان: ٢٨] وقوله جل وعلا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أَيْ نَحْنُ عِلْمُنَا مُحِيطٌ بِمَا يَقُولُ لَكَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ فلا يهولنك ذلك كقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: ٩٧- ٩٩].
وقوله تبارك وتعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أَيْ وَلَسْتَ بِالَّذِي تجبر هؤلاء على الهدى، وليس ذلك مما كُلِّفْتَ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أَيْ لَا تَتَجَبَّرُ عَلَيْهِمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَوْ أَرَادَ مَا قَالُوهُ لَقَالَ: وَلَا تَكُنْ جَبَّارًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ:
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ بِمَعْنَى وَمَا أَنْتَ بمجبرهم على الإيمان إنما أنت مبلغ، وقال الْفَرَّاءُ:
سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ جَبَرَ فُلَانٌ فُلَانًا على كذا بمعنى أجبره، ثم قال عز وجل: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أَيْ بَلِّغْ أَنْتَ رِسَالَةَ رَبِّكَ فَإِنَّمَا يَتَذَكَّرُ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَوَعِيدَهُ وَيَرْجُو وَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرَّعْدِ: ٤٠] وَقَوْلِهِ جل جلاله: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الْغَاشِيَةِ: ٢١- ٢٢] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٢] إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْقِصَصِ: ٥٦] ولهذا قال تعالى هَاهُنَا: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَخَافُ وَعِيدَكَ وَيَرْجُو مَوْعُودَكَ يَا بَارُّ يَا رَحِيمُ.
آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ ق وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
(١) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٣.
385
Icon