تفسير سورة النبأ

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة النبأ مكية وهي أربعون آية.

سورة النبأ
وهي أربعون آية مكية
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥)
قوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما بعث، جعلوا يتساءلون فيما بينهما، ويقولون ما الذي جاء به هذا الرجل. فنزل عَمَّ يَتَساءَلُونَ يعني: عما ذا يتساءلون.
ثم قال: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني: يتساءلون عن الخبر العظيم، وهو القرآن كقوله: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: ٦٨] ويقال: معناه عن ماذا يتحدثون، وعن أي شيء يتحدثون. ثم قال: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني: خبراً عظيماً. وقال الزجاج: أصله عَمَّا يَتَسَاءلُونَ ثم بين فقال: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني: عن أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وقيل: عن القرآن.
وقيل عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني: عن البعث والدليل قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: ١٧] ثم بين لهم الأمر الذي كانوا يتساءلون، وهو البعث.
ثم قال عز وجل: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يعني: مصدقاً ومكذباً. يعني: بالبعث بعضهم مصدق، وبعضهم مكذب. ويقال: بالقرآن، ويقال: بمحمد صلّى الله عليه وسلم. ثم قال الله تعالى:
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يعني: سيعرفون ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يعني: سيعرفون ذلك الوعيد، على أثر الوعيد، يعني: سيعلمون عند الموت وفي الآخرة، ويتبين لهم بالمعاينة. قرأ ابن عامر ستعلمون، بالتاء على وجه المخاطبة. وقرأ الباقون بالياء، على معنى الخبر عنهم.
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٦ الى ٢٣]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠)
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَآءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥)
وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠)
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣)
536
ثم ذكر صنعه، ليستدلوا بصنعه على توحيده. فقال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً يعني: فراشاً ومقاماً. ويقال: موضع القرار، ويقال: معناه ذللنا لهم الأرض، ليسكنوها ويسيروا فيها. وَالْجِبالَ أَوْتاداً يعني: أوتدها وأثبتها. ثم قال: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً يعني:
أصنافاً وأضداداً، ذكراً وأنثى. ويقال: ألواناً بيضاً، وسوداً، وحمراً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً يعني: راحة لأبدانكم وأصله التمدد، فلذلك سمي السبت، لأنه قيل لبني إسرائيل: استريحوا فيه. ويقال: سباتاً يعني: سكوناً وانقطاعاً عن الحركات.
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً يعني: سكوناً يسكنون فيه. ويقال: ستراً يستر كل شيء وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً يعني: مطلباً للمعيشة وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً يعني: سبع سموات غلاظاً، كل سماء مسيرة خمسمائة عام وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً يعني: وقاداً مضيئة وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ يعني: من السحاب، سمي معصرات لأنها تعصر الماء. ويقال: المعصرات هي الرياح. يعني: ذوات الأعاصير. كقوله: إعصاراً فيه نار.
ثم قال عز وجل: مَاء ثَجَّاجاً يعني: سيالاً ويقال: منصباً كبيراً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً يعني: بالماء حبوباً كثيرة للناس، ونباتاً للدواب من العشب والكلأ وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً يعني: شجرها ملتفاً بعضها في بعض، فأعلم الله تعالى قدرته، أنه قادر على البعث. فقال:
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً يعني: يوم القيامة ميقاتاً، وميعاداً للأولين والآخرين يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً يعني: جماعة جماعة. وروي في بعض الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: يبعث الله تعالى الناس صوراً مختلفة، بعضهم على صورة الخنزير، وبعضهم على صورة القردة، وبعضهم وجوههم كالقمر ليلة البدر.
ثم قال عز وجل: وَفُتِحَتِ السَّماءُ يعني: أبواب السماء فَكانَتْ أَبْواباً يعني:
صارت طرقاً. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم وَفُتِحَتِ بالتخفيف، والباقون بالتشديد، وهو لتكثير الفعل، والتخفيف بفتح مرة واحدة. ثم قال عز وجل: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ يعني: قلعت من أماكنها فَكانَتْ سَراباً يعني: فصارت كالسراب، تسير في الهواء كالسراب في الدنيا إِنَّ
537
جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً
أي: رصداً لكل كافر ويقال: سجنا ومحبسا لِلطَّاغِينَ مَآباً أي:
للكافرين مرجعاً، يرجعون إليها.
لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً يعني: ماكثين فيها أبداً دائماً. والأحقاب وأحدها حقب، والحقب ثمانون سنة، واثنا عشر شهراً، وكل شهر ثلاثون يوماً، وكل يوم منها مقدار ألف سنة مما تعدون بأهل الدنيا، فهذا حقب واحد، والأحقاب هو التأييد كلما مضى حقب، دخل حقب آخر. وإنما ذكر أحقاباً، لأن ذلك كان أبعد شيء عندهم. فذكر وتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونه، وهو كناية عن التأبيد، أي: يمكثون فيها أبداً. قرأ حمزة لبثين بغير ألف. والباقون لابثين بالألف، ومعناهما واحد.
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٢٤ الى ٤٠]
لاَّ يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لاَ يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣)
وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨)
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠)
ثم قال عز وجل: لاَّ يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً يعني: لا يكون فيها برد يمنعهم من حرها.
