تفسير سورة المؤمنون

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

بعذاب من عنده، فأصبحوا كأمس الدابر، والمثل السائر، وفي هذا تخويفٌ لقريش، وإنذار لهم على ما يفعلون، وأنه سيحل بهم ما داموا على تكذيب رسولهم والكفر به مثل ما حل بمن قبلهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الحاكم عن أبي هريرة، أن رسول الله - ﷺ - كان إذا صلى، رفع بصره إلى السماء، فنزلت: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢)﴾ فطاطأ رأسه، وأخرجه ابن مردويه، بلفظ: كان يلتفت في الصلاة، وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن سيرين مرسلًا، بلفظ: كان يقلب بصره، فنزلت وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن سيرين مرسلًا: كان الصحابة يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فنزلت.
قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ روي فيه عن أنس، قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع، قلت: يا رسول الله صلينا خلف المقام، فأنزل الله: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾، وقلت: يا رسول الله، لو اتخذت على نسائك حجابًا، فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾، وقلت لأزواج النبي - ﷺ -: لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكم، فنزلت: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ﴾ الآية ونزلت: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾، فقلت: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، فقال رسول الله - ﷺ -: "هكذا أنزلت يا عمر! " أخرجه الطيالسي.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ وفاز وسعد حقًا ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: المصدقون بما جاء به الرسول - ﷺ -، ونالوا البقاء والدوام في الجنة، ويدل عليه، ما روي "أن الله تعالى لما خلق جنة عدن بيده، قال: تكلّمي، فقالت: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)﴾ فقال: طوبى لك منزل الملوك" أي: ملوك الجنة، وهم الفقراء الصابرون، وقد هنا: للتحقيق؛ أي: التحقيق ما يحصل في المستقبل، وتنزيله منزلة الواقع، ومعنى فاز
المؤمنون (١)؛ أي: ظفروا بمقصدهم، ونجوا من كل مكروه، قال تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ والمؤمنون جمع مؤمن، وهو المصدق بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره.
وقرأ طلحة بن مصرق، وعمرو بن عبيد (٢): ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ بضم الهمزة وكسر اللام مبنيًا للمفعول، ومعناه: أدخلوا في الفلاح، فاحتمل أن يكون من فلح لازمًا، أو يكون أفلح، يأتي متعديًا ولازمًا، وقرأ طلحة: أيضًا بفتح الهمزة واللام وضم الحاء، قال عيسى بن عمر: سمعت طلحة بن مصرق يقرأ: ﴿قَدْ أفلحوا الْمُؤْمِنُونَ﴾ فقلت له: أتلحن. قال: نعم، كما لحن أصحابي، انتهى. يعني: أن مرجوعه في القراءة إلى ما روي، وليس بلحن؛ لأنه على لغة أكلوني البراغيث، قال الزمخشري: أو على الإبهام والتفسير، وقال ابن عطية: وهي قراءة مردودة، وفي كتاب ابن خالويه مكتوبًا بواو بعد الحاء، وفي "اللوامح": وحذفت واو الجمع بعد الحاء لالتقائهما في الدرج، وكانت الكتابة عليها محمولةً على الوصل، نحو: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ وقال الزمخشري: وعنه - أي عن طلحة - ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ ضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله: ولو أن الأطباء كان حولي. انتهى.
وليس بجيد؛ لأن الواو في أفلح حذفت لالتقاء الساكنين، وهنا حذفت للضرورة، فليست مثلها.
والحاصل: أن الله سبحانه حكم بالفلاح لمن كان جامعًا لخصال سبع من خصال الخير:
الأول: الإيمان، وذكره بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)﴾؛ أي: فاز وسعد المصدقون بالله، ورسله، واليوم الآخر.
٢ - والثاني: الخشوع في الصلاة، وذكره بقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢)﴾؛ أي: الذين هم مخبتون لله، متذللون له، مناقدون له، خائفون من عذابه، ملزمون
(١) الصاوي.
(٢) البحر المحيط.
14
أبصارهم مساجدهم. أو المعنى (١): خاضعون للمعبود، بالقلب غير ملتقين بالخواطر إلى شيء سوى التعظيم ساكنون بالجوارح، مطرقون ناظرون إلى مواضع سجودهم، لا يلتفتون يمينًا ولا شمالًا، ولا يرفعون أيديهم. والخشوع من فروض الصلاة عند الغزالي، والحضور عندنا ليس شرطًا للإجزاء، بل شرط للقبول، كما قاله الرازي: قدم الصلاة؛ لأنها أعظم أركان الدين، بعد الشهادتين، فإن قلت: لم أضيفت الصلاة إليهم؟
قلت: لأن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى له، فالمصلي: هو المنتفع بها وحده، وهي عدته وذخيرته، فهي صلاته، وأما المصلى له: فغني متعال عن الحاجة إليها، والانتفاع بها، ذكره في "البحر" وقد اختلف الناس في الخشوع (٢)، هل هو من فرائض الصلاة؟ أو من فضائلها؟ على قولين: قيل: الصحيح الأول، وقيل: الثاني، وادعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء، على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته، حكاه النيسابوري في تفسيره، قال: ومما يدل على صحة هذا القول، قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ والتدبر لا يتصور بدون الوقوف على المعنى.
وفي "التأويلات النجمية": ﴿خَاشِعُونَ﴾؛ أي: بالظاهر والباطن (٣)، أما الظاهر فخشوع الرأس بانتكاسه، وخشوع العين بانغماضها عن الالتفات، وخشوع الأذن بالتذلل للاستماع، وخشوع اللسان بالقراءة، والحضور، والتأني، وخشوع اليدين وضع اليمين على الشمال، بالتعظيم كالعبد، وخشوع الظهر انحناؤه في الركوع مستويًا، وخشوع الفرج، نفي الخواطر الشهوانية، وخشوع القدمين بثباتهما على الموضع، وسكونها عن الحركة.
أما الباطن: فخشوع النفس سكونها عن الخواطر، والهواجس، وخشوع القلب بملازمة الذكر، ودوام الحضور، وخشوع السر بالمراقبة في ترك اللحظات
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
15
إلى المكونات، وخشوع الروح استغراقه في بحر المحبة، وذوبانه عند تجلي صفة الجمال والجلال، انتهى. وفي "الصاوي": ﴿خَاشِعُونَ﴾؛ أي: ظاهرًا وباطنًا، فالخشوع الظاهري: التمسك بآداب الصلاة، كعدم الالتفات، والعبث، وسبق الإِمام ووضع اليد في الخاصرة، وغير ذلك، والخشوع الباطن: استحضار عظمة الله، وعدم التفكر بأمر دنيوي، انتهى.
وروى الحاكم أن النبي - ﷺ - كان يصلي رافعًا بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية، رمى ببصره إلى نحو مسجده؛ أي: موضوع سجوده.
والخشوع واجب على المرء في الصلاة، لوجوه:
١ - للتدبر فيما يقرأ، كما قال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٢٤)﴾، والتدبر لا يكون بدون الوقوف على المعنى، كما قال: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾؛ أي: لتقف على عجائب أسراره، وبديع حكمه وأحكامه.
٢ - لتذكر الله والخوف من وعيده؛ كما قال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾.
٣ - أن المصلي يناجي ربه، والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة ألبتة، ومن ثم قالوا: صلاة بلا خشوع جسد بلا روح، وجمهور العلماء على أن الخشوع ليس شرطًا للخروج من عهدة التكليف وأداء الواجب، وإنما هو شرط لحصول الثواب عند الله، وبلوغ رضوانه.
٣ - والثالث: الإعراض عن اللغو، وذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ﴾؛ أي: عما لا يعنيهم من الأقوال والأفعال ﴿مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: مجتنبون عنه في جميع الأوقات، غير ملتفتين إليه؛ أي (١): الذين هم تاركون لما لا حاجة إليه في أمور الدين والدنيا، من الأقوال والأفعال في عامة أوقاتهم، قال الزجاج: واللغو هو كل باطل ولهو وهزل ومعصية، وما لا يجمل من القول والفعل، انتهى. والمراد به (٢): كل ما لا يعود على الشخص منه فائدة في الدين، أو الدنيا، قولًا أو فعلًا مكروهًا أو مباحًا، كالهزل واللعب، وضياع الأوقات فيما لا يعني، والتوغل في
(١) المراح.
(٢) الصاوي.
الشهوات، وغير ذلك مما نهى عنه. وتوسيط حديث الإعراض بين الطاعة البدنية والمالية، لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة، وقال أبو حيان: ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة، أتبعهم الوصف بالإعراض عن اللغو، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس، اللذين هما قاعدتا بناء التكليف، انتهى.
والمعنى: أي الذين يعرضون عن كل ما لا يعنيهم، وعن كل كلام ساقط حقه أن يلغى، كالكذب والهزل والسبّ، إذ لهؤلاء من الجد ما يشغلهم، فهم في صلاتهم معرضون عن كل شيء، إلا عن خالقهم، وفي خارجهم معرضون عن كل ما لا فائدة فيه، فهم متجهون للجد، وصالح الأعمال، فهم قد استفادوا من خشوع الصلاة وانتفعوا منه بعدها، وتخلقوا بأخلاق النبيين والصديقين.
٤ - والرابع: تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة، وذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ﴾؛ أي: للصدقة المفروضة ﴿فَاعِلُونَ﴾؛ أي: مؤدونها إلى مستحقيها من الأصناف الثمانية المذكورة في سورة التوبة؛ لأجل طهارة أنفسهم وتزكيتها، كما قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)﴾ وقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤)﴾.
واعلم (١): أن الزكاة تطلق على القدر المخرج، كربع العشر من النقدين، والعشر أو نصفه من الحبوب والثمار، والشاة من الأربعين، فيكون على هذا معنى فاعلون: مؤدون؛ لأن القدر المخرج لا معنى لفعله، فعبر عن التأدية بالفعل؛ لأنها مما يصدق عليه الفعل، وتطلق على المصدر الذي هو فعل الفاعل، وعلى هذا يكون فاعلون على بابه؛ أي: والذين هم لتزكية أنفسهم، وتطهيرها فاعلون؛ بإخراج المال في مصارف الزكاة، وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن الزكاة إنما وجبت لتزكية النفس عن الصفات الذميمة النجسة من حب الدنيا، أو غيره، ولم يكن المراد مجرد إعطاء المال وحبه في القلب، وإنما كان لمصلحة إزالة حب الدنيا عن القلب، ومثل حب الدنيا جميع الصفات الذميمة إلى أن تتم إزالتها.
٥ - والخامس: حفظ الفرج، وذكرَه بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥)﴾؛
(١) الصاوي.
أي: ممسكون ومانعون لها من الحرام، ولا يرسلونها على أحد، ولا يبذلونها
٦ - ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ﴾؛ أي: زوجاتهم، فإن الزوج يقع على الذكر والأنثى ﴿أَوْ﴾ ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾؛ أي: أيديهم من الإماء فما ملكت (١) أيمانهم، وإن كان عامًا للرجال أيضًا، لكنه مختص بالنساء إجماعًا، وإنما قال: (ما) إجراء للمماليك مجرى غير العقلاء؛ إذ الملك أصل شائع فيه، وعبارة الشوكاني وعبر عنهن بـ (ما) التي لغير العقلاء؛ لأنه اجتمع فيهن الأنوثة المنبثة عن قصور العقل وجواز البيع والشراء فيهن، كسائر السلع، فأجراهن بهذين الأمرين مجرى غير العقلاء، انتهى. وإنما ذكر بلفظ (على) لاستلائهم على أزواجهم لا لاستلائهن عليهم وكانوا عليهن لا مملوكين لهن.
والفرج (٢) يطلق على فرج الرجل والمرأة، ومعنى حفظهم: أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يحل لهم، قيل والمراد هنا: الرجل خاصة دون النساء، بدليل قوله: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ للإجماع على أنه لا يحل للمرأة أن يطأها من تملكه.
والمعنى: أن الذين يحفظون فروجهم في جميع الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم قربان الأمة بالملك.
وقال في "الأسئلة المقحمة" (٣): كيف يجوز أن يسمى الرقيق ملك يمين ولا يسمى به سائر الأملاك، الجواب: ملك الجارية والعبد أخص؛ لأنه يختص بجواز التصرف فيه، ولا يعم كسائر الأملاك، فإن مالك الدار مثلًا يجوز له نقض الدار وهدمها، ولا يجوز لمالك العبد نفض بنيته وقتله، انتهى.
﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ على عدم حفظها منهن، إذا كان إتيانهن على وجه الحلال؛ أي: وإنما لا يلامون فيما إذا كان الإتيان على وجه أذن فيه الشرع، دون الإتيان في غير المأتى شرعًا، وفي حال الحيض والنفاس، فإنه محظور، فلا يجوز، ومن فعله فإنه ملوم، واللوم عذل إنسان بنسبته إلى ما فيه لوم، كما سيأتي
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
في "مبحث التصريف"، والمراد بهذا الوصف: مدحهم بنهاية العفة، والإعراض عن الشهوات، وفي "التأويلات النجمية"، يعني: يحفظون عن التلذذ بالشهوات؛ أي: لا يكون أزواجهم وإماؤهم عدوًا لهم، بأن يشغلوهم عن الله وطلبه، فحينئذٍ يلزم الحذر منه كقوله: ﴿عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾.
٧ - ﴿فَمَنِ ابْتَغَى﴾ وطلب ﴿وَرَاءَ ذَلِكَ﴾ الذي ذكر من الحد المتسع، وهو أربع من الحرائر، وما شاء من الإماء ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المبتغون ﴿هُمُ الْعَادُونَ﴾؛ أي: الكاملون في العدوان، المتناهون فيه، أو المتعدون من الحلال إلى الحرام.
والمعنى: فمن التمس وطلب سوى الأزواج والولائد، وهن الجواري المملوكة، فأولئك هم الظالمون، المجاوزون لحدود الله من الحلال إلى الحرام، قال البغوي: وفي الآية دليل على أن الاستمناء باليد حرام، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة (١)، وقال أحمد بن حنبل: يجوز إخراجها لحاجة؛ لأنها فضلة، كدم القصد والحجامة، لكن بشروط ثلاثة: أن يخاف الزنا، وأن لا يجد مهر حرة أو ثمن أمة، وأن يفعله بيده، لا بيد أجنبي أو أجنبية، ويجوز بيد زوجته أو جاريته، لكن قال القاضي حسين: مع الكراهة؛ لأنه في معنى العزل.
الخلاة: الصائم إذا عالج ذكره حتى أمنى، يجب عليه القضاء (٢)، ولا كفارة عليه، ولا يحل هذا الفعل، خارج رمضان، إن قصد تسكين شهوته، وأرجو أن لا يكون عليه ويل. اهـ.
وقال ابن جريج: سألت عطاء عنه، فقال: سمعت أن قومًا يحشرون وأيديهم حبالى وأظنهم هؤلاء، وعن سعيد بن جبير: عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم. والواجب على فاعله التعزير، كما قاله ابن الملقن وغيره.
٨ - والسادس: رعاية الأمانة والعهد، وذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ﴾؛ أي: لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق، أو الخلق ﴿رَاعُونَ﴾؛ أي: قائمون عليها، وحافظون لها على وجه الإصلاح؛ أي: والذين هم لأماناتهم؛
(١) الصاوي.
(٢) روح البيان.
19
أي: لما ائتمنوا عليه، من حقوق الخالق، كالصلاة والصوم والحجّ، وفعل المعروف، والنهي عن المنكر، وحقوق الخلق، كالودائع والصنائع، وأعراض الخلق، وعوراتهم ﴿وَعَهْدِهِمْ﴾ مرادف للأمانات ﴿رَاعُونَ﴾؛ أي: حافظون، غير مضعون لها. اهـ "صاوي" وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: في رواية ﴿لأمانتهم﴾ بالإفراد، وباقي السبعة بالجمع، ذكره في "البحر".
والمعنى (١): أي والذين إذا ائتمنوا لم يخونوا، بل يؤدون الأمانة لأهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا، بما عاهدوا عليه، إذ الخيانة وخلف العهد من صفات المنافقين، كما جاء في الحديث "آية المنافق ثلاث، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" وقصارى ذلك، أنهم يؤدون ما ائتمنوا وعوهدوا عليه، من الرب، أو العبد، كالتكاليف الشرعية، والأموال المودعة، والعقود التي عاقدوا الناس عليها، والأمانة (٢)، اسم لما يؤتمن عليه الإنسان، والعهد حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، ويسمى الموثق الذي يلزم مراعاته عهدًا. فالأمانة ما يؤتمنون عليه، والعهد ما يعاهدون عليه، من جهة الله سبحانه، أو من جهة عباده، وقد جمع العهد والأمانة كل ما يتحمله الإنسان من أمر الدين، أو الدنيا، والأمانة أعم من العهد، فكل عهد أمانة ولا عكس. ذكره "الشوكاني" وقال محمد بن الفضل (٣): جوارحك كلها أمانات عندك، أمرت في كل واحدة منها، بأمر، فأمانة العين، الغضّ عن المحارم، والنظر بالاعتبار، وأمانة السمع، صيانتها عن اللغو، والرفث، لاحضارها مجالس الذكر، وأمانة اللسان اجتناب الغيبة والبهتان، ومداومة الذكر، وأمانة الرجل، المشي إلى الطاعات والتباعد عن المعاصي، وأمانة الفم، أن لا يتناول به إلا حلالًا، وأمانة اليد، أن لا يمدها إلى الحرام، ولا يمسكها عن المعروف، وأمانة القلب، مراعاة الحق على دوام الأوقات، حتى لا يطالع سواه، ولا يشهد غيره، ولا يسكن إلا إليه، انتهى.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
20
٩ - والسابع: المحافظة على الصلوات، وذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ﴾ المفروضة عليهم؛ وقرأ الأخوان حمزة والكسائي: ﴿على صلاتهم﴾ بالإفراد، وباقي السبعة بالجمع ﴿يُحَافِظُونَ﴾؛ أي: يواظبون عليها بشرائطها وآدابها، ويؤدونها في أوقاتها، التي رسمها الدين، على أكمل وجه، وعبر بـ ﴿يُحَافِظُونَ﴾ بصفة المضارع، لما في الصلاة من التجدد والتكرار، وهو السر في جمعها، وليس فيه تكرير الخشوع؛ لأن المحافظة فضيلة أخرى. فإن قلت (١): كيف كرر ذكر الصلاة أولًا وآخرًا؟
قلت؛ هما ذكران مختلفان، فليس تكرارًا، وصفهم أولًا بالخشوع في الصلاة، وآخرًا بالمحافظة عليها.
قال الزمخشري: ووحدت أولًا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة، وجمعت آخرًا، لتفاد المحافظة على أعدادها، وهي الصلوات الخمس، والوتر، والسنن المرتبة مع كل صلاة، وصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، والجنازة والاستسقاء والكسوف وصلاة الضحى والتهجد وغيرها من النوافل، قال: في "التأويلات النجمية": يحافظون لئلا يقع خلل في صورتها، ومعناها: ولا يضيع منهم الحضور في الصف الأول صورةً ومعنًى.
وفي الحديث: "يكتب للذي خلف الإِمام بحذائه في الصف الأول، ثواب مئة صلاة، وللذي في الأيمن، خمس وسبعون، وللذي في الأيسر خمسون، وللذي في سائر الصفوف، خمس وعشرون" كما في "شرح المجمع"، والصف الأول، أعلم بحال الإِمام، فتكون متابعته أكثر، وثوابه أتم، وأوفر، كما في "شرح المشارق" لابن الملك وفي الحديث: "أول زمرة تدخل المسجد، هم أهل الصف الأول، وإن صلوا في نواحي المسجد" كما في "خالصة الحقائق".
روي عن ابن مسعود أنه قال: سألت رسول الله - ﷺ -، فقلت: يا رسول الله، أي: العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها" قال: قلت: ثم أي؟ قال:
(١) الخازن.
"بر الوالدين" قلت: ثم أي، قال: "الجهاد في سبيل الله". اهـ الشيخان.
وقد افتتح سبحانه هذه الصفات الحميدة، بالصلاة، واختتمها بالصلاة، دلالة على عظيم فضلها، وكبير مناقبها، وقد ورد في الحديث: "إعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"
١٠ - ولما كان الجزاء في الآخرة، نتيجة للعمل في الدنيا، وما فيها من نعيم حصاد، لما زرع فيها، رتب على ذلك قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ المؤمنون الموصوفون بتلك الصفات الحميدة المذكورة ﴿هُمُ الْوَارِثُونَ﴾ منازل أهل النار من الجنة، وعن أبي هريرة قال رسول الله - ﷺ -: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فمن مات ودخل النار.. ورث أهل الجنة منزله، ذلك قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠)﴾ " ذكره البغوي، بغير سند.
وقيل: معنى الوارث: هو أن يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها، ما يؤول أمر الميراث إلى الوارث، والمعنى: أولئك هم الأحقاء بأن يسموا وارثًا، دون من عدا هم، ممن ورث وغائب الأموال، والذخائر، وكرائمها. والوراثة، انتقال مال إليك من غيرك، من غير عقد، ولا ما يجري مجرى العقد وسمى بذلك المتنقل عن الميت،
١١ - فيقال للمال الموروث: ميراث ﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ﴾ بيان لما يرثونه، وتقييد للوراثة بعد إطلاقها وتفسير لها بعد إبهامها، تفخيمًا لشأنها، ورفعًا لمحلها، وهي استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم، حسبما يقتضيه الوعد الكريم، للمبالغة فيه؛ لأن الوراثة، أقوى سبب يقع في ملك الشيء، ولا يتعقبه رد ولا فسخ، ولا إقالة ولا نقض، فيسمى انتقال الجنة إليهم بدون محاسبة ولا معرفة بمقدارها وراثة.
والمعنى: أن من عمل بما ذكر في هذه الآيات، فهو الذي يرث من الجنة ذلك المكان، ولفظ الفردوس لغة رومية معربة، وقيل: فارسية، وقيل: حبشية، وقيل: هي عربية ﴿هُمْ فِيهَا﴾؛ أي: في الفردوس، والتأنيث فيه، مع أنه راجع إلى الفردوس؛ لأنه اسم للجنة، أو لطبقتها العليا، وهو البستان الجامع لأصناف الثمر، روي أنه تعالى، بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وجعل
خلالها المسك الإذفر، وغرس فيها من جيد الفاكهة، وجيد الريحان ﴿خَالِدُونَ﴾؛ أي: ماكثون مكثًا مؤبدًا لا يخرجون منها، ولا يموتون، والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها، من غير اعتراض الكون، والفساد عليها، فإن قيل: كيف حكم على الموصوفين، بالصفات السبعة، بالفلاح مع أنه لم يتمم ذكر العبادات الواجبة، كالصوم والحج؟
فالجواب: أن قوله: ﴿لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ يأتي على جميع الواجبات من الأفعال، والتروك، والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات، لكونها من شرائطها، والحصر إضافي لا حقيقي؛ لأنه ثبت أن الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور، ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو، لقوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ اهـ "كرخي".
وقصارى ما سلف: أن فلاح المؤمن، موقوف على اتصافه بتلك الصفات السامية العالية القدر العظيمة الأثر في حياته الروحية، وكمالاته النفسية، اللهم اجعلنا من الذين يرثون الفردوس، ويتنعمون بنعيمها، ويصلون إلى نسيمها، واحفظنا عن الأسباب المؤدية إلى النار وجسيمها.
١٢ - ولما حثّ سبحانه عباده على العبادة، ووعدهم الفردوس، عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد، ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين، فقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ ذكر الله سبحانه وتعالى: في هذه الآيات من هنا إلى قوله: ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ أربعة أنواع من دلائل قدرته تعالى:
الأول: تقلب الإنسان في أطوار خلقته، وهي تسعة، آخرها قوله: ﴿تُبْعَثُونَ﴾.
الثاني: خلق السماوات.
الثالث: إنزال الماء.
الرابع: منافع الحيوانات وذكر منها أربعة أنواع. اهـ. رازي، واللام فيه: موطئة لقسم محذوف؛ أي: وعزتي وجلالي لقد خلقنا أصل هذا النوع الإنساني، وأول أفراده وهو آدم عليه السلام ﴿مِنْ سُلَالَةٍ﴾ كائنة ﴿مِنْ طِينٍ﴾؛ أي: من صفوة طين.
والخلاصة: سلت واستخرجت، وصفيت من كل تربة، والطين التراب والماء المختلط به.
وفي "التأويلات النجمية" (١) يشير إلى سلالة سلت، واستخرجت من جميع أنواع الأرض، طيبها وسبخها وسهلها وجبلها، باختلاف ألوانها وطبائعها المتفاوتة، ولهذا اختلفت ألوانهم وأخلاقهم؛ لأنه مودع في طبيعتهم ما هو من خواص الطين الذي اختص بخاصية منها نوع من الحيوان، من جنس البهائم والسباع والجوارح والحشرات المؤذيات الغالبة على كل واحد منها صفة من الصفات الذميمة والحميدة.
فأما الذميمة: فكالحرص في الفأرة والنملة، وكالشهوة في العصفور، وكالغضب في الفهد، والأسد، وكالكبر في النمر، وكالبخل في الكلب، وكالشره في الخنزير، وكالحقد في الحية، وغير ذلك من الصفات الذميمة، وأما الحميدة فكالشجاعة في الأسد والسخاوة في الديك، والقناعة في البوم، وكالحلم في الجمل، وكالتواضع في الهرة، وكالوفاء في الكلب، وكالبكور في الغراب، وكالهمة في البازي والسلحفاة، وغير ذلك من الصفات الحميدة، فقد جمعها كلها مع خواصها وطبائعها، ثم أودعها في طينة الإنسان، وهو آدم عليه السلام.
ويروي جماعة من المفسرين (٢): أن المراد بالإنسان هنا، ولد آدم، وهم يقولون: إن النطف تتوالد من الدم الحادث من الأغذية، وهي إما حيوانية، وإما نباتية، والحيوانية تنتهي إلى نباتية، والنبات يتوالد من صفو الأرض والماء، فالإنسان على الحقيقة، متوالد من سلالة من طين، ثم تواردت على تلك السلالة أطوار الخلقة، إلى أن صارت نطفًا.
١٣ - ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: ثم جعلنا نسله ﴿نُطْفَةً﴾؛ أي: نطفًا في أصلاب الآباء، ثم قذفت إلى الأرحام، فصارت محفوظة ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾؛ أي: في حرز حصين من وقت العمل إلى حين الولادة؛ أي: ثم جعلنا السلالة منيًا أربعين يومًا، في
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
مكان حريز، فإن الله تعالى خلق جوهر الإنسان أولًا طينًا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة، في صلب الأب، فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم الأم، فصار الرحم مستقرًا حصينًا لهذه النطفة
١٤ - ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾؛ أي: ثم حولنا النطفة من صفتها الثانية، إلى صفة العلقة، وهي الدم الجامد بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء.
والمعنى (١): أي ثم صيرنا المني الأبيض دمًا جامدًا أربعين يومًا، قيل: كلها تجعل علقة، وقيل: جزء منها، والباقي يوضع نصفه في موضع تربته، والنصف الثاني يوضع في السماء، فإذا أراد الله إحياء الخلق من القبور، أمطرت السماء، فتلاقي النطف النازلة من السماء، النطف الباقية في الأرض، فتوجد الخلائق بينهما، وهذا هو حكمة قوله: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾.
﴿فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً﴾؛ أي: ثم صيرنا ذلك الدم الجامد الأحمر، مضغة؛ أي: لحمًا صغيرًا بمقدار ما يمضغ أربعين يومًا، لا استبانة ولا تمايز فيها ﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ﴾؛ أي: غالبها ومعظمها أو كلها ﴿عِظَامًا﴾؛ أي: فصيرنا اللحم الصغير عظامًا بلا لحم، بعد ثلاث أربعينات بأن صلبناها وجعلناها عمودًا للبدن على هيئات مخصوصة من رأس ورجلين، وما بينهما، وأوضاع مخصوصة تقتضيها الحكمة، أو ميزنا بين أجزائها، فما كان منها: من العناصر الداخلة في تكوين العظام، جعلناه عظامًا، وما كان من مواد اللحم، جعلناه لحمًا، والمواد الغذائية شاملة لذلك، ومنبتة في الدم، ومن ثم قال: ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ﴾ المعهودة ﴿لَحْمًا﴾ من بقية المضغة، وشددناها بالأعصاب، والعروق، فاللحم يستر العظام، كالكسوة؛ أي: كسونا كل عظم من تلك العظام، ما يليق به من اللحم على مقدار لائق به، وهيئات مناسبة له؛ أي: فجعلنا اللحم كسوة لها، من قبل أن يستر العظام، فأشبه الكسوة الساترة للجسم، وجمع العظام لاختلافها.
واختلاف العواطف بالفاء (٢)، و (ثم) لتفاوت الاستحالات، يعني: أن بعضها مستبعد حصوله، مما قبله، وهو المعطوف بـ ﴿ثُمَّ﴾، فجعل الاستبعاد
(١) المراح.
(٢) الفتوحات.
25
عقلًا، أو رتبةً بمنزلة التراخي، والبعد الحسّي؛ لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدًّا، وكذا جعل النطفة البيضاء دمًا أحمرًا، بخلاف جعل الدم لحمًا مشابهًا له في اللون، والصورة، وكذا تصلبها حتى تصير عظمًا؛ لأنه قد يحصل ذلك بالمكث، فيما يشاهد، وكذا مد لحم المضغة عليه؛ ليستره، فسقط ما قيل: إن الوارد في الحديث؛ إن مدة كل استحالة أربعون، وذلك يقتضي عطف الجمع بـ ﴿ثم﴾، إن نظر لآخر المدة، وأولها، أو يقتضي العطف بالفاء إن نظر لآخرها فقط اهـ من "الشهاب"، مع تقديم وتأخير. وهذا في العواطف الخمسة الأولى، وأما قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾، فعطفه بـ ﴿ثم﴾ للتفاوت بين الخلقين، كما في "البيضاوي".
وقرأ الجمهور (١) ﴿عِظَامًا﴾ والعظام: بالجمع فيهما، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفصل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن علي بالإفراد فيهما، وقرأ السلمي وقتادة أيضًا، والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول، وجمع الثاني، وقرأ أبو رجاء إبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضًا بجمع الأول وإفراد الثاني، فالإفراد يراد به الجنس.
﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ﴾؛ أي: صيرنا ذلك المذكور من العظام وكسوته ﴿خَلْقًا آخَرَ﴾؛ أي: خلقًا مباينًا للخلق الأول إذ نفخنا فيه الروح، وجعلناه حيوانًا بعدما كان أشبه بالجماد، ناطقًا سميعًا بصيرًا، وأودعنا فيه من الغرائب ظاهرها، وباطنها ما لا يحصى.
أي: حولنا العظام المستورة باللحم، عن صفاتها، إلى صفة لا يحيط بها شرح الشارحين، فإن الله جعلها حيوانًا ناطقًا سميعًا بصيرًا عاقلًا، وأودع كل جزء من أجزائه، عجائب وغرائب، لا يحيط بها وصف الواصفين، والإنشاء إيجاد الشيء، وتربيته، وأكثر ما يقال ذلك، في الحيوان، و ﴿ثم﴾ هنا لكمال التفاوت
(١) البحر المحيط.
26
بين الخلقين، واحتج به أبو حنيفة رحمه الله، على أن من غصب بيضة، فأفرخت عنده، لزمه ضمان البيضة لا الفرخ، فإنه خلق آخر.
قال في "الأسئلة المقحمة" (١): خلق الله الآدمي أطوارًا، ولو خلقه دفعة واحدة كان أظهر في كمال القدرة، وأبعد عن نسبة الأسباب، فما معناه؟ فالجواب: لا، بل الخلق بعد الخلق، بتقليب الأعيان، واختراع الأشخاص، أظهر في القدرة، فإنه تعالى خلق الآدمي من نطفة متماثلة الأجزاء، ومن أشياء كثيرة، مختلفة المراتب، متفاوتة الدرجات، من لحم وعظم ودم وجلد وشعر وغيرها، ثم خصّ كل جزء منها، بتركيب عجيب، واختصاص غريب من السمع والبصر واللمس والمشي والذوق والشم وغيرها، وهي أبلغ في إظهار كمال الإلهية، والقدرة ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ﴾؛ أي: تزايد بره وخيره، وإحسانه لعباده مرة بعد مرة، وكرة بعد كرة، إن قلنا إنه مأخوذ من البركة، أو تعالى شأنه من علمه الشامل، وقدرته الباهرة ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ بدل من الجلالة؛ أي: أحسن الخالقين خلقًا؛ أي: أحسن المقدرين تقديرًا، حذف المميز لدلالة الخالقين عليه، فالحسن للخلق.
وفي "الأسئلة المقحمة" هذا يدل على أن العبد خالق أفعاله، ويكون الرب أحسن في الخالقية؟ فالجواب معناه: أحسن المصورين لأن المصور يصور الصورة، ويشكلها على صورة المخلوق، أخبر به سبحانه؛ لأنه لا يبلغ في تصويره إلى حدّ الخالق؛ لأنه لن يقدر على أن ينفخ فيها الروح، وقد ورد الخلق في القرآن، بمعنى: التصوير. قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾؛ أي: وإذ تصور فكذلك هاهنا انتهى.
١٥ - ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ﴾ يا بني آدم ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾؛ أي: بعدما ذكر من التركيب بالأمور العجيبة؛ أي: ثم أنكم بعد النشأة الأولى من العدم ﴿لَمَيِّتُونَ﴾؛ أي: لصائرون إلى الموت، لا محالة، كما تؤذن به صيغة فيعل، الدالة على الثبوت، دون الحدوث الذي يفيده صيغة الفاعل.
(١) روح البيان.
وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن (١): ﴿لمائتون﴾ بالألف، يريد حدوث الصفة، فيقال: أنت مائت عن قليل، وميت، ولا يقال: مائت، للذي قد مات، وقال الزمخشري: والفرق بين الميت والمائت، أن الميت، كالحي صفة ثابتةً، وأما المائت، فيدل على الحدوث، تقول: زيد مائت الآن، ومائت غدًا، كقولك: يموت، ومثله: ضيق وضائق، في قوله: ﴿وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ انتهى.
١٦ - ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: عند النفخة الثانية، ﴿تُبْعَثُونَ﴾؛ أي: تخرجون من قبوركم للحساب، ثم المجازاة بالثواب، والعقاب، إذ يوفى كل عامل جراء عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشرّ.
وخلاصة ما تقدم: أنه تعالى بعد أن ذكر أنه كلف عباده بما كلف، بيّن أن هذه التكاليف شكر من الإنسان لربه، الذي أنشأه النشأة الأولى، وقلبه في أطوار مختلفة، حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله، فأصبح قادرًا على. تكليفه بتلك التكاليف، ولا بد له من طور يستحق فيه الجزاء، على ما كلف به، وهو طور البعث بعد الموت يوم القيامة.
١٧ - واللام في قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ﴾ موطئة للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي، خلقنا فوقكم يا أهل الأرض، ﴿سَبْعَ طَرَائِقَ﴾؛ أي: سبع سماوات، وهي طرائق للكواكب وللملائكة، جمع طريقة، كما أن الطرق جمع طريق، والمراد طباق السماوات السبع سميت بالطرائق؟ لأنها طروق بعضها فوق بعض، مطارقة النعل، فإن كل شيء فوق مثله، فهو طريقه؛ أي: لكون بعضها موضوعًا فوق بعض، طاقًا فوق طاق، كمطارقة النعل.
﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ﴾؛ أي: عن ذلك المخلوق، الذي هو السماوات، أو عن المخلوقات، سواء كانت هذه الطرائق أو غيرها ﴿غَافِلِينَ﴾ عن أمرها مهملين لها، بل نحفظها عن الزوال والاختلال، وندبر أمرها حتى تبلغ متتهى ما قدر لها، من الكمال، حسبما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة، إذ تسير الكواكب
(١) البحر المحيط.
في تلك الطرائق، بحساب منتظم، لو أهملناها لاختل توازنها، وسار كل كوكب في غير مداره، أو زل نجم عن سنن سيره، ففسد النظام العام، للعالم العلوي، والعالم الأرضي.
والخلاصة: أنا خلقنا السماوات، لمنافعهم، ولسنا غافلين عن مصالحهم، بل نفيض عليهم ما تقتضيه الحكمة، فخلقها قال على كمال قدرتنا، وتدبير أمرها، قال على كمال علمنا، وقال أكثر المفسرين: المراد بالخلق كلهم؛ أي: لسنا بغافلين عنهم، بل حفظنا السماوات عن أن تسقط، وحفظنا من في الأرض أن تسقط السماء عليهم، فتهلكهم، أو تميد بهم الأرض، أو يهلكون بسبب من الأسباب المستأصلة لهم، ويجوز أن يراد نفي الغفلة عن القيام بمصالحهم، وما يعيشون به، ونفي الغفلة عن خفظهم.
١٨ - ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من السحاب ﴿مَاءً﴾؛ أي: مطرًا ﴿بِقَدَرٍ﴾؛ أي: بقدر الحاجة لا هو بالكثير، فيفسد الأرض، ولا هو بالقليل، فلا يكفي الزرع، والثمار (١)، حتى إن الأرضين التي تحتاج إلى ماء كثير لزرعها، ولا تحتمل تربتها إنزال المطر عليها، يساق إليها الماء من بلاد أخرى، كما في أرض مصر، ويقال: لمثلها ﴿الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ فيساق إليها ماء النيل، حاملًا معه الطين الأحمر، يجترفه من بلاد الحبشة، في زمن الأمطار، فيستقر فيها، ويكون سمادًا لها، ونافعًا لزرعها ﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: فجعلنا ذلك الماء، النازل من السماء، ثابتًا قارًا في الأرض، فيتغذى به، فهما من الحب والنوى، ومنه تتكون الآبار والعيون، التي تمر على معادن مختلفة، فتتشكل، وتتصف بصفاتها، فيكون ماؤها حاويًا، إما للنشادر، وإما للكبريت، وإما للأملاح، وهكذا ﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ﴾؛ أي: على إذهابه وإزالته بالإفساد، أو التصعيد أو التغوير ﴿لَقَادِرُونَ﴾ بحيث يتعذر استخراجه، حتى تهلكوا أنتم، ومواشيكم عطشًا، كما كنا قادرين على إنزاله، ولو شئنا أن لا يمطر السحاب لفعلنا، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى جهات أخرى، لا تستفيدون منه، كالأراضي السبخة، والصحارى، ولو شئنا لجعلناه إذا نزل في
(١) المراغي.
الأرض يغور فيها، إلى مدى بعيد، لا تصلون إليه، ولا تنتفعون به، ولكن بلطفنا، ورحمتنا، ننزل عليكم الماء العذب الفرات، ونسكنه في الأرض، ونسلكه ينابيع فيها، لتسقوا به الزرع، والثمار، وتشربوا منه أنتم ودوابكم وأنعامكم.
وفي هذا تهديد شديد، لما يدل عليه، من قدرته سبحانه على إذهابه، وتغويره، حتى يهلك الناس بالعطش، وتهلك مواشيهم، ومثله قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (٣٠)﴾.
١٩ - ثم بيّن سبحانه ما يتسبب عن إنزال الماء، فقال: ﴿فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ﴾؛ أي: فأخرجنا لكم من الأرض به؛ أي: بسبب ذلك الماء، الذي أنزلناه من السماء ﴿جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾؛ أي: بساتين فيها نخيل، وأعناب، إنما ذكرهما الله سبحانه لكثرة منافعهما، فإنهما يقومان مقام الطعام، ومقام الإدام، ومقام الفواكه، رطبًا ويابسًا، وقال ابن جرير: اقتصر سبحانه، على النخيل والأعناب؛ لأنها الموجودة بالطائف والمدينة، وما يتصل بذلك، وقيل: لأنها أشرف الأشجار ثمرةً وأطيبها منفعةً، وطعمًا ولذَّةً ﴿لَكُمْ فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الجنات ﴿فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ﴾ من أنواع شتى، تتفكهون بها، وتتطعمون منها، زيادةً على ثمرات النخيل، والأعناب: كالزيتون والرمان، والتفاح والموز، وغيرها.
وقد اختلف أهل الفقه في لفظ الفاكهة، على ماذا يطلق؟ اختلافًا كثيرًا، وأحسن ما قيل: إنها تطلق على الثمرات التي يأكلها الناس، وليست بقوت لهم، ولا طعام، ولا إدام، واختلف في البقول، هل تدخل في الفاكهة أم لا؟ ﴿وَمِنْهَا﴾؛ أي: ومن تلك الجنات حبوبها وثمارها ﴿تَأْكُلُونَ﴾ تغذيًا، أو ترزقون، وتحصلون معايشكم من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن تجارة يتربح بها.
٢٠ - ﴿وَشَجَرَةً﴾ بالنصب عطف على جنات، وتخصيصها (١) بالذكر من بين سائر الأشجار، لاستقلالها بمنافع معروفة، قيل: هي أول شجرة، نبتت بعد الطوفان، وهي شجرة الزيتون، قال في "إنسان العيون": شجرة الزيتون، تعمر ثلاثة آلاف
(١) روح البيان.
30
سنة؛ أي: وأنشأنا لكم زيتونة ﴿تَخْرُجُ﴾ وتنبت ﴿مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ﴾ هو جبل بين مصر وأيلة نودي عليه موسى عليه السلام ﴿تَنْبُتُ﴾ تلك الشجرة، صفة ثانية لشجرة، والباء في قوله: ﴿بِالدُّهْنِ﴾ للملابسة متعلّقة بمحذوف حال من الشجرة؛ أي: تنبت تلك الشجرة، حالة كونها متلبسة بالدهن، مستصحبة بالدهن، كما قال الراغب معناه: تنبت والدهن موجود فيها بالقوة، ويجوز كون الباء صلة معدية لتنبت، كما في قولك: ذهبت بزيد؛ أي: تنبت الدهن بمعنى: تتضمنه وتحصله، فإن النبات حقيقةً، صفة للشجرة لا للدهن، ﴿وَصِبْغٍ﴾ معطوف على الدهن، جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر؛ أي: إدام ﴿لِلْآكِلِينَ﴾ من قولهم: اصطبغت بالخل؛ أي: تأدمت به؛ أي: تنبت الشجرة بالشيء الجامع بين كونه دهنًا يدهن به، ويسرج منه، وكونه إدامًا يصبغ فيه الخبز؛ أي: يغمس للائتدام ويلون به، كالدبس والخل مثلًا، وأصل الصبغ ما يلون به الثوب، وشبه الإدام به؛ لأن الخبز يكون بالإدام كالمصبوغ به.
والمعنى (١): أي وأنشأنا لكم شجرة الزيتون، التي تنبت في الجبل، بتلك البقعة المباركة، وتثمر زيتونًا تصنع منه الزيوت، التي يدهن بها وتتخذ إدامًا للآكلين.
ذكر تعالى شرف مقر هذه الشجرة، وهو الجبل الذي كلم الله فيه نجيه موسى عليه السلام، ثم ذكر ما فيها من الدهن، والصبغ، ووصفها بالبركة في قوله: ﴿مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾ وهي كثيرة بالشام، وقال الجمهور: سيناء اسم الجبل، كما تقول جبل أحد، من إضافة العام إلى الخاص، وقال مجاهد: معنى سيناء مبارك، وقال قتادة معناه: الحسن، والقولان عن ابن عباس، وقيل: سيناء: اسم حجارة بعينها، أضيف الجبل إليها لوجودها عنده، قاله مجاهد أيضًا.
وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - وأبو عمرو والحسن بكسر السين، وهي لغة لبني كنانة، وقرأ عمر بن الخطاب وباقي السبعة بالفتح، وهي لغة سائر العرب، وقرىء ﴿سينا﴾ مقصورًا، وبفتح السين، والأصح أن سيناء اسم بقعة،
(١) المراغي.
31
وأنه ليس مشتقًا من السناء، لاختلاف المادتين، على تقدير أن يكون سيناء عربي الوضع؛ لأن نون السناء عين الكلمة، وعين سيناء ياء، وقرأ الجمهور: ﴿تَنْبُتُ﴾ بفتح التاء وضم الباء، والباء في بالدهن على هذا باء الحال؛ أي: تنبت مصحوبة بالدهن ومعها الدهن، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري بضم التاء وكسر الباء، فقيل: بالدهن، مفعول، والباء زائدة والتقدير: تنبت الدهن وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز: بضم التاء وفتح الباء مبنيًّا للمفعول، ﴿وَبِالدُّهْنِ﴾ حال، وقرأ زرّ بن حبيش بضم التاء وكسر الباء ﴿الدُّهْنِ﴾. بالنصب، وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب: ﴿بالدهان﴾ بالألف وما رووا (١) من قراءة عبد الله يخرج الدهن، وقراءة أبيّ ﴿تثمر بالدهن﴾، محمول على التفسير، لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه، ولأن الرواية الثانية عنهما كقراءة الجمهور، وقرأ الأعمش ﴿وصبغًا﴾ بالنصب، وقرأ عامر بن عبد الله، ﴿وصباغ﴾ بالألف، وقرأ عامر بن عبد قيس ﴿ومتاعًا للآكلين﴾ كأنه يريد تفسير الصبغ.
٢١ - ﴿إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ﴾؛ أي: وإن لكم أيها الناس في خلق الأنعام من الإبل والبقر والغنم ﴿لَعِبْرَةً﴾؛ أي: لعظة واية تعتبرون بحالها، وتستدلون على عظيم قدرة خالقها، ولطف حكمته، فضلًا عن كونها نعمة، وخص الأنعام بالعبرة دون النبات؛ لأن العبرة فيها أظهر. انتهى "أبو السعود". ووجه العبرة فيها (٢): أن الدم المتوالد من الأغذية يتحول في الغدد التي في الضرع إلى شراب طيب لذيد الطعم، صالح للتغذية، وهذا من أظهر الدلائل على قدرة الخالق لها.
وهذه من جملة النعم التي امتن الله بها عليهم، وقد تقدم تفسير الأنعام، في سورة النحل بالإبل والبقرة والغنم. قال النيسابوري في "تفسيره": ولعل القصد بالأنعام هنا خصوص الإبل؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة، ولأنه قرنها بالفلك، وهي سفائن البر، كما أن الفلك سفائن البحر، وبين سبحانه أنها عبرة؛ لأنها مما يستدل بخلقها وأحوالها على عظيم القدرة الإلهية، ثم فصل منافعها، وذكر منها أربعة، فقال:
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
32
١ - ﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا﴾ فتنتفعون بألبانها على ضروب شتى، فتتخذون منها الزبدة والسمن والجبن، والأقط ونحوها.
و (ما) (١) عبارة إما عن الألبان، فـ (من) تبعيضية، والمراد بالبطون الجوف، أو عن العلف، الذي يتكون منه اللبن، فـ (من) ابتدائية، والبطون على حقيقتها، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم، ﴿نسقيكم﴾ بفتح النون، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: بضمها، وقرىء: بالتاء الفوقية، على أن الفاعل هو الأنعام، فإن قلت: لم قال هنا: ﴿فِي بُطُونِهَا﴾ بالتأنيث، وقال في سورة النحل: ﴿فِي بُطُونِهِ﴾ بالتذكير فما الفرق بين الموضعين؟
قلت: يفرق بينها، بأن ما في النحل يراد به الإناث فقط، والتقدير: وإن لكم في بعض الأنعام، وذلك البعض هو الإناث فأتى بالضمير مفردًا مذكرًا، وأما في المؤمنون فالمراد منه الكل الشامل للإناث والذكور، بدليل العطف في قوله: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ فإن هذا لا يخص الإناث وهذا العطف لم يذكر في النحل، اهـ "كرماني" وقال زكريا في "متشابه القرآن" ذكره هنا بلفظ الجمع؛ لأنه راجع للأنعام، مرادًا بها الجمع وفي النحل، قال: ﴿مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ بالإفراد نظرًا إلى أن الأنعام اسم مفرد، انتهى.
والمعنى: أي تنتفعون بلبنها في الشرب وغيره، ووجه الاعتبار في اللبن، أنه يجتمع في الضرع ويتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى، فيستحيل إلى طهارة ولون وطعم، موافق للشهوة، ويصير غذاءً، فهذا اللبن الذي يخرج من بطونها إلى ضرعها، تجده شرابًا طيبًا نافعًا للبدن، وإذا دبحتها لم تجد له أثرًا، فمن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته، كان ذلك معدودًا من النعم الدينية، ومن انتفع به كان معدودًا من النعم الدنيوية.
٢ - ﴿وَلَكُمْ﴾ أيها الناس ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الأنعام ﴿مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ﴾ غير ما ذكر، فتأخذون أصوافها وأشعارها وأوبارها وتتخذونها ملابس وفرشًا للدفء، وبيوتًا في الصحارى ونحوها مما يجري هذا المجرى، وتنتفعون بثمنها وأجرتها.
(١) روح البيان.
33
٣ - ﴿وَمِنْهَا﴾؛ أي: ومن الأنعام بعد ذبحها ﴿تَأْكُلُونَ﴾ فكما انتفعتم بها، وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.
