ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (١- ١٨) [سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١ الى ١٨]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨)
التفسير:
قوله تعالى:
«سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ»..
لم تذكر الآية الكريمة اسم هذا السائل، بل جاءت به منكّرا هكذا:
«سائل» - لأنه لا يعدو أن يكون واحدا من هؤلاء السفهاء، الرقعاء، الذين ركبهم الجهل، والغرور، حتى لقد خيل إليهم أنهم أوتاد هذه الأرض، وأنهم
وفى تعدية الفعل «سأل» بحرف الباء، مع أنه يتعدى بالحرف «عن» - إشارة إلى تضمن الفعل معنى المطالبة بهذا العذاب، والهتاف به، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسان هؤلاء المشركين: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (٣٢: الأنفال) فكأن المعنى: طلب طالب، ودعا داع بالعذاب الواقع.
وقوله تعالى:
«لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ» هو ردّ على هذا السؤال المتحدّى، المنكر..
أي أن هذا العذاب هو معدّ للكافرين، مقبل إليهم، لا يدفعه عنهم دافع..
وقوله تعالى «مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ» متعلق بمحذوف، تقديره مرسل عليهم من الله ذى المعارج..
والمعارج الأماكن المرتفعة، التي يكون الصعود إليها دائريّا، كالصعود إلى المئذنة ونحوها، ومنه قوله تعالى: «وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ» (٣٣: الزخرف)..
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن العروج إلى السماء، لا يكون فى خط عمودى، وإنما فى خطوط مقوسة، داخل قبة الفلك، التي تمثل دائرة عظيمة لا نهاية لها..
ووصف الله سبحانه وتعالى بأنه ذو المعارج، إشارة ثالثة إلى علو سلطانه، وأن العذاب المرسل منه إلى الكافرين، عذاب يسقط عليهم من سموات عالية، فلا يمكن لقوة أن تحول بينه وبين أن يهوى على رءوس الكافرين.. إنه أشبه بالأحجار التي تهوى من السماء على رءوس من هم في دائرة سقوطها..
قوله تعالى:
«تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ..»
هو إشارة إلى مدى هذا العلو الذي لتلك المعارج، التي يقوم عليها سلطان الله، وأن الملائكة والروح، تصعد هذه المعارج فى يوم.. ولكن أي يوم هو؟
إنه يعدل خمسين ألف سنة من أزمان الدنيا.. أي أن ما يقطعه الملك فى عروجه إلى السماء فى يوم واحد، يقطعه الإنسان فى خمسين ألف سنة بأقوى ما يمكن أن يتوسل به من وسائل، من صواريخ، ومركبات كوكبية وغيرها..
والمراد بالروح، إما أن يكون جبريل عليه السلام، أو أرواح البشر، أو مخلوقات من عالم الروح غير الملائكة. والمراد بهذا أنها مخلوقات ذات سرعة مطلقة من غير قيد المادة ومعوقاتها.. إنها أرواح، لا أجساد لها..
وقوله تعالى:
«فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا»..
ثم إن هذا الخطاب للنبى الكريم، فيه تهديد للمشركين المكذبين، بما سيقع بهم وراء هذا الصبر الذي يلقاهم النبىّ به، محتملا سفاهتهم، وسخريتهم..
فهو كقوله تعالى: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» (١٧: الطارق) قوله تعالى:
«إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» الضمير فى «يرونه» يعود إلى العذاب الواقع بالكافرين، المرسل عليهم من الله ذى المعارج..
فالمشركون المكذبون باليوم الآخر، يرون العذاب بعيدا، أي بعيد الوقوع، بعدا يبلغ حد الاستحالة، أو يرونه بعيدا، لأنه إذا جاء فإنما يجىء يوم القيامة، التي لا يدرى أحد متى تكون على فرض وقوعها.. فهذا الزمن المجهول، يبدو بعيدا بحيث يكون من العبث أن يرجو منه المرء خيرا، أو يخشى منه شرا.. هكذا يقوم حساب هذا اليوم عند اللّاهين والغافلين، الذين لا يعيشون إلا ليومهم.. «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ.. وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ». (١٢: محمد) وقوله تعالى: «وَنَراهُ قَرِيباً» أي أنه وإن بدا هذا اليوم بعيدا فى نظر المشركين والمكذبين- هو فى حقيقته قريب، وأنه إذا طلع عليهم بعد آلاف السنين، بدا لهم أنه ابن يومهم هذا الذي هم فيه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» (٤٦: النازعات).
«يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ».
هو بيان للأحداث التي تقع يوم القيامة، يوم العذاب الذي ينتظر أهل الشرك الضلال.
ففى هذا اليوم، تكون السماء «كالمهل» وهو خثارة الزيت، بعد غليانه، وتكون الجبال «كالعهن» وهو الصوف المصبوغ بلون الحمرة، بعد أن ينفش وتنحلّ أجزاء بعضه عن بعض..
وفى تشبيه السماء بالمهل، والجبال بالعهن، وما يغلب على التشبيهين من لون الحمرة- فى هذا إشارة إلى تغير طبيعة لون الجوّ، فى مرأى العين، وذلك حين يكون موقع النظر من خارج الغلاف الجوى للأرض، حيث تبدو السماء، والأرض، مكسوّنين بلون أشبه بلون الأفق الداكن بعد الغروب، أو قبل الشروق..
هذا، وقد عرضنا للحديث فى أكثر من موضع عن هذه التغيرات التي تحدث يوم القيامة، فى العالم الأرضى، وما يتصل به من عوالم السماء، وقلنا إن هذه التغيرات إنما هى واقعة بالنسبة لإحساس الإنسان يومئذ بها، نتيجة لتغيّر موقفه من الأرض، وتغير طبيعته بعد البعث.. أما عوالم الوجود فى الأرض وفى السماء، فإنها تجرى على ما أقامها الله سبحانه وتعالى عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (٤٨: إبراهيم).
فهذا التبدّل هو تبدّل فى مدارك الإنسان لهذه العوالم، لتبدّل موقفه منها، ورفع الغطاء الكثيف الذي كان على بصره وبصيرته فى الحياة الدنيا.
«وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً»..
أي فى هذا اليوم، لا يسأل صديق عن صديق، ولا يلتفت قريب إلى قريب، لما يواجه الناس يومئذ من أهوال، وما يحيط بهم من كروب.
قوله تعالى:
«يُبَصَّرُونَهُمْ.. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ.».
هو بيان للحال التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وأن كلّ إنسان مشغول بنفسه، لا يسأل عن أحد، ولا يسأل عنه أحد.. إن كان من الناجين مضى إلى مرفأ النجاة، ناجيا بنفسه، دون أن يلتفت إلى وراء، أو عن يمين أو شمال.. وحسبه أنه نجا.. وإن كان من الهالكين فحسبه ما يعانى من شدّة وبلاء.. «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ».. (٣٧: عبس) وقوله تعالى: «يُبَصَّرُونَهُمْ».. أي يرونهم رؤبة كاشفة لأحوالهم وما هم فيه من كرب وبلاء.. وضمير الرفع «الواو» وضمير النصب «الهاء» فى «يبصرونهم»، يعودان إلى «حميم» و «حميما»، لأن كلّا منهما فى معنى الجمع، وإن كان مفردا، لأنه نكرة تفيد الاستغراق فى حال النفي..
والتقدير أنه لا يسأل الأصدقاء أصدقاءهم، لأن كلّا من طرفى التساؤل، على حال واحدة، من الوجوم، والاشتغال بالنفس عن الغير، فالجميع فى هذا اليوم على سواء فيما يذهلهم من هموم، فلا سائل، ولا مسئول. وفى الفعل «يبصرونهم» ما ليس فى الفعل «يبصرونهم» وذلك:
وثانيا: أن يبصّرونهم، تجعل المبصرين والمبصرين على سواء، فكل منهم يبصر، ويبصر، فى حال من الفزع والهلع، لا تدع لأىّ سبيلا إلى الاختيار فيما ينظر إليه..
وقوله تعالى: «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ... »
هو حال من ضميرى الرفع والنصب فى يبصرونهم.. أي أنه يبصر بعضهم بعضا، ويكشف بعضهم حال بعض، فى حال يود فيها المجرم لو يفتدى من عذاب هذا اليوم ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن فى الأرض جميعا..
[من الإعجاز النفسىّ.. فى القرآن]
ولا بد من وقفة هنا بين يدى قوله تعالى: يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه. وصاحبته وأخيه. وفصيلته التي «تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ».. حيث نجد صورة من صور الفرار من الخطر، يتخفف فيها الإنسان مما بين يديه من كل عزيز عليه، غال عنده، ولكنه محمول على هذا تحت وطأة البلاء المحيط به.. ولهذا فهو لا يلقى بكل مدخراته جملة واحدة، وإنما يخلى يده من بعض، ويشدّ يده على بعض، حتى إذا لم يجد فيما فعل ما يخفف عنه البلاء، ألقى بكل مامعه جميعا، لعله يجد فى هذا طريقا للإفلات من يد هذا الخطر المطلّ عليه..
والفرار من الخطر، وطلب النجاة من مواطن الهلاك، غريزة مركوزة
والإنسان بما فيه من عقل وذكاء، قد مكّن لهذه الغريزة فى كيانه، وأقام منها حارسا يقظا عليه، ووضع بين يدى هذا الحارس أكثر من سلاح يدفع به أي خطر يقع، أو يتوقع أن يقع..
وفى الآخرة أهوال تأخذ الناس بالنواصي والأقدام.. (إن زلزلة الساعة شىء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) (١- ٢: الحج).
فى هذا الموقف الرهيب، يساق المجرمون، والعصاة، إلى ساحة القصاص، حيث يرون رأى العين مصيرهم الذي هم صائرون إليه، والمنزل الذي سينزلونه من جهنم، التي إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا..
إن القلوب لتنخلع من هذا الهول، إن كان هناك قلوب لم تذهب بها مطالع الأهوال، ولم تفتتها الآلام والحسرات.. إنها حال لا يمكن أن تتصورها العقول، ولا أن يحيط بها وصف، لأنها مما لن يقع إلا فى هذا اليوم.
هناك صراخ وعويل، وزفرات وأنين، ولهفات وحسرات، يختلط بعضها ببعض، فتملأ أسماع العالمين بهذه المناحة المروّعة، التي تزيد فى الآلام، وتضاعف من العذاب!.
إنه لا مفر من النار إلا إلى النار، ولا مفزع من البلاء إلا إلى البلاء!.
ومع هذا اليأس القاتل، فإن قسوة العذاب، وشدة البلاء، تحمل المجرمين على أن يفزعوا إلى أي مفزع، ويتجهوا إلى أي متجه.. إنها محاولات لا بدّ منها، وحركات تجرى فى النفس، ولا تتخذ لها طريقا عمليا، حيث اليأس المطلق، الذي لا يلوح فى سمائه المتجهمة بصيص من أمل، ولا أثر لرجاء..
وننظر فى هذه الصورة المعجزة، التي صورها القرآن الكريم لمسارب النفوس ومجرى الخواطر، فى زحمة هذا المعترك الضنك الذي تبلغ فيه القلوب الحناجر..
إنه لو قدر لآلات التصوير السينمائى أن تدخل إلى عالم النفس، فترصد حركاتها، وتكشف عن خفاياها، لما أمكنها أن تأتى بما يقرب من هذه الصورة القرآنية فى إحكامها، وصدقها، وإحاطتها الشاملة بما تكنّ الضمائر، وما تخفى الصدور..
وننظر فى الصورة القرآنية، التي عرضتها الآيات الكريمة.
(يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ يبنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن فى الأرض جميعا ثم ينجيه.. كلا.. إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوعى)..