وقال القتبي: البرد النوم. وقال الزجاج: يجوز أن يكون البرد نوماً، ويجوز أن يكون معناه: لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل وَلا شَراباً يعني: شراباً ينفعهم إِلَّا حَمِيماً يعني: ماءً حاراً قد انتهى حره وَغَسَّاقاً يعني: زمهريراً. وقال الزجاج: الغساق ما يغسق من جلودهم، أي: ما يسيل وقد قيل الشديد البرد. قرأ حمزة، والكسائي وعاصم في رواية حفص، وغساقاً بالتشديد. والباقون بالتخفيف، ومعناهما واحد.
ثم قال: جَزاءً وِفاقاً يعني: العقوبة موافقة لأعمالهم، لأن أعظم الذنوب الشرك نعوذ بالله، وأعظم العذاب النار، ووافق الجزاء العمل. ثم قال: إِنَّهُمْ كانُوا لاَ يَرْجُونَ حِساباً
538
يعني: لا يخافون البعث بعد الموت. ويقال: كانوا لا يرجون ثواب الآخرة، أنهم كانوا ينكرون البعث. قوله تعالى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً يعني: جحدوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم، وبالقرآن كذاباً يعني: تكذيباً وجحوداً. ثم قال: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً يعني: أثبتناه في اللوح المحفوظ فَذُوقُوا يعني: يقال لهم: فذوقوا العذاب فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً.
ثم بين حال المؤمنين فقال عز وجل: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً يعني: نجاة من النار إلى الجنة. ويقال: المفاز بمعنى الفوز. يعني: موضع النجاة حَدائِقَ وَأَعْناباً يعني: لهم حدائق في الجنة، والحدائق ما أحيط بالجدار، وفيه من النخيل والثمار، وأعناباً يعني: كروماً وَكَواعِبَ أَتْراباً والكواعب، الجواري مفلكات الثديين أَتْراباً مستويات في الميلاد والسن. وقال أهل اللغة: الكواعب النساء، قد كعب ثديهن وَكَأْساً دِهاقاً كل إناء فيه شراب فهو كأس، فإذا لم يكن فيه شراب فليس بكأس، كما يقال للمائدة إذا كان عليها طعام مائدة، وإذا لم يكن فيها طعام خوان يقال دِهاقاً يعني: سائغاً. وقال الكلبي: وَكَأْساً دِهاقاً يعني: إناء فيه خمر ملآن متتابعاً. وهذا قول عطية وسعيد، والعباس بن عبد المطلب، - رضي الله عنهم-، ومجاهد، وإبراهيم النخعي.
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً يعني: حلفاً وباطلاً. ويقال: ولا يسمعون في مشربها فحشاً خبثا وَلا كِذَّاباً يعني: تكذيباً في شربها. يعني: لا يكذبون فيها. قرأ الكسائي كذاباً بالتخفيف، يعني: لا يكذب بعضهم بعضاً. وقرأ الباقون بالتشديد فهو من التكذيب ثم قال:
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ يعني: ثواباً من ربك عَطاءً حِساباً يعني: كثيراً وقال مجاهد: عطاء من الله، حساباً بما عملوا. وقال أهل اللغة: حساباً أي: كثيراً. كما يقال: أعطينا فلاناً عطاء حساباً، أي: كثيراً. وأصله أن يعطيه حتى يقول حسبي. وقال الزجاج: حساباً. أي: ما يكفيهم، يعني: فيه ما يشتهون.
ثم قال: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خالق السموات والأرض. قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، رب السموات والأرض بضم الباء والباقون بالكسر فمن قرأ بالضم فمعناه هو رب السموات والأرض ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الصفة أي: جزاء من ربك رب السموات والأرض وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ يعني: الرحمن هو رب السموات والأرض لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يعني: لا يملكون الكلام بالشفاعة، إلا بإذنه يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ قال الضحاك: هو جبريل. وقال قتادة عن ابن عباس، وخلق على صورة بني آدم. ويقال: هو خلق واحد، يقوم صفاً واحداً وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا يعني: صفوفاً. ويقال: الروح لا يعلمه إلا الله، كما قال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: ٨٥].
ثم قال عز وجل: لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يعني: لا يتكلمون بالشفاعة،
539
إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة وَقالَ صَواباً يعني: لا إله إِلاَّ الله يعني: من كان معه من التوحيد، وهو من أهل الشفاعة. ثم قال عز وجل: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ يعني: القيامة كائنة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ يعني: من شاء وجد واتخذ بذلك التوحيد إِلى رَبِّهِ مَآباً يعني: مرجعاً.
ويقال: من شاء اتخذ بالطاعة إلى ربه مرجعاً.
ثم خوفهم فقال: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
يعني: خوفناكم بعذاب قريب، وهو يوم القيامة. ثم خوف المؤمنين، ووصف ذلك اليوم وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ
يعني: ما عملوا من الخير والشر يعني: ينظر المؤمن إلى عمله، وينظر الكافر إلى عمله يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
يعني: لو كنت بهماً منها فأكون تراباً، أستوي بالأرض. وذلك، إن الله تعالى يقول للسباع والبهائم، كوني تراباً فعند ذلك، يتمنى الكافرا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً.
وروى عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة- رضي الله عنه-، أنه قال: إن الله يحشر البهائم والدواب والناس، ثم يقتص لبعضهم من بعض، حتى يقتص للشاة. الجماء من الشاة القرناء.
ثم إن الله تعالى يقول لها: كوني تراباً، فيراها الكافر ويتمنى أن يكون مثلها تراباً. ويقول: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
يعني: يا ليتني لم أبعث كقوله: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ [الحاقة: ٢٥] إلى قوله:
يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ [الحاقة: ٢٧] والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وسلم.
540
Icon