تفسير سورة الصافات

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة والصّافّات
مكّيّة وهى مائة واثنان وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) اقسم بالملائكة الذين يصفون فى مقام العبودية كصفوف المصلين عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها قال يتمون الصفوف ويتراصون فى الصف- كذا قال ابن عباس والحسن وقتادة وقيل هم الملائكة تصف بأجنحتها فى الهواء واقفة حتى يأمر الله بما يريد وقيل هى الطير قال الله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ....
فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) يعنى الملائكة تزجر السحاب وتسوقه وقيل الملائكة تزجر الناس عن المعاصي بإلهام الخير او الشياطين عن التعرض لهم. وقال قتادة هى زواجر القران تنهى وتزجر عن القبيح.
فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) هم الملائكة الذين يتلون ذكر الله او آيات من الكتب السماوية على الأنبياء وذكرا منصوب على المفعولية وجاز نصبه على المصدرية من معنى التاليات. او اقسم بنفوس العلماء الصافّين أقدامهم فى الصلاة الزاجرين عن الكفر والسيئات بالحجج والنصيحات التالين آيات ربهم رفيع الدرجات- او بنفوس الغزاة المقاتلين فى سبيل الله صفّا كانّهم بنيان مرصوص الزاجرين الخيل والعدو التالين لذكر الله لا يشغلهم مبارزة العدو عن ذكر الله- والعطف لاختلاف الدوات او الصفات والفاء لترتيب الوجود فان الصف كمال والزجر تكميل بالمنع عن الشر او الاساقة الى الخير والتلاوة افاضة او الرتبة كما فى قوله تعالى ثمّ كان من الّذين أمنوا- ادغم حمزة التاءات فيما يليها لتقاربها فانها من طرف اللسان واصول الثنايا وابو عمر وعلى أصله فى الإدغام الكبير. جواب القسم.
إِنَّ إِلهَكُمْ يا اهل مكة لَواحِدٌ (٤) رد لما قال كفار مكة اجعل الالهة الها وّاحد لانّ هذا لشئ عجاب.
رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ
(٥) خبر بعد خبر لانّ او خبر مبتدا محذوف اى هو والمراد بالمشارق مشارق الكواكب كلها او مشارق الشمس فى السنة فانها ثلاث مائة وخمس وستون تطلع كل يوم من واحد وبحسبها يختلف المغارب ولذلك اكتفى بذكرها مع ان الشرق أدلّ على القدرة وابلغ فى النعمة..
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى القربى منكم فيه التفات من الغيبة الى التكلم بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) قرأ الجمهور بالاضافة وهى بيانية اى بزينة هى الكواكب او اضافة المصدر الى المفعول اى بان زينا الكواكب فانها كما جاءت اسما كالليقة جاء مصدرا كالنسبة او الى الفاعل اى بان زينها الكواكب وقرأ حمزة ويعقوب وحفص «لا بل هو كالجمهور- ابو محمد» بتنوين زينة وجر الكواكب على ابدا لها منه اى بزينة هى الكواكب او بزينة هى لها كاضوائها وأوضاعها قال ابن عباس اى بضوء الكواكب وهذه القراءة يؤيد كون الاضافة فى قراءة الجمهور بيانية وقرأ ابو بكر بتنوين زينة ونصب الكواكب على المفعولية فيؤيد كون الاضافة الى المفعول او منصوب بتقدير اعنى او على البدل من محل زينة.
وَحِفْظاً منصوب على المصدرية بإضمار فعله اى وحفظناها حفظا او بالعطف على زينة بحسب المعنى كانّه قال انا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا اى لاجل الحفظ مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) خارج من الطاعة برمى الشهب من الكواكب وهذه الاية تفيد ان الكواكب كلها فى السماء الدنيا وقول البيضاوي ان كون الثوابت فى الكرة الثامنة وما عدا القمر من السيارات فى الست المتوسطة بينها وبين سماء الدنيا ان تحقق لم يقدح فى ذلك فان اهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلالية على سطحها الأزرق باشكال مختلفة مبنى على تجويز قول الفلاسفة والحق ان قول الفلاسفة باطل بالكتاب والسنة والإجماع فان كون السماوات سبعا منصوص عليه بالكتاب فلا يجوز القول بالكرة الثامنة وتسميتها باسم غير السماء لا يفيد كتسمية الخمر بغير اسمها لا يفيد الحل وايضا الدّنيا صفة للسماء ومفهوم الصفة يقتضى حصر زينتها فى السماء الدنيا ولولا ذلك الحصر لما وجه لتقييد السماء بالدنيا وايضا قوله تعالى وحفظا من كلّ شيطان مارد يرد القول بكون الكواكب فى سماء غير سماء الدنيا
فان رجم الشيطان ليس الا من السماء الدنيا ولا سبيل للشياطين فوق سماء الدنيا والقول بان الشهاب تخرج من الكواكب الثابتة فى السماء الثامنة نافذة من السماوات السبع الى سارق السمع من الشياطين يأباه العقل والنقل والله اعلم.