٤ - ٢٢ ﴿وَعَلَيْهَا﴾؛ أي: وعلى الأنعام؛ أي: بعضها وهي الإبل ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾؛ أي: السفن ﴿تُحْمَلُونَ﴾؛ أي: وتركبون ظهورها وتحملونها الأحمال الثقيلة إلى البلاد النائية، كما قال في آية أخرى ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾ وقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٧٣)﴾.
وقصارى ذلك (١): أن في خلق الأنعام عبرًا ونعمًا من وجوه شتى، ففيه دلائل على قدرة الخالق بخلق الألبان، من مصادر هي أبعدما تكون منها ونعمًا لنا في مرافقها وأعيانها فننتفع بألبانها، وأصوافها ولحمها، ونجعلها مطايا لنا في أسفارنا، إلى نحو أولئك من شتى المنافع، وإنما لم يقل (٢): وفي الفلك، كقوله: ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا﴾؛ لأن معنى الإبعاد ومعنى الاستعلاء، كلاهما مستقيم؛ لأن الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له، يستعليها، فلما صح المعنيان، صحت العبارتان، وأيضًا هو يطابق قوله عليها، ويزاوجه كذا في "بحر العلوم".
٢٣ - ولما ذكر سبحانه الفلك، أتبعه بذكر نوح؛ لأنه أول من صنعه وذكر ما صنعه قوم نوح معه، بسبب إهمالهم للتفكر في مخلوقات الله سبحانه، والتذكر لنعمه عليهم، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ واللام فيه موطئة لقسم محذوف، وتصدير القصة به لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه، وهم جميعُ أهل الأرض.
وهذا (٣) شروع في ذكر خمس قصص، غير قصة خلق آدم، فتكون معها ستًا:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الفتوحات.
34
الأولى: قصة نوح، وهذا أولها.
الثانية: قصة هود، أولها قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٣١)﴾.
والثالثة: قصة القرون الآخرين، أولها قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢)﴾.
والرابعة: قصة موسى وهارون، المذكورة بقوله: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا﴾.. إلخ.
والخامسة: قصة عيسى وأمه المذكورة، بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ﴾ إلى قوله: ﴿ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾.
ونوح لقبه، واسمه قيل: عبد الغفار، وقيل: عبد الله على ما قاله السيوطي، وقيل: يشكر على ما قاله الرازي، وعاش نوح من العمر ألف سنة وخمسين عامًا، وأرسل على رأس الأربعين، ومكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين، وعاش بعد الطوفان ستين سنةً، وجاء في قصيدة جمال الدين (١):
مِنْ كَثِيْرِ الذَّنْبِ نُوْحُوْا نَوْحَ نُوْحٍ فِيْ الرُّسُلْ
إِنَّهُ عُمْرًا طَوِيْـ ـلًا مِنْ قَلِيْلِ النُّطْقِ نَاحْ
وهو أنه عليه السلام مر على كلب به جرب، فقال: بئس الكلب هذا، ثم ندم، فناح من أول عمره إلى آخره، وقدمت قصته، لتتصل بقصة آدم المذكورة، بقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)﴾.. إلخ للمناسبة بين نوح وآدم، من حيث إنه؛ أي: نوحًا آدم الثاني؛ لانحصار النوع الإنساني بعده في نسله ﴿فَقَالَ﴾ نوح داعيًا لهم إلى التوحيد ﴿يَا قَوْمِ﴾؛ أي: يا قومي ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾؛ أي: أعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا، وجملة قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ واقعة موقع التعليل لما قبلها؛ أي: ما لكم في الوجود، أو في العالم إله غير الله، فـ ﴿غيرُ﴾ بالرفع صفة لـ ﴿إله﴾ باعتبار محله، الذي هو الرفع، على أنه مبتدأ،
(١) روح البيان.
35
وخبره ﴿لَكُمْ﴾ و ﴿مِنْ﴾ زائدة. وقرأ الكسائي بالجر، لـ ﴿غَيْرُهُ﴾، اعتبارًا للفظ إله، والمعنى (١)؛ أي: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه، منذرًا لهم عذاب الله، وشديد بأسه وانتقامه على إشراكهم به، وتكذيب رسوله، فقال لهم متعطفًا عليهم مستميلًا لهم لقبول الحق، يا قوم اعبدوا الله وحده، وأطيعوه ولا تشركوا معه ربًا سواه، فإنه لا رب لكم غيره، ولا معبود لكم سواه.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾؛ لإنكار الواقع، واستقباحه، داخلة على محذوف يستدعيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تعرفون ذلك؛ أي: مضمون قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾، فلا تتقون ولا تخافون عذابه، بسبب إشراككم به، في العبادة ما لا يستحق الوجود، لولا إيجاد الله إياه، فضلًا عن استحقاق العبادة، فالمنكر عدم الاتقاء مع تحقيق ما يوجبه.
والخلاصة: أي أفلا تخشون عقابه فتحذروا أن تعبدوا معه سواه.
٢٤ - ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ﴾؛ أي: الأشراف والسادة ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾؛ أي: من قوم نوح؛ أي (٢): قالوا لعوامهم مبالغةً في وضع الرتبة العالية، وحطها عن منصب النبوة: ﴿مَا هَذَا﴾ الشيخ يعنون نوحًا ﴿إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾؛ أي: في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه ﴿يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ﴾ ويتشرف ﴿عَلَيْكُمْ﴾ ويتقدمكم بادعاء الرسالة، مع كونه مثلكم؛ أي: يطلب أن يتشرف عليكم، فيكون أفضل منكم؛ بأن يكون متبوعًا، وتكونوا له تبعًا، وصفوه بذلك إغضابًا للمخاطبين عليه، وإغراءً على معاداته، والمعنى؛ أي (٣): فقال أشراف قومه ورؤساؤهم من العريقين في الكفر ومن ذوي الكلمة المسموعة والرأي المطاع: ما نوح إلا رجل منكم، ليس له ميزة عليكم في فضل، ولا خلق، فيكون أهلًا للنبوة، وتلقي الوحي من ربه، وما هو إلا رجل يريد أن يسودكم، ويكون له الصولة والسلطان عليكم، وقد ادعى الرسالة؛ ليصل إلى ما تصبو إليه نفسه،
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وليس له من حقيقتها شيء، وبعد أن بيّنوا أن لا مقتضى لاختصاصه بالنبوة.. ذكروا الموانع التي تحول بينه وبينها، فذكروا أمورًا ثلاثة:
١ - ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه إرسال رسول إلينا، أو لو شاء الله أن لا نعبد سواه ﴿لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً﴾؛ أي: لأرسل رسلًا من الملائكة يدعونكم إلى ما دعاكم نوح إليه، وإنما قيل: ﴿لَأَنْزَلَ﴾؛ لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال، ومفعول المئتية محذوف، كما قدرناه.
٢ - ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا﴾؛ أي: بمثل هذا الكلام الذي هو الأمر بعبادة الله، خاصة ﴿فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: الماضين قبل بعثته؛ أي: ما سمعنا في القرون الغابرة عهود الآباء والأجداد، بمثل هذا الذي يدعو إليه نوح من أنه: لا إله إلا إله واحد لا رب غيره، ولا معبود سواه، وفي هذا إيماء إلى أنهم قوم لا رأي لهم، وإنما يعولون على التقليد، وقول الآباء والأجداد، فلما لم يجدوا عن آبائهم شيئًا مثل هذا أنكروا نبوته، وفيه إشارة أيضًا إلى أنهم قد بلغوا الغاية في العناد، والتكذيب والانهماك في الغيّ والضلال.
٣ - ٢٥ ﴿إِنْ هُوَ﴾؛ أي: ما هو؛ أي: ما نوح ﴿إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾؛ أي: جنون، ولذلك يقول ما يقول؛ أي: وما نوح إلا رجل به خبل ونقص في عقله، فمزاعمه لا تصدر إلا من رجلٍ لا يزن قوله، ولا يدعم رأيه بحجة ناصعة، فلا يلتفت إذًا إلى ما يدعي، ولا ينبغي أن نضيع الوقت في محاجته، ودحض مزاعمه في صدق دعوته، وبعد أن ذكروا موانع نبوته.. ذكروا الطريق المثلى في إبطال دعوته، فقالوا: ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ﴾؛ أي: فاصبروا عليه، وانتظروا به ﴿حَتَّى حِينٍ﴾؛ أي: إلى وقت يفيق فيه من الجنون؛ أي: أخروا شأنه حتى يتبين أمره؛ بأن يفيق من جنونه، فيترك هذه الدعوى، ويرجع من تلقاء نفسه إلى دينكم، ودين آبائكم وأجدادكم، أو حتى يموت فتستريحوا منه، وهذا من مكابرتهم، لفرط عنادهم، إذ هم يعلمون أنه أرجح الناس عقلًا وأرزنهم قولًا.
ولم يرد سبحانه على هذه الشبه لسخافتها، ووضوح فسادها، إذ كل عاقل يعلم أن الرسول يتميز عن غيره بالمعجزات التي تأتي على يديه، سواء كان ملكًا أم بشرًا.
وإرادته التفضيل عليهم، من كانت لأجل أو يَتبين فضله حتى ينقادوا، فلا ضير في ذلك، بل هو واجب، وإن أرادوا أنه يبغي التجبر عليهم فالأنبياء منزهون عز ذلك، وقولهم: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ اعتناق للتقليد، وهو لا يصلح حجة تدفع بها يحيى المعارضين الواضحة، وضوح الشمس في رائعة النهار، وقولهم: ﴿بِهِ جِنَّةٌ﴾ كذب صراح؛ لأنهم يعلمون ذكاءه وعظيم فطنته، وما أوتيه أو أصالة الرأي وثاقب الفكر.
٢٦ - ولما استبان لنوح إصرارهم على ضلالتهم، وتماديهم في غيهم، وبأسه أو إيمانهم، وأوحي إليه أنه لن يؤمن أو قومك، إلا أو قد آمن.. طلب إلى ربه أو ينصره عليهم، و ﴿قَالَ﴾ نوح يا رب ﴿رَبِّ انْصُرْنِي﴾ عليهم فانتقم منهم بما تشاء، وكيف تريد، والباء في قوله: ﴿بِمَا كَذَّبُونِ﴾؛ في: بسبب تكذيبهم إياي؛ في: رب انصرني بإنجاز ما أوعدتهم به أو العذاب، بقولي: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، وقال الزمخشري (١): في بدل (ما كذبون) على أو الباء للبدل، كما تقول: هذا بذاك؛ في: بدل ذاك ومكانه.
والمعنى: أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم. وقرأ أبي جعفر وابن محيصن ﴿قَالَ رَبِّ﴾ بضم الباء.
٢٧ - وقد أجاب الله سبحانه دعاءه فقال: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ عند ذلك؛ في: فأعلمناه في خفاء فإن الإيحاء والوحي، إعلام في خفاء ﴿أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ﴾ واعملها، (أن) مفسّرة لما في الوحي أو معنى القول، والصنع إجادة الفعل؛ أي: فقلنا له، بين استنصرنا على كفرة قومه، بواسطة جبريل: اصنع السفينة، واعملها حالة كونك متلبسًا ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ وحفظنا ورعايتنا، نحفظك من أن تخطىء في صنعته، أيُّ يفسده عليك مفسد، يقال: فلان بعيني؛ في: أحفظه وأراعيه، كقولك: هو منى بمرأى ومسمع ﴿وَ﴾ ملتبسًا بـ ﴿وَحْيِنَا﴾؛ في: بأمرنا وتعليمنا إياك، كيفية صنعها، فإن الله أرسل إليه جبريل، فعلمه صنعتها وصنعها في عامين، وجعل طولها ثمانين ذراعًا وعرضها خمسين، وارتفاعها ثلاثين ذراعًا، والذراع
(١) البحر المحيط.
38
إلى المنكب، وهذا أشهر الروايات.
وقيل غير ذلك، وقد تقدم في هود، أنه جعلها ثلاث طباق: السفلى للسباع، والهوامّ، والوسطى للدواب والأنعام، والعليا للإنس، والفاء في قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ لترتيب (١) ما بعدها على ما قبلها، أو صنع الفلك، وقيل: الفاء استثنافية؛ في: فإذا اقترب وقت قضائنا بعذابهم، عقب تمام صنعة الفلك ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ عطف بيان لمجيء الأمر؛ أي: ونبع التنور الماء على خرق العادة؛ أي: المخبز الذي كان لآدم، فصار إلى نوح عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام وكان في موضع مسجد الكوفة، عن يمين الداخل أو باب كندة اليوم وقيل: كان في عين وردة من الشام. أو المعنى: ونبع الماء أو وجه الأرض، وظاهرها، وروي أنه قيل له عليه السلام: إذا فار الماء من التنور.. اركب أنت ومن معك، فلما نبع مثله الماء، أخبرته امرأته فركبوا ﴿فَاسْلُكْ فِيهَا﴾؛ في: فأدخل في الفلك ﴿مِنْ كُلٍّ﴾ حيوان غير البشر، حضر في هذا الوقت، أو السباع والطير وغيرهما، أو كل ما يلد، أو يبيض، بخلاف ما يلد من العفونات، كالدود والبق، فلم يحمله فيها، وفي القصة (٢) أو الله تعالى حشر لنوح السباع والطير وغيرهما، فجعل يضرب بيديه في كل نوع، فتقع يده اليمنى على الذكر، واليسرى على الأنثى، فيحملهما في السفينة ﴿زَوْجَيْنِ﴾؛ أي: فردين مزدوجين ذكرًا وأنثى؛ لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان، ﴿اثْنَيْنِ﴾ تأكيد لزوجين، وقرأ حفص بتنوين كل، ﴿فزوجين﴾، مفعول به، و ﴿اثْنَيْنِ﴾ تأكيد له؛ في: أدخل من كل نوع زوجين، وقرأ الباقون: بغير تنوين، فـ ﴿اثنين﴾ مفعول به ﴿وَأَهْلَكَ﴾ منصوب بفعل محذوف، معطوف على ﴿فَاسْلُكْ﴾ لا بالعطف (٣)، على زوجين، أو على ﴿اثنين﴾ على القراءتين؛ لأدائه إلى اختلاف المعنى، والتقدير: واسلك أهلك، والمراد: امرأته المؤمنة، وبنوه الثلاثة المؤمنون، سام أبو العرب، وحام أبو
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
39
السودان، ويافث أبو الترك، وتأخير الأهل (١)؛ لما فيه أو ضرب تفضيل بذكر الاستثناء وغيره.
أي: وأدخل في الفلك أهل بيتك من زوجك وأولادك، أو ومن آمن معك ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ﴾ في الأزل ﴿الْقَوْلُ﴾ والقضاء بالإهلاك حالة كونه كائنًا ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أهل بيتك، وهما ولده كنعان وأمه واعلة، فإنهما كانا كافرين، أو من سائر الكفرة، وإنما جيء بعلى؛ لكون السابق ضارًا، كما جيء باللام في قوله: ﴿سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾؛ لكونه نافعًا.
والمعنى: أي فإذا جاء وقت قضائنا على قومك، بعذابهم وإهلاكهم، ونبع الماء من المخبز، أو من وجه الأرض، فأدخل في السفينة أو كل جنس أو الحيوان فردين مزدوجين، كناقة وجمل وحصان ورمكة، وأدخل زوجتك المؤمنة، وأولادك ونساءهم، إلا من سبق عليه القول منا، بأنه هالك فيمن يهلك، فلا تحمله معك، وهو كنعان وأمه، وكانا كافرين ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي﴾؛ في: ولا تكلمني يا نوح ﴿فِي﴾ شأن ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالكفر، بالدعاء لإنجائهم؛ أي: لا تسألني أن أنجي الذين كفروا بالله، من الغرق ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ تعليل للنهي قبله؛ أي: مقضي عليهم بالإغراق بالطوفان، لا محالة لظلمهم بالإشراك، وسائر المعاصي، ومن هذا شأنه لا يشفع له، ولا يشفع فيه، كيف لا؟
٢٨ - وقد أمر بالحمد على النجاة منهم.. بإهلاكهم بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ﴾ وعلوت ﴿أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ﴾ من أهلك وأتباعك ﴿عَلَى الْفُلْكِ﴾ والسفينة واطمأننت فيها، راكبين عليها.. ﴿فَقُلِ﴾ يا نوح ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾؛ أي: الشكر الكامل، والثناء الجميل، لله سبحانه، تبارك وتعالى ﴿الَّذِي نَجَّانَا﴾ معاشر المؤمنين ﴿مِنَ﴾ شر ﴿الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ وإذايتهم؛ أي: حال بيننا وبينهم، وخلصنا منهم بإغراقهم، وإنما (٢) جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاةً أو الغرق جزمًا؛ لأنه قد سبق أو ذلك سبب نجاتهم أو الظلمة، وسلامتهم من أن يصابوا بما أصيبوا أو العذاب وإفراده بالذكر مع شركة الكل في الاستواء والنجاة.. لإظهار فضله، والإشعار بأن في دعائه وثنائه مندوحة عما عداه.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكانى.
والمعنى: أي فإذا اطماننت في السفينة أنت ومن معك، ممن حملته من أهلك وأتباعك، فقل: الحمد لله الذي نجانا من هؤلاء المشركين الظلمة، وفي هذا إيماء إلى أنه لا ينبغي المسرة بمصيبة أحد ولو عدوًا إلا إذا اشتملت على دفع ضرره، أو تطهير الأرض من دنس شركه وضلاله.
قال ابن عباس: كان في السفينة ثمانون إنسانًا نوح وامرأته غير التي غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم، واثنان وسبعون إنسانًا، وكل الخلائق من نسل من كان معه في السفينة.
٢٩ - ثم أمره أن يسأل ربه ما هو أنفع له، وأتمّ فائدةً فقال: ﴿وَقُلْ﴾ يا نوح، حين ركبت على السفينة، أو حين خرجت منها، واستوت على الجودي، وكان يوم عاشوراء، وابتداء ركوبه السفينة كان لعشر خلون من رجب فكان مدة مكثهم في السفينة ستة أشهر ﴿رَبِّ أَنْزِلْنِي﴾ في السفينة أو في الأرض ﴿مُنْزَلًا مُبَارَكًا﴾؛ أي: مكانًا ذا بركة وخير كثير، وهو نفس السفينة؛ لأن من ركبها خلصته من الغرق، أو وجه الأرض، وأراد بالبركة: كثرة النسل والرزق، أو كثرة الماء والأشجار فيه، قيل: أمره الله سبحانه بأن يقول هذا القول عند دخوله السفينة، وقيل: عند خروجه منها، وفي الآية، تعليم من الله لعباده، إذا ركبوا ثم نزلوا بأن يقولوا، هذا القول، والعبرة (١) بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فهذا الدعاء ينبغي قراءته لكل من نزل في محل، يريد الإقامة فيه.
وقرأ الجمهور (٢) ﴿منزلًا﴾ بضم الميم وفتح الزاي، فجاز أن يكون مصدرًا ومكانًا؛ أي: إنزالًا مباركًا أو مكانًا مباركًا، وقرأ أبو بكر عن عاصم والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة، وأبان وزر بن حبيش ﴿منزلًا﴾ بفتح المين وكسر الزاي على أنه اسم مكان؛ أي: مكانًا مباركًا.
والمعنى: أي وقيل إذا سلمت وخرجت من السفينة رب أنزلني منزلًا مباركًا، واْنت خير المنزلين؛ أي: وأنت خير من أنزل عباده المنازل في الدنيا
(١) الصاوي.
(٢) البحر المحيط.
والآخرة، وقد أجاب الله دعاءه، حيث قال: ﴿اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ﴾ فبارك فيهم بعد إنزالهم من السفينة، حتى كان جميع الخلق من نسل نوح ومن معه في السفينة.
والمعنى: أنه قد يكون الإنزال من غير الله، كما يكون من الله سبحانه، فحسن أن يقول: وأنت خير المنزلين؛ لأنه يحفظ من أنزله، ويكلوه في سائر أحواله، ويدفع عنه المكاره، بخلاف منزل الضيف، فإنه لا يقدر على ذلك
٣٠ - ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور من قصة نوح، وقومه من إنجائه اغراقهم، والخطاب فيه للرسول - ﷺ - ﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: لدلالات تدل على كمال قدرتنا، وعلامات يستدل بها، على عظيم شأننا (١)، فإن إظهار تلك المياه العظيمة، ثم الإذهاب بها، لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق ما قال نوح عليه السلام، يدل على المعجز العظيم، وإفناء الكفار، وبقاء الأرض لأهل الدين، من أعظم أنواع العبر في الدعاء، إلى الإيمان، والزجر عن الكفر.
﴿وَإِنْ كُنَّا﴾؛ أي: وإن الشأن كنا ﴿لَمُبْتَلِينَ﴾؛ أي: لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم، هو الطوفان، مختبرين به عبادنا فيما بعد، لننظر من يتذكر ويتعظ، أو لمختبرين لهم بإرسال نوح إليهم، ليظهر المطيع والعاصي للناس، أو للملائكة، فـ ﴿إِنَّ﴾ مخففة من الثقيلة، واللام فارقة، والمعنى: وإننا كنا معاملين قوم نوح، معاملة المختبر، لننظر هل يتبعونه، ويتعظون بوعظه، أم لا وقيل: ﴿إِنَّ﴾ نافية واللام بمعنى: إلا؛ أي: وما كنا إلا مبتلين، كما في "السمين".
والمعنى: أي وقل: إذا سلمت وخرجت في السفينة: رب أنزلني من الأرض منزلًا مباركًا، وأنت خير من أنزل عباده المنازل الكريمة، في الدنيا والآخرة.
قال قتادة: علمكم الله أن تقولوا حين ركوب السفينة: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ وحين ركوب الدابة ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾
(١) المراح.
42
وحين النزول ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)﴾؛ أي: إن فيما فعلنا بقوم نوح، من إهلاكهم، إذ كذبوا رسولنا، وجحدوا وحدانيتنا، وعبدوا الآلهة والأصنام، لعبرًا لقومك، من مشركي قريش، وحججًا لنا عليهم، يستدلون بها سنننا في أمثالهم، فينزجرون عن كفرهم، ويرتدون عن تكذيبهم، حذر أن يصيبهم مثل الذي أصاب من قبلهم، من العذاب، وقد كنا مختبريهم بالتذكير، بهذه الآيات، لننظر ماذا يفعلون، قبل أن ينزل بهم عقوبتنا، ونحو الآية قوله: ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر (١٥)﴾ وقد تقدم هذا القصص بتفصيل في سورة هود عليه السلام.
الإعراب
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤)﴾.
﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع، صفة لـ ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿فِي صَلَاتِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَاشِعُونَ﴾ قدم عليه للاهتمام به، وحسنه كون متعلقه، فأصله ﴿خَاشِعُونَ﴾: خبر المبتدأ والجملة صلة الموصول. ﴿وَالَّذِينَ﴾ في محل الرفع، معطوف على الموصول الأول، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿عَنِ اللَّغْو﴾: متعلق بما بعده ﴿مُعْرِضُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول ﴿هُمْ﴾ مبتدأ ﴿لِلزَّكَاةِ﴾ متعلق بما بعده، وضمن ﴿فَاعِلُونَ﴾ معنى مؤدون، وقيل: (اللام): زائدة في المفعول به، لتقدمه على عامله ﴿فَاعِلُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول ﴿هُمْ﴾ مبتدأ ﴿لِفُرُوجِهِمْ﴾ متعلق بما بعده ﴿حَافِظُونَ﴾: خبر المبتدأ والجملة صلة الموصول ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿عَلَى﴾ حرف جر بمعنى من ﴿أَزْوَاجِهِمْ﴾ مجرور بـ ﴿عَلَى﴾: الجار
43
والمجرور، متعلق بـ ﴿حَافِظُونَ﴾. وفي "السمين" قوله: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ﴾ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه متعلق بـ ﴿حَافِظُونَ﴾ على تضمين معنى ممسكين، أو قاصرين، وكلاهما يتعدى بـ ﴿عَلَى﴾ قال تعالى: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾.
الثاني: أن ﴿عَلَى﴾، بمعنى من؛ أي: إلا من أزواجهم، فـ ﴿عَلَى﴾ بمعنى: من، كما جاءت ﴿مِنَ﴾، بمعنى: على في قوله: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ﴾. وإليه ذهب الفراء.
الثالث: أن يكون في موضع نصب على الحال، قال الزمخشري؛ أي: إلا والين أو قوامين عليهم من قولك: كان فلان على فلانة، فمات عنها، فخلف عليها فلان، ونظيره كان زياد على البصرة؛ أي: واليًا عليها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان، ومن ثم سميت المرأة فراشًا.
الرابع: أن يتعلق بمحذوف، يدل عليه، غير ملومين، قال الزمخشري: وكأنه قيل يلامون إلا على أزواجهم؛ أي: يلامون على كل مباشرة إلا على ما أحل لهم، فإنهم غير ملومين عليه اهـ. ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ ﴿أَوْ﴾: حرف عطف. ﴿مَا﴾: اسم موصول، في محل الجر، معطوف على ﴿أَزْوَاجِهِمْ﴾ وعبر بما دون من، وإن كان المقام لمن، لنقصهن بالأنوثة، وشبههن بالبهائم في حل البيع مثلًا اهـ "شيخنا". ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: وما ملكته أيمانهم ﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية، مسوقة لتعليل الاستثناء. ﴿إنهم﴾: ناصب واسمه ﴿غَيْرُ مَلُومِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾ من اسمها وخبرها، في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية.
﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١)﴾
44
﴿فَمَنِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم غير ملومين في ذلك، وأردت بيان حكم ما وراء ذلك.. فأقول لك: ﴿من ابتغى﴾ ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما ﴿ابْتَغَى﴾: فعل ماض، في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿وَرَاءَ ذَلِكَ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لمفعول ﴿ابْتَغَى﴾ المحذوف، تقديره: فمن ابتغى شيئًا، كائنًا وراء ذلك ﴿فَأُولَئِك﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب الشرط وجوبًا. ﴿أولئك﴾: مبتدأ ﴿هُمْ﴾: ضمير فصل ﴿الْعَادُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، أو معترضة لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. ﴿وَالَّذِينَ﴾: في محل الرفع، معطوف على الموصول الأول هم مبتدأ ﴿لِأَمَانَاتِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿رَاعُونَ﴾، ﴿وَعَهْدِهِمْ﴾: معطوف على ﴿أماناتهم﴾ ﴿رَاعُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿عَلَى صَلَوَاتِهِمْ﴾: متعلق بما بعده ﴿يُحَافِظُونَ﴾: فعل وفاعل خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل ﴿الْوَارِثُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًا ﴿الَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿الْوَارِثُونَ﴾ أو خبر ثان للمبتدأ ﴿يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول ﴿هُمْ﴾: مبتدأ فِيهَا متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾ وهو خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يَرِثُونَ﴾.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام: وموطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق
45
﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿مِنْ سُلَالَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَقْنَا﴾ ﴿مِنْ طِينٍ﴾: متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿سُلَالَةٍ﴾، أو متعلق بـ ﴿سُلَالَةٍ﴾ لأنها بمعنى مسلولة، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ ﴿جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾: فعل وفاعل ومفعولان معطوف على ﴿خَلَقْنَا﴾ ﴿فِي قَرَار﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿نُطْفَةً﴾، ﴿مَكِينٍ﴾: صفة لـ ﴿قَرَارٍ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ ﴿خَلَقْنَا النُّطْفَةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول ﴿عَلَقَةً﴾: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة ﴿جَعَلْنَاهُ﴾، ﴿فَخَلَقْنَا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب. ﴿خلقنا العلقة مضغة﴾: فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾. ﴿فَخَلَقْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب ﴿خلقنا المضغة عظامًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على ﴿فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً﴾، ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب ﴿كسونا العظام لحمًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان معطوف على ﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾، ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ﴾: ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿أَنْشَأْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على ﴿فَكَسَوْنَا﴾، ﴿خَلْقًا﴾: حال من المفعول في ﴿أَنْشَأْنَاهُ﴾ ﴿آخَرَ﴾: صفة لـ ﴿خَلْقًا﴾ ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية ﴿تبارك الله﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة معترضة ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾: بدل من الجلالة، ومضاف إليه، وليس بصفة لها؛ لأنها نكرة، وتمييز أحسن محذوف، للعلم به، تقديره: خلقًا. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿إِنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿ميتون﴾ أو حال من كاف المخاطبين ﴿لَمَيِّتُونَ﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿ميتون﴾: خبر ﴿إن﴾ مرفوع بالواو، وجملة ﴿إن﴾: معطوفة على جملة ﴿أَنْشَأْنَاه﴾: عطف إسمية على فعلية، وما بينهما اعتراض ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿إِنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تُبْعَثُونَ﴾. ﴿تُبْعَثُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (١٧)﴾.
46
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و (اللام): موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿خَلَقْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿فَوْقَكُمْ﴾: ظرف مكان، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿خَلَقْنَا﴾. ﴿سَبْعَ طَرَائِقَ﴾: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، مسوقة لذكر خلق السماوات التي تعلو الإنسان، بعد ذكر خلقه ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿ما﴾: نافية ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص، واسمه ﴿عَنِ الْخَلْقِ﴾: متعلق بما بعده ﴿غَافِلِينَ﴾: خبر كان. والجملة في محل النصب من فاعل ﴿خَلَقْنَا﴾.
﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (١٩)﴾.
﴿وَأَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿أنزلنا﴾ والجملة معطوفة على ﴿خَلَقْنَا﴾. ﴿مَاءً﴾ مفعول به. ﴿بِقَدَرٍ﴾: جار ومجرور، صفة لـ ﴿مَاءً﴾ أي: ماء ملتبسًا بقدر معلوم، يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة ﴿فَأَسْكَنَّاهُ﴾. ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أسكناه﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿أنزلنا﴾ ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أسكنا﴾ ﴿وَإِنَّا﴾: ﴿الواو﴾: حالية ﴿إن﴾: ناصب واسمه ﴿عَلَى ذَهَابٍ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿قادرون﴾ قدم عليه؛ لرعاية الفاصلة ﴿به﴾ متعلق بـ ﴿ذَهَابٍ﴾ ﴿لَقَادِرُون﴾ خبر ﴿إن﴾، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب، حال من فاعل ﴿أسكناه﴾ ﴿فَأَنْشَأْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أنشأنا﴾: فعل وفاعل. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أنشأنا﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أنشأنا﴾ أيضًا ﴿جَنَّاتٍ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أسكناه﴾. ﴿مِنْ نَخِيلٍ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾. ﴿وَأَعْنَابٍ﴾: معطوف على ﴿نَخِيلٍ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور حال من ضمير المخاطبين ﴿فَوَاكِهُ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿كَثِيرَةٌ﴾: صفة لـ ﴿فَوَاكِهُ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب، صفة ثانية لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾ أو حال منها، لوصفها بالجار والمجرور. ﴿وَمِنْهَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿منها﴾: متعلق بـ ﴿تَأْكُلُونَ﴾. ﴿تَأْكُلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب، معطوفة على جملة
47
قوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ﴾.
﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)﴾.
﴿وَشَجَرَةً﴾: معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾. ﴿تَخْرُجُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿شجرة﴾: والجملة في محل النصب، صفة لـ ﴿شجرة﴾. ﴿مِن﴾: حرف جر ﴿طُورِ﴾: مجرور ومضاف. ﴿سَيْنَاءَ﴾: مضاف إليه، مجرور بالفتحة، ممنوع من الصرف، للعلمية والتأنيث المعنوي؛ لأنه بمعنى البقعة، وألفه ليست للتأنيث، بل للإلحاق بقرطاس ﴿تَنْبُتُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على شجرة، والجملة في محل النصب صفة ثانية، لـ ﴿شجرة﴾. ﴿بِالدُّهْنِ﴾: جار ومجرور في محل النصب، حال من فاعل ﴿تَخْرُجُ﴾؛ أي: حالة كونها ملتبسة بالدهن، ومصحوبةً به، والدهن: عصارة كل شيء ذي دسم، ﴿وَصِبْغٍ﴾ معطوف على ﴿الدهن﴾، جار على إعرابه، عطف أحد وصفي الشيء على الآخر؛ أي: تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنًا يدهن به، ويسرج منه، وكونه إدامًا يصبغ به الخبر، أي يغمس فيه للائتدام به ﴿لِلْآكِلِينَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿صبغ﴾. ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف نصب ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور، وخبر مقدم لـ ﴿إنَّ﴾ ﴿فِي الْأَنْعَامِ﴾: حال من عبرة؛ لأنه صفة نكرة، قدمت عليها ﴿لَعِبْرَةً﴾. ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿عبرة﴾: اسم إن مؤخر وجملة إن معطوفة على جملة قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ﴾. ﴿نُسْقِيكُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر، يعود على ﴿الله﴾. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿نُسْقِيكُمْ﴾. والجملة الفعلية، جملة مفسرة لعبرة، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿فِي بُطُونِهَا﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها ﴿وَلَكُمْ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿مَنَافِعُ﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿مَنَافِعُ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿كَثِيرَةٌ﴾ صفة له، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿نُسْقِيكُمْ﴾. ﴿وَمِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿تَأْكُلُونَ﴾. ﴿تَأْكُلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على
48
جملة ﴿نُسْقِيكُمْ﴾. ﴿وَعَلَيْهَا﴾. ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿عليها﴾، متعلق بـ ﴿تُحْمَلُونَ﴾. ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله ﴿تُحْمَلُونَ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿نُسْقِيكُمْ﴾.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٢٣)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، والجملة الفعلية جواب القسم وجملة القسم مستأنفة مسوقة لسرد خمس قصص، أولها: قصة نوح، ﴿فَقَالَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قال﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿نُوحًا﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿يَا قَوْمِ﴾: إلى آخر الآية، مقول محكي لـ ﴿قال﴾؛ وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب، مقول ﴿قال﴾. ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء ﴿مَا﴾: نافية. ﴿لَكُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿إِلَهٍ﴾: مبتدأ مؤخر، مرفوع محلًا ﴿غَيْرُهُ﴾: صفة لـ ﴿إِلَهٍ﴾ على المحل، وقرىء بالجر على اللفظ، وهو جائز والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ مسوقة لتعليل الأمر بالعبادة. ﴿أَفَلَا تَتَّقُون﴾: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري لإنكار الواقع منهم، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تعرفون عدم إله غير الله لكم، ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَتَّقُون﴾: فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: عذابه، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تعرفون ذلك فلا تتقون عذابه، والجملة المحذوفة، في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾.
﴿فَقَالَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قال الملأ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة للام ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾: جار ومجرور، حال من فاعل ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ﴾ إلى قوله: {قَالَ رَبِّ
49
انْصُرْنِي}: مقول محكي وإن شئت قلت: ﴿مَا﴾: نافية. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿بَشَرٌ﴾: خبر ﴿مِثْلُكُمْ﴾: صفة أولى لـ ﴿بَشَرٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾.
﴿يُرِيدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿بَشَرٌ﴾، والجملة في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿بَشَرٌ﴾. ﴿أَن﴾: حرف نصب ﴿يَتَفَضَّلَ﴾: فعل مضارع، منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿بَشَرٌ﴾، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريد تفضله عليكم ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾. ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، الجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾. ﴿لَأَنْزَلَ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾ ﴿أنزل﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ﴿مَلَائِكَةً﴾: مفعول به، والجملة جواب ﴿لو﴾ الشرطية وجملة ﴿لو﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها مستأنفة ﴿مَا﴾: نافية ﴿سَمِعْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿بِهَذَا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿سَمِعْنَا﴾. ﴿فِي آبَائِنَا﴾ متعلق بـ ﴿سَمِعْنَا﴾. أيضًا، أو حال من اسم الإشارة، ﴿الْأَوَّلِين﴾: صفة لـ ﴿آبَائِنَا﴾.
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾.
﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿رَجُلٌ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم ﴿جِنَّةٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة في محل الرفع، صفة لـ ﴿رَجُلٌ﴾. ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾: ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حقيقته المذكورة لكم، من أنه بشر مثلكم، ورجل به جنة، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم.. فأقول لكم: ﴿تربصوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل
50
النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تربصوا﴾. ﴿حَتَّى حِينٍ﴾: جار ومجرور، متعلق به أيضًا. ﴿قَالَ﴾: فعل وفاعل مستتر، يعود على نوح، والجملة مستأنفة ﴿رَبِّ انْصُرْنِي﴾: إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول قال: ﴿انْصُرْنِي﴾: فعل وفاعل مستتر، ونون وقاية، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿بِمَا﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر. ﴿ما﴾: مصدرية ﴿كَذَّبُون﴾: فعل وفاعل ونون وقاية وياء المتكلم المحذوفة، اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية، في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية. ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء السببية، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿انْصُرْنِي﴾ والتقدير: انصرني بسبب تكذيبهم إياي.
﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾.
﴿فَأَوْحَيْنَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، كما قيل، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قالوا. وقال نوح، وأردت بيان أمره، وأمرهم.. فأقول لك: ﴿أوحينا﴾. ﴿أوحينا﴾: فعل وفاعل ومضاف ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿أَنِ﴾: مفسرة لوقوعها بعد جملة فيها معنى القول، دون حروفه، وهو ﴿أوحينا﴾. ﴿اصْنَعِ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿نُوحًا﴾. ﴿الْفُلْكَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جملة مفسرة، لا محل لها من الإعراب ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، حال من الضمير المستتر في ﴿اصْنَعِ﴾، تقديره: حالة كونك ملتبسًا بأعيننا. ﴿وَوَحْيِنَا﴾: معطوف على ﴿أعيننا﴾.
﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا امتثلت أمرنا، وصنعت الفلك، وأردت بيان عاقبة أمرها.. فأقول لك: ﴿إذا جاء أمرنا﴾: ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾: فعل
51
وفاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إذا﴾، والظرف متعلق بالجواب، ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾ عطف بيان على مبين ﴿فَاسْلُكْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ وجوبًا. ﴿اسلك﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على ﴿نُوحًا﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق به. ﴿مِنْ كُلٍّ﴾: جار ومجرور، حال من ﴿زَوْجَيْنِ﴾ أو من ﴿اثْنَيْنِ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، والجملة الفعلية جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿زَوْجَيْن﴾: مفعول به لـ ﴿فَاسْلُكْ﴾. ﴿اثْنَيْنِ﴾: صفة مؤكدة له. ﴿وَأَهْلَكَ﴾: مفعول لفعل محذوف، معطوف على ﴿فَاسْلُكْ﴾ تقديره: واسلك فيها أهلك، كما مر في مبحث التفسير مع علته. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول، في محل النصب على الاستثناء المتصل. ﴿سَبَق﴾: فعل ماض. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿سَبَقَ﴾، ﴿الْقَوْلُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية، ﴿تُخَاطِبْنِي﴾ فعل وفاعل مستتر، ونون وقاية، ومفعول به مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿فَاسْلُكْ﴾. ﴿فِي الَّذِين﴾: متعلق بـ ﴿تُخَاطِبْنِي﴾. ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل، صلة الموصول. ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي قبلها.
﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨)﴾.
﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا عرفت ما أمرتك به، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: ﴿إذا استويت﴾: ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿اسْتَوَيْتَ﴾: فعل وفاعل فعل شرط لـ ﴿إذا﴾. ﴿أَنْتَ﴾: تأكيد للتاء. ﴿وَمَنْ﴾: معطوف على التاء. ﴿مَعَكَ﴾: ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول ﴿عَلَى الْفُلْكِ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَوَيْت﴾. ﴿فَقُلِ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ الشرطية جوبًا ﴿قل﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر جواب ﴿إذا﴾ الشرطية، وجملة ﴿إذا﴾: في محل النصب مقول
52
لجواب إذا المقدرة وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قل﴾. ﴿الَّذِي﴾: صفة للجلالة. ﴿نَجَّانَا﴾: فعل وفاعل مستتر مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿مِنَ الْقَوْمِ﴾: متعلق بـ ﴿نَجَّانَا﴾. ﴿الظَّالِمِين﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾.
﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)﴾.
﴿وَقُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على ﴿قل﴾ الأول. ﴿رَبِّ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قل﴾. ﴿أَنْزِلْنِي﴾: فعل دعاء، وفاعل مستتر، ونون وقاية، ومفعول به أول. ﴿مُنْزَلًا﴾: اسم مكان، أو مصدر مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قل﴾ على كونها جواب النداء ﴿مُبَارَكًا﴾: صفة لـ ﴿مُنْزَلًا﴾. ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ﴾: مبتدأ وخبر ﴿الْمُنْزِلِينَ﴾: مضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿أَنْزِلْنِي﴾. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، لـ ﴿إنَّ﴾. ﴿لَآيَات﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿آيات﴾: اسم ﴿إنَّ﴾ مؤخر، وجملة ﴿إنَّ﴾ مسأتفة. ﴿وَإِن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لَمُبْتَلِينَ﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿مبتلين﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ المخففة وجملة ﴿إن﴾ المخففة معطوفة على جملة ﴿إنَّ﴾ الأولى.
التصريف ومفردات اللغة
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)﴾ وكلمة ﴿قَدْ﴾ هنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل لأن المؤمنون كانوا متوقعين ذلك الفلاح من فضل الله، والفلاح: البقاء، والفوز بالمراد، والنجاة من المكروه، والإفلاح: الدخول في ذلك، كالإبشار الذي هو الدخول في البشارة، وقد يجيء متعديًا بمعنى الإدخال فيه، وعليه قراءة من قرأ على البناء للمفعول. اهـ. "روح". و ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾: جمع مؤمن،
53
والمؤمن: هو المصدق، بما جاء عن ربه على لسان نبيه، من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، ﴿خَاشِعُونَ﴾ جمع خاشع. والخاشع: هو الخاضع المتذلل، مع خوف وسكون للجوارح.
وقال في "المفردات": الخشوع: الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما يوجد على الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد على القلب، ولذلك قيل فيما ورد: إذا ضرع القلب خشعت الجوارح.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)﴾ وفي "المفردات" اللغو من الكلام ما لا يعتد به، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، ويجري مجرى اللغا، وهو صوت العصافير ونحوها، من الطيور. اهـ. وفي "التأويلات النجمية" اللغو: كل فعل لا لله، وكل قول لا من الله، ورؤية غير الله، وكل ما يشغلك عن الله، فهو لغو. اهـ. ويقال: أعرض أظهر عرضه؛ أي: ناحيته، فإذا قيل: عرض لي كذا؛ أي: بدا عرضه فأمكن تناوله، وإذا قيل: أعرض، فمعناه ولى مبديًا عرضه؛ أي: معرضوه عن اللغو في عامة أوقاتهم.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤)﴾ والزكاة: تزكية النفس وطهارتها، بفعل العبادة المالية، ضمن فاعلون معنى مؤدون، إذ لا يصح فعل الأعيان، التي هي القدر المخرج من المزكي للمستخقين، ويصح حمل الزكاة على المصدر، الذي هو التزكية، فيصح نسبة الفعل إليها، من غير تضمين. اهـ. من "البحر" ﴿لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ والفروج: جمع فرج، والفرج: سوءة الرجل والمرأة، وحفظه التعفف عن الحرام، وفي كتب اللغة: الفرج والفرجة: الشق بين الشيئين، كفرجة الحائط، والفرج ما بين الرجلين، وكنى به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح. ﴿ابْتَغَى﴾؛ أي: طلب ﴿وَرَاءَ ذَلِك﴾؛ أي: غير ذلك ﴿الْعَادُون﴾؛ أي: المتناهون في العدوان، ومجاوزة الحدود الشرعية، وفي "الروح" العدوان: الإخلال بالعدالة، والاعتداء. مجاوزة الحق.
﴿لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ﴾ والأمانات: جمع أمانة، والأمانة: هي ما ائتمن المرء عليه من قبل الله تعالى، كالتكاليف الشرعية، أو من قبل الناس، كالأموال
54
المودعة لديه، والنذور والعقود ونحوها، والعهد ما عقده الإنسان على نفسه مما يقربه إلى ربه، وما أمر به الله، كما قال ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾. ﴿رَاعُونَ﴾: جمع راعٍ من الرعي، وهو الحفظ، والراعي: القائم على الشيء لحفظه وإصلاحه. ﴿يُحَافِظُون﴾؛ أي: يواظبون عليها بشرائطها وآدابها كما مر.
﴿هُمُ الْوَارِثُونَ﴾: جمع وارث، والوراثة: انتقال المال إليك من غيرك، من غير عقد، ولا ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك المنتقل عن الميت، فيقال للمال: المورث ميراث اهـ. "روح".
والفردوس: اسم لأعلى طبقات الجنة، وهو في الأصل: البستان الجامع، لجميع أصناف الثمر، هم فيها ﴿خَالِدُونَ﴾: جمع خالد، والخلود: تبري الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، والخلود في الجنة، بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون، والفساد عليها.
﴿مِنْ سُلَالَةٍ﴾ والسلالة: كل ما سل عن الشيء، واستخرج منه، يقال: سل الشيء من الشيء، إذا نزع كسل السيف من الغمد، وسل الشيء من البيت على سبيل السرقة، وسل الولد من الأب، ومنه قيل للولد: سليل، فالسلالة: اسم ما سل من الشيء، واستخرج منه، فإن فعالة اسم لما يحصل من الفعل، فتارةً تكون مقصودة كخلاصات الأشياء، كالزبد من اللبن، وأخرى غير مقصودة، كقلامة الظفر، وكناسة البيت. والسلالة هنا: من القبيل الأول، فإنها مقصودة ما يسل.
﴿مِنْ طِينٍ﴾. والطين: التراب والماء المختلط به. ﴿نُطْفَةً﴾ والنطفة: الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل ﴿فِي قَرَارٍ﴾؛ أي: مستقر، وهو الرحم، عبر عنها بالقرار، الذي هو المصدر مبالغة. ﴿مَكِينٍ﴾؛ أي: متمكن أو حصين، وهو وصف لها، بصفة ما استقر فيها، مثل طريق سائر. ﴿عَلَقَةً﴾: قال الراغب: العلق الدم الجامد، ومنه العلقة التي يكون منها الولد. ﴿مُضْغَةً﴾ والمضغة: قطعة لحم قدر ما يمضغ. ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ﴾ تزايد بره وإحسانه، وتعالى شأنه وعلمه، وتقدمت ذاته وصفاته ﴿سَبْعَ طَرَائِقَ﴾: الطرائق: السماوات، جمع طريقة، بمعنى مطروقة؛ أي: مطروق بعضها فوق بعض، من قولهم طارق بين ثوبين، إذا ألبس
55
ثوبًا فوق ثوب، أو من طرق النعل، إذا وضع طاقاته بعضها فوق بعض، قيل: فعلى هذا لا تكون سماء الدنيا من الطرائق، إذ لا سماء تحتها، فجعلها منها من باب التغليب، ولا يخفى أن المعنى وضع طاقًا فوق طاق مساويًا له، فيندرج ما تحت الكل لكون مطارقًا؛ أي: له نسبه، ونتلو بالمطارقة فلا حاجة إلى التغليب اهـ. "شهاب".
﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من السحاب ﴿ماء﴾؛ أي: عذبًا، وإلا، فالأجاج ثابت في الأرض مع القحط، والعذب يقل مع القحط ﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ﴾ الذهاب مصدر ذهب، والباء في به، للتعدية، مرادفة للهمزة؛ أي: لقادرون على إذهابه، وازالته، والإذهاب إما بالإفساد، وإما بالتصديع، وإما بالتعميق والتغوير في الأرض.
﴿مِنْ نَخِيلٍ﴾ قال في "المفردات": النخيل معروف، ويستعمل في الواحد، والجمع، وجمعه نخيل. ﴿وَأَعْنَابٍ﴾: جمع عنب، قال في "المفردات": العنب يقال: الثمرة الكرم، وللكرم نفسه، الواحدة عنبة، انتهى.
﴿فَوَاكِهُ﴾: قال في "المفردات" الفاكهة، قيل: هي الثمار كلها، وقيل: بل هي الثمار، ما عدا العنب والرمان، وقائل هذا كأنه نظر إلى اختصاصهما بالذكر، وعطفهما على الفاكهة، انتهى.
﴿وَشَجَرَةً﴾: وفي "المفردات" الشجرة من النبت ما له ساق، يقال: شجرة وشجر، ونحو ثمرة وثمر. ﴿طُورِ سَيْنَاءَ﴾: وطور سنين، قال الزمخشري: لا يخلو، إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون إسمًا للجبل مركبًا من مضاف ومضاف إليه، كامرىء القيس، وكبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء، فقد منع من الصرف، للتعريف والعجمة، أو التأنيث؛ لأنها بقعة وفعلاء، لا يكون ألفه للتأنيث، كعلباء وحرباء، ومن فتح فلم يصرف؛ لأن الألف للتأنيث، كصحراء هذا وسيناء شبه جزيرة، يحدها البحر الأبيض المتوسط شمالًا، وقناة السويس وخليج السويس غربًا، وفلسطين وخليج العقبة شرقًا، تنتهي جنوبًا عند رأس محمد في البحر الأحمر، وسيناء جبل واقع
56
في شبه جزيرة سيناء جنوبًا، والمراد بالشجرة، شجرة الزيتون، وخصت بطور سيناء مع أنها تخرج في غيره؛ لأن أصلها منه ثم نقلت إلى غيره.