إن الإنسان هنا فى فم الهلاك، وفى دائرة العذاب المطبق عليه.. وإن لذعة العذاب لتخرج الإنسان عن نفسه، وتجعل أعضاءه- فى متدافع هذا العذاب- يرمى بعضها بعضا، ويتّقى بعضها ببعض.. إنه لا شىء يحرص عليه
إنه يود أن لو كان بين يديه أبناؤه.. إذن لا تقى بهم هذا العذاب، ولجعلهم دريئة له، يتلقون عنه ألسنة اللهب، ووهج السعير..
ولكنه إذ يرمى بأبنائه فى جهنم ثم لا يجد فيهم غناء، يمد يده إلى من هم أبعد إليه منهم.. إنها صاحبته، أي زوجه، وأم بنيه، ثم هى زوج وصاحبة معا، قد سكن إليها، وتعلق قلبه بها، وليست مجرد زوجة!.
ثم ماذا؟ إنها لم تغن عنه شيئا.. وها هو ذا يمدّ يده إلى من هم أبعد من بنيه، وصاحبته.. إلى أخيه.. ثم إلى أهله وعشيرته.. ثم إلى كل من تطوله يده من قريب أو بعيد.. ثم لا يزال هكذا حتى يأتى على كل ما فى الأرض، من أنفس، ومتاع..
إن هذا الترتيب المتتابع فى تقديم ضحايا الفداء، لا يمكن أن يقع على هذا الوجه إلا بحساب دقيق محكم لاتجاهات النفس، وإلا بتقدير واقعي لارتباطها الشعورى بكل ضحية يضحّى بها فى هذا المقام.
وقد يبدو غريبا- فى ظاهر الأمر- أن يقدّم الإنسان أول ما يقدم للفداء والتضحية، أعزّ شىء لديه، وهم أبناؤه، وقد كان المتوقع أن يضنّ بهم، أو أن يجعلهم آخر سهم يرمى به فى وجه هذا الهلاك الذي يحتويه!! وهذا الحساب إنما يجرى على هذا الوجه، حين تكون الأمور على ما ألف الناس، وحين يكون فى الأمر شىء من السّعة، ولو كان بمقدار سمّ الخياط..
وهل ينتظر من الإنسان فى مزدحم هذا الهول أن يعرف ضوابط ومعايير؟
وهل يدع هذا العذاب لإنسان سبيلا الاختيار، أو فرصة للموازنة؟.
إن أقرب شىء للإنسان فى هذا الموقف، هو درعه التي يتقى بها لفح العذاب، ولو كان هذا الشيء عضوا من أعضائه!! ولكن انظر حين يكون فى الأمر شىء من السعة، وحين يكون الإنسان خارج دائرة العذاب، لم يقع فيه بعد، ولم تغلق عليه أبواب جهنم.
إنه هنا يملك شيئا من الاختيار.. ولهذا فإنه فى ابتداء منطلقه من وجه الخطر، يتخفف من المهم فالأهم، ويتخلى عن العزيز فالأعزّ.. إنه لا يقدم فدية، ولكنه يحلّ نفسه من الروابط التي تربطه بالولد، والصاحبة، والأب والأم، والأخ. تلك الروابط التي تجعل منه ومن هؤلاء الأقربين كيانا واحدا، أشبه بالجسد وأعضائه..
فهو إذ يحلّ عقد الروابط بينه وبين هذه الأعضاء، يبدأ بأبعدها عنه، فيحلها عقدة عقدة، حتى ينتهى إلى أقرب عضو إليه، ولا عضو أقرب منه بعد هذا إلا نفسه ذاتها..
وشاهد هذا فى القرآن الكريم.. فى قوله تعالى:
«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (٣٤- ٣٥: عبس).
فهنا حركة فرار من خطر داهم.. أو شر مقبل، أو حيّة مهاجمة، أو نار علقت بالدار والمتاع، أو نحو هذا.. وهنا لا يلتفت الإنسان إلا إلى نفسه، لينجوبها
إن هذه الدقة البالغة غاية الأحكام، فى تصوير الحقائق، وانتزاعها من أغوار النفس، ومسارب الفكر، لا تكون فى غير القرآن الكريم، ولا تجىء إلا من تلقائه، حيث القدرة المعجزة، والبيان المفحم..
ولو ذهب كانب أو شاعر، يصور هذه الأحوال، لما أمكن أن يقارب هذا التصوير القرآنى، ولا أن يقع فى ظلاله..
وهب شاعرا أو كانبا وقع فى نفسه هذا الترتيب، أفتظن أنه كان يستطيع أن يجد له هذا البيان الواضح السمح، الذي يتدفق تدفق النور من وجه الصباح الوليد؟ ثم أكان يفرّق في هذا المقام بين زوجة وزوجة بهذه اللفظة المعجزة:
«صاحبته» التي تضمن لهذا الترتيب بين أهل الإنسان وعشيرته، الصدق والواقعية؟
ثم ماذا؟
ثم هذا العطف بالواو فى الآيتين:
«يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ.».
«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ». (٣٤-
٣٦: عبس).
هذا العطف بالواو.. ماذا تقول فيه؟
فالواو فى القرآن الكريم، صالحة فى أغلب الأحيان، لأن تفيد الترتيب والتعقيب، فتجعل للمتقدم وضعا غير وضع المتأخر، ومع اشتراكهما فى الحكم، فإنهما على درجات فى هذا الحكم، وتلك خاصة من خصائص البيان القرآنى، وسر من أسراره، لا يشاركه فيه غيره من شعر أو نثر..
وهكذا فرّق أصحاب البصر بكتاب الله بين المتعاطفين بالواو، وجعلا لكل منهما مكانا خاصا من المشاركة فى الحكم الذي اشتركا فيه..
فأبو بكر رضى الله عنه، يقيم حجته على الأنصار، بتقديم المهاجرين عليهم من قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» - فيقول لهم:
«أسلنا قبلكم، وقدّمنا فى القرآن عليكم».. وقد سلّم الأنصار له بهذه الحجة ولم ينازعوه فيها..