لا يَسَّمَّعُونَ قرأ حفص وحمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» بتشديد السين والميم أصله يتسمّعون فادغمت التاء فى السين والمعنى يطلبون السماع وفيه مبالغة فى نفى السماع والباقون بسكون السين وتخفيف الميم من المجرد- وهذا كلام مبتدا لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم ولا يجوز جعله صفة لكلّ شيطان فانه يقتضى حفظها من الشياطين الذين لا يسمعون ولا علة للحفظ على حذف اللام كما فى جئتك ان تكرمنى ثم حذف ان واهدار عملها فان اجتماع ذلك منكر إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى متعلق بلا يسمعون بتضمين معنى الاصفاء مبالغة لنفيه وتهويلا لما يمنعهم عنه والمراد بالملا الأعلى الملائكة او اشرافهم مدبرات الأمور وَيُقْذَفُونَ اى يرمون عطف على لا يسمعون مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) اى من آفاق سماء الدنيا بالشهب إذا قصدوا المكث والإصغاء.
دُحُوراً مصدر بمعنى الطرد منصوب على المصدرية لان القذف والدحور متقاربان او على الحال بمعنى مدحورين او بنزع الخافض اى بدحور وهو ما يطرد به وَلَهُمْ عَذابٌ اخر واصِبٌ (٩) اى دائم او شديد وهو عذاب الاخرة وقال مقاتل لهم عذاب فى الدنيا دائم الى النفخة الاولى يحرقون.
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء من فاعل لا يسمعون وبدل منه وقيل استثناء منقطع والخطفة الاختلاس يعنى من اختلس كلمة من كلام الملائكة مسارقة ولذلك عرّف الخطفة فَأَتْبَعَهُ اتبع بمعنى تبعه اى لحقه شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) وهو ما يرى كانّ كوكبا انقض وهو شعلة تخرج من كوكب لرجم مسترقى السمع من الشياطين.
وليس كما قالت الفلاسفة انه بخار يصعد الى الأثير ويشتعل فان هذا قول باطل مبنى على الظن والتخمين وانّ الظّنّ لا يغنى من الحقّ شيئا وهذا كقولهم فى المطر انه بخار يصعد من الأرض ويصل الى الطبقة الزمهريرية من الهواء فيجمد ويكون غماما ثم يصل اليه الحرارة من الشمس فيذوب ويقطر ماء وهذه الأقوال الباطلة التي لا دليل عليها يأباه
107
العقل فان الابخرة قد يصعد كثيرا لاجل شدة الحر ولا يكون مطرا الى سنين وقد يكون امطارا متوالية متكاثرة فى البرد من غير ان يدرك حينئذ صعود الابخرة وايضا لو كان كذلك لذاب فى بعض الأحيان الغمام كله ولم ير ذلك قط وايضا البخارات لا تزال تتصاعد دائما فرؤية الشهاب فى بعض الأحيان لا معنى له- وهذه الأقوال باطلة بالكتاب والسنة قال الله تعالى وأنزلنا من السّماء ماءّ وقال الله تعالى وأنزلنا من السّماء من جبال فيها من برد وهذه الاية وزيّنا السّماء الدّنيا بزينة الكواكب الى قوله شهاب ثاقب وروى البخاري عن قتادة قال خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى فمن تأول فيها غير ذلك اخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم- وروى ايضا عن ابى هريرة ان نبى الله ﷺ قال إذا قضى الله الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كانه سلسلة على صفوان فاذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا للذى قال الحقّ وهو العلىّ الكبير فسمعها مسترقوا السّمع ومسترقوا السمع هكذا بعضهم فوق بعض (ووصف سفيان بكفه فحركها وبدر بين أصابعه) فيسمع الكلمة فيلقيها الى من تحته ثم يلقيها الاخر الى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر او الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل ان يلقيها وربما القاها قبل ان يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء- وروى مسلم عن ابن عباس ربنا تبارك اسمه إذا قضى امرا سبح حملة العرش ثم سبح اهل السماء الذين يلونهم حتى تبلغ التسبيح اهل هذه السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربّكم فيخبرونهم ما قال فيستخبر بعض اهل السماوات بعضا حتى تبلغ اهل هذه السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون الى أوليائهم ويرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم تعرفون فيه و «اى يكذبون منه ره» يزيدون- وروى البخاري عن عائشة قالت سمعت رسول الله ﷺ يقول ان الملائكة تنزل فى العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضى فى السماء فيسترق الشياطين السمع فيستمعه فيوحيه الى الكهان فيكذبون معه مائة كذبة من عند أنفسهم- قال
108
البيضاوي واختلف فى المرجوم يتاذى فيرجع او يحترق به لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولهذا لا يرتدعون..
