تفسير سورة المعارج

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة المعارج من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾.
المعلوم أن مادة سأل لا تتعدى بالياء، كتعديها هنا. ولذا قال ابن كثير : إن الفعل ضمن معنى فعل آخر يتعدى بالباء وهو مقدر ما استعجل، واستدل لذلك بقوله تعالى ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾ [ الحج : ٤٧ ]، وذكر عن مجاهد أن سأل بمعنى دعا.
واستدل له بقوله تعالى عنهم :﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ]، وذكر هذا القول ابن جرير أيضاً عن مجاهد.
وقرىء سال بدون همزة من السيل، ذكرها ابن كثير وابن جرير، وقالوا : هو واد في جهنَّم، وقيل : مخفف سأل ا ه.
ولعل مما يرجح قول ابن جرير أن الفعل ضمن معنى مثل آخر قوله تعالى :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾ [ الشورى : ١٨ ] الآية.
وتقدم للشّيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى ﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] وأحال على سورة سأل وقال وسيأتي زيادة إيضاح إن شاء الله.
وقد بين هناك أن قولهم يدل على جهالتهم حيث لم يطلبوا الهداية إليه إن كان هو الحق.
وحيث أنه رحمه الله أحال على هذه السورة لزيادة الإيضاح فإن المناسب إنما هو هذه الآية :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ ﴾ بمعنى استعجل أو دعا لوجود الارتباط بين آية سأل، وآية ﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ ﴾.
المذكورة. فإنَّهما مرتبطان بسبب النزول.
كما قال ابن جرير وغيره عن مجاهد في قوله تعالى :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ ﴾ قال : دعا داع ﴿ بعذاب واقع ﴾. قال : هو قولهم ﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا ﴾ الآية. والقائل هو النضر بن الحارث بن كلدة.
والإيضاح المنوه عنه يمكن استنتاجه من هذا الربط ومن قوله رحمه الله : إنه يدل على جهالتهم وبيان ما إذا كان هذا العذاب الواقع هل وقوعه في الدنيا أم يوم القيامة.
والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن جهالة قريش دل عليها العقل والنقل، لأن العقل يقضي بطلب النفع ودفع الضر كما قيل :
لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن ساعياً.
وأما النقل فلأن مما قص الله علينا أن سحرة فرعون وقد جاءوا متحدين غاية التحدي لموسى عليه السلام ولكنهم لما عاينوا الحق قالوا آمنا وخروا سجداً ولم يكابروا كما قضى الله علينا من نبئهم في كتابه قال تعالى :﴿ فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ [ طه : ٧٠ ] ولما اعترض عليهم فرعون وقال :﴿ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾ [ طه : ٧١ ] إلى آخر كلامه، قالوا وهو محل الشاهد هنا، ﴿ لَنْ تُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ ولم يبالوا بوعيده ولا بتهديده.
وقال في استخفاف :﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ﴾، فهم لما عاينوا البينات خروا سجداً وأعلنوا إيمانهم وهؤلاء كفار قريش يقولون مقالتهم تلك.
أما وقوع العذاب المسؤول عنه فإنه واقع بهم يوم القيامة، وإنَّما عبَّر بالمضارع الدال على الحال للتأكيد على وقوعه، وكأنه مشاهد وقاله الفخر الرازي وقال هو نظير قوله تعالى :﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ النحل : ١ ].
وفي قوله تعالى ﴿ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ﴾ [ المعارج : ٢ -٣ ] دليل على تأكيد وقوعه لأن ما ليس له دافع لا بد من وقوعه. أما متى يكون فقد دلّت آية الطور نظيره هذه أن ذلك سيكون يوم القيامة في قوله تعالى :﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴾ [ الطور : ٧ -٨ ] ثم بين ظرف وقوعه ﴿ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ﴾ [ الطور : ٩ -١٠ ] وفي سياق هذه السورة في قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴾ [ المعارج : ٨ -١٨ ] فإنها كلها من أحوال يوم القيامة، فدل بذلك على زمن وقوعه. ولعل في قوله تعالى ﴿ تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴾ رد على أولئك المستخفين بالعذاب المستعجلين به مجازاة لهم بالمثل، كما دعوا وطلبوا لأنفسهم العذاب استخفافاً فهي تدعوهم إليها زجراً وتخويفاً مقابلة دعاء بدعاء، أي إن كنتم في الدنيا دعوتم بالعذاب فهذا هو العذاب يدعوكم إليه ﴿ تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ ﴾ عن سماع الدعوة وأعرض عنها وتولى وهذا الرد بهذه الصفات التي قبله من تغيير السماء كالمهل وتسيير الجبال كالعهن، وتقطع أواصر القرابة من الفزع والهول مما يخلع القلوب كما وقع بالفعل في الدنيا، كما ذكر القرطبي قصة جبير بن مطعم قال : قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فسمعته يقرأ ﴿ وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴾ [ الطور : ١ -٨ ] فكأنما صدع قلبي فأسلمت خوفاً من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع العذاب.
وذكر القرطبي أيضاً عن هشام بن حسان قال : انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ والطور حتى بلغ ﴿ ِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴾ فبكى الحسن وبكى أصحابه فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه.