وإذن، فهذا الترتيب الذي جاءت عليه الآيات الكريمة فى الموضعين السابقين هو ترتيب لازم، وإن كانت الواو هى أداة العطف فى هذا الترتيب! ثم لعلّ سائلا يسأل: إذا كان هذا الترتيب لازما، فلماذا لم يجىء العطف بالفاء ليكون ذلك أدلّ على المراد، وأبلغ فى بيان المطلوب؟
وأكاد أوثر ألّا أجيب على هذا التساؤل، وأدع السرّ الإعجازي للعطف
ولهذا، فإنى لا أرى داعية إلى الإمساك عن الإجابة على هذا التساؤل، بما وقع لى.. ثم إن لغيرى أن يقبل هذه الإجابة، أو يعدّلها، أو يبحث عن جديد غيرها.. وإنه لواجد جديدا، وجديدا..
فأقول:
لعل أول ما يبدو من إيثار النظم القرآنى العطف بالواو، هو أن هذا العطف بالواو فى هذا المقام، يتسع لتحقيق المعنى الذي تتحق به الموافقة للواقع.
ذلك أن هذا الترتيب فى التخلّي عن الأعزاء، أو سوقهم إلى ساحة التضحية والفداء، لا يقع بهذا التحديد على تلك الصورة المعروفة، التي تقع فى الحياة، حين يكون للمرء فرصة للاختيار، فيقدم ويؤخر، فيما يتخلى عنه، أو يقذف به فى وجه العذاب، واحدا، بعد واحد.. وكلّا، فإن شدّة الهول، ووقدة السعير، لا يكون المرء معها فرصة للتفكير والاختيار، وإنما هو يتخلى عنها جميعا مرة واحدة، ويقذف بها كلها دفعة واحدة!! ولكنها- مع هذا الحشد لها- تأخذا هذا الوضع فى الترتيب الذي جاء بها عليه النظم القرآنى..
والعطف بالواو، وبالواو وحدها، هو الذي يحقق هذه الصورة المجتمعة المتفرقة فى آن واحد.. وذلك لأن الواو لمطلق الجمع من جهة، وللترتيب بين المتعاطفين من جهة أخرى، ثم إنه ليس بين متعاطفيها إمهال ملتزم، كما يكون ذلك بين المتعاطفين بالفاء، أو ثم..
وأخرى..
وهى أن الطبيعة البشرية فى مجموعها، وإن كانت تجرى على هذا الترتيب الذي جاءت عليه الآيات فى الموقفين، فى مقام المفاضلة بين الأهل والولد.. الابن، فالصاحبة (الزوج)، فالأب، فالأم، فالإخوة، فالأهل والعشير.! ولكن هناك حالات خاصة تقضى بأن يكون لبعض الناس موقف خاص من هذا الترتيب، فيقدّم صنفا على صنف، لانحراف فى التفكير، أو لفساد فى الطبيعة، أو فتور فى العلاقة، أو غير هذا مما يغيّر فى وضع العلاقة الطبيعية بين المرء وأقاربه..
ثم ماذا بعد هذا؟ ثم كثير وكثير لا ينتهى أبدا.. «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً..»
قوله تعالى:
«كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى..»
«كلا» ردع، وزجر، ونفى.. فإنه لا نجاة من هذا العذاب، ولا مفر من أن يقع بأهله، فلا يدفعه دافع من جاء أو سلطان، أو فدية من مال وبنين «إِنَّها لَظى» - تعليل لنفى النجاة عن أصحاب النار، وردّ أي فدية لو كان يملك أحد شيئا يقدّمه فى هذا اليوم.. إنها لظى! فهل يملك أحد أن يفرّ منها؟
وفى قوله تعالى: «إِنَّها لَظى» تلويح بهذه النار الجهنمية فى وجه المجرمين..
«إِنَّها لَظى!» وكفى..! فهل يستطيع أحد أن يفلت من «لظى» إذا أوقعه شؤمه، وضلاله فى طريقها؟ ذلك محال.
«وأنا على!!».
وسميت «لظى» لتلظّى لهيبها، وتأججه، وزفيره وشهيقه.
«نَزَّاعَةً لِلشَّوى» حال من أحوال «لظى».. وصاحب الحال «لظى»، وهى معرفة، لأنها واحدة فى بابها، وعلم مفرد فى صفاتها وأفعالها..
والشوى: الأصراف، كاليدين، والرجلين.
وفى قوله تعالى: «نَزَّاعَةً لِلشَّوى» إشارة إلى أن أول ما تحدثه النار فى الكائن الحىّ الذي يشوى بها، هو انخلاع أطرافه.. وهذا يعنى أن يفقد المعذّب بالنار القدرة على الحركة، إذا انفصلت عنه رجلاه اللتان يتحرك بهما، كما يفقد القدرة على الدفاع عن نفسه بيديه بعد أن عجز عن الفرار، إذ قد انخلعت عن جسده هاتان اليدان.. وهكذا يصبح كتلة مستسلمة للعذاب، مقيدة بقيد العجز المطلق..
وقوله تعالى:
«تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى».. حال أخرى من أحوال لظى، وأنها تدعو إليها من أعرض عن الإيمان بالله، وأعطى ظهره لدعوة الحق.. فكأنها يدعوتها تلك إنما تستقبل من أقبل عليها، وولى وجهه نحوها، حين أعرض عن الإيمان بالله، وكما تستقبل من أعرض عن الإيمان- تستقبل من جمع المال وأوعاه أي وضعه فى وعاء، وضمن به عن الإنفاق فى وجوه الخير، والإحسان..
وفى الجمع بين الإعراض عن الإيمان بالله، والإمساك عن الإنفاق فى سبيل
«إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» (٣٣- ٣٤:
الحاقة).
الآيات: (١٩- ٣٥) [سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١٩ الى ٣٥]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً».
الإنسان هنا، هو الإنسان الذي ضلّ عن سبيل الله، وكفر به، وبرسله وباليوم الآخر.
وجاء الحكم على الإنسان مطلقا، على التغليب، لأن أكثر الناس هم هذا
فإذا آثر الظلام على النور، والضلال على الهدى، ولم يتحرك بإرادته للخلاص مما هو فيه، فقد لزمته الحجة، وحق عليه العقاب.
والهلوع: من الهلع، وهو الجزع الشديد.
وقوله تعالى:
«إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» هو بيان الهلع الذي هو طبيعة غالبة فى الإنسان.. فإن من شأن هذه الطبيعة التي تملّكها الهلع، أنه إذا مس الإنسان شر لم يصبر عليه، واستبد به الجزع، واستولى عليه اليأس.. لأنه لا يستند إلى قوة القوىّ العزيز، ولا يستعين بعون الرّحمن الرّحيم.. إنه فى دائرة مغلقة عليه مع هذا البلاء الذي نزل به، لا يرى لهذا البلاء دافعا، ولا يتوقع من وراء هذا الضيق فرجا.. أما المؤمن بالله، فإنه إذا مسّه الشر، وأصابه الضر، نظر إلى وجه ربه الكريم، وبسط يد الرجاء إليه،
هكذا المؤمنون بالله، لا يحزنهم هم نازل، ولا يكربهم بلاء مطبق، لأنهم فى ضمان من رحمة الله، وعلى رجاء من فضله.. «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» (٨٣: ٨٤: الأنبياء) إن المؤمن على يقين من أن له ربّا يشكو إليه، وأن ربه سميع الدعاء، واسع الرحمة: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (١٨٦: البقرة).
إن المؤمن لا يأسى على شىء فاته من أمور الدنيا، ولا يجزع لشىء أصابه من همومها، إذ هو على يقين من أن ذلك بقضاء وقدر، وأنه بتقدير العزيز الحكيم، وأن ما قدره الله سبحانه، هو الخير، وإن رآه الإنسان شرا، كما يقول سبحانه:
«وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» (٢١٦: البقرة) ويقول جل شأنه:
«فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (١٩: النساء)..
وفى هذا كله عزاء للمؤمن عند كل مصيبة، ومواساة عند كل كرب.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (١٥٥: ١٥٧: البقرة).
أما الذي لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، فإنه قد خلّى بينه وبين مصيبته، يتجرع غصصها، ويمضغ جمرها، ويبيت على أشواكها، دون أن يجد للصبر طريقا، أو يرى للعزاء وجها..
إنه لا يرى أبدا أن هذا الذي بين يديه، هو وديعة عنده، يمكن أن تسترد يوما ممن أودعها إياه... وإنما يقوم تقديره على أن هذا الذي وقع له، هو من تدبيره، أو هو أمر لازم لذاتيته، ولما فيه من مزايا خاصة، أثمرت له هذا الثمر.. إنه يتصور أنه من عنصر كريم، لا يثمر إلا هذا الخير، الذي هو فيه، كما أن غيره من الفقراء والمساكين والضعفاء، هم من عنصر لا يجىء منه غير الفقر، والمسكنة والضعف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الكشف عن تفكير هذا الإنسان الضال المغرور بنفسه، إذ يقول سبحانه على لسانه: «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي» (٥٠: فصلت) أي هذا من طبيعة ذاتى، وخصّيصة وجودى.. أما الفقراء، وذوو الحاجة، فإنهم ليسوا أهلا لغير الفقر والحاجة، ولو كانوا يستحقون غير ما هم فيه، لما بخل الله عليهم به. «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» (٤٧: يس) وقوله تعالى:
«إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ..».
فالحكم العام على الإنسان، هو أنه هلوع جزوع، إذا مسه الشر.. منوع بخيل، إذا مسّه الخير.. ويستثنى من هذا الحكم العام أولئك الذين آمنوا بالله من بنى الإنسان، ثم امتثلوا شريعة هذا الإيمان، فأتوا ما أمرهم الله به، واجتنبوا ما نهاهم عنه..
والصلاة، هى الركن الأول من الأركان التي قام عليها الإيمان، ولهذا كانت أول صفة يتصف بها المؤمنون، لأنها هى الطريق الذي يصلهم بالله.
فإذا تركها المؤمن، انقطعت صلته بربه، إلى أن يعود إليها، وفى هذا يقول الله تعالى: (إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى) (١٤: طه) فالصلاة هى التي تذكّر بالله، وتصل العبد بربه، وتملأ قلبه خشية منه، وولاء له.
ثم تأتى الصفة الثانية التي يتصف بها المؤمن بعد الصلاة، وهى الزكاة، فيقول سبحانه: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ».. فإن من شأن من يؤمن بالله، ويداوم على الصلاة- من شأنه أن يذكر ربه، ويذكر أن ما فى يده، هو من رزق الله له، ومن إحسانه إليه، وهو بهذا لا يبخل بهذا المال، ولا يضن به على الإنفاق فى وجوه البرّ، لأن ما ينفقه هو مدّخر عند الله له، ثم هو فى الوقت نفسه، لا ينقص شيئا من رزقه المقدر له.. فما أنفقه فى وجوه الخير، هو صدقة زائدة، تصدّق الله سبحانه وتعالى بها عليه، لتكون طهرة له..
وما أمسكه فى يده، هو الرزق المقدر له..
والحق المعلوم فى أموال المؤمنين، هو الزكاة المفروضة عليهم..
هذا وقد جمع الله سبحانه وتعالى بين الصلاة والزكاة فى سبعة وعشرين موضعا من القرآن الكريم، كما التزم القرآن الكريم تقديم الصلاة على الزكاة فى كل موضع اجتمعتا فيه..
وفى هذا الجمع بين الصلاة والزكاة- إشارة إلى أنهما من باب واحد، فى باب الإيمان والإحسان!..
ثم إن فى تقديم الصلاة على الزكاة، إشارة إلى أن الصلاة هى التي تخلق فى الإنسان العواطف والمشاعر التي تدعو إلى الرحمة، والعطف، والإحسان، فالزكاة ثمرة من ثمرات الصلاة.. والثمرة فرع من أصل، هو الشجرة! وقوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ»..
أي ومن صفات المؤمنين بالله، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، أنهم يصدقون بيوم الدّين، ويؤمنون بالبعث، والحساب والجزاء، فإنه بغير هذا التصديق بيوم الدين، لا يكمل إيمانهم بالله، ولا يقوم عندهم شعور واضح بهذا الإيمان، إذ أن الإيمان بالحساب والجزاء هو الذي يعطى الإيمان بالله، الواقع العملي لهذا الإيمان، بما يقدّم الإنسان من أعمال صالحة، وبما يتجنب من أعمال سيئة، إعدادا ليوم الحساب، واستعدادا للقاء الله فى هذا اليوم..
ولو أخلى الإيمان بالله، من الإيمان باليوم الآخر، لكان الإيمان بالله- إن وجد- مجرد فكرة ذهنية، لا يكاد يكون لها أثر فى سلوك الإنسان، ولا
وسمّى يوم القيامة «يوم الدين» لأنه يوم الدينونة، ويوم الحساب، حيث يدان الإنسان، ويجازى بما عمل..
وأصله من الدّين، لأن لله سبحانه وتعالى دينا على كل مخلوق، بخلقه من عدم، ثم بما أودع فيه من قوى، ثم بما أفاء عليه من فضله وإحسانه.. ولهذا كان كل موجود مسبّحا بحمد الله، قضاء لبعض هذا الدين.. وقد وفىّ كل مخلوق دينه لخالقه، إذ لم ينحرف عن الطريق الذي أقامه الله سبحانه وتعالى عليه، ما عدا الإنسان: فإن أي إنسان مهما اجتهد فى طاعة الله، وتحرّى مواقع مرضاته، فإنه لا يسلم أبدا من عوارض التقصير.. ولهذا كان الناس جميعا واقعين تحت الدينونة..
والديان، صفة من صفات الحق جلّ وعلا، لأنه صاحب الفضل والإحسان على هذا الوجود.. يقول الشاعر:
لاه ابن عمّك لا أفضلت فى حسب | عنّى ولا أنت ديّاني فتخزونى |
«أنّ دفع المضار مقدم على جلب المنافع» فإن دفع الضرر، هو فى الوقت نفسه جلب لمنفعة، هى السلامة من هذا الضرر، والعافية من بلائه.. فدفع المضار
«فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (١٨٥: آل عمران)..
فالزحزحة عن النار دفع لضرر، جلب معه مصلحة، وهو دخول الجنة..
أما من دخل الجنة ابتداء من غير أن يتحقق أنه زحزح عن النار، فإن شبح النار لا يزال مطلّا عليه، لأنه لم يعلم حقيقة أمره مع النار..
ولعل هذا هو السر فى قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» (٧١- ٧٢:
مريم).
وقوله تعالى: «إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ»..
أي أن المؤمن- مع إيمانه بالله، وإقامته الصلاة. وإيتائه الزكاة، وتصديقه باليوم الآخر- كل ذلك لا يخلى نفسه من الشعور بالخوف من الله، والوقوع تحت طائلة عذابه.. فما أحد يدرى ما الله صانع به، وما أحد يدرى أهو من أهل الجنة أم من أهل النار، وإن كان- مع هذا- طريق قائم على الجنة، وأعمال تبلغ بالعاملين على هذا الطريق، إلى الجنة.. وطريق قائم على النار، وأعمال تسوق العاملين على هذا الطريق، إلى النار..
ثم الحكم بعد هذا كله إلى الله وحده، «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً».. (٣١: الإنسان)
[الإسلام.. وشهوة الجنس]
قوله تعالى:«وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ».
أي وكذلك من صفات المؤمنين- مع إيمانهم بالله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والتصديق باليوم الآخر، والخشية من عذاب الله- هم أنهم لفروجهم حافظون، أي حافظون لها من الوقوع فى الحرام.
وقوله تعالى: «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ».. «إلّا» هنا بمعنى لكن، التي تفيد الابتداء لا الاستثناء.. فما بعدها منقطع عما قبلها.. وهذا يعنى أن الحفظ للفروج هنا، هو حفظ مطلق، لا استثناء فيه.. فإمّا حفظ، أو غير حفظ.. لأن غير الحفظ يكون عدوانا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ «١» (٥- ٧:
المؤمنون) فعدم حفظ الفروج يكون عدوانا على حرمات الناس..
وعلى هذا يكون المعنى، أن من شأن المؤمنين أن يحفظوا فروجهم، وألا يكون منهم عدوان على حرمة الناس، أما عدوانهم على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم من إماء، فإنهم غير ملومين فيه..
ففى قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» - إشارة خفيّة إلى أن هذه الإباحة للأزواج، وما ملكت الأيمان، ليست على إطلاقها، وإنما هى محفوفة بسياج متين، ومحاطة بحراسة قوية، لا يؤذن بالدخول إليها إلا بحساب، وتحت مراقبة!.
«هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» يجعل من كلّ من الزوج وزوجه كيانا واحدا، يجمّل كلّ منهما صاحبه بلباس ضاف من الستر والحياء، والتصوّن..!
هذا هو أدب الإسلام، وتلك هى تربيته العالية للإنسان، والارتفاع بإنسانيته إلى هذا المستوي الكريم من التعفف والتصوّن، والتسامى على شهوات الحيوان الكامن فيه.. فلو أن إنسانا يكون ملاكا يمشى على الأرض لكانه هذا الإنسان المسلم الذي ينشّأ فى حجر الإسلام، ويربى على تعاليمه، ويتأدب بآدابه.
ودع ما يتخرص به أعداء الإسلام وحاسدوه، من أن الشريعة الإسلامية تقوم أساسا على استرضاء الغرائز البهيمية فى الإنسان، وخاصة ما يتصل بالعلاقة بين الرجل والمرأة، التي وقف بها الإسلام- كما يقولون كذبا وافتراء- عند حدّ إشباع الشهوة الجنسية، وإطلاق العنان لها، بلا حدود ولا قيود، بحيث يستطيع الرجل دائما أن يضم فى بيت الزوجية أربع نساء، يتبدل بهن كل يوم- إن شاء- أربعا!! وهكذا يستطيع المسلم أن يتزوج مئات النساء، وأن يلتقى كل يوم بوجوه جديدة منهن.. هذا إلى الإماء والجواري- إن كان هناك إماء وجوار!
هكذا يشنّع أعداء الإسلام على الإسلام، ويرمونه بهذه التهم الظالمة متخذين من ظاهر بعض النصوص القرآنية، حججا يقيمونها على مفهوم خاطئ، ويتأولونها تأويلا قائما على الهوى، يعينهم على ذلك ما وصل إليه حال المجتمع الإسلامى فى بعض بيئاته الجاهلة التي لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا تأخذ منه غير ظاهر الأشكال والرسوم، دون أن يكون لها حظ من صميم هذا الدين الذي جاءت رسالته لتسوية خلق الإنسان، والبلوغ به إلى غاية كمالاته، كما يقول الرسول الكريم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».. فما جاء الرسول الكريم داعيا إلى جديد فى بناء الحياة العقلية، والروحية، والنفسية، والعاطفية للإنسان، وإنما جاء ليزين هذا البناء، ويجمله، ويكمله..
وبعد، أفلا يخجل أولئك الذين يتزيّون بزىّ الإسلام، ثم تخرج من أفواههم كلمات العهر والفجور، ينهقون بها كما تنهق الحمر؟ وألا يستحى أولئك الذين يتسمون بأسماء إسلامية ثم يظهرون على أعين الناس فى تلك الأثواب الفضفاضة من الخلاعة والمجون؟ إن هؤلاء الخلعاء الرقعاء، هم شهود زور يدينون الإسلام أمام محكمة الرأى العام، وينفّرون الناس منه، ويصدّونهم عن سبيله.. وإنه لخير للإسلام أن يتحول عنه هؤلاء الذين يرمونه بسهام قاتلة، إلى صفوف أعدائه، حتى لا ينخدع بهم الناس، ولا يسودّ بهم وجه الإسلام المسلمين فى أعين الناظرين إلى الإسلام وأهله!.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ».
والعهود، هى المواثيق التي بين العبد وربه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وهى من قبيل الأمانات..
ورعاية هذه الأمانات، هى أداؤها على الوجه الذي أمر الله به.. وفى نقض العهود خيانة للأمانة، وفى خيانة الأمانة نقض للعهد للأخوذ على المؤمن بحفظها.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ»..
وقيام الشهادات، صفة من صفات المؤمنين، وهو أداء الشهادة على وجهها لذى يحقّ الحق، ويبطل الباطل.. «وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» (٢٨٣: البقرة)..
وفى التعبير عن أداء الشهادة على وجهها، بلفظ القيام بها، إشارة إلى أن الذي يؤديها، إنما يقيم بها ميزان العدل، كما يقول سبحانه: «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ» (٩: الرّحمن) وكما يقول جل شأنه:
«وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ» (٤: الطلاق)..
كما أنه يشير إلى أن أداءها أمر له شأنه وخطره، وأنه مطلوب من الإنسان أن يقوم لها بكيانه كلّه، وأن يظل هكذا قائما حتى يؤديها..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ»..
وحفظ الصلاة، هو أداؤها على وجهها الصحيح، بما يسبقها من طهارة الجسد، والثوب، والمكان، وبما يقوم بين يديها من انشراح صدر، وروح نفس، واستحضار ذهن، واجتماع فكر، وبما يصحبها من خشية وجلال، فى مناجاة ذى العظمة والجلال..
فمن صفات المؤمنين أنهم على صلاتهم دائمون، أي يؤدونها فى أوقاتها، وأنهم إذ يؤدونها إنما يؤدونها على تلك الصفة، من الجلال، والرهبة، والخشوع..
وقد فصل بين أداء الصلاة فى قوله تعالى: «الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» وبين الصفة التي تؤدّى بها فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» - فصل بينهما بتلك الآيات التي تدعو إلى أداء الزكاة، وإلى التصديق بيوم الدين، والخشية من عذاب الله، وإلى حفظ الفروج، وأداء الأمانات، والقيام بالشهادات- لأن أداء الصلاة مطلوب على أية حال، لا يقوم للمؤمن عذر أبدا يحلّه من أدائها فى أوقاتها.. أما أداؤها على تلك الصفة الخاصة من الخشوع، والخضوع، والرهبة، والجلال، فهو أداء للأمانة، وأنه لا تبرأ ذمة الإنسان منها إلا بأدائها على تلك الصفة، فإذا لم يؤدها على تلك الصفة، فهى لا تزال أمانة فى يده، ومطلوب منه أن يؤديها على وجهها، أما إذا لم يؤدّ الصلاة أصلا، فهو تضييع لتلك الأمانة، يحاسب «م ٧٥ التفسير القرآنى ج ٢٩»
أي ستنهاه عن المنكر يوما ما، إذا هو واظب عليها، فإن المواظبة عليها من شأنها أن تعلق الصلاة بقلبه، ثم يكون لها بعد ذلك سلطان عليه، ثم يكون لهذا السلطان وازع، بما يشبع فى قلبه من رهبة وخشية لله!.
ومن جهة أخرى، فإن التنويه بالصلاة بدءا وختاما، يجعل هذه الفضائل- التي بين أداء الصلاة، والصفة التي تؤدّى عليها- فى ضمان هذا الحارس القوى الأمين، وهو الصلاة، فإذا لم يكن بين يدى هذه الفضائل صلاة، وإذا لم يكن خلفها صلاة، جاءت هذه الفضائل فى صورة باهتة هزيلة، لا تلبث أن تجف، وتموت، ولا يبقى لها فى كيان الإنسان داع يدعو إليها، أو هاتف يهتف بها..
ومن هنا كانت الصلاة عماد الدين، كما يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
قوله تعالى:
«أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ».
فهذا هو جزاء المؤمنين الذين يكونون على تلك الصفات، التي بيّنتها
الآيات: (٣٦- ٤٤) [سورة المعارج (٧٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٤]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)
التفسير:
كانت الآيات السابقة على هذه الآيات، حديثا متصلا عن المؤمنين، وما ينبغى أن يكونوا عليه من صفات كريمة عالية، حتى ينالوا رضوان الله، ويدخلوا فى جنات النعيم، يتلقون فيها من ربهم فواضل الإكرام والإحسان..