فَاسْتَفْتِهِمْ الضمير المنصوب لمشركى مكة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ممن خلقناهم أَمْ مَنْ خَلَقْنا هم أشد خلقا منهم والمراد بمن خلقنا ما سبق ذكره من السماوات والأرض وما بينهما من الخلائق والمشارق والمغارب والكواكب والشهب الثواقب ومن لتغليب العقلاء والاستفهام للتقرير- وقيل المعنى أم من خلقنا من غيرهم من الأمم السالفة كعاد وثمود قد أهلكناهم بذنوبهم فما لكم تأمنون من العذاب والتأويل الاول يوافق قوله تعالىء أنتم «١» أشدّ خلقا أم السّماء ويدل على إطلاقه قوله تعالى إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ
(١١) اى لاصق يتعلق باليد وقال مجاهد والضحاك اى منتن فانه فارق بين خلقهم وخلق السماوات والأرض فان خلقها بلا مادة سبق وهذه الجملة متضمنة للسوال المذكور على طريقة عن النّبإ العظيم بعد قوله عمّ يتسآءلون والغرض من هذا الكلام الرد على منكر البعث فانه شهادة عليهم بالضعف لان ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة فمن قدر على خلق السماوات وغيرها قادر البتة على ما لا يعتد به بالاضافة إليها واحتجاج عليهم بان خلقهم الاول من الطين اللازب فمن اين ينكرون ان يخلقوا ثانيا من تراب حيث قالوا أإذا كنّا ترابا أإنّا لفى خلق جديد وان الطين اللازب يحصل بضم الجزء المائى الى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام والفاعل لا تغير فى قدرته فعلى ما ينكرون..
بَلْ ابتدائية للانتقال من غرض الى اخر وهو الاخبار بحاله وحالهم وليست للاضراب عَجِبْتَ العجب حالة يعترى للانسان عند رؤية امر لم يعهد مثله فيعبر عن تلك الحالة بقوله عجبت وبصيغة التعجب منه قوله ﷺ عجب ربك من قوم يساقون الى الجنة فى السلاسل- وقوله سبحانه ما أعظم شأنه ويطلق ايضا على الشيء الذي لم يعهد
(١) وفى الأصل أهم أشدّ ١٢
109
مثله انه عجب قال الله تعالى أكان للنّاس عجبا ان أوحينا الى رجل منهم وكثيرا يستعمل العجب فيما يراه الرجل حسنا غاية الحسن يقال أعجبني كذا ومنه قوله تعالى ومن النّاس من يعجبك قوله وقوله عليه السلام عجب ربكم من شابّ ليست له صبوة وقوله ﷺ عجب ربكم من الكم وقنوطكم وقد يستعمل فيما يراه قبيحا غاية القبح يقال عجبت من بخلك وشرهك وقال الشاعر شيئان عجيبان هما أبرد من يخ شيخ يتصبى وصبى يتشيخ- وفيما يراه كثيرا غاية الكثرة يقال ما أكرمه وما أطفاه وما أشد استخراجه وما أجهله وما اشر بياضه فالمعنى ان هذا الشيء بهذا الحسن او بهذا القبح او بهذا الكرام او الجهل او البياض لم يعهد مثله- وقيل هى حالة يعرض للانسان عند الجهل بسبب الشيء وبناء على ذلك قالوا لا يصح على الله العجب لاحاطة علمه بكل شىء وقيل هى حالة يعترى للانسان عند استعظامه الشيء والصحيح ان مال هذين التفسيرين الى ما ذكرنا لان الإنسان يستعظم ما لم يعهد مثله وكذا ما يجهل بسببه يراه غير معهود مثله فلا حاجة الى الصرف عن الظاهر فى قراءة حمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» عجبت بضم التاء على صيغة المتكلم رنال البيضاوي العجب من الله اما على الفرض والتخييل او على معنى الاستعظام اللازم وقيل انه مقدر بالقول يعنى قل يا محمد بل عجبت وقال البغوي والعجب من الله إنكاره وتعظيمه والعجب من الله قد يكون بمعنى الإنكار والذم كما فى هذه الاية وقد يكون بمعنى الاستحسان كما فى الحديث عجب ربكم من شابّ ليست له صبوة- وسئل جنيد عن هذه الاية فقال ان الله ما يعجب من شىء ولكن الله وافق رسوله فقال وان تعجب فعجب قولهم اى هو كما تقوله- وقرأ الجمهور على صيغة المخاطب بفتح التاء يعنى عجبت أنت يا محمد من تكذيبهم إياك مع اعترافهم بكونك أمينا صدوقا وشهادة المعجزات على صدقك وكون القرآن معجزا او عجبت من انكارهم قدرة الله على البعث مع ظهور قدرته تعالى على كل شىء فان هذا الأمر لم يعهد مثله قال قتادة عجب نبى الله ﷺ من هذا القران حين انزل وضلال بنى آدم بعده وذلك ان النبي ﷺ كان يظن ان من سمع لهذا القران يؤمن به فلمّا سمع المشركون وسخروا منه ولم يؤمنوا به عجب
110
من ذلك رسول الله ﷺ فقال الله تعالى بل عجبت يا محمد وَيَسْخَرُونَ (١٢) حال من فاعل عجبت بتقدير المبتدا يعنى وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث.