وذكر ابن كثير عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعس بالمدينة ذات ليلة إذ سمع رجل يقرأ بالطور قربا لها أعيد منها عشرين يوماً، فكان هذا الوصف المفزع رداً على ذاك الطلب المستخف والله تعالى أعلم. ونأمل أن نكون قد وفينا الإيضاح الذي أراده رحمه الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾.
في هذه الآية الكريمة مقدار هذا اليوم خمسون ألف سنة، وجاءت آيات أخر بأنه ألف سنة في قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [ الحج : ٤٧ ] وقوله :﴿ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [ السجدة : ٥ ] فكان بينهما مغايرة في المقدار بخمسين مرة.
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة في كتاب دفع إيهام الاضطراب، وفي الأضواء في سورة الحج عند الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ ﴾ [ الحج : ٤٧ ] الآية.
ومما ينبغي أن يلاحظ أن الأيام مختلفة. ففي سأل هو يوم عروج الروح والملائكة، وفي سورة السجدة هو يوم عروج الأمر فلا منافاة.
قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ ﴾.
المهل دريدي الزيت، وقيل غير ذلك.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الرحمن عند الكلام على قوله تعالى :﴿ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴾ [ الرحمان : ٣٧ ].
قوله تعالى :﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴾.
العهن : الصوف، وجاء في آية أخرى وصف العهن بالمنفوش في قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴾ [ القارعة : ٤ -٥ ]، وجاءت لها عدة حالات أخرى كالكثيب المهيل وكالسحاب.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان كل ذلك عند قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ﴾ [ الكهف : ٤٧ ] في سورة الكهف.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيماً ﴾.
الحميم : القريب والصديق والولي الموالي كما في قوله تعالى :﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌ حَمِيمٌ ﴾ [ فصلت : ٣٤ ].
وفي هذه الآية الكريمة أنه في يوم القيامة لا يسأل حميم حميماً مع أنهم يبصرونهم بأبصارهم.
وقد بين تعالى موجب ذلك وهو اشتغال كل إنسان بنفسه، كما في قوله تعالى ﴿ لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٧ ]، وكل يفر من الآخر يقول نفسي نفسي، كما في قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٤ -٣٧ ].
وقد جاء ما هو أعظم من ذلك في حديث الشفاعة كل نبي يقول : نفسي نفسي، وجاء قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ ﴾ [ الحج : ٢ ]، وليس بعد ذلك من فزع إلا المؤمنون ﴿ وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾ جعلنا الله تعالى منهم. آمين.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾.
الهلوع : فعول من الهلع صيغة مبالغة، والهلع، قال في الكشاف : شدة سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير، وقد فسره الله في الآية ﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ﴾ [ المعارج : ٢٠ -٢١ ].
ولفظ : الإنسان هنا مفرد، ولكن أريد به الجنس أي جنس الإنسان في الجملة بدليل استثناء المصلين بعده في قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الْمُصَلِّينَ ﴾ [ المعارج : ٢٢ ]، ومثله قوله تعالى :﴿ وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ [ العصر : ١ -٣ ] ونظيره كثير.
وقد قال ابن جرير : إن هذا الوصف بالهلع في الكفار ويدل لما قاله أمران :
الأول تفسيره في الآية واستثناء المصلين وما بعده منه، لأن تلك الصفات كلها من خصائص المؤمنين، ولذا عقَّب عليهم بقوله :
﴿ أُوْلَائِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ﴾ [ المعارج : ٣٥ ]، ومفهومه أن المستثنى منه على خلاف ذلك.
والثاني الحديث الصحيح : " عجباً لأمر المؤمن شأنه كله خير إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن "، فمفهومه أن غير المؤمنين بخلاف ذلك، وهو الذي ينطبق عليه الوصف المذكور في الآية أنه هلوع.
قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ ﴾.
وصف الله تعالى من استثناهم من الإنسان الهلوع بتسع صفات.
اثنتان منها تختص بالصلاة، وهما الأولى والأخيرة مما يدل على أهمية الصلاة، ووجوب شدة الاهتمام بها. وهذا من المسلمات في الدين لمكانتها من الإسلام، وفي وصفهم هنا بأنهم على صلاتهم دائمون، وفي الأخير، على صلاتهم يحافظون.
قال في الكشاف : الدوام عليها المواظبة على أدائها لا يخلون بها، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل.
وذكر حديث عائشة مرفوعاً " أحب الأعمال إلى الله أدومها ولو قل ".
ويشهد لهذا الذي قاله قوله تعالى :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً ﴾ [ النور : ٣٦ -٣٧ ] وقوله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ﴾ [ الجمعة : ٩ ].
قال : والمحافظة عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها، وهذا يشهد له قوله تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١ -٢ ].
وحديث المسيء صلاته، حيث قال له صلى الله عليه وسلم : " ارجع فصل فإنك لم تصل "، فنفى عنه أنه صلى مع إيقاعه الصلاة أمامه، وذلك لعدم الحفاظ عليها بتوفيتها حقها.
وقد بدأ الله أولئك المستثنين وختمهم بالصلاة مما يفيد أن الصلاة أصل لكل خير، ومبدأ لهذا المذكور كله لقوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [ البقرة : ٤٥ ] فهي عون على كل خير.