﴿بِالدُّهْن﴾ والدهن: عصارة كل شيء ذي دسم. اهـ. "سمين". ﴿وَصِبْغٍ﴾؛ أي: إدإم يصبغ اللقمة، إذا أغمست فيه وفي "المصباح": صبغ من باب ضرب، وقتل ونفع. اهـ.
قال في "المغرب"، يقال: صبغ الثوب بصبغ حسن، وصباغ حسن، ومنه الصبغ والصباغ من الإدام؛ لأن الخبز يغمس فيه، ويلون به كالخل والزيت. اهـ. ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾؛ أي: السفينة قال الراغب: ويستعمل الفلك للواحد، والجمع، وتقديرهما مختلفان، فإن الفلك إذا كان واحدًا كان كبناء قفل، وإذا كان جمعًا فكبناء حمر. اهـ.
﴿قَالَ الْمَلَأُ﴾ الملأ: أشراف القوم. ﴿يَتَفَضَّلَ﴾؛ أي: يدعي الفضل والسيادة ﴿جِنَّةٌ﴾؛ أي: حالة جنون، ففعلة مستعملة في الهيئة على حد قوله. وفعلة لهيئة كالجلسة اهـ. "شيخنا". والجنون: اختلال حائل بين النفس والعقل، وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن أحوال الحقيقة عند أرباب الطبيعة جنون، كما أن أحوال أرباب الطبيعة عند أهل الحقيقة جنون. اهـ.
﴿فَتَرَبَّصُوا﴾؛ أي: انتظروا، قال الراغب: التربص: الانتظار بالشيء ساعة، يقصد بها غلاء، أو رخصًا أو أمرًا ينتظر زواله أو حصوله، ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ يقال: فار الماء، إذا نبع يفور فورًا، من باب قال، والفور شدة الغليان، ويقال ذلك في النار نفسها، إذا هاجت وفي القدر، وفي الغضب، وفوارة الماء، سميت تشبيهًا بغليان القدر، ويقال: الفور الساعة، والتنور: تنور الخبز، ابتدأ منه النبوع على خرق العادة ﴿فَاسْلُكْ فِيهَا﴾؛ أي: أدخل في الفلك، يقال: سلك فيه؛ أي: دخل وسلكه فيه؛ أي: أدخله، ومنه قوله: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢)﴾.
﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ﴾ قال الراغب: استوى: يقال على وجهين:
أحدهما: أن يسند إليه، فاعلان فصاعدًا، نحو: استوى زيد وعمرو في
57
كذا؛ أي: تساويا. قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ﴾.
والثاني: أن يقال: لاعتدال الشيء في ذاته، فإذا استويت، ومتى عدي بعلى اقتضى معنى الاستعلاء نحو ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)﴾، ونحو ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾.
وفي "السمين" قوله: ﴿مُنْزَلًا مُبَارَكًا﴾ قرأ أبو بكر بفتح الميم وكسر الزاي والباقون بضم الميم، وفتح الزاي والمَنْزِل، والمَنْزَل كل منهما يحتمل أن يكون اسم مصدر وهو الإنزال، أو النزول، وأن يكون اسم مكان للنزول، أو الإنزال إلا أن قياس مصدر الفعل المذكور هنا منزل بالضم والفتح، وأما الفتح والكسر، فعلى نيابة مصدر الثلاثي مناب مصدر الرباعي، كقوله: أنبتكم من الأرض نباتًا. اهـ. والنزول في الأصل هو الانحطاط من علو، يقال: نزل عن دابته، ونزل في مكان كذا، حطّ رحله فيه، ونزل به.
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾: اسم فاعل من ابتلى الخماسي. قال الراغب: إذا قيل: ابتلي فلان بكذا وأبلاه فذلك يتضمن أمرين:
أحدهما: تعرف حاله، والوقوف على ما يجهل من أمره.
والثاني: ظهور جودته وردائته دون التعرف بحاله، والوقوف على ما يجهل من أمره، إذا كان من الله علام الغيوب. اهـ.
واعلم أن البلاء كالملح، وأن أكابر الأنبياء، إنما كانوا من أولي العزم ببلايا ابتلاهم الله بها، فصبروا، ألا ترى إلى حال نوح عليه السلام، كيف ابتلي ألف سنة إلا خمسين عامًا، فصبر، حتى قيل له: ﴿فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ اهـ. "روح البيان".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
58
فمنها: الإخبار بصيغة الماضي؛ لإفادة التحقيق والثبوت في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)﴾ كما أن ﴿قَدْ﴾؛ لإفادة التحقيق أيضًا.
ومنها: بر الاستهلال في هذه السورة؛ لأنها ذكرت أحوال المؤمنين، على جهة التفصيل. والتفصيل عندهم قسمان: متصل، ومنفصل. فالمتصل: كل كلام وقع فيه أما وأما كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ إلى آخر الكلام.
وأما المنفصل فهو ما يأتي مجمله في مكان ومفصله في مكان آخر كقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥)﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧)﴾. فإن قوله تعالى: ﴿وَرَاءَ ذَلِكَ﴾ إجمال المحرمات، وقد تقدمت مفسرة في سورة النساء بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ إلى قوله: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ فإن هذه الآية اشتملت على خمسة عشر محرمًا من أصناف النساء، وذوات الأرحام، وثلاثة عشر صنفًا ومن الأجانب صنفان.
ومنها: طباق الإيجاب بين قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢)﴾ وقولى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)﴾ فقد جمع سبحانه للمؤمنين في هذا الوصف بين الفعل والترك، إذ وصفهم بالخشوع في الصلاة، وترك اللغو، وهذا كله من طباق الإيجاب المعنوي.
ومنها: التضمين في قوله: ﴿فَاعِلُونَ﴾؛ لأنه ضمن فاعلون معنى مؤدون، إذ لا يصح فعل الأعيان التي هي القدر المخرج من المزكي للمستحقين.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠)﴾؛ لأن ضمير الفعل يفيد الحصر.
ومنها: تقيد الوراثة بقوله: ﴿يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ﴾ بعد إطلاقها أولًا تفخيمًا لشأنها، ورفعًا لمحلها.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ﴾ حيث شبه
59
استحقاقهم الفردوس بأعمالهم، حسبما يقتضيه الوعد الكريم بالوراثة، للمبالغة فيه، بجامع قوة الملك؛ لأن الوراثة أقوى سبب يقع في ملك الشيء، ولا يتعقبه رد ولا فسخ ولا إقالة ولا نقض.
ومنها: أسرار لطيفة المأخذ، دقيقة المعنى، في مخالفة حروف العطف في آيات ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ الآيات، فقد ذكر تعالى تفاصيل حال المخلوق في تنقله، فبدأ بالخلق الأول، وهو خلق آدم من طين، ولما عطف عليه الخلق الثاني، الذي هو خلق نسل عطفه بثم لما بينهما من التراخي، وحيث صار إلى التقدير الذي: يتبع بعضه بعضًا، من غير تراخ عطفه بالفاء، ولما انتهى إلى جعله ذكرًا أو أنثى، وهو آخر الخلق، عطفه بثم، ونحن نعلم أن الزمن الذي تصير فيه النطفة علقة طويل، ولكن الحالتين متصلتان، فأحيانًا ينظر إلى طول الزمان، فيعطف بثم، وأحيانًا ينظر إلى اتصال الحالين، ثانيهما بأول ما من غير فاصل بينهما بغيرهما، فيعطف بالفاء، ومثل هذا تزوج محمد فولد له.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ حيث شبه الرحم بالقرار؛ أي: بموضع الاستقرار فخذف المشبه، الذي هو الرحم، وأبقى المشبه به، وهو القرار، ثم وصفه بمكين، بمعنى متمكن، لتمكنه في نفسه، بحيث لا يعرض له اختلال، أو لتمكن ما يحل فيه، كقولهم: طريق سائر؛ أي: يسار فيه.
ومنها: تنزيل غير المنكر، منزلة المنكر، في قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥)﴾ الناس لا ينكرون الموت، ولكن غفلتهم عنه، وعدم استعدادهم له بالعمل الصالح، يعدان من علامات الإنكار، ولذلك نزلوا منزلة المنكرين، وألقى الخبر مؤكدًا، بمؤكدين إن واللام.
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿سَبْعَ طَرَائِقَ﴾ شبهت السماوات السبع بطرائق النعل، التي يجعل بعضها فوق بعض، بطريق الاستعارة.
ومنها: العدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ﴾
60
حيث لم يقل: وأنزلنا منهن؛ لأن الإنزال لا يعتبر فيه عنوان كونها طرائق بل مجرد كونها بصفة العلو.
ومنها: تقديم المعمول على عامله لرعاية الفاصلة، في قوله: ﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ وفي قوله: ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ﴾ حيث شبه الإدام من المائعات بالصبغ، ثم حذف المشبه، وأبقى المشبه به، بجامع التلون، بلون إذا غمس به.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ حيث عبر عن الحفظ بالأعين؛ لأن شأن من نظر إلى الشيء بعينه، حفظه فأطلق الملزوم الذي هو الأعين، وأريد اللازم الذي هو الحفظ، وجمع الأعين مبالغة.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَفَارَ التَّنُّور﴾: لأنه كناية عن شدة نبع الماء.
ومنها: جناس الاثشقاق في قوله: ﴿رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا﴾.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿الْوَارِثُونَ﴾، و ﴿يَرِثُون﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
61
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٣٩) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (٤٦) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما قصّ (١) علينا قصص بعض الأنبياء
(١) المراغي.
62
السالفين.. عقب هذا ببيان أنه أوصاهم جميعًا، بأن يأكلوا من الحلال، ويعملوا صالح الأعمال، كفاء ما أنعم به عليهم، من النعم العظيمة، والمزايا الجليلة، التي لا يقدر قدرها، ثم حذرهم، وأنذرهم بأنه عليم بكل أعمالهم، ظاهرها وباطنها، لا تخفى عليه من أمورهم خافية، ثم أرشدهم إلى أن الدين الحق واحد، لا تعدد فيه، ولكن قد فرقت الأمم، دينها شيعًا، وكل أمة فرحة مسرورة بما تدين به، كما هي حال قريش، ثم خاطب رسوله، بأن يتركهم وما يعتقدون إلى حين، ثم ذكر أنهم في عماية، حين ظنوا أن ما أوتوه من النعم، هو حظوة من ربهم لهم، كلا فهم لا يشعرون بحقيقة أمرهم، وعاقبة حالهم، ولو عقلوا لعلموا، أنهم في سكرتهم يعمهون.
قوله تعالى (١): ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذم من فرقوا دينهم شيعًا، وفرحوا بما عملوا، وظنوا أن ما نالوا من حظوظ الدنيا، هو وسيلة لنيل الثواب في الآخرة، وبين أنهم واهمون فيما حسبوا.. قفى على ذلك، بذكر صفات من له المسارعة في الخيرات، ومن هو جدير بها.
قوله تعالى: ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر صفات المؤمنين المخلصين، الذين يسارعون إلى الخيرات، أرشد إلى أن ما كلفوا به، سهل يسير، لا يخرج عن حد الوسع والطاقة وأنه مهما قل، فهو محفوظ عنده في كتاب، لا يضل ربي ولا ينسى، وهو لا يظلم أحدًا من خلقه، بل يجزي بقدر العمل، وبما نطقت به الصحف، وعلى وجه الحق والعدل.
التفسير وأوجه القراءة
٣١ - قصة هود عليه السلام: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا﴾؛ أي: أوجدنا وأحدثنا ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: من بعد إهلاك قوم نوح، وإغراقهم ﴿قَرْنًا آخَرِينَ﴾؛ أي: قومًا آخرين ليكونوا خلفاء عنهم في الأرض.
(١) المراغي.
قال أكثر المفسرين (١): إن هؤلاء الذين أنشاهم الله بعدهم هم عاد - قوم هود؛ لمجيء قصتهم على إثر قصة نوح، في غير هذا الموضع، ولقوله في الأعراف: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾.
وقيل: هم ثمود؛ لأنهم هم الذين هلكوا بالصيحة، وقد قال الله سبحانه، في هذه القصة، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾.
وقيل: هم أصحاب مدين - قوم شعيب - لأنهم ممن أهلكوا بالصيحة.
وقيل: القرن ثمود، والرسول صالح، والأول أصح، والقرن (٢): القوم المقترنون من زمن واحد؛ أي: أهل زمان واحد
٣٢ - ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ﴾؛ أي: أولئك القرن؛ أي: إليهم ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾؛ أي: من جملتهم نسبًا، وهو هود عليه السلام على أن يكون المراد عادًا، وهو الظاهر، وعدى فعل الإرسال، بقي مع أنه يتعدى بإلى؛ للدلالة على أن هذا الرسول المرسل إليه، نشأ فيهم بين أظهرهم، يعرفون مكانه ومولده؛ ليكون سكونهم إلى قوله أكثر من سكونهم إلى من يأتيهم من غير مكانهم، و ﴿أن﴾ في قوله: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ مفسرة لأرسلنا لما في الإرسال من معنى القول؛ أي: قلنا لهم على لسان ذلك الرسول: اعبدوا الله تعالى وحده؛ لأنه ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ تعالى فالجملة معللة للأمر بالعبادة، والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتشركون بالله تعالى، فلا تخافون عذابه على الإشراك؛ قاله في "بحر العلوم" فالشرك وعدم الاتقاء كلاهما منكران.
والمعنى (٣): أي أوجدنا من بدء مهلك قوم نوح قومًا آخرين، وهم عاد، فأرسلنا فيهم رسولًا منهم، وهو هود عليه السلام، داعيًا لهم، قائلًا: يا قوم اعبدوا الله، وأطيعوه دون الأوثان والأصنام، فإن العبادة لا تنبغي إلا له، ولا تصلح لسواه، أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره من وثن أو صنم.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
٣٣ - ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ﴾؛ أي: الأشراف والقادة ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾؛ أي: من قوم هود، ثم وصف الملأ بالكفر والتكذيب فقال: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: كذبوا بلقاء ما في الآخرة من الحساب والثواب والعقاب، أو كذبوا بالمصير إلى الآخرة بالبعث، وصفهم بالكفر ذمًا لهم؛ أي: قال الأشراف الكافرون المكذبون من قومه.
فائدة: وقال هنا (١): ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالواو دون الفاء كما قال في قصة نوح: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾؛ لأن كلا منهم هنا لم يتصل بكلام الرسول، ومعناه: أنه اجتمع في الحصول ذلك القول الحق، وهذا القول الباطل، وشتان ما بينهما.
وقال أبو حيان (٢): وجاء هنا: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ﴾ بالواو، وفي الأعراف وسورة هود في قصته، بغير واو، قصد في الواو العطف على ما قاله؛ أي: اجتمع قوله الذي هو الحق، وقولهم الذي هو باطل، كانه إخبار بتباين الحالين، والتي بغير واو قصد به الاستئناف، وكأنه جواب لسؤال مقدر؛ أي: فما كان قولهم له، قال: قالوا: كيت وكيت. اهـ.
وقال في "برهان القرآن" (٣): قدم ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾ في هذه الآية، وأخّر فيما قبلها؛ لأن صلة الذين فيما قبل اقتصرت على فعل وضمير الفاعلين، ثم ذكر بعهده الجار والمجرور، ثم الفاعل، ثم المفعول، وهو المقول، وليس كذلك هذه الآية، فإن صلة الموصول طالت بذكر الفاعل والمفعول والعطف عليه مرة أخرى، فقدم الجار والمجرور؛ لأن تأخيره ملبس وتوسطه ركيك، فخص بالتقديم. اهـ.
وقوله: ﴿أَتْرَفْنَاهُمْ﴾ معطوف على الصلة؛ أي: نعمناهم ووسعنا عليهم. ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بكثرة الأموال والأولاد؛ أي: قالوا لأعقابهم مضلين لهم، ﴿مَا هَذَا﴾؛ أي: هود ﴿إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾؛ أي: مماثل لكم في الصفات
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) برهان القرآن.
والأحوال البشرية ﴿يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ منه، فكيف يكون رسولًا، وهو تقرير للمماثلة، وصفوه بمساواتهم في البشرية، وفي الأكل والشرب، وذلك يستلزم عندهم، أنه لا فضل له عليهم، والمعنى: أي: وقال: أشراف قومه الذين جحدوا وحدانية الله، وكذبوا بالبعث والحساب، وقد وسعنا عليهم في الحياة الدنيا، بما بسطنا لهم من الرزق، حتى بطروا وعتوا، وكفروا بربهم: ما هود إلا بشر مثلكم لا ميزة له عنكم، فهو يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، فكيف يكون رسولًا؛ ومرادهم بذلك توهين أمره وتحقير شأنه.
٣٤ - واللام في قوله: ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ﴾ موطئة للقسم؛ أي: والله ليِّن امتثلتم ﴿بَشَرًا مِثْلَكُمْ﴾؛ أي: آدميًا مماثلًا لكم في الخلق والصفات، فيما يأمركم به وينهاكم عنه ﴿إِنَّكُمْ إِذًا﴾؛ أي: إذا أطعتموه ﴿لَخَاسِرُونَ﴾؛ أي: لمغبونون في اَرائكم مغلوبون في عقولكم جاهلون بمصالحكم، حيث تركتم آلهتكم، وأذللتم أنفسكم، باتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم.
﴿إِذًا﴾ (١) هنا ليست هي الناصبة للمضارع، وإنما هي إذا الشرطية، حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ، ولهذا لا يختص دخولها على المضارع، بل تدخل على الماضي وعلى الاسم. كقوله: ﴿وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ﴾. ﴿وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ قاله الحافظ السيوطي في "الإتقان". اهـ. "كرخي".
فتحصل من هذا أن ﴿إذًا﴾ بمعنى: أن الشرطية، وأن التنوين المتصل بها عوض عن جملة الشرط كما قدرنا، وحينئذ فلا جواب لها إنما ذكرت توكيدًا لما قبلها، توكيدًا لفظيًا، من قبيل إعادة الشيء بمرادفه. والمعنى؛ أي: ولئن أطعتم بشرًا مثلكم فاتبعتموه، وقبلتم ما يقول.. إنكم إذًا لمغبونون حظوظكم من الشرف، والرفعة في الدنيا
٣٥ - ثم بينوا سبب إنكارهم لأتباعه، واستبعادهم وقوع ما
(١) الفتوحات.
يدعيه بقولهم: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ﴾ والهمزة للاستفهام الإنكاري، والجملة مستأنفة، مسوقة لتقدير ما قبلها من تقبيح اتباعهم له. وقرىء بكسر الميم، من (مِتم) من مات يمات، كخاف يخاف. وقرىء بضمها من مات يموت كقال يقول؛ أي: أيخبركم أنكم، إذا قبضت أرواحكم ﴿وَكُنْتُمْ تُرَابًا﴾؛ أي: وصارت أجسامكم ترابًا، ﴿وَعِظَامًا﴾؛ أي: وصار بعض أجزائكم ترابًا، وبعضها عظامًا نخرة مجردةً لا لحم فيها ولا أعصاب عليها. ﴿أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ﴾ من قبوركم أحياءً كما كنتم، و (أنكم) الثانية لا عمل لها؛ لأنها تكيد لفظي لأنكم الأولى أكد بها لما طال الفصل بين اسم الأولى وهو: الكاف، وبين خبرها وهو: ﴿مخرجون﴾، والظرف متعلق بـ ﴿مُخْرَجُون﴾. وتقديم التراب لكونه أبعد في عقولهم.
وقيل المعنى: كان متقدموكم ترابًا ومتأخروكم عظامًا. وفي "روح البيان" الظاهر أن مرادهم، بيان صيرورتهم عظامًا ثم ترابًا؛ لأن الواو لمطلق الجمع. اهـ.
والمعنى (١): أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياءً، كما كنتم أولًا إذا متم، وكنتم ترابًا في القبور، بعد أن تذهب لحومكم وتبقى عظامكم،
٣٦ - ﴿هَيْهَاتَ﴾: اسم فعل ماض بمعنى بعد، ﴿هَيْهَاتَ﴾ توكيد لفظي للأولى، واللام في قوله: ﴿لِمَا تُوعَدُونَ﴾ زائدة في الفاعل؛ أي: بعد عن القول ما توعدون، وتخبرون به أيها القوم من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابًا وعظامًا تخرجون من قبوركم للبعث والحساب، ثم الجزاء على ما تعملون.
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي (٢): ﴿هيهات هيهات﴾ بفتح التاء فيهما في الوصل، وإسكانها في الوقف، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ أبيّ بن كعب وأبو مجلز وهارون عن أبي عمرو "هيهاتًا هيهاتًا" بالفتح والتنوين. ونسبها ابن عطية لخالد ابن إلياس. وقرأ ابن مسعود وعاصم الجحدري وأبو حيوة الحضرمي وابن السميقع: ﴿هيهات هيهات﴾ بالضم
(١) المراغي.
(٢) زاد المسير والبحر المحيط.
والتنوين. وقرأ أبو العالية وقتادة وعيسى وخالد بن إلياس: ﴿هيهات هيهات﴾ بالكسر والتنوين. وقرأ أبو جعفر وشيبة ﴿هيهات هيهات﴾ بالكسر من غير تنوين، وروي هذا عن عيسى أيضًا، وهي لغة تميم وأسد، ويقفون عليه بالهاء. وقرأ أبو المتوكل الناجي وسعيد بن جبير وعكرمة ﴿هيهات هيهات﴾ بالرفع من غير تنوين. وقرأ معاذ القارىء وابن يعمر وأبو رجاء وخارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضًا: ﴿هيهات هيهات﴾ بسكان التاء فيهما.
قال ابن الجوزي: وفي ﴿هيهات﴾ عشر لغات، قد ذكرنا منها سبعةً عن القراء، والثامنة: ﴿إيهات﴾ بالهمزة في أوله. والتاسعة: ﴿إيهان﴾ بالنون آخره. والعاشرة: ﴿إيها﴾ بغير تنوين اهـ.
وقال أبو حيان: وهذه الكلمة تلاعبت بها العرب تلاعبًا كبيرًا، بالحذف والإبدال والتنوين وغيره، وقد ذكرنا في "التكميل لشرح التسهيل" ما ينيف على أربعين لغة. وتحرير ما فيها، مذكور في علم النحو، ولا تستعمل هذه الكلمة غالبًا إلا مكررة. وجاءت غير مكررة في قول جرير:
فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الْعَقِيْقُ وَمَنْ بِهِ وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيْقِ نُوَاصِلُهْ
والعقيق: وادٍ بالمدينة.
٣٧ - ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم: ﴿إِنْ هِيَ﴾؛ أي: ما الحياة ﴿إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ الدانية الفانية، لا الحياة الآخرة التي تعدنا بها، وجملة قوله: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ مفسرة للجملة المتقدمة؛ أي: مفسرة لما ادعوه من قصرهم حياتهم على حياة الدنيا؛ أي: يموت بعضنا ويحيى بعضنا، بمعنى (١) يموت بعضنا ويولد بعض إلى انقراض العصر، أو يصيبنا الأمران الموت والحياة، يعنون الحياة المتقدمة في الدنيا والموت بعدها، وليس وراء ذلك حياة، وعبارة القرطبي هنا فإن قلت: كيف قالوا: نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث؟
قلت: أجيب عنه بأجوبة منها: أن يكون المعنى نكون مواتًا؛ أي: نطفًا ثم
(١) روح البيان.
نحيا في الدنيا. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي: إن هي إلا حياتنا الدنيا نحيا فيها ونموت. ما قال: ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي﴾. وقيل: نموت - يعني الآباء - ونحيى، يعني الأولاد. اهـ.
﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾؛ أي: بمنشرين بعد الموت، كما تزعم يا هود؛ أي: ما لنا (١) حياة إلا هذه الحياة في الدنيا تموت الأحياء منا فلا تحيا، ويحدث آخرون منا ويولدون، وما نحن بمبعوثين بعد الموت، إنما مثلنا مثل الزرع يُحصد هذا وينبت ذلك.
والخلاصة: أنه يموت منا من هو موجود، وينشأ آخرون بعدهم، انظر كيف عميت قلوبهم، حتى لم يروا أن الإعادة أهون من الابتداء، وأن الذي هو قادر على إيجاد شيء من العدم واعدامه من الوجود، يكون قادرًا على إعادته ثانيًا،
٣٨ - وبعد أن كان أمرهم معه مقصورًا على الاستبعاد فحسب، جاهروا بتكذيبه فيما يدعي، فقالوا: ﴿إِنْ هُوَ﴾؛ أي: ما هود ﴿إِلَّا رَجُلٌ﴾؛ أي: إلا شخص ﴿افْتَرَى﴾ واختلق ﴿عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فيما يدعيه من الرسالة، وفيما يعدنا من أن الله تعالى يبعثنا ﴿وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: بمصدقين فيما يقول؛ أي (٢): ما هو إلا رجل يختلق الكذب على الله، فتارة يقول: ما لكم من إله غير الله خالق السماوات والأرض، وأخرى يقول: إنكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا إنكم مخرجون، وما نحن بمصدقيه فيما يدعي ويزعم من التوحيد والبعث،
٣٩ - ولما يئس هود من إيمانهم بعد ذكر هذه المقالة: ﴿وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾.. فزع إلى ربه فقال: ﴿رَبِّ انْصُرْنِي﴾ عليهم وانتقم لى منهم ﴿بِمَا كَذَّبُون﴾؛ أي: بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه؛ أي: قال بعد أن يئس من إيمانهم، وقد سلك في دعوتهم كل مسلك متضرعًا إلى ربه: رب انصرني عليهم، وانتقم لى منهم بتكذيبهم إياي فيما دعوتهم إليه من الحق، واصرارهم على الباطل،
٤٠ - فأجابه ربه إلى ما سأل. ﴿قَالَ﴾ الله سبحانه وتعالى، مجيبًا لدعائه، واعدًا له بالقبول لما دعا به ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾؛ أي:
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
بعد زمان قليل ﴿لَيُصْبِحُنَّ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي ليصيرن؛ أي: الكفار المكذبين ﴿نَادِمِينَ﴾ على ما وقع منهم من التكذيب والعناد، والإصرار على الكفر، وذلك عند معاينتهم العذاب و ﴿ما﴾ في قوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ مزيدة بين الجار والمجرور تأكيدًا لقلة الزمان، كما في قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾.
٤١ - ﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾؛ أي: فأهلكتهم ﴿الصَّيْحَةُ﴾؛ أي: صيحة جبريل صاح عليهم صيحة هائلة، تصدعت منها قلوبهم فماتوا. والصيحة رفع الصوت، فإن قلت (١): هذا يدل على أن المراد بالقرن، المذكور في صدر القصة، ثمود قوم صالح، فإن عادا أهلكوا بالريح العقيم.
قلت: لعلهم حين أصابتهم الريح العقيم، فأصيبوا في تضاعفها بصيحة هائلة أيضًا، كما كان عذاب قوم لوط بالقلب والصيحة.
وقد روي أن شداد بن عاد حين أتم بناء إرم، سار إليها بأهله، فلم دنا منها، بعث الله عليهم صيحة من السماء، فهلكوا. وقيل: المراد بالصيحة هنا نفس العذاب والموت. وفي "الجلالين" صيحة العذاب والهلاك. والباء في قوله: ﴿بِالْحَقّ﴾ متعلقة بأخذتهم؛ أي: أخذتهم (٢) الصيحة بالوجه الثابت، الذي لا دافع له، أو بالعدل من الله سبحانه، كقولك فلان يقضي بالحق، أو بالوعد الصدق، والمراد: حاق بهم عذابه، ونزل عليهم سخطه بالوعد الصدق، وبالأمر المبرم من الله تعالى، ثم أخبر سبحانه عما صاروا إليه بعد العذاب النازل بهم، فقال: ﴿فَجَعَلْنَاهُم﴾؛ أي: فصيرنا أولئك المكذبين لهود ﴿غُثَاءً﴾؛ أي: كغثاء السيل الذي يحتمله ولا ينتفع به، والغثاء: هو كل ما يحمله السيل على ظاهر الماء، من الزبد والورق والعيدان، وبالي الشجر والحشيش، والمعنى: صيرهم هلكى، فيبسوا كما يبس الغثاء، كقولك: سال به الوادي، لمن هلك. ﴿فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: بعد الظالمون من رحمة الله بعدًا، وطردوا منها طردًا؛ أي: هلكوا. والمعنى: ألزمنا بعدًا من الرحمة للقوم الظالمين. وهذه الجملة تحتمل الإخبار والدعاء، وهو من المصادر التي لا يذكر فعلها معها. واللام لبيان من
(١) روح البيان.
(٢) البيضاوي.
دعي عليه بالبعد، وقيل: له ذلك؛ أي: قيل للظالمين بعدوا بعدًا، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل، كما في "البيضاوي".
والمعنى: أبعد الله (١) القوم الكافرين من رحمته بهلاكهم إذا كفروا بربهم وعصوا رسوله، وظلموا أنفسهم، وفي هذا من الذلة، والمهانة لهم والاستخفاف بأمرهم ما لا يخفى، وأن الذي ينزل بهم في الآخرة، من البعد، من النعيم والثواب، أعظم مما حل بهم، من العقاب في الدنيا، وفيه عظيم العبرة لمن بعدهم، ممن هم عرضة لمثله.
قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام
٤٢ - ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا﴾؛ أي: خلقنا وأوجدنا ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: من بعد إهلاك القرن المذكور وهم عاد على الأشهر، ﴿قُرُونًا﴾ وأمما ﴿آخَرِينَ﴾؛ أي: مع رسلهم، هم قوم صالح ولوط وشعيب وهود وغيرهم، كأيوب ويونس عليهم السلام كما وردت قصتهم على هذا الترتيب في الأعراف وهود. وقيل: هم بنو إسرائيل. والقرون والأمم، ولعل (٢) وجه الجمع للقرون هنا، والإفراد فيما سبق قريبًا أنه أراد ها هاهنا أممًا متعددة، وهناك أمة واحدة؛ أي: أنشأنا أقوامًا آخرين إظهارًا لقدرتنا، وليعلم كل أمة استغناءنا عنهم، وأنهم إن قبلوا دعوة الأنبياء وتابعوا الرسل.. تعود فائدة استسلامهم وانقيادهم وقيامهم بالطاعات إليهم. فالله تعالى (٣) ما أخلى الأرض من مكلفين، بل أوجدهم وبلغهم حدّ التكليف، حتى قاموا مقام من كان قبلهم، في عمارة الدنيا.
٤٣ - ثم بين سبحانه كمال علمه وقدرته في شأن عباده، فقال: ﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ﴾ ﴿من﴾ مزيدة للاستغراق؛ أي: ما تتقدم أمة من الأمم المجتمعة في قرن المقضي عليها بالهلاك. ﴿أَجَلَهَا﴾؛ أي: الوقت الذي حد وعين لهلاكها ﴿وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾؛ أي: وما يتأخرون عن ذلك الأجل بساعة وطرفة عين، بل تموت
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
وتهلك عند ما حد لها من الزمن. والمعنى؛ أي: ما تتقدم أمة من تلك الأمم المهلكة، الوقت الذي قدر لهلاكهم، وما يستأخرون عنه.
والخلاصة: ما تهلك أمة قبل مجيء أجلها ولا بعده، فلكل شيء ميقات لا يعدوه،
٤٤ - ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾ معطوف (١) على ﴿أَنْشَأْنَا﴾، لكن لا على معنى أن إرسالهم متأخر ومتراخ عن إنشاء تلك القرون المذكورة جميعًا، بل على معنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء قرن مخصوص بذلك الرسول، كأنه قيل: ثم أنشانا من بعدهم قرونًا آخرين، وقد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولًا خاصًا به.
والمعنى: أن إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء القرن الذي أرسل إليه، وليس المعنى: أن إرسال الرسل جميعًا متأخر عن إنشاء تلك القرون جميعًا؛ أي: أرسلنا رسلنا حالة كونهم ﴿تَتْرَى﴾؛ أي: متواترين ومتتابعين واحدًا بعد واحد، وهو مصدر من المواترة كشبعى ودعوى، والتاء فيه مبدلة من الواو، واصلة وترًا، والتتر المتابعة مع مهلة، وهو منصوب على الحالية، كما قررنا في الحل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن والشافعي (٢): ﴿تترى﴾ منونًا، وباقي السبعة: بغير تنوين، وانتصب على الحال؛ أي: متواترين واحدًا بعد واحد، ولكن مع انقطاع فترة طويلة بينهما.
﴿كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً﴾ منهم ﴿رَسُولُهَا﴾ المخصوص بها بالبينات، وبلغها أمر الله تعالى ﴿كَذَّبُوهُ﴾؛ أي: كذب ذلك الرسول أكثرهم لا كلهم، كما في "بحر العلوم" بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)﴾ وسلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من أهلكوا.
وعبارة "المراح" هنا ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾؛ أي (٣): أرسلنا إلى كل قرن من
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط بتصرف.
72
القرون رسولًا خاصًا به، حالة كونهم ﴿تَتْرَا﴾؛ أي: واحدًا بعد واحد، بينهما زمان طويل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: وهي قراءة الشافعي: ﴿تترى﴾ بالتنوين، فألفه للإلحاق بجعفر، فلما نون ذهبت ألفه لالتقاء الساكنين، وباقي السبعة: بألف صريحة دون تنوين، والألف للتأنيث باعتبار أن الرسل جماعة، والتاء بدل من الواو، فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد: وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل وقع حالًا؛ أي: متواترة؛ أي: متتابعة فرادى. انتهت.
﴿كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً﴾ بتحقيق الهمزتين، وتسهيل الثانية بينها؛ أي: بين الهمزة وبين الواو، بأن تنطق بها متوسطة بينهما. ﴿رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾؛ أي: كلما بلغهم الرسول ما جاء به من عند ربه من الشرائع والأحكام.. كذبوه، كما فعل قومك بك حين أمرتهم بذلك.
﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا﴾ في الهلاك بما نزل بهم من العذاب ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ﴾؛ أي: وجعلنا تلك الأمم المهلكة ﴿أَحَادِيثَ﴾ وحكايات وأمثالًا وأعاجيب، يتحدث ويتعجب منها لمن بعدهم، جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به عجبًا وتسليًا ومسامرة، أو جمع حديث على غير قياس، كما سيأتي في مبحث التصريف، والمراد هنا: المعنى الأول؛ أي: صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك، على سبيل التعجب والاعتبار، وضرب المثل بهم؛ أي: لم يبق منهم عين ولا أثر، إلا حكايات يسمر بها، ويتعجب منها، ويعتبر بها المعتبرون من أهل السعادة.
فإن قلت: لِمَ أضاف (١) الرسل إلى نفسه سبحانه، حيث قال: ﴿رسلنا﴾ وأضاف الرسول إلى الأمة، حيث قال: ﴿رَسُولُهَا﴾؟
قلت: إن الإضافة تكون للملابسة، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه.
فالأول: كانت الإضافة فيه لتشريف الرسل.
والثانى: كانت الإضافة فيه إلى الأمة حيث كذبته، ولم ينجح فيهم إرساله
(١) البحر المحيط بتصرف.
73
إليهم، فناسبت الإضافة إليهم.
﴿فَبُعْدًا﴾؛ أي: ألزمنا بعدًا من الرحمة ﴿لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بالله تعالى، ولا يصدقون رسوله، وبما جاء به أيًّا كانوا. فإن قلت: لم نكر (١) القوم هنا حيث قال: ﴿لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وعرفه فيما تقدم. حيث قال: ﴿لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾؟
قلت: نكره هنا؛ لأن القرون المذكورة هنا منكرة غير معينة، بخلاف ما تقدم، فإنه في حق قوم معين كما سبق، وفي الآية (٢) دلالة على أن عدم الإيمان سبب للهلاك والعذاب في النيران، كما أن التصديق مدار للنجاة والتنعم في الجنان.
قصة موسى وهارون عليهما السلام
٤٥ - ﴿ثُمَّ﴾ بعد هؤلاء الرسل الذين تقدم ذكرهم ﴿أَرْسَلْنَا مُوسَى﴾ بن عمران ﴿وَأَخَاهُ هَارُونَ﴾ بن عمران، وكان أكبر من موسى بسنتين، حالة كونهما مؤيدين ﴿بِآيَاتِنَا﴾ التسع من اليد والعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الثمرات والطاعون، ولا مساغ لعد فلق البحر منها. إذ المراد الآيات التي كذبوها ﴿و﴾ مؤيدين بـ ﴿سُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: بحجة واضحة ملزمة للخصم في الاستدلال على وجود الصانع وإثبات النبوة، وهي العصا، وخصصها بذكرها ثانيًا؛ لفضلها على سائر الآيات، باشتمالها على معجزات كثيرة، كانقلابها حية، وتلقفها ما أفكته السحرة، وانقلاب البحر، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها إلى غير ذلك، ولأنها أول المعجزات وأمها اهـ. "بيضاوي". أو المراد بالسلطان نفس الآيات المذكورة، عبر عنها بسلطان على طريق العطف، تنبيهًا على جمعها لعنوانين جليلين، وتنزيلًا لتغايرها في التعبير والاسم منزلة التغاير الذاتي.
٤٦ - ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾؛ أي: أشراف قومه من القبط، وخصوا بالذكر؛ لأن
(١) روح البيان بتصرف.
(٢) روح البيان.
إرسال بني إسرائيل بآرائهم، لا بآراء أعقابهم ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾؛ أي: فاستكبر فرعون وملؤه عن الإيمان والمتابعة لهما؛ أي: امتنعوا عن قبول الإيمان تكبّرًا وعنادًا، وأعظم الكبر أن يتهاون العبيد بآيات ربهم وبرسالاته بعد وضوحها، وانتفاء الشك عنها، ويتعظموا عن امتثالها وقبولها.
﴿وَكَانُوا﴾؛ أي: وكان فرعون وملؤه ﴿قَوْمًا عَالِينَ﴾؛ أي: متكبرين مجاوزين للحد في الكبر والطغيان؛ أي: كانوا قومًا عادتهم الاستكبار والتمرد، أو قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم.
والمعنى: أي ثم (١) أرسلنا بعد الرسل الذين تقدم ذكرهم من قبل موسى وأخاه هارون، إلى فرعون وأشراف قومه من القبط بالآيات والحجج الدامغة والبراهين القاطعة، فاستكبروا عن اتباعهما، والانقياد لما أمروا به.. ودعوا إليه من الإيمان، وترك تعذيب بني إسرائيل، كما جاء في سورة النازعات: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩)﴾. وقد كان من دأبهم العتو والبغي على الناس، وظلمهم كبرًا وعلوًا في الأرض.
٤٧ - ثم ذكر ما استتبعه هذا العتو والجبروت بقوله: ﴿فَقَالُوا﴾ عطف على استكبروا، وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار؛ أي: قال فرعون وملؤه فيما بينهم على طريق المناصحة ﴿أَنُؤْمِنُ﴾ الهمزة فيه للإنكار بمعنى لا نؤمن، وما ينبغي أن يصدر منا الإيمان ﴿لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ يعنون موسى وهارون، وصف بالمثل الاثنان؛ لأنه في حكم المصدر العام للإفراد والتثنية والجمع المذكر والمؤنث، ﴿وَقَوْمُهُمَا﴾ يعنون بني إسرائيل ﴿لَنَا﴾ متعلقة بقوله: ﴿عَابِدُونَ﴾ قدمت عليه لرعاية الفاصلة، والجملة حال من فاعل نؤمن؛ أي: خادمون منقادون لنا كالعبيد، وكأنهم قصدوا بذلك التعرض لشأنهما، وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة، من وجه آخر غير البشرية.
قال المبرد: العابد: المطيع الخاضع. قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من
(١) المراغي.
دان لملك عابدًا له. وقيل: يحتمل أنه كان يدعي الألوهية، فدعى الناس إلى عبادته فأطاعوه.
أي: فقال فرعون وملؤه: كيف ندين لموسى وأخيه، وبنو إسرائيل قومهما خدمنا وعبيدنا يخضعون لنا، ويتلقون أوامرنا؛ وما قصدوا بهذا إلا الإهانة بهما. والحط من قدرهما، وبيان أن مثلهما غير جدير بمنصب الرسالة، وقد قاسوا الشرف الديني، والإمامة في تبليغ الوحي عن الله تعالى، بالرياسة الدنيوية المبنية على نيل الجاه والمال.
وهم في هذا أشبه بقريش، إذ قالوا: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)﴾ وقد فاتهم أن مدار أمر النبوة، والإصطفاء للرسالة، إنما هو السيق في الفضائل النفسية والصفات السنية، التي يتفضل الله بها على من يشاء من عباده، فالأنبياء لصفاء نفوسهم، يتصلون بالعالم العلوي وعالم المادة، فيتلقون الوحي من الملأ الأعلى، ويبلغونه إلى البشر، ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق عن التبتل والانقطاع إلى حضرة الحق.
وإن تعجب من شيء، فاعجب لهؤلاء وأمثالهم، ممن لم يرض النبوة للبشر، كيف سوغت لهم أنفسهم ادعاء الألوهية للحجر ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
٤٨ - ثم ذكر سبحانه عاقبة أعمالهم وما آل إليه أمرهم فقال: ﴿فَكَذَّبُوهُمَا﴾؛ أي (١): ناصر فرعون وملؤه على تكذيب موسى وهارون، واستمروا عليه ﴿فَكَانُوا﴾؛ أي: فصاروا ﴿مِنَ الْمُهْلَكِينَ﴾ بالغرق في بحر القلزم (البحر الأحمر)؛ أي: فأهلكهم الله تعالى بالغرق، كما أهلك من أهلكهم من الأمم بفنون من العذاب بتكذيبهم لرسلهم.
ثم ذكر ما أولاه موسى بعد هلاكهم من التشريف والتكريم،
٤٩ - فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أعطينا ﴿مُوسَى﴾ بعد إهلاكهم وإنجاء بني
(١) المراغي.
إسرائيل من أيديهم ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: التوراة، وفيها الأحكام من الأوامر والنواهي ﴿لَعَلَّهُمْ﴾؛ أي: لعل بني إسرائيل ﴿يَهْتَدُونَ﴾ إلى طريق الحق بالعمل بما فيها من الشرائع والأحكام.
وخص موسى (١) بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور، وكان هارون خليفته في قومه، فجعل سبحانه إيتاء موسى إياها إيتاءً لقومه؛ لأنها وإن كانت منزلة على موسى فهي لإرشاد قومه. وقيل: إن ثم مضافًا محذوفًا أقيم المضاف إليه مقامه؛ أي: آتينا قوم موسى الكتاب.
قصة عيسى عليه السلام إجمالًا
٥٠ - ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ﴾؛ أي: عيسى ابن مريم آية للناس دالة على عظيم قدرتنا وبديع صنعنا، إذ خلقناه من غير أب، وأنطقناه في المهد، وأجرينا على يديه إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى ﴿و﴾ جعلنا ﴿أمه﴾ مريم بنت عمران ﴿آيَةً﴾ للناس دالة على قدرتنا، إذ حملته من غير أب؛ أي: جعلنا ابن مريم آية في نفسه، بأن تكلم في المهد، فظهرت منه معجزات جمة، وجعلنا أمه آية في نفسها، بأنها ولدته من غير مسيس بشر، فحذف الأولى لدلالة الثانية عليها، أو جعلناهما آية واحدة بولادته منها من غير مسيس بشر، فالآيتان أمر واحد.
قال في "العيون": ﴿آيَةً﴾؛ أي: عبرة لبني إسرائيل بعد موسى؛ لأن عيسى تكلم في المهد وأحيا الموتى ومريم ولدته من غير مسيس، وهما آيتان قطعًا، فيكون هذا من قبيل الاكتفاء بذكر إحداهما، انتهى.
وفي "الجلالين" وأفرد الآية حيث لم يقل: آيتين؛ لأن الآية فيهما واحدة ولادته من غير فحل وذلك لأن ولادته من غير فحل أمر خارق للعادة، وينسب لها وله. فيقال: ولدته من غير فحل، وولد هو من غير فحل. اهـ. "شيخنا"؛ أي: فاشتركا في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة، وذلك؛ لأن نفس المعجز
(١) روح البيان.
77
ظهر فيهما، لا أنه ظهر على يديهما؛ لأن الولادة فيه وفيها، بخلاف الآيات التي ظهرت على يده.
فإن قلت: لم قدم عيسى هنا على أمه حيث قال: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ﴾، وقدمها على عيسى في سورة الأنبياء حيث قال: ﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾؟.
قلت: قدمه هنا نظرًا لأصالته فيما ذكر، من ولادته من غير أب، وقدمها هناك نظرًا لأصالتها فيما نسب إليها، من الإحصان والنفخ.
﴿وَآوَيْنَاهُمَا﴾؛ أي: جعلنا ابن مريم وأمه يأويان وينضمان ﴿إِلَى رَبْوَةٍ﴾؛ أي: إلى مكان مرتفع؛ أي (١): أنزلناهما في مكان مرتفع من الأرض، وجعلناه مأواهما ومنزلهما، وهي إيليا أرض بيت المقدس، فإنها مرتفعة، وإنها كبد الأرض، وأقربها إلى السماء، وأزيدها على سائر الأرض ارتفاعًا، بثمانية عشر ميلًا على ما يروى عن كعب وقتادة، وقال الإِمام السهيلي: أوت مريم بعيسى طفلًا إلى قرية من دمشق يقال لها: ناصرة وبناصرة تسمى النصارى، واشتق اسمهم منها. انتهى.
وقيل: هي أرض دمشق، وبه قال عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب ومقاتل. وقيل: أرض فلسطين، وبه قال السدي.
﴿ذَاتِ قَرَارٍ﴾؛ أي: ذات مستقر يستقر عليه ساكنوه؛ لكونها ذات ثمار وزروع، فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها، أو مستويةً يمكن القرار فيها للحراثة والحراسة.
﴿وَمَعِينٍ﴾؛ أي: ذات معين، أي: ماء جار على ظاهر الأرض. قال الزجاج (٢): المعين: هو الماء الجاري في العيون، فالميم على هذا زائدة، كزيادتها في منبع، وقيل: هو فعيل بمعنى مفعول، قال علي بن سليمان الأخفش:
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
78
معن الماء إذا جرى، فهو معين وممعون، وكذا قال ابن الأعرابي. وقيل: هو مأخوذ من الماعون، وهو النفع وبمثل ما قال الزجاج، قال الفراء.
والخلاصة: أي وجعلناهما ينزلان بمرتفع من الأرض، ذي ثمار وماء جار كثير. وفي وصف (١) ماء تلك الربوة بذلك، إيذان بكونه جامعًا لفنون المنافع، من الشرب وسقي ما يسقى من الحيوان، والنبات بغير كلفة، ومن التنزه بمنظره الحسن المعجب، ولولا أن يكون الماء البخاري، لكان السرور الأوفر فائتًا، وطيب المكان مفقودًا، ومن أحاديث المقاصد الحسنة ثلاث يجلون البصر: النظر إلى الخضرة، وإلى الماء البخاري، وإلى الوجه الحسن؛ أي: مما يحل النظر إليه، فإن النظر إلى الأمرد الصبيح ممنوع.
وقرأ الجمهور (٢) وابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: ﴿رَبْوَةٍ﴾ بضم الراء، وهي لغة قريش، وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتح الراء، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها، وابن أبي إسحاق ﴿رباوة﴾ بضم الراء وبالألف، وزيد بن علي والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب "اللوامح" بفتحها وبالألف. وقرىء بكسرها والألف.
٥١ - وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ﴾ نداء (٣) وخطاب لجميع الأنبياء، لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة؛ لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة، بل على أن كلاً منهم، خوطب به في زمانه، فيدخل تحته عيسى دخولًا أوليًا، فهذا حكاية لرسول الله - ﷺ - على وجه الإجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها إثر حكاية إيواء عيسى عليه السلام، وأمه إلى الربوة إيذانًا بأن ترتيب مبادىء التنعم لم يكن من خصائصه عليه السلام، بل إباحة الطعام شرع قديم، جرى عليه جميع الرسل عليهم السلام، ووصوا به؛ أي: وقلنا لكل رسول كُلْ من الطيبات، واعمل صالحًا، فعبر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) الفتوحات.
79
الحكاية إجمالًا للإيجاز، وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهبان من رفض الطيبات ما لا يخفى. اهـ. من "البيضاوي" و"أبي السعود".
ويعلم من قوله: فهذا حكاية لرسول الله... إلخ، أن في الكلام حذفًا، تقديره: ونخبرك يا محمد، أنا أمرنا الرسل المتقدمين قبلك، وقلنا لهم: يا أيها الرسل ﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾؛ أي: من الحلالات، سواء كانت مستلذة أو لا، وسواء كانت من المآكل والمشارب.
﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾؛ أي: عملًا صالحًا من الفرائض، والنوافل، فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم، وهذا الأمر للوجوب، بخلاف الأول فإنه للإرشاد.
فائدة (١): وفي هذا رد وهدم لما قالهُ بعض الجهلة، من أن العبد إذا بلغ غاية المحبة، وصفا قلبه، واختار الإيمان على الكفر من غير نفاق، سقطت عنه الأعمال الصالحة من العبادات الظاهرة، وتكون عبادته التفكر، وهذا كفر وضلال، فإن أكمل الناس في المحبة والإيمان هم الرسل، خصوصًا حبيب الله محمد - ﷺ - مع أن التكاليف بالأعمال الصالحة والعبادات في حقهم أتم وأكمل.
وذكر الطبري (٢): أن المراد بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ عيسى ابن مريم عليه السلام، كما تقول في الكلام للرجل الواحد: كفوا عنا أذاكم وكما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ والمراد بالناس رجل واحد، وقال القرطبي (٣): قال بعض العلماء: والخطاب في هذه الآية للنبي - ﷺ -، وأنه أقامه مقام الرسل، وقال الزجاج: هذه مخاطبة للنبي - ﷺ -، ودل الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا؛ أي: كلوا من الحلال. وقال ابن كثير (٤): يأمر الله عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال، والقيام بالصالح من الأعمال، فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح، فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتم القيام، وجمعوا بين كل خير قولًا وعملًا ودلالةً ونصحًا.
(١) روح البيان.
(٢) الطبري.
(٣) القرطبي.
(٤) ابن كثير.
80
فجزاهم الله عن العباد خيرًا. اهـ.
وحاصل معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ أن الله سبحانه (١) أمر كل نبي في زمانه، بأن يأكل من المال الحلال ما لذّ وطاب، وأن يعمل صالح الأعمال ليكون ذلك كفاء من أنعم به عليه من النعم الظاهرة والباطنة.
وهذا الأمر، وإن كان موجهًا إلى الأنبياء فإن أممهم تبع لهم، وكأنه يقول لنا: أيها المسلمون في جميع الأقطار، كلوا من الطيبات؛ أي: من الحلال الصافي القوام، الحلال ما لا يعصى الله فيه، والصافي ما لا ينسى الله فيه، والقوام ما يمسك النفس، ويحفظ العقل، واعملوا صالح الأعمال.
أخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس - رضي الله عنها - أنها بعثت إلى النبي - ﷺ -، بقدح لبن حين فطره وهو صائم فرد إليها رسولها، وقال: "من أين لك هذا؟ " فقالت: من شاة لي، ثم رده وقال: "من أين هذه الشاة؟ " فقالت: اشتريتها بمالي فأخذه، فلما كان من الغد أمته، وقالت: يا رسول الله، لم رددت اللبن؟ فقال - ﷺ -: "أمرت الرسل أن لا يأكلوا إلا طيبًا، ولا يعملوا إلا صالحًا".
وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، فأنى يستجاب له؟ ".
وفي تقديم أكل الطيبات على العمل الصالح إيماء إلى أن العمل الصالح لا
(١) المراغي.
81
يتقبل، إلا إذا سبق بأكل المال الحلال، وجاء في بعض الأخبار، "أن الله تعالى لا يقبل عبادة من في جوفه لقمة من حرام". وصح أيضًا "أيّما لحم نبت من سحت، فالنار أولى به". ثم علل هذا الأمر بقوله سبحانه: ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الأعمال الظاهرة والباطنة ﴿عَلِيمٌ﴾ فأجازيكم عليه؛ أي: إني بأعمالكم عليم، لا يخفى عليَّ شيء منها، وأنا مجازيكم بجميعها وموفيكم أجوركم وثوابكم عليها، فخذوا في صالح الأعمال، واجتهدوا قدر طاقتكم فيها، شكرًا لربكم على ما أنعم به عليكم.
وفي هذا (١) تحذير من مخالفتهم ما أمروا به، وإذا قيل للأنبياء ذلك، فما أجدر أممهم أن تأخذ حذرها وترعوي عن غيها، وتخشى بأس الله تعالى، وشديد عقابه، وأتى هنا بلفظ ﴿عَلِيمٌ﴾ وفي سبأ بلفظ ﴿بصير﴾ إذ ما هنا تقدمه إيتاء الكتاب وجعل مريم وابنها آية والعلم بهما، أنسب من بصرهما، وما هناك تقدمه قوله: (وألنا له الحديد)، والبصر بإلانة الحديد أنسب من العلم بها. اهـ زكريا.
٥٢ - ﴿و﴾ أقول لكم أيها الرسل: ﴿إن هذه﴾ هذه العقائد التي هي عقائد التوحيد والإيمان ﴿أُمَّتُكُمْ﴾؛ أي: ملتكم ودينكم جميعًا ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾. حال من ﴿هذه﴾؛ أي: حالة كونها ملة وشريعة متحدة في أصول الشرائع التي لا تتبدل، ولا تتغير بتبدل الأعصار والأزمان، وتلك الملة المتحدة هي الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأما اختلاف الشرائع والأحكام بحسب اختلاف الأزمان والأحوال، لا يسمى اختلافًا في الدين؛ لأن الأصول متحدة، فالحائض والطاهر من النساء دينها واحد، وإن افترق تكليفهما.
﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ﴾ ومالككم لا شريك لـ في الربوبية، ﴿فَاتَّقُونِ﴾؛ أي: فاحذروا عقابي وخافوا عذابي، وفي هذا إيماء إلى أن دين الجميع واحد، فيما يتصل لمعرفة الله تعالى واتقاء معاصيه. والفاء في قوله: ﴿فَاتَّقُونِ﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت. عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنني أنا ربكم
(١) المراغي.
82
ومالككم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: اتقون في شق العصا، ومخالفة الكلمة، والضمير للرسل والأمم جميعًا، على أن الأمر في حق الرسل للتهييج والإلهاب، وفي حق الأمم للتحذير والإيجاب.
فإن قلت: لم قال في سورة الأنبياء: ﴿فَاعْبُدُونِ﴾ وقال هنا: ﴿فَاتَّقُونِ﴾؟
قلت: لأن الخطاب في سورة الأنبياء للكفار، فأمرهم بالعبادة التي هي التوحيد، والخطاب هنا للرسل والمؤمنين بدليل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ والأنبياء والمؤمنون إنما يؤمرون بالتقوى لا بالتوحيد. وقال هناك: ﴿وتقطعوا﴾ بالواو، وقال: هنا ﴿فَتَقَطَّعُوا﴾ بالفاء؛ لأن التقطع هناك قد وقع منهم قبل هذا القول لهم، وما بعد الواو ليس مرتبًا على ما قبلها، والتقطع هنا وقع منهم بعد هذا القول، فما بعد الفاء مرتب على ما قبلها. اهـ. "زكريا".
وعبارة ابن حيان هنا (١): وجاء هنا ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء: ﴿فَاعْبُدُونِ﴾ لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح والأمم الذين من بعدهم، وفي الأنبياء، وإن تقدمت أيضًا قصة نوح وما قبلها، فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى، وجاء هنا ﴿فتقطعوا﴾ بالفاء إيذانًا بأن التقطع اعتقب الأمر بالتقوى، وذلك مبالغة في عدم قبولهم، وفي نفورهم عن توحيد الله وعبادته، وجاء في الأنبياء بالواو، فاحتمل معنى الفاء، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة. اهـ.
وقرأ الكوفيون (٢): ﴿وإن﴾: بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف، والحرميان وأبو عمرو بالفتح والتشديد؛ أي: ولأن، وابن عامر: بالفتح والتخفيف، وهي المخففة من الثقيلة. ذكره في "البحر".
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
83
وعبارة "الشوكاني" هنا: قرىء (١) بكسر ﴿إن﴾ على الاستئناف المقرر لما تقدمه، وقرىء بفتحها وتشديدها. قال الخليل: هي في موضع نصب لما زال الخافض؛ أي: أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به. وقال الفراء: أن متعلقة بفعل محذوف، تقديره: واعلموا أن هذه أمتكم. وقال سيبويه: هي متعلقة باتقون، والتقدير: فاتقون؛ لأن أمتكم أمة واحدة.
٥٣ - ثم ذكر سبحانه ما وقع من الأمم، من مخالفتهم لما أمرتهم الرسل به، فقال: ﴿فَتَقَطَّعُوا﴾؛ أي: فجعل أتباع الأنبياء ﴿أَمْرَهُمْ﴾؛ أي: أمر دينهم مع اتحاده في الوضع الإلهي قطعًا متفرقة، وأدياناَ مختلفة فيما ﴿بَيْنَهُمْ﴾ حالة كون أمرهم ﴿زُبُرًا﴾؛ أي: قطعًا مختلفة. جمع زبرة، بمعنى قطعة، كغرفة وغرف، فهو حال من أمرهم، أو من واو تقطعوا؛ أي: حال كونهم طائفة مختلفة متفرقة. ﴿كُلُّ حِزْبٍ﴾؛ أي: كل جماعة من أولئك المتحزبين ﴿بِمَا لَدَيْهِمْ﴾ من الدين الذي اختاروه ﴿فَرِحُونَ﴾؛ أي: مسرورون معجبون معتقدون أنه الحق دون ما سواه.
فيا أتباع (٢) الأنبياء أين عقولكم إن الله تعالى أرسل إليكم رسلًا، فجعلتموهم محل الشقاق، ومنار النزاع، لم هذا؟ هل اختلاف الشرائع مع اتحاد الأصول والعقائد ينافي المودة والمحبة؟ وأين أنتم يا أتباع محمد، ما لكم كيف تفرقتم أحزابًا؟ هل اختلاف المذاهب كشافعية ومالكية وزيدية وشيعة يفرق العقيدة، وكيف يكون سبب التفرقة فهل تغير الدين، وهل تغير القرآن، وهل تغيرت القبلة؟ وهل حدث إشراك؟ كلا كلا، فإذا كان العيب قد لحق الأمم المختلفة على تنابذها، فما أجدركم أن يلحقكم الذم على تنابذكم، وأنتم أهل دين واحد.
ولا علة لهذا إلا الجهالة الجهلاء، فقد خيم الجهل فوق ربوعكم ومدت طنبه بين ظهرانيكم؛ لأنكم فرطتم في كتاب ربكم، ظننتم أن أسس الدين هي مسائل العبادات والأحكام وتركتم الأخلاق وراءكم ظهريًا، وتركتم آيات التوحيد
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
والنظر في الأكوان، ولو أنكم نظرتم إلى شيء من هذا لعلمتم أن كل ذلك من دينكم، وأنتم عنه غافلون.
وقرأ ابن عباس وأبو عمران الجوني (١): ﴿زُبُرًا﴾ بضم الزاي وفتح الباء. وقرأ أبو الجوزاء وابن السميقع: ﴿زبرًا﴾ بضم الزاي وإسكان الباء. قال الزجاج: من قرأ ﴿زبرًا﴾ بضم الباء، فتأويله جعلوا دينهم كتبًا مختلفةً، جمع زبور. ومن قرأه: ﴿زبرًا﴾ بفتح الباء أراد قطعًا كقطع الحديد.
٥٤ - وبعد (٢) أن ذكر سبحانه ما حدث من أمم أولئك الأنبياء، من التفرق والانقسام فيما كان يجب عليهم فيه اتفاق الكلمة، ومن فرحهم بما فعلوا.. أمر نبيه أن يتركهم في جهلهم الذي لا جهل فوقه؛ لأنه لا ينجع فيهم النصح، ولا يجدي فيهم الإرشاد، فقال: ﴿فَذَرْهُمْ﴾ والفاء فيه فصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت يا محمد تقطعهم في أمرهم، وفرحهم بما هم عليه من الأديان الباطلة، وأردت بيان ما هو الأصلح لك، فأقول لك: أترك هؤلاء الكفرة المتفرقة ﴿فِي غَمْرَتِهِمْ﴾؛ أي: على غيهم وضلالهم، ولا تشغل قلبك بهم، وبتفرقهم ﴿حَتَّى حِينٍ﴾؛ أي: إلى حين قتلهم أو موتهم على الكفر، أو نزول العذاب بهم، فهو وعيد لهم بعذاب الدنيا والآخرة، وتسلية لرسول الله - ﷺ -، ونهي له عن الاستعجال بعذابهم، والجزع من تأخيره، فالآية خرجت مخرج التهديد لهم، لا مخرج الأمر له - ﷺ -، شبه سبحانه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمر القامة ويسترها؛ لأنهم مغمورون فيها لا عيون لها، والمعنى: اتركهم في جهلهم، فليسوا بأهل للهداية ولا يضق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شيء أجل معلوم.
ونحو الآية قوله: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (١٧)﴾ وقوله: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)﴾.
وقرأ الجمهور: ﴿في غمرتهم﴾، وعلي بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي:
(١) زاد المسير.
(٢) المراغي.
﴿في غمراتهم﴾ على الجمع؛ لأن لكل واحد غمرة، وعلى قراءة الجمهور: فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام.
٥٥ - ثم بيّن خطأهم فيما يظنون، من أن سعة الرزق في الدنيا علامة رضا الله عنهم في الآخرة، فقال: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ﴾ الهمزة فيه (١) الإنكار الواقع واستقباحه. وما موصولة؛ أي: أيظن هؤلاء الكفرة، أن الذي نعطيهم إياه ونجعله مددًا لهم، ﴿مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ﴾ بيان للموصول، وتخصيص البنين لشدة افتخارهم بهم.
٥٦ - ﴿نُسَارِعُ﴾ به ﴿لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ﴾؛ أي: فيما فيه خيرهم وإكرامهم، وجواب الاستفهام محذوف، يدل عليه قوله: ﴿بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾؛ أي: لا يعلمون أن ذلك استدراج؛ لأنه معطوف على مقدر يدل عليه السياق؛ أي: كلا لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلًا كالبهائم التي لا تفهم ولا تعقل، فإن ما خولناهم من النعم، وأمددناهم به من الخيرات، إنما هو استدراج لهم، ليزدادوا إثمًا. كما قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾.
والمعنى: أيظن هؤلاء المغرورون، أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد كرامة لهم وإجلال لأقدارهم عندنا، كلا إن هذا الإمداد ليس إلا استدراجًا في المعاصي، واستجرارًا لهم إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة في الخيرات، إذ هم أشبه بالبهائم، لا فطنة لهم ولا شعور، حتى يتفكروا في أنه إستدراج هو أم مسارعة في الخيرات.
ونحو الآية قوله تعالى: حكاية عنهم: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)﴾ وقوله: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
قال قتادة في تفسير الآية (٢): مكر الله بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم لا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه"، قالوا: وما بوائقه يا رسول؛ قال: "غشه وظلمه".
وقرأ ابن وثاب (١): ﴿أنما نمدهم﴾ بكسر الهمزة، وقرأ (٢) عكرمة وأبو الجوزاء: ﴿يمدهم﴾ بضم الياء وكسر الميم. وقرأ أبو عمران الجوني: ﴿نمدهم﴾ بفتح النون وضم الميم. وقرأ ابن عباس وعكرمة وأيوب السختياني: ﴿يسارع﴾ بضم الياء وكسر الراء. وقرأ معاذ القارىء وأبو المتوكل: مثله، إلا أنهما فتحا الراء. وقرأ أبو عمران الجوني وعاصم الجحدري وابن السميفع: ﴿يسرع﴾ بضم الياء وسكون السين وفتح الراء من غير ألف. وقرأ الباقون: ﴿نسارع﴾ بالنون. قال الثعلبي: وهذه القراءة هي الصواب لقوله: ﴿نمدهم﴾.
ولما نفى الله سبحانه الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين، أتبع ذلك بذكر من هو أهل للخيرات عاجلًا وآجلًا، فوصفهم بصفات أربع:
الأولى:
٥٧ - ما ذكرها بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: من خوف عذاب ربهم ﴿مُشْفِقُونَ﴾؛ أي: دائبون في طاعته، جادون في نيل مرضاته، حذرون من أسباب العذاب، خائفون منها، ومن ثم يبتعدون عن الآثام والمعاصي، والمعنى (٣): إن المؤمنين الذين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عذابه. قال الحسن البصري: المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا. والفرق بين (٤) الخشية والإشفاق أن الخشية خوف يشوبه تعظيم، والإشفاق عناية مختلطة بخوف؛ لأن المشفق يحب المشفق عليه، ويخاف ما يلحقه.
(١) البحر المحيط.
(٢) زاد المسير.
(٣) الخازن.
(٤) روح البيان.
وعبارة "الشوكاني" هنا: فظاهر ما في الآية التكرار، وأاْجيب يحمل الخشية على العذاب؛ أي: من عذاب ربهم خائفون، وبه قال الكلبي ومقاتل. وأجيب يحمل الإشفاق على ما هو أثر له، وهو الدوام على الطاعة؛ أي: الذين هم من خشية ربهم دائمون على طاعته. وأجيب أيضًا: بأن الإشفاق كمال الخوف فلا تكرار. وقيل: هو تكرار للتأكيد.
والصفة الثانية:
٥٨ - ذكرها بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ المنصوبة في الآفاق المنزلة على الإطلاق ﴿يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: يصدقون مدلولها، ولا يكذبونها بقول، ولا فعل بأن يستدلوا بهذه المخلوقات على وجود الصانع، ويصدقوا بأن ما في القرآن حق من ربهم. والمعنى؛ أي: والذين هم بآيات ربهم الكونية، التي نصبها في الأنفس والآفاق دلالة على وجوده، ووحدانيته، وبآياته المنزلة على رسله، مصدقون موقنون، لا يعتريهم شك ولا ريب.
والصفة الثالثة:
٥٩ - ذكرها بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾ غيره شركًا جليًّا ولا خفيًا؛ أي: والذين لا يعبدون مع الله سواه، ويعلمون أنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس له صاحبة ولا ولد.
وفيما سبق وصف لله بتوحيد الربوبية، وهنا وصف له بتوحيد الألوهية، ولم يقتصر على الأول؛ لأن كثيرًا من المشركين يعترفرن بتوحيد الربوبية، كما قال: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ولا يعترفون بتوحيد الألوهية والعبادة، ومن ثم عبدوا الأصنام والأوثان على طرائق شتى، وعبدوا معبودات مختلفة.
والصفة الرابعة:
٦٠ - ذكرها بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا﴾؛ أي: والذين يعطون ما أعطوه من الزكوات والصدقات، ويفعلون ما توسلوا به إلى الله تعالى، من الخيرات والمبرات، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار، والماضي على التحقق، ﴿وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ حال من فاعل يؤتون؛ أي: والحال أن قلوبهم خائفة أن
(١) المراغي.
88
لا يتقبل ذلك منهم، وأن لا يقع على الوجه المرضي. ﴿أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾؛ أي: خائفون عدم قبولها حين يبعثون، ويرجعون إلى ربهم، وتنكشف الحقائق، ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لديه، وإن قل. وجملة ﴿أن﴾ في محل الجر بجار محذوف، متعلق بـ ﴿وجلة﴾؛ أي: وجلة من رجوعهم، أو لأجل رجوعهم إلى الله تعالى. وسبب الوجل (١) هو أن يخافوا أن لا يقبل منهم ذلك على المطلوب، لا مجرد رجوعهم إليه سبحانه، وقيل: المعنى أن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والحساب، وعلم أن المجازي والمحاسب هو الرب الذي لا تخفى عليه خافية، لم يخل من وجل.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يُؤْتُونَ مَا آتَوْا﴾ من الإيتاء؛ أي: يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات، وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي: ﴿يأتون ما آتوا﴾ من الإتيان؛ أي: يفعلون ما فعلوا. وقرأ الأعمش: ﴿إنهم﴾ بالكسر.
ويدخل في قوله (٣): ﴿يُؤْتُونَ مَا آتَوْا﴾ كل حق يلزم إيتاؤه، سواءًا كان من حقوق الله، كالزكاة والكفارة وغيرها، أم من حقوق العباد، كالودائع والديون والعدل بين الناس فمتى فعلوا ذلك، وقلوبهم وجلة من التقصير والإخلال بها بنقصان أو غيره.. اجتهدوا في أن يوفوها حقها حين الأداء.
وسألت عائشة رسول الله - ﷺ - عن قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أهو الذي يزني وشرق ويشرب الخمر، وهو على ذلك يخاف الله تعالى فقال: "لا يا ابنة الصديق، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل ذلك منه".
وهذه الموصولات الأربعة (٤) عبارة عن طائفة واحدة متصفة بجميع ما ذكر في حيّز صلاتها من الأوصاف الأربعة، لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
89
بواحد من الأوصاف المذكورة، كأنه قيل: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، وبآيات ربهم يؤمنون إلخ. وإنما كرر الموصول إيذانًا باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها، وتنزيلًا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها.
قال بعضهم: وجل العارف من طاعته أكثر من وجله من مخالفته؛ لأن المخالفة تمحى بالتوبة، والطاعة تطلب بتصحيحها، والإخلاص والصدق فيها، فإذا كان فاعل الطاعات خائفًا مضطربًا، فكيف لا يخاف غيره.
٦١ - وجملة قوله: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ﴾ خبر إن؛ أي: أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف المذكورة الجليلة خاصة دون غيرهم. ﴿يسارعون﴾؛ أي: يبادرون ﴿فىِ﴾ نيل ﴿الْخَيْرَاتِ﴾ التى من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة، كما قال تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾. وقال: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾؛ أي: أولئك الذين جمعوا هذه المحاسن، يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرونها لئلا تفوتهم إذا هم ماتوا، ويتعجلون في الدنيا وجوه الخيرات العاجلة، التي وعدوا بها على الأعمال الصالحة في نحو قوله: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ الآية، وقيل: المراد بالخيرات الطاعات، والمعنى: يركبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة، وهم لأجلها فاعلون السبق، أو لأجلها سابقون الناس.
قال في "الإرشاد": إيثار كلمة (في) على كلمة (إلى)؛ للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات، لا أنهم خارجون عنها، متوجهون إليها بطريق المسارعة.
كما في قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ لخ.
وقرأ الحُرُّ النحوي: ﴿يسرعون﴾ مضارع أسرع، يقال: أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد، وأما المسارعة فالمسابقة؛ أي: يسارعون غيرهم.
وجملة قولة: ﴿وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ مؤكدة لما قبلها، مفيدة للثبوت بعدما أفادت الأولى التجدد، ومفعول المسابقة محذوف، واللام بمعنى إلى؛ أي: وهم
يسابقون الناس إلى تلك الخيرات لينالوا رضا الله تعالى؛ أي: إنهم يرغبون في الطاعات وهم لأجلها سابقون الناس إلى الثواب، لا أولئك الذين أمددناهم بالمال والبنين فظنوا غير الحق أن ذلك إكرام منا لهم، فإن إعطاء المال والبنين والإمداد بهما لا يؤهل للمسارعة إلى الخيرات، وإنما الذي يؤهل للخيرات هو خشية الله وعدم الإشراك به، وعدم الرياء في العمل، والتصديق مع الخوف منه.
وخلاصة ذلك: أن النعم ليست هي السعادة الدنيوية وقيل الحظوظ فيها، بل هي العمل الطيب بإيتاء الصدقات، ونحوها، مع إحاطة ذلك بالخوف والخشية.
٦٢ - ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا﴾ من النفوس ﴿إِلَّا وُسْعَهَا﴾؛ أي: قدر طاقتها، فقول: لا إله إلا الله، والعمل بما يترتب عليه من الأحكام من قبيل ما هو في الوسع؛ أي: أن (١) سنتنا جارية على أن لا نكلف نفسًا من النفوس إلا ما في وسعها وقدر طاقتها، ومن ثم قال مقاتل: من لم يستطع القيام في الصلاة، فليصل قاعدًا، ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء؛ أي: فإن الله تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم، فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين، فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم.
﴿وَلَدَيْنَا﴾؛ أي: وعندنا، عندية رتبة واختصاص. ﴿كِتَابٌ﴾؛ أي (٢): صحائف أعمال قد أثبت فيها أعمال كل أحد على ما هي عليه ﴿يَنْطِقُ﴾ ذلك الكتاب ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع؛ أي: يظهر الحق ويبينه للناظر فيه، كما يبينه النطق، ويظهر للسامع، فأعمال العباد كلها مثبتة في صحائفهم، فيقرؤونها حين الحساب، وتظهر فيها أعمالهم التي عملوها في الدنيا دون لبس ولا ريب، ويجازون عليها، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)﴾
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
91
وقوله: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ وفي هذا تهديد للعصاة، وتأنيس للمطيعين من الحيف والظلم.
وجملة قوله: ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ مستأنفة (١)، للتحريض على ما وصف به السابقون، من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الكرامات، ببيان سهولته، وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة، وأن ذلك عادة الله سبحانه في تكليف عباده، وجملة قوله: ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾ من تمام ما قبلها، من نفي التكليف بما فوق الوسع، وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، فإنه قد كتب فيه كل شيء، وقيل: المراد بالكتاب القرآن والأول أولى.
ثم بيّن فضله على عباده، وعدله بينهم في الجزاء إثر بيان لطفه في التكليف وكتابة الأعمال على ما هي عليه، فقال: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُون﴾ في الجزاء بنقص ثواب، أو زيادة عذاب، بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها، ونطقت بها صحائفها بالحق، والجمع في ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُون﴾ باعتبار عموم النفس لوقوعها في سياق النفي.
الإعراب
﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣٢)﴾
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿أَنْشَأْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: جار ومجرور، متعلق بمحذوف حال من ﴿قَرْنًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿قَرْنًا﴾: مفعول به. ﴿آخَرِينَ﴾: صفة لـ ﴿قَرْنًا﴾. والجملة الفعلية معطوفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فأغرقنا قوم نوح لما كذبوه، ثم أنشأنا من بعدهم قرنًا آخرين. ﴿فَأَرْسَلْنَا﴾: الفاء: عاطفة. ﴿أرسلنا﴾: فعل وفاعل. ﴿فِيهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أرسلنا﴾. ﴿رَسُولًا﴾: مفعول به. ﴿مِنْهُمْ﴾ جار ومجرور صفة
(١) الشوكاني.
92
لـ ﴿رَسُولًا﴾. والجملة معطوفة على جمل ﴿أَنْشَأْنَا﴾. ﴿أَنِ﴾: مفسرة؛ لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه؛ أي: قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا الله، ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر، مجرور بحرف جر محذوف، متعلق بـ ﴿أرسلنا﴾؛ أي: أرسلنا فيهم رسولًا منهم، بعبادة الله تعالى. بأن أعبدوا ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿مَا﴾: نافية. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنْ إِلَهٍ﴾: مبتدأ مؤخر، و ﴿من﴾: زائدة. ﴿غَيْرُهُ﴾: صفة لإله بالرفع، تبعًا لمحله، وبالجر تبعًا للفظه. والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتعليل الأمر بالعبادة. ﴿أَفَلَا تَتَّقُون﴾: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف. و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة، والتقدير: أتشركون بالله فلا تتقون عذابه. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَتَّقُون﴾: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف.
﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
﴿وَقَالَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿قال الملأ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أرسلنا﴾. ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿الْمَلَأُ﴾. ﴿الَّذِين﴾ في محل الجر صفة لـ ﴿قَوْمِهِ﴾. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وَكَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كذبوا﴾. ﴿وَأَتْرَفْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿كذبوا﴾. ﴿فِي الْحَيَاةِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أترفناهم﴾. ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة للحياة.
﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة إستثناء مفرغ. ﴿بَشَرٌ﴾: خبر المبتدأ. ﴿مِثْلُكُمْ﴾: صفة أولى لـ ﴿بَشَرٌ﴾. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول قال: ﴿يَأْكُلُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿بَشَرٌ﴾. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل الرفع صفة ثانية لبشر. ﴿تَأْكُلُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مِنْهُ﴾: متعلق به وهو العائد على الموصول. ﴿وَيَشْرَبُ﴾ معطوف على يأكل. ﴿مِمَّا﴾ متعلق به. ﴿تَشْرَبُونَ﴾ صلة الموصول،
93
والعائد محذوف اكتفاء بالعائد الأول، وهو ضمير منه لاستكمال شروط جواز حذفه، وهي اتحاد الحرف والمتعلق، وعدم قيامه مقام مرفوع، وعدم ضمير آخر، وقد أشار إليها ابن مالك بقوله:
كَذَا الَّذِيْ جُرَّ بِمَا الْمَوْصُوْلَ جَرّ كَمُرَّ بِالَّذِيْ مَرَرْتُ فَهُوَ بَرّ
هذا إذا جعلناها بمعنى الذي، فإن جعلناها مصدرًا، لم تحتج إلى عائد، ويكون المصدر واقعًا موقع المفعول؛ أي: من مشروبكم اهـ. "كرخي".
﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦)﴾.
﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿واللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿أَطَعْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿أن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿بَشَرًا﴾ مفعول به. ﴿مِثْلَكُمْ﴾: صفة له. ﴿إِنَّكُمْ﴾: ناصب واسمها. ﴿إِذًا﴾: حرف شرط غير جازم، بمعنى إن الشرطية، جيء بها لتأكيد مضمون الشرط، توكيدًا لفظيًا، من قبيل إعادة الشيء بمرادفه، والتنوين فيها عوض عن جملة شرطها المحذوفة، تقديره: إنكم إن أطعتموه.. لخاسرون، ولا جواب لها؛ لأنها إنما ذكرت.. لتأكيد ما قبلها. كذا في "الإتقان" للحافظ السيوطي. ﴿لَخَاسِرُون﴾ اللام حرف ابتداء. ﴿خاسرون﴾: خبر ﴿إن﴾. وجملة إن المكسورة، جواب القسم لا محل لها. وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ على كونها مقول ﴿قال﴾، وجواب إن الشرطية محذوف، دل عليه جواب القسم، تقديره: وإن أطعتم بشرًا مثلكم.. فإنكم إذًا لخاسرون، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول ﴿قال﴾ أيضًا، على كونها معترضة بين القسم وجوابه، ولا يصلح أن تكون جملة ﴿إن﴾ المكسورة جواب الشرط؛ لعدم وجود الفاء، وهذا جرى على القاعدة التي ذكرها ابن مالك في "الخلاصة":
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطِ وَقَسَمْ جَوَابَ مَا أخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ
﴿أَيَعِدُكُمْ﴾ (الهمزة): فيه للاستفهام الإنكاري. ﴿يعدكم﴾: فعل ومفعول به
94
أول، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها مستأنفة، مسوقة لتقرير ما قبلها، ومن زجرهم عن اتباعه؛ بإنكار وقوع ما يدعوهم إلى الإيمان به، واستبعاده، كما في "أبي السعود". ﴿أَنَّكُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية، والظرت متعلق بمخرجون. ﴿مِتُّمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾. ﴿وَكُنْتُمْ تُرَابًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على ﴿متم﴾. ﴿وَعِظَامًا﴾ معطوف على ﴿ترابًا﴾. ﴿أَنَّكُمْ﴾ توكيد لفظي لـ ﴿أَنَّكُمْ﴾ الأولى أكد بها لما طال الفصل بين اسمها وهو الكاف، وخبرها وهو ﴿مُخْرَجُون﴾. ﴿مُخْرَجُون﴾: خبر ﴿أَنَّكُمْ﴾ الأولى، وجملة ﴿أن﴾ الأولى في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿يعدكم﴾، والتقدير: أيعدكم إخراجكم من القبور وقت موتكم، وكونكم ترابًا وعظامًا. ﴿هَيْهَاتَ﴾: اسم فعل ماض بمعنى بعد، مبني على الفتح، والغالب في الاستعمال أن تستعمل هذه الكلمة مكررة، والثانية توكيد لفظي للأولى. ﴿لِمَا﴾ اللام زائدة في الفاعل. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل لـ ﴿هَيْهَات﴾؛ أي: بعدما توعدون ﴿تُوعَدُون﴾: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما توعدونه، ويجوز أن تكون ما مصدرية، والمصدر المؤول منها فاعل ﴿هَيْهَاتَ﴾، وجملة ﴿هَيْهَاتَ﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٣٩) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (٤٠)﴾.
﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿هِيَ﴾: مبتدأ، أصله إن الحياة إلا حياتنا، فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها، حذرًا، من التكرار، واشعارًا بإغنائها عن التصريح، كما في قولهم: هي النفس تتحمل ما حملت، وهي العرب تقول ما شاءت وحيث كان الضمير بمعنى الحياة الدالة على الجنس، كانت ﴿إِنْ﴾ النافية بمنزلة النافية للجنس اهـ "أبو السعود". ﴿إِلَّا﴾: اداة استثناء مفرغ. ﴿حَيَاتُنَا﴾:
95
خبر المبتدأ. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿حَيَاتُنَا﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها مستأنفة، مسوقة لتقرير معتقدهم، بأن العالم قديم بالطبع، ولم يزل كذلك، ولم يحدث بحداث محدث، والناس كالنبات ينبتون ويعودون بالموت هشيمًا، وهذا كفر صريح وضلال بعيد. ﴿نَمُوتُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، يعود على المتكلمين من قوم هود، والجملة في محل النصب حال من الضمير المضاف إليه في ﴿حَيَاتُنَا﴾. ﴿وَنَحْيَا﴾: معطوف على نموت. ﴿وَمَا نَحْنُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: حجازية. ﴿نَحْنُ﴾: اسمها. ﴿بِمَبْعُوثِينَ﴾: خبرها، والباء زائدة، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة في قوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا﴾. ﴿إنْ﴾: نافية. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿رَجُلٌ﴾: خبر المبتدأ والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها مستأنفة. ﴿افْتَرَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على رجل. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿كَذِبًا﴾: مفعول به، والجملة في محل الرفع صفة لرجل. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: حجازية. ﴿نَحْنُ﴾: اسمها. ﴿له﴾: متعلق ﴿بِمُؤْمِنِين﴾. ﴿بِمُؤْمِنِين﴾: خبرها، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على هود، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿انْصُرْنِي﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الرب، و (النون): للوقاية. و (الياء): مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَال﴾ على كونها جواب النداء. ﴿بِمَا﴾: (الباء): جرف جر وسبب. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿كَذَّبُون﴾: فعل ماض وفاعل. و (النون): للوقاية. و (ياء): المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية، مفعول به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور بالباء؛ أي: بسبب تكذيبهم إياي، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿انْصُرْنِي﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله والجملة مستأنفة. ﴿عَمَّا﴾: ﴿عن﴾: حرف جر بمعنى بعد. ﴿ما﴾: زائدة. ﴿قَلِيلٍ﴾: مجرور بعن، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يصبحن﴾ أو بنادمين ﴿لَيُصْبِحُنّ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿يصيحن﴾ فعل مضارع ناقص مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال.
96
والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، في محل الرفع اسمها، والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة. ﴿نَادِمِين﴾: خبر أصبح، وجملة يصبح جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)﴾.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أخذتهم﴾: فعل ومفعول. ﴿الصَّيْحَةُ﴾: فاعل. ﴿بِالْحَقِّ﴾: حال من الصيحة، والجملة معطوفة على جملة قال. ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿جعلناهم غثاء﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾. ﴿فَبُعْدًا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿بعدًا﴾: منصوب بفعل محذوف وجوبًا لنيابته عنه، تقديره: ألزمنا، أو أوجبنا. ﴿بعدًا﴾: مفعول به. ﴿لِلْقَوْمِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿بعدًا﴾. ﴿الظَّالِمِينَ﴾: صفة ﴿للقوم﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً﴾، أو مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، لنيابة المصدر عنه، تقديره: بعدوا بعدًا.
﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣)﴾
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخٍ. ﴿أَنْشَأْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً﴾. ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿قرونًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿قُرُونًا﴾: مفعول به. ﴿آخَرِينَ﴾: صفة قرونًا. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿تَسْبِق﴾: فعل مضارع. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿أُمَّةٍ﴾: فاعل مرفوع محلًا، مجرور لفظًا. ﴿أَجَلَهَا﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَسْتَأْخِرُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تَسْبِقُ﴾، وذكر الضمير في ﴿يَسْتَأْخِرُون﴾ بعد تأنيثه لمراعاة المعنى؛ لأن أمة بمعنى قوم.
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخٍ، ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿رُسُلَنَا﴾: مفعول
97
به. ﴿تَتْرَى﴾: حال من ﴿رسلنا﴾، وعلامة نصبه فتحة مقدرة للتعذر؛ لأنه اسم مقصور، ألفه للإلحاق بجعفر كأرطى وعلقى، والتاء فيه مبدلة من الواو، وأصله وترى؛ أي: متعاقبين متتابعين بعضهم بعضًا، أو هو مصدر كشبعى ودعوى فألفه للتأنيث، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْشَأْنَا﴾. ﴿كل ما﴾: اسم شرط غير جازم، في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿جَاءَ﴾: فعل ماض. ﴿أمة﴾: مفعول به مقدم. ﴿رَسُولُهَا﴾: فاعل مؤخر وجوبًا لاتصاله بضمير المفعول، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿كل ما﴾. ﴿كَذَّبُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب ﴿كل ما﴾: لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿كل ما﴾: مستأنفة.
﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿فَأَتْبَعْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أتبعنا﴾: فعل وفاعل. ﴿بَعْضَهُمْ﴾: مفعول به أول. ﴿بَعْضًا﴾: مفعول به ثان، وإلجملة معطوفة على ﴿كَذَّبُوهُ﴾. ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿أَحَادِيثَ﴾: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة ﴿جعلنا﴾. ﴿فَبُعْدًا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿بعدًا﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا لنيابته عنه، تقديره بعدوا بعدًا، وهذا دعاء عليهم، أو أوجبنا بعدًا. ﴿لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾: ﴿لِقَوْمٍ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿بعدًا﴾، ولا تتعلق به هذه اللام؛ لأنه لا يحفظ حذف هذه اللام، ووصول المصدر إلى مجرورها ألبتة. والجملة المحذوفة مستأنفة، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: في محل الجر صفة ﴿لِقَوْمٍ﴾.
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (٤٦)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخٍ. ﴿أَرْسَلْنَا مُوسَى﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٣١)﴾ هو. ﴿وَأَخَاهُ﴾: معطوف على ﴿مُوسَى﴾. ﴿هَارُون﴾: بدل من ﴿أخاه﴾، أو عطف بيان له. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿مُوسَى﴾ و ﴿هَارُونَ﴾؛ أي: حالة كونهما ملتبسين بآياتنا، فالباء للملابسة. ﴿وَسُلْطَانٍ﴾: معطوف على ﴿آياتنا﴾. ﴿مُبِينٍ﴾:
98
صفة لـ ﴿سلطان﴾. ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾: جار ومجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف للعلمية والعجمية، متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿وَمَلَئِهِ﴾: معطوف على فرعون. ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿استكبروا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿وَكَانُوا قَوْمًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، معطوف على ﴿استكبروا﴾. ﴿عَالِينَ﴾: صفة ﴿قَوْمًا﴾.
﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (٤٧)﴾.
﴿فَقَالُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿استكبروا﴾. ﴿أَنُؤْمِنُ﴾: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري، ﴿نؤمن﴾: فعل وفاعل مستتر يعود إلى ﴿فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾. ﴿لِبَشَرَيْنِ﴾: متعلق بـ ﴿نؤمن﴾. ﴿مِثْلِنَا﴾: صفة ﴿لِبَشَرَيْنِ﴾ وهو اسم كغير في أنه يوصف بهما الاثنان، والجمع والمذكر والمؤنث، والبشر يقع على الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث. ﴿وَقَوْمُهُمَا﴾: مبتدأ مضاف إليه. ﴿لَنَا﴾: متعلق بـ ﴿عَابِدُونَ﴾. ﴿عَابِدُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿نؤمن﴾.
﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)﴾
﴿فَكَذَّبُوهُمَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿كذبوهما﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿فَقَالُوا﴾. ﴿فَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿مِنَ الْمُهْلَكِين﴾: خبره، والجملة معطوفة على جملة ﴿كذبوهما﴾. ﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿آتَيْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مُوسَى الْكِتَابَ﴾: مفعولان لـ ﴿أتينا﴾؛ لأنه بمعنى أعطى، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف ترجٍ ونصب والهاء اسمها، والضمير يعود إلى قوم موسى؛ لأن فرعون وقومه كانوا قد بادوا، وجملة ﴿يَهْتَدُونَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)﴾
99
﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿وَأُمَّهُ﴾: معطوف على ابن مريم. ﴿آيَةً﴾: مفعول ثان لـ ﴿جعلنا﴾. والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾، ولم يقل آيتين؛ لأن فيهما واحدة، وهي الولادة من غير أب، ﴿وَآوَيْنَاهُمَا﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿جعلنا﴾. ﴿إِلَى رَبْوَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿آويناهما﴾. ﴿ذَاتِ﴾: صفة لـ ﴿رَبْوَةٍ﴾. ﴿قَرَارٍ﴾: مضاف إليه. ﴿وَمَعِينٍ﴾: معطوف على ﴿قَرَارٍ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)﴾.
﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿الرُّسُلُ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾، أو عطف بيان، أو بدل منه، وجملة النداء مستأنفة. ﴿كُلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. ﴿مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كلوا﴾. ﴿وَاعْمَلُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كُلُوا﴾. ﴿صَالِحًا﴾ مفعول به أو مفعول مطلق. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عليم﴾. ﴿تَعْمَلُونَ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: تعملونه ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر إن، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَإِنَّ هَذِهِ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إن هذه أمتكم﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة على قراءة كسر همزة ﴿إن﴾، وأما على قراءة فتحها فالجملة سادة مسد مفعولي علم المحذوفة، تقديرها: واعلموا أن هذه أمتكم أمة واحدة، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾. ﴿أُمَّةً﴾: حال لازمة من ﴿أُمَّتُكُمْ﴾. ﴿وَاحِدَةً﴾: صفة ﴿لامة﴾. ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ﴾. ﴿فَاتَّقُونِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم وأنا ربكم وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم ﴿اتقون﴾. ﴿اتقون﴾: فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل، والنون نون
100
الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿فَتَقَطَّعُوا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿تقطعوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَمْرَهُمْ﴾: إما منصوب بنزع الخافض؛ أي: تفرقوا في أمرهم، أو مفعول به وعدى تقطعوا إليه؛ لأنه بمعنى قطعوا. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تقطعوا﴾. ﴿زُبُرًا﴾: حال من فاعل ﴿تقطعوا﴾؛ أي: حالة كونهم أحزابًا متخالفين. ﴿كُلُّ حِزْبٍ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿فَرِحُونَ﴾. ﴿لَدَيْهِمْ﴾: ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿ما﴾. ﴿فَرِحُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل تقطعوا.
﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦)﴾.
﴿فَذَرْهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت تقطعهم يا محمد وتفرقهم وفرح كل حزب بما لديهم، وأردت بيان ما هو الأصلح لك، فأقول لك: ذرهم. ﴿ذرهم﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على محمد ومفعول أول، والضمير لكفار مكة. ﴿فِي غَمْرَتِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف مفعول ثان، أو حال من ضمير المفعول؛ أي: أتركهم متخبطين في غمرتهم، أو حالة كونهم متخبطين، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿حَتَّى حِينٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ذرهم﴾. ﴿أَيَحْسَبُونَ﴾: (الهمزة) فيه للاستفهام التقريعي الإنكاري. ﴿يحسبون﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّمَا﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب اسمها، وكان من حقها أن تكتب مفصولة، ولكنها موصولة اتباعًا لرسم المصحف. ﴿نُمِدُّهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿نُمِدُّهُمْ﴾، وهو العائد على الموصول، وجملة ﴿نُمِدُّهُمْ﴾ صلة الموصول، ﴿مِنْ مَالٍ﴾: حال من الموصول ﴿وَبَنِينَ﴾: معطوف على ﴿مَالٍ﴾. ﴿نُسَارِعُ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، تقديره: نحن.
101
﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿نسارع﴾. ﴿فِي الْخَيْرَاتِ﴾: متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، والرابط بين هذه الجملة، واسم ﴿أن﴾ محذوف، تقديره: نسارع لهم به، أو فيه، إلا أن حذف مثله قليل، وقيل: الرابط بينهما هو اسم الظاهر الذي قام مقام المضمر، من قوله: ﴿فِي الْخَيْرَاتِ﴾، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش، إذ يرى الربط بالأسماء الظاهرة، وإن لم يكن بلفظ الأول. وجملة ﴿أن﴾ من اسمها وخبرها، في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي حسب، والتقدير: أيحسبون مسارعتنا إياهم في الخيرات، بما أمددناهم به من مال وبنين. ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب، للإضراب الانتقالي عن الحسبان. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَشْعُرُونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على مقدر ينسحب عليه الكلام؛ أي: لا نفعل ذلك، بل هم لا يشعرون بشيء أصلًا كالبهائم، لا فطنة لهم، ولا شعور يتيح لهم التأمل، فيعرفون أن ذلك الإمداد ما هو إلا استدراج لهم، واستجرار إلى زيادة الإثم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مُشْفِقُونَ﴾. ﴿مشفقون﴾: خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر صلة الموصول. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول. ﴿هُم﴾: مبتدأ. ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُون﴾. ﴿يُؤْمِنُون﴾: فعل وفاعل خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ، والخبر صلة الموصول.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠)﴾
﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿بِرَبِّهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُشْرِكُونَ﴾ وجملة ﴿لَا يُشْرِكُونَ﴾ خبر المبتدأ. والجملة من المبتدأ والخبر صلة الموصول، ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول. ﴿يُؤْتُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مَا﴾: مفعول ﴿يؤتون﴾. ﴿آتَوْا﴾: فعل وفاعل،
102
والجملة صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما آتوه. ﴿وَقُلُوبُهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿قلوبهم﴾: مبتدأ. ﴿وَجِلَةٌ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يُؤْتُونَ﴾. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿رَاجِعُونَ﴾. ﴿رَاجِعُونَ﴾: خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، والجار المحذوف متعلق بـ ﴿وجلة﴾؛ أي: قلوبهم خائفة من رجوعهم إلى ربهم.
﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢)﴾
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿يُسَارِعُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿فِي الْخَيْرَات﴾: متعلق به، وجملة ﴿يسارعون﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر ﴿أن﴾؛ أي: خبر عن أن الذين هم من خشية ربهم وما عطف عليه، قاسم ﴿أن﴾ أربع موصولات، وخبرها جملة أولئك.. الخ. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ ﴿لَهَا﴾ متعلق بـ ﴿سَابِقُونَ﴾، قدم عليه للفاصلة وللاختصاص. ﴿سَابِقُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على سابقتها عطف تأكيد لها. ﴿وَلَا نُكَلِّفُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لا﴾: نافية. ﴿نُكَلِّف﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿نَفْسًا﴾: مفعول به أول، والجملة مستأنفة، مسوقة للدلالة على أن التكليف غير خارج عن حدود الطاقات والإمكانيات. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿وُسْعَهَا﴾: مفعول ثان. ﴿وَلَدَيْنَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لدينا﴾: ظرف ومضاف إليه، خبر مقدم، ﴿كِتَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَلَا نُكَلِّف﴾، وجملة ﴿يَنْطِقُ﴾ صفة كتاب ﴿بِالْحَقِّ﴾ متعلق به، أو حال من فاعل ﴿يَنْطِق﴾؛ أي: حالة كونه ملتبسًا بالحق. ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾: خبره، والجملة معطوفة على سابقتها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿قَرْنًا﴾: القرن: الأمة. والمراد بهم: عاد قوم هود، لقوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾.
103
﴿وَأَتْرَفْنَاهُمْ﴾؛ أي: نعمناهم ووسعنا عليهم، يقال: ترف فلان؛ أي: توسع في النعمة وأترفته النعمة: أطغته. ﴿لَخَاسِرُون﴾؛ أي: لمغبونون في آرائكم، إذ أنكم أذللتم أنفسكم لعبادة من هو دونكم. ﴿هَيْهَاتَ﴾؛ أي: بعد. ﴿لِمَا تُوعَدُونَ﴾ هو البعث والحساب. ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: بمصدقين. ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾؛ في؛ أي: بعد زمان قليل ﴿لَيُصْبِحُنّ﴾؛ أي: ليصيرن. ﴿الصَّيْحَةُ﴾، والصيحة: العذاب الشديد، كماقال:
صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً خَرُّوْا لِشِدَّتِهَا عَلَى الأذْقَانِ
﴿غُثَاءً﴾: الغثاء العشب إذا يبس، يجمع على أغثية كغراب وأغربة، وعلى غثيان كغراب وغربان. وقال الزجاج: هو البالي من ورق الشجر إذا جرى السيل به فخالط زبده. وقيل: كل ما يلقيه السيل، والقدر مما لا ينتفع به، وبه يضرب المثل في ذلك. ولامه واو؛ لأنه من غثا الوادي يغثو غثوًا، وكذلك غثت القدر، وأما غثيت نفسه تغثى غثيانًا؛ أي: خبثت فهو قريب من معناه، ولكنه من مادة الياء، وتشدد ثاء الغثاء وتخفف، وقد جمع على أغثاء وهو شاذ بل كان قياسه أن يجمع على أغثية كأغربة، أو على غثيان كغربان وغلمان. اهـ. "سمين".