وَإِذا ذُكِّرُوا اى وعظوا بالقران لا يَذْكُرُونَ (١٣) لا يتعظون او المعنى إذا ذكرهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرتهم.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة تدل على صدق الرسول ﷺ قال ابن عباس ومقاتل هو انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) يبالغون فى السخرية او يستدعى بعضهم بعضا ان يسخر منها.
وَقالُوا اى ويقولون إِنْ هذا يعنون ما يرونه من المعجزة إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) ظاهر سحريته وقالوا.
أَإِذا مِتْنا قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر «١» الميم وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أصله أنبعث إذا متنا فبدل الفعلية بالاسمية وقدم الظرف وكرر الهمزة مبالغة في الإنكار واشعارا بان البعث مستنكر فى نفسه وفى هذا الحال اولى بالإنكار فهذا ابلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الاولى وقراءة نافع والكسائي ويعقوب «وابى جعفر- ابو محمد» بطرح الثانية.
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) عطف على محل اسم ان بعد مضى الخبر او على الضمير فى مبعوثون فانه مفصول عنه بهمزة الاستفهام والاستفهام لانكار الجمع بين بعثهم وبعث ابائهم لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم- وسكن نافع «اى قالون عنه والاصبهانى عن ورش وابو جعفر وابو محمد» وابن عامر الواو على معنى الترديد وعلى هذه «٢» القراءة لا يجوز العطف قل يا محمد.
نَعَمْ تبعثون أنتم وآباؤكم قرأ الكسائي بالكسر وهو لغة فيه وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) الدخور أشد الصغار حال من فاعل المقدر.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ جواب شرط مقدر يعنى إذا كانت البعث فانّما هى اى البعثة وقيل هى ضمير مبهم موضحها خبرها يعنى زجرة واحِدَةٌ اى صيحة واحدة اى نفخة الثانية والزجر الطرد والمنع بالصوت يقال زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها وأمرها فى الاعادة كما امر فى الإبداء ولذلك
(١) هذا هو الصحيح وهكذا فى الأصل فى المتن لكن كتبه على الحاشية بالضم. وهو وهم كما «وبال عمران فى ص ١٦١ ابو محمد
(٢) وفى الأصل هذا القراءة
رتب عليها فَإِذا هُمْ قيام من مراقدهم احياء يَنْظُرُونَ (١٩) عطف على فانّما هى زجرة يعنى انما البعثة زجرة ففاجت وقت كونهم احياء ينظرون اى يبصرون او ينتظرون ما يفعل بهم.
وَقالُوا يا للتنبيه وَيْلَنا اى هلاكنا مصدر لا فعل له من لفظه وجملة قالوا عطف على ينظرون ويقولون يا ويلنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) اى يوم نجازى فيه بأعمالنا.
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ اى يوم القضاء او الفرق بين المحسن والمسيء الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) قيل هذا جواب الملائكة وقد تم كلامهم على يوم الدّين وقيل هذا ايضا من كلامهم بعضهم لبعض- فحينئذ يقول الله سبحانه للملائكة.