وفى قوله تعالى:
«فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» ؟
المراد بالذين كفروا هنا، هم المشركون، الذين دخلوا فى الحكم الذي أشار إليه قوله تعالى فى الآيات السابقة: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً».
وقد استثنى من هذا الحكم العام على الإنسان- المؤمنون، الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم.. إلى آخر ما وصفهم الله سبحانه وتعالى به من صفات تدنيهم من التقوى، وتقربهم من الله.. وقد وعد الله هؤلاء المؤمنين بمقام كريم فى جنات نعيم..
وإنه إذ تنتهى آيات الله بالمؤمنين إلى هذا الموقف، وتنزلهم منازل الرضوان فى جنات النعيم- تلتفت إلى هؤلاء المشركين، فتسأل النبي الكريم عنهم، سؤال المنكر لهذا الموقف الذي هم فيه من النبىّ: «فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ؟» أي ما بالهم يتحركون بين يديك يمينا وشمالا، مسرعين إلى شئون شتى، من جدّ أو هزل، دون أن يلتفتوا إليك، أو يستجيبوا لدعوتك؟.
وقبل النبي: تجاهه، وقبالته..
ومهطعين، أي مسرعين.. كما في قوله تعالى: «مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» (٨: القمر).
وقوله تعالى: «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» بيان لحال المشركين،
والعزون. الجماعة، ومنه العزّة، وهى تكون غالبا من لوازم الكثرة.
قوله تعالى:
«أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟».
الاستفهام إنكارى، وقد جاء الجواب عنه بالنفي فى قوله تعالى:
«كَلَّا.. إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ».
أي كلا.. إنهم لن يدخلوا مداخل المؤمنين أبدا، ولن يكون لهم إلى جنة النعيم سبيل.
وقوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ».. هو بيان لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأن أمر البعث الذي ينكرونه، وهو الذي يفسد عليهم رأيهم فيما يسمعون من آيات الله- هو هيّن بالنسبة لخلقهم من هذه النطفة، التي لا تعدو أن تكون نفاية من تلك النفايات التي تلفظها أجسامهم، كالمخلط، أو اللعاب ونحوها.. ومع هذا فإن هذه النطفة يقوم منها إنسان سوىّ الخلق، خصيم مبين!!.
فهذه النطفة التي يتخلق منها الإنسان، هى مما يعلم هؤلاء المشركون علما مستيقنا، بالتجربة الواقعة، التي لا تغيب عن أشدّ الناس غباء وجهلا.
قوله تعالى:
«فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ».
(١٩: إبراهيم).
وقوله تعالى: «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» أي أننا حين نطلب من نريد إهلاكه، لا يفوتنا، ولا يعجزنا، كما فى قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» (٤: العنكبوت) وكما يقول سبحانه على لسان الجن: «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» (١٢: الجن) قوله تعالى:
«فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ»..
هو تهديد لهؤلاء المشركين، وذلك بأن يدعهم النبي وما هم فيه من خوض فى الباطل، ولعب فى مواقع الضلال، حتى يلاقوا اليوم الذي يوعدون، وهو يوم القيامة، وما توعّدهم الله به من عذاب..
قوله تعالى:
«يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ».
«يَوْمَ يَخْرُجُونَ» - هو بدل من «يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ».. ففى هذا اليوم الموعود، يخرجون من الأجداث، أي القبور، سراعا، حيث يساقون سوقا إلى موقف الحساب، والجزاء، وكأنهم فى سرعتهم ذاهبون إلى نصب
والنّصب: واحد الأنصاب، وهو الصنم، وكل ما نصب ليعبد من دون الله ويوفضون: أي ينتهون إلى هذا النصب.. وأوفض إلى كذا، وأفضى إليه..
أي تتبعه، وانتهى إليه سراعا..
قوله تعالى:
«خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ».
«خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» حال من أحوال هؤلاء المشركين، بعد خروجهم من قبورهم وسوقهم إلى الموقف أو المحشر.. إنهم يسرعون مسوقين إلى هنالك، وقد خشعت أبصارهم ذلة، وهوانا.
وقوله تعالى: «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» حال أخرى من أحوالهم.. أي قد أرهقتهم ذلة، وأنهكتهم، واشتدت عليهم وطأتها، وآدهم حملها..
وقوله تعالى: «ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» إلفات للمشركين إلى هذا اليوم، وما يطلع عليهم فيه من بلاء عظيم، وكرب يقصم الظهور! إنه هو ذلك اليوم الذين كانوا يوعدون به فى الحياة الدنيا، ولا يصدقون به، ولا يعملون حسابا له.. وها هوذا قد جاءهم بالعذاب، فماذا هم فاعلون؟ لا شىء إلا الصراخ والعويل، وتقطيع القلوب حسرة وندامة..
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة النحل..
عدد آياتها: ثمان وعشرون آية..
عدد كلماتها: مائتان وأربع وعشرون.. كلمة..
عدد حروفها: تسعمائة وتسعة وخمسون.. حرفا..
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «المعارج» بعرض هذا الموقف الذي يقفه المشركون من النبىّ، وبدعوة النبي من الله سبحانه، أن يتركهم فيما هم فيه، ليخوضوا، ويلعبوا، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون..
وبدئت سورة «نوح» بذكر موقف قوم نوح منه، وتأبّيهم عليه، وأنه لبث فيهم عمرا طويلا امتد ألف سنة إلا خمسين عاما، يغدو ويروح بينهم بدعوته، يعرضها عليهم فى كل معرض، ويلقاهم بها على كل وجه، فما استجابوا له.. ثم كانت عاقبتهم هذا العذاب الذي أخذهم الله به فى الدنيا، وإن لهم فى الآخرة لعذابا أشد وأنكى..
فالمناسبة بين السورتين قريبة، تجعل منهما سورة واحدة، لموقف واحد..