ولقوله تعالى :﴿ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ]، فهي سياج من كل منكر، فجمعت طرفي المقصد شرعاً، وهما العون على الخير والحفاظ من الشر أي جلب الصالح ودرء المفاسد، ولذا فقد عني بها النَّبي صلى الله عليه وسلم كل عنايتها، كما هو معلوم، إلى الحد الذي جعلها الفارق والفيصل بين الإسلام والكفر في قوله صلى الله عليه وسلم " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من ترك الصلاة فقد كفر ".
واتفق الأئمة رحمهم الله على قتل تاركها. وكلام العلماء على أثر الصلاة على قلب المؤمن وروحه وشعوره وما تكسبه من طمأنينة وارتياح كلام كثير جداً توحي به كله معاني سورة الفاتحة.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾.
هذا هو الوصف الثاني، ويساوي إيتاء الزكاة لأن الحق المعلوم لا يكون إلا في المفروض، وهو قول أكثر المفسرين ولا يمنع أن السورة مكية، فقد يكون أصل المشروعية بمكة، ويأتي التفصيل بالمدينة، وهو في السنة الثانية من الهجرة، وهنا إجمالاً في هذه الآية.
الأول : في الأموال.
والثاني : في الحق المعلوم. أي القدر المخرج، ولم تأت آية تفصل هذا الإجمال إلا آية :﴿ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾ [ الحشر : ٧ ]، وقد بينت السنة هذا الإجمال.
أما الأموال، فهي لإضافتها تعم كل أموالهم، وليس للأمر كذلك، فالأموال الزكوية بعض من الجميع وأصولها عند جميع المسلمين هي :
أولاً : النَّقدان : الذهب والفضة.
ثانياً : ما يخرج من الأرض من حبوب وثمار.
ثالثاً : عروض التجارة.
رابعاً : الحيوان، ولها شروط وأنصباء. وفي كل من هذه الأربعة تفصيل، وفي الثلاثة الأولى بعض الخلاف.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان كل ما يتعلق بأحكامها جملة وتفصيلاً عند آيتي ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ التوبة : ٣٤ ] وقوله تعالى :﴿ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ]، ولم يتقدم ذكر لزكاة الحيوان ولا زكاة الفطر، وعليه نسوق طرفاً من ذلك لتفصيل النصاب في كل منها، وما يجب في النصاب، وما تدعو الحاجة لذكره من مباحث في ذلك كالخلطة مثلاً، والصفات في المزكّى، والراجح فيما اختلف فيه، ثم نتبع ذلك بمقارنة بين هذه الأنصباء في بهيمة الأنعام وأنصباء الذهب والفضة لبيان قوة الترابط بين الجميع ودقة الشارع في التقدير.
أولاً : بيان النوع الزكوي من الحيوان.
اعلم رحمنا الله وإياك : أن مذهب الجمهور أنه لا زكاة في الحيوان إلا في بهيمة الأنعام الثلاثة : الإبل، والبقر، والغنم الضأن والمعز سواء. وألحق بالبقر الجواميس، والإبل تشمل العراب والبخاتي، والخلاف في الخيل.
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى دليل أبي حنيفة رحمه الله استدل لوجوب الزكاة في الخيل بالقياس في حملها على الأصناف الثلاثة الأخرى، إذا كانت للنسل أي كانت ذكوراً وإناثاً، بخلاف ما إذا كانت كلها ذكوراً يجامع التناسل في كل واشترط لها السوم أيضاً.
وبحديث : " ما من صاحب ذهب لا يؤدي زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صفح له صفائح من نار فتكوى بها جبينه وجنبه وظهره " الحديث. وفيه ذكر الأموال الزكوية كلها والإبل والبقر والغنم. فقالوا : والخيل يا رسول الله ؟ فقال : " الخيل ثلاثة هي لرجل أجر ولرجل ستر، ولرجل وزر. أما التي لرجل أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج أو روضة " إلى آخر ما جاء في هذا القسم ورجل ربطها تغنياً وتعففاً، ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر. ورجل ربطها رياء وفواء لأهل الإسلام، فهي على ذلك وزر ".
فقال رحمه الله : إن حق الله في رقابها وظهورها هو الزكاة. وقد خالفه في ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد ووافقه زفر، وبما رواه الدارقطني والبيهقي والخطيب من حديث جابر مرفوعاً : " في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم ".
أدلة الجمهور على عدم وجوب الزكاة فيها والرد على أدلة أبي حنيفة رحمه الله :
واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ".
والفرس اسم جنس يعم ويعدم ذكرها مع بقية الأجناس الأخرى حتى سئل عنها صلى الله عليه وسلم، فلو كانت مثلها في الحكم لما تركها في الذكر.
وحديث : " قد عفوت عن الخيل فهاتوا زكاة الرقة ". رواه أبو داود.
وأجابوا على استدلال أبي حنيفة، بأن حق الله في رقابها، وظهورها إعارتها وطرقها إذا طلب ذلك منه.
كما أجابوا على حديث جابر بما نقله الشوكاني والدارقطني من أنه لا تقوم به حجة.
ورد أبو حنيفة على دليل الجمهور بأن فرسه مجمل وهو يقول بالحديث إذا كان الفرس للخدمة.
أما إذا كانت الخيل للتناسل، فقد خصها القياس، وعلى حديث عفوت من الخيل بأنه لم يثبت، وهذه دعوى تحتاج إلى إثبات، فقد ذكر الشوكاني أنه حسن.
ولعل مما يرد استدلال أبي حنيفة نفس الحديث الذي استدل به من قرينة التقسيم، إذا أناط الأجر فيها بالجهاد عليها، ولم يذكر الزكاة مع أن الزكاة قد تكون ألزم من الأجر أو أعم من الجهاد لأنها تكون لمن لا يستطيع الجهاد كالمرأة مثلاً فتزكي فلو كانت فيها الزكاة لما خرجت عن قسم الأجر.
ثانياً : لو كان حق الله في المذكور هو الزكاة لما ترك لمجرد تذكرها وخيف تعرض للنسيان، لأن زكاة الأصناف الثلاثة الأخرى لم تترك لذلك بل يطالب بها صاحبها، ويأتي العامل فيأخذها، وإن امتنع صاحبها أخذت جبراً عليه، وبهذا يظهر رجحان مذهب الجمهور في عدم الوجوب.
ومن ناحية أخرى، فقد اختلف القول عن أبي حنيفة رحمه الله فيما تعامل به، وفيما يخرج في زكاتها، فقيل : إنه مخير بين أن يخرج عن كل فرس ديناراً أو عشرة دراهم، وبين أن يقومها ويدفع عن كل مائتي درهم خمسة دراهم.
وقد جعل الأحناف زكاتها لصاحبها ولا دخل للعامل فيها ولا يجبر الإمام عليها، وقد أطال في الهداية الكلام عليها، ولعل أحسن ما يقال في ذلك ما جاء عن عمر رضي الله عنه في سنن الدارقطني، قال : جاء ناس من أهل الشام إلى عمر رضي الله عنه، فقالوا : إنا قد أصبنا أموالاً وخيلاً ورقيقاً، وإنا نحب أن نزكيه، فقال : ما فعله صاحباي قبلي فأفعله أنا، ثم استشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : حسن، وسكت عَلِيّ، فسأله، فقال : هو حسن لو لم تكن جزية راتبة يؤخذون بها بعدك. فأخذ من الفرس عشرة دراهم، وفيه : فوضع على الفرس ديناراً.
وفي المنتقى عن أحمد رحمه الله أنهم قالوا : نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور، فهي إذا دائرة بين الاستحباب والترك.
وقد جاء في نفس الحديث الطويل المتقدم أنهم قالوا : والحمر يا رسول الله فقال : " ما أُنزل عليَّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧ ] رواه الستة إلا الترمذي.
وعليه فإن الأحاديث التي هي نص في الوجوب أو للترك لم تصلح للاحتجاج، والحديث الذي فيه الاحتمال في معنى حق الله في ظهورها ورقابها، قال ابن عبد البر : إنه مجمل، فلم يكن في النصوص المرفوعة متمسك للأحناف في قولهم بوجوب زكاة الخيل، وبقي مفهوم الحديث.
وقول عمر رضي الله عنه. أما مفهوم الحديث فقد أشرنا إلى القرائن التي فيه على عدم الوجوب.
وأما فعل عمر رضي الله عنه ففيه قرائن أيضاً، بل أدلة على عدم الوجوب وهي أولاً لأنهم هم الذين طلبوا منه أن يزكيها ويطهرها بالمزكاة وإيجاب الزكاة لا يتوقف على رغبة المالك.
ثانياً : توقف عمر وعدم أخذها منهم لأول مرة، ولو كانت معلومة له مزكاة لما خفيت عليه ولما توقف.
ثالثاً : تصريحه بأنه لم يفعله صاحباه من قبله، فكيف يفعله هو ؟
رابعاً : قول علي : ما لم تكن جزية من بعدك. أي : إن أخذها عمر استجابة لرغبة أولئك فلا بأس لتبرعهم بها، ما لم يكن ذلك سبباً لجعلها لازمة على غيرهم فتكون كالجزية على المسلمين.
ومما يستدل به للجمهور حديث " قد عفوت عن الخيل والرقيق فأدوا زكاة أموالكم ". رواه أبو داود.
قال الشوكاني بإسناد حسن : وهذا ما يتفق مع حديث " ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده " رواه الجماعة.
وقد أجاب الأحناف على تردد عمر بأن الخيل لم تكن تعرف سائمة للنسل عند العرب، ولكنها ظهرت بعد الفتوحات في عهد عمر وفي هذا القول نظر. وعليه فلا دليل على وجوب الزكاة في الخيل فتبقى على البراءة الأصلية، ولهذا لم يأت للخيل ذكر في كتاب أنصباء بهيمة الأنعام، ولا يرد عليه أن البقر لم يأت ذكرها أيضاً فيه، لأن زكاة البقر جاءت فيها نصوص متعددة لأصحاب السنن.
وللبخاري وغيره بيان أنصباء الزكاة وما يؤخذ فيها : معلوم أنه لم يأت نص من كتاب الله يفصل ذلك، ولكن تقدم في مقدمة الشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه أن من أنواع البيان بيان القرآن بالسنة، وهو نوع من بيان القرآن لقوله تعالى :﴿ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾ [ الحشر : ٧ ].
وقد بينت السنة أركان الإسلام كعدد الركعات وأوقات الصلوات مفصلة ومناسك الحج.
فكذلك بينت السنة مجمل هذا الحق، وفي أي أنواع الأموال، وإن أجمع نص في ذلك هو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه وقرنه بسيفه، وقد عمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ومضى عليه العمل فيما بعد.
وقد رواه الجماعة عن أنس رضي الله عنه، قال أرسل إليّ أبو بكر كتاباً، وكان نقش الخاتم عليه " محمد " سطر، و " رسول " سطر، و " الله " سطر :
بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر بها رسوله، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل قومها فلا يعط، في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتاً لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمساً ففيها شاة.
وصدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين فيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة.
فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلاَّ أن يشاء ربها، فلا يجتمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. الحديث.
فقد بين صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب أنصباء الإبل والغنم وما يجب في كل منهما، ولم يتعرض لأنصباء البقر، ولكن بين أنصباء البقر حديث معاذ عند أصحاب السنن، قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى اليمن ألا آخذ من البقر شيئاً حتى تبلغ ثلاثين : فإذا بلغت ففيها عجل تبيع جذع أو جذعة حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة.
ولهذين النصين الصحيحين يكتمل بيان أنصباء بهيمة الأنعام : الإبل والبقر والغنم، وهو الذي عليه الجمهور وعليه العمل.
وما روي عن سعيد بن المسيب : في كل عشر من البقر شاة إلى ثلاثين، ففيها تبيع فلم يعمل به أحد.
تنبيه
وليس في الوقص في بهيمة الأنعام زكاة، والوقص هو ما بين كل نصاب والذي يليه، كما بين الخمسة والتسعة من الإبل، وما بين الأربعين والعشرين ومائة من الغنم، وما بين الثلاثين والأر
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾.
يوم الدين هو يوم الحساب. كما تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الفاتحة.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴾.
أي خائفون : كما بينه تعالى بقوله :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمان : ٤٦ ].
وقوله :﴿ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [ الطور : ٢٦ -٢٧ ].
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١ ]، وما بعدها، وفي سورة النساء، وبين أن كل مبتغ وراء الزوجة وملك اليمين فهو داخل تحت قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٧ ]، وخاصة من قال : بنكاح المتعة. لأن المستمتع بها ليست زوجة وليست أمة مملوكة.
تنبيه
والجدير بالذكر أنه لم يبق من يقول بنكاح المتعة كمذهب لطائفة ما، إلا الشيعة بصرف النظر عمن خالف الإجماع من غيرهم، ولكن الشيعة أنفسهم شبه متناقضين في كتبهم، إذ ينص الحللي وهو من أئمتهم، في باب النكاح : أن للحر وللعبد على السواء أن ينكح نكاحاً مؤقتاً، وهو نكاح المتعة بأي عدد شاء من النساء وبدون حد، فجعل هذا العقد كملك اليمين، والحال أن المعقود عليها حرة، وهذا متناقض.
وفي كتاب الطلاق، قال : إن المطلقة ثلاثاً لا يحلها لزوجها الأول إلا أن تنكح زوجاً غيره في نكاح دائم وليس مؤقتاً.
وهنا يقال لهم : إما أن تعتدُّوا بنكاحها الثاني المؤقت فيلزم أن يحلها للأول لأنه تعالى قال :﴿ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٠ ] فإن اعتبرتموه نكاحاً لزم إحلالها به للزوج الأول. وإن لم تعتبروه نكاحاً لزمكم القول ببطلانه وهو المطلوب.
وبهذا يظهر أن مبتغى وراء ذلك، أي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم هم العادون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١ ]، وما بعدها، وفي سورة النساء، وبين أن كل مبتغ وراء الزوجة وملك اليمين فهو داخل تحت قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٧ ]، وخاصة من قال : بنكاح المتعة. لأن المستمتع بها ليست زوجة وليست أمة مملوكة.
تنبيه
والجدير بالذكر أنه لم يبق من يقول بنكاح المتعة كمذهب لطائفة ما، إلا الشيعة بصرف النظر عمن خالف الإجماع من غيرهم، ولكن الشيعة أنفسهم شبه متناقضين في كتبهم، إذ ينص الحللي وهو من أئمتهم، في باب النكاح : أن للحر وللعبد على السواء أن ينكح نكاحاً مؤقتاً، وهو نكاح المتعة بأي عدد شاء من النساء وبدون حد، فجعل هذا العقد كملك اليمين، والحال أن المعقود عليها حرة، وهذا متناقض.
وفي كتاب الطلاق، قال : إن المطلقة ثلاثاً لا يحلها لزوجها الأول إلا أن تنكح زوجاً غيره في نكاح دائم وليس مؤقتاً.
وهنا يقال لهم : إما أن تعتدُّوا بنكاحها الثاني المؤقت فيلزم أن يحلها للأول لأنه تعالى قال :﴿ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٠ ] فإن اعتبرتموه نكاحاً لزم إحلالها به للزوج الأول. وإن لم تعتبروه نكاحاً لزمكم القول ببطلانه وهو المطلوب.