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى أشركوا فانّ الشّرك لظلم عظيم يعنى اجمعوهم الى الموقف للحساب والجزاء وَأَزْواجَهُمْ يعنى نظراءهم وأشياعهم واتباعهم اخرج البيهقي من طريق النعمان بن بشير قال سمعت عمر بن الخطاب يقول احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم يعنى ضرباءهم الذين هم مثلهم يجيئ اصحاب الربوا مع اصحاب الربوا واصحاب الزنى مع اصحاب الزنى واصحاب الخمر مع اصحاب الخمر ازواج فى الجنة وازواج فى النار- واخرج البيهقي عن ابن عباس يعنى أشباههم- وقال البغوي قال قتادة والكلبي يعنى من عمل مثل عملهم فاهل الخمر مع اهل الخمر واهل الربوا مع اهل الربوا وقال الضحاك قرناؤهم من الشياطين كل كافر مع شيطانه فى سلسلة وقال الحسن أزواجهم من المشركات وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فى الدنيا يعنى الأوثان والطواغيت وقال مقاتل يعنى إبليس واحتج بقوله ان لا تعبدوا الشّيطان واللفظ مخصوص بقوله تعالى انّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون.
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) قال ابن عباس دلوهم الى طريق النار وقال ابن كيسان قدموهم الى النار والعرب يسمى السائق هاديا.
وَقِفُوهُمْ اى احبسوهم قال المفسرون لمّا سيقوا الى النار حبسوا عند الصراط فيقول الله تعالى قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) تعليل بقفوا قال ابن عباس يسئلون عن جميع أفعالهم وأقوالهم وروى عنه عن لا اله الا الله اخرج
مسلم عن ابى برزة الأسلمي رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لا يزول قد ما عبد عن الصراط حتى يسئل عن اربع عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن علمه ما عمل فيه وعن ماله من اين اكتسبه وفيم أنفقه. واخرج الترمذي وابن مردوية مثله عن ابن مسعود واخرج الطبراني مثله عن معاذ بن جبل وابى الدرداء وابن عباس واخرج ابن المبارك فى الزهد عن ابى الدرداء قال ان أخوف ما أخاف إذا وقعت الحساب ان يقال لى قد علمت فما عملت واخرج احمد فى الزهد عنه قال أول ما يسئل عنه العبد يوم القيامة يقال ما عملت فيما علمت واخرج ابن ابى حاتم عن ابقع بن عبد الله الكلاعى قال ان لجهنم سبع قناطير والصراط عليها فيحبس الخلائق عند القنطرة الاولى فيقولون قفوهم انّهم مسئولون فيحاسبون عن الصلاة ويسئلون منها فيهلك فيها من هلك وينجو من نجا فاذا بلغوا الثانية حوسبوا عن الامانة كيف أدوها وكيف خانوها فيهلك من هلك وينجو من نجا فاذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرحم كيف وصلوها وكيف قطعوها فيهلك من هلك وينجو من نجا قال والرحم يومئذ متدلية الى الهواء يقول اللهم من وصلني فصله ومن قطعنى فاقطعه.
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) اى يقال لهم توبيخا ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا تحريض على التناصر والغرض منه التهكم والتعجيز.
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) قال ابن عباس اى خاضعون وقال الحسن منقادون يقال استسلم لشئ إذا انقاده وخضع-.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعنى الرؤساء والاتباع او الكفرة والقرناء يَتَساءَلُونَ (٢٧) حال من الفاعل والمفعول يعنى يسئل بعضهم بعضا توبيخا ولذلك فسر بقوله يتلاومون ويتخاصمون.
قالُوا اى يقول الاتباع للرؤساء او الكفرة للقرناء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) اى عن أقوى الوجوه وأيمنها او عن الدين او عن الخير كذا قال الضحاك ومجاهد مستعار عن يمين الإنسان الذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ولذلك سمى يمينا- وقال بعضهم المراد باليمين الحلف يعنى كنتم تحلفون ان ما تدعوننا اليه من الدين هو الحق- وقيل معناه القوة
والقهر يعنى كنتم تكرهوننا وتقسروننا على الضلال هذه الجملة وما بعدها بيان للتساؤل.
قالُوا اى يقول الرؤساء او الشياطين ما اضللناكم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) يعنى كنتم كافرين ضآلين باختياركم.
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من قهر وغلبة تقرير لما سبق بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) اى مختارين الطغيان.
فَحَقَّ اى وجب عَلَيْنا عطف على محذوف مفهوم ممّا سبق تقديره كنتم قوما طاغين كما كنا طاغين فحقّ علينا جميعا قَوْلُ رَبِّنا لاملانّ جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) العذاب.
فَأَغْوَيْناكُمْ اضللناكم عن الهدى ودعوناكم الى ما كنا عليه عطف على فحقّ علينا إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) ضالين يعنون ان ضلال الفريقين ووقوعهم فى العذاب كان امرا مقضيا علينا وانه غاية ما فعلنا بكم انا دعونا الى الغيّ لانا كنا على الغى فاحببنا ان تكونوا مثلنا قال الله تعالى.
