ﰡ
مكية على القول الصحيح، وعدد آياتها ثنتان وستون آية، وهي أول سورة أعلنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة.
وتشتمل هذه السورة على إثبات الرسالة وصدق الرسول في أن القرآن من عند الله، ثم الكلام على الأصناف وبيان أنها أسماء لا مسميات لها، ثم الكلام على الذات الأقدس ببيان آثاره في الوجود، وذكر حقائق إسلامية وجد بعضها في الكتب السابقة.
تحقيق أمر الوحى [سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ١٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
وَالنَّجْمِ: هو النجم المعروف، والمراد كل ما طلع من النجوم، وقيل: بل المراد به معين هو الثريا أو زهرة، وقيل: هو المقدار من القرآن النازل على النبي صلّى الله عليه وسلّم والله أعلم به. إِذا هَوى أى: سقط، والمراد: غرب أو طلع أو انقض على الشيطان. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ: ما عدل عن طريق الحق إلى طريق الباطل والإثم، والمراد بالصاحب النبي صلّى الله عليه وسلّم. وَما غَوى الغي: هو الجهل مع الاعتقاد الفاسد، أى: هو الجهل المركب. شَدِيدُ الْقُوى أى: صاحب القوى الشديد، وهو جبريل- عليه السلام-. ذُو مِرَّةٍ: ذو حصافة في العقل، واستحكام في المنطق، وأصل المعنى مأخوذ من قولهم: أمررت الحبل: إذا أحكمت فتله، فالمرة تدل على المرة بعد المرة، ولا شك أنها تدل على زيادة القوى. فَاسْتَوى: استقام على صورته الحقيقية التي خلق عليها، فالاستواء بمعنى اعتدال الشيء في ذاته الذي هو ضد الاعوجاج، وعليه: استوى الثمر إذا نضج. بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أى: الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر. دَنا: قرب. فَتَدَلَّى: فتعلق في الهواء. قابَ قَوْسَيْنِ: قد جاء التقدير بالقوس كالذراع والشبر والرمح، والقاب: المقدار أيضا، والمراد به هنا مقدار ما بين مقبض القوس وسيتها- ما عطف من طرفيها- وعلى ذلك فلكل قوس قابان لأن له طرفين، وعلى ذلك ففي الكلام قلب، والمراد: قابى قوس، وبعضهم نقل أنه يجوز أن تقول: قاب قوسين. وقابى قوس، وبعضهم فسر القاب:
أنه المقدار الذي بين المقبض والوتر، والعرب كانت عند الاتفاق تأتى بقوسين وتجعلهما في وضع واحد ثم ترمى بهما دفعة واحدة إشارة إلى تمام الاتفاق ونهاية القرب والالتصاق، وعلى ذلك فيكون قاب واحد لقوسين، وعن ابن عباس: القوس: ذراع يقاس به، أى: مقدار ذراع، وعلى الجملة فالمعنى اللفظي: فكان مقدار مسافة قربه منه مثل مقدار مسافة قاب قوسين.
أَوْ أَدْنى: أو أقرب من ذلك. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة، وهذا مأخوذ من المراء، الذي هو مشتق من مرى الناقة إذا مسح ضرعها وظهرها ليخرج لبنها، شبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يحاول
يقول العلامة الفخر في تفسيره- أجزل الله مثوبته- (باختصار) : السور التي تقدمت وافتتحها الله بالقسم بالأسماء دون الحروف هي: والصافات، والذاريات، والطور، وهذه السورة، والأولى أقسم فيها لإثبات الوحدانية له، وفي الثانية لإثبات الحشر ووقوعه والثالثة لإثبات دوام العقاب والعذاب يوم الساعة كما قال: إن عذاب ربك لواقع، وفي هذه السورة أقسم لإثبات النبوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبذلك تكمل أصول الدين الثلاثة، ويلاحظ أن القسم على إثبات التوحيد وإثبات رسالة محمد قليل وقوعه في القرآن، والقسم على إثبات البعث كثير، ألا ترى إلى سورة الذاريات والطور، والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، والسماء ذات البروج إلى غير ذلك مما سيأتى، ولعل هذا لأن دلائل التوحيد وإثبات الرسالة ظاهرة وآياتها في الكون وفي معجزات الرسول واضحة، أما البعث فإمكانه بالعقل، ووقوعه بالفعل لا يمكن ثبوته إلا بالدلائل السمعية، أى: القرآن والحديث، لذا أكثر الله في القرآن من القسم عليه ليؤمن به الناس.
المعنى:
أقسم الحق- تبارك وتعالى- بجنس النجم الصادق بالثريا وغيرها إذا هوى «١» أى:
غرب أو طلع أو انقض على الشياطين المسترقة للسمع، وقيل: إنه أقسم به على أنه جزء من القرآن نازل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي القسم بالنجم الذي شأنه أن يهتدى به السارى إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم علم الاهتداء، ومنارة الوصول إلى خير الدنيا والآخرة والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم عن طريق الحق ولا عدل عن الصراط المستقيم الذي هو مسلك الآخرة، وما غوى في اعتقاد فاسد أبدا، وهو صاحبكم، وأنتم أدرى الناس به، وما ينطق النبي صلّى الله عليه وسلّم وما يصدر عنه من قول أو فعل أتاكم به من جهته- سبحانه وتعالى-
القرآن- إلا وحى من الله- عز وجل- يوحى به إليه «١».
علم النّبىّ جبريل- عليه السلام- الذي هو شديد القوى، علمه القرآن، ولا عجب في ذلك فقد قلع قرى قوم لوط، وصاح بقوم صالح فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء في لمح البصر، وهو القادر بأمر الله على التشكل بأشكال مختلفة، وهو ذو مرة، أى: صاحب حكمة وحصافة في العقل، وبعد في النظر، فالله قد وصفه بقوة الجسم وقوة العقل والرأى.
فهل رآه النبي على صورته الحقيقية؟ فقيل في الجواب: نعم رآه فاستوى واستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق على ما روى، رآه والحال أن جبريل بالأفق الأعلى، وفي المروي أن ذلك في أول البعثة، ثم قرب جبريل من النبي صلّى الله عليه وسلّم فتدلى، أى: كان معلقا في الهواء، فكان قريبا من النبي صلّى الله عليه وسلّم بمقدار قابى قوسين أو أقرب من ذلك، وأو للشك من جهة العباد لا من الله سبحانه، أى: من يراه يظن أنه كذلك أو أقرب.
فأوحى جبريل إلى عبد الله «٢» ورسوله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن ما أوحى، وفي الصورة الحقيقية أو غيرها ما كذب فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم ما رآه ببصره، أى: لم يقل بقلبه لما رآه ببصره: لم أعرفك فيكون كذبه.
ويقول العلامة الآلوسي نقلا عن الكشف: إن هذه الآيات سيقت لتحقيق أمر الوحى، ونفى الشبهة والشك فيه ليتأكد الكل أن هذا الوحى ليس من الشعر ولا من الكهانة، فليس للشيطان ولا للجن أى قدرة على تصورهم للنبي في صورة جبريل الحقيقة أو غيرها لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم عرفه بقلبه وبصره، ورآه في حالاته المتعددة، ومن ثم لم يكن من المعقول أن يشتبه عليه، انظر إلى قوله: فاستوى، ثم إلى قوله: ثم دنا فتدلى، فأوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، ومن هنا كان ترتيب قوله تعالى: أفتمارونه
(٢) نعم هو عبد الله فقط، وما كان عبدا لأى كائن في الدنيا! وكيف يكون غير ذلك!!
وتالله لقد رأى جبريل مرة أخرى في السماء عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، نعم لقد رأى النبي جبريل على حقيقته مرة أخرى في هذا المكان من السماء عند جنة المأوى وقت أن يغشاها ما يغشى، وما زاغ بصره أبدا وما تجاوز حده المرسوم، وقد كان ذلك في المعراج، لقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الوقت وهذا المكان الآيات الكبرى من آيات ربه، وآيات الله الكبرى ليلة المعراج لا تحصى، ولذا قيل: إن المعنى: لقد رأى بعض آيات ربه الكبرى ساعتها، سرنا في التفسير على أن الرؤية من النبي لجبريل، وبعضهم يراها أنها من النبي إلى الله والله وحده هو العالم بالحقيقة، وإن كان ظاهر النظم الجليل من الدنو والتدلي، وقوله: وهو بالأفق الأعلى، أن ذلك كله كان بين جبريل والنبي صلّى الله عليه وسلّم.
تلك هي آلهتهم التي لا تغنى عنهم شيئا [سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٣١]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١)
اللَّاتَ: اسم صنم كان لثقيف بالطائف، وقيل: كان لرجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك.
وَالْعُزَّى: كانت لغطفان وهي على المشهور شجرة ببطن نخلة، وهي تأنيث الأعز، وقيل: كانت ثلاث شجرات. وَمَناةَ: صخرة كانت لهذيل وخزاعة، وقيل: كانت بالكعبة واستظهر بعضهم أن هذه الأصنام الثلاثة كانت بالكعبة.
ضِيزى أى: جائرة لا عدل فيها. مِنْ سُلْطانٍ: من برهان وحجة قوية.
الظَّنَّ المراد به هنا: التوهم.
لما ذكر الله- سبحانه وتعالى- الوحى وصاحبه. بعد القسم بالنجم، وهذا كله من آثار قدرة الله تعالى، ومعالم وحدانيته، عرج على آلهتهم التي لا تسمن ولا تغنى من جوع لعلهم يلتفتون إلى الحق فيتبعوه.
لما قص الله الأقاصيص العجيبة التي تمثل صدق الوحى وثبوته قال للمشركين موبخا لهم: أفرأيتم ما تعبدون من دون الله؟ أى: أخبرونى عن الآلهة التي تعبدونها من دون الله. هل لها قدرة توصف بها؟ هل أوحت لكم بشيء كما أوحى الله إلى محمد؟ أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع، وقد ذكر من هذه الأصنام ثلاثة مشهورة، وكانت معظمة عندهم جميعا، والظاهر- والله أعلم- أنها كانت في أماكن متعددة، أى: بالطائف ومكة وغيرهما، أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى التي هي غاية في الذم والحقارة؟ ألكم الذكر وله الأنثى؟ وكيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث وتجعلون لأنفسكم ما تحبون من الذكور، وذلك قولهم: الملائكة بنات الله، تلك إذا قسمة ضيزى قسمة جائرة غير عادلة، وهذا، أى: قوله أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى توبيخ آخر لهم.
ما الأوثان والأصنام التي تدعونها آلهة إلا أسماء محضة ليس فيها شيء من معنى الألوهية لأنها لا تسمع ولا تبصر، ولا تغنى ولا تنفع، فما هي إلا أسماء لا مسميات لها ولا حقائق، تلك أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من قبل، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا حجة ولا برهان، وما حجتهم في ذلك؟ ما يتبعون فيما ذكر من التسمية واتخاذهم الأصنام آلهة إلا العمل بالظن الذي لا يغنى من الحق شيئا، ولا يتبعون إلا ما تهواه نفوسهم وتشتهيه، ولقد جاءهم من ربهم الهدى والبيان الرائع، جاءهم: أن اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، وأن هذه الأصنام لا تغنى ولا تنفع، وجاءهم كل هذا في القرآن الحكيم الذي يدعوهم إلى التوحيد بالدليل والبرهان القوى الذي لا يقبل الشك... أم للإنسان ما تمنى؟ «١» نعم ليس للإنسان شيء مملوك له مما يتمناه، يتصرف فيه حسب ما يريد، ومن باب أولى هؤلاء الكفار وأمانيهم الباطلة، ترى أن الله أضرب عن اتباعهم الظن الذي هو مجرد التوهم وعن اتباعهم هوى النفس الأمارة بالسوء، وانتقل إلى إنكار أن يتحقق لهم ما يتمنون كأن تنفعهم الأصنام أو تشفع لهم، ثم علل ذلك بقوله. فلله أمور الآخرة والدنيا فما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، ثم أكد ذلك
- والإشارة إلى التولي عن الآخرة وقصر النظر على الدنيا- مبلغهم من العلم، فأعرض عن هؤلاء لأن الله أعلم بمن ضل عن سبيله، وركب رأسه وهو أعلم بمن اهتدى، وسيجازى كلا على عمله وها هي ذي آثار قدرته الكاملة وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ له كل ذلك ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، وسيجازى الذين أساءوا بعملهم، والذين أحسنوا بالمثوبة الحسنى، وتلك عاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء.
من هم المحسنون [سورة النجم (٥٣) : آية ٣٢]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)
كَبائِرَ الْإِثْمِ: جمع كبيرة، وهي كل ذنب توعد الله صاحبه بالعذاب الشديد، أو ذم فاعله ذما كثيرا، وقيل غير ذلك. وَالْفَواحِشَ: جمع فاحشة، وهي الذنب الذي جعل الله في عقوبته الحد كالزنا مثلا، وقيل غير ذلك مما هو قريب منه. إِلَّا اللَّمَمَ وأصل اللمم: ما قل وصغر، وعليه ألم بالمكان: قل لبثه فيه، والمراد باللمم هنا: صغائر الذنوب التي تفعل بلا مداومة عليها. أَجِنَّةٌ: جمع جنين وهو الولد ما دام في بطن أمه سمى بذلك لاجتنانه، أى: استتاره.
المعنى:
المحسنون الذين لهم المثوبة الحسنى هم الذين يجتنبون كبائر الإثم، ويجتنبون الفواحش والمنكرات التي ينكرها العقل ويأباها الدين، من الموبقات والمهلكات التي ورد من الشرع تحذير شديد على اجتنابها، أو توعد صاحبها بالحد أو بالعقاب الشديد، وقد اختلف العلماء في عد المنكرات والفواحش، وذكرت في السنة بطرق مختلفة، وعلى العموم فالشرك بالله، والقتل إلا بحق الإسلام، والزنى والربا وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والافتراء على الله من الكبائر، وهكذا كل معصية ذنبها كبير وجرمها خطير.
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، وهو صغائر الذنوب التي تعمل بلا قصد ولا مداومة، أما إذا داومت على الذنب الصغير أصبح كبيرا فقد قيل:
لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الندم والاستغفار.
وهذا اللمم ذنب بلا شك، خففه الندم وعدم معاودته، عند ذلك تدخل المغفرة والرحمة، وربك واسع المغفرة كثير الرحمة، وهو أعلم بنا- نحن بنى الإنسان- وقد خلقنا ضعافا أمام الدنيا ومغرياتها، وقد خلقنا فهو أعلم بنا، وقد أنشأنا من الأرض، وهو أعلم بنا إذ نحن أجنة في بطون الأمهات، بل وذرات في أصلاب الآباء، وفي عالم الذر، وإذا كان الأمر كذلك فلا تزكوا أنفسكم أبدا، هو أعلم بمن اتقى، فرب من يظن نفسه قد عمل صالحا يكون عمله مشوبا بالرياء أو السمعة أو الغرض الدنيوي فيبوء بالفشل والندامة، والله أعلم بمن اتقى حقا.
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧)
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
تَوَلَّى: أعرض. وَأَكْدى يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ حجرا لا يتهيأ له فيه حفر: قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. صُحُفِ مُوسى: هي التوراة. وازِرَةٌ: نفس حاملة. وِزْرَ:
حمل. الْمُنْتَهى: النهاية. نُطْفَةٍ النطفة: الماء القليل، مشتق من نطف الماء إذا قطر. تُمْنى يقال: منى الرجل أو أمنى: إذا أنزل المنى، والمراد بقوله (تمنى) أى: تصب في الرحم. النَّشْأَةَ الْأُخْرى المراد: إعادة الأرواح في الأشباح.
أَغْنى وَأَقْنى أغنى: أعطى المال، وأقنى: أعطى القنية التي تقتنى كالعقار مثلا.
رَبُّ الشِّعْرى: الكوكب المضيء وهو ما يسمى بالعبور. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى المراد: قرى قوم لوط قد قلبها وخسف بها بعد رفعها إلى السماء. أَزِفَتِ الْآزِفَةُ:
قربت القيامة. كاشِفَةٌ أى: كشف وانكشاف، أو نفس كاشفة.
سامِدُونَ: لاهون وغافلون ومعرضون.
لما بين جهل المشركين في عقائدهم الباطلة، وأنه لا وجه لهم في شيء ذكر واحدا منهم بسوء فعله وكبير جرمه، وإن قصته لتثبت أن كفر هؤلاء لم يكن عن عقيدة، وإنما هو عناد وعصبية جاهلية، وحماقة ما بعدها حماقة.
روى أن الوليد بن المغيرة كان قد اتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له: أتركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار؟! قال الوليد: إنى خشيت عذاب الله. فقال من عيره: أنا أضمن لك الجنة إن رجعت إلى الشرك وأعطيتنى شيئا من المال، فقال الوليد ذلك، وأعطى بعض ما كان ضمنه له ثم بخل ومنعه فنزلت هذه الآيات
تذمه لرجوعه عن الحق وخلفه الوعد.
المعنى:
أخبرنى عن الذي تولى وأعرض عن الحق، وأعطى قليلا من المال، وبعد ذلك امتنع، إذ أصابته صخرة شح النفس، فوقع عليها شحيحا بخيلا «١» أعنده علم بالأمور
بل ألم ينبأ بما في صحف موسى، وصحف إبراهيم الذي وفي ما عليه، وابتلى بشدائد كثيرة فخرج منها وافى الإيمان سليم العقيدة، مستحقا هذا اللقب: «خليل الرحمن» ألم يعلم بأن صحف موسى وإبراهيم فيها أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، بمعنى لا تحمل نفس مستعدة للحمل ذنب نفس أخرى، وفيها أنه ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى يوم القيامة، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، وأن «١» إلى ربك نهاية الخلق ومنتهاهم، وأنه هو أضحك بعض عباده وأبكى، أضحكهم لأنه وعدهم السعادة في الدنيا والآخرة، وأبكى في الحقيقة من حرمهم السعادتين، وأنه هو أمات وأحيا، أى:
خلق الموت والحياة، وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من الإنسان والحيوان، خلقهما من نطفة إذا تمنى، وهذه النطفة لا يفرق فيها بين الذكر والأنثى، فليس هناك شك في أنه وحده هو الخالق للذكر والأنثى، وأن عليه النشأة الأخرى، أى: الإحياء بعد الإماتة وأنه هو وحده الذي أغنى وأقنى، أغنى بالمال والمنقولات وأقنى بالعقارات الثابتة، وأنه هو رب الشعرى، وغيرها من الكواكب، وأنه أهلك عادا الأولى الذين أرسل لهم هود، وأهلك ثمود الذين أرسل لهم صالح، فما أبقى منهما شيئا، وأهلك قوم نوح من قبل هؤلاء، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى من غيرهم، وأهلك قرى قوم لوط، وهم المؤتفكة التي رفعها الله إلى السماء ثم قلبها إلى الأرض فغشيها من الهم والحزن ما غشيها.
فبأى آلاء ربك أيها الإنسان تتمارى، وتتشكك؟ هذا القرآن الذي أنزل على محمد هو نذير من جنس النذر الأولى التي كانت تنزل على الأمم السابقة، فما بالكم لا تؤمنون، ولا تتعظون بما حل بغيركم؟! أزفت الآزفة، وقربت القيامة، ليس لها من دون الله نفس كاشفة تكشفها وتزيلها، بل الأمر كله لله سبحانه وتعالى.
وقد ورد عن أبى هريرة قال: لما نزلت هذه الآية «أفمن هذا الحديث.. ؟» بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنينهم بكى معهم فبكينا لبكائه فقال- عليه السلام- «لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى».
وإذا كان الأمر كذلك من إنكار مقابلة القرآن بالتعجب والضحك، وعدم البكاء مع اللهو وقت استماعه، إذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله تعالى الذي أنزله على عبده، ولم يجعل له عوجا، قيما، واعبدوه- جل جلاله-، وهذه آية سجدة عند الكثير، وقد سجد النبي صلّى الله عليه وسلّم عندها، والله تعالى أعلم.