وبهذا يظهر أن مبتغى وراء ذلك، أي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم هم العادون.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١ ]، وما بعدها، وفي سورة النساء، وبين أن كل مبتغ وراء الزوجة وملك اليمين فهو داخل تحت قوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٧ ]، وخاصة من قال : بنكاح المتعة. لأن المستمتع بها ليست زوجة وليست أمة مملوكة.
تنبيه
والجدير بالذكر أنه لم يبق من يقول بنكاح المتعة كمذهب لطائفة ما، إلا الشيعة بصرف النظر عمن خالف الإجماع من غيرهم، ولكن الشيعة أنفسهم شبه متناقضين في كتبهم، إذ ينص الحللي وهو من أئمتهم، في باب النكاح : أن للحر وللعبد على السواء أن ينكح نكاحاً مؤقتاً، وهو نكاح المتعة بأي عدد شاء من النساء وبدون حد، فجعل هذا العقد كملك اليمين، والحال أن المعقود عليها حرة، وهذا متناقض.
وفي كتاب الطلاق، قال : إن المطلقة ثلاثاً لا يحلها لزوجها الأول إلا أن تنكح زوجاً غيره في نكاح دائم وليس مؤقتاً.
وهنا يقال لهم : إما أن تعتدُّوا بنكاحها الثاني المؤقت فيلزم أن يحلها للأول لأنه تعالى قال :﴿ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٠ ] فإن اعتبرتموه نكاحاً لزم إحلالها به للزوج الأول. وإن لم تعتبروه نكاحاً لزمكم القول ببطلانه وهو المطلوب.
وبهذا يظهر أن مبتغى وراء ذلك، أي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم هم العادون.

قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لاًّمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه في أول سورة ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١ ].
وفي المسألة السادسة من مسائل مبحث :﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ﴾ [ الأنبياء : ٧٨ ].
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ ﴾.
قرئ بشهاداتهم بالجمع وقرئ بشهادتهم بالإفراد، فقيل : إن الإفراد يؤدي معنى الجمع للمصدر كما في قوله :﴿ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [ لقمان : ١٩ ].
فأفرد في الصوت مراداً به الأصوات.
وقيل : الإفراد لشهادة التوحيد مقيمون عليها. والجمع لتنوع الشهادات بحسب متعلقها، ولا تعارض بين الأمرين فما يشهد لذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ].
قال أبو بكر رضي الله عنه : أي داموا على ذلك حتى ماتوا عليه.
وبدل للثاني عمومات آية الشهادة المتنوعة في البيع والطلاق والكتابة في الدين وغير ذلك، والله تعالى أعلم.
وفي هذه الآية عدة مسائل :
المسألة الأولى : أطلق القيام بالشهادة هنا وبين أن قيامهم بها إنما هو لله في قوله تعالى :﴿ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ﴾ [ الطلاق : ٢ ]، وقوله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ﴾ [ النساء : ١٣٥ ].
المسألة الثانية : قوله ﴿ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ ﴾ في معرض المدح، وإخراجهم من وصف ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾ [ المعارج : ١٩ ] يدل بمفهومه أن غير القائمين بشهاداتهم غير خارجين من ذلك الوصف الذميم.
وقد دلت آيات صريحة على هذا المفهوم، منها قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ]، وقوله :﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثِمِينَ ﴾ [ المائدة : ١٠٦ ].
وكذلك في معرض المدح في وصف عباد الرحمن في قوله :﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ].
وفي الحديث من عظم جرم شهادة الزور، وكان صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فقال : " ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت " ".
تنبيه
قوله :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ ﴾ يفيد القيام بالشهادة مطلقاً، وجاء قوله :﴿ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ ﴾ فقيد القيام بالشهادة بالدعوة إليها.
وفي الحديث : " خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها ".
وفي حديث آخر في ذم المبادرة بها، ويشهدون قبل أن يستشهدوا. وقد جمع العلماء بين الحديثين بأن الأول في حالة عدم معرفة المشهود له بما عنده من شهادة، أو يتوقف على شهادته حق شرعي كرضاع وطلاق ونحوه، والثاني بعكس ذلك.
وقد نص ابن فرحون أن الشهادة في حق الله على قسمين، قسم تستديم فيه الحرمة كالنكاح والطلاق، فلا يتركها، وتركها جرحة في عدالته، وقسم لا تستديم فيه الحرمة كالزنى والشرب، فإن تركها أفضل ما لم يدع لأدائها. لحديث هزَّال في قصة ماعز حيث قال له : " هلا سترته بردائك ".
المسألة الثالثة : مواطن الشهادة الواردة في القرآن، والتي يجب القيام فيها، نسوقها على سبيل الإجمال.
الأول : الإشهاد في البيع في قوله تعالى :﴿ وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ].
الثاني : الطلاق، والرجعة لقوله تعالى :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ ﴾ [ الطلاق : ٢ ].
الثالث : كتابة الدَّين لقوله تعالى :﴿ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] الآية.
الرابع : الوصية عند الموت لقوله تعالى :﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠٦ ] الآية.
الخامس : دفع مال اليتيم إليه إذا رشد، لقوله تعالى :﴿ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ النساء : ٦ ].
السادس : إقامة الحدود لقوله تعالى :﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ النور : ٢ ].
السابع : في السنة عقد النكاح لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل "، وهذه كلها مواطن هامة تتعلق بحقّ الله وحق العباد من حفظ للمال والعرض والنسب، وفي حق الحي والميت واليتيم والكبير، فهي في شتى مصالح الأمة استوجبت الحث على القيام بها ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ ﴾ والتحذير من كتمانها ﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ].
وقوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٤٠ ].
وقوله :﴿ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ].
المسألة الرابعة : قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ ﴾ [ المعارج : ٣٣ ] كلها صيغ الجمع، والشهادة قد تكون من فرد، وقد تكون من اثنين، وقد تكون من ثلاثة، وقد تكون من أربعة، وقد تكون من جماعة.
وجملة ذلك أن الشهادة في الجملة من حث الشاهد تكون على النحو الآتي : إجمالاً رجل واحد، ورجل يمين، ورجل وامرأتان، ورجلان، وثلاثة رجال، وأربعة، وطائفة من المؤمنين، وامرأة، وامرأتان، وجماعة الصبيان.
وقد جاءت النصوص بذلك صريحة. أما الواحد، فقال تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ﴾ [ يوسف : ٢٦ ].
فهو، وإن كان ملفت النظر إلى القرنية في شق القميص، إلا أنه شاهد واحد.
وجاء في السنة : شهادة خزيمة رضي الله عنه، لما شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشراء الفرس من الأعرابي، وجعلها صلى الله عليه وسلم بشهادة رجلين.
وجاءت السنة بثبوت شهادة الطبيب والقائف والخارص ونحوهم.
وجاء في ثبوت رمضان، فقد قبل صلى الله عليه وسلم شهادة أعرابي، وقبل شهادة عبد الله بن عمر سواء كان قبولها اكتفاء بها أو احتياطاً لرمضان.
وأما شهادة الرجل الواحد ويمين المدعي، فلحديث ابن عباس " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين " وتكلم عليه ابن عبد البر، وأطال في تصحيحه وتوجيهه.
وعند مالك ومذهب لأحمد شهادة امرأتين، ويمين المدعي، وخالفهما الجمهور.
وأما شهادة رجل وامرأتين، فلقوله تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ].
وبين تعالى توجيه ذلك بقوله :﴿ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ].
وبهذا النص رد الجمهور مذهب مالك، والمذهب المحكي عن أحمد لأنه لم ينقل إلا أربع نسوة ولم تستقل النسوية بالشهادة.
وأما شهادة الرجلين فلقوله تعالى :﴿ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ].
وأما ثلاثة رجال، فلقوله صلى الله عليه وسلم في إثبات الفاقة والإعسار. " حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، فيقولون، لقد أصابت فلانة فاقة ". الحديث، وهو حديث قبيصة عند مسلم وأحمد.
وأما الأربعة ففي إثبات الزنا خاصة، وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ذلك في أول سورة النور.
وأما الطائفة ففي إقامة الحدود لقوله تعالى :﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ النور : ٢ ].
وأما شهادة المرأة ففي أحوال النساء خاصة، كما في حديث عقبة بن الحارث : " جاءت امرأة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أرضعتهما، فقال له صلى الله عليه وسلم فارقها، فقال : كيف أفارقها لقول امرأة ؟ فقال له : كيف وقد قيل ؟ " وقد وقع الخلاف في قبول شهادتها وحدها ولكن الصحيح ما قدمنا.
وأما المرأتان فعند من لم يقبل شهادة المرأة، وقيل عند استهلال الصبي، لأن الغالب حضور أكثر من واحدة.
وأما جماعة الصبيان ففي جناياتهم على بعض، وقبل أن يتفرقوا ولم يدخل فيهم كبير. وفيه خلاف.
ورجح الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه العمل بها في مذكرة أصول الفقه، في مبحث رواية الصغار.
المسألة الخامسة : اتفقوا أنه لا دخل للنساء في الشهادة في الحدود، وإنما تكون في المال أو ما يؤول إلى المال، وفيما يتعلق بما تحت الثياب من النساء.
وفي الشهادة مباحث عديدة مبسوطة في كتب الفقه وكتب القضاء، كتبصرة الحكام لابن فرحون وغيره.
وقد بسط ابن القيم الكلام عليها في الطرق الحكمية وابن فرحون في تبصرة الحكام لمن أحب الرجوع إليه، ولكن مما لا بد منه هو شروط الشاهد المعتبرة، وكلها تدور على ما تحصل به الطمأنينة إلى الحق المشهود به لأمرين أساسيين هما الضبط، كما في قوله تعالى في حق النسوة ﴿ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ].
والثاني العدالة والصدق، كما في قوله تعالى :﴿ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ ﴾ [ الحجرات : ٦ ].
وهنا مبحث مشهور، وهو : هل الأصل في المسلمين العدالة حتى تظهر جرحه أم العكس ؟
والصحيح الأول.
وقد كان العمل على ذلك إلى أن جاء رجل من العراق لعمر رضي الله عنه فقال له : أدرك الناس لقد تفشت شهادة الزور. فقال عمر : بتزكية الشهود وإثبات عدالتهم.