فَإِنَّهُمْ الفا للسببية يعنى لمّا كان كلهم من الرؤساء والاتباع والكفرة والقرناء على الغى فهم يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ انا مبتدا والجملة خبر وكذلك فى محل النصب على المصدرية اى فعلا مثل ما نفعل بهؤلاء نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) اى بكل مشرك والمجرم هو المشرك لقوله تعالى.
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ عطف على يستكبرون أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) يعنون النبي ﷺ قال الله تعالى ردّا عليهم.
بَلْ جاءَ النبي ﷺ بِالْحَقِّ اى التوحيد الذي قام عليه البرهان وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) يعنى ليس هذا دعوى مبتدعا بل ادعاه الأولون من الرسل وهذا يصدقهم ويطابق دعواه دعواهم.
إِنَّكُمْ ايها المجرمون فيه التفات من الغيبة الى الخطاب لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) بالإشراف وتكذيب المرسلين.
وَما تُجْزَوْنَ جزاء إِلَّا جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) فى الدنيا من الشرك.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) الموحدين استثناء منقطع الا ان يكون الضمير
فى تجزون لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عما سبق باعتبار المماثلة فان ثوابهم يضاعف الى سبع مائة ضعف الى ما شاء الله والمنقطع ايضا بهذا الاعتبار.
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) خصائصه من الدوام وتمحض اللذة ولذلك فسره بقوله.
فَواكِهُ جمع فاكهة بدل او بيان للرزق وهى ما يقصد به التلذذ دون التغذي والقوت ما يقصد به التغذي دون التلذذ والرزق يعمهما واهل الجنة لمّا كان خلقهم محفوظة عن التحلل كان أرزاقهم فواكه خالصة وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فى نيله يصل إليهم من غير تعب وسوال بخلاف أرزاق الدنيا الجملة عطف على الجملة او حال او خبر بعد خبر.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) متعلق بالظرف المستقر يعنى لهم رزق معلوم فى جنت ليس فيها الا النعيم او متعلق بمكرمون او حال من المستكن فيه او خبر اخر لاولئك.
عَلى سُرُرٍ يحتمل الحال والخبر فيكون مُتَقابِلِينَ (٤٤) حالا من المستكن فيه او فى مكرمون ويحتمل ان يتعلق على سرر بمتقابلين فيكون متقابلين حالا من ضمير مكرمون.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ اى باناء فيه خمر او خمر كقول الشاعر وكأس شربت على لذة. وعن الأخفش كل كأس فى القرآن فهى الخمر والجملة حال او خبر مِنْ مَعِينٍ (٤٥) اى خمر جارية فى الأنهار ظاهرة تراها العيون او خارج من العيون وهو صفة الماء من عان الماء إذا نبع وصف به خمر الجنة لانها تجرى كالماء او للاشعار بان ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من انواع الاشربة لكمال اللذة.
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) بخلاف خمر الدنيا فانها كريهة عند الشرب وبيضاء ولذّة صفتان لكأس قال الحسن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن ووصفها بلذة للمبالغة او لانها تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب ووزنه فعل-.
لا فِيها غَوْلٌ اى غائلة من غاله يغوله إذا أفسده ومنه الغول يعنى ليس فيها شىء من انواع الفساد كما فى خمر الدنيا من المفاسد من ذهاب العقل ووجع البطن والصداع والقيء والبول وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) قرأ حمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» بكسر الزاء من الانزاف ووافقها حفص فى الواقعة والباقون بفتح الزاء فيهما ولا خلاف
فى ضم الياء يقال نزف الشارب على البناء للمفعول فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله وانزف الشارب إذا نفد عقله او شرابه وأصله النفاد ونزف لازم ومتعد كذا فى القاموس وانزفت والشيء ابلغ من نزفته وأفرد النزف بالنفي وعطف على ما يعمه لانه من أعظم فساده ذهاب عقله وأشد على الشارب نفاد شرابه.
وَعِنْدَهُمْ عطف او حال قاصِراتُ الطَّرْفِ اى ازواج قصرن عيونهن على أزواجهن لا ينظرن الى غيرهم لحسنهم عندهن عِينٌ (٤٠) خبر مبتدا محذوف اى هن عين اى حسان الأعين يقال رجل أعين وامراة عيناء ورجال ونساء عين.
