تفسير سورة يونس

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة يونس من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ يُونسَ
مكيةٌ إلا ثلاثَ آياتٍ من قولهِ ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾، وآيُها مئةٌ وتسعُ آياتٍ، وحروفُها سبعةُ آلافٍ وخمسُ مئةٍ وسبعة وستونَ حرفًا، وكلمُها ألفٌ وثمانُ مئةٍ واثنتانِ وثلاثونَ كلمةً.

بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١)﴾.
[١] ﴿الر﴾ قالَ ابنُ عباسٍ والضحَّاكُ: معناهُ: أنا اللهُ أَرى (١)، وتقدَّم الكلامُ في حروفِ الهجاءِ أولَ سورةِ البقرةِ. قرأ أبو جعفرٍ بتقطيعِ الحروفِ على أصلِه، وأمالَ الراءَ هنا وفي سورةِ هودٍ ويوسفَ والرعدِ وإبراهيمَ والحِجْرِ، أبو عمرٍو، وابن عامر، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، ورواها الأزرقُ عن ورشٍ بينَ اللفظينِ، والباقون: بالفتح (٢).
﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى الكتبِ المتقدمة؛ أي إنها في القرآنِ معنى {آيَاتُ
(١) رواه الطبري في "تفسيره" (١١/ ٧٩).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٢)، و "التيسير" للداني (ص: ١٢٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٤٩)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٢٤١ - ٢٤٢، ٢/ ٦٧)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٥٧).
الْكِتَابِ} القرآنِ ﴿الْحَكِيمِ﴾ المحكمِ بالحلالِ والحرامِ والحدودِ والأحكامِ.
* * *
﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢)﴾.
[٢] لما بعثَ الله محمدًا - ﷺ -، أنكر المشركون نبوتَهُ، وتعجَّبوا من ذلك، وقالوا: اللهُ أعظمُ من أن يكونَ رسولهُ بشرًا، فنزل:
﴿أَكَانَ﴾ (١) استفهامٌ إنكاريٌّ ﴿لِلنَّاسِ عَجَبًا﴾ العَجَبُ: حالةٌ تعتري الإنسانَ من رؤيةِ شيء على خلافِ العادة، و (عجبًا) خبرُ كانَ، واسمها:
﴿أَنْ أَوْحَيْنَا﴾ المعنى: أَعَجِبَ أهلُ مكةَ من إيحائِنا؟
﴿إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ﴾ يعني: محمدًا - ﷺ -.
﴿أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾ أَعْلِمْهم مع التخويفِ.
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ﴾ عملٌ صالحٌ قدَّموه.
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وأُضيفَ القدمُ إلى كذا في الأصل، والصواب: عملًا صالحًا الصدقِ وهو نعتُه؛ كقولهم: مسجدُ الجامعِ، و (حب الَحصِيدِ)، قالَ أبو عبيدةَ: كل سابقٍ من خيرٍ أو شَرٍّ فهو عندَ العربِ (قَدَمٌ) يقال: لفلانٍ قدمٌ في الإسلامِ (٢).
﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ،
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٥٠).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣٥٠).
والكسائيُّ، وخلفٌ: (لَسَاحِرٌ) بألفٍ بعد السين، وكسرِ الحاء، والمراد: النبيُّ - ﷺ -، وقرأ الباقون: بكسر السين وإسكانِ الحاء من غيرِ ألف، والمراد: القرآن (١).
* * *
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ التي هي أصولُ الممكنات.
﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ بلا كيفٍ، تقدَّمَ الكلامُ فيه في سورةِ الأعرافِ.
﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ يقضي أمرَ الخلائق برزقِهم في الدنيا، وحسابِهم في الأخرى.
﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ﴾ يشفعُ لأحدٍ.
﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ ردَّ على من زعمَ أن الآلهةَ تشفعُ لهم عندَ اللهِ، وإثباتُ الشفاعةِ لمن أذنَ له.
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾ الموصوفُ بتلك الصفاتِ ﴿رَبُّكُمْ﴾ لا شريكَ له.
﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ وَحِّدُوه.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٥٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٥٨).
﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ تتَّعِظون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (تَذَكَّرُونَ) بتخفيف الذال حيثُ وقعَ، والباقون بالتشديدِ (١).
* * *
﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٤)﴾.
[٤] ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ لا إلى غيره ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ صدقًا، لا خلفَ فيه، نُصِبَ على المصدر؛ أي: وَعْدًا حقًّا.
﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ أي: يخلقُه ابتداءً.
﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ مَيْتًا ثم حَيًّا للجزاء. قرأ أبو جعفرٍ: (أَنَّه) بالفتح على معنى لأنه، والباقون: بكسر الألفِ على الاستئناف (٢).
﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدلِ ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ ماءٍ حارٍّ قد بلغَ نهايةَ الحرِّ.
﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ بسببِ كفرِهم.
* * *
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٤٠)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٥٨).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣٥١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٢).
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)﴾.
[٥] ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً﴾ بالنهارِ، وقرأ قنبلٌ عن ابنِ كثيرٍ (ضِيئَاءً) بهمزتين بينَهما ألفٌ، والباقون بياء مفتوحة بعدَ الضاد (١).
﴿وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ بالليل؛ أي: خلق الشمسَ ذاتَ ضياءٍ، والقمرَ ذا نورٍ، والضياءُ أقوى من النورِ.
﴿وَقَدَّرَهُ﴾ أي: القمرَ، قدَّرَ سيرَه.
﴿مَنَازِلَ﴾ لأن بالقمرِ يُعرف انقضاءُ الشهورِ والسنين، لا بالشمس، ومنازلُ القمرِ ثمانيةٌ وعشرونَ منزلًا، وأسماؤها: الشُّرُطَيْن، والبُطَين، والثُّرَيَّا، والدَّبَران، والهَقْعَة، والهَنْعَة، والذِّراع، والنَّثْرَة، والطَّرْف، والجَبْهَة، والزَّبْرَة، والصَّرْفة، والعَوَّاء، والسَّماك، والغَفْر، والزَّبانى، والإكليل، والقلب، والشَّولة، والنَّعائم، والبَلْدَة، وسعدُ الذّابح، وسعدُ بَلَع، وسعدُ السعود، وسعدُ الأخبية، وفرعُ الدلو المقدَّم، وفرع الدلو المؤخَّر، وبطنُ الحوتِ ويسمَّى الرشاء، وهذه المنازلُ مقسومةٌ على البروجِ، وهي اثنا عشرَ برجًا: الحملُ، والثورُ، والجوزاءُ، والسرطانُ، والأسدُ، والسنبلةُ، والميزانُ، والعقربُ، والقوسُ، والجديُ، والدلوُ،
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٢)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٥٩).
ويسمى: الدالي، والحوتُ فكلُّ برجٍ منزلانِ وثلثٌ، ينزلُ القمرُ كلَّ ليلةٍ منزِلًا منها، ويستترُ ليلتين إنْ كانَ الشهرُ ثلاثين، وإن كان تسعًا وعشرين، فليلةً واحدةً، فيكونُ انقضاءُ السنةِ مع انقضائِها.
﴿لِتَعْلَمُوا﴾ بذلك ﴿عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ حسابَ الأشهرِ والأيامِ.
﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ﴾ المذكورَ.
﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ أي: بالحكمةِ البالغةِ، ولم يخلقْه عبثًا.
﴿يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمروٍ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ (يُفَصِّلُ) بالياء؛ لقولهِ (ما خَلَقَ الله)، وقرأ الباقون: بالنون على التعظيم (١).
* * *
﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من أنواع الكائنات ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ لأن المتقيَن هم المنتفعونَ بالتفكُّر في خلقِ الله تعالى.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٥٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٦٠).
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧)﴾.
[٧] ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ لا يتوقعونه لإنكارهم البعثَ.
﴿وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فاختاروها.
﴿وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾ سكنوا إليها سكونَ مَنْ لا يُزعَجُ.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا﴾ أدِلَّتِنا ﴿غَافِلُونَ﴾ لا يتفكرون فيها.
* * *
﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من الكفرِ والتكذيبِ.
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩)﴾.
[٩] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ أي: يسدِّدُهم بسبب إيمانِهم إلى سلوكِ سبيلٍ يؤدِّي إلى الجنة.
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ﴾ أي: بينَ أيديهم ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.
* * *
﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا﴾ أي: دعاؤهم؛ لأن (اللَّهُمَّ) دعاءٌ.
﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ عمَّا لا يليق بعظمتِك وجلالِك.
﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ أي: يُحَيِّي بعضهم بعضًا بالسلام.
﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ﴾ بعدَ التسبيحِ.
﴿أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يريدُ: يفتحون كلامهم بالتسبيح، ويختمونه بالتحميد.