وقد أورد ابن فرحون في مراتب الشهود إحدى عشرة مرتبة وهي :
الأولى : الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته في كل شيء، وتجريحه ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك كله إذا أبهمه، ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة.
الثانية : المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، فحكمه كالأول، إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك.
الثالثة : الشاهد المعروف بالعدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته إلا في ستة مواضع على اختلاف في بعضها، وهي التزكية، شهادته لأخيه ولمولاه ولصديقه الملاطف ولشريكه في غير التجارة، وإذا زاد في شهادته أو نقص فيها، ويقبل فيه التجريح بالعداوة وغيرها، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك.
الرابعة : المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، حكمه كذلك إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك.
الخامسة : الشاهد المعروف بالعدالة إذا قذف قبل أن يحد فاختلف في قبول شهادته، وأجازها ابن القاسم، وهو مذهب مالك.
السادسة : الذي يتوسم فيه العدالة تجوز دون تزكية فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات، وفيما عدا ذلك لا بد من تزكيته، لأنه هو المعروف بمجهول الحال.
والصحيح أن مثله لا بد من التحري عنه حتى ينكشف أمره.
السابعة : الذي لا يتوسم فيه العدالة ولا الجرعة فلا تجوز شهادته في موضع من المواضع دون تزكية، إلا أن شهادته تكون شبيهة في بعض المواضع عند بعض العلماء، فتوجب اليمين وتوجب الحميل وتوقيف الشيء على المدعى عليه.
الثامنة : الذي يتوسم فيه الجرحة فلا تجوز شهادته دون تزكية، ولا تكون شهادته شبهة توجب حكماً.
التاسعة : الش
قوله تعالى :﴿ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ﴾.
﴿ مهطعين ﴾ : أي مسرعين نافرين، و﴿ عزين ﴾ جمع عزة، وهم الجماعة، أي ما بال أولئك الكفار المنصرفين عنك متفرقين، وعليه قول الكميت :
ونحن وجندل باغ تركنا كتائب جندل شتى عزين
وكذلك هنا فهم متفرقون عنه صلى الله عليه وسلم جماعات من كل جهة عن اليمين وعن الشمال. تفرقت بهم الأهواء وأخذتهم الحيرة كقوله تعالى :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾ [ المدثر : ٤٩-٥١ ].
ونقل ابن كثير عن أحمد رحمه الله في أهل الأهواء، فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾.
أجمل ما يعلمون في ما الموصولة } مما ﴿ ، وقد بينه تعالى في عدة مراحل من تراب أولاً ثم من نطفة. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك في أكثر من موضع، وأصرح نص في ذلك قوله تعالى { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ [ المرسلات : ٢٠ ] وقوله :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ ﴾ [ الطارق : ٥ – ٧ ] أي ماء الرجل وماء المرأة يختلطان معاً، كما في قوله تعالى :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ [ الإنسان : ١-٢ ].
وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ ليس لمجرد الإخبار، لأنهم يعلمون، والعالم ليس في حاجة إلى إخبار، ولكن يراد بذلك لازم الخبر، وهو إفهامهم بأن من خلقهم من هذا الذي يعلمون قادر على إعادتهم وبعثهم ومجازاتهم، كما في سورة الدهر ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [ الإنسان : ٢ ].
ثم قال :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٣ ].
ثم بين المصير ﴿ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾ [ الإنسان : ٤ -٥ ].
قوله تعالى :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ﴾.
قوله تعالى ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ ﴾ ظاهر النفي، والحال أنه أقسم بدليل جواب القسم بعده ﴿ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾، وللعلماء في مجيء لا هذه، كلام كثير، وقد فصله الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب في سورة البلد، وسيطبع إن شاء الله في نهاية هذه التتمة..
وقوله :﴿ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ﴾ فهو الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وقد نص على نظيره في سورة الرحمن ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمان : ١٧ -١٨ ].
وقد جمعت المشارق هنا، وثنيت في الرحمن وأفردت في قوله تعالى ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾، فالجمع على مشارق الشمس في السنة لكل يوم مشرق، كما قال ابن عباس والتثنية لمشرق الشمس والقمر والإفراد على الجهة، وسيأتي في دفع إيهام الاضطراب أيضاً.
قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً ﴾.
بين هنا حالة الخروج من الأجداث وهي القبور، وهي أنهم يخرجون سراعاً، وبين في موضع آخر أنهم يخرجون مبعثرين هنا وهناك. في قوله تعالى :﴿ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ﴾ [ العاديات : ٩ ]، وفي قوله تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ ﴾.
قوله تعالى :﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾.
حالة ثانية، وقد جمع الحالات في سورة اقتربت الساعة في قوله تعالى ﴿ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شيْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ [ القمر : ٦ -٨ ]. نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
وفي ختام السورة الكريمة لهذا الوصف والوعيد الشديد تأييد للقول بأن سؤالهم في أولها ﴿ بعذاب واقع ﴾، إنما هو استخفاف واستبعاد. فبين لهم تعالى بعد عرض السورة نهاية ما يستقبلون به ليأخذوا حذرهم ويرجعوا إلى ربهم. فارتبط آخر السورة بأولها.
Icon