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ للنعام اخرج ابن جرير عن أم سلمة عنه ﷺ العين الضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر وعنه ﷺ فى قوله تعالى كانّهنّ بيض مكنون قال رقتهن كرقة الجلدة فى داخل البيضة التي على القشر مَكْنُونٌ (٤٩) بريشه لا يصل اليه غبار والبيض جمع بيضة لعوده على لفظه قال الحسن شبههن ببيض النعامة لانها تكفها بريشها من الريح والغبار فلونها ابيض فى صفرة ويقال هذا احسن ألوان النساء ان يكون بيضاء بصفرة والعرب تشبهها ببيض النعامة-.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ اى بعض اهل الجنة عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) عما مضى عليه فى الدنيا حال والجملة معطوفة على يطاف عليهم اى يشربون فيتحادثون على الشراب قال الشاعر وما بقيت من اللذات الا أحاديث الكرام على المدام.
فانه ألذ تلك اللذات الى العقل والتعبير بالماضي للتأكيد.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ اى من اهل الجنة بيان للتساؤل إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) فى الدنيا ينكر البعث قال مجاهد كان شيطانا وقال الآخرون كان من الانس وقال مقاتل كانا أخوين وقال الباقون كانا شريكين أحدهما كافر اسمه مطروس والاخر مؤمن اسمه يهودا وهما الذان قص الله خبرهما فى سورة الكهف واضرب لهم مثل الرجلين.
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) البعث استفهام للتوبيخ.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) مجزيون بعد البعث كرر الاستفهام لغاية الاستبعاد والإنكار.
قالَ
ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) اى اهل النار لاراكم ذلك القرين وقيل القائل هو الله او بعض الملائكة يقول لهم هل تحبون ان تطلعوا على اهل النار لاراكم ذلك القرين ولتعلموا اين منزلتكم من منزلتهم قال ابن عباس ان فى الجنة كوى ينظر أهلها منها الى النار.
فَاطَّلَعَ هذا المؤمن على اهل النار فَرَآهُ اى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) اى وسطه يسمى وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه اخرج هنا وعن ابن مسعود فى الاية قال فاطّلع ثم التفت الى أصحابه فقال رايت جماجم القوم تغلى «الجمجمة كاسه سر- منه ره».
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) قرأ يعقوب بإثبات الياء فى الحالين وورش وصلا فقط والباقون بحذفها فى الحالين يعنى كدتّ لتهلكنى بالإغواء ان مخففة من الثقيلة واللام فارقة.
وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي بالهداية والعصمة لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) معك فى النار.
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى يعنى لسنا ممن شأنه الموت الا التي كانت فى الدنيا فالمستثنى مفرغ منصوب على المصدرية من اسم الفاعل او المعنى فما نحن نموت ابدا الا التي كانت فى الدنيا فالاستثناء منقطع والفاء للعطف على محذوف تقديره أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين والاستفهام للتقرير اى حمل المخاطب على اقرار ما كان ينكره فى الدنيا بقوله اإنّا لمدينون وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له وجاز ان يكون هذا معاودة الى كلامه مع جلسائه تحدثا بنعمة الله وتعجبا منها وتعريضا للقرين بالتوبيخ وقال بعضهم يقول اهل الجنة للملائكة حين تذبح الموت استبشارا وتبجحا أفما نحن بميّتين فيقول الملائكة لا فيقولون.
إِنَّ هذا الخلود فى النعيم لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) ويحتمل ان يكون هذا من كلام الله كقوله تعالى.
لِمِثْلِ هذا المنزل او لمثل هذا النعيم لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام سريعة الزوال فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١).
أَذلِكَ الذي ذكر لاهل الجنة خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) التي هى نزل اهل النار وهى شجرة مرة خبيثة كريهة الطعم يكره اهل النار على تناولها يزقّمونه على أشد كراهية ومنه قولهم تزقّم الطعام إذا تناوله على كره ومشقة وانتصاب نزلا على التميز
والحال وفى ذكره دلالة على ان ما ذكر من النعيم لاهل الجنة بمنزلة ما يقدم للنازل ولهم ما وراء ذلك ما يقصر عنه الافهام وكذلك الزقوم لاهل النار اخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن ابى حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي عن ابن عباس ان رسول الله ﷺ قال لو ان قطرة من الزقوم قطرت فى بحار الدنيا لافسدت على اهل الأرض معاشهم فكيف من يكون طعامه- واخرج عبد الله بن احمد فى زوائد الزهد وابو نعيم عن ابى عمران الخولاني فى شجرة الزقوم قال بلغنا ان ابن آدم لا ينهش منها نهشة الا نهشت منه مثلها.
إِنَّا جَعَلْناها اى شجرة الزقوم فِتْنَةً اى محنة وعذابا فى الاخرة او ابتلاء فى الدنيا لِلظَّالِمِينَ (٦٣) اى الكافرين كانوا يقولون كيف يكون فى النار شجرة والنار تحرق الشجر وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش ان محمدا يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان بربر الزبد والتمر فادخله ابو جهل فى بيته وقال يا جارية زقّمينا فاتتهم بالزبد والتمر فقال تزقموا هذا ما يوعدكم به محمد واخرج ابن جرير عن قتادة قال قال ابو جهل زعم صاحبكم هذا ان فى النار شجرة والنار تأكل الشجر وانّا والله ما نعلم الزقوم الا التمر والزبد فانزل الله حين عجبوا ان يكون فى النار شجرة.
