تفسير سورة الحشر

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم .
لمؤلفه الكَازَرُوني . المتوفي سنة 923 هـ

لَمَّا نهانا عن تولي الكفار لشؤم مآلهم، مِنْ حُلُو بعض وبالهم فقال: ﴿ بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ * سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾: كما مر ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾: بني النضير بعد غدرهم ﴿ مِن دِيَارِهِمْ ﴾: المدينة ﴿ لأَوَّلِ ﴾: أي: عند أول ﴿ ٱلْحَشْرِ ﴾: وهو حشرهم إلى الشام وآخره أن يحشر الخلق إليه فتقوم الساعة عليهم فيه، أو نار تحشرهم إلى الشام، أو نار تخرجهم وقت قيامها من المشرق إلى الغرب، تبيت وتقليل معهم وتأكل من تخلف ولا ترى بالنهار، والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر ﴿ مَا ظَنَنتُمْ ﴾: أيها المؤمنون ﴿ أَن يَخْرُجُواْ ﴾: لقوتهم ﴿ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ ﴾: أي: بأسه ﴿ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ ﴾: أي: عذابه ﴿ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ﴾: لم يخطر ببالهم ﴿ وَقَذَفَ ﴾: ألقى ﴿ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ﴾: الخوف حال كونهم ﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ﴾: من الداخل لسد ما خرجه المؤمنون ﴿ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾: كانوا يخربونها من الخارج ليدخلوها ﴿ فَٱعْتَبِرُواْ ﴾: بها ﴿ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ ﴾: أي: ذوي البصائر والعقول، وفي الآية دليل وجود القياس ﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ﴾: قدر ﴿ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ ﴾: الخروج المذكور، والفرق بينهما الجلاء بخروج جماعة ﴿ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾: ببليات آخر ﴿ وَلَهُمْ ﴾: كلام مستأنف ﴿ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ﴾: خالفوا ﴿ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾: له ﴿ مَا ﴾: أي: شيء ﴿ قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ ﴾: هي ضروب النخل غير العجوة والبرنية، وهما أجود النخل خلوها لأنفسهم ﴿ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ﴾: أمر: ﴿ ٱللَّهِ ﴾ بأمره فلي بإفساد كما زعموا ﴿ وَ ﴾: أذن فيه ﴿ لِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾: ولما طلب الصحابة أن يقسم ما حصل منهم بيهم كالغنيمة نزلت ﴿ وَمَآ أَفَآءَ ﴾ أي: رد ﴿ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ ﴾: نافية ﴿ أَوْجَفْتُمْ ﴾: أجريتم ﴿ عَلَيْهِ ﴾: على تحصيله ﴿ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ﴾: إبل، بل مشيتم نحو ميلين بلا تعب ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾: فهو للنبي فأعطاه المهاجرين وثلاثة من فقراء الأنصار، وهذا وإن كان كالغنيمة لأنهم حوصروا أياما، وقاتلوا ثم صالحوا لكن لقلة تعبهم أجراه الله تعالى مجرى الفيء ﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ ﴾: بيان للأول عند الأكثر، والمقصود أنه يخمس وخمس منه ﴿ فَلِلَّهِ ﴾: ذكره للتعظيم ﴿ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾: من النبي كما مر ﴿ وَٱلْيَتَامَىٰ ﴾: الفقراء المسلمين ﴿ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾: كما مر ولكل من الأربعة خمس الخمس، والباقي للنبي صلى اله عليه وسلم ﴿ كَيْ لاَ يَكُونَ ﴾: الفيء ﴿ دُولَةً ﴾: متداولا ﴿ بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ﴾: ويحرم الفقراء أو الدولة بالفتح من المالك، بضم الميم، وبالضم من الم لك بكسرها ﴿ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ ﴾: كالفيء والأمر ﴿ فَخُذُوهُ ﴾: ولا تعصوه ﴿ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ﴾: فأمره ونهيه أمر الله تعالى ونهيه ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾: لمخالفة النبي ﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾: أخرجهم كفار مكة منهما ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ﴾: في إيمانهم ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ﴾: ألفوا ولزموا ﴿ ٱلدَّارَ ﴾: المدينة ﴿ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾: قبل هجرتهم يعني الأنصار ﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً ﴾: مجاز عن الطمع والطلب ﴿ مِّمَّآ أُوتُواْ ﴾: أي: المهاجرين من مال بني النضير ﴿ وَيُؤْثِرُونَ ﴾: يقدمون في الحظوظ الدنيوية المهاجرين ﴿ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾: حاج فيها ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ ﴾: بخل ﴿ نَفْسِهِ ﴾: فلزم الإثيار والإنفاق ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾: أي: بعد انقطاع الهجرة وإسلام الأنصار، وهم المؤمنون إلى يوم القيامة ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ ﴾: بغضا أو حدا ﴿ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾: فيها جليل وجوب محبة الصحابة، وإن من أبغض أحدهم لا حق له في الفيء كما قال مالك. وسأل رجل علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه، عن عثمان رضي الله تعالى عنه فقال: أأنت من الفقراء المهاجرين الذين... الآية، فقال: لا، فقال: أأنت منا لذين تبوأوا... الآية، فقال: لا، فقال: فوالله لو لم تكن من أهل الآية الثالثة، يعني، والذي جاءوا... الآية، لتخرجن من الإسلام، وروي نحو ذلك عن ولحده محمد الباقر رضي الله عنه، في عراقي تكلم في الشيخين وعثمان رضي الله تعالى عنهم، الله أمتنا على حبه واحشرنا معهم.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ ﴾: ابن أبي وأصحابه ﴿ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾: بني قريظة والنَّضِيْر ﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ﴾: من المدينة ﴿ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ ﴾: في قتالكم ﴿ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ﴾: فرضا ﴿ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ﴾: انهزاما ﴿ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾: أي: اليهود ﴿ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً ﴾: أي: مرهوبية ﴿ فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾: على زعمهم لأنهم يخافونكم ولا يخافونه ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾: عظمته تعالى ﴿ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾: أي: الفريقان ﴿ جَمِيعاً ﴾: مجتمعين ﴿ إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ ﴾ لفرط خوفهم ﴿ بَأْسُهُمْ ﴾: حربهم ﴿ بَيْنَهُمْ ﴾: بعضهم لبعض ﴿ شَدِيدٌ ﴾: فخوفهم ليس لجبنهم بل بنصر الله لكم ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ﴾: متفقين ﴿ وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ﴾: متفرقة لاختلاف مقاصدهم، وهكذا أهل الباطل مجتمعون في عداوة أهل الحق مختلفون في أرائهم ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾: أمر الله، مثلهم في المغلوبية ﴿ كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ﴾: أي: قتلى بدر ﴿ ذَاقُواْ وَبَالَ ﴾ أي: سواء عاقبة ﴿ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾: مثل المنافقين في إغراء هؤلاء على قتالكم ﴿ كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ﴾: جنسه أو برصيصا، وقصته مشهورة، أو أبو جهل يوم بدر، إذ قال له: " لاغالب لكم " كما مر ﴿ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ ﴾: نكّرَها تعميما أو تعريضا بغفلة كلهم عن هذا النظر الواجب ﴿ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾: سمَّاها به لقربها، ونكره تعظيما ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ ﴾: أي: حقه ﴿ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾: بأن يقدموا لها خيرا ﴿ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾: الكاملون في الفسق ﴿ لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ ﴾: حجة لمن لا يقتل المسلم بالكافر ﴿ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ ﴾: بالنعمة ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ ﴾ أي: كلفناهُ ﴿ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً ﴾: متشققا ﴿ مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ﴾: فمال كم لا تخشعون ﴿ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ ﴾: الغائب عن الحِسِّ والمعدوم ﴿ وَٱلشَّهَادَةِ ﴾: ضدهما ﴿ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ * هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ﴾: البالغ في التنزه عن النقائض ﴿ ٱلسَّلاَمُ ﴾: ذو السلامة من كل نقص ﴿ ٱلْمُؤْمِنُ ﴾: واهب الأمن أو مصدق رسله بخلق معجزاتهم، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أول من يخرج من النار من أهل التوحيد من كان سمي ينبي، فإذا لم يبق منهم قال تعالى: لباقيهم: أنتم المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم ببركة هذين الاسمين ﴿ ٱلْمُهَيْمِنُ ﴾: الرقيب على كل شيء ﴿ ٱلْعَزِيزُ ﴾: الغالب ﴿ ٱلْجَبَّارُ ﴾: العظيم، أو جابر خلقه على مراده، أو مصلح حالهم ﴿ ٱلْمُتَكَبِّرُ ﴾: عن كل نقص أو مظهر كبريائه بحق ﴿ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾: إذ لا يشاركه شيء في ذلك ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ﴾: المقدر للأشياء كما ينبغي ﴿ ٱلْبَارِىءُ ﴾: المنشئ من العدم ﴿ ٱلْمُصَوِّرُ ﴾: موجد صور الخلق ﴿ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾: التسعة والتسعون، فيدل على محاسن المعاني ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾: حالاً ومقالاً ﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾: الكامل في القدرة ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾: الكامل في العلم. واللهُ أعْلَمُ.
Icon