وقال الزمخشري: شبَّههم في دمارهم بالغثاء، وهو حميل السيل مما بلى، واسود من بلي العيدان والورق. اهـ.
﴿تَتْرَا﴾ من المواترة، وهي التتابع بين الأشياء مع فترة ومهلة بينها، قاله الأصمعي، والتاء فيه مبدلة من الواو، وأصله وترى وهو مصدر كشبعى ودعوى. فألفه للتأنيث، وهو منصوب على الحالية؛ أي: متتابعين، والتتر: المتابعة مع مهلة، فإن كانت بدونها، قيل لها: مداركة ومواصلة، كما في "القاموس".
﴿أَحَادِيثَ﴾: جمع أحدوثة، كأضاحيك وألاعيب وأعاجيب، جمع أضحوكة وألعوبة وأعجوبة، والأحدوثة: هي كل ما يتحدث به الناس تعجبًا منه، وتلهيًا به ودفعًا للملالة، واجتلابًا للسلوى، وتزجية للفراغ، أو جمع حديث على غير قياس.
104
وفي "السمين" قيل: هو جمع حديث، ولكنه شاذ، وقيل: بل جمع أحدوثة كأضحوكة. وقال الأخفش: لا يقال ذلك إلا في الشر، ولا يقال في الخير. وقد شذت العرب في ألفاظ، فجمعوها على صيغة مفاعيل كأباطيل وأقاطيع. وقال الزمخشري: الأحاديث تكون اسم جمع للحديث، ومنه أحاديث رسول الله - ﷺ -، وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من المجموع، كقطيع وأقاطيع، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير، مع أنهم لم يلفظوا له بواحد، فاحرى أحاديث، وقد لفظ له بواحد وهو حديث، فاتضح أنه جمع تكسير، لا اسم جمع لما ذكرنا. اهـ. وفي "القاموس" صاروا أحاديث؛ أي: انقرضوا. اهـ.
﴿عَالِينَ﴾؛ أي: متكبرين. ﴿لِبَشَرَيْن﴾: تثنية بشر، والبشر يقع على الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، قال تعالى: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ وقد يطابق، ومنه هذه الآية، وأمّا إفراد مثلنا؛ فلأنه يجري مجرى المصادر في الإفراد، والتذكير ولا يؤنث أصلًا، وقد يطابق ما هو له تثنيةً كقوله: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾. وجمعًا كقوله: ﴿ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾، وقيل: أريد
المماثلة في البشرية لا الكمية، وقيل: اكتفى بالواحد عن الاثنين. اهـ.
﴿عَابِدُونَ﴾؛ أي: خدم منقادون. قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان للملك عابدًا. وقال المبرد: العابد: المطيع الخاضع.
﴿وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ﴾؛ أي: أسكناهما وأنزلناهما في ربوة؛ أي: أوصلناهما إلى ربوة، وسبب ذلك أن ملك ذلك الزمان، كان أراد أن يقتل عيسى عليه السلام، فهربت به أمه إلى تلك الربوة، ومكثت بها ثنتي عشرة سنة، حتى هلك ذلك الملك. اهـ. من "الخطيب".
والربوة والرباوة: الأرض المرتفعة، وفي رائها الحركات الثلاث، وقد اختلف المفسرون في المراد بها، فقيل: بيت المقدس، وقيل: دمشق وغوطتها. وعن الحسن: فلسطين أو الرملة، أو مصر، أقوال.
﴿مَعِينٍ﴾: اسم مفعول من عان يعين كباع يبيع، فهو معين كمبيع، فالميم
105
زائدة، وأصله معيون كمبيوع، وقد دخله الإعلال. والمعين: الماء الظاهر البخاري على وجه الأرض. وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته، فوجه من جعله مفعولًا أنه مدرك بالعين؛ لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه، نحو ركبه إذا ضربه بركبته، ووجه من جعله فعيلًا، أنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة. وقال الراغب: هو من معن الماء إذا جرى، ويسمى مجرى الماء معيانًا، وأمعن الفرس تباعد في عدوه، وأمعن بحقي ذهب به، وفلان معن في حاجته؛ أي: سريع، قلت: وهذا كله راجع إلى معنى الجري والسرعة.
وفي "السمين" قوله: ومعين صفة لموصوف محذوف؛ أي: وماء معين، وفيه قولان:
أحدهما: أن ميمه زائدة، وأصله معيون؛ أي: مبصر بالعين، فأعل إعلال مبيع، وبابه وهو مثل قولهم: كبدته؛ أي: ضربت كبده، ورأسته؛ أي: أصبت رأسه، وعنته؛ أي: أدركته بعيني، ولذلك أدخله الخليل في مادة ع ي ن.
والثاني: أن الميم اصلية، ووزنه فعيل، مشتق من المعن، واختلف في المعن. فقيل: هو الشيء القليل، ومنه الماعون، وقيل: هو من معن الشيء، معانة إذا كثر.
﴿الطَّيِّبَاتِ﴾: جمع طيب، والطيب: ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه. ﴿أُمَّتُكُمْ﴾؛ أي: ملتكم وشريعتكم. ﴿فَتَقَطَّعُوا﴾؛ أي: قطعوا ومزقوا. ﴿أَمْرَهُمْ﴾؛ أي: أمر دينهم. ﴿زُبُرًا﴾؛ أي: قطعًا، واحدها زبور: بمعنى فريق. اهـ. "بيضاوي". أو جمع زبرة بمعنى القطعة؛ أي: الطائفة من الناس، وهي مثل غرفة، فتجمع على زبر بالضم وبالفتح، كما في الكهف فهما جمعان، كما في "القاموس". وقيل: معنى زبرًا، كتبًا؛ أي: تمسك كل قوم بكتاب، فآمنوا به، وكفروا بما سواه من الكتب. اهـ. "خطيب".
﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ والخطاب لمحمد - ﷺ -، والضمير لكفار مكة، في غمرتهم؛ أي: في ضلالتهم، شبهها بالماء الذي يغمر القامة؛ لأنهم يغمرون فيها، والغمر في الأصل الماء الذي يغمر القامة، والغمر أيضًا الذي يغمر
106
الأرض، ثم استعير ذلك للجهالة، فقيل: فلان في غمره، والمادة تدل على الغطاء والاستتار، ومنه الغمر بالضم لمن لم يجرب الأمور، والغمر بالكسر: الحقد؛ لأنه يغطي القلب، والغمرات: الشدائد، والغامر: الذي يلقي نفسه في المهالك. اهـ. "سمين".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا﴾.
ومنها: أسلوب الإطناب في قوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ذمًّا لهم وتسجيلًا عليهم بالقبائح والشناعات.
ومنها: ذكر الخاص بعنوان العام في قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا﴾؛ لأن المراد بالرسول هنا هو عليه السلام بقرينة ما سبق في سورة الأعراف.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾؛ أي: منه.
ومنها: إقامة الضمير مقام الظاهر في قوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ أصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا، فأقيم الضمير مقام الأولى، لدلالة الثانية عليها، حذرًا من التكرر وإشعارًا بإغنائها عن التصريح.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾، وكذلك بين ﴿تَسْبِقُ﴾ و ﴿يَسْتَأْخِرُونَ﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً﴾؛ أي: كالغثاء في سرعة زواله ومهانة حاله، حذف وجه الشبه وأداة التشبيه، فصار بليغًا.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾؛ لتغيير بعض الحروف والشكل.
107
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ إفادة للتعليل وإشعارًا بالعلية.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿يُؤْتُونَ مَا آتَوْا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ حيث شبه ضلالتهم وجهالتهم بالماء الذي يغمر الإنسان من فرقه إلى قدمه بجامع الاستتار في كلٍّ، وإن كان مختلفًا بكونه في الماء حسيًّا وفي الجهالة معنويًا، واستعير اسم المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ﴾.
ومنها: حذف الرابط في قوله: ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ حذف به؛ أي: نسارع لهم به في الخيرات وحسن حذفه؛ لاستطالة الكلام مع أمن اللبس.
ومنها: الطباق بين ﴿يُؤْمِنُون﴾ و ﴿يُشْرِكُون﴾.
ومنها: الاستعارة البديعة في قوله: ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾ فالنطق لا يكون إلا ممن يتكلم بلسانه، والكتاب ليس له لسان فوصف سبحانه الكتاب بالنطق، مبالغةً في وصفه بظهار البيان وإعلان البرهان، أو تشبيهًا باللسان الناطق على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
108
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)﴾
المناسبة
قوله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا
109
عَامِلُونَ (٦٣)...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أن الله سبحانه، لما ذكر سماحة هذا الدين، وأنه دين يسر لا عسر، ولا يكلف النفس إلا ما تطيق، وأن ما يعمله المرء فهو محفوظ في كتاب، لا يبخس منه شيئًا، ولا يزاد له فيه شيء.. أردف هذا ببيان أن المشركين في غفلة عن هذا، الذي بيّن في القرآن، ولهم أعمال سوء أخرى، من فنون الكفر والمعاصي، كطعنهم في القرآن، واستهزائهم بالنبي - ﷺ -، وايذائهم للمؤمنين، فإذا حل بهم بأسنا يوم القيامة.. جأروا واستغاثوا فقلنا لهم: لا فائدة فيما تعملون، فقد جاءتكم الآيات والنذر، فأعرضتم عنها، واتخذتموها هزوًا، تسمرون بها في البيت الحرام، وقد كان من حقكم أن تتدبروا القرآن؛ لتعلموا أنه الحق من ربكم، وأن مجيء الكتب إلى الرسل سنة قديمة، فكيف تنكرونها؟ وهل رابكم في رسولكم شيء، حتى تمتنعوا من تصديقه، وتقولوا إن به جنةً، وأنتم تعلمون أنه أرجح الناس عقلًا، وأثقبهم رأيًا، لا إن الأمر على غير ما تظنون، إنه قد جاءكم بالحق، ولكن أكثركم للحق كارهون، لما دسيتم به أنفسكم من الزيغ والإنصراف عن سبيل الحق، ولو أجابكم ربكم إلى ما في أنفسكم من الهوى، وشرع الأمور وفق ذلك.. لفسدت السماوات والأرض لفساد أهوائكم، واختلافها، وأنتم لو تأملتم، لعلمتم أن ما جاءكم به هو فخركم، فكيف تعرضون عنه؟ وهل تظنون أنه يسألكم أجرًا على هدايتكم، وإرشادكم، فما عند الله خير مما عندكم، وهو خير الرازقين. فها هو ذا قد تبين الرشد من الغي، واستبان أن ما تدعوهم إليه هو الحق، الذي لا محيص منه، وأن الذين لا يؤمنون به عادلون عن طريق الحق، وقد بلغوا حدًّا من التمرد والعناد لا يرجى معه صلاح، فلو أنهم ردوا في الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم.
ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر، فما خضعوا ولا انقادوا لربهم ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه، بل استمروا في غيهم وضلالهم، كما قال: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣)﴾ ما لم يكونوا
(١) المراغي.
110
يحتسبون أيسوا من كل خير، وانقطع رجاؤهم من كل راحة وسعادة.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ...﴾ الآيات. مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) إعراض المشركين عن سماع الأدلة ورؤية العبر، والتأمل في الحقائق.. أردف ذلك الامتنان على عباده، بأنه قد أعطاهم الحواس من السمع والبصر وغيرهما، ووفقهم لاستعمالها، وكان من حقهم أن يستفيدوا بها، ليتبين لهم الرشد من الغي، لكنها لم تغن عنهم شيئًا، فكأنهم فقدوها، كما قال: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ ثم ساق أدلة أخرى على وجوده وقدرته، فبين أنه أوجدهم من العدم، وأن حشرهم إليه، وأنه هو الذي يحييهم ثم يميتهم، وأنه هو الذي يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، أفلا عقل لكم تتأملون به فيما تشاهدون.
وعبارة أبي حيان هنا: قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ...﴾ إلخ. مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما بين إعراض الكفار عن سماع الأدلة ورؤية العبر، والتأمل في الحقائق.. خاطب - قيل: المؤمنين - والظاهر العالم بأسرهم، تنبيهًا على أن من لم يعمل هذه الأعضاء في ما خلقه الله تعالى، وتدبر ما أودعه فيها، من الدلالة على وحدانيته، وباهر قدرته، فهو كعادم هذه الأعضاء. انتهى.
قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (٨١)...﴾ مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر (٢) أدلة التوحيد المبثوثة في الأكوان والأنفس، والتي يراها الناس في كل آن، أعقبها بذكر البعث والحشر، وإنكار المشركين لهما، وتردادهم مقالة من سبقهم، من الكافرين الجاحدين في استبعادهما والتكذيب بحصولهما.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
111
لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) شبهات المشركين في أمر البعث والحساب والجزاء وأحوال النشأة الآخرة.. عقب ذلك بذكر الأدلة التي تثبت تحققه، وأنه كائن لا محالة.
قوله تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ...﴾ الآيتين. مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه لما ذكر (٢) أن المشركين كاذبون في إنكار البعث والجزاء، وفي مقالتهم إن القرآن أساطير الأولين.. قفى على ذلك بيان أنهم كاذبون في أمرين، اتخاذ الله للولد، وإثبات الشريك له.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧)﴾ سبب (٣) نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تسمر حول البيت ولا تطوف به، ويفتخرون به، فأنزل الله هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)﴾. سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه النسائي والحاكم عن ابن عباس قال: إن أبا سفيان أتى النبي - ﷺ -، فقال: يا محمد، أنشدك بالله والرحم، لقد أكلنا الظهر - الوبر - والدم فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج البيهقي في "الدلائل" بلفظ، أن ثمامة بن أثال الحنفي، لما أتى به النبي - ﷺ -، وهو أسير خلى سبيله، ثم أسلم فلحق بمكة، ثم رجع إلى اليمامة، فحال بين أهل مكة وبين المسيرة من اليمامة، فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز (٤)، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله - ﷺ -، فقال له: أنشدك بالله والرحم، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؛ فقال: "بلى" فقال: قتلت الآباء بالسيف
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) لباب النقول.
(٤) العلهز: شيء يتخذونه من الوبر اهـ. روح البيان.
112
والأبناء بالجوع فنزلت هذه الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٦٣ - ثم أضرب سبحانه عما سبق، وذكر أحوال الكفار فقال: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ﴾؛ أي: قلوب الكفرة ﴿فِي غَمْرَةٍ﴾؛ أي: في غفلة غامرة؛ أي: ساترة لها ﴿مِنْ هَذَ﴾ الذي بين في القرآن، من أن لدينا كتابًا ينطق بالحق؛ أي: ديوان الحفظة الذي يظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد، فيجزون بها؛ أي (١): بل قلوب الكفار في غمرة غامرة لها، عن هذا الكتاب الذي ينطق بالحق، أو على الأمر الذي عليه المؤمنون، يقال: غمره الماء إذا غطاه، ونهر غمر يغطي من دخله. والمراد بها هنا: الغطاء أو الحيرة والعمي. وقد تقدم الكلام على الغمرة قريبًا.
والمعنى: أي (٢) بل قلوب المشركين في غفلة عن هذا القرآن، والاسترشاد بما جاء به، مما فيه سعاده الناس في دينهم ودنياهم، فلو قرؤوه وتدبروه لرأوا أنه كتاب ينطق بالحق والصدق، وأنه يقضي بأن أعمال المرء مهما دقت فهو محاسب عليها، وأن ربك لا يظلم من عباده أحدًا. ثم ذكر جنايات أخرى لهم فوق جنايتهم السابقة، فقال: ﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: وللكفار ﴿أَعْمَالٌ﴾ كثيرة خبيثة ﴿مِنْ دُونِ ذَلِكَ﴾ الذي ذكر من كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما سيأتي، من طعنهم في القرآن، وإقامة إمائهم في الزنا. ﴿هُمْ﴾؛ أي: الكفار ﴿لَهَا﴾؛ أي: لتلك الأعمال ﴿عَامِلُونَ﴾؛ أي: معتادون فعلها، مستمرون عليها.
والمعنى: أي إن لهم أعمالًا أخرى أسوأ من ذلك، فقد أغرقوا في الشرك والمعاصي واتخذوا هذا الكتاب هزوًا، وجعلوه سمرهم في البيت الحرام، يقولون فيه ما هو منه براء، يقولون: ﴿مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى﴾، و ﴿مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾، وما هو إلا كلام شاعر، ويتقولون على من أرسل به، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾، وأنه قد تعلمه من غيره من أهل الكتاب، وانغمسوا في عبادة
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
الأوثان والأصنام. ولقد تراهم إذا جاء البرهان الساطع أعرضوا عنه وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
٦٤ - ثم رجع سبحانه إلى وصف الكفار، فقال: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ﴾ وهذه الجملة غاية لأعمالهم المذكورة، ومقررة لما قبلها. وحتى هذه ابتدائية، وهي يبتدأ بعدها الكلام. والكلام هو الجملة الشرطية المذكورة بعدها؛ أي (١): لا يزالون يعملون أعمالهم الخبيثة إلى حيث إذا أخذنا متنعميهم ورؤساءهم ﴿بِالْعَذَابِ﴾ الأخروي إذ هو الذي يفاجؤون عنده الخوار فيجابون بالرد والإقناط، وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار. والمراد (٢) بالمترفين المتنعمين منهم. وهم الذين أمدهم الله تعالى بما تقدم ذكره من المال والبنين. أو المراد بهم الرؤساء منهم. وقيل: المراد بالعذاب، هو عذابهم بالسيف يوم بدر، أو بالجوع بدعاء النبي - ﷺ - عليهم، حيث قال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف". والأول أظهر؛ لأن الجؤار إنما يقع عند عذاب الآخرة.
وجملة قوله: ﴿إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ جواب الشرط، وإذا هي الفجائية، والضمير راجع إلى المترفين؛ أي: إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة؛ أي: يرفعون أصواتهم بها، ويتضرعون في طلب النجاة، فإن أصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع والدعاء. يقال: جار الرجل إذا تضرع بالدعاء.
وتخصيص (٣) المترفين بأخذ العذاب، ومفاجاة الجؤار مع عمومه لغيرهم أيضًا لغاية ظهور انعكاس حالهم، وأيضًا إذا كان لقاؤهم هذه الحالة الفظيعة ثابتًا واقعًا، فما ظنك بحال الأصاغر والخدم.
وقال بعضهم: المراد بالمترفين المعذبين، أبو جهل وأصحابه، الذين قتلوا ببدر، والذين هم يجأرون أهل مكة، فيكون الضمير راجعًا إلى ما رجع إليه ضمير
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
مترفيهم، وهم الكفرة مطلقًا.
والمعنى: أي حتى (١) إذا حل بهم بأسنا يوم القيامة، وحاق بهم سوء العذاب.. صاحوا صيحة منكرة، وقالوا: واغوثاه واسوء منقلباه، لشدة ما يرونه من الكرب والهول ولا سيما مترفوهم الذين انقلب أمرهم من النعيم إلى العذاب الأليم، وندموا حين لا ينفع الندم.
نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ وَالْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيْمُ
٦٥ - ثم أبان أن الصريخ والعويل لا يجديهم نفعًا، فقال: ﴿لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ﴾ فهو على إضمار القول، وتخصيص اليوم بالذكر، وهو يوم القيامة لتهويله والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار؛ أي: فيقال لهم على وجه التبكيت والتقريع: لا تصرخوا اليوم، ولا تلتجئوا إلينا، ولا تستغيثوا بنا.
وجملة قوله: ﴿إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ﴾ تعليل للنهي عن الجؤار، والمعنى إنكم من عذابنا لا تمنعون، ولا ينفعكم جزعكم. وقيل المعنى: إنكم لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم من العذاب.
والمعنى: أي قلنا لهم هيهات هيهات، قد فات ما فات، الآن لا يجديكم البكاء والعويل؛ فهذا وقت الجزاء على ما كسبت أيديكم، وقد حقت عليكم كلمة ربكم، ولا مغيث من أمره، ولا ناصر يحول بينكم وبين بأسه، ولا يخفى ما في ذلك من التهويل الشديد لذلك اليوم، وأنه لا يجدي فيه ضراعة، ولا استغاثة، ولا ينفع فيه ولي ولا نصير.
٦٦ - ثم عدد سبحانه عليهم قبائحهم توبيخًا لهم، وبيانًا أن البكاء والصراخ لا ينفع شيئًا، فقال: ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي﴾ التي هي القرآن ﴿تُتْلَى﴾ وتقرأ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ في الدنيا ﴿فَكُنْتُمْ﴾ أيها الكفرة ﴿عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾؛ أي: وراءكم ﴿تَنْكِصُونَ﴾؛ أي: ترجعون القهقرى، وتعرضون عن سماعها، وتنفرون عمن يتلوها.
(١) المراغي.
والأعقاب جمع عقب، وهو مؤخر الرجل، والنكوص الرجوع القهقرى؛ أي: معرضون عن سماعها أشد الإعراض فضلًا عن تصديقها والعمل بها.
والمعنى: أي (١) دعوا الصراخ، فإنه لا يمنعكم منا، واتركوا النصير، فإنه لا ينفعكم عندنا، فقد ركبتم شططًا، وجاءتكم الآيات والنذر، فأعرضتم عن سماعها فضلًا عن تصديقها، والعمل بها، وكنتم كمن ينكص على عقبيه موليًّا القهقرى نافرًا مما يسمع ويرى. وعلى أعقابكم متعلق بـ ﴿تَنْكِصُونَ﴾، وهو استعارة عن الإعراض عن الحق، كما سيأتي.
وقرأ علي بن أبي طالب ﴿عَلَى أَدْبَارِهِمْ﴾ بدل ﴿عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ وقرأ تنكُصون بضم الكاف.
٦٧ - وقوله: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ﴾ حال من فاعل ﴿تَنْكِصُونَ﴾، والضمير (٢) في ﴿بِه﴾ راجع إلى البيت العتيق. وقيل: للحرم، والذي سوغ الإضمار قبل الذكر اشتهارهم بالاستكبار به وافتخارهم بولايته، والقيام به، وكانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد؛ لأنا أهل الحرم وخدامه. وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين. والمعنى عليه: فكنتم ترجعون عن آياتي على أدباركم حالة كونكم متعظمين بالبيت، ومفتخرين بالحرم وخدمته.
وقيل: الضمير عائد إلى الآيات، بمعنى الكتاب، وضمن الاستكبار معنى التكذيب، فعداه بالباء. والمعنى: فكنتم تنكصون عنها على أعقابكم، حالة كونكم مكذبين بكتابي، ومستكبرين عن الإيمان به. والمعنى: أن سماعه يحدث لهم كبرًا وطغيانًا فلا يؤمنون به.
قال ابن عطية: وهذا قول جيد، وقال النحاس: القول الأول أولى، وبينه بما ذكرنا، فعلى القول الأول: يكون (به) متعلقًا بمستكبرين. وعلى الثاني: يكون متعلقًا بـ ﴿سَامِرًا﴾؛ لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن، والطعن فيه، وتسميته سحرًا وشعرًا وهو اسم جمع كالحاضر
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
116
في الإطلاق على الجمع. وقال الواحدي: السامر الجماعة يسمرون بالليل؛ أي: يتحدثون فيه، فهو حال بعد حال من فاعل تنكصون، أو من الضمير في مستكبرين. والمعنى: وحالة كونكم سامرين ومتحدثين حول البيت في شأن القرآن.
ويجوز أن يتعلق ﴿بِهِ﴾ بقوله: ﴿تَهْجُرُون﴾ من الهجر بالفتح، وهو الهذيان، وهو حال أخرى؛ أي: وحالة كونكم تهذون في شأن القرآن وتسبونه، ويجوز أن يكون من الهجر بالضم، وهو الفحش في المنطق، وفيه ذم لمن يسمر في غير طاعة الله تعالى. وكان عليه السلام يؤخر العشاء إلى ثلث الليل، ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها. رواه مسلم عن أبي برزة الأسلمي.
ومعنى قوله: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧)﴾؛ أي: تعرضون عن الإيمان مستعظمين بالبيت الحرام، تقولون: نحن أهل حرمه وخدام بيته، فلا يظهر علينا أحد، ولا نخاف أحدًا، وتسمرون حوله، وتتخذون القرآن سلواكم والطعن فيه هجيراكم، تهذون فتقولون هو سحر، هو شعر، هو كهانة إلى آخر ما يحلو لكم أن تتقولوه.
والخلاصة: أنكم كنتم عن سماع آياتي معرضين مستعظمين بأنكم خدام البيت وجيرانه فلا تضامون، وتهذون في أمر القرآن، وتقولون فيه ما ليس فيه مسحة من الحق، ولا جانب من الصواب.
وقرأ الجمهور (١): ﴿سَامِرًا﴾ وابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمرو: سمَّرًا بضم السين وفتح الميم المشددة جمع سامر. وابن عباس أيضًا، وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك (سمارا) كذلك. وبزيادة ألف بين الميم والراء، جمع سامر أيضًا، وهما جمعان مقيسان، في مثل سامر وعاذل.
وقرأ الجمهور وابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي:
(١) البحر المحيط.
117
﴿تَهْجُرُونَ﴾ بفتح التاء وضم الجيم. وروى ابن أبي عاصم: ﴿يهجرون﴾ بالياء بدل التاء على سبيل الغيبة. قال ابن عباس: تهجرون الحق وذكر الله، وتقطعونه من الهجر. وقال ابن زيد وأبو حاتم: من هجر المريض إذا هذى؛ أي: يقولون اللغو من القول. وقرأ ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد بضم التاء وكسر الجيم من أهجر الرباعي؛ أي: يقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش. قال ابن عباس إشارة إلى السب للصحابة وغيرهم. وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضًا، وزيد بن علي وعكرمة وأبو نهيك وابن محيصن أيضًا وأبو حيوة ﴿يهجرون﴾ بضم الياء وفتح الهاء وتشديد الجيم من هجر المضاعف من الهجر بالفتح بمعنى مقابل الوصل، أو الهذيان، أو من الهُجر بضم الهاء، وهو السب والإفحاش في المنطق، يريد سبهم للنبي - ﷺ -، ومن اتبعه.
وعبارة "المراح": ﴿تَهْجُرُونَ﴾ بضم التاء؛ أي: (١) تسبون القرآن، وتسمونه سحرًا وشعرًا. وتهجرون بفتح التاء؛ أي: تتركون القرآن وتعرضون عنه، وكانوا يجتمعون حول الكعبة في الليل يتحدثون، وكان أكثر حديثهم ذكر القرآن، والطعن فيه، وتسميته سحرًا وشعرًا، وسب رسول الله - ﷺ - وأصحابه، وكانوا يقولون: لا يعلو علينا أحد؛ لأنا أهل الحرم كما مر.
وقوله: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ﴾، وقوله: ﴿سَامِرًا﴾ وقوله: ﴿تَهْجُرُونَ﴾ أحوال مترادفة من الواو في ﴿تَنْكِصُون﴾ أو كل واحدة حال من ضمير ما قبلها، فتكون أحوالًا متداخلة، وسامرًا اسم جمع كحاج وراكب وحاضر وغائب وباقر جمع البقر، وجامل جمع الجمل، فالكل يطلق على الجمع. اهـ. وفي "القرطبي" الحاضر هم القوم النازلون على الماء. اهـ.
٦٨ - ثم أنبهم سبحانه وتعالى وبيّن أن سبب إقدامهم على الكفر هو أحد هذه الأمور الأربعة الآتية:
الأول: ما ذكره بقوله: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾؛ أي: القرآن، فإنهم لو تدبروا
(١) المرح.
118
معانيه؛ لظهر لهم صدقه، وآمنوا به وبما فيه، والاستفهام فيه (١) لإنكار الواقع واستقباحه داخل على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفعل الكفار ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر، فلم يتدبروا القرآن ليعرفوا بما فيه من إعجاز النظم، وصحة المدلول، والإخبار عن الغيب. أنه الحق من ربهم، فيؤمنوا به فضلًا عما فعلوا في شأنه من القبائح. والتدبر إحضار القلب للفهم، وفي "الجلالين" والاستفهام المصرح به في هذا الموضع والذي في ضمن (أم) في المواضع الثلاثة الآتية للتقرير؛ أي: حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه؛ أي: وللتوبيخ، كما ذكره غيره، انتهى بتصرفٍ وزيادة من "الجمل".
والمعنى (٢): أي إنهم لم يتدبروا القرآن، فيعلموا ما خص به من فصاحة وبلاغة، وقد كان لديهم فسحة من الوقت، تمكنهم من التدبر فيه، ومعرفة أنه الحق من ربهم، وأنه مبرأ من التناقض، وسائر العيوب التي تعتري الكلام، إلى ما فيه من حجج دامغة وبراهين ساطعة، إلى ما فيه من فضائل الآداب وسامي الأخلاق، إلى ما فيه من تشريع إن هم اتبعوه.. كانوا سادة البشر، واتبعهم الأسود والأحمر، كما كان لمن اتبعه من السابقين الأولين من المؤمنين.
والثاني: ما ذكره بقوله: ﴿أَمْ جَاءَهُمْ﴾؛ أي (٣): هل جاءهم من الكتاب وبعثة الرسل ﴿مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ﴾ كأسماعيل عليه السلام، وأعقابه من عدنان وقحطان ومضر وربيعة وقس والحرث بن كعب وأسد بن خزيمة وتميم بن مرة وتبع وضبة بن آد، فكلهم آمنوا بالله تعالى وكتبه ورسله، فإن مجيء الكتاب من الله تعالى إلى الرسل عادة قديمة له تعالى، وأن مجيء القرآن على طريقته، فمن أين ينكرونه.
وأم فيه منقطعة، مقدرة ببل (٤)، التي للإضراب الانتقالي عن التوبيخ، بما ذكر إلى التوبيخ بأمر آخر، وبالهمزة التي لإنكار الواقع؛ أي: بل أجاءهم من
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
(٤) روح البيان.
119
الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين، حتى استبعدوه فوقعوا في الكفر والضلال، يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل سنة قديمة له تعالى، لا يكاد يتسنى إنكارها وأن مجيء القرآن على طريقته، فمن أين ينكرونه؟.
والخلاصة (١): أي أم اعتقدوا أن مجيء الرسل أمر لم تسبق به السنن من قبلهم، فاستبعدوا وقوعه، لكنهم قد عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تترى، وتظهر على أيديهم المعجزات، فهلا كان ذلك داعيًا لهم إلى التصديق بهذا الرسول الذي جاء بذلك الكتاب الذي لا ريب فيه.
وقيل المعنى (٢): أم جاءهم من الأمن من عذاب الله ما لم يأت آباءهم الأولين، كإسماعيل ومن بعده.
الثالث:
٦٩ - ما ذكره بقوله: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ﴾ إضراب وانتقال من التوبيخ، بما تقدم إلى التوبيخ بوجه آخر. والهمزة لإنكار الوقوع أيضًا؛ أي: بل ألم يعرفوه - ﷺ - بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق وكمال العلم، مع عدم التعليم من أحد؛ إلى غير ذلك من صفات الأنبياء. ﴿فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾؛ أي: جاحدون بنبوته، ومعلوم أنهم قد عرفوه بذلك. فحيث انتفى عدم معرفتهم بشأنه عليه السلام، ظهر بطلان إنكارهم؛ لأنه مترتب عليه.
والخلاصة: أي (٣) أم أنهم لم يعرفوا رسولهم بأمانته وصدقه وجميل خصاله قبل أن يدعي النبوة، كلا إنهم لقد عرفوه بكل فضيلة وشهر لديهم باسم (الأمين). فكيف ينكرون رسالته، ولقد قال جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - للنجاشي: إن الله بعث فينا رسولًا نعرف نسبه، ونعرف صدقه وأمانته. وكذلك قال أبو سفيان لملك الروم حين سأله وأصحابه عن نسبه وصدقه وأمانته، وقد كانوا بعد كفارًا لم يسلموا.
والرابع:
٧٠ - ما ذكره بقوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ وهذا أيضًا (٤) انتقال من
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
توبيخ إلى توبيخ؛ أي: بل أيقول المشركون: بمحمد - ﷺ - جنون، ويقولون: إنما حمله على ادعائه الرسالة جنون، فلا يدري ما يقول، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلًا، وأثقبهم ذهنًا، وأتقنهم رأيًا، وأوفرهم رزانة. ولكنه جاء بما يخالف هواهم، فدفعوه وجحدوه تعصبًا وحمية.
ثم أضرب سبحانه عن ذلك كله فقال: ﴿بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقّ﴾؛ أي: ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول، بل جاءهم الرسول متلبسًا بالحق والصدق الثابت، الذي لا ميل عنه، ولا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه، فما هو إلا توحيد الله وما شرعه لعباده مما فيه سعادة البشر، ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ﴾ من حيث هو حق؛ أي: حق كان لا لهذا الحق فقط، كما ينبىء عنه الإظهار في موضع الإضمار. ﴿كَارِهُونَ﴾ لما في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل، ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج، وزاغوا عن الطريق الأنهج، لما ران على قلوبهم من ظلمات الشرك، والإسراف في المعاصي والآثام.
وظاهر (١) النظم القرآني أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق، ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفًا من الكارهين له، وفي "فتح الرحمن" فإن قلت: كيف (٢) قال: ذلك - مع أنهم كلهم كانوا كارهين للتوحيد -؟ قلت: كان منهم من ترك الإيمان به أنفةً وتكبرًا من توبيخ قومهم لئلا يقولوا: ترك دين آبائه لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبي طالب:
فَوَاللَّهِ لَوْلاَ أَنْ أَجِيْءَ بِسُبَّةٍ تَجُرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِىْ الْقَبَائِلِ
إِذًا لاتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّخَاذُلِ
٧١ - ثم بيَّن سبحانه أن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم، فقال: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ﴾ قرأ الجمهور (٣): على كسر الواو لالتقاء الساكنين، وابن وثاب بضمها تشبيهًا بواو الضمير، كما كسرت واو الضمير تشبيهًا بها. اهـ. "سمين"؛ أي:
(١) الشوكاني.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) الفتوحات.
121
ولو اتبع ووافق الحق الذي كرهوه، ومن جملته ما جاء به عليه السلام من القرآن. ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾؛ أي: مشتهيات الكفرة، بأن جاء القرآن موافقًا لمراداتهم، فجعل موافقته اتباعًا على التوسع والمجاز ﴿لَفَسَدَتِ﴾ وخربت ﴿السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ﴾، وقرأ ابن مسعود ﴿وما بينهما﴾ من الملائكة والإنس والجن، وخرجت عن الصلاح والانتظام بالكلية؛ لأن مناط النظام وما به قوام العالم، ليس إلا الحق الذي من جملته الإِسلام والتوحيد والعدل، ونحو ذلك. قال بعضهم (١): لولا أن الله أمر بمخالفة النفوس ومباينتها لاتبع الخلق أهواءهم وشهواتهم، ولو فعلوا ذلك، لضلوا عن طريق العبودية، وتركوا أوامر الله تعالى، وأعرضوا عن طاعته ولزموا مخالفته، والهوى يهوي بمتابعيه إلى الهاوية، انتهى. واعلم أن سبب (٢) فساد المكلفين من بني آدم ظاهر، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق، وأما فساد ما عداهم، فعلى وجه التبع؛ لأنهم مدبرون في الغالب بسبب العقول فلما فسدوا.. فسدوا.
والمعنى (٣): أي ولو سلك القرآن طريقهم، بأن جاء مؤيّدًا للشرك بالله، واتخاذ الولد تعالى الله عن ذلك وزين الآثام واجتراح السيئات.. لاختل نظام العالم كما جاء في قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾، ولو أباح الظلم وترك العدل.. لوقع الناس في هرج ومرج، ولوقع أمر الجماعات في اضطراب وفساد، والمشاهد في الأمم التي يفشو فيها التخاذل والذلة والمسكنة يؤول أمرها إلى الزوال، ولو أباح العدوان واغتصاب الأموال، وأن يكون الضعيف فريسة للقوي لما استتب أمن ولا ساد نظام، وحال العرب قبل الإِسلام شاهد صدق على ذلك.
ولو أباح الزنا لفسدت الأنساب، وما عرف والد ولده، فلا تتكون الأسر ولا يكون من يعول الأبناء، ولا من يبحث لهم عن رزق، فيكونون شردًا في الطرق لا مأوى لهم، ولا عائل يقوم بشؤونهم، وأكبر برهان على هذا ما هو
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المرح.
122
حادث في أوروبا الآن، من وجود نسل بازدواج غير شرعي، مما تئن منه الأمم والجماعات، إلى نحو ذلك، مما هو ظلم وعدوان، وبعد أن أنبهم سبحانه على كراهتهم للحق، شنع عليهم بعراضهم عما فيه الخير لهم، وهو يخالف ما جبلت عليه النفوس من الرغبة في ذلك، فقال: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق الذي يقوم به العالم إلى تشنيعهم بالإعراض عما فيه فخرهم وشرفهم، وهو القرآن المعبر عنه بالذكر؛ أي: بل جئناهم بالقرآن الذي فيه ذكرهم وفخرهم وشرفهم، الذي يجب عليهم أن يقبلوه ويقبلوا عليه أكمل إقبال؛ أي: كيف يكرهون الحق مع أن القرآن أتاهم بتشريفهم وتعظيمهم، فاللائق بهم الانقياد.
وفي "التأويلات النجمية": بل أتيناهم بما فيه لهم صلاح في الحال، وذكر في المآل ﴿فَهُمْ﴾ مع ذلك بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم ﴿عَنْ ذِكْرِهِمْ﴾؛ أي: عن صلاح حالهم وشرف مآلهم ﴿مُعْرِضُونَ﴾ لا يلتفتون إليه بحال من الأحوال، لا عن غير ذلك مما لا يحسن الإقبال عليه، والاعتناء به من أهوائهم. ونسبة الإتيان الحقيقي إلى الله لا تصح، وإنما هو مجاز؛ أي: بل آتاهم كتابنا أو رسولنا.
والمعنى (١): بل جئناهم بالقرآن، الذي فيه فخرهم وشرفهم، فأعرضوا عنه ونكصوا على أعقابهم وازدروا به، وجعلوه هزوًا وسخريةً، وما كان لهم أن يفعلوا ذلك. ونحو الآية قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿بل أتينهم﴾ بنون العظمة. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويونس عن أبي عمرو ﴿بل أتيتهم﴾ بتاء المتكلم، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى أيضًا وأبو البرهشيم وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء ﴿بل أتيتهم﴾ بتاء الخطاب للرسول - ﷺ -. وقرأ الجمهور ﴿بِذِكْرِهِمْ﴾؛ أي: بوعظهم،
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
123
والبيان لهم، قاله ابن عباس. وقرأ عيسى ﴿بذكراهم﴾ بألف التأنيث. وقرأ قتادة ﴿نذكرهم﴾ بالنون والتشديد مضارع ذكر من التذكير. وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال. وقرأ (١) ابن مسعود وأبي بن كعب وأبو رجاء وأبو الجوزاء ﴿بل آتيناهم بذكراهم فهم عن ذكراهم معرضون﴾ بألف فيهما.
٧٢ - ثم بيَّن سبحانه أن دعوه نبيه - ﷺ -، ليست مشوبة بأطماع الدنيا فقال: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ﴾ وأم هي المنقطعة، بمعنى همزة الإنكار التوبيخي، وبل التي للإضراب الانتقالي؛ لأنه انتقال من توبيخهم بما ذكر من قولهم، أم يقولون به جنة إلى التوبيخ بوجه آخر. والمعنى: أم يزعمون أنك تسألهم عن أداء الرسالة ﴿خَرْجًا﴾؛ أي: جعلاً وأجرًا تأخذه منهم، فتركوا الإيمان بك، وبما جئت به لأجل ذلك، مع أنهم يعلمون أنك لم تسألهم ذلك ولا طلبته منهم، ﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ﴾ وثوابه ﴿خَيْرٌ﴾ لك، تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار؛ أي: لا تسألهم ذلك فإن رزق ربك الذي يرزقك في الدنيا، وأجره الذي يعطيكه في الآخرة خير لك مما ذكر لسعته ودوامه، ففيه استغناء لك من عطائهم، ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾؛ أي: خير من أعطى عوضًا على عمل؛ لأن ما يعطيه لا ينقطع ولا يتكدر. وهذه الجملة مقررة لخيرة خراجه تعالى.
وفي "التأويلات النجمية": فيه (٢) إشارة إلى أن العلماء بالله الراسخين في العلم، لا يدنسون وجوه قلوبهم الناضرة بدنس الأطماع الفاسدة الصالحة الدنيوية والأخروية، فيما يعاملون الله في دعوة الخلق إلى الله، بالله، لله.
وفي "الفتوحات المكية" مذهبنا أن للواعظ أخذ الأجرة على وعظه الناس، وهو من أحل ما يأكله، وإن كان ترك ذلك أفضل، إيضاح ذلك: أن مقام الدعوة إلى الله يقتضي الإجارة، فإنه ما من نبي دعا إلى الله إلا قال: إن أجري إلا على الله، فأثبت الأجر على الدعاء، ولكن اختار أن يأخذه من الله لا من المخلوق، انتهى.
(١) زاد المسير.
(٢) روح البيان.
وقرأ ابن كثير (١) ونافع وأبو عمرو وعاصم ﴿خرجا﴾ بغير ألف ﴿فَخَرَاجُ﴾ بألف وقرأ ابن عامر (خرجا فخرج) بغير ألف في الحرفين. وقرأ حمزة والكسائي ﴿خراجا﴾ بألف ﴿فخراج﴾ بألف في الحرفين. وقرأ الحسن (٢) وعيسى ﴿خراجاَ﴾ بألف في الأولى ﴿فخرج﴾ بغير ألف في الثانية. فكملت بهذه القراءة أربع قراءات. والخرج: هو الذي يكون مقابلًا للدخل، فيقال: لكل ما تخرجه إلى غيرك خرجًا. والخراج (٣): غالب في الضريبة على الأرض. قال المبرد: الخرج المصدر، والخراج الاسم. قال النضر بن شميل: سألت عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج، فقال: الخراج ما لزمك، والخرج ما تبرعت به. وروى عنه أنه قال: الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض. ففيه (٤) إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ، ولذلك عبر به عن عطاء الله إياه. وقال في "تفسير المناسبات": وكأنه سماه خراجًا إشارة إلى أنه أوجب رزق كل أحد على نفسه بوعد، لا خلف فيه.
٧٣ - وبعد أن فند سبحانه آراءهم.. أتبعها ببيان صحة ما جاء به الرسول، وأنه الحق الذي لا معدل عنه فقال: ﴿وَإِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَتَدْعُوهُمْ﴾؛ أي: لتدعو هؤلاء المشركين من قومك ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ أي: إلى ذلك الدين القيم الذي تشهد العقول السليمة باستقامته وبعده عن الضلال والهوى، والاعوجاج والزيغ.
٧٤ - ثم بيّن سبحانه أن الذين ينكرون البعث هم في ضلالٍ مبين، فقال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: لا يصدقون ﴿بِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: بالبعث بعد الموت وبقيام الساعة ومجازاة الله عباده في الآخرة ﴿عَنِ الصِّرَاطِ﴾ المستقيم الذي تدعوهم إليه ﴿لَنَاكِبُونَ﴾؛ أي: لمائلون عادلون عنه، فإن الإيمان بالآخرة، وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق، وسلوك سبيله، وليس لهم إيمان وخوف حتى يطلبوا الحق، وشملكوا سبيله، ففي الوصف بعدم الإيمان بالآخرة
(١) زاد المسير.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
(٥) المراغي.
إشعار بعلة الحكم.
والمعنى (١): أن هؤلاء الموصوفين بعدم الإيمان بالآخرة عن ذلك الصراط، أو جنس الصراط لعادلون عنه.
٧٥ - ثم بيّن سبحانه أنهم مصرون على الكفر، لا يرجعون عنه بحال. فقال: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا﴾؛ أي: أزلنا عنه ﴿مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ﴾؛ أي: من سوء الحال، يعني: القحط والجدب الذي أصابهم وغلب عليهم، ﴿لَلَجُّوا﴾؛ أي: لتمادوا ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ وضلالهم حالة كونهم ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يترددون ويتذبذبون في طغيانهم، ويتخبطون فيه. وأصل اللجاج التمادي في العناد، ومنه اللجّة بالفتح لتردد الصوت، ولجة البحر تردد أمواجه، ولجة الليل تردد ظلامه. وأصل (٢) العمه: التردد في الأمر من التحير؛ أي: عامهين عن الهدى، مترددين في الضلالة، لا يدرون أين يتوجهون، كمن يضل عن الطريق في الفلاة، لا رأي له ولا دراية بالطريق.
والمعنى: أي ولو كشفنا عنهم ما أصابهم، من جوع وسائر مضار الدنيا، لتمادوا في ضلالهم، وهم متحيرون عن الهدى، لا يبصرون الحق. وقد كان الأمر كذك. وقيل المعنى؛ أي: إنهم بلغوا في التمرد والعناد حدًا لا يرجى معه صلاح لهم، ولو أنهم ردوا من الآخرة إلى الدنيا ولم ندخلهم النار.. لعادوا لما نهوا عنه لشدة لجاجهم وتدنيسهم لأنفسهم. وهذا (٣) القول بعيد، والظاهر أن هذا التعليق إنما يكون في الدنيا،
٧٦ - ويدل على ذلك قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ﴾ جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها. واللام فيه موطئة للقسم.
والعذاب (٤) قيل: هو الجوع الذي أصابهم في سني القحط، وقيل: المرض. وقيل: القتل يوم بدر، واختاره الزجاج. وقيل: الموت، وقيل: المراد من أصابه العذاب من الأمم الخالية؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أخذنا أهل مكة
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) الشوكاني.
بالعذاب الدنيوي وهو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر.
وفي "التأويلات النجمية"؛ أي: أذقناهم مقدمات العذاب دون شدائده تنبيهًا لهم ﴿فَمَا اسْتَكَانُوا﴾؛ أي: ما خضعوا وتذللوا ﴿لربهم﴾؛ أي: بالانقياد الظاهري، بل أقاموا على ما كانوا فيه من التمرد على الله، والانهماك في معاصيه. ﴿وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾؛ أي: وما يخشعون لله بقلوبهم في الشدائد عند إصابتها لهم، ولا يدعونه لرفع ذلك، والظاهر أن آية ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ﴾ مع الآيتين بعدها مدنيات فإن إصابتهم بالقحط إنما كانت بعد خروجه - ﷺ - من بينهم، كما يدل عليه تفسير الشديد بقتلهم يوم بدر، وهذا إنما كان بعد الهجرة. اهـ. "جمل".
والمعنى: أي محناهم بكل (١) محنة من القتل والأسر، والجوع الذي هو أشد منهما. فما رؤي منهم لين انقياد وتوجه إلى الإِسلام قط. وأما ما أظهره أبو سفيان من الشكوى، كما مر في أسباب النزول، فليس من الاستكانة له تعالى، والتضرع إليه تعالى في شيء، وإنما هو نوع خشوع إلى أن يتم غرضه، فجاء، كما قيل: إذا جاع ضغا، وإذا شبع طغى، وأكثرهم مستمرون على ذلك العناد.
٧٧ - ﴿حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ هو عذاب الأخرة ﴿إِذَا﴾ فجائية واقعة في جواب الشرط ﴿هُمْ فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك العذاب ﴿مُبْلِسُونَ﴾؛ أي: متحيرون آيسون من كل خير؛ أي: أكثرهم (٢) مستمرون على ذلك العناد إلى أن يروا عذاب الآخرة، فحينئذٍ يبلسون كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢)﴾ وقوله تعالى: ﴿لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)﴾ قال عكرمة: هو باب من أبواب جهنم عليه من الخزنة أربع مئة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم، إذا بلغوه فتحه الله عليهم. نسأل الله العافية من ذلك، والمبلس: الآيس من الشر الذي ناله.
والمعنى: أي (٣) حتى إذا جاءهم أمر الله، وجاءتهم الساعة بغتة، وأخذهم
(١) المرام.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون أيسوا من كل خير، وانقطعت آمالهم وخاب رجاؤهم. وقرأ السلمي: ﴿مبلسون﴾ بفتح اللام من أبلسه؛ أي: أدخله في الإبلاس، وهو القنوط من رحمة الله تعالى.
٧٨ - ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه الإله ﴿الَّذِي أَنْشَأَ﴾ وخلق ﴿لَكُمُ﴾؛ أي: لمنافعكم ﴿السَّمْعَ﴾ وهي: قوة في الأذن بها تدرك الأصوات، والفعل يقال له: السمع أيضًا، ويعبر تارة بالسمع عن الأذن. ﴿وَالْأَبْصَارَ﴾ جمع بصر، يقال للجارحة الناظرة وللقوة فيها، ﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾ جمع فؤاد وهو القلب. وخص هذه (١) الثلاثة بالذكر؛ لأن أكثر المنافع الدينية والدنيوية متعلق بها. والخطاب لجملة الخلق والمقصود به التقريع والتوبيخ بالنسبة للكافرين وتذكير النعم بالنسبة للمؤمنين.
والمعنى: وهو سبحانه هو الإله الذي أحدث لكم السمع لتسمعوا به الأصوات التي تخاطبون بها والمواعظ، والأبصار لتشاهدوا بها الأضواء والألوان والأشكال المختلفة، وتنظروا العبر، والعقول لتفهموا بها ما ينفعكم، وتتفكروا بها فيما يوصلكم إلى سعادة الدارين الدنيا والعقبى.
وخص (٢) هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنها طريق الاستدلال الحسين والعقلي لمعرفة الموجودات، وذكرها على هذا الترتيب لما أثبته الطب، أن الطفل في الأيام الثلاثة الأولى يسمع ولا يبصر، ثم يبدأ الرؤية بعدئذٍ، ومن الواضح تأخر العقل عن ذلك.
أي: وهو الذي أنعم عليكم بهذه النعم الجليلة، فلم تنتفعوا بشيء منها لإصراركم على الكفر، وبعدكم عن الحق، ولم تشكروه على ذلك. ولهذا قال: ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾؛ أي (٣): شكرًا قليلًا حقيرًا، غير معتدٍ به باعتبار تلك النعم الجليلة ﴿تَشْكُرُون﴾، فـ ﴿مَا﴾ زائدة لتأكيد القلة.
وقيل المعنى: أنهم لا يشكرونه ألبتة. وقد كان ينبغي أن يشكروه عليها في
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
كل حين، لا أن لهم شكرًا قليلًا، كما يقال لجاحد النعمة: ما أقل شكره؛ أي: لا يشكر.
وفي "العيون": لم تشكروه لا قليلًا ولا كثيرًا. وذلك لأن القلة ربما تستعمل في العدم، وهو موافق لحال الكفار، وشكر هذه النعم استعمالها في طاعة المنعم وعبوديته، فشكر السمع حفظه عن استماع المنهيات، وأن لا يسمع إلا لله، وبالله، وعن الله. وشكر البصر حفظه عن النظر إلى المحرمات، وأن ينظر بنظر العبرة لله، وبالله، وإلى الله، وشكر القلب تصفيته عن ريب الأخلاق الذميمة، وقطع تعلقه عن الكونين، فلا يشهد غير الله، ولا يحب إلا لله.
٧٩ - ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه الإله ﴿الَّذِي ذَرَأَكُمْ﴾؛ أي: خلقكم وبثكم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ بالتناسل فيها. يقال: ذرأ الله الخلق؛ أي: أوجد أشخاصهم. ﴿وَإِلَيْهِ﴾ تعالى لا إلى غيره؛ أي: إلى حكمه وقضائه وجزائه ﴿تُحْشَرُونَ﴾؛ أي: تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم، فما لكم لا تؤمنون به، ولا تشكرون له.
والمعنى: أي (١) وهو سبحانه الإله الذي خلقكم في الأرض، وبثكم فيها، على اختلاف أجناسكم ولغاتكم، ثم يجمعكم لميقات يوم معلوم في دار لا حاكم فيها سواه.
٨٠ - ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه الإله ﴿الَّذِي يُحْيِي﴾؛ أي: يعطي الحياة النطف والتراب والبيض والموتى يوم القيامة. ﴿وَيُمِيتُ﴾؛ أي: يأخذ الحياة من الأحياء من غير أن يشاركه في ذلك أحد. ولم يقل (٢): أحيا وأمات بصيغة الماضي، كما قال: أنشاكم وذرأكم، ولكن جاء على لفظ المضارع ليدل على أن الإحياء والإماتة سنته؛ أي: وهو الذي جعل الخلق أحياء بنفخ الروح فيهم، بعد أن لم يكونوا شيئًا، ثم يميتهم بعد أن أحياهم، ثم يعيدهم تارة أخرى للثواب والعقاب. ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه خاصة ﴿اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ خلقًا وإيجادًا ازديادًا وانتقاصًا، أو مجيئًا وذهابًا، وهو المؤثر في تعاقبهما لا الشمس.
قال الفراء: هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان، ويختلفان في السواد
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
والبياض. وقيل: اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر. وقيل: تكررهما يومًا بعد يوم وليلة بعد ليلة؛ أي: وهو الذي سخر الليل والنهار، وجعلهما متعاقبين، يطلب كل منهما الآخر طلبًا حثيثًا، لا يملان ولا يفترقان، كما قال: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار﴾ ثم أنب سبحانه من ترك النظر في كل هذا، فقال: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أتغفلون (١) عن تلك الآيات، فلا تعقلون بالنظر والتأمل، أن الكل منا، وأن قدرتنا تعم الممكنات، وأن البعث من جملتها؛ أي: أفلا تتفكرون في هذه الموجودات، لتعلموا أن هذه صنع الإله العلم، القادر على كل شيء، وأن كل شيء خاضع له تحت قبضته، دال على وجوده. وقرأ أبو عمرو في رواية ﴿يعقلون﴾ بيا الغيبة على الالتفات.
٨١ - ثم بين سبحانه أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث، إلا التشبث بحبل التقليد المبني على مجرد إلاستبعاد، فقال: ﴿بَلْ قَالُوا﴾ عطف على مقدر يقتضيه المقام؛ أي: لم يعقلوا تلك الآيات، بل قالوا؛ أي: كفار مكة ﴿مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ﴾؛ أي: كما قال من قبلهم من الكفار من قوم نوح، وهود وصالح وغيرهم في إنكار البعث مع وضوح الدلائل.
أي (٢): ما اعتبر هؤلاء المشركون بآيات الله، ولا تدبروا حججه الدالة على قدرته على فعل كل ما يريد، كإعادة الأجسام بالبعث، وحياتها حياة أخرى للحساب والجزاء، بل قالوا مثل مقالة أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها من قبلهم، تقليدًا لهم دون برهان ولا دليل.
٨٢ - ثم بيّن ما قال الأولون فقال: ﴿قَالُوا﴾؛ أي (٣): قال الأولون ﴿أَإِذَا مِتْنَا﴾؛ أي: أنبعث إذا متنا ﴿وَكُنَّا﴾؛ أي: صرنا ﴿تُرَابًا وَعِظَامًا﴾ قد بليت أجسامنا، وجردت عظامنا من لحومنا.. ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ من قبورنا أحياء كهيأتنا قبل
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكانى.
الممات؛ أي: لا نبعث، والاستفهام فيه للإنكار والتعجب، استبعدوا ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضًا ترابًا فخلقوا، والعامل في (إذا) ما دل عليه (لمبعثون)، وهو نبعث؛ لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها، وقدم التراب على العظام مع كونه مؤخرًا عنه لشدة استبعادهم له.
وفي الهمزتين في الموضعين التحقيق، وتسهيل الثانية، وإدخال ألف بينهما على الوجهين، وترك الإدخال عليهما، فالقراءات أربعة كلها سبعية. اهـ. "شيخنا".
٨٣ - ثم أكّد كفار مكة هذا الإنكار بقولهم ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا﴾؛ أي: قال كفار مكة: لقد وعدنا ﴿نَحْنُ﴾ هذا الوعد الذي تعدنا به يا محمد، من البعث بعد موتنا، وصيرورتنا ترابًا وعظامًا على لسانك ووعد ﴿آبَاؤُنَا هَذَا﴾؛ أي: مثل هذا الوعد الذي وعدتنا به من البعث بعد الموت ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل مجيئك إلينا، أو من قبل وجودنا على ألسنة قوم زعموا أنهم رسل الله تعالى، ثم لم يوجد ذلك الوعد مع طول العهد.
وفي المثل (١) إبهام، وفيما قاله الأولون إبهام، فبين الثاني بقوله: ﴿قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا﴾ إلخ. وبيّن الأول بقوله: ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا﴾. فالأول؛ أي: قوله: ﴿قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا﴾ إلخ. مقول الأولين. وقوله: ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا﴾ إلخ مقولهم؛ أي: مقول كفار مكة اهـ. "شيخنا".
ثم صرحوا بالتكذيب، وفروا إلى مجرد الزعم الباطل، فقالوا: ﴿إِنْ هَذَا﴾؛ أي: ما هذا البعث الذي وعدتنا ﴿إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وأكاذيبهم التى سطروها في الكتب جمع أسطورة، كأحدوثة، والأساطير الأباطيل، والترهات والكذب؛ أي: ما هذا الذي تعدنا به من البعث بعد الممات إلا أكاذيب الأولين، قد تلقفناها منهم دون أن يكون لها ظلّ من الحقيقة، ولا نصيب من الصحة.
فائدة: وقال هنا (٢): ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا﴾ بتأخير هذا عن قوله:
(١) الفتوحات.
(٢) الفتوحات.
(نحن وآباؤنا)، وقال: في النمل: ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا﴾ بتقديم هذا على نحن وآباؤنا، جريا هنا على القيام من تقديم المرفوع على المنصوب، وعكس ثم بيانًا لجواز تقديم المنصوب على المرفوع، وخص ما هنا بتقديم المرفوع على المنصوب، الذي هو لفظ هذا، جريًا على الأصل بلا وجود مقتض لخلافه، وخص ما هناك بتقديم المنصوب، اهتمامًا به من منكري البعث، فكأنهم قالوا: إن هذا الوعد كما وقع منه - ﷺ -، فقد وقع قديمًا من سائر الأنبياء، ثم لم يوجد مع طول العهد، فظنوا أن الإعادة تكون في الدنيا، ثم قالوا: لما لم يكن ذلك فهو من أساطير الأولين. اهـ. "كرخي".
٨٤ - ثم أمر الله سبحانه نبيه - ﷺ - أن يسأل الكفار عن أمور لا عذر لهم من الاعتراف بها، ثم أمره أن ينكر عليهم بعد الاعتراف منهم ويوبخهم فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لكفار مكة ﴿لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا﴾ من المخلوقات، عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ شيئًا ما فأخبروني بخالقهما، فإن ذلك كاف في الجواب، وفيه (١) من البالغة في الاستهانة بهم وفي تجهيلهم ما لا يخفى.
والمعنى: قل أيها الرسول، لهؤلاء المكذبين بالآخرة من قومك، لمن ملك السموات والأرض، ومن فيها من الخلق إن كنتم من أهل العلم بذلك
٨٥ - ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾؛ أي: إنم سيقرون بانهما لله تعالى ملكًا وخلقًا، وتدبيرًا، دون غيره؛ لأن بديهة العقل تضطرهم إلى الاعتراف بأنه تعالى خالقها، وهذا إخبار من الله بما يقع منهم في الجواب قبل وقوعه.
ثم أمر رسوله أن يرغبهم في التدبر، ليعلموا بطلان ما هم عليه، فقال: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ الهمزة: للاستفام التوبيخي داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتقولون ذلك، وتنكرون البعث: فلا تتذكرون أن من فطر الأرض وما فيها ابتداءً.. قادر على إعادتها ثانيًا، فإن البدء
(١) روح البيان.
ليس بأهون من الإعادة، بل الأمر بالعكس، في قياس العقول.
والمعنى: قل لهم أيها الرسول، حين يعترفون بذلك موبخًا لهم، أفلا تتدبرون، فتعلموا أن من قدر على خلق ذلك ابتداء، فهو قادر على إحيائهم بعد مماتهم، وإعادتهم خلقًا جديدًا بعد فنائهم.
٨٦ - ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ ترقى (١) في الأمر بالسؤال، من الأدنى والأصغر إلى الأعلى والأكبر، فإن السماوات والعرش أعظم ممن في الأرض، ولا يلزم منه أن يكون من في السموات، أجل ممن في الأرض، حتى تكون الملائكة أفضل هل من جنس البشر، كما لا يخفى.
وقرأ ابن محيصن العظيم برفع الميم نعتًا للرب.
٨٧ - ﴿سَيَقُولُونَ﴾ هما لله الذي له كل شيء، وهو رب ذلك، ليس لهم جواب غيره. وأتى باللام نظرًا إلى معنى السؤال، فإن قولك من ربه، ولمن هو في معنى واحد، يعني إذا قلت من رب هذا، فمعناه لمن هذا، فالجواب لفلان.
﴿قُلْ﴾ لهم توبيخًا ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ الهمزة: للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتعلمون ذلك فلا تتقون عذابه بالعمل، بموجب العلم، حيث تكفرون به، وتنكرون البعث، وتثبتون له شريكًا في الربوبية، وفي "فتح الرحمن": إنما قال هنا بلفظ ﴿لِلَّهِ﴾ وفيما بعد بلفظ الله مرتين؛ لأنه في الأول وقع في جواب مجرور باللام في قوله: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ﴾ فطابقه بجره اللام، بخلاف ذلك في الأخيرين، فإنهما إنما وقعا في جواب مجرد عن اللام، انتهى.
وقدم التذكر على التقوى؛ لأنهم بالتذكر يصلون إلى المعرفة، وبعد أن عرفوه علموا أنه يجب عليهم اتقاء مخالفته؛ أي: قل لهم منكرًا وموبخًا: أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقاب ربكم، فتنكروا ما أخبر به من البعث.
(١) روح البيان.
وقرأ أبو عمرو وأهل العراق (١): ﴿سيقولون الله﴾ بغير لام، نظرًا إلى لفظ السؤال، وهذه القراءة أوضح من قراءة الباقين باللام، ولكنه يؤيد قراءة الجمهور، أنها مكتوبة في جميع المصاحف باللام دون ألف، وهكذا قرأ الجمهور في قوله: ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ باللام نظرًا إلى معنى السؤال، وقرأ أبو عمرو وأهل العراق بغير لام نظرًا إلى لفظ السؤال أيضًا.
٨٨ - وبعد أن قررهم بأن العالمين العلوي والسفلي ملك له تعالى، أمره أن يقررهم بأن له تدبير شؤونهما وتدبير كل شيء، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ مما ذكر، ومما لم يذكر؛ أي: ملكه التام، فإن الملكوت الملك، والتاء للمبالغة. قال الراغب: الملكوت مختص بملك الله تعالى. اهـ.
واليد صفة ثابتة له تعالى نثبتها ونعتقدها، ولا نكيفها، ولا نمثلها. ﴿وَهُوَ يُجِيرُ﴾؛ أي: يغيث غيره إذا شاء ويحفظه. ﴿وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾؛ أي: ولا يغاث عليه أحد؛ أي: لا يمنع أحد مثله بالنصر عليه؛ أي: لا يمنع أحد أحدًا من عذاب الله، ولا يقدر على نصره وإغاثته، وتعديته بعلى لتضمين معنى النصرة، يقال: أجرت فلانًا، إذا استغاث بك، فحميته، وأجرت عليه إذا حميت عنه.
وفي " التأويلات النجمية": وهو يجير الأشياء من الهلاك بالقيومية، ولا يجار عليه؛ أي: لا مانع له ممن أراد هلاكه ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك فأجيبوني. والمعنى؛ أي (٢): قل لهم: من المالك لكل شيء، والمدبر لكل شيء، وفي قبضته وتحت سلطانه وتصرفه كل شيء، وهو يغيث من يشاء، فيكون في حرز لا يقدر أحد على الدنو منه، ولا يغاث أحد، ولا يمنع منه؛ لأنه ليس في العوالم كلها ما هو خارج عن قبضته.
والخلاصة: أنه المدبر لنظام العالم جميعه، وهو الذي يغيث من شاء، ولا يستطيع أحد أن يغيث منه،
٨٩ - ثم أجاب عن هذا السؤال قبل أن يجيبوا، فقال:
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
﴿سَيَقُولُونَ﴾ لك في الجواب ﴿لِلَّهِ﴾؛ أي: لله سبحانه ملكوت كل شيء دون غيره، وهو الذي يجير ولا يجار عليه.
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد على طريق التوبيخ والاستهجان ﴿فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾؛ أي: فكيف تخدعون، وتصرفون عن توحيد الله وطاعته مع علمكم به، فأنتم بعبادة الأصنام، أو بعض البشر قد سحرت عقولكم، كأنما غابت عن رشدها، واعتراها الذهول، فتصورت الأشياء على غير ما هي عليها، فإن من لا يكون مسحورًا مختلًا عقله، لا يكون كذلك، والخادع هو الشيطان، أو الهوى، أو كلاهما.
والمعنى: كيف يخيل لكم الحق باطلًا، والصحيح فاسدًا، والمراد بالسحر التخيل والتوهم، لا حقيقته. وقد ثبت بالتجربة أن تكرار الكلام يخدع العقول والحواس حتى تتخيل غير الحق حقًا، وتتوهم صدق ما يقال، وإن كان باطلًا، ومن ثم كثرت المذاهب الإِسلامية، وابتاع الرؤساء الدينيون والسياسيون من الأساليب والنظم ما خدعوا به عقول الشعوب في دينهم ودنياهم.
وقرأ أبو عمرو (١): ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ في الأخيرتين من غير لام جر مع رفع الجلالة، جوابًا على اللفظ، لقوله من؛ لأن المسؤول به مرفوع المحل، وهو من، فجاء جوابه مرفوعًا. وقرأ الباقون: ﴿لِلَّهِ﴾ باللام في الأخيرتين، وهو جواب على المعنى؛ لأن التقدير في الموضع الأول منهما: قل من له السماوات السبع والعرش، وفي الثاني: قل من له ملكوت كل شيء، فلام الجر مقدرة في السؤال، فظهرت في الجواب نظرًا للمعنى. وأما جواب السؤال الأول، فهو لله باللام، باتفاق السبعة؛ لأنها قد صرح بها في السؤال.
٩٠ - ثم بيّن سبحانه أنه قد بالغ في الاحتجاج عليهم، فقال: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ﴾ وجئناهم على لسان رسولنا ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالأمر الحق، الواضح، الذي يحق ويجب اتباعه، وهو التوحيد والوعد بالبعث. وقرىء: ﴿بل أتيناهم﴾ بتاء المتكلم، وابن أبي إسحاق بتاء الخطاب.
(١) المراح.
﴿وَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: وإن هؤلاء المشركين ﴿لَكَاذِبُونَ﴾ فيما ينسبونه إلى الله سبحانه من الولد والشريك، وفي إنكار البعث. والمعنى؛ أي (١): ليس الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من قولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين، بل جئناهم فيه بالدين الحق الذي فيه سعادة البشر، وإنهم لكاذبون في إنكار ذلك، لا أن عقولهم قد سحرت بخداع الآباء، وتكرار القول، وحكم العادة، وهي طبيعة ثانية.
وقد بيّن (٢) أنهم أصروا على جحودهم، وأقاموا على عتوهم ونبوهم بعد أن أزيحت العلل، فلات حين عذر، وليس المساهلة موجب بقاء، وقد انتقم الله منهم، فإنه يمهل ولا يهمل. قال سقراط أهل الدنيا كسطور في صحيفة، كلما نشر بعضها طوي بعضها. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - الدنيا جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنة، فقد مضى ستة آلاف سنة، ولياتين عليها مئون من سنين ليس عليها موحدون يعني عند آخر الزمان، فكل من السعيد والشقي، لا يبقى على وجه الأرض، فيموت ثم يبعث فيجازى.
٩١ - ثم نفى سبحانه عن نفسه شيئين:
١ - ﴿مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾ كما يقول النصارى، والقائلون إن الملائكة بنات الله؛ لأنه لم يجانس أحدًا، ولم يماثله أحد حتى يكون له من جنسه وشبهه صاحبة، فيتوالدا، وأيضًا إن الولد إنما يتخذ للحاجة إلى النصير والمعين، والله غني عن كل شيء.
٢ - ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ﴾ تعالى ﴿مِنْ إِلَهٍ﴾ يشاركه في الأولوهية، لا قبل خلق العالم، ولا حين خلقه له، ولا بعد خلقه، كما يقول عبدة الأصنام وغيرهم. و (من) في الموضعين زائدة لتأكيد النفي.
ثم ذكر دليلين على بطلان تعدد الآلهة، فقال:
١ - ﴿إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ﴾ وإذا في أصلها حرف جواب وجزاء، وهنا
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
بمعنى لو الشرطية؛ أي: لو كان معه تعالى آلهة أخرى كما يقولون لذهب كل إله؛ أي: لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه، وامتاز ملكه عن ملك الآخرين؛ أي: لو قدر تعدد الآلهة.. لانفرد كل منهم بما خلق، إذ لكل صانع ضرب من الصنعة يغاير صنعة غيره، فكان يحصل التباين في نظم الخلق والإيجاد، ويوجد الاختلاف بين المخلوقات المتحدة الأنواع فلا ينتظم الكون، والمشاهد أنه منتظم متسق، وهو الغاية في الكمال، كما قال: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾.
٢ - ﴿ولـ﴾ وقع بينهم التطالب والتحارب والتغالب و ﴿عَلَا بَعْضُهُمْ﴾؛ أي: ولغلب بعضهم ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾؛ أي: ولغلب القوي منهم الضعيف، وقهره وأخذ ملكه كعادة ملوك الدنيا، وإذا لم تروا أثرًا للتحارب والتغالب، فاعلموا أنه إله واحد، بيده ملكوت كل شيء، وإله ترجعون.
وبعد أن وضح الحق، وصار كفلق الصباح، جاء بما هو كالنتيجة لذلك، فقال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩)﴾، ويضيفونه إليه تعالى من الأولاد والشركاء؛ أي: تنزه ربنا وتقدس عما يقوله الكافرون، من أن له ولدًا أو شريكًا، أو نزهوه تنزيهًا، وقرىء: ﴿عما تصفون﴾ بتاء الخطاب.
٩٢ - ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾؛ أي: عالم السر والعلانية، بالجر على أنه بدل من الجلالة، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو سبحانه وتعالى العالم بما غاب عن خلقه من الأشياء، فلا يرونه، ولا يشاهدونه، وبما يرونه ويبصرونه؟.
والمراد (١): أن الذين قالوا بالولد والشريك مخطئون فيما قالوا، فإنهم يقولون عن غير علم، وأن الذي يعلم الأشياء شاهدها وغائبها، ولا تخفى عليه خافية من أمرهما قد نفى ذلك، فخبره هو الحق دون خبرهم.
وقرأ الإبنان (٢) - ابن كثير وابن عامر - وأبو عمرو هو حفص: ﴿عالم﴾ بالجر
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
137
صفة للجلالة وقرأ باقي السبعة، وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو بحرية بالرفع. قال الأخفش: الجر أجود؛ ليكون الكلام من وجه واحد. وقال ابن عطية: الرفع عندي أبرع، والغيب ما غاب عن الناس، والشهادة ما شاهدوه.
ثم إن الغيب بالنسبة إلينا، لا بالنسبة إليه تعالى، فهو عالم به وبالشهادة على سواء، وهو دليل آخر على انتفاء الشريك، بناءً على توفقهم في تفرده تعالى بذلك، ولذلك رتب عليه بالفاء في قوله: ﴿فَتَعَالَى﴾ الله وتنزه ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ به مما لا يعلم شيئًا من الغيب، ولا يتكامل عليه بالشهادة، فإن تفرده بذلك موجب لتعاليه عن أن يكون له شريك؛ أي: تقدس عما يقول الجاحدون والظالمون. و ﴿الفاء﴾: في قوله: ﴿فَتَعَالَى﴾ عاطفة على محذوف معلوم من السياق، فكأنه قال: علم الغيب فتعالى، كقولك: زيد شجاع فعظمت منزلته؛ أي: شجع فعظمت، أو يكون على إضمار القول؛ أي: أقول فتعالى الله. والمعنى: أنه سبحانه متعالٍ عن أن يكون له شريك في الملك. والله أعلم.
الإعراب
﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (٦٣)﴾.
﴿بَلْ﴾: حرف ابتداء وإضراب (١) للانتقال إلى أحوال الكفار المحكية فيما سبق بقوله: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ﴾ الخ. والجمل التي بينهما وهي قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ اعتراض في خلال الكلام، المتعلق بالكفار ﴿قُلُوبُهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فِي غَمْرَةٍ﴾: خبر. ﴿مِنْ هَذَا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿غَمْرَةٍ﴾؛ أي: كائنة من هذا الذي وصف به المؤمنون، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَلَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لهم﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿أَعْمَالٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿مِنْ دُونِ ذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة أولى لـ ﴿أَعْمَالٌ﴾، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿لَهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عَامِلُونَ﴾ ﴿عَامِلُونَ﴾: خبرهم؛ أي: مستمرون عليها، ومعنى من دون
(١) الفتوحات.
138
ذلك؛ أي: متجاوزة متخطية لما وصف به المؤمنون، والجملة الاسمية في محل الرفع صفة ثانية لأعمال.
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤)﴾
﴿حَتَّى﴾: حرف ابتداء يبدأ بها الكلام. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه وهو يجأرون، في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب. ﴿أَخَذْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مُتْرَفِيهِمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿بِالْعَذَابِ﴾: متعلق بـ ﴿أَخَذْنَا﴾. والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿إذا﴾ الثانية: فجائية، قائمة مقام فاء الجزاء في الربط، حرف لا محل لها من الإعراب، كأنه قيل: فهم لا يجأرون على حد قوله. وتخلف الفاء إذا المفاجاة. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿يَجْأَرُون﴾: خبره، والجملة الاسمية جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة. وقيل: ﴿حَتَّى﴾ حرف جر، وغاية. وجملة ﴿إذا﴾ الشرطية: في محل الجر بها، والتقدير: لا يزالون يعملون أعمالهم الخبيثة، إلى مفاجأة جؤارهم وقت أخذنا إياهم بالعذاب الشديد.
﴿لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)﴾.
﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَجْأَرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية. ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تَجْأَرُوا﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: فيقال لهم: لا تجأروا اليوم. ﴿إِنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿مِنَّا﴾: جار ومجرور متعلق بتنصرون. ﴿لا﴾ نافية. ﴿تُنْصَرُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة إن مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي المذكور قبلها. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿كَانَتْ آيَاتِي﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿تُتْلَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل مستتر فيه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تُتْلَى﴾، وجملة ﴿تُتْلَى﴾: في محل النصب خبر (كان)، وجملة (كان) مستأنفة. ﴿فَكُنْتُمْ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿كنتم﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾:
139
جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَنْكِصُون﴾، وجملة ﴿تَنْكِصُون﴾: في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾: معطوفة على جملة (كان) الأولى.
﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)﴾
﴿مُسْتَكْبِرِينَ﴾: حال أولى من فاعل ﴿تَنْكِصُونَ﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿مُسْتَكْبِرِينَ﴾؛ أي: بسببه، والضمير للحرم أو للبيت، أو الضمير عائد إلى القرآن. وبه بمعنى فيه متعلق بسامرا. ﴿سَامِرًا﴾: حال ثانية من فاعل ﴿تَنْكِصُونَ﴾ أيضًا. وجملة ﴿تَهْجُرُونَ﴾: حال ثانية منه أيضًا، فالثلاثة: إما أحوال مترادفة من الواو في ﴿تَنْكِصُونَ﴾، أو متداخلة؛ أي: كل واحدة حال مما قبلها. ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا﴾: الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفعل الكفار ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر. ﴿فلم يدبروا﴾: ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يدبروا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿الْقَوْلَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿أم﴾ عاطفة بمعنى بل الانتقالية. وهمزة الاستفهام التقريري؛ أي: بل أجاءهم. ﴿جَاءَهُمْ﴾: فعل ومفعول به. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل ﴿جاء﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿لم يدبروا﴾. ﴿لَمْ يَأْتِ﴾: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿آبَاءَهُمُ﴾: مفعول به. ﴿الْأَوَّلِينَ﴾: صفة لـ ﴿آبَاءَهُمُ﴾، وجملة ﴿يَأْتِ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير الفاعل.
﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩)﴾.
﴿أَمْ﴾: حرف عطف، بمعنى بل الانتقالية، وهمزة الاستفهام التقريري؛ أي: بل ألم يعرفوا. ﴿لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ﴾: جازم وفعل وفاعل ومفعول معطوف على جملة ﴿لم يدبروا﴾: ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿له﴾: متعلق بمنكرون. ﴿مُنْكِرُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة مفرعة على جملة ﴿لَمْ يَعْرِفُوا﴾.
140
﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٠)﴾.
﴿أَمْ﴾: حرف عطف بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام التقريري؛ أي: بل أيقولون. ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على جملة ﴿لم يدبروا﴾. ﴿بِهِ﴾: خبر مقدم. ﴿جِنَّةٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب للإضراب الإبطالي. ﴿جَاءَهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر معطوف على ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور، حال من فاعل جاء؛ أي: بل جاءهم محمد حال كونه ملتبسًا بالحق. ﴿وَأَكْثَرُهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية ﴿أكثرهم﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿لِلْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿كَارِهُونَ﴾. ﴿كَارِهُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من ضمير المفعول في ﴿جَاءَهُمْ﴾.
﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)﴾.
﴿وَلَوِ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية فعل شرط لـ (لو). ﴿لَفَسَدَتِ﴾: (اللام): رابطة لجواب ﴿لو﴾. ﴿فسدت﴾: فعل ماض. ﴿السَّمَاوَاتُ﴾: فاعل. ﴿وَالْأَرْضُ﴾: معطوف عليه، والجملة جواب ﴿لو﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية: مستأنفة معترضة لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. ﴿وَمَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على السموات ﴿فِيهِنَّ﴾: جار ومجرور صلة من الموصولة. ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب للإضراب الانتقالي ﴿أَتَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِذِكْرِهِمْ﴾: متعلق بأتيناهم، والجملة مستأنفة ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿هم﴾: مبتدأ. ﴿عَنْ ذِكْرِهِمْ﴾: متعلق بما بعده. ﴿مُعْرِضُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها.
﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣)﴾
﴿أَمْ﴾: عاطفة بمعنى بل الانتقالية. وهمزة الاستفهام التوبيخي الإنكاري؛
141
أي: بل أتسألهم. ﴿تَسْأَلُهُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعل مستتر يعود على محمد. ﴿خَرْجًا﴾: مفعول ثان والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾، وما بينهما اعتراض. ﴿فَخَرَاجُ﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية. ﴿خراج﴾: مبتدأ. ﴿رَبِّكَ﴾: مضاف إليه. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر، والجملة الاسمية في محل الجر، معللة لنفي السؤال المستفاد من الإنكار؛ أي: لا تسألهم ذلك؛ لأن خراج ربك خير. ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ. ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَإِنَّكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف نصب. و ﴿الكاف﴾: اسمها: ﴿لَتَدْعُوهُمْ﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿تدعوهم﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة. ﴿إِلَى صِرَاطٍ﴾ متعلق بتدعوهم. ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾: صفة ﴿صراط﴾.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤)﴾.
﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾. ﴿عَنِ الصِّرَاطِ﴾: متعلق بناكبون. ﴿لَنَاكِبُونَ﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿ناكبون﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى.
﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية: ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿رَحِمْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَكَشَفْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿رحمنا﴾. ﴿مَا﴾: موصولة في محل النصب مفعول به. ﴿بِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾؛ أي: ما نزل بهم من القحط والجدب. ﴿مِنْ ضُرٍّ﴾: جار ومجرور، حال من ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿لَلَجُّوا﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية. ﴿لجوا﴾: فعل وفاعل. ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾: متعلق به، أو بـ ﴿يَعْمَهُونَ﴾. والجملة جواب ﴿لو﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية: مستأنفة، وجملة ﴿يَعْمَهُونَ﴾: في محل النصب حال من فاعل ﴿لجوا﴾.
142
﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَخَذْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ﴾. ﴿بِالْعَذَابِ﴾: متعلق بـ ﴿أخذنا﴾. ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿اسْتَكَانُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على أخدنا. ﴿لِرَبِّهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَكَانُوا﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَتَضَرَّعُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْتَكَانُوا﴾.
﴿حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٧٨)﴾.
﴿حَتَّى﴾: حرف ابتداء لدخولها على الجملة التي يبتدأ بها. وقيل: هي حرف جر وغاية. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، والشرط متعلق بالجواب الآتي، أعني قوله: ﴿مُبْلِسُونَ﴾. ﴿فَتَحْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿فَتَحْنَا﴾. ﴿بَابًا﴾: مفعول به. ﴿ذَا عَذَابٍ﴾: صفة لـ ﴿بَابًا﴾، ومضاف إليه. ﴿شَدِيدٍ﴾: صفة لـ ﴿عَذَابٍ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿إذا﴾: فجائية، قائمة مقام الفاء في ربط الجواب. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فِيهِ﴾: متعلق بما بعده. ﴿مُبْلِسُونَ﴾: خبر المبتدأ والجملة الاسمية جواب لـ ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾: مستأنفة، وقيل: جملة إذا في محل الجر بحتى، على أنها جارة متعلقة بـ ﴿اسْتَكَانُوا﴾، والتقدير: فما استكانوا لربهم وما يتضرعون إلى إبلاسهم من رحمتنا، وقت فتحنا عليهم بابًا ذا عذاب شديد. ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿هو الذي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْشَأَ﴾: فعل وفاعل مستتر. ﴿لَكُمُ﴾: متعلق به. ﴿السَّمْعَ﴾: مفعول به. ﴿وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾: معطوفات عليه، والجملة صلة الموصول. ﴿قَلِيلًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، وهو المفعول المطلق حقيقة، تقديره: شكرًا قليلًا. ﴿مَا﴾: زائدة، زيدت لتأكيد القلة المفادة بالتنكير بمعنى حقًا. ﴿تَشْكُرُون﴾: فعل
143
وفاعل، والجملة في محل النصب، حال من ضمير المخاطبين، تقديره: وهو الذي أنشا لكم هذه الأعضاء، حالة كونكم شاكرين له شكرًا قليلًا.
﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (٨١)﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ﴾ ﴿ذَرَأَكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿ذَرَأَكُمْ﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿وَإِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُحْشَرُونَ﴾. ﴿تُحْشَرُونَ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على جملة الصلة. ﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله: وهو الذي أنشأ لكم. ﴿يُحْيِي﴾: فعل وفاعل مستتر، والجملة صلة الموصول. ﴿وَيُمِيتُ﴾: معطوف على ﴿يحي﴾. ﴿وَلَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿اخْتِلَافُ اللَّيْلِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. ﴿وَالنَّهَارِ﴾: معطوف على الليل، والجملة معطوفة على جملة الصلة. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾: (الهمزة)؛ للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف. و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَعْقِلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أتغفلون عن تلك الآيات فلا تعقلون، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿بَلْ﴾: حرف عطف وإضراب انتقالي. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِثْلَ﴾: منصوب على المفعولية؛ لأنه صفة لمصدر محذوف هو المفعول المطلق أصالة. ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿قَالَ الْأَوَّلُونَ﴾: فعل وفاعل صلة ما المصدرية، وجملة ما المصدرية مع صلتها، في تأويل مصدر مجرور بإضافة مثلي إليه. والتقدير: بل قالوا قولًا مثل قول الأولين، والجملة الفعلية معطوفة على محذوف، يقتضيه المقام، والتقدير: لم يعقلوا تلك الآيات السابقة، بل قالوا مثل ما قال الأولون.
﴿قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَإِذَا﴾ (الهمزة): للاستفهام الإنكاري الاستبعادي داخلة على محذوف معلوم من جواب إذا. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿مِتْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة إذا
144
إليها. ﴿وَكُنَّا تُرَابًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره. ﴿وَعِظَامًا﴾: معطوف على ﴿ترابًا﴾، وجملة كان معطوفة على جملة متنا، وجملة متنا في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾، لكونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بمحذوف، معلوم من الجواب، لا بالجواب؛ لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها، كما سبق. ﴿أَإِنَّا﴾: (الهمزة): للاستفهام الإنكارى التعجبي. ﴿إنا﴾ ا: ناصب واسمه. ﴿لَمَبْعُوثُونَ﴾: (اللام): للابتداء. ﴿مبعوثوّن﴾: خبر ﴿إن﴾: وجملة ﴿إن﴾ جواب ﴿أَإِذَا﴾، وجملهْ ﴿أَإِذَا﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)﴾:
﴿لَقَدْ وُعِدْنَا﴾: (اللام): موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿وُعِدْنَا﴾: فعل ونائب فاعل والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم في محل النصب مقول قالوا. ﴿نَحْنُ﴾: تأكيد لضمير النائب ليصح العطف عليه. ﴿وَآبَاؤُنَا﴾: معطوف على ضمير النائب. ﴿هَذَا﴾: مفعول ثان لوعدنا. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق بـ ﴿وعدنا﴾. ﴿إن﴾: نافية. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قالوا).
﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٨٧)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وضمير مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لِمَنِ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر. ﴿من﴾: اسم استفهام في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر، مقدم وجوبًا. ﴿الْأَرْضُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَمَن﴾: اسم موصول، في محل الرفع معطوف على الأرض. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور، صلة (من) الموصولة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجملة ﴿تَعْلَمُونَ﴾ في محل النصب، خبر (كان) وجواب
145
﴿إن﴾ الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم تعلمون ذلك، فأخبروني بخالقهما، وفي هذا تلويح بغباوتهم. ﴿سَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة للإخبار من الله تعالى، عما يقع منهم، في الجواب قبل وقوعه. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هي كائنة، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿أَفَلَا﴾: الهمزة: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. والتقدير: أتقولون ذلك وتنكرون البعث. ﴿لا﴾: نافية، وجملة ﴿تَذَكَّرُونَ﴾: معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. ﴿مَن﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ﴾: خبر ومضاف إليه. ﴿السَّبْعِ﴾؛ صفة لـ ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَرَبُّ الْعَرْشِ﴾: معطوف على ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿الْعَظِيمِ﴾ بالجر: صفة للعرش، وبالرفع صفة لرب. ﴿سَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره هما لله سبحانه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿سَيَقُولُونَ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ (الهمزة): للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف. و ﴿الفاء﴾: عاطفة على المحذوف، والتقدير: أتعلمون ذلك فلا تتقون عذابه، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَتَّقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة.
﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿بِيَدِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الاسمية خبر من الاستفهامية، وجملة ﴿مَنْ﴾ الاستفهامية: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
146
﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة أو حالية. ﴿هو﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُجِيرُ﴾: خبره، والجملة في محل النصب حال من الضمير المستكن في الخبر، أو معطوفة على جملة (من) الاستفهامية. ﴿وَلَا يُجَارُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور نائب فاعل له، والجملة معطوفة على جملة يجير. ﴿إن﴾ شرطية، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه وجملة ﴿تَعْلَمُونَ﴾ خبره، وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم تعلمون ذلك، فأخبروني، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية: في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾.
﴿سَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: ملكوت كل شيء لله سبحانه، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿فَأَنَّى﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ذلك، فأقول لكم: ﴿أنى تسحرون﴾. ﴿أنى﴾: اسم استفهام، بمعنى: كيف، في محل النصب على الحال من نائب فاعل ﴿تُسْحَرُونَ﴾. ﴿تُسْحَرُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿بَل﴾: حرف إضراب وابتداء. ﴿أَتَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق به، أو حال من فاعل ﴿أَتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: حالة كوننا متلبسين بالحق، والجملة مستأنفة. ﴿وَإِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَكَاذِبُونَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿كاذبون﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: معطوفة على جملة ﴿أَتَيْنَاهُمْ﴾، أو في محل النصب حال من مفعول ﴿أَتَيْنَاهُمْ﴾. ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ﴾: فعل وفاعل ومفعول، و ﴿ما﴾ نافية و ﴿مِن﴾: زائدة. والجملة مستأنفة. ﴿وَمَا كَان﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص. ﴿مَعَهُ﴾: ظرف مكان ومضاف إليه خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿إِلَهٍ﴾: اسم كان مؤخر، والجملة معطوفة على جملة ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ﴾.
147
﴿إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)﴾.
﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء مهمل، قائم مقام لو الشرطية، المحذوفة مع فعل شرطها، تقديره: ولو كان معه آلهة أخرى. ﴿لَذَهَبَ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب الشرط المحذوف. ﴿ذهب كل إله﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لو﴾ المحذوفة مع فعل شرطها، وجملة الشرط المحذوف مع جوابه معطوفة، تعاطف مقدر على جملة ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ﴾. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بذهب. ﴿خَلَقَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على كل إله، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما خلقه. ﴿وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ﴾: فعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿لَذَهَبَ﴾، و ﴿اللام﴾: فيه لام الربط. ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾: متعلق بعلا. ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبح الله سبحانًا، أو سبحوا الله سبحانًا. ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿سُبْحَانَ﴾، وجملة ﴿يَصِفُونَ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة والعائد محذوف، تقديره: عما يصفونه به، ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾ مصدرية؛ أي: عن وصفهم. ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ﴾ بالجر: بدل من الجلالة، أو صفة له، وبالرفع خبر لمبتدأ محذوف. ﴿الْغَيْبِ﴾: مضاف إليه. ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾: معطوفة عليه. ﴿فَتَعَالَى﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع على محذوف، كأنه قيل: علم الله الغيب فتعالى، والجملة مستأنفة. ﴿تعالى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿عَمَّا﴾: متعلق بـ ﴿تعالى﴾: ﴿يُشْرِكُونَ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿مَا﴾، والعائد محذوف، تقديره: عما يشركون به، ويجوز أن تكون ما مصدرية؛ أي: عن إشراكهم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فِي غَمْرَةٍ﴾: الغمرة: الجهالة والضلالة، وفي الأصل: ماء يغمر قامة الإنسان ﴿مُتْرَفِيهِمْ﴾: أي: أغنياءهم ورؤساءهم، جمع مترف، اسم مفعول من أترف الرباعي. ﴿يَجْأَرُونَ﴾؛ أي: يصيحون ويصرخون، ويبتهلون ويستغيثون
148
بربهم، ويلتجئون إليه في كشف العذاب عنهم، ومع ذلك لا ينفعهم، ولذلك قيل: لا تجأروا اليوم. وفي "القاموس" جأر: كمنع، جأرًا وجؤارًا إذا رفع صوته بالدعاء، وتضرع واستغاث، وجأرت البقرة والثور، إذا صاحا، وجأر النبات إذا طال، وجأرت الأرض؛ إذا طال نبتها، والجؤار: من النبت الغض والكثير، والرجل الضخم. اهـ.
وقال في "اللسان": والأساس، الجؤار: الصراخ باستغاثة، ويقال: جأر الرجل، إذا صاح ورفع صوته.
﴿لَا تُنْصَرُونَ﴾؛ أي: لا تمنعون من عذابنا؛ أي: لا يجيركم أحد ولا ينصركم ﴿أَعْقَابِكُمْ﴾ جمع عقب، وهو مؤخر القدم، ورجوع الشخص على عقبه، رجوعه في طريقه الأولى، كما يقال: رجع على بدئه.
﴿تَنْكِصُونَ﴾؛ أي: تعرضون عن سماعها، وأصل النكوص الرجوع على الأعقاب؛ أي: ترجعون القهقرى؛ أي: إلى جهة الخلف، وهذه أقبح المشيات، وهذا كناية عن إعراضهم عن الآيات، وفي "المختار"، ما يدل على أنه من بابي جلس ودخل.
﴿سَامِرًا﴾ السامر: مأخوذ من السمر، وهو سهر الليل. وقال الراغب: قيل: معناه: سمارًا. فوضع الواحد موضع الجميع، تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه. وقيل: بل السامر الليل المظلم، والسمر سواد الليل، ومنه قيل: للحديث بالليل سمر، وسمر فلان إذا تحدث ليلًا، وقيل: اسم جمع كحاج وحاضر وراكب وغائب، كما مر.
﴿تَهْجُرُونَ﴾: بفتح التاء وضم الجيم، مضارع هجر الثلاثي، من باب قتل، من الهجران وهو الترك، أو من هجر هجرًا، إذا هذى وتكلم بغير معقول لمرض، أو لغيره؛ أي: تتكلمون في القرآن مالا ينبغي. وقرىء بضم التاء وكسر الجيم من أهجر إهجارًا، إذا أفحش في كلامه، يقال أهجر يهجر إهجارًا، كأكرم يكرم إكرامًا، واسم المصدر الهجر بضم الهاء، وهو التكلم بالفحش.
149
﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ قال الراغب: التدبر: التفكر في دبر الأمور. ﴿بِهِ جِنَّةٌ﴾؛ أي: جنون.
﴿خَرْجًا﴾؛ أي: أجرًا وجعلًا، ويغلب في الخرج أن يكون مال العتق، وفي الخراج مال العقار، ونقيض الدخل. وقيل: الخرج ما تبرعت به، والخراج ما لزمك أداؤه. والوجه: أن الخرج أخص من الخراج.
ومعنى الآية: أم تسالهم على هدايتك لهم قليلًا من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير لك.
﴿لَنَاكِبُونَ﴾؛ أي: لعادلون عن طريق الرشاد، يقال: نكب عن الطريق إذا زاغ عنه، وكل من لا يؤمن بالآخرة فهو ناكب، وفي "المصباح" نكب عن الطريق نكوبًا من باب قعد إذا عدل عنه ومال إليه غيره، والنكوب والنكب: العدول والميل، ومنه النكباء للريح بين ريحين، سميت بذلك؛ لعدولها عن المهاب، ونكبت حوادث الدهر؛ أي: هبت هبوب النكباء اهـ. "سمين".
﴿الصِّرَاطِ﴾ في اللغة: الطريق، فسمي الدين طريقًا؛ لأنها تؤدي إليه تعالى. ﴿للجوا﴾ جواب لو، وقد توالى فيه لامان، وفيه تضعيف لقول من قال: إن جوابها إذا نفي بلم ونحوها مما صدر فيه حرف النفي باللام، أنه لا يجوز دخول اللام، فإذا قلت: لو قام زيد للم يقم عمرو لم يجز. قال ذلك القائل: لئلا يتوالى اللامان، وهذا موجود في الإيجاب كهذه الآية، ولم يمتنع، وإلا فما الفرق بين النفي والإثبات في ذلك. اهـ. "فتوحات". وفي "المصباح" لج في الأمر لججًا من باب تعب، ولجاجًا ولجاجة فهو لجوج ولجوجة، مبالغة إذا لازم الشيء وواظبه. وباب ضرب لغةٌ. اهـ.
﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾: الطغيان: مجاوزة الحد في الشيء، وكل مجاوز حده في الطغيان طاغ. ﴿يَعْمَهُونَ﴾: في "المصباح" عمه في طغيانه عمها، من باب تعب إذا تردد متحيرًا، وتعامه مأخوذ من قولهم أرض عمهاء إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة، فهو عمه وأعمه. ﴿فَمَا اسْتَكَانُوا﴾ يقال: استكان؛ أي: انتقل من كون إلى كون، كاستحال إذا انتقل من حال إلى حال. وأصله استكون، نقلت
150
حركة الواو إلى ما قبلها، ثم قلبت ألفًا. هذا ما قاله علماء اللغة، ولكن اعترض بعضهم على هذا التنظير، وحجته أن استكان على تأويله أحد أقسام استفعل الذي معناه التحول، كقولهم استحجر الطين استنوق الجمل. وأما استحال فثلاثية، حال إذا انتقل من حال إلى حال، وإذا كان الثلاثي يفيد التحول لم يبق لصيغة استفعل فيه أثر، فليس استحال من استفعل للتحول، ولكنه من استفعل بمعنى فعل، وهو أحد أقسامه إذا لم يزد السداسي فيه على الثلاثي معنىً، ثم نعود إلى تأويله، فنقول: المعنى عليه فما انتقلوا من كون التكبر والتجبر والاعتياص إلى كون الخضوع والضراعة إلى الله.
﴿مُبْلِسُونَ﴾ في "المصباح" البلاس مثل سلام: المسح، وهو فارسي معرب، والجمع بلس بضمتين. مثل عناق وعنق، وأبلس الرجل إبلاسًا سكت. وأبلس أيس، وفي التنزيل فإذا هم مبلسون. اهـ. ومنه إبليس ليأسه من رحمة الله. اهـ.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَار﴾؛ أي: لتحسوا بهما ما نصب من الآيات، وفيه تنبيه، على أن من لم يعمل هذه الأعضاء، فيما خلقت له.. فهو بمنزلة عادمها. ﴿ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: خلقكم وبثكم فيها. ﴿اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾؛ أي: تعاقبهما من قولهم: فلان يختلف إلى فلان؛ أي: يتردد عليه بالمجيء والذهاب. ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ واحدها أسطورة، كاحدوثة وأعجوبة، قاله المبرد وجماعة. ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ أصله تتذكرون، فقلبت التاء الثانية ذالًا فأدغمت الذال في الذال.
﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: والواو والتاء في الملكوت زائدتان: للمبالغة كزيادتهما في الرحموت والرهبوت والجبروت للمبالغة في الرحمة والرهبة والجبر. ﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ يقال: أجرت فلانًا إذا استغاث بك فحميته، وأجرت عليه إذا حميت عنه. ﴿فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾؛ أي: فكيف تخدعون وتصرفون عن الرشد.
﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ قال الراغب: شرك الإنسان في الدين ضربان:
أحدهما: الشرك العظيم، وهو إثبات شريك لله تعالى، يقال: أشرك فلان
151
بالله، وذلك أعظم كفر.
والثاني: الشرك الصغير، وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وذلك كالرياء والسمعة والنفاق. وفي الحديث: "والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا" نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المنقطعين عما سواه. والعاملين بالله لله في الله.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ﴾ حيث مثل إعراضهم عن الحق، بالرجوع القهقرى إلى الخلف، وذكر شيئًا من لوازمه وهو الإعقاب.
ومنها: تخصيص اليوم بالذكر في قوله: ﴿لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ﴾ وهو يوم القيامة؛ لتهويله والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار.
ومنها: الاستفهام في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا﴾؛ لإنكار الواقع واستقباحه.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾؛ للتأكيد والتشنيع عليهم.
ومنها: الجناس المماثل الناقص بين ﴿خَرْجًا﴾ و ﴿فَخَرَاجُ﴾ وهو في غاية البلاغة، حيث ذكر الأول: في جانب عوضهم، والثاني: في جانب ما يعطيه الله سبحانه، فالخراج، أبلغ من الخرج بلا ألف؛ لأن الخرج يقال لما يدفع مرة، ولا يجب تكراره، والخراج بالألف يقال للملتزم الذي يجب تكراره، كخراج الأرض.
ومنها: التأكيد بالجملة القسمية في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ﴾ للشرطية
152
قبلها، أعني قوله: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ﴾.
ومنها: عطف المضارع على الماضي في قوله: ﴿فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه، وهو بالاستكانة أحق، بخلاف التضرع، فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبال، وأما الاستكانة، فقد توجد منهم. اهـ. "سمين".
ومنها: الامتنان بالنعم العظيمة عليهم في قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ تذكيرًا لهم.
ومنها: إفراد السمع دون الأبصار والأفئدة، في قوله المذكور لوحدة المسموع، وهو الصوت دون المبصرات والمفكرات أو لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجمع فلمح فيه إلى الأصل.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.
ومنها: التنكير إفادةً للتقليل في قوله: ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾.
ومنها: زيادة ما فيه تأكيدًا للقلة المستفادة من التنكير، والمعنى: شكرًا قليلًا، وهو كناية عن عدم الشكر.
ومنها: الفصل في قوله: ﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (٨١)﴾؛ أي: قطع إحدى الجملتين عن الأخرى للاتحاد فقد فصل ﴿قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا﴾ الخ. عما قبله لقصد البدل لكونه أوفى بالمقصود من الأول؛ لأن ما قال الأولون أقوال كثيرة، ولا يدرى أي قول يراد من تلك الأقوال، والأحسن أن يقال: إن أريد بقوله: مثل ما قال الأولون ما نقل عنهم من قولهم: أئذا متنا الخ. وهو الظاهر كان بدل كل من كل.
ومنها: الاستفهام الذي غرضه الإنكار والتوبيخ في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ وقوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ وقوله: ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾.
ومنها: حذف جواب الشرط ثقة بدلالة اللفظ عليه في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ
153
تَعْلَمُونَ}؛ أي: إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾.
ومنها: تأكيد الكلام بذكر حرف الجر الزائد في قوله: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ﴾ وقوله: ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾؛ أي: ما اتخذ ولدًا، وما كان معه إله تأكيدًا وتثبيتًا للنفي.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
154
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) ما لهم من مقالات السوء، كإنكار البعث والجزاء واتخاذ الولد، ووصف الله بما لا يليق، وكان كل هذا مما يدعو إلى استئصالهم وأخذهم بالعذاب.. أمر رسوله أن يدعوه، بأن لا يجعله قرينًا
(١) المراغي.
155
لهم، فيما يحيق بهم من العذاب، ثم ذكر أنه قدير على أن يعجل لهم العذاب، ولكنه أخره ليوم معلوم، ثم أرشده إلى الترياق النافع في مخالطة الناس، وهو إحسان المرء إلى من يسيء إليه، حتى تعود عداوته صداقةً، وعنفه لينًا، كما قال:
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوْبَهُمُ فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ
ثم أمره أن يستعيذ من حيل الشياطين، وأن يحضروه في أي عمل من أعماله، ولا يكون كالكافرين الذين قبلوا همزها، وأطاعوا وسوستها حتى إذا ما حان وقت الاحتضار، تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا ليعملوا صالحًا، وأنه لا يسمع لمثل هؤلاء دعاء، فإنه لا رجعة لهم بعد هذا، وأمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم البعث.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر أن وراء الرجوع إلى الدنيا حاجزًا إلى يوم القيامة.. أعقب ذلك بذكر أحوال هذا اليوم، فبين أنه عند البعث وإعادة الأرواح في الأجسام، لا تنفع الأحساب، ولا يسأل القريب قريبه، وهو يبصره، وأن من رجحت حسناته على سيئاته، فاز ونجا من النار، ودخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته خاب وهلك، وأدخل النار خالدًا فيها أبدًا، وكان عابس الوجه متقلص الشفتين من شدة الاحتراق، وأنه يقال: لأهل النار توبيخًا لهم على ما ارتكبوا من الكفر والآثام، ألست قد أرسلت إليكم الرسل، وأنزلت عليكم الكتب، فيقولون: بلى، ولكنا لم ننقد لها ولم نتبعها فضللنا، ربنا ارددنا إلى دار الدنيا، فإن نحن عدنا فإنا ظالمون مستحقون العقوبة، فيجيبهم ربهم: أمكثوا في النار صاغرين أذلاء، ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا إنكم كنتم تستهزئون بعبادي المؤمنين، وكنتم منهم تضحكون، إنهم اليوم هم الفائزون، جزاء صبرهم على أذاكم واستهزائكم بهم.
قوله تعالى: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر إنكارهم للبعث، وأنهم لا يعترفون بحياة إلا ما كان في هذه الدنيا، وأنه بعد الفناء لا حياة، ولا إعادة..
156
ذكر هنا أنهم بعد أن يستقروا في النار، ويوقنوا أنهم مخلدون فيها أبدًا، يسألون سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم في الأرض، ليستبين لهم أن ما ظنوه أمدًا طويلًا يسير بالنسبة إلى ما أنكروه، وحينئذِ يزدادون حسرة وألمًا على ما كانوا يعتقدون في الدنيا، حين رأوا خلاف ما ظنوا، ثم بين بعدئذٍ ما هو كالدليل على وجود البعث، وهو تمييز المطيع من العاصي، ولولاه لكان خلق العالم عبثًا، تنزه ربنا عن ذلك، ثم أتبع هذا بالرد على من أشرك معه غيره، وأنذره بالعذاب الأليم. ثم أمر رسوله أن يطلب منه غفران الذنوب، وأن يثني عليه بما هو أهله.
التفسير وأوجه القراءة
٩٣ - ﴿قُلْ﴾: يا محمد في الدعاء يا ﴿رَبِّ﴾؛ أي: يا مالك أمري. ﴿إِمَّا﴾ أصله (إن ما). و (ما) مزيدة لتأكيد معنى الشرط، كالنون في قوله: ﴿تريني﴾؛ أي: إن كان لا بد من أن تريني ﴿مَا يُوعَدُونَ﴾؛ أي: ما يوعد هؤلاء المشركون من العذاب الدنيوي المستأصل، والوعد يكون في الخير والشر،
٩٤ - وأعاد (١) لفظ ﴿رَبِّ﴾ مبالغة في التضرع.. ﴿فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: معهم في العذاب، ففي بمعنى مع؛ أي: لا تجعلني قريبًا لهم في العذاب، وأخرجني من بين أيديهم سالمًا. والمراد بالظلم: الشرك، وفيه إيذان بكمال فظاعة ما وعدوه من العذاب، وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه، من لا يكاد يمكن أن يحيق به، ورد لإنكارهم إياه، واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء. وهذا يدل على أن النبلاء ربما يعم أهل الولاء، كما قال: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾، وأن للحق سبحانه أن يفعل ما يريد، ولو عذب البر لم يكن ذلك منه ظلمًا، ولا قبيحًا.
والمعنى: أي (٢) قل يا محمد: رب إن عاقبتهم وأنا مشاهد ذلك.. فلا تجعلني فيهم، ولا تهلكني بما تهلكهم به، ونجني من عذابك وسخطك، واجعلني ممن رضيت عنهم من أوليائك.
(١) روح البيان.
(٢) المراغىّ.
روى الإِمام أحمد، والترمذي، أن النبي - ﷺ - كان يدعو: "وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفني إليك غير مفتون". ومعلوم أنه عليه السلام (١)، معصوم مما يكون سببًا لجعله معهم، ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهارًا للعبودية، وتواضعًا لله تعالى. واستغفار رسول الله - ﷺ - إذا قام من مجلسه سبعين مرة من هذا القبيل، وقرأ الضحاك وأبو عمران الجوني: ﴿ترئني﴾ بالهمز بدل الياء، وهذا كما قرىء فإما ﴿ترئت﴾ و ﴿لترؤن﴾ بالهمز، وهو إبدال ضعيف.
٩٥ - ﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب المستأصل ﴿لَقَادِرُونَ﴾ ولكنا نؤخره لعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون، أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم.
والمعنى: أي وإنا أيها الرسول لقادرون، على أن نريك ما ننزله بهم من العذاب، فلا يحزننك تكذيبهم بك، وإنما نؤخره حتى يبلغ الكتاب أجله، علمًا منا أن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمن، ومن جراء ذلك لا نستأصلهم، ولا نمحو آثارهم،
٩٦ - ثم أرشده إلى ما يفعل بهم إذا لحقه أذاهم، فقال: ﴿ادْفَعْ﴾ يا محمد ﴿بِالَّتِي﴾؛ أي: بالطريقة التي ﴿هِيَ أَحْسَنُ﴾؛ أي: أحسن طرق الدفع من الحلم والصفح، ﴿السَّيِّئَةَ﴾ التي تأتيك منهم من الأذى والمكروه، وهو مفعول ادفع. والسيئة: الفعلة القبيحة، وهو ضد الحسنة.
قال بعضهم (٢): أي استعمل معهم ما جعلناك عليه من الأخلاق الكريمة والشفقة والرحمة، فإنك أعظم خطرًا من أن يؤثر فيك ما يظهرونه من أنواع المخالفات.
وفي "التأويلات النجمية" يعني: مكافأة السيئة جائزة، لكن العفو عنها أحسن، ويقال: ادفع بالوفاء الجفاء. ويقال: الأحسن ما أشار إليه القلب بالمعافاة، والسيئة ما تدعو إليه النفس للمكافأة. والمعنى (٣)؛ أي: قابل إساءتهم بما أمكن من الإحسان وتكذيبهم بالكلام الجميل، وبيان الأدلة على أحسن
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
الوجوه، قيل: هذه الآية محكمة؛ لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى وهن في الدين، أو نقصان في المروءة ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ ويذكرون؛ أي: بما (١) يصفونك به على خلاف ما أنت عليه، كالسحر والشعر والجنون، والوصف: ذكر الشيء بحليته ونعته، فقد يكون حقًّا، وقد يكون باطلًا، وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة، وتسلية لرسول الله - ﷺ -، وإرشاد له إلى تفويض أمره إليه تعالى.
والخلاصة: أي ادفع (٢) الأذى عنه، بالخصلة التي هي أحسن بالإغضاء والصفح عن جهلهم والصبر على أذاهم وتكذيبهم بما أتيتهم به من عند ربك، ونحن أعلم بما يصفوننا به، وينحلونه إيانا من الاختلاق والأكاذيب، وبما يقولون فيك من السوء، وهجر القول، ومجازوهم على ما يقولون فلا يحزنك ذلك، واصبر صبرًا جميلًا.
ونحو الآية قوله: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾. روي عن أن - رضي الله عنه - أنه قال في الآية: يقول الرجل لأخيه: ما ليس فيه، فيقول له: إن كنت كاذبًا، فإني أسأل الله أن يغفر لك، وإن كنت صادقًا، فإني أسأل الله أن يغفر لى.
٩٧ - ولما أدب الله سبحانه رسوله أن يدفع بالحسن.. أمره أن يستعيذ من نخسات الشياطين، فقال: ﴿وَقُلْ﴾ يا محمد يا ﴿رَبِّ أَعُوذُ بِك﴾ والتجأ إليك. والعوذ: الالتجاء إلى الغير، والتعلق به، ﴿مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾؛ أي: وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به، من المحاسن التي من جملتها، دفع السيئة بالحسنة، وهمزات الشياطين: نزعاتهم ووساوسهم، كما قاله المفسرون. والجمع فيه باعتبار المرات، أو لتنوع الوساوس، أو لتعدد المضاف إليه. ومن همزات. الشيطان سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، وفيه إرشاد لهذه الأمة إلى التعوذ من الشيطان.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يجوز أن يجعل نبيه المعصوم مع
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟
قلتُ: يجوز أن يسأل العبد ربه، ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله، إظهارًا للعبودية، وتواضعًا لربه، وإخباتًا له. انتهى.
٩٨ - ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)﴾؛ أي: من أن يحضروني، ويحوموا حولي فى حال من الأحوال صلاة، أو تلاوة، أو عند الموت، أو غير ذلك؛ لأنهم إنما يحضرون بقصد سوء، وكرر ذلك للمبالغة، والاعتناء بهذه الاستعاذة؛ أي: وقيل رب فى كل وقت؛ لأن العصمة والحفظ من الشيطان أمرها عظيم جدًّا، وهو وإن كان معصومًا فالمقصود تعليم أمته، وإظهار الالتجاء إليه، ذكره "الصاوي".
أي: وقل (١) رب إني ألتجىء إليك من أن يصل إلى الشياطين بوساوسهم، أو أن يبعثوا إلى أعداءك لإيذائي، وهكذا يدعو المؤمنون، فإن الشيطان لا يصل إليهم، إلا بأحد هذين الأمرين. وإذا انقطع العبد إلى مولاه وتبتل إليه، وسأله أن يعيذه من الشياطين استيقظ قلبه، وتذكر ربه فيما يأتي ويذر، ودعاه ذلك إلى التمسك بالطاعة، وازدجر عن المعصية، واستعاذ - ﷺ - أن تحضره الشياطين فى عمل من أعماله، ولا سيما حين الصلاة، وقراءة القرآن، وحلول الأجل. أخرج أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله - ﷺ - يعلّمنا كلمات نقولها عند النوم خوف الفزع: "بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون". قال: فكان ابن عمرو يعلمها من بلغ من أولاده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرًا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فيعلقها فى عنقه.
وأخرج أحمد عن الوليد أنه قال: يا رسول الله، إني أجد وحشة، قال: "إذا أخذت مضجعك فقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، وعقابه، وشر
(١) المراغي.
عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون فإنه لا يحضرك، وبالحري لا يضرك".
وروى أبو داود أن رسول الله - ﷺ -، كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم، ومن الغرق، وأعوذ بك أن تتخبطني الشياطين عند الموت"، وكلمات الله كتبه المنزلة على أنبيائه، أو صفات الله، كالعزة والقدرة. وصفها بالتمام، لعرائها عن النقص والانقصام.
٩٩ - وحتى فى قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ هي الابتدائية. دخلت على الجملة الشرطية، وهي مع ذلك غاية لما قبلها متعلقة بقوله: ﴿لَكَاذِبُونَ﴾، وقيل: بـ ﴿يَصِفُونَ﴾. والمراد بمجيء الموت مجيء علاماته؛ أي: هي (١) معمولة لمحذوف، يدل عليه ذلك، أي يستمر كفار مكة على التكذيب، أو على الوصف المذكور حتى إذا جاء أحدهم الموت، الذي لا مرد له، وظهرت له أحوال الآخرة.
﴿قَالَ﴾ ذلك الأحد تحسرًا، على ما فرط من الإيمان والعمل ﴿رَبِّ﴾؛ أي: يا رب ﴿ارْجِعُونِ﴾؛ أي: ردني إلى دار الدنيا ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ﴾؛ أي: لكي أعمل عملًا ﴿صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾؛ أي: فى الإيمان الذي تركته، وقصرت فيه، وفي العبادات البدنية والمالية والحقوق؛ أي: لعلي أعمل فى الإيمان الذي آتي به ألبتة، عملًا صالحًا، فلم ينظم الإيمان فى سلك الرَّجاء، كسائر الأعمال الصالحة، بأن يقول: لعلي أومن فأعمل إلخ. للإشعار بأنه أمر مقرر الوقوع، غنى عن الإخبار بوقوعه، فضلًا عن كونه مرجو الوقوع.
وقوله: ﴿ارْجِعُونِ﴾ (٢) خطاب لله. وجمع الضمير تعظيمًا لله؛ لأن العرب تخاطب الواحد الجليل الشأن بلفظ الجماعة. وفيه رد على من يقول الجمع للتعظيم فى غير المتكلم، إنما ورد فى كلام المولدين.
وقيل: الخطاب للملائكة، الذين يقبضون الأرواح، من ملك الموت
(١) المراح.
(٢) المراح.
وأعوانه. ورب للقسم، كما فى "الكبير". واستعان باللهِ أولًا، ثم بهم كما فى "الأسئلة المقحمة".
١٠٠ - وقوله: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا﴾ قبله حذف، تقديره: ثم إنه سبحانه يقول له: إلى أي شيء نردك، أتذهب إلى جمع المال، أو غرس الغراس، أو بناء البنيان، أو شق الأنهار؛ فيقول ذلك الكافر: لعلي أعمل صالحًا فيما تركت؛ أي: لكي أصير عند الرجعة مؤديًا لحق الله تعالى فيما قصرت فيه.
فيقول الجبار جل جلاله: ﴿كَلَّا﴾ ردع وزجر له، عن طلب الرجعة، واستبعاد لها؛ أي: ليرتدع عما يقول، وينزجر، فإنه لا يرد إلى الدنيا أبدًا ﴿إِنَّهَا﴾؛ أي: قولة: رب ارجعون ﴿كَلِمَةٌ﴾ الكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضه مع بعض. ﴿هُوَ﴾؛ أي: ذلك الأحد ﴿قَائِلُهَا﴾ عند الموت لا محالة لتسلط الحزن عليه، ولكنه لا يجاب لها، ولا تفيده، وليس الأمر على ما يظنه، من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا، أو المعنى: أنه لو أجيب إلى ذلك، لما حصل منه الوفاء، كما فى قوله: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾. قال القرطبي: سؤال الرجعة غير مختص بالكافر؛ أي: بل يعم المؤمن المقصر.
وروي: أنه - ﷺ - قال لعائشة - رضي الله عنها -: "إذا عاين المؤمن الملائكة.. قالوا: نرجعك إلى دار الدنيا، فيقول إلى دار الهموم والأحزان، لا بل قدومًا على الله تعالى، وأما الكافر فيقال له: نرجعك، فيقول: ارجعون، فيقال له: إلى أي شيء ترغب؟ إلى جمع المال؟ أو غرس الغراس؟ أو بناء البنيان؟ أو شق الأنهار؟ فيقول: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيقول الجبار ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ ".
والمعنى: أي (١) ولا يزال الكافر يجترح السيئات، ولا يبالي بما يأتي وما يذر، من الآثام والأوزار، حتى إذا جاءه الموت، وعاين ما هو قادم عليه من عذاب الله.. ندم على ما فات، وأسف على ما فرط فى جنب الله، وقال: رب
(١) المراغي.
162
ارجعني إلى الدنيا، لأعمل صالحًا فيما قصرت فيه من عبادتك، وحقوق خلقك.
وخلاصة ذلك: أنه حين الاحتضار يعاين ما هو مقبل عليه من العذاب، فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا ليصلح ما أفسد؛ ويطيع فيما عصى، ونحو الآية قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢)﴾ وقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾ وقوله: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤)﴾ وقوله ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ﴾.
ومن كل هذا تعلم أنهم يطلبون الرجعة حين الاحتضار، وحين النشور، وحين العرض على الملك الجبار، وحين يعرضون على النار، وهم فى غمرات جهنم، فلا يجابون إليها فى كل حال ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾؛ أي: إنا لا نجيبه إلى ما طلب؛ لأن طلبه الرد ليعمل صالحًا هو قوله فحسب، ولا عمل معه، وهو كاذب، ولو رد لما عمل، كما قال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ﴾؛ أي: ومن أمامهم، وهو ظرف مكان بمعنى خلف، ولكنه هنا بمعنى أمام؛ لأنه من اسم الأضداد؛ أي (١): ومن أمام ذلك الأحد، والجمع باعتبار المعنى؛ لأنه فى حكم كلهم، كما إن الإفراد فى قال وما يليه، باعتبار اللفظ ﴿بَرْزَخٌ﴾؛ أي: حائل بينهم وبين الرجعة، وهو القبر. وفي "التأويلات النجمية" وهو ما بين الموت إلى البعث؛ أي: بين الدنيا والآخرة، وهو غير البرزخ الذي بين عالم الأرواح المثالي، وبين هذه النشاة العنصرية. اهـ.
﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ من قبورهم وهو يوم القيامة، وهو إقناط كلي من الرجعة إلى الدنيا، لما علم أن لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا. وأما الرجعة حينئذ فإلى الحياة الأخروية.
(١) روح البيان.
163
واختلف فى معنى الآية (١)، فقال الضحاك ومجاهد وابن زيد: حاجز بين الموت والبعث. وقال الكلبي: هو الأجل ما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة، وقال السدي: هو الأجل، و ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ هو يوم القيامة.
١٠١ - ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ لقيام الساعة، وهي النفخة الثانية، التي عندها البعث والنشور. والنفخ: نفخ الريح فى الشيء. والصور مثل قرن ينفخ فيه. فيجعل الله ذلك سببًا لعود الأرواح إلى أجسادها، وقيل المعنى: فإذا نفخ فى الأجساد أرواحها، على أن الصور جمع صورة لا القرن، ويدل على هذا قراءة (٢) ابن عباس والحسن وابن عياض ﴿الصُّوَر﴾ بفتح الواو مع ضم الصاد جمع صورة. وقرأ أبو رزين بكسر الصاد وفتح الواو، وكذا قوله: ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسر الفاء شاذ.
﴿فَلَا أَنْسَابَ﴾ تنفعهم ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين الخلائق، ﴿يوم إذِ﴾؛ أي: يوم إذ نفخ فى الصور، كما بينهم اليوم لزوال التراحم والتعاطف، من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة، بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، أو لا أنساب يفتخرون بها. والنسب: القرابة بين اثنين فصاعدًا؛ أي: اشتراك من جهة أحد الأبوين. وذلك ضربان: نسب بالطول، كالاشتراك بين الآباء والأبناء، ونسب بالعرض، كالنسب بين الأخوة وبني الأعمام. ﴿وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾؛ أي: لا يسأل بعضهم بعضًا، فلا يقول له: من أنت، ومن أي قبيلة ونسب أنت، ونحو ذلك؛ لاشتغال كل منهم بنفسه؛ لشدة الهول، فلا يتعارفون ولا يتساءلون، كما أنه إذا عظم إلاَّمر فى الدنيا.. لم يتعرف الوالد لولده.
وقرأ عبد الله (٣): ﴿ولا يسألون﴾ بتشديد السين، أدغم التاء فى السين، إذ أصله يتساءلون. والمعنى؛ أى (٤): فإذا أَعيدت الأرواح إلى الأجساد حين البعث والنشور، لا تنفعهم الأنساب؛ لأن التعاطف يزول والود يختفي لاستيلاء؛
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
164
الدهشة والحيرة عليهم، واشتغال كل امرىء بنفسه، كما جاء فى قوله: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦)﴾ ﴿وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾؛ أي: ولأ يسال القريب قريبه، وهو يبصره؛ لاشتغاله بأمر نفسه، كمال قال: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠)﴾.
ولا يناقض ما (١) هنا قوله تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٥٠)﴾؛ لأن عدم التساؤل عند ابتداء النفخة الثانية قبل المحاسبة، والتساؤل بعد ذلك، وأيضًا يوم القيامة يوم طويل، فيه خمسون موطنًا كل موطن ألف سنة، ففي موطن يشتد عليهم الهول والفزع، بحيث يشغلهم عن التساؤل والتعارف، فلا يفطنون لذلك، وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون ويتعارفون.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة، فينصب على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي منادٍ: ألا إن هذا فلان بن فلان، فمن كان له عليه حق.. فليات إلى حقه، فيفرح العبد يومئذٍ أن يثبت له حق على والده، أو ولده، أو زوجته أو أخيه، فلا أنساب بينهم يومئذٍ.
وعن قتادة: لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة، عن أن يرى عن يعرفه، أن يثبت له عليه شيء، ثم تلا: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤)﴾ الآية. قال محمَّد بن علي الترمذي - رحمه الله تعالى -: الإنساب كلها منقطعة، إلا من كانت نسبته صحيحة فى عبودية ربه، فإن تلك نسبة لا تنقطع أبدًا، وتلك النسبة المفتخر بها، لا نسبة الأجناس من الآباء والأمهات والأولاد.
فائدة: قال الأصمعي: كنت أطوف بالكعبة فى ليلة مقمرة، فسمعت صوتًا حزينًا فتبعت الصوت، فإذا أنا بشابٍ حسن ظريف، تعلق بأستار الكعبة وهو يقول: نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت الملك الحي القيوم، وقد غلقت الملوك أبوابها، وأقامت عليها حرسها وحجابا، وبابك مفتوح للسائلين، فها أنا سائلك ببابك، مذنبًا فقيرًا مسكينًا أسيرًا جئت أنتظر رحمتك، يا أرحم الراحمين،
(١) روح البيان.
165
ثم أنشا يقول:
يَا مَنْ يُجِيْبُ دُعَا الْمُضْطَرِّ فِيْ الظُّلَمِ يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى مَعَ السَّقَمِ
قَدْ نَامَ وَفْدُكَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَانْتَبَهُوْا وَأنْتَ يَا حَيُّ يَا قَيُّوْمُ لَمْ تَنَمِ
أَدْعُوْكَ رَبِّيْ وَمَوْلاَيَ وَمُسْتَنَدِيْ فَارْحَمْ بُكَائِيْ بِحَقِّ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ
أَنْتَ الْغَفُوْرُ فَجُدْ لِيْ مِنْكَ مَغْفِرَةً وَاعْفُ عَنِّيَ يَا ذَا الْجُوْدِ وَالنِّعَمِ
إِنْ كَانَ عَفْوُكَ لاَ يَرْجُوْهُ ذُوْ جُرُمٍ فَمَنْ يَجُوْدُ عَلَى الْعَاصِيْنَ بِالْكَرَمِ
ثم رفع رأسه نحو السماء وهو ينادي: يا إلهي وسيدي ومولاي، إن أطعتك فلك المنة علي، وإن عصيتك فبجهلي، فلك الحجة علي، اللهم فبإظهار مننك علي، وإثبات حجتك لدي ارحمني، واغفر ذنوبي، ولا تحرمني رؤية جدي وقرة عيني، وحبيبك وصفيك ونبيك محمَّد - ﷺ -، ثم أنشأ يقول:
أَلاَ أَيُّهَا الْمَامُوْلُ فِيْ كُلِّ شِدَّةٍ إِلَيْكَ شَكَوْتُ الضُّرَّ فَارْحَمْ شِكَايَتِيْ
ألاَ يَا رَجَائِيْ أنْتَ كَاشِفُ كُرْبَتِيْ فَهَبْ لِيْ ذُنُوْبِيْ كُلَّهَا وَاقْضِ حَاجَتِيْ
فَزَادِيْ قَلِيْلٌ مَا أَرَاهُ مُبَلِّغِيْ عَلَى الزَّادِ أَبْكِيْ أَمْ لِبُعْدِ مَسَافَتِيْ
أتَيْتُ بِأعْمَالٍ قِبَاحٍ رَدِيْئَةٍ وَمَا فِيْ الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِيْ
فكان يكرر هذه الأبيات حتى سقط على الأرض مغشيًا عليه، فدنوت منه، فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فوضعت رأسه فى حجري، وبكيت لبكائه بكاءً شديدًا عليه، فقطر من دموعي على وجهه، فأفاق من غشيته وفتح عينيه وقال: من الذي شغلني عن ذكر مولاي؟ فقلت: أنا الأصمعي يا سيدي، ما هذا البكاء وما هذا الجزع؛ وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، أليس الله يقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾؛ قال: فاستوى جالسًا وقال: يا أصمعي، هيهات! إن الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه، وإن كان عبدًا حبشيًا، وخلق النار لمن عصاه، وإن كان ملكًا قرشيًا. أما سمعت قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١)﴾.
166
١٠٢ - ثم شرع سبحانه يبين أحوال السعداء، وأحوال الأشقياء حينئذٍ، فقال: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾؛ أي: فمن رجحت موزونات حسناته وأخلاقه من العقائد والأعمال؛ أي: فمن كان له عقائد صحيحة، وأعمال صالحة يكون لها وزن وقدر عند الله تعالى، فهو جمع موزون، بمعنى العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى.. ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي: الفائزون بمطالبهم المحبوبة، الناجون من الأمور التي يخافونها. ولما كان لفظ ﴿من﴾ يصلح للواحد والجمع، وحد على اللفظ فى قوله: ﴿موازينه﴾، وجمع على المعنى فى قوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
١٠٣ - ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ وهي أعماله الصالحة؛ أي: ومن لم يكن له من العقائد والأعمال ما له وزن وقدر عند الله تعالى، وهم الكفار لقوله تعالى: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾، ﴿فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾؛ أي: ضيعوها (١) وتركوا ما ينفعها بتضييع زمان استكمالها، وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها، ﴿فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ بدل من صلة الموصول، أو خبر ثانٍ لاسم الإشارة؛ أي: ماكثون فيها مكثًا مؤبدًا.
١٠٤ - وجملة قوله: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ مستأنفة، ويجوز أن تكون فى محل نصب على الحال من الضمير المستكن فى خالدون، أو تكون خبرًا آخر لأولئك؛ أي: تضربها وتأكل لحومها، وتحرق جلودها. يقال: لفحته النار بحرها إذا أحرقته كما فى "القاموس". واللفح كالنفخ، إلا أنه أشد تاثيرًا، كما فى "الإرشاد" وغيره، وخص الوجوه بذلك؛ لأنها أشرف الأعضاء، وأعظم ما يصان منها، فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار، وهو السر فى تقديمها على الفاعل.
﴿وَهُمْ فِيهَا﴾؛ أي: فى جهنم ﴿كَالِحُونَ﴾؛ أي: متقلصوا الشفتين عن الأسنان من شدة الاحتراق، والكلوح: تقلص الشفتين عن الأسنان وظهورها، كما ترى ذلك فى الرؤوس المشوية. وفي الحديث (٢): "تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلع وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلع سرته". أخرجه
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
الترمذي عن أبي سعيد الخدري، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ﴿كلحون﴾ بغير ألف.
١٠٥ - وجملة قوله: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ مقول لقول محذوف، تقديره: فيقال لهم: تعنيفًا وتوبيخًا وتذكيرًا، لما به استحقوا، ما ابتلوا به من العذاب: ألم تكن آياتي المنزلة تقرأ عليكم فى الدنيا، تبين لكم بالدلائل الواضحة، كيفية سلوك الطريق الحق ﴿فَكُنْتُمْ بِهَا﴾؛ أي: بآياتي تكذبون فصرتم مستحقين للعذاب الأليم، يعني قوارع القرآن وزواجره تخوفون بها فى الدنيا فلا تنتهون بها، فصرتم اليوم مستحقين للعذاب الأليم بسبب تكذيبها، والاستفهام فيها للتقرير المضمن للتوبيخ والتقريع،
١٠٦ - وجملة قوله: قالوا: يا ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا﴾ ملكتنا ﴿شِقْوَتُنَا﴾ وآثامنا التي اقترفناها بسوء إختيارنا، فصارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة. مستأنفة واقعة فى جواب سؤال مقدر، فكأنه قيل: فماذا قالوا بعد التوبيخ المذكور، فقيل: قالوا: ربنا... إلخ. قال القرطبي: وأحسن (١) ما قيل: فى معناه: غلبت علينا لذاتنا، وأهواؤنا، فسمى اللذات، والأهواء شقوة؛ لأنهما تؤديان إليها، فأطلق اسم المسبب على السبب، قال أبو تراب: الشقوة حسن الظن بالنفس، وسوء الظن بالخلق.
وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم، وأبان والزعفراني وابن مقسم (٢): ﴿شقاوتنا﴾ بوزن السعادة، وهي لغة فاشية. وقرأ قتادة أيضًا والحسن فى رواية خالد بن حوشب عنه كذلك، إلا أنه بكسر الشين. وباقي السبعة والجمهور بكسر الشين وسكون القاف، وهي لغة كثيرة فى الحجاز. قال الفراء: أنشدني أبو شروان، وكان فصيحًا:
عُلِّقَ مِنْ عَنَائِهِ وَشِقوَتِهْ بِنْتَ ثَمَانِيْ عَشْرَ مِنْ حُجَّتِهْ
وقرأ شبل فى "اختياره" بفتح الشين وسكون القاف. ﴿وَكُنَّا﴾ بسبب ذلك
(١) القرطبي.
(٢) البحر المحيط.
﴿قَوْمًا ضَالِّينَ﴾ عن الحق، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب وسائر المعاصي.
والخلاصة (١): إنا كنا نعرف الحق، ولكن العادة وخشية الناس ملكتا علينا أمرنا، فلم نقدر على الخلاص مما نحن فيه، وما مثلنا إلا مثل شاربي الخمر، والمولعين بحب الكبرياء والعظمة، والمغرمين بالإسراف، فإنهم يعرفون أضرارها، ثم لا يجدون سبيلًا إلى تركها ولا للبعد عنها.
١٠٧ - ثم طلبوا ما لا يجابون إليه، فقالوا: ﴿رَبَّنَا﴾ ويا مالك أمرنا ﴿أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾؛ أي: من النار، ومن هذه الدار إلى دار الدنيا ﴿فَإِنْ عُدْنَا﴾ ورجعنا إلى الأعمال السيئة، وما كنا عليه من الكفر وعدم الإيمان ﴿فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ لأنفسنا بالعود إلى ذلك.
١٠٨ - فأجاب الله عليهم بقوله: ﴿قَالَ﴾ تعالى لهم بطريق القهر، على لسان مالك، بعد قدر الدنيا مرتين، وقدرها قيل: سبعة آلاف سنة، بعدد الكواكب السيارة. وقيل: اثنا عشر ألف مشة بعدد البروج، وقيل: ثلاث مئة ألف سنة وستون ألف سنة بعدد أيام السنة. اهـ. من تذكرة القرطبي.
﴿اخْسَئُوا﴾؛ أي: ذلوا ﴿فِيهَا﴾؛ أي: فى النار، واسكتوا سكوت هوان، فإنها ليست مقام سؤال، وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت، من خسأة الكلب إذا زجرته وطردته مستهينًا به فخسأ؛ أي: انزجر. وقال الزجاج: تباعدوا تباعد سخطٍ، وابعدوا بعد الكلب. فالمعنى على هذا أبعدوا فى جهنم، كما يقال للكلب إخسأ؛ أي: أبعد. ﴿وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾؛ أي: فى إخراجكم من النار، ورجوعكم إلى الدنيا، فإنه لا يكون أيدًا، أو فى رفع العذاب عنكم، وقيل: لا تكلمون رأسًا.
والمعنى (٢): أي قالوا: ربنا أخرجنا من النار، وارددنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا من الشرور والأثام كنا ظالمين لأنفسنا، جديرين بالعقوبة. ثم ذكر ما أجيبوا به عن طلبهم هذا، فقال: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨)﴾؛ أي: قال: امكثوا فيها أذلاء صاغرين، واسكتوا ولا تعودوا إلى مثل سؤالكم
(١) المراغي.
(٢) المراح.
هذا، فإنه لا رجعة لكم إلى الدنيا، وإنما يكلمني من سمت نفسه إلى عالم الأرواح، ولبس رداء الخوف والخشية من ربه، واحتقر الدنيا وشهواتها، وعزف عنها لما يرجوه من ربه من ثواب عميم ونعيم مقيم.
١٠٩ - ثم بين سبحانه السبب فيما نالهم من العذاب، فقال: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الشأن والحال، وقرأ أبيّ بفتح الهمزة؛ أي: لأنه ﴿كَانَ فَرِيقٌ﴾؛ أي: طائفة ﴿مِنْ عِبَادِي﴾ المؤمنين. قيل: هم الصحابة. وقيل: هم المهاجرون. وقيل: هم أهل الصفة ﴿يَقُولُونَ﴾ فى الدنيا ﴿رَبَّنَا آمَنَّا﴾؛ أي: صدقنا بك، وبجميع ما جاء من عندك ﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾؛ أي: استر ذنوبنا ﴿وَارْحَمْنَا﴾؛ أي: وانعم علينا بنعمتك، التي من جملتها الفوز بالجنة، والنجاة من النار ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ وأفضلهم وأرحم علينا من الوالدين؛ لأن رحمتك منبع كل رحمة
١١٠ - ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ﴾؛ أي: فجعلتموهم ﴿سخريًا﴾؛ أي: مهزوءًا بهم تسخرون منهم وتستهزئون بهم؛ أي: فاتخذتموهم هزأة تهزؤون منهم، وهذا محط التعليل الذي سيقت له ﴿إنّ﴾؛ لأن جملة ﴿إنّ﴾ تعليل لما قبلها من الزجر عن دعائهم بالخروج منها، بقوله ولا تكلمون؛ أي: اسكتوا عن الدعاء، بقولكم: ربنا أخرجنا إلخ؛ لأنكم كنتم تستهزؤون بالداعين بقولهم ربنا آمنا إلخ. وتتشاغلون باستهزائهم، ﴿حَتَّى أَنْسَوْكُمْ﴾؛ أي: حتى أنساكم الاستهزاء بهم، فإن أنفسهم ليست سبب الإنساء ﴿ذِكْرِي﴾؛ أي: ذكركم إياي والخوف منى، والعمل بطاعتي من فرط اشتغالكم باستهزائهم فلم تخافوني فى أوليائي ﴿وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ فى الدنيا استهزاء بهم، وذلك غاية الاستهزاء، وقال مقاتل: نزلت فى بلال وعمار وخباب وصهيب وأمثالهم من فقراء الصحابة، كان كفار قريش كأبي جهل وعتبة وأبي بن خلف وأضرابهم يستهزئون بهم وبسلامهم، ويؤذونهم.
وقرأ حمزة والكسائي ونافع (١): ﴿سُخريًا﴾ بضم السين، وباقي السبعة بالكسر. وقال ابن عطية: وقرأ أصحاب عبد الله وابن أبي إسحاق والأعرج بضم
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
السين كل ما فى القرآن. وقرأ الحسن وأبو عمرو بالكسر، إلا التي فى الزخرف فإنهما ضما السين كما فعل الناس. انتهى.
والخلاصة (١): إنكم أضفتم إلى سيئاتكم الاستهزاء بمن يفعلون الحسنات، ويتقربون إلى رب الأرض والسماوات. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠)﴾.
١١١ - ثم ذكر ما جازى به أولئك المستضعفين فقال: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ﴾؛ أي: أولئك الفريق ﴿الْيَوْمَ﴾ يعني: يوم الآخرة ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾؛ أي: بسبب صبرهم على إِذايتكم إياهم. والصبر: حبس النفس عن الشهوات، وعلى المشاق. ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ بفتح همزة أن ثاني مفعولي الجزاء؛ أي: جزيتهم بسبب صبرهم فوزهم بمجامع مراداتهم، مخصوصين به. وعلى كسرها مفعول الجزاء الثاني محذوف. وجملة إن مسوقة للتعليل، والتقدير: إني جزيتهم اليوم النعيم المقيم؛ لأنهم هم الفائزون بمراداتهم.
والخلاصة: أنهم صبروا فجوزوا أحسن الجزاء.
وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي، وخارجة عن نافع ﴿إنهم هم﴾ بكسر الهمزة. وباقي السبعة بالفتح، ومفعول جزيتهم الثاني محذوف، تقديره: الجنة، أو رضواني. وقال الزمخشري: فى قراءة من قرأ ﴿أنهم﴾ بالفتح هو المفعول الثاني؛ أي: جزيتهم فوزهم، انتهى. والظاهر أنه تعليل؛ أي: جزيتهم لأنهم. والكسر هو على الاستئناف، وقد يراد به التعليل، فيكون الكسر مثل الفتح من حيث المعنى، فإن الاستئناف يعلل به أيضًا، لا من حيث الإعراب؛ لاضطرار المفتوحة إلى عامل.
وفي "التأويلات النجمية": وفيه (٢) من اللطائف أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة مع الله من الله، ينتفعون بإنكار منكريهم، واستخفاف
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
مستهزئيهم. وأن أهل الشقاوة كما يخسرون بمعاملاتهم الفاسدة مع أنفسهم، يخسرون باستهزائهم وإنكارهم على الناصحين المرشدين.
١١٢ - ﴿قَالَ﴾ الله تعالى، تذكيرًا لما لبثوا فيما سألوا الرجوع إليه، من الدنيا بعد التنبيه على استحالته بقوله: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾؛ أي: قال الله لهم بلسان مالك ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ وأقمتم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ التي تدعون أن ترجعوا إليها. يقال لبث بالمكان، إذا أقام به ملازمًا له. ﴿عَدَدَ سِنِينَ﴾ تمييز (١) لكم، لما فى كم من الإبهام، و ﴿سنين﴾ بفتح النون على أنها نون الجمع. ومن العرب من يخفضها وبنونها.
والمراد بالأرض هي الأرض التي طلبوا الرجوع إليها، ويحتمل أن يكون السؤال عن جميع ما لبثوه فى الحياة، وفي القبور. والاستفام هنا إنكاري لتوبيخهم بإنكار الآخرة. اهـ. "شهاب". وقال زاده: القصد من هذا الاستفهام التبكيت، والإلزام؛ لأنهم كانوا ينكرون اللبث فى الآخرة رأسًا لإنكارهم للبعث.
وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير (٢): ﴿قل كم﴾ والمخاطب ملك يسألهم، أو بعض أهل النار. وقرأ باقي السبعة ﴿قَالَ﴾ والقائل الله تعالى، أو المأمور بسؤالهم من الملائكة. وقال الزمخشري: ﴿قَالَ﴾ فى مصاحف أهل الكوفة. و ﴿قل﴾ فى مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقال ابن عطية: وفي المصاحف قال فيهما إلا فى مصحف الكوفة، فإن فيه ﴿قل﴾ بغير ألف، وتقدم إدغام ثاء لبثت فى البقرة. وعبارة "زاد المسير" هنا وأبو عمرو وحمزة والكسائي يدغمون ثاء ﴿لبثتم﴾، والباقون لا يدغمونها فمن أدغم فلتقارب الثاء والتاء، ومن لم يدغم فلتباين المخرجين. إنتهى.
سألهم سؤال توقيف على المدة. وقرأ الجمهور ﴿عدد سنين﴾ على الإضافة، و ﴿كم﴾ فى موضع نصب على ظرف الزمان، وتمييزها عدد. وقرأ
(١) روح الببان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
الأعمش والمفضل عن عاصم ﴿عددًا﴾ بالتنوين، والمعنى؛ أي: قال الملك المأمور بسؤالهم: كم لبثتم فى الأرض والدنيا التي تطلبون أن ترجعوا إليها عددًا من السنين، والغرض من هذا السؤال: التبكيت؛ لأنم كانوا لا يعدون اللبث إلا فى دار الدنيا، ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت، ولا إعادة. فلما حصلوا فى النار، وأيقنوا أنهم مخلدون فيها، سألهم الله: كم لبثتم فى الأرض، فإنهم فيها تمكنوا من العلم والعمل، تذكيرًا لهم بأن الذي ظنوه طويلًا فهو قليل بالنسبة إلى ما أنكروه، فحينئذٍ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه فى الدنيا، حيث أيقنوا خلافه،
١١٣ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال أهل النار جوابًا لسؤال ربهم ﴿لَبِثْنَا يَوْمًا﴾ ثم شكوا فى ذلك فقالوا: ﴿أَوْ﴾ لبثنا ﴿بَعْضَ يَوْمٍ﴾ استقصارًا لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى دخولهم فى النار، أو لأنها كانت أيام السرور وأيام السرور قصار، أو لأنها منقضية، والمنقضي كالمعدوم، وقد اعترفوا بالنسيان، حيث قالوا: ﴿فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾؛ أي: الذين يعلمون عدد أيام الدنيا وساعاتها أو الذين يحصون الأعمال وأوقات الحياة والممات إن أردت تحقيقها فإنا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها وإحصائها.
وفي "التأويلات النجمية": ﴿فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾ يعني: الذين يعدون أنفاسنا وأيامنا وليالينا، من الملائكة الموكلين علينا. اهـ. وقال قتادة: يعني الحساب. وقرأ الحسن والزهري وأبو عمران الجوني والكسائي: ﴿الْعَادِّينَ﴾ بتخفيف الدال؛ أي: الظلمة رؤساءنا الذين أضلونا. وقرىء: ﴿العاديين﴾ بياء مشددة، جمع عادى؛ أي: القدماء المعمرين.
١١٤ - ﴿قَالَ﴾ الله سبحانه لهم بلسان مالك ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ﴾؛ أي: ما لبثتم فى الدنيا ﴿إِلَّا﴾ زمانًا ﴿قَلِيلًا﴾ تصديقًا لم فى تقليلهم لسني لبثهم فى الدنيا. وقليلًا صفة مصدر محذوف؛ أي: لبثًا قليلًا، أو زمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا ﴿لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ شيئًا من العلم، لعلمتم يومنذٍ قلة لبثكم فى الدنيا، كما علمتم اليوم.
(١) المراح.
173
وفي "بحر العلوم": أي لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول، لما أجبتم بهذه المدة، وفي "المراح": لو كنتم تعلمون أن لبثكم فى الآخرة لا نهاية له.. لأصلحتم أعمالكم فى الدنيا، ولتقربتم بها إلى الله تعالى.
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر (١): ﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ﴾. وقرأ حمزة والكسائي ﴿قل إن لبثتم﴾ على معنى: قل أيها السائل عن لبثهم. وزعموا أن فى مصحف أهل الكوفة ﴿قل﴾ فى الموضعين. فقرأهما حمزة والكسائي على ما فى مصاحفهم.
وحاصل معنى الآية (٢): أنه قد نسي هؤلاء الأشقياء مدة لبثهم فى الدنيا، لعظيم ما هم فيه من النبلاء والعذاب، وقصر عندهم الأمد الذي مكثوه فيها ما حل بهم من نعمة الله، حتى حسبوا أنهم لم يمكثوا إلا يومًا أو بعض يوم، ولعل بعضهم يكون قد أقام بها الزمان الطويل والسنين الكثير.
﴿فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾؛ أي: فأسأل الحفظة العارفين لأعمال العباد وأعمارهم. كما روي ذلك جماعة عن مجاهد ﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)﴾؛ أي: قال لهم الملك: ما لبثتم إلا زمنًا يسيرًا، ولو كنتم تعلمون شيئًا من العلم، لعملتم على مقتضى ذلك، ولما صدر منكم ما أوجب خلودكم فى النار، ولما قلنا لكم: اخسئوا فيها ولا تكلمون.
روي مرفوعًا: "أن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قال: يا أهل الجنة كم لبثتم فى الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يومًا أو بعض يوم، قال: لنعم ما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يقول: يا أهل النار، كم لبثتم فى الأرض عدد سنين؛ قالوا: لبثنا يومًا، أو بعض يوم، فيقول: بئسما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم ناري وسخطي، امكثوا فيها خالدين مخلدين".
(١) زاد المسير.
(٢) المراغي.
174
فعلى العاقل (١) أن يتدارك حاله، ويصلح أعماله، قبل أن تنفد الأنفاس، وينهدم الأساس. وقيل شعرًا:
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلِّ سَحَابَةٍ أَظَلَّتْكَ يَوْمًا ثُمَّ عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ
فَلاَ تَكُ فَرْحَانًا بِهَا حِيْنَ أَقْبَلَتْ وَلاَ تَكُ جَزْعَانَاَ بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ
قال بعضهم: لا تركنن إلى الدنيا فإنها لا تبقى على أحد، ولا تتركها فإن الآخرة لا تنال إلا بها. وقال الزمخشري: استغنم تنفس الأجل وإمكان العمل، واقطع ذكر المعاذير والعلل، فإنك فى أجل محدود، وعمر غير ممدود. وقال بعضهم: لو علمت أن ما فات من عمرك لا عوض له.. لم يصح منك غفلة ولا إهمال. ولكنت تأخذ بالعزم والحزم، بحيث تبادر الأوقات وتراقب الحالات خوف الفوات عاملًا على قول القائل:
السِّبَاقَ السِّبَاقَ قَوْلًا وَفِعْلًا حَذِّرِ النَّفْسَ حَسْرَةَ الْمَسْبُوْقِ
وما حصل من عمرك، إذا علمت أن لا قيمة له كنت تستغرق أوقاتك فى شكر الحاصل وتحصيل الواصل. قال عليّ - رضي الله عنه -: بقية عمر المرء ما لها ثمن، يدرك به منها ما فات، ويحيي ما مات. وقد جاء فى الخبر: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ"، ومعناه: أن الصحيح ينبغي أن يكون مشغولًا بدين أو دنيا، فهو مغبون فيهما.