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) اى قعر النار واخرج نحوه عن السدى قال الحسن أصلها فى قعر جهنم وأغصانها ترفع الى دركاتها.
طَلْعُها اى ثمرها سمى طلعا لطلوعه كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) قال ابن عباس هم الشياطين بأعيانهم شبّه بها لقبحه فان الناس إذا وضعوا شيئا بغاية القبح قالوا كانه شيطان وان كانت الشياطين لا ترى لان قبح صورتها يتصور فى النفس وقال بعضهم الشياطين حيات هائلة قبيحة المنظر لها اعراف ولعلها سميت بها لذلك وقيل هى شجرة قبيحة مرة منتنة تكون فى البوادي تسميها العرب رؤس الشياطين.
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها اى من الشجرة او من طلعها الفاء للسببية تعليل لكونه فتنة فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) لغلبة الجوع او الإكراه على أكلها والملأ حشو الإناء بما لا يحتمل المزيد عليه.
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها اى على أكلها بعد ما ملئوا بطونهم وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم ويجوز ان يكون ثم لما فى شرابهم من مزيد الكراهة لَشَوْباً خلطا ومزجا مِنْ حَمِيمٍ
(٦٧) متعلق
بشوبا وحميم ماء حار شديدة الحرارة يعنى يشربون الحميم فيصير فى بطونهم شوبا له.
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) قال البغوي وذلك انهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج من الجحيم كما يورد الإبل الى الماء ثم يردّون الى الجحيم يدل عليه قوله تعالى يطوفون بينها وبين حميم ان وقرأ ابن مسعود انّ مقيلهم لالى الجحيم-.
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا اى وجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) اى يسرعون الجملة فى مقام التعليل اى استحقوا تلك الشدائد تقليدا للاباء فى الضلال مسرعين من غير نظر وبحث.
وَلَقَدْ ضَلَّ عطف على انّهم الفوا قَبْلَهُمْ اى قبل مشركى مكة أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) من الأمم الخالية.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) اى أنبياء انذروهم من العواقب.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) الاستفهام للتعجب والاستعظام والجملة الاستفهامية بتأويل المفرد مفعول لانظر والغرض منه التحقيق اى كان عاقبتهم العذاب فى الدنيا والاخرة.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) استثناء من مضمون الجملة السابقة اى الا الذين تنبهوا بانذارهم فاخلصوا دينهم لله فانهم نجوا من العذاب وقرئ بالفتح اى الذين أخلصهم لدينه- والخطاب مع الرسول ﷺ والمقصود خطاب قومه فانهم ايضا سمعوا اخبارهم وراوا اثارهم- ثم شرع فى تفصيل القصص بعد اجمالها فقال.
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ عطف على قوله ولقد أرسلنا فيهم منذرين من قبيل ذكر الخاص بعد العام يعنى ولقد ضلّ قبلهم قوم نوح فارسلنا فيهم نوحا منذرا فدعاهم الى الإسلام فلم يؤمنوا حتى ايئس من إسلامهم واوحى اليه انّه لن يؤمن من قومك الّا من قدا من فنادانا اى دعانا باهلاك قومه فاجبناه احسن الاجابة فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) اى فو الله لنعم المجيبون نحن فحذف ما حذف لقيام ما يدل عليه.
وَنَجَّيْناهُ عطف على فاجبناه المقدر وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) اى من أذى قومه.
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) يعنى لم يبق لاحد من قومه ذرية الا لنوح اخرج الترمذي وغيره عن سمرة
عن النبي ﷺ فى قوله وجعلنا ذرّيّته هم الباقين قال حام وسام ويافث. واخرج من وجه اخر قال سام ابو العرب وحام ابو الحبش ويافث ابو الروم- روى الضحاك عن ابن عباس انّه لمّا خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه من الرجال والنساء الا ولده «١» ونساؤهم- الظاهر من قصة نوح فى القران انه غرق فى الطوفان كل من كان فى الأرض الا من أمن بنوح وركب السفينة ثم لم يبق لاحد ذرية الا لنوح متناسلين الى يوم القيامة قال سعيد بن المسيب كان ولد نوح ثلاثة سام وحام ويافث فسام ابو العرب والروم والفارس وحام ابو السودان ويافث ابو الترك والخوز ويأجوج وماجