مكية، وآيها إحدى وخمسون
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحاقّةمكية. وآيها إحدى وخمسون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣)الْحَاقَّةُ أي الساعة الحاقة التي تحق فيها الأمور، ويجب فيها الجزاء على الأعمال. من قولهم: حق عليه الشيء، إذا وجب. وقوله: مَا الْحَاقَّةُ من وضع الظاهر موضع المضمر، تفخيما لشأنها، وتعظيما لهولها. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ قال بعضهم: من عوائد العرب في محاوراتهم اللطيفة، إذا أرادوا تشويق المخاطب في معرفة شيء ودرايته، أتوا بإجمال وتفصيل. أي: أيّ شيء أعلم المخاطب ما هي؟
تأكيدا لتفخيم شأنها، حتى كأنها خرجت من دائرة علم المخاطب. على معنى: أن عظم شأنها، وما اشتملت عليه من الأوصاف، مما لم تبلغه دراية أحد من المخاطبين، ولم تصل إليه معرفة أحد من السامعين، ولا أدركه وهمه، وكيفما قدر حالها، فهي وراء ذلك وأعظم. ومنه يعلم أن الاستفهام كناية عن لازمه، من أنها لا تعلم، ولا يصل إليها دراية دار، ولا تبلغها الأفكار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٤ الى ٨]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨)
قال الزمخشريّ: ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة، زيادة في وصف شدتها. ولمّا ذكرها وفخمها، أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها، وما حل بهم بسبب التكذيب، تذكيرا لأهل مكة، وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم.
فَأَمَّا ثَمُودُ وهم قوم صالح عليه السلام فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ أي بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة، أو بطغيانهم، و (الطاغية) مصدر كالعافية.
وَأَمَّا عادٌ وهم قوم هود عليه السلام فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي: شديدة العصوف والبرد عاتِيَةٍ أي: متجاوزة الحد المعروف في الهبوب والبرودة.
سَخَّرَها أي: سلطها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً أي متتابعات من (حسمت الدابة)، إذا تابعت بين كيّها. شبه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكيّ القاطع للداء. أو معناه: نحسات، حسمت كل خير واستأصلته، أو قاطعات، قطعت دابرهم. هذا على أن (حسوما) جمع حاسم، كشهود وقعود. فإن كان مصدرا فنصبه بمضمر. أي تحسم حسوما، أو بأنه مفعول له. أي سخرها عليهم للحسوم، أي الاستئصال. وقد قيل: إن تلك الأيام هي أيام العجز. والعامة تقول: (العجوز) وهي التي تكون في عجز الشتاء، أي آخره.
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى أي هلكى، جمع صريع كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ أي ساقطة مجتثة من أصولها كآية: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: ٢٠]، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ أي: بقاء. أو نفس باقية، أو بقية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٩ الى ١٢]
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢)
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ أي: من الأمم المكذبة، كقوم نوح وعاد وثمود وَالْمُؤْتَفِكاتُ وهي قرى قوم لوط بِالْخاطِئَةِ أي: بالخطإ، أو الأفعال الخاطئة، على المجاز في النسبة. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً أي: زائدة في الشدة. إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي: كثر وتجاوز حده المعروف، بسبب إصرار قوم نوح على الكفر والمعاصي، وتكذيبه، عليه السلام حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ أي السفينة التي تجري في الماء.
لِنَجْعَلَها
أي تلك الفعلة التي هي إنجاء المؤمنين، وإغراق الكافرين لَكُمْ تَذْكِرَةً
أي: آية وعبرة تذكرون بها صدق وعده في نصر رسله، وتدمير أعدائه.
وَتَعِيَها
أي تحفظها أُذُنٌ واعِيَةٌ
أي حافظة لما سمعت عن الله، متفكرة فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١٣ الى ١٧]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ أي: لخراب العالم.
قال أبو السعود: هذا شروع في بيان نفس الحاقة، وكيفية وقوعها، إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها.
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً أي: رفعتا وضربتا ببعضهما من شدة الزلازل. وفي توصيفها بالوحدة تعظيم لها، وإشعار بأن المؤثر لدكّ الأرض والجبال وخراب العالم، هي وحدها، غير محتاجة إلى أخرى.
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي: نزلت النازلة، وهي القيامة.
وَانْشَقَّتِ السَّماءُ أي: انصدعت فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ متمزقة.
وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي: جوانبها وأطرافها حين تشقق. وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي: فوق الملائكة الذين هم على أرجائها يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ أي: من الملائكة أو من صفوفها.
قال ابن كثير: يحتمل أن يكون المراد بهذا العرش (العرش العظيم)، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة، لفصل القضاء، - والله أعلم- انتهى.
ومثله، من الغيوب التي يؤمن بها، ولا يجب اكتناهها. وتقدم في سورة الأعراف، في تفسير آية ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: ٥٤] كلام لبعض علماء الفلك على هذه الآية، فتذكره.
قال: وهذا يدل على أن (السبع) ليس للكثرة، بل المراد به الحقيقة. فهم ثمانية يحملون العرش، أي: ملك الأرض والسموات السبع بالجذب، كما هو حاصل اليوم. ولكن ذلك يكون بشكل عظيم جدّا.
ثم قال: ولا وجه لمعترض يقول: إن حملة العرش مسبحة، لقوله تعالى:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر: ٧]، فكيف تسبح السماوات والأرض؟ لأنه يجاب بقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الإسراء: ٤٤].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١٨ الى ٢٤]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ أي: على ربكم للحساب والمجازاة لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي سريرة كانت تخفى في الدنيا بستر الله.
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أي: علامة لفوزه فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ أي: تعالوا، أو خذوا. والهاء للسكت، لا ضمير غيبة.
قال الشهاب: فحقها أن تحذف وصلا، وتثبت وقفا، لتصان حركة الموقوف عليه، فإذا وصل استغنى عنها. ومنهم من أثبتها في الوصل لإجرائه مجرى الوقف، أو لأنه وصل بنيّة الوقف. وإثباتها وصلا قراءة صحيحة، ولا يلتفت لقول بعض النحاة:
إنها لحن.
إِنِّي ظَنَنْتُ أي: علمت أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي جزائي يوم القيامة. أي:
فأعددت له عدته من الإيمان والعمل الصالح.
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي: ذات رضا، ملتبسة به، فيكون بمعنى (مرضية).
أو الأصل: راض صاحبها، فأسند الرضا إليها، لجعلها، لخلوصها عن الشوائب، كأنها
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها جمع قطف بكسر القاف، وهو ما يقطف من ثمرها دانِيَةٌ أي قريبة سهلة التناول.
كُلُوا أي: يقال لهم كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي:
الماضية في الحياة الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٢٥ الى ٣٧]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ أي: عند ما يلاقي العذاب يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ أي: أيّ شيء حسابي.
يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ قال ابن جرير: أي يا ليت الموتة التي متّها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث. و (القضاء) هو الفراغ. وقيل: إنه تمنى الموت الذي يقضي عليه، فتخرج منه نفسه.
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أي: ما دفع من عذاب الله شيئا.
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أي ملكي وتسلطي على الناس. أو حجتي، فلا حجة لي أحتج بها.
خُذُوهُ أي: يقال لخزنة النار: خذوه بالقهر والشدة فَغُلُّوهُ أي: ضموا يده إلى عنقه، إذ لم يشكر ما ملكته.
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أي: أدخلوه ليصلى فيها، لأنه لم يشكر شيئا من النعم، فأذيقوه شدائد النقم.
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ أي حلقة منتظمة بأخرى، وهي بثالثة، وهلم جرا.
ذَرْعُها أي: مقدارها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ فأدخلوه فيها. أي: لفّوه بها، بحيث يكون فيما بين حلقها مرهقا، لا يقدر على حركة.
ثم علل استحقاقه ذلك، على طريقة الاستئناف، بقوله: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ أي: المستحق للعظمة وحده، بل كان يشرك معه الجماد المهين.
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي: إطعامه، فضلا عن بذله، لتناهي شحه.
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أي: قريب تأخذه الحمية له.
وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ أي: من غسالة أهل النار وصديدهم.
قال ابن جرير: كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: كل جرح غسلته فخرج منه شيء فهو (غسلين) - فعلين- من الغسل من الجراح والدّبر، وزيد فيه الياء والنون بمنزلة عفرين.
لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أي. الآثمون، أصحاب الخطايا. يقال: خطئ الرجل، إذا تعمد الخطأ. قال الرازيّ: الطعام ما هيّئ للأكل. فلما هيّئ الصديد ليأكله أهل النار كان طعاما لهم. ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم مقام الطعام، فسمي طعاما. كما قال:
تحيّة بينهم ضرب وجيع
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٣]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣)
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ أي: بالمشاهدات والمغيبات. وهذا القسم- كما قال الرازيّ- يعم جميع الأشياء على الشمول، لأنها لا تخرج من قسمين: مبصر وغير مبصر، فشمل الخالق والخلق، والدنيا والآخرة، والعالم العلويّ والسفليّ، وهكذا. وتقدم في (الواقعة) الكلام على كلمة (لا أقسم) فتذكر.
إِنَّهُ أي: القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وهو محمد صلّى الله عليه وسلم، يبلغه عن الله تعالى، لأن الرسول لا يبلغ عن نفسه.
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ أي: كما تزعمون، فإن بين أسلوبه وحقائقه، وبين وزن الشعلة وخيالاته، بعد المشرقين.
قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ. تصدقون بما ظهر صدقه وبرهانه، عنادا وعتوّا. والقلة
وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ أي كما تدعون أخرى بأنه من سجع الكهان قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تتعظون وتعتبرون. قيل: نفى الإيمان في الأول، والذكرى في الثاني، لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بيّن، لا ينكره إلا معاند. فلا عذر لقائله في ترك الإيمان، وهو أكفر من حمار. وأما مباينته للكهانة، فيتوقف على تذكّر ما، لأن الكاهن يأخذ جعلا، ويجيب عما سئل عنه ويتكلف السجع، ويكذب كثيرا، وإن التبس على الحمقى لإخباره عن بعض المغيبات بكلام منثور، فتأمّل.
تَنْزِيلٌ أي هو تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي ممن ربّاهم بصنوف نعمه، ومنها ما نزله وأوحاه ليهتدوا به إلى سبل السعادة، ومناهج الفلاح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ أي افترى علينا. وسمى الكذب تقوّلا، لأنه قول متكلف، كما تشعر به صيغة التفعّل. والْأَقاوِيلِ إما جمع (قول) على غير القياس، أو جمع الجمع كالأناعيم، جمع أقوال وأنعام. قيل: تسمية الأقوال المفتراة (أقاويل) تحقيرا لها، كأنها جمع أفعولة من القول، كالأضاحيك.
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ قال ابن جرير: أي لأخذنا منه بالقوة منا والقدرة، ثم لقطعنا منه نياط القلب. وإنما يعني بذلك أنه كان يعاجله بالعقوبة، ولا يؤخّره بها. وقد قيل: إن معنى قوله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه. قال: وإنما ذلك كقول ذي السلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من بين يديه لبعض أعوانه: خذ بيده، فأقمه، وافعل به كذا وكذا: قالوا: وكذلك معنى قوله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي لأهنّاه. كالذي يفعل بالذي وصفنا حاله. انتهى.
وقال الزمخشريّ: المعنى لو ادّعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم، معاجلة بالسخط والانتقام. فصوّر قتل الصبر بصورته ليكون أهول. وهو أن يؤخذ بيده، وتضرب رقبته. وخص اليمين عن اليسار، لأن
وما قرره الزمخشريّ أبلغ في المراد، وهو بيان المعاقبة بأشد العقوبة، إذ على الأول يفوت التصوير والتفصيل والإجمال، لأن قوله بِالْيَمِينِ بعد لَأَخَذْنا مِنْهُ بيان بعد الإبهام، ويصير قوله مِنْهُ زائدا من غير فائدة، ويرتكب المجاز من غير فائدة أيضا- كما في (العناية) -.
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ أي ليس أحد منكم يحجزنا عنه، ويحول بيننا وبين عقوبته، لو تقوّل علينا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٤٨ الى ٥٢]
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)
وَإِنَّهُ أي القرآن لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ أي عظة لمن يتقي عقاب الله بالإيمان به وحده، وما نزل من عنده. وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ أي له، إيثارا للدنيا والهوى. أي فنجازيكم على إعراضكم. وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ أي ندامة عليهم، إذا رأوا ثواب المؤمنين به. وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ أي للحق اليقين الذي لا ريب فيه. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي دم على ذكر اسمه، وادأب على الدعوة إليه وحده، وإلى ما أوحاه إليك. فالعاقبة لك، ولمن اتبعك من المؤمنين.