* * *
﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١)﴾.
[١١] ولما استعجلَ المشركون العذابَ، نزل: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ﴾ أي: تعجيلًا مثلَ استعجالِهم.
﴿بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (لَقَضَى) بفتح القاف والضاد وقلب الياء ألفًا (أَجَلَهُمْ) نصب، المعنى: لأماتهم الله، وقرأ الباقون: بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء (أَجَلُهُمْ) بالرفع مجهولًا (١)؛ أي: وعجَّلنا لهم ما دَعَوا به من الشر كما نعجِّلُ لهم ما طلبوا من الخير، لهلكوا، تلخيصُه: لا يفعلُ إلا ما يريد.
﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ لا يخافون البعث.
﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ إمهالًا لهم واستِدْراجًا.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٣ - ٣٢٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢١)، و "تفسير البغوي" (٢/ ٣٥٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٦١).
﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ﴾ الشدَّةُ ﴿دَعَانَا لِجَنْبِهِ﴾ أي: على جنبِه.
﴿أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾ المعنى: دعانا في جميعِ حالاتِه، لأن الإنسانَ لا بدَّ لهُ من اضطجاعٍ أو قيامٍ أو قعودٍ.
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا﴾ دفعْنا ﴿عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ﴾ مَضَى ونسيَ ما كانَ فيه من البلاءِ.
﴿كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾ واستمرَّ على طريقتِه الأولى قبلَ أن يمسَّه الضرُّ.
﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الدعاءِ عندَ البلاء، وتركِ الشكرِ عندَ الرخاء.
* * *
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يا أهلَ مكةَ.
﴿لَمَّا ظَلَمُوا﴾ بالتكذيبِ.
﴿وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالشواهدِ الدالَّةِ على صدقِهم. قرأ أبو عمرٍو: (رُسْلُهُمْ) بإسكان السين، وكذلك (رُسْلُنا) حيثُ وقعَ، والباقون: بضم السين (١).
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٤٠)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =
﴿وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ عطفٌ على (ظَلَمُوا) ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كما أهلكناهم بكفرهم ﴿نَجْزِي﴾ نُهْلِكُ ﴿الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ الكافرينَ بتكذيبِهم محمدًا - ﷺ -.
* * *
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ﴾ أي: خلفًا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ خطابٌ للذين بُعث إليهم - ﷺ - ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ من بعدِ المهلَكينَ.
﴿لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ فنعامِلَكم على مقتضى أعمالِكم.
* * *
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)﴾.
[١٥] ولما كانَ القرآنُ ينزلُ بذمِّ الأصنامِ وعابديها، قالوا للنبيِّ - ﷺ -: إن كنتَ تريدُ أن نؤمنَ بكَ، فأتِ بقرآنٍ غير هذا لا تُذَمُّ فيه آلهتُنا، فنزل: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ (١) يعني: المشركين.
= (ص: ٢٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٦٢).
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٥٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٥٤ - ٣٥٥).
﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا﴾ بكتابٍ آخرَ ليسَ فيه ما نكرهُ من معايبِ آلهتنا.
قرأ ابن كثيرٍ (بِقُرَانٍ) و (القُرَان) كيفَ أَتى بالنَّقل (١).
﴿أَوْ بَدِّلْهُ﴾ غَيِّرْهُ فاجعلَ مكانَ آيةِ رحمةٍ آيةَ عذابٍ، وبالعكس.
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمدُ: ﴿مَا يَكُونُ لِي﴾ ما ينبغي لي ولا يجوزُ.
﴿أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾ أي: من عندِها.
﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ فيما آمُركم به، وأَنهاكُم عنه.
﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي﴾ بالتبديلِ ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ هو يومُ القيامة. قرأ الكوفيونَ، وابنُ عامر، ويعقوبُ: (لي أَن) (نَفْسِي إِنْ) (إِنيِّ أَخَافُ) بإسكانِ الياءِ في الثلاثةِ، ووافقَهم ابنُ كثيرٍ في (نَفْسِي)، والباقونَ، وهم نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمروٍ: بالفتح، وافقَهم ابنُ كثيرٍ في (لِيَ) و (إِنيِّ) (٢).
* * *
﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ﴾ يعني: لو شاءَ، ما أنزلَ القرآنَ عليَّ.
(١) تقدمت هذه القراءة عند تفسير الآية (١٨٥) من سورة البقرة.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٣٠)، و "التيسير" للداني (ص: ١٢٣ - ١٢٤)، و"الكشف" لمكي (١/ ٥٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٦٢).
271
﴿وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ بروايةِ قنبلٍ: (ولأَدْرَاكُمْ) بالقصرِ على الإيجاب؛ أي: ولأَعْلَمَكم به على لسان غيري، ولكنَّه مَنَّ عليَّ بالرسالة، وقرأ الباقون: بإثباتِ الألفِ على أنها (لا) النافية (١)؛ أي: ولا أعلمَكم به على لساني، ولترَكَكم على كفْركم، المعنى: إن الأمرَ بمشيئةِ اللهِ لا بمشيئتي حتى أجعله على نحوِ ما تشتهونه، وقرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وورشٌ عن نافعٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (أَدْرَاكُمْ) (أَدْرَاكَ) بالإمالة حيثُ وقعَ، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ راوي ابنِ عامرٍ.
﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا﴾ ظرفٌ، أي: مقدارَ عمر، وهو أربعونَ سنةً.
﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ من قبلِ نزولِ القرآن، لا أتلوه، ولا أعلمُه.
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أنه ليسَ من قِبَلي.
ولبثَ النبيُّ - ﷺ - فيهم قبلَ الوحي أربعين سنةً، ثم أُوحِيَ إليه، فأقام بعدَ الوحيِ ثلاثَ عشرةَ سنةً، ثم هاجرَ فأقامَ بالمدينة عشرَ سنينَ، وتُوفِّيَ وهو ابنُ ثلاثٍ وستين سنةً، وكانتْ وفاتُه يومَ الاثنينِ، وفُرِغَ من جهازِه يومَ الثلاثاء، ودُفن في ليلةِ الأربعاءِ في شهرِ ربيعٍ الأولِ سنةَ إحدى عشرةَ من الهجرةِ الشريفةِ، وكان مرضُه ثلاثَ عشرةَ ليلةً - ﷺ -.
* * *
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٥٥)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٦٤). والذي عند البغوي: "ولأدراكم" برواية البزي عن ابن كثير.
272
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فزعمَ أنَّ له شريكًا أَو ولدًا.
﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ بنبوةِ محمدٍ - ﷺ -.
﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ لا يَنْجو المشركون.
* * *
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ﴾ إنْ عَصَوه.
﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ إن عَبَدوه؛ يعني: الأصنامَ؛ فإنها جمادٌ لا تقدرُ على نفعٍ ولا ضرٍّ.
﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ﴾ الأوثانُ ﴿شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ تشفعُ لنا فيما يهمُّنا من أمورِ الدنيا والآخرةِ إن يكنْ بعثٌ.
﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ﴾ أتخبرونه ﴿بِمَا لَا يَعْلَمُ﴾ أي: أتخبرونَ الله أنَّ له شريكًا أو عندَهُ شفيعًا بغيرِ إذنِه، وفيه تقريعٌ وتَهَكُّم بهم، واللهُ لا يعلمُ لنفسِه شريكًا ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ ثم نَزَّهَ نفسَه وقَدَّسَها عن الشركِ فقال:
﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تُشْرِكُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (١).
* * *
﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على دينِ الإسلامِ.
﴿فَاخْتَلَفُوا﴾ تفرَّقوا أديانًا مختلفةً.
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ أنه لا يقضي بينَهم دونَ القيامةِ.
﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ عاجِلًا ﴿فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ بإهلاكِ المبطِلِ وإبقاء المحِقِّ.
* * *
﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَيَقُولُونَ﴾ يعني: أهلَ مكةَ ﴿لَوْلَا﴾ هلَّا.
﴿أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ من الآيات التي نقترحُها.
﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ﴾ هو المحيطُ بعلمِه.
﴿فَانْتَظِرُوا﴾ نزولهَا ﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ لِما يفعلُ اللهُ بِكُمْ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٦٥).
﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ﴾ كفارَ مكةَ ﴿رَحْمَةً﴾ راحةً.
﴿مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ﴾ شدَّةٍ.
﴿مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا﴾ بالطعنِ عليها، والاحتيالِ في دفعها. قرأ أبو عمرٍو: (مِنْ بَعْد ضَّرَّاءَ) بإدغام الدالِ في الضادِ (١).
﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا﴾ أي: مجازاةً ﴿إِنَّ رُسُلَنَا﴾ الحفظةَ.
﴿يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ قرأ روحٌ عن يعقوبَ: (يَمْكُرُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (٢).
* * *
﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ﴾ يحمِلُكم ﴿فِي الْبَرِّ﴾ على الظهورِ ﴿وَالْبَحْرِ﴾ على السفنِ. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (يَنْشُرُكُمْ) بفتح الياء ونون ساكنة
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٦٦).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣٥٧)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٦٦).
بعدَها وشين معجمة مضمومة، من النَّشْرِ، وكذلك هي في مصاحفِ أهلِ الشامِ وغيرِها، وقرأ الباقون: بضمِّ الياء وسين مهملة مفتوحة بعدها ياءٌ مكسورة مشدَّدة من التسيير، وكذلك هي في مصاحفهم (١).
﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾ السفنِ، الواحدُ والجمعُ سواءٌ ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ أي: السفنُ بالناس ﴿بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ لينةِ الهبوبِ ﴿وَفَرِحُوا بِهَا﴾ بتلكَ الريحِ.
﴿جَاءَتْهَا﴾ أي: السفنَ ﴿رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ شديدةُ الهبوبِ.
﴿وَجَاءَهُمُ﴾ يعني: ركبانَ السفينةِ ﴿الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ وهو حركةُ الماءِ واختلاطُه.
﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ أُهْلِكوا، جعلَ إحاطةَ العدوِّ بالحيِّ مثلًا في الهلاكِ.
﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ دونَ أوثانهم يقولون: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ﴾ الشدَّةِ ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ لكَ بالإيمان.
* * *
﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ﴾ إجابةً لدعائِهم ﴿إِذَا هُمْ يَبْغُونَ﴾ يُفْسِدون.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٥٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٢)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٦ - ٦٧).
﴿فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ مبطِلين فيه.
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: وَبالُه راجعٌ عليكم، ثم ابتدأ فقال:
﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قراءة العامة: (مَتَاعُ) بالرفع خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: هذا متاعٌ، المعنى: إنما بغيُكم على أمثالِكم، منفعةُ الحياةِ الدنيا لا بقاءَ لها، وقرأ حفصٌ عن عاصمٍ (مَتَاعَ) بالنصب (١)؛ أي: تتمتعون متاعَ الحياةِ الدنيا في فنائِها وزوالِها.
﴿ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بالجزاءِ عليه.
* * *
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ في زوالِها.
﴿كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾ أي: التفَّ واشتبكَ بسببه حتَّى خالطَ بعضُه بعضًا؛ أي: نبتَ بالماءِ من كلِّ لون.
﴿مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ﴾ من الحبوبِ والثمارِ ﴿وَالْأَنْعَامُ﴾ من الحشيشِ.
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا﴾ زِينَتَها بالنباتِ ﴿وَازَّيَّنَتْ﴾ بالزهرِ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٥٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٦٧).
﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ متمكِّنونَ من منفعتِها ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾ قضاؤنا ﴿لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا﴾ شَبيهًا بما يُحْصَدُ من الزرعِ.
﴿كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ أي: كأنْ لم تعمرْ بالزمانِ الماضي، والمغاني: المنازلُ.
﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فإنهم هم المنتفعون بها.
* * *
﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ الجنةِ لسلامتِهم فيها.
﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ هو الإسلامُ، وتقدَّم اختلافُ القراء في حكم الهمزتين من كلمتين في قوله: (يَشَاءُ إِلىَ صراطٍ مستقيمٍ) في سورة البقرة [الآية: ١١٥].
* * *
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ العملَ في الدنيا ﴿الْحُسْنَى﴾ الجنةُ.
﴿وَزِيَادَةٌ﴾ النظرُ إلى وجهِ الله الكريمِ.
﴿وَلَا يَرْهَقُ﴾ يغشى ﴿وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾ غبارٌ، جمعُ قَتَرَةٍ ﴿وَلَا ذِلَّةٌ﴾ هوانٌ.
﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دائمونَ.
* * *
﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧)﴾ [يونس: ٢٧].
[٢٧] ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ﴾ مبتدأ، خبرُه: ﴿جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ أي: لهم مثلُها.
﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ مانع.
﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ﴾ أُلْبِسَتْ.
﴿وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾ حالٌ، العاملُ فيها (أُغشيت). قرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، ويعقوبُ: (قِطْعًا) بإسكان الطاء؛ أي: جزءًا واحدًا، والباقون: بالفتح، جمع قِطْعة (١) ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ يعني: الفريقين ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ﴾ أي: اثبتوا مكانَكم ﴿أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ﴾ أي: آلهَتكم، لا تبرحوا حتى نرى ما يُفعل بكم.
﴿فَزَيَّلْنَا﴾ فَرَّقنا ﴿بَيْنَهُمْ﴾ بعدَ اجتماعِهم في الموقفِ، وقطعنا ما كانَ
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٦٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٢)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٧٠ - ٧١).
بينهم من التواصُلِ في الدنيا، وذلك حينَ تبرَّأَ كلُّ معبودٍ من دون الله ممن عبدَه.
﴿وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ﴾ يعني: الأصنامَ.
﴿مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ بطِلبتنا، فيقولون: بلى، كنا نعبدُكم، فتقولُ الأصنامُ:
...
﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ﴾ إيانا.
﴿لَغَافِلِينَ﴾ ما كنا نسمعُ ولا نبصرُ ولا نعقلُ.
...
﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)﴾.
[٣٠] قال الله تعالى: ﴿هُنَالِكَ﴾ في ذلكَ اليومِ ﴿تَبْلُو﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (تَتْلُو) بتاءين، من التلاوة؛ أي: تقرأُ كلُّ نفسٍ صَحيفتَها، وقرأ الباقون: بالتاء والباء (١)، من البلوى؛ أي: تختبرُ، ومعناه: ظهورُ أثرِ العملِ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٥)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٦١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٧٢).
﴿كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ﴾ قَدَّمَتْ من العمل.
﴿وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ إلى حكمِه، فينفرد فيهم بالحكم.
﴿مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾ ربِّهم حقيقةً، والمتولِّي جزاءَهم.
﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ضاعَ عنهم ما كانوا يدَّعون أنهم شركاءُ لله.
...
﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ﴾ بالمطرِ ﴿وَالْأَرْضِ﴾ بالنباتِ.
﴿أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾ من يستطيعُ خَلْقَها.
﴿وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ الإنسانَ من النطفةِ، والمؤمنَ من الكافرِ.
﴿وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ عكسُه. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (الْمَيِّتَ) بتشديد الياء، والباقون: بالتخفيف (١).
﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ يقدِّرُه ويقضيه.
﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ هو الذي يفعلُ هذهِ الأشياءَ إذ لا يقدرون على العنادِ في ذلك.
﴿فَقُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ عقابَه فتسلمونَ.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٧٣).
﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿فَذَلِكُمُ﴾ أي: الفعَّالُ لهذهِ الأشياءِ.
﴿اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ الذي لا ريبَ في صحَّته.
﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ لا واسطةَ بينَهما.
﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ عن الحقِّ إلى الباطلِ.
...
﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثلَ ذلك الحقِّ حَقَّتْ.
﴿حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أي: ثَبَتَتْ ﴿عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا﴾ تمرَّدوا في كفرِهم.
﴿أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: حقَّ عليهم انتفاءُ الإيمان. قرأ نافع، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (كَلِمَاتُ) بالألف على الجمع، والباقون: بغير ألفٍ على التوحيد (١).
...
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾ أي: معبودِيكم.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٢)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٦٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٧٣ - ٧٥).
﴿مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ يُنْشِئُهُ ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ من بعدِ الموتِ، فإن أجابوك، وإلا ﴿قُلْ﴾ أنت: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ تُصْرَفون عن الهدى.
...
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي﴾ يرشدُ ﴿إِلَى الْحَقِّ﴾، فماذا قالوا: لا، ولا بدَّ لهم من ذلك.
﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ يقالُ: هديتُه للحقِّ وإلى الحقِّ، واستُعمل هنا اللغتان.
﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي﴾ أي: يهتدي. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وورشٌ عن نافعٍ: بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، وأبو جعفرٍ كذلك، إلا أنه بإسكانِ الهاء، من اهتدى يهتدي، أدغموا التاء في الدال بعدَ نقلِ حركتِها مفتوحة إلى الهاء. وقرأ أبو عمرٍو، وقالونُ عن نافعٍ: باختلاسِ فتحة الهاء تخفيفًا، والتعليلُ فيه كالذي قبله، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال، من هدى يهدي غيرَه، وقرأ يعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، مبالغة؛ لأنه أدغم التاء في الدال، ولم يُلْقِ حركتَها على الهاء، فاجتمع ساكنان، فكسرت الهاء لالتقاء الساكنين، وروى أبو بكرٍ عن عاصمٍ: بكسر الياء إتباعًا للهاء مع التشديد، والتعليلُ فيه كالذي قبله، ومعنى القراءات كلِّها واحدٌ.