١١٥ - ثم زاد فى توبيخهم على تماديهم فى الغفلة، وتركهم النظر الصحيح، فيما يرشد إلى حقية البعث والقيامة، فقال: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ الهمزة (٢): فيه للاستفهام الإنكاري، المضمن للتوبيخ، داخله على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف. والحِسبان بالكسر الظن. وعبثًا حال من نون العظمة، بمعنى عابثين، وهو ما ليس لفاعله غرض صحيح، أو ارتكاب أمر غير معلوم الفائدة. والتقدير: أغفلتم وظننتم من فرط غفلتكم، أنا خلقناكم بغير حكمة، ولا ثواب ولا عقاب. ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ عطف على إنما
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
175
خلقناكم؛ أي: وحسبتم عدم رجوعكم إلينا، يعني: أن الحكمة من خلقكم الأمر بالعمل، ثم البعث للجزاء. ومعنى الرجوع إلى الله إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه.
قال الترمذي: إن الله خلق الخلق ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها. فإن عبدوه.. فإنهم عبيد أحرار، كرام عن رق الدنيا، ملوك فى دار السلام. وإن رفضوا العبودية.. فهم اليوم عبيد أُبَّاق، سقاط لئام، وغدًا أعداء فى السجون، بين أطباق النيران.
والمعنى: أي (١) أظننتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم لعبًا وباطلًا، كلا، بل خلقناكم لنهذبكم ونعلمكم، لترتقوا إلى عالم أرقى مما أنتم فيه، لا كما ظننتم أنكم لا ترجعون إلينا للحساب والجزاء. وفي هذا إشارة إلى أن الحكمة تقتضي تكليفم وبعثهم لمجازاتهم على ما قدموا من عمل، وأسلفوا من سعي فى الحياة الدنيا.
حكاية
وعن بهلول (٢) قال: كنت يومًا فى بعض شوارع البصرة، فإذا بصبيان يلعبون بالجوز واللوز، وإذا أنا بصبي ينظر إليهم ويبكي، فقلت: هذا صبي يتحسر على ما فى أيدي الصبيان، ولا شيء معه فيلعب به، فقلت: أي بني ما يبكيك، أشتري لك من الجوز واللوز ما تلعب به مع الصبيان؛ فرفع بصره إليّ، وقال: يا قليل العقل، ما للعب خلقنا؟ فقلت: أي بني لماذا خلقنا؟ فقال: للعلم والعبادة، ققلت: من أين لك ذلك، بارك الله فيك، قال: من قول الله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥)﴾ قلت: أي بني أراك حكيمًا فعظني وأوجز، فأنشا يقول:
أَرَى الدُّنْيَا تُجَهِّزُ بِانْطِلاَقِ مُشَمِّرَةً عَلَى قَدَمٍ وَسَاقِ
(١) المراغى.
(٢) روح البيان.
176
فَلاَ الدُّنْيَا بِبَاقِيَةٍ لِحَيِّ وَلاَ حَييٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ
كَأَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَدَثَانِ فِيْهَا إلى نَفْسِ الْفَتَى فَرَسَا سِبَاقِ
فَيَا مَغْرُوْرُ بِالدُّنْيَا رُويدًا وَمِنْهَا خُذْ لِنَفْسِكَ بِالْوِثَاقِ
ثم رمق السماء بعينيه، وأشار إليها بكفيه، ودموعه تتحدر على خديه، وهو يقول:
يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمُبْتَهَلْ يَا مَنْ عَلَيْهِ الْمُتَّكَلْ
يَا مَنْ إِذَا مَا آمِلٌ يَرْجُوْهُ لَمْ يُخْطِ الأَمَلْ
قال: فلما أتمّ كلامه، خر مغشيًا عليه، فرفعت رأسه إلى حجري ونفضت التراب عن وجهه بكمي، فلما أفاق قلت له: أي بني ما نزل بك وأنت صبي صغير، لم يكتب عليك ذنب؟ قال: إليك عني يا بهلول، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار، فلا تتقد إلا بالصغار، وإني أخشى أن أكون من صغار حطب جهنم، قال: فسألت عنه؛ فقالوا: ذلك من أولاد الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. قلت: قد عجبت من أن تكون هذه الثمرة إلا من تلك الشجرة. نفعنا الله تعالى بعلمه، وبعلوم آبائه، آمين.
وقرأ الأخوان حمزة والكسائي (١) ﴿لَا تُرْجَعُونَ﴾ بفتح التاء مبنيًا للفاعل. وقرأ باقي السبعة ابن كثير وأبو عمرو وعاصم، بضم التاء مبنيًّا للمفعول. وقيل (٢): إنه يجوز عطف، ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ على ﴿عَبَثًا﴾ معنى: إنما خلقناكم للعبث ولعدم الرجوع.
١١٦ - ثم نزّه الله نفسه عما يصفه به المشركون، فقال: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ﴾ سبحانه؛ أي: ترفع بذاته عن كل ما لا يليق به، من الصاحبة والولد والشريك، وتنزه عن مماثلة المخلوقين فى ذاته وصفاته وأفعاله، وعن خلو أفعاله عن الحكم
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
177
والمصالح والغايات الجليلة. ﴿الْمَلِكُ﴾؛ أي: الذي (١) يحق له الملك على الإطلاق إيجادًا وإعدامًا، بدأً واعادةً واحياءً واماتةً وعقابًا وإثابةً، وكل ما سواه مملوك له، مقهور تحت ملكه العظيم. قال الغزالي - رحمه الله -: الملك هو الذي يستغني فى ذاته وصفاته وأفعاله عن كل موجود، ويحتاج إليه كل موجود.
﴿الْحَقّ﴾؛ أي: الثابت الوجود فى ذاته وصفاته وأفعاله. وفي المفردات ﴿الحق﴾ موجود الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة.
وعبارة "المراح" هنا: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ﴾؛ أي (٢): تبرأ الله سبحانه عن العبث، وعن خلو أفعاله عن المصالح والغايات الحميدة، ﴿الْمَلِكُ﴾؛ أي: المتصرف فى كل شيء ﴿الْحَقّ﴾؛ أي: الثابت الذي لا يزول ملكه ﴿لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا معبود بحق فى الوجود ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه وتعالى، فإن كل ما عداه عبيده. ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ فكيف لا يكون إلهًا وربًا لما هو دون العرش الكريم من المخلوقات، وإنما خص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم المخلوقات. ووصف (٣) العرش بالكريم، لنزول الرحمة والخير منه، أو باعتبار من استوى عليه، كما يقال: بيت كريم، إذا كان ساكنوه كرامًا. وقيل: معنى الكريم الرفيع المرتفع كما فى "الخازن". وقال ابن الجوزي: والكريم فى صفة الجهاد الحسن. اهـ.
وقرأ أبان بن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير ﴿الْكَرِيمِ﴾ بالرفع على أنه صفة لرب، أو صفة للعرش، ويكون مقطوعًا على معنى المدح. وقرأ الباقون، بالجر على أنه نعت للعرش. وقال القرطبي: وليس فى القرآن وصف العرش بالكريم فى غير هذا الموضع. اهـ.
وإنما وصف العرش هنا بالكريم وفيما تقدم بالعظيم للتفنن، أو لمناسبة السياق؛ لأن السياق هنا فى ذكر الرحمة والغفران، والكرم يناسبها، وفيما تقدم
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
178
فى إثبات الربوبية والتصرف له تعالى والعظمة تناسبها. هكذا ظهر لى بعد الإمعان. والله أعلم بأسرار كتابه.
ومعنى الآية: أي تنزه ربنا ذو الملك والملكوت الذي لا يزول، وليس هناك معبود سواه، وهو ذو العرش الكريم، الذي يدبر فيه نظام الكون علويه وسفليه، وجميع ما خلق عن أن يخلق الخلق عبثًا، وأن تخلو أفعاله عن الحكم والمقاصد الحميدة، وأن يكون له ولد أو شريك.
١١٧ - وبعد أن ذكر أنه الملك الحق الذي لا إله إلا هو.. أتبعه ببيان أن من ادعى أن فى الكون إلهًا سواه.. فقد ادعى باطلًا، وركب شططًا. فقال: ﴿وَمَنْ يَدْعُ﴾ ويعبد ﴿مَعَ اللَّهِ﴾ الذي لا إله إلا هو. ﴿إِلَهًا آخَر﴾ إفرادًا أو اشتراكًا. ﴿لَا بُرْهَان﴾ ولا حجة ﴿لَهُ﴾؛ أي: لذلك العابد. ﴿بِهِ﴾؛ أي: على عبادته معه. فالباء بمعنى على. وجملة (١) لا برهان، صفة لازمة لإلهًا. كقوله: ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ إذ لا يكون فى الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان، إذ الباطل ليس له برهان. جيء بها للتأكيد وبناء الحكم عليها، تنبيهًا على أن الدين بما لا دليل عليه باطل، فكيف بما شهدت بداهة العقول بخلافه. وجواب الشرط قوله: ﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ وجملة إلا برهان له به معترضة بين الشرط والجزاء؛ أي: فإنما جزاؤه وعقابه على تلك الفعلة القبيحة، معد له عند ربه فى الآخرة، مجاز له على قدر ما يستحقه. وقيل: إن جواب الشرط قوله: ﴿لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾، على حذف فاء الجزاء، كقول الشاعر:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا
وجملة قوله: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الشأن والحال ﴿لَا يُفْلِحُ﴾ ولا يفوز ولا يسعد ﴿الْكَافِرُونَ﴾ بعبادة غير الله سبحانه معه، مستأنفة مسوقة لتعليل جواب الشرط؛ أي: وإنما كان عذابه مدخرًا له فى الآخرة؛ لأنه لا ينجو يومئذٍ من سوء الحساب وأليم العذاب.
(١) روح البيان.
وقرأ الحسن (١) وقتادة بفتح همزة أن من قوله: ﴿أنه لا يفلح﴾ على التعليل؛ أي: لا يفلح هو، فوضع الكافرون موضع الضمير، حملًا على معنى من؛ لأن من يدع فى معنى الجمع. وقرأ الجمهور: بالكسر على الاستئناف. وقرأ الحسن: ﴿يفلح﴾ بفتح الياء واللام مضارع فلح بمعنى أفلح، ففعل وأفعل فيه بمعنى واحد.
والمعنى (٢): أي ومن يعبد مع ذلك المعبود، الذي لا تصلح العبادة إلا له، معبودًا آخر لا بينة له به، فجزاؤه مهيأ له عند ربه فى الآخرة، وهو موفيه ما يستحقه من جزاء وعقاب. وفي ذلك من شديد التوبيخ والتقريع ما لا يخفى. ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾؛ أي: إنه سبحانه لا يسعد أهل الشرك، ولا ينجيهم من العذاب، وما ألطف افتتاح السورة بفلاح المؤمنين وختمها بخيبة الكافرين، وعدم فوزهم بما يؤملون. فانظر تفاوت ما بين الافتتاح والاختتام.
١١٨ - وبعد أن شرح أحوال الكافرين وجهلهم فى الدنيا وعذابهم فى الآخرة.. أمر رسوله بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله: ﴿وَقُلْ﴾ أيها الرسول ﴿رَبِّ اغْفِرْ﴾.
وقرأ ابن محيصن ﴿رب﴾ بضم الباء؛ أي: يا رب استر ذنوبي بعفوك عنها ﴿وَارْحَمْ﴾؛ أي: وارحمني بقبول توبتي، وترك عقابي على ما اجترحت من آثام وأوزار. ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾؛ أي: وأنت ربنا خير من رحم ذا ذنب، فقبل توبته وتجاوز عن عقابه، إنك ربنا خير غافر، وإنك المتولي للسرائر، والمرجو لإصلاح الضمائر.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان فى جماعة عن أبي بكر أنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به فى صلاتي. قال: "قل: اللهم إفي ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم".
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
180
واعلم: أنه سبحانه أمر (١) رسوله - ﷺ -، بالاستغفار وا لاسترحام، إيذانًا بأنهما من أهم الأمور الدينية، حيث أمر به، من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكيف بمن عداه، كما قال: فى "التأويلات النجمية" الخطاب مع محمَّد - ﷺ - يشير إلى أنه مع كمال محبوبيته، وغاية خصوصيته، ورتبة نبوته ورسالته محتاج إلى مغفرته ورحمته، فكيف بمن دونه وبمن يدعو مع الله إلهًا آخر؛ أي: فلا بدّ لأمته من الاقتداء به فى هذا الدعاء. والله أعلم بأسرار كتابه.
الإعراب
﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿إِمَّا تُرِيَنِّي﴾: إلى قوله: ﴿الظَّالِمِينَ﴾: مقول محكي. وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء فى محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِمَّا﴾: ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿ما﴾: زائدة. ﴿تُرِيَنِّي﴾: فعل مضارع فى محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر، يعود على الله، والنون للوقاية، وياء المتكلم فى محل النصب مفعول أول له. و ﴿مَا﴾: مفعول ثان له، فهي بصرية تعدت لمفعولين بواسطة الهمزة؛ لأنه من أرى الرباعي. ﴿يُوعَدُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: يوعدون به من العذاب.
﴿رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤)﴾.
﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وكرر مبالغةً فى التضرع والابتهال إلى الله سبحانه. ﴿فَلَا تَجْعَلْنِي﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية، (لا) دعائية جازمة. ﴿تَجْعَلْنِي﴾: فعل
(١) روح البيان.
181
مضارع وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بـ ﴿لا﴾ الدعائية. والنون للوقاية، وياء المتكلم فى محل النصب مفعول أول. ﴿فِي الْقَوْمِ﴾: جار ومجرور فى محل المفعول الثاني. و ﴿فِي﴾: بمعنى مع ﴿الظَّالِمِينَ﴾: صفة للقوم، والجملة الفعلية فى محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: فى محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦)﴾.
﴿وَإِنَّا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إنا﴾: ناصب واسمه. ﴿عَلَى﴾: حرف جر. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿نُرِيَكَ﴾: فعل مضارع ومفعول أول، منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مَا﴾: مفعول ثان ﴿لنرى﴾، وتقدم القول: فى أرى البصرية آنفًا. ﴿نَعِدُهُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به وفاعله ضمير مستتر فيه، يعود على الله، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما نعدهم به. والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، أن مع صلتها فى تأويل مصدر مجرور بعلى، تقديره: على إراءتك ﴿مَا نَعِدُهُمْ﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿قادرون﴾. ﴿لَقَادِرُونَ﴾: ﴿اللام﴾: لام الابتداء زحلقت إلى الخبر. ﴿قادرون﴾: خبر ﴿إنا﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿ادْفَعْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر على محمَّد، والجملة مستأنفة مسوقة لحث النبي - ﷺ - على الصفح عن مساءتهم. ﴿بِالَّتِي﴾: جار ومجرور متعلق بادفع. ﴿هِيَ أَحْسَنُ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة صلة الموصول. ﴿السَّيِّئَةَ﴾: مفعول به. ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾. ﴿يَصِفُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما يصفونه. ويجوز أن تكون ما مصدرية؛ أي: بوصفهم لك، وسوء ذكرهم، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)﴾.
﴿وَقُلْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿قُل﴾: أمر وفاعل مستتر يعود على محمد.
182
والجملة معطوفة على جملة قل الأول. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء فى محل النصب مقول ﴿قُل﴾. ﴿أَعُوذُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿بِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَعُوذُ﴾ والجملة الفعلية فى محل النصب مقول ﴿قُل﴾ على كونها جواب النداء. ﴿مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَعُوذُ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿أَعُوذُ﴾ الأول. ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ﴾: منادى مضاف، كرر اعتناء بالاستعاذة. ﴿أَنْ يَحْضُرُونِ﴾: ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿يَحْضُرُون﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسمة، و ﴿الواو﴾: فاعل. و (النون): للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزىء عنها بكسرة نون الوقاية ولرعاية الفاصلة، فى محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية فى تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وأعوذ بك رب من حضورهم إياي.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾.
﴿حَتَّى﴾: حرف ابتداء لدخولها على الجملة التي تبدًا بها، وحرف غاية لكونها غاية لمحذوف. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾: فعل ومفعول وفاعل. والجملة الفعلية فى محل الخفض، فبإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الأحد، وجملة ﴿قَالَ﴾: جوابـ ﴿إذا﴾، لا محل لها من الإعراب. وجملة إذا فى محل الجر بحتى الواقعة غاية لمحذوف، تقديره: ويستمر كفار مكة على التكذيب أو على الوصف المذكور إلى قول أحدهم رب ارجعون وقت مجيء الموت إياه، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء فى محل النصب مقول قال: ﴿ارْجِعُونِ﴾: فعل دعاء مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، و (النون): للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة، اجتزىء عنها بكسرة نون الوقاية، فى محل النصب مفعول به.
183
والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء، وإنما جمع ضميو الفاعل فى ﴿ارْجِعُونِ﴾ مع كون المخاطب واحدًا، وهو الله سبحانه للتعظيم. ﴿لَعَلِّي﴾: ﴿لعل﴾: حرف نصب وترج. والياء: ضمير المتكلم في محل النصب اسمها. ﴿أَعْمَلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر، تقديره: أنا، ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به أو مفعول مطلق، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب الطلب المذكور قبلها. ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور صفة لصالحًا؛ أي: صالحًا بدلًا عما تركت، أو متعلق بـ ﴿أَعْمَلُ﴾: ﴿تَرَكْتُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ والعائد محذوف، تقديره: فيما تركته.
﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر. ﴿إِنَّهَا﴾: ناصب واسمه. ﴿كَلِمَةٌ﴾: خبرها. ﴿هُوَ قَائِلُهَا﴾: مبتدأ وخبر. والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿كَلِمَةٌ﴾. وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة. ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر مقدم. ﴿بَرْزَخٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿إِلَى يَوْمِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿بَرْزَخٌ﴾، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿إن﴾. ﴿يُبْعَثُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمِ﴾؛ أي: إلى يوم بعثهم.
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿نُفِخَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿فِي الصُّورِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بما فى الجواب من معنى النفي، وانتفى ذلك النسب وقت النفخ فى الصور. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ الشرطية. ﴿لا﴾: نافية. ﴿أَنْسَابَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر ﴿لا﴾؛ أي: فلا أنساب كائنة بينهم، وجملة ﴿لا﴾ جواب ﴿إذا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة. {يَوْمَئِذٍ وَلَا
184
يَتَسَاءَلُونَ}. ﴿يوم﴾: منصوب على الظرفية، وهو مضاف. ﴿إذا﴾: ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر مضاف إليه. والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة؛ أي: يوم إذ نفخ فى الصور، والظرف متعلق بما تعلق به الظرف المذكور قبله، أو الأول: صفة لأنساب، والثاني: خبر لـ ﴿لا﴾؛ أي: فلا أنساب كائنة بينهم فى الدنيا، نافعة يومئذِ. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿لا﴾ النافية.
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤)﴾
﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه لا أنساب بينهم يوم القيامة، وأردت بيان حالهم فى ذلك اليوم، بالنسبة إلى الفلاح والخسران.. فأقول لك: ﴿من ثقلت﴾. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿أولئك﴾: مبتدأ ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿وَمَنْ خَفَّتْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. ﴿خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية ﴿أولئك الذين﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿من﴾ الأولى، على كونها، مقولًا لجواب إذا المقدرة. ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. ﴿فِي جَهَنَّمَ﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾. ﴿خَالِدُونَ﴾: خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، ﴿تَلْفَحُ﴾: فعل مضارع.
185
﴿وُجُوهَهُمُ﴾: مفعول به. ﴿النَّارُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية إما مستأنفة، أو خبر ثان لـ ﴿أولئك﴾، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿خَسِرُوا﴾، ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿كَالِحُونَ﴾. ﴿كَالِحُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿وُجُوهَهُمُ﴾.
﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥)﴾.
﴿أَلَمْ تَكُنْ﴾: الهمزة: الاستفهام التقريري. ﴿لم تكن﴾: جازم ومجزوم. ﴿آيَاتِي﴾: اسم ﴿تَكُنْ﴾، وجملة ﴿تُتْلَى﴾: خبرها. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تُتْلَى﴾. وجملة ﴿تَكُنْ﴾ جملة إنشائية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَكُنْتُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿كنتم﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿تُكَذِّبُونَ﴾، وجملة ﴿تُكَذِّبُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾: وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي﴾.
﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿غَلَبَتْ﴾: فعل ماض. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به. ﴿شِقْوَتُنَا﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَكُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه معطوف على ﴿غَلَبَتْ﴾. ﴿قَوْمًا﴾: خبر ﴿كان﴾. ﴿ضَالِّينَ﴾: صفة ﴿قَوْمًا﴾. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف كرره للعناية به. ﴿أَخْرِجْنَا﴾: فعل دعاء ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَخْرِجْنَا﴾. ﴿فَإِنْ عُدْنَا﴾: الفاء: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿عُدْنَا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿فَإِنَّا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿إنا﴾: ناصب واسمه. ﴿ظَالِمُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَخْرِجْنَا﴾.
186
﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿اخْسَئُوا فِيهَا﴾ إلى قوله: ﴿هُمُ الْفَائِزُونَ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿اخْسَئُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿فِيهَا﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تُكَلِّمُونِ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. و (النون): نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزىء عنها بكسرة نون الوقاية، في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿اخْسَئُوا﴾. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَ فَرِيقٌ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مِنْ عِبَادِي﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿فَرِيقٌ﴾، وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾: في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي قبلها على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿فَاغْفِرْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية. ﴿اغفر﴾: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنَّا﴾. ﴿لَنَا﴾: متعلق باغفر. ﴿وَارْحَمْنَا﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على ﴿اغفر﴾. ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل ﴿ارحمنا﴾. ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية. ﴿اتخذتموهم﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. و (الميم): علامة الجمع، و ﴿الواو﴾: حرف زائد لإشباع ضمة الميم. ﴿سِخْرِيًّا﴾: مفعول ثان لـ ﴿اتخذ﴾، والجملة معطوفة مفرعة على جملة ﴿يَقُولُونَ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿أَنْسَوْكُمْ﴾: فعل ماض وفاعل ومفعول أول، في محل النصب بأن مضمرة بعد ﴿حَتَّى﴾ الجارة. ﴿ذِكْرِي﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، ﴿أن﴾ مع صلتها فى تأويل مصدر، مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى،
187
الجار والمجرور متعلق بـ ﴿اتخذتموهم﴾؛ أي: إلى إنساءهم إياكم ذكري. ﴿وَكُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَضْحَكُونَ﴾. وجملة ﴿تَضْحَكُونَ﴾: في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾: في محل الجر معطوفة على جملة ﴿أَنْسَوْكُمْ﴾ على كونها فى تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾.
﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣)﴾
﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿جَزَيْتُهُمُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿جَزَيْتُهُمُ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة. ﴿بِمَا﴾: (الباء): حرف جر وسبب. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿صَبَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها فى تأويل مصدر مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جزيت﴾؛ أي: جزيتهم بسبب صبرهم. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُمُ﴾ للتأكيد ﴿الْفَائِزُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿أن﴾ فى تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿جزيت﴾؛ أي: جزيتهم فوزهم بسبب صبرهم. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿كَمْ﴾: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على السكون، وهو متعلق بـ ﴿لَبِثْتُمْ﴾. ﴿لَبِثْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿لبثتم﴾ أيضًا، أو بمحذوف حال من فاعل ﴿لَبِثْتُمْ﴾، ﴿عَدَدَ﴾: تمييز لـ ﴿كم﴾، منصوب به. ﴿سِنِينَ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿لَبِثْتُمْ﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَبِثْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿يَوْمًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿لَبِثْنَا﴾، ﴿أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾: معطوف على ﴿يَوْمًا﴾. ﴿فَاسْأَلِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت جوابنا وشكنا وجهلنا، وأَردت بيان الحقيقة.. فنقول لك: ﴿اسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾. ﴿اسْأَلِ﴾ فعل أمر وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿الْعَادِّينَ﴾: مفعول أول لـ ﴿اسْأَلِ﴾، والثاني محذوف، تقديره: فاسأل العادين عددها، والجملة الفعلية في محل
188
النصب مقول لجواب إذا المقدوة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿إن﴾: نافية. ﴿لَبِثْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿قَلِيلًا﴾: صفة لظرف محذوف، أو مصدر محذوف؛ أي: زمنًا قليلًا أو لبثًا قليلًا. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم وامتناع لامتناع. ﴿أَنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْلَمُون﴾: خبر ﴿كان﴾، ومفعول العلم محذوف، تقديره: مقدار ﴿لبثكم﴾، وجملة ﴿كان﴾: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: فى تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف، هو فعل شرط لـ ﴿لو﴾، وجوابـ ﴿لو﴾ الشرطية محذوف، والتقدير: لو ثبت علمكم مقدار لبثكم فى الطول.. لما أجبتم بهذه المدة القليلة، أعني لبثنا يومًا أو بعض يوم، وجملة ﴿لَوْ﴾: فى، محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)﴾.
﴿أَفَحَسِبْتُمْ﴾: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف. و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلتم وظننتم من فرط غفلتكم أنما خلقناكم، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿حسبتم﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿أَنَّمَا﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب وتوكيد، ولكن بطل عملها لدخول ﴿ما﴾ الكافة عليها. ﴿ما﴾: كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿عَبَثًا﴾: منصوب على الحالية من فاعل ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾؛ أي: حالة كوننا ﴿عابثين﴾، أو منصوب على المصدرية؛ أي: خلقًا عبثًا، أو على أنه مفعول لأجله؛ أي: لأجل العبث، والجملة الفعلية فى تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي ﴿حسب﴾؛ أي: أغفلتص وظننتم حلقنا إياكم عبثًا. ﴿وَأَنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه ﴿إِلَيْنَا﴾: جار
189
ومجرور متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾، وجملة ﴿لَا تُرْجَعُونَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ﴾ على كونها فى تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿حسب﴾؛ أي: وعدم رجوعكم إلينا. ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿تعالى الله﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾: صفتان للجلالة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿إِلَهَ﴾: اسمها. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿هُوَ﴾ في محل الرفع بدل من الضمير المستكن فى خبر ﴿لَا﴾؛ أي: لا إله موجود هو إلا هو سبحانه، وجملة ﴿لا﴾: في محل النصب حال من الجلالة فى قوله: فتعالى الله. ﴿رَبُّ الْعَرْشِ﴾: صفة ثالثة ومضاف إليه. ﴿الْكَرِيمِ﴾: بالجر صفة للعرش، وبالرفع صفة للرب.
﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧)﴾
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَن﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما على الخلاف المذكور فى محله. ﴿يَدْعُ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها، وجزمه حذف حرف العلة وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿مَعَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بيدع. ﴿إِلَهًا﴾: مفعول به ليدع. ﴿آخَرَ﴾: صفة أولى له، إلا: نافية للجنس. ﴿بُرْهَانَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لا﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بُرْهَانَ﴾. و (الباء) بمعنى على، أي لا برهان عليه كائن له. وجملة لا في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿إِلَهًا﴾، وهي صفة لازمة لا مفهوم لها. ﴿فَإِنَّمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية. ﴿إنما﴾: أداة حصر. ﴿حِسَابُهُ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿عِنْدَ رَبِّهِ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية: مستأنفة. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)﴾.
190
﴿وَقُلْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء في محل النصب مقول قال. ﴿اغْفِرْ﴾: فعل دعاء وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَارْحَمْ﴾: معطوف على ﴿اغفر﴾. ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿ارحم﴾، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾: جمع همزة، وهي النخسة والدفعة بيد أو بغيرها، والمهماز، مفعال من ذلك كالمحراث من الحرث، والهمَّاز الذي يعيب الناس، كأنه يدفع بلسانه، وينخس به. اهـ. "سمين".
وفي "الأساس" و"اللسان" همز رأسه عصره، وهمز الجوزة بكفه، ومن المجاز همز الرجل فى قفاه غمز بعينه، ورجل همزة وهماز، والشيطان يهمز الإنسان، يهمس فى قلبه وسواسًا، ويقال: أعوذ بالله من همسه وهمزه ولمزه.
وأعوذ بك من همزات الشيطان. وفي "المختار" وهمزات الشيطان: خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان. اهـ. وفي "البيضاوي" وأصل الهمز النخس. ومنه مهماز الرائض، شبه حثهم الناس على المعاصي، بهمز الرائض الدواب على المشي، والجمع للمرات، أو لتنوع الوساوس، أو لتعدد المضاف إليه. اهـ. فلا يرد ما يقال: الهمزة الواحدة أيضًا ينبغي أن يتعوذ منها، فما وجه الجمع اهـ "كرخي". قلت: مهماز الرائض: حديدة توضع فى مؤخر الرحل ينخس بها الدابة لتسرع اهـ.
﴿كَلَّا﴾: كلمة تستعمل للردع والزجر عن حصول ما يطلب. ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ﴾؛ أي: من أمامهم. ﴿بَرْزَخٌ﴾؛ أي: حاجز بينهم وبين الرجعة؛ أي: حاجز يصدهم عن الرجوع إلى الدنيا، وهو المدة التي من حين الموت إلى البعث. وفي "السمين" البرزخ: الحاجز بين المتنافيين، وقيل: الحجاب بين الشيئين يمنع أن
191
يصل أحدهما إلى الآخر، وهو بمعنى الأول، وقال الراغب: أصله برزه بالهاء، فعرب، وهو فى القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة، والبرزخ قيل: هو الحائل بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها اهـ.
﴿فِي الصُّور﴾: الصور واحدها صورة، نحو بسر وبسرة؛ أي: نفخت فى الأجساد أرواحها. ﴿فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ﴾ جمع نسب، والنسب: القرابة بين اثنين فصاعدًا؛ أي: اشتراك من جهة أحد الأبوين، وذلك ضربان: نسب بالطول، كالاشتراك بين الآباء والأبناء، ونسب بالعرض، كالنسب بين الأخوة وبني الأعمام، كما مر فى مبحث التفسير.
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾؛ أي: موزونات أعماله، فالموازين جمع موزون، ويجوز كونه جمع ميزان. وجمعه حينئذٍ مع وحدته لتعدد الموزون اهـ "شهاب"؛ أي: ثقلت موازينه بالحسنات، بثقلها على السيئات، بأن تجسم وتصور بصور حسان، وتوضع فى كفة الميزان اليمنى، التي على يمين العرش، أو خفت موازينه بالحسنات، بثقل السيئات عليها بسبب زيادتها على الحسنات، بأن تجسم السيئات وتصور بصور ظلمانية، وتوضع فى كفة الميزان اليسرى، التي فى على يسار العرش اهـ. "شيخنا".
﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾؛ أي: تحرقها، واللفح: أشد النفخ؛ لأنه الإصابة بشدة، والنفح الإصابة مطلقًا، كما فى قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾ وفي "القاموس" لفح يلفح من باب فتح فلانًا بالسيف ضربه به، ولفحت النار لفحًا ولفحانًا، أو السموم بحرها فلانًا، أصابت وجهه، وأحرقته ﴿كَالِحُونَ﴾؛ أي: عابسون، الكلوح أن تتقلص الشفتان، وتتشمرا عن الأسنان، كما ترى الرؤس المشوية.
وفي "المختار" الكلوح تكشر فى عبوس، وبابه خضع. قلت: ومنه كلوح الأسد؛ أي: تكشيره عن أنيابه، ودهر كالح وبرد كالح؛ أي: شديد.
﴿غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ أحد مصادر شقي. وفي "المختار" الشقاء والشقاوة بالفتح: ضد السعادة. وقرأ قتادة شقاوتنا بالكسر، وهي لغة، وقد شقى بالكسر
192
شقاء وشقاوة أيضًا. وأشقاه الله فهو شقي؛ أي: بين الشقوة. وفي "القاموس" وشرحه شقى يشقى من باب تعب شقًا، وشقاوة وشقاوة وشقوة وشقوة ضد سعد فهو شقي، والجمع أشقياء. والشقاوة سوء العاقبة.
﴿اخْسَئُوا﴾؛ أي: ذلوا فيها وانزجروا، كما تنزجر الكلاب إذا زجرت. وفي "الصحاح" خسأت الكلب وخسأ يتعدى بنفسه، ولا يتعدى. وفي "المختار" خسأ الكلب طرده، من باب قطع وخسأ هو بنفسه إذا خضع.
﴿سِخْرِيًّا﴾ بضم السين وكسرها، أصله سخرًا بضم السين وكسرها أيضًا، وزيدت فيه ياء النسب، للدلالة على المبالغة فى قوة الفعل، وهو المسخرة. اهـ. "شيخنا". وفي "السمين" وزيدت الياء للدلالة على قوة الفعل، فالسخرى أقوى من السخر، كما قيل فى الخصوص: خصوصية دلالة على قوله ذلك. وفي "المصباح" سخرت منه سخرًا من باب تعب هزئت به، والسخرى بالكسر لغة فيه، والسخرة وزان غرفة ما سخرت من خادم، أو دابة بلا أجر، والسخرى بالضم بمعناه، وسخرته فى العمل بالتثقيل استعملته مجانًا، وسخر الله الإبل ذللها وسهلها. اهـ.
﴿كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ واللبث: الإقامة، ﴿الْعَادِّينَ﴾ بتشديد الدال جمع عاد من عدّ الشيء يعده، بضم العين فى المضارع إذا أحصاه وحبسه. والمراد هنا: الحفظة العادين لأعمال العباد وأعمارهم، كما مر.
﴿عَبَثًا﴾: العبث بفتحتين: اللعب، وما لا فائدة فيه، وكل ما ليس فيه غرض صحيح، يقال: عبث يعبث عبثًا إذا خلط عمله بلعب، وأصله من قولهم: عبثت الأقط؛ أي: خلطته، والعبث طعام مخلوط، ومنه العوثباتي لتمرٍ وسويق وسمن مختلط.
﴿الْحَقُّ﴾ الثابت الذي لا يبيد ولا يزول ملكه. وفي "البيضاوي" ﴿الْمَلِكُ الْحَقّ﴾؛ أى: الذى يحق له الملك مطلقًا، فإن ما عداه مملوك بالذات، مالك بالعرض من وجه دون وجه، وفي حال دون حال. اهـ.
193
و ﴿الْعَرْشِ﴾: هو مركز تدبير العالم، ووصفه بالكريم لشرفه، وكل ما شرف فى جنسه يوصف بالكرم، كما فى قوله: ﴿وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦)﴾ وقوله: ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ وفي "أبي السعود" قوله: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾؛ أي: فكيف بما تحته وما أحاط به من المخلوقات، كائنًا ما كان، ووصف بالكرم، إما لأنه ينزل منه الوحي الذي منه القرآن الكريم، أو الخير والبركة والرحمة، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين تعالى من حيث أنه أعظم مخلوقاته اهـ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التأكيد بإن وباللام وباسمية الجملة فى قوله: ﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥)﴾ لإنكار المخاطبين ذلك.
ومنها: الطباق المعنوي فى قوله: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾؛ لأن المعنى: ادفع بالحسنة السيئة، فهو طباق بالمعنى لا باللفظ.
وفي قوله أيضًا: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ من البلاغة العدول عن مقتضى السياق لسر بليغ، فالظاهر أن يقول ادفع بالحسنة السيئة، ولكنه عدل عن مقتضى الكلام لما فيه من التفصيل، والمعنى: ادفع السيئة بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان، وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة.
ومنها: إعادة لفظ الرب فى قوله: ﴿رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤)﴾ مبالغة فى الابتهال والتضرع.
ومنها: الإظهار فى مقام الإضمار فى قوله: ﴿فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤)﴾ تسجيلًا عليهم باسم الظلم؛ لأن الأصل فلا تجعلني فيهم.
ومنها: إعادة كل من العامل والنداء فى قوله: ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)﴾ مبالغةً وزيادة اعتناء بهذه الاستعاذة.
194
ومنها: الإتيان بضمير الجمع، مع كون المرجع المفرد المعظم المنزه فى قوله: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ تعظيمًا لله تعالى.
ومنها: جمع الضمير فى قوله: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ﴾ مع عوده إلى الأحد، اعتبارًا بالمعنى؛ لأنه فى حكم كلهم، كما أن الإفراد فى الضمائر الأول باعتبار اللفظ، ذكره "أبو السعود".
ومنها: المجاز المرسل فى قوله: ﴿إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ حيث أطلق الكلمة على الجملة، وهو من إطلاق الجزء، وإرادة الكل.
ومنها: فن التنكيت فى قوله: ﴿فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ﴾ فقد قصد بنفي الإنساب، وهي موجودة أمرًا آخر لنكتة فيه، فإن الأنساب ثابتة لا يصح نفيها.
وقد كان العرب يتفاخرون بها فى الدنيا، ولكنه جنح إلى نفيها، إما لأنها تلغو فى الآخرة، إذ يقع التقاطع بينهم فيتفرقون معاقبين، أو مثابين، أو أنه قصد بالنفي صفة للأنساب محذوفة؛ أي: يعتد بها حيث تزول بالمرة، وتبطل لزوال التراحم والتعاطف، من فرط الحيرة، واستيلاء الدهشة عليهم.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ وبين ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾.
ومنها: الاستفهام التقريري فى قوله: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق فى قوله: ﴿وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾.
ومنها: الإسناد المجازي فى قوله: ﴿حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ حتى أنساكم استهزاؤهم ذكري، فهو من إسناد ما للشيء إلى صاحبه.
ومنها: الاستفهام التبكيتي الإلزامي فى قوله: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ والاستفهام التوبيخي فى قوله: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ﴾.
ومنها: القصر فى قوله: ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾.
ومنها: التعبير بالمضارع فى قوله: ﴿وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ استحضارًا
195
للصورة الماضية.
ومنها: حذف جواب لو فى قوله: ﴿لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ثقةً بدلالة ما سبق عليه.
ومنها: الإظهار فى مقام الإضمار فى قوله: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ للنداء عليه بهذا الوصف القبيح. وفيه أيضًا مراعاة معنى من؛ لأن الأصل إنه لا يفلح.
ومنها: تقديم المغفرة على الرحمة فى قوله: ﴿رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ﴾؛ لأن باب التخلية مقدم على باب التحلية.
ومنها: تفاوت ما بين الافتتاح والاختتام، حيث بدأ السورة بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)﴾، وأورد فى خاتمتها أنه لا يفلح الكافرون. ذكره فى "البحر".
ومنها: الزيادة والحذف فى عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
196
خلاصة ما تضمنته هذه السورة من الحكم والأحكام والآداب
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - فوز المؤمنين ذوي الصفات الفاضلة، بدخول الجنات خالدين فيها أبدًا.
٢ - ذكر حال النشأة الأولى.
٣ - خلق السماوات السبع وإنزال المطر من السماء، وإنشاء الجنات من النخيل والأعناب، وذكر منافع الحيوان للإنسان.
٤ - قصص بعض الأنبياء، كنوح وشعيب وموسى وهارون وعيسى عليهم السلام، ثم أمرهم جميعًا بأكل الطيبات وعمل الصالحات.
٥ - أنه لا يكلف الله عباده، إلا بما فيه يسر وسماحة.
٦ - وصف ما يلقاه الكافرون من النكال والوبال يوم القيامة، وتأنيبهم على عدم الإيمان بالرسول، وتفنيد المعاذير التي اعتذروا بها.
٧ - ذكر ما أنعم به على عباده، من الحواس والمشاعر.
٨ - إنكار المشركين للبعث والجزاء، والحجاج على إثبات ذلك.
٩ - النعي على من أثبت الولد، والشريك لله تعالى.
١٠ - دعاء النبي - ﷺ - ربه أن لا يجعله فى القوم الظالمين، حين عذابهم.
١١ - تعليم نبيه - ﷺ - الأدب فى معاملة الناس، وأمره أن يدعوه بدفع همزات الشياطين عنه.
١٢ - طلب الكفار العودة إلى الدنيا، حين رؤية العذاب، لعلهم إذا عادوا عملوا صالحًا.
١٣ - وصف أهوال يوم القيامة، وبيان ما فيها من الشدائد.
١٤ - أوصاف السعداء والأشقياء.
197
١٥ - تأنيب الكافرين على طلبهم العودة إلى الدنيا، وزجرهم على هذا الطلب.
١٦ - سؤال المشركين عن مدة لبثهم فى الدنيا، وبيان أنهم ينسون ذلك.
١٧ - النعي على من عبد مع الله إلهًا آخر.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) قد تمّ تفسير سورة المؤمنون بعون الله تعالى، وتوفيقه، بتاريخ ٧/ ١٢/ ١٤١٢ هـ. وفي أوائل الليلة السابعة من شهر الله ذي الحجة من شهور سنة ألف وأربع مئة واثني عشرة سنة، من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية.
198
سورة النور
مدنية بالإجماع، كما فى "القرطبي"، وهي (١) اثنتان أو أربع وستون آية، وألف وثلاث مئة وست عشر كلمة، وخمسة آلاف وتسع مئة وثمانون حرفًا.
ومن فضائلها (٢): ما روى أبو عبد الله الحاكم فى "صحيحه"، وابن مردويه والبيهقي فى "الشعب" عن عائشة مرفوعًا "لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة" يعني النساء "وعلموهن الغزل وسورة النور".
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد قال: قال رسول الله - ﷺ -: "علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نسائكم سورة النور" وهو مرسل.
وأخرج أبو عبيد فى فضائله عن حارثة بن مضرب قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب، أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.
الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله (٣) محمد بن حزم رحمه الله تعالى: جملة ما فى سورة النور من المنسوخ سبع آيات:
أولاهن: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾ الآية (٤) نسخت بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ (٥).
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ (٣) هذه الآية من أعاجيب آيات القرآن؛ لأن لفظها لفظ الخبر، ومعناها: النهي، تقدير الكلام؛ - والله أعلم - لا تنكحوا زانيةً ولا مشركةً، ناسخها قوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ الآية (٣٢) النور.
(١) المراح.
(٢) زاد المسير والشوكاني.
(٣) الناسخ والمنسوخ.
199
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ﴾ الآية (٦) نسخها بالآيتين اللتين بعدها، وهما قوله تعالىِ: ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٧)﴾ (٧) وكذلك ﴿وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)﴾ (٩).
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ الآية (٢٧) نسخت بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ الآية (٢٩).
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ الآية (٣١) نسخ بعضها بقوله تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ﴾ الآية.
الآية السادسة: قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ الآية (٥٤). نسخها آية السيف.
الأية السابعة: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ الآية (٥٨) نسخها بالآية التي تليها، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ الآية (٥٩) انتهى.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين:
١ - أنه قال فى السورة السالفة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥)﴾ وذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني، وما اتصل بذلك من شأن القذف، وقصة الإفك، والأمر بغضّ البصر الذي هو داعية الزنا، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، والنهي عن إكراه الفتيات على الزنا.
٢ - أنه تعالى لما قال فيما سلف أنه لم يخلق عبثًا، بل للأمر والنهي، ذكر هنا جملةً من الأوامر والنواهي. وتسميتها بسورة النور لذكر لفظ النور فيها.
والله أعلم
* * *
200

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (٨) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)﴾.
المناسبة
مناسبة هذه السورة لما قبلها قد مرت قريبًا: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ...﴾ الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه (١) لما نفَّر من نكاح الزانيات، وإنكاح الزانين، وبين أن ذلك عمل لا يليق بالمؤمنين الذين أشربت قلوبهم حب الإيمان والتصديق برسله.. نهى هنا عن رمي المحصنات به، وشدد فى عقوبته الدنيوية والأخروية، فجعل عقوبته فى الدنيا الجلد، وأن لا تقبل له شهادة أبدًا، فيكون ساقط الاعتبار فى نظر الناس، ملغى القول، لا تسمع له كلمة، وجعل عقوبته فى الآخرة العذاب المؤلم الموضع، إلا
(١) المراغي.
201
إذا تاب إلى الله، وأناب وأصلح أعماله، فإنه يزول عنه اسم الفسوق وتقبل شهادته.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه لما بين الله سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنا، وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة، إلا إذا أتى بأربعة شهداء.. ذكر هنا ما هو فى حكم الاستثناء من ذلك، وهو قذف الزوجات، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة فى الآية؛ لأن فى تكليف الزوج إحضار الزوج إعناتًا وإحراجًا، ولما يلحقه من المغيرة على أهله، ثم كظم الغيظ إذ لم يجد مخلصًا من ضيقه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً...﴾ الآية، اختلف العلماء (١) فى سبب نزول هذه الآية، فقال قوم: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم، ولا عشائر، وفي المدينة نساء بغايا، من أخصب أهل المدينة، فرغب ناس من فقراء المسلمين فى نكاحهن، لينفقن عليهم، فاستأذنوا رسول الله - ﷺ - فى ذلك فنزلت هذه الآية، فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا؛ لأنهن كن مشركات. وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والزهري والشعبي ورواية عن ابن عباس.
وقال عكرمة: نزلت فى نساءٍ كن بمكة والمدينة، لهن رايات يعرفن بها، منهن أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وكان فى الجاهلية من ينكح الزانية يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الصفة، فاستأذن رجل رسول الله - ﷺ - فى نكاح أم مهزول، واشترطت له أن تنفق عليه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
(١) الخازن.
202
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وكان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت بمكة بغي، يقال لها: عناق، وكانت صديقة له فى الجاهلية، فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها، فقال مرثد: إن الله حرّم الزنا، قالت: فانكحني، فقال: حتى أسال رسول الله - ﷺ -، قال: فأتيت النبي - ﷺ - فقلت: يا رسول الله أنكح عناقًا؟ فأمسك رسول الله - ﷺ -، فلم يرد شيئًا، فنزلت آية ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ فدعاني، فقرأها علي، وقال: و"لا تنكحها". أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود، بألفاظ متقاربة المعنى.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦)...﴾ الآيات، قال الإِمام (١) البخاري رحمه الله تعالى فى (ج ١/ ص ٦٤): حدثنا إسحاق، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا الأوزاعي قال: حدثني الزهري عن سهل بن سعد، أن عويمرًا أتى عاصم بن عدي، وكان سيد بني عجلان، فقال: كيف تقولون فى رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله - ﷺ - عن ذلك، فأتى عاصم النبي - ﷺ - فقال: يا رسول الله، فكره رسول الله - ﷺ - السائل، فسأله عويمر، فقال: إن رسول الله - ﷺ - كره المسائل، وعابها، قال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله - ﷺ - عن ذلك، فجاء عويمر فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله: "قد أنزل الله القرآن فيك، وفي صاحبتك"، فأمره رسول الله - ﷺ - بالملاعنة بما سمى الله فى كتابه، فلاعنها، ثم قال: يا رسول، إن حبستها فقد ظلمتها، فطلقها، فكانت سنة لمن كان بعدهما فى المتلاعنين، ثم قال رسول الله - ﷺ -: "انظروا، فإن جاءت به أسحم، أدعج العينين، عظيم الإليتين، خدلج الساقين.. فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها. وإن جاءت به أحمر كأنه وحرة، فلا أحسب عويمرًا إلا قد كذب عليها" فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله - ﷺ -
(١) البخاري.
203
من تصديق عويمر، فكان بَعدُ ينسب إلى أمه. والحديث أخرجه أيضًا مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد ومالك والدارمي والدارقطني وابن جرير.
وأخرج البزار عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ - لأبي بكر: "لو رأيت مع أم رومان رجلًا ما كانت فاعلًا به"؟؛ قال: كنت والله فاعلًا به شرًّا. "فأنت يا عمر"؟ قال: كنت والله قاتله، كنت أقول: لعن الله الأعجز، فإنه خبيث فنزلت: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ﴾.
وأخرج البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - ﷺ -، فقال له النبي - ﷺ -: "البينة أو حد فى ظهرك" فقال يا رسول الله، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلًا، ينطلق يلتمس البينة؟! فجعل النبي - ﷺ - يقول: "البينة أو حد فى ظهرك"، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل، فأنزل الله عليه: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ فقرأ حتى بلغ ﴿إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
وأخرجه أحمد بلفظ لما نزلت: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا. قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا نزلت يا رسول الله: "يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم"؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. فقال سعد: والله يا رسول الله، إني أعلم أنها حق، وأنها من الله، ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاع قد تفخذها رجل، لم يكن لى أن أنحيه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله لا أتي بهم حتى يقضي حاجته، قال: فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية، هو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند أهله رجلًا، فرأى بعينيه، وسمع بأُذنه فلم يهجه حتى أصبح، فغدا إلى رسول الله - ﷺ -، وقال له: إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلًا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله - ﷺ - ما جاء به، واشتد عليه، واجتمعت الأنصار، فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة: الآن يضرب رسول الله - ﷺ - هلال بن أمية، ويبطل شهادته فى
204
Icon