﴿إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾ المعنى: اللهُ الذي يهدي إلى الحقِّ أحقُّ بالاتباع، أم الصنم الذي لا يهتدي بنفسِه إلى مكانٍ ينتقل إليه (إِلَّا أَنْ يُهْدَى)؛ أي: يُنقل؟! ﴿فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ بما يقتضي صريحُ العقلِ بطلانَه.
...
﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ﴾ فيما يعتقدون ﴿إِلَّا ظَنًّا﴾ أي: تقليدَ آبائهم، والمرادُ بالأكثر: جميعُ من يقولُ ذلك.
﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ أي: لا يعملُ عملَه، المعنى: لا يقوم الظنُّ مقامَ التحقيق ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ وعيدٌ على اتّبَاعِهم للظنِّ.
...
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: وما كانَ هذا القرآنُ افتراءً من الخلق.
﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: قبلَه من الكتبِ المتقدمةِ.
﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾ أي: تبيينَ أحكامِهِ.
﴿لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ لا شكَّ في نزولِه من قِبَلِ اللهِ تعالى.
***
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ أي: بل أيقولونَ اختلقَ محمد - ﷺ - القرآنَ، ومعنى الهمزةِ فيه الإنكارُ.
﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ شبهِ القرآنِ في الفصاحةِ والإعجازِ على وجه الافتراء؛ لأنكم عربٌ مثلي ﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ من (١) تعبدون.
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ليعينوكم على ذلكَ ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أنَّ محمدًا اختلقَهُ.
...
﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)﴾.
[٣٩] ثم بَيَّنَ عجزَهم بقوله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ أي: سارعوا إلى تكذيبِ القرآنِ قبلَ أن يتدبَّروه ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ أي: ولم يأتهم حقيقةُ عاقبةِ التكذيبِ من نزولِ العذابِ بهم.
﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من كفارِ الأممِ الخاليةِ.
﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ أي: آخرُ أمرِهم بالهلاكُ.
وفي معنى قوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ من الأمثالِ الدائرةِ على ألسنِ الناس: مَنْ جَهِلَ شيئًا عاداهُ.
(١) في "ت": "ممن".
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿وَمِنْهُمْ﴾ أي: المكذِّبين ﴿مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ سيؤمنُ بالقرآن.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ﴾ أبدًا.
﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ أي: من يصرُّ على الكفرِ، وهو تهديدٌ له.
...
﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ يا محمدُ ﴿فَقُلْ﴾ تحذيرًا: ﴿لِي عَمَلِي﴾ أي: ثوابُ عملي في التبليغِ والإنذارِ والطاعةِ لله تعالى.
﴿وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ أي: جزاؤه من الشِّرْكِ.
﴿أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي: لا يؤاخَذُ أحدٌ بذنب أحد، فمن حملَها على ظاهرِها، نسخَها بآيةِ السيفِ، ومن تأوَّلها بالجزاء، فثابتة؛ لأن الجزاءَ ثَمَّ يكونُ.
...
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ بظواهرِهم، وقلوبُهم لا تعي شيئًا مما تقولُه وتتلُوهُ من القرآن، ولهذا قالَ:
﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ يريدُ: سمعَ القلبِ.
﴿وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ﴾ ظاهُره الاستفهامُ، ومعناه النفيُ.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ﴾ تعجُّبًا منكَ بأبصارِهم دونَ بصائرِهم، قيل: نزلت في المستهزئين.
﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ﴾ أي: عَمَى القلب ﴿وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ﴾ قرنَ عدمَ العقلِ بعدمِ السمعِ، وبعدمِ البصرِ عدمَ الإدراكِ تفضيلًا لحكمِ الباطنِ على الظاهرِ.
...
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ لأنه في جميعِ أفعاله متفضلٌ وعادلٌ.
﴿وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بمخالفةِ أمرِ خالقِهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَكِنِ) مخفَّفًا (الناسُ) رفعًا، والباقون: بالتشديدِ والنصبِ (١).
...
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَيَوْمَ﴾ أي: واذكرْ يومَ ﴿نَحْشُرُهُمْ﴾ وعيدٌ بالحشرِ وخزيِهم. قرأ
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢٢)، و"النشر في القراءات العشر"لابن الجزري (٢/ ٢١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٧٦ - ٧٧).
حفصٌ عن عاصمٍ: (يَحْشُرُهُمْ) بالياء، والباقون: بالنون (١).
﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ﴾ يستقصرونَ مدةَ لبثِهم في قبورِهم.
﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: يعرفُ بعضهُم بعضًا عندَ خروجِهم من القبورِ.
﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾ أي: بالعرضِ على اللهِ.
﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ في علمِ اللهِ.
...
﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ يا محمدُ ﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ من العذابِ.
﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبلَ تعذيبِهم ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ في الآخرةِ.
﴿ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾ فيجزيهم به، و (ثم) بمعنى الواو، والمعنى: إن لم ترَ في أعدائك ما يسرُّكَ هنا، فستراه ثَمَّ.
...
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ منَ الأممِ الماضيةِ ﴿رَّسُولٌ﴾ يُبعثُ إليهم.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٧)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٦٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٧٧).
﴿فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ﴾ فكذَّبوه ﴿قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدلِ.
﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ لا يُعذبون بغيرِ حُجَّةٍ تلزمُهم.
...
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَيَقُولُونَ﴾ يعني: المشركينَ استهزاءً: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ بقيامِ الساعةِ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ خطابٌ منهم للنبيِّ - ﷺ - والمؤمنينَ.
...
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي﴾ لا أقدرُ لها على شيءٍ.
﴿ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ أي: دفعَ ضرٍّ، ولا جلبَ نفعٍ ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ أنْ أملكَهُ.
﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ مدةٌ معلومةٌ ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾ وقتُ فناءِ أعمارِهم.
﴿فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ فلا تستعجلوا، فَسَيحينُ وقتكم، واختلافُ القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَجَلُهُمْ) كاختلافِهم فيهما من ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ في سورة [النساء: ٥].
***
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا﴾ ليلًا ﴿أَوْ نَهَارًا﴾ حينَ اشتغالِكم بطلبِ معاشِكم.
﴿مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ﴾ استفهامٌ معناهُ التهويلُ (١)؛ أي: ما أعظمَ ما تستعجلونَ بهِ! وستندمون على الاستعجالِ وتعرفونَ خطأَهُ.
...
﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ يعني: إن أتاكُم عذابُه ﴿آمَنْتُمْ بِهِ﴾ أي: باللهِ حينَ لا ينفعُكم الإيمانُ ﴿آلْآنَ﴾ تؤمنون؟ استفهامُ توبيخٍ.
﴿وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ استهزاءً. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (آلاَنَ) بفتحِ اللامِ من غيرِ همزٍ، والباقونَ: بإسكانِ اللامِ وهمزةٍ بعدَها، وأجمعوا على مدِّ (آلان) لأنها همزةُ استفهامٍ دخلت على همزةِ الوصلِ لتفرِّقَ بينَ الاستفهامِ والخبرِ، وأجمعوا على عدمِ تحقيقِها لكونها همزةَ وصلٍ، وهمزةُ الوصلِ لا تثبتُ إلا ابتداءً، وأجمعوا على تليينها، واختلفوا في كيفيته، فقال كثيرٌ منهم: تبُدل ألفًا خالصةً، وقال آخرون: تسُهَّلَ بينَ بينَ، وكذا الحكمُ في (آلاَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ) وفي: (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) (٢).
(١) "التهويل" ساقطة من "ن".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٥٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" =
﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بالشركِ توبيخًا لهم: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾ المؤلمَ على الدَّوام ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ في الدنيا.
...
﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ﴾ يَستخبرونَكَ.
﴿أَحَقٌّ هُوَ﴾ العذابُ أو البعثُ، استفهام استهزاءٍ.
﴿قُلْ إِي﴾ أي: نعم ﴿وَرَبِّي﴾ توكيدٌ للقسم. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (وَرَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ لا شكَّ فيه ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بفائتينَ من العذابِ.
...
﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ﴾ أشركَتْ.
= للدمياطي (ص: ٢٥٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٧٨).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٣٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٥٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨٠).
﴿مَا فِي الْأَرْضِ﴾ جميعًا.
﴿لَافْتَدَتْ بِهِ﴾ بَذَلَتْهُ في مقابلةِ نَجاتها.
﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾ أَخْفَوها عن أتباعِهم خوفًا من ملامَتِهم، وقيل: معناه: أظهروها؛ لأنه ليسَ بيومِ تصبُّرٍ.
﴿لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ وهذا: قبلَ الإحراقِ بالنار، فإذا وقعوا فيها، ألهتهم عن التَّصَنُعِ.
﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: بين الرؤساءِ والسِّفْلَةِ ﴿بِالْقِسْطِ﴾ بالعدلِ.
﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ ليسَ تكريرًا؛ لأن الأولَ قضاء بينَ الأنبياءِ ومكذِّبيهم، والثاني مجازاةُ المشركينَ على الشركِ.
...
﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ فلا مانعَ يمنعُه من إنفاذِ ما وعدَهُ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ذلكَ.
...
﴿هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)﴾ قرأ يعقوبُ: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون؛ بضمِّ التاءِ وفتحِ الجيم (١).
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٥٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨٠).
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ كتابٌ فيهِ بيانُ ما يجبُ لكم وعليكم.
﴿وَشِفَاءٌ﴾ دواءٌ ﴿لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ من العقائدِ الفاسدةِ ﴿وَهُدًى﴾ من الضلالةِ ﴿وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ خَصَّهم؛ لأنهم المنتفعونَ بالإيمان.
...
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ﴾ القرآنِ ﴿وَبِرَحْمَتِهِ﴾ الإسلامِ ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾.
قرأ رويسٌ عن يعقوبَ: (فَلْتَفْرَحُوا) بالخطابِ للمؤمنين، والباقون: بالغيب؛ أي: ليفرحِ المؤمنون (١).
﴿هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ من حُطامِ الدنيا. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامر، ورويسٌ عن يعقوبَ: (تَجْمَعُونَ) بالخطاب على معنى: فلتفرحوا أيها المؤمنون، فهو خيرٌ مما تجمعون أيها المخاطَبون، وقرأ الباقون: بالغيب (٢)؛ أي: خير مما يجمعُه الكفار، وقيل: الخطابُ في (تجمعونَ) للكافرين.
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨١).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٢)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٦٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨١ - ٨٢).
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ لكفارِ مكَّةَ: ﴿أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ﴾ أي: خلقَ من زروعٍ وضروعٍ.
﴿فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا﴾ هو ما حَرَّموا من الأنعامِ؛ كالبَحيرَةِ، والسائبةِ، والوصيلةِ، والحامِ.
﴿قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ في هذا التحريمِ والتحليلِ؟ وتقدَّمَ قريبًا الكلامُ في همزةِ الاستفهامِ في قوله تعالى: (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ).
﴿أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ تتكذبون بنسبةِ ذلكَ إليه.
...
﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي: وأيُّ شيءٍ ظَنُّهم يُصْنَعُ بهم يومَ القيامةِ؟ أيحسبون أَلَّا يجاوَزوا عليهِ؟
﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ بإمهالِهم وقبولِ توبتِهم.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾ أَنْعُمَهُ عليهم.
...
﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿وَمَا تَكُونُ﴾ يا محمدُ ﴿فِي شَأْنٍ﴾ أمرٍ، وأصلُه الهمزُ بمعنى القَصْدِ، شَأَنْتُ شَأْنَهُ: قَصَدْتُهُ.
﴿وَمَا تَتْلُو مِنْهُ﴾ من اللهِ ﴿مِنْ قُرْآنٍ﴾ نزلَ، ثم خاطبَه وأُمَّتَهُ فقال:
﴿وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾ وأُضمِرَ - ﷺ - قبلَ الذكر تفضيلًا له، ثم جُمع معَ أمته تفضيلًا لهم.
﴿إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾ مُطَّلعينَ.
﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي: تخوضون في العملِ.
﴿وَمَا يَعْزُبُ﴾ قرأ الكسائيُّ: بكسر الزايِ، والباقون: بالضمِّ (١)، ومعناهما: يغيب ﴿عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ﴾ أي: وزنِ ثقلِ ﴿ذَرَّةٍ﴾ وهي النملةُ الحميراءُ الصغيرةُ.
﴿فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ أي: في الوجودِ، وتقديمُ الأرضِ؛ لأنَّ الكلامَ في حالِ أهلِها.
﴿وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي: من الذرَّةِ ﴿وَلَا أَكْبَرَ﴾ قرأ يعقوبُ، وحمزةُ، وخلفٌ: (وَلاَ أَصْغَرُ) (وَلاَ أَكْبَرُ) برفعِ الراءِ فيهما عطفًا على موضعِ (مِنْ) ومعمولها؛ لأنَّ موضعَه رفعٌ بـ (يعزبُ)، وقرأ الباقون: بالنصبِ عطفًا على الذَّرةِ في الكسرِ، وجعلِ الفتحِ بدلَ الكسرِ لامتناعِ الصرفِ (٢).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٢ - ١٢٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٦٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨٢ - ٨٣).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٨٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ هو اللوحُ المحفوظ.
...
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ﴾ هم الذين والَوْهُ بالطاعةِ والعبادةِ، وتَوَلَّاهم بالكرامةِ.
﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ في الآخرةِ، وإلَّا فهم أشدُّ خوفًا وحزنًا في الدنيا من غيرِهم.
ورُويَ عن النبي - ﷺ - أنه سُئِلَ: مَنْ أولياءُ الله؟ فقال: "الَّذِينَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ ذَكَرْتَ اللهَ" (١).
قالَ ابنُ عطيةَ رحمه الله: وهذا وصفٌ لازمٌ للمتقين؛ لأنهم يَخْشَعونَ وَيَتَخَشَّعونَ (٢).
...
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ هذهِ صفةُ أولياءِ الله تعالى.
...
= (٢/ ٢٨٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨٣).
(١) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (١١٢٣٥)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (١٠/ ١٠٨)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٣/ ١٢٨).
﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ هي الرؤيا الصالحةُ يراها الإنسانُ، أو تُرى له ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾ الجنةِ والرضوانِ.
﴿لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ لا خُلْفَ لمواعدِهِ، والتبديلُ: تغييرُ الشيءِ عن حالِهِ ﴿ذَلِكَ﴾ التبشير ﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
...
﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)﴾.
[٦٥] ثم خاطبَ نبيَّه - ﷺ - فقالَ: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾ يا محمدُ.
﴿قَولُهُمْ﴾ تكذيبُهم؛ يعني: المشركين، تم الكلامُ هاهنا، ثم ابتدأ فقال:
﴿إِنَّ الْعِزَّةَ﴾ القدرةَ ﴿لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ يُعِزُّ مَنْ يشاء، فهو يقهرُهم وينصرُكَ عليهم.
﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالِهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأعمالِهم.
...
﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الملائكة
والثَّقَلَين، يحكمُ بما (١) يريدُ، ويفعلُ ما يشاءُ سبحانَه.
﴿وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ﴾ أي: ما يتبعون شركاءَ على الحقيقةِ، فإنَّ شركةَ اللهِ في الربوبيةِ مُحالٌ.
﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ أي: ظنَّهم أنَّ آلهتَهم تُقَرِّبُهم إلى الله تعالى.
واختلافُ القراء في الهمزتينِ من (شُرَكَاءَ إِنْ) كاختلافِهم فيهما من (شُهَدَاءَ إِذْ) في سورةِ البقرةِ [الآية: ١٣٣]. ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ يكذِبون.
...
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ أي: مع أزواجِكم وأولادِكم لزوالِ التعبِ، والسكونُ: الهُدوُّ عن اضطرابٍ.
﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ أي: يُبْصَرُ فيه مطالبُ الأرزاقِ.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سماعَ تدبُّر واعتبارٍ.
...
﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿قَالُوا﴾ يعني: المشركينَ ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ هو قولُهم: الملائكةُ بناتُ الله.
(١) في "ت" و"ن": "ما".
﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزيهٌ عن الولدِ ﴿هُوَ الْغَنِيُّ﴾ عن خَلْقِه.
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ عَبيدًا ومُلْكًا ﴿إِنْ﴾ أي: ما ﴿عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ حجةٍ ﴿بِهَذَا﴾ القولِ، ثم نفى عنهم الحجةَ بقوله:
﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ توبيخٌ على اختلاقِهم، وفيه دليلٌ على أنَّ كلَّ قولٍ لا برهانَ عليه فهو جهالةٌ.
...
﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ باتخاذِ الولدِ وإضافةِ الشريكِ إليه.
﴿لَا يُفْلِحُونَ﴾ لا يفوزونَ، وتمَّ الكلامُ.
...
﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا﴾ خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ أي: افتراؤهم متاعٌ في الدنيا؛ أي: بُلْغَة يسيرةٌ بنيلِ رئاستِهم ولذتِهم، ثم تزولُ.
﴿ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ بالموتِ.
﴿ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ بسببِ كفرهم.
***
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿وَاتْلُ﴾ أي: اقرأ يا محمدُ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ على أهلِ مكةَ ﴿نَبَأَ﴾ خبرَ ﴿نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ وهم ولدُ قابيلَ بنِ آدمَ.
﴿يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ﴾ عَظُمَ وشَقَّ ﴿عَلَيْكُمْ مَقَامِي﴾ طولُ مَكْثي بينَكم.
﴿وَتَذْكِيرِي﴾ تحذيري ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ بأدلَّتِهِ، فعزمُتم على قتلي وطَرْدي.
﴿فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾ وَثِقْتُ به ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ﴾ قراءة العامةِ: ﴿فَأَجْمِعُوا﴾ بالقطعِ وكسرِ الميم؛ أي: أَحكِموه.
﴿وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ أي: آلهتكَمُ، ونُصِبَ (شُرَكاءَكُمْ) بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: وادعوا شركاءكم فاستعينوا، بها وقرأ رويسٌ عن يعقوبَ بخلافٍ عنه: (فَاجْمَعُوا) بوصلِ الهمزةِ وفتحِ الميمِ، من الجمعِ، ووردَتْ عن نافعٍ (١)، وقرأ يعقوبُ: (وَشُرَكَاؤُكُمْ) بالرفع (٢)؛ أي: فَأَجمِعوا أمرَكم أنتم وشركاؤُكم.
﴿ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ﴾ في قصدي بالهلاكِ ﴿عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ خَفِيًّا، بل جاهِروني به ﴿ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ﴾ أَمْضُوا ما في أنفسكم.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٨)، و"المحتسب" لابن جني (١/ ٣١٤)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٨٤ - ٨٥).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣٧١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨٥).
﴿وَلَا تُنْظِرُونِ﴾ لا تُؤَخِّرونِ. أثبتَ يعقوبُ الياءَ في (تُنْظِروُني).
تلخيصُه: اقصدوا هَلاكي بكلِّ طريقٍ سريعًا، فلا خوفَ عندي؛ لوثوقي باللهِ.
...
﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتُم عن تذكيري ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ﴾ على ذلكَ.
﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ جُعْلٍ فتنفروا عَنِّي.
﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ لا تعلُّقَ له بكُم. قرأ نافعٌ، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ (أَجْرِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ الذين لا يأخذونَ الأجرَ على التعليم.
...
﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ استَمُّروا على تكذيبه ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ﴾ وكانوا ثمانين ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ﴾ سُكَّانَ الأرض خَلَفًا عن الهالكينَ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٣٠)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨٦).
﴿وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ بالطُّوفان ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ آخرَ أمرِ الذين أنذرَهم الرسلُ فلم يؤمنوا.
...
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: من بعدِ نوحٍ.
﴿رُسُلًا﴾ كإبراهيمَ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ، وغيِرهم.
﴿إِلَى قَوْمِهِمْ﴾ كلُّ رسولٍ إلى قومِه.
﴿فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالدَّلالاتِ الواضحاتِ.
﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ فما كانَ إيمانُهم إلا ممتنعًا؛ لشدَّةِ شكيمتِهم في الكفر، وتصميمِهم عليه.
﴿بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾ يريدُ: أنهم كانوا قبل بعثةِ الرسلِ أهلَ جاهليةٍ مكذِّبينَ بالحقِّ، فما وقعَ فصلٌ بين حالتَيْهم بعدَ بعثةِ الرسلِ وقبلَها، كأنْ لم يُبْعَثْ إليهم أحدٌ.
﴿كَذَلِكَ﴾ مثلَ ذلكَ الطَّبْعِ المحكَمِ ﴿نَطْبَعُ﴾ نختِمُ ﴿عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾ بخذلانهم، وفي ذلكَ دليلٌ على أن الأفعالَ واقعةٌ بقدرةِ اللهِ تعالى.
...
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي: بعدَ الرُّسُلِ {مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ
وَمَلَئِهِ} يعني: أشرافَ قومِه ﴿بِآيَاتِنَا﴾ التسعِ.
﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ عن اتِّبَاعِها ﴿وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ أي: مشركين.
...
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ﴾ يعني: فرعونَ وقومَه ﴿الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا﴾ وعرفوه؛ لتظاهرِ المعجزات ﴿قَالُوا﴾ من فرطِ تمرِّدِهم ﴿إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ظاهر.
...
﴿قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ﴾ تقديرُ الكلام: أتقولونَ للحقِّ لما جاءكم: إنه سحرٌ؟ ثم قال منكرًا عليهم: ﴿أَسِحْرٌ هَذَا﴾؟ فحذفَ السحرَ الأولَ اكتفاءً بدلالةِ الكلامِ عليه ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾ المعنى: أيكونُ سِحْرًا وقد أفلحَ مَنْ جاءَ به؟!
...
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿قَالُوا﴾ فرعونُ وقومُه لموسى عليه السلام: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾ تَصْرِفَنا ﴿عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ من عبادةِ الأصنامِ.
﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ﴾ الملكُ في أرضِ مصرَ. قرأ أبو بكرٍ عن
عاصمٍ: (وَيَكُونَ) بالياء على التذكير، والباقون: بالتاء على التأنيث (١).
﴿وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ مصدِّقين. قرأ أبو عمرٍو: (وَنَحْن لكُمَا) بإدغام النون في اللام (٢).
...
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ حاذقٍ فيه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (سَحَّارِ) على وزن فَعَّالٍ بتشديدِ الحاءِ وألفٍ بعدَها، وأمالَ فتحةَ الحاءِ الدوريُّ عن الكسائيِّ، وقرأ الباقون: (سَاحِرٍ) على وزن فاعِلٍ والألفِ قبلَ الحاء (٣).
...
﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ أي: اطْرَحوا على الأرضِ ما معَكُم من حبالِكم وعِصِيِّكم، وتقلَّمَ ذكرُ القصةِ في الأعراف.
...
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣٧٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٦)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨٦).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٤٧)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨٦).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٨٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٢)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨٧).
﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١)﴾.
[٨١] ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ﴾ أي: الذي جئتم ﴿بِهِ السِّحْرُ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو (آلسِّحْرُ) بالمدِّ على الاستفهام، تقديرُه: أيُّ شيءٍ جئتُم به، أَهُوَ السِّحْرُ؟ ويجوز لكل منهما تسهيلُ الهمزةِ الثانيةِ بينَ بينَ وإبدالُها ألفًا خالصةً كما تقدَّم في قوله: (آلاَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)، ولا يجوزُ الفصلُ فيه بالألفِ، كما لا يجوز في (آلاَنَ)، وقرأ الباقون: (بِهِ السِّحْرُ) بهمزةِ وصلٍ على الخبر، فتسقطُ وصلًا، وتُحذف بالصلةِ في الهاءِ قبلَها؛ لالتقاءِ الساكِنينِ (١).
﴿إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ﴾ سيمْحَقُهُ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ لا يُقَوِّيهِ.
...
﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)﴾.
[٨٢] ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ﴾ يُثَبِّتُهُ ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾ بأوامِره ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ ذلكَ.
...
﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى﴾ لم يصدِّقْهُ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٧٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨٧).
﴿إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ أي: أولادٌ من أولادِ قومِه بني إسرائيلَ.
﴿عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ﴾ أي: ملأ الذريَّةِ؛ فإن ملأَ الذرية كانوا من قومِ فرعونَ، وقيلَ: الضميرُ لفرعونَ، وجمعَهُ لأنه كانَ عظيمًا في نفسه، فخوطِبَ بالجمعِ.
﴿أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾ يُعَذِّبَهم، ولم يقل: يَفْتِنوهُم؛ لأنه أخبرَ عن فرعونَ، وكانَ قومُه على مثلِ ما كانَ عليهِ ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ﴾ غالبٌ قاهرٌ.
﴿فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ في الكبرِ حتى ادَّعى الربوبيةَ. رُويَ عن يعقوبَ الوقفُ بالياءِ على (لَعَالِي).
...
﴿وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ لمؤمني قومِه.
﴿يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا﴾ ثِقُوا به.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ مخلِصينَ له.
...
﴿فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾ لأنهم كانوا مؤمنينَ مخلصينَ.
﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً﴾ موضعَ فتنةٍ؛ أي: عذابٍ بعدَ توبَتِنا.
﴿لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي: لا تُظْهِرْهُم علينا، فيظُنُّوا أنا لم نكنْ على الحقِّ، فيزدادوا طُغيانًا.
...
﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ من كَيْدِهِم.
...
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)﴾.
[٨٧] ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ﴾ اتَّخِذا.
﴿لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾ تسكنونَ فيها.
﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ مساجدَ متوجِّهَةً نحوَ الكعبة، وكان موسى يصلِّي إليها؛ لأنَّ فرعون كانَ قد أمرَ بني إسرائيلَ بتخريبِ بِيَعِهِم، وألَّا يظاهروا بعبادتِهم، فأُمروا باتخاذِ مساجدَ في بيوتهم يصلُّون فيها سِرًّا.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أَتِمُّوها ﴿وَبَشِّرِ﴾ يا موسى ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ بخيرَيِ الدنيا والآخرةِ.
...
﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً﴾ كلَّ ما يتزيَّنُ به من متاعِ الدنيا.
﴿وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وأنواعًا من المالِ.
﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ قرأ عاصمٌ، وحمزة، والكسائيُّ، وخلفٌ، (لِيُضلُّوا) بضمِّ الياء، أي: لِيُضلُّوا غيَرهم، والباقون: بفتحها (١)، أي: ليضِلُّوا في أنفسهم، واللامُ في (لِيُضلُّوا) لامُ العاقبة، يعني: فَيُضِلُّوا، ويكون عاقبةُ أمرهم الضَّلال، كقوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾، وقيلَ: هي لامُ (كي)؛ أي: آتيتَهم كي تَفتِنهم فَيَضِلُّوا ويُضلُّوا، كقوله: ﴿لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (١٧)﴾ [الجن: ١٦، ١٧]، قال القرطبيُّ: وأصحُّ ما قيلَ فيها، وهو قولُ الخليلِ وسيبويهِ: أنها لامُ العاقبةِ والصَّيرورةِ (٢).
﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ أذهِبْ آثارها بالهلاك ﴿وَاشْدُدْ﴾ واختِمْ.
﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ لِئَلَّا يدخُلَها الإيمانُ، وأصلُ الشدِّ: الاستيثاقُ، وإنما دعا عليهم بعدَ الإنذارِ؛ لعلمِهِ أن لا سبيلَ إلى إيمانِهم.
﴿فَلَا يُؤْمِنُوا﴾ معناهُ: اللهمَّ فلا يؤمنوا.
﴿حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ وهو الغرقُ.
...
﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿قَالَ﴾ الله عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام:
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٠٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨٩).
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (٨/ ٣٧٤).
﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ إِنَّما نُسبَتْ إليهما، والدعاءُ كانَ منْ موسى؛ لأنه رُوِيَ أنَّ موسى كانَ يدعو، وهارونُ يؤمِّنُ، والتأمينُ دعاءٌ وفي بعضِ القصصِ: كانَ بينَ دعاءِ موسى وإجابتهِ أربعونَ سنةً.
﴿فَاسْتَقِيمَا﴾ على الرسالةِ، وامضيا لأمري.
﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَمْرَ الله تعالى. قرأ العامةُ: (تَتَّبِعانِّ) بتشديدِ التاءِ الثانيةِ وفتحِها وكسرِ الباءِ وتشديدِ النونِ في موضعِ جزمٍ على النهيِ، والنونُ للتوكيد، وحركت لالتقاءِ الساكنينِ، واختيرَ لها الكسرُ؛ لأنها أشبهتْ نونَ الرجلانِ، ويقال في الواحدِ: لا تتَّبِعَنَّ بفتحِ النون، وقرأ ابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ بتشديدِ التاءِ مع تخفيفِ النونِ، فتكون (لا) نافيةً، فيصيرُ اللفظُ لفظَ الخبر، ومعناهُ النهيُ؛ كقوله: (لاَ تُضَارُّ وَالِدَةٌ) على قراءةِ مَنْ رفعَ، ورُوي عن ابنِ ذكوانَ أيضًا وجهٌ آخرُ بتخفيفِ التاءِ الثانية ساكنةً، وفتحِ الباءِ مع تشديدِ النونِ من تَبِعَ (١)، المعنى: لا تسلكْ طريقَ مَنْ لا يعلمُ حقيقةَ وعدي ووعيدي.
...
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿وَجَاوَزْنَا﴾ عَبَرْنا ﴿بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ﴾ حتى الشطِّ حافِظينَ
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٧٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٧)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٩٠).
لهم ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا﴾ ظُلْمًا واعتداءً، وكانَ البحرُ قدِ انفلقَ لموسى وقومِه، فلما وصلَ فرعونُ بجنودِه إلى البحر، هابوا دخولَه، فتقدَّمَهم جبريلُ في صورةِ هامانَ على فرسٍ وَدِيقٍ؛ أَيْ: شَهِيٍّ، وهي التي في فَرْجِها بَلَلٌ وخاضَ البحرَ، فاقتحمتِ الخيولُ، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ مستوفىً في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ [البقرة: ٥٠]، فلما دخلَ آخرُهم، وهمَّ أَوَّلُهم أَنْ يخرجَ، انطبقَ عليهِم الماءُ.
﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾ أي: قارَبَه، وكانَ هذا في يومِ عاشوراءَ ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (إِنَّهُ) بكسرِ الألفِ على الاستئنافِ بدلًا من (آمَنْتُ)، والباقون: بالفتحِ على حذفِ الباء التي هي صلةُ الإيمان (١)؟ أي: بأنه.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ وكرر معنى الإيمان ثلاثَ مراتٍ حرصًا على القَبول، فلم يُقْبَلْ؛ لأنه فَرَّطَ، ولم يكنْ وقتَ قَبولٍ.
...
﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١)﴾.
[٩١] فعندَ ذلكَ دَسَّ جِبْريلُ عليه السلام في فيهِ مِنْ حَمَإِ البحرِ، وقال: ﴿آلْآنَ﴾ تؤمنُ ﴿وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ الضالِّينَ
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٣٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٧٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٩١).
المضلِّينَ؟! وتقدَّمَ الكلامُ في (آلآن)، ومذاهبُ القراءِ فيهِ عندَ قوله: ﴿آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١)﴾ [يونس: ٥١].
...
﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢)﴾.
[٩٢] فلما أخبرَ موسى قومَه بهلاكِ فرعونَ وقومِه، قالتْ بنو إسرائيلَ: ما ماتَ فرعونُ، فأمرَ اللهُ البحرَ، فألقى فرعونَ على الساحل أحمرَ قصيرًا كأنه ثورٌ، فتيقَّنَ بنو إسرائيلَ موتَهُ، فمن ذلكَ الوقتِ لا يقبلُ الماءُ مَيْتًا أبدًا، فذلكَ قولُه: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ﴾ نلقيكَ على نَجْوَةٍ من الأرضِ؛ أي: مرتفعٍ منها. قرأ يعقوبُ: (نُنْجِيكَ) مخفَّفًا، والباقون: مشدَّدًا (١).
﴿بِبَدَنِكَ﴾ وحدَكَ.
﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ﴾ بعدَكَ ﴿آيَةً﴾ علامةً تظهرُ لهم بها عبوديتُكَ من ربوبيتِكَ، لأنكَ لو كنتَ رَبًّا، لما غرقْتَ.
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ لا يتفكَّرون فيها.
...
﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)﴾.
[٩٣] ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا﴾ أنزلْنا ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ منزلَ كرامةٍ، وهي
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣٧٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٩١).
الأرضُ المقدسةُ التي كتبَ اللهُ ميراثَها لإبراهيمَ وذريتِهِ.
﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ الحلالاتِ ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا﴾ يعني: اليهودَ الذين كانوا في عهدِ النبيِّ - ﷺ - ﴿حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ يعني: القرآنَ، فبعضٌ قال: هو هو، وبعض: ليسَ هو، وغيَّروا صفته معَ معرفتِهم صدقَهُ وصفتَهُ.
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ في الدنيا، فيثيبُ التائبَ، ويعاقبُ العاصِيَ.
...
﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤)﴾.
[٩٤] ثم قال خِطابًا للنَّبي - ﷺ -، والمرادُ غيرُه: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يعني: القرآنَ ﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ فيخبرونك أنك مكتوبٌ عندَهم في التوراة، وقيلَ غيرُ ذلكَ، والشكُّ في اللغةِ: أصلُه الضيقُ، فقال - ﷺ - في الجوابِ: "لاَ أَشُكُّ وَلاَ أَسْأَلُ أَحَداَّ، أَشْهَدُ أَنَّهُ الْحَقُّ" (١).
قرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَسَلِ) بنقل حركةِ الهمزة إلى الساكن قبلَها، وهو السين، والباقون: بغير نقل (٢)، ثم استأنفَ الكلامَ فقال:
﴿لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ﴾ الذي لا شَكَّ فيه، وهو القرآنُ.
﴿مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكِّين.
(١) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (١٠٢١١)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (١٥/ ٢٠٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٤٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٤١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٩٢).
﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٩٥)﴾.
[٩٥] ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ والخطابُ في هذه الآية كالتي قبلَها للنبيِّ - ﷺ -، والمرادُ غيرُه.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ﴾ وَجَبَتْ.
﴿عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أنهم يموتون كُفَّارًا، وهي: هؤلاءِ للنارِ ولا أُبالي. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (كَلِمَاتُ) بالألف على الجمعِ، والباقون: بغير ألفٍ على التوحيد (١) ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
...
﴿وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾ سألوها، وأُنِّثَ فعلُ (كُلُّ) لإضافتِه إلى مؤنثٍ.
﴿حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ فحينئذٍ يؤمنون ولا ينفعُهم.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٩٢).
﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨)﴾.
[٩٨] ﴿فَلَوْلَا﴾ أي: فهلَّا ﴿كَانَتْ﴾ المعنى: فلم تكنْ ﴿قَرْيَةٌ﴾ من القرى الهالكةِ ﴿آمَنَتْ﴾ عندَ معاينةِ العذابِ.
﴿فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾ بأنْ تقبَّلَ اللهُ منها.
﴿فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾ فإنّه نفعَهم إيمانُهم في ذلكَ الوقتِ، و (قومَ) نصبٌ على الاستثناءِ المنقطعِ، تقديرُه: ولكنَّ قومَ يونسَ.
﴿لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ﴾ الذلِّ والهوانِ.
﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ إلى وقتِ انقضاءِ آجالِهم، وملخَّصُ القصةِ: أنَّ قومَ يونسَ كانوا بِنينَوى من أرضِ الموصِلِ، وكانوا يعبدون الأصنامَ، فأرسلَ الله إليهم يونسَ عليه السلام، فكذَّبوه، فقيل له: أخبرْهم أنَّ العذابَ مُصَبِّحُهم بعدَ ثلاثٍ، فأخبرَهم، فقالوا: هو رجلٌ لا يكذبُ، فارقُبوه، فإن أقامَ معكم، فلا عليكم، وإن ارتحلَ عنكم، فهو نزولُ العذابِ لا شكَّ، فلما جاءهم الميعادُ، تغشَّاهم العذابُ، فكانَ مرتفعًا على رؤوسهم قدرَ ميلٍ، رُوِيَ أنه غيمٌ أسودُ يدخنُ دخانًا شديدًا، وكان يونسُ قد خرجَ من بينِ أَظْهُرِهِمْ في جوفِ تلكَ الليلةِ، فلما رأوا ذلكَ، ولم يجدوا يونسَ، أيقنوا بالهلاكِ، فَلبِسوا المُسُوحَ، وبرزوا إلى الصعيدِ بأنفسِهم ونسائِهم وصبيانِهم ودوابِّهم، وفَرَّقوا بينَ كلِّ والدة وولدِها، فحنَّ بعضُهم إلى بعض، وعَجُّوا وتَضَرَّعوا، وتَرادُّوا المظالمَ، وأخلصوا التوبةَ والإيمانَ، فرحِمَهم اللهُ، وكشفَ عنهمُ العذابَ، وكانَ يومَ عاشوراءَ يومَ
الجمعةِ، وسيأتي ذكرُ قصةِ يونسَ بأبسطَ من هذا في سورةِ الأنبياءِ إن شاء الله تعالى.
...
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)﴾.
[٩٩] ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾ وهو دليل على القدريَّةِ في أنَّ الله تعالى لم يشأْ إيمانَهم، وأن من شاءَ إيمانَه يؤمنُ لا محالةَ.
﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ قالَ ابنُ عباس: "كانَ النبيُّ - ﷺ - حريصًا على إيمانِ جميعِ الناسِ، فأخبرَه تعالى أَنْ لا يؤمنُ إلَّا من سبقَتْ له السعادةُ في الذكرِ الأولِ، ولا يضلُّ إلا من سبقَتْ له الشقاوةُ (١) في الذكرِ الأولِ" (٢).
...
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٠)﴾.
[١٠٠] ﴿وَمَا كَانَ﴾ أي: وما ينبغي.
﴿لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بعلمِه وتوفيقِه.
﴿وَيَجْعَلُ﴾ اللهُ ﴿الرِّجْسَ﴾ العذابَ. قراءة العامةِ: (وَيَجْعَلُ) بالياء،
(١) في "ظ": "الشقوة".
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣٨١).
وقرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (وَنَجْعَلُ) بالنونِ على التعظيم (١) ﴿عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ أَمْرَ اللهِ ونهيَهُ.
...
﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠١)﴾.
[١٠١] ﴿قُلِ﴾ للمشركينَ الذين يسألونَكَ عن الآياتِ: ﴿انْظُرُوا﴾ أي: بالتفكر. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ: (قُلِ انْظُرُوا) بكسرِ اللام في الوصل، والباقون: بضمِّها (٢) ﴿مَاذَا﴾ مبتدأٌ، خبرُه ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من الدلالاتِ الدالَّةِ على الوحدانيةِ، و (ما) استفهامية.
﴿وَمَا﴾ للنفي؛ أي: ولنْ ﴿تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ﴾ الرسلُ.
﴿عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ السابق علمُه تعالى بموتهم كافرين.
...
﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ﴾ يعني: مشركي مكةَ ﴿إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من مكذبي الأمم؛ أي: مثلَ وقائِعهم.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٣٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٩٣ - ٩٤).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٩٤).
﴿قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ لذلكَ.
...
﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)﴾.
[١٠٣] ﴿ثُمَّ نُنَجِّي﴾ قرأ يعقوبُ (نُنجِي) بإسكانِ النون الثانية والتخفيف، والباقون: بفتح النون والتشديد (١) ﴿رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ معهم عندَ نزولِ العذابِ.
﴿كَذَلِكَ﴾ كما أَنْجيناهم ﴿حَقًّا﴾ واجِبًا ﴿عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قرأ الكسائيُّ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (نُنْجِ المُؤْمِنِينَ) بالتخفيف، والباقونَ: بالتشديد، ووقفَ يعقوبُ (نُنْجِي) بإثباتِ الياء (٢)، ونجَّى وأَنْجى بمعنى واحدٍ.
...
﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾ يعني: أهلَ مكةَ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي﴾ وصِحَّتِه.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣٨٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٩٤).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٣٣٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٨٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٩٤).
﴿فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ وهي الأصنامُ.
﴿وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ﴾ يُميتكم، وخُصَّ التوفّي بالذكرِ للتهديدِ.
﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بآياتِ الله.
...
﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿وَأَنْ أَقِمْ﴾ عطفٌ على (أن أكون) ﴿وَجْهَكَ لِلدِّينِ﴾ أي: استقمْ إليهِ ﴿حَنِيفًا﴾ قَيِّمًا بهِ مائلًا عن كلِّ دينٍ.
﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي: قيلَ لي: لا تشركْ.
...
﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦)﴾.
[١٠٦] ﴿وَلَا تَدْعُ﴾ لا تعبدْ ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ﴾ إنْ أطعته.
﴿وَلَا يَضُرُّكَ﴾ إنْ عصيتَهُ.
﴿فَإِنْ فَعَلْتَ﴾ فعبدْتَ غيرَ اللهِ ﴿فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الضارِّينَ بأنفسِهم.
...
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ يُصِبْكَ بهِ ﴿فَلَا كَاشِفَ لَهُ﴾ يَرفعُهُ ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانَه.
﴿وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ﴾ فلا مانعَ ﴿لِفَضْلِهِ﴾ الذي أرادَكَ بهِ.
﴿يُصِيبُ بِهِ﴾ بالخيرِ والضرِّ.
﴿مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ﴾ لذنوبِ عبادهِ ﴿الرَّحِيمُ﴾ بأوليائِه.
...
﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨)﴾.
[١٠٨] ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ رسولُه والقرآنُ، فلم يبقَ لكم حجة ﴿فَمَنِ اهْتَدَى﴾ اختارَ الهدى.
﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ أي: لخلاصِ نفسِه؛ لأن نفعَه لها.
﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾ بالكفِر ﴿فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ أي: وبالُ ذلكَ على نفسِه.
﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ أي: حفيظٌ أحفظُ أعمالَكُم، إنْ عليَّ إلَّا البلاغُ.
...
﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (١٠٩)﴾.
[١٠٩] قالَ ابنُ عباسٍ: "نسخَتْها آيةُ القتالِ والتي بعدَها" (١)، وهي: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ يا محمدُ ﴿وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ﴾ بالنصرةِ أو بالأمرِ بالقتلِ.
﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ لأنه عز وجل لا يحكمُ إلا بالحقِّ، والله أعلمُ.
...
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣٨٣)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٣/ ٢٩٠ - ٢٩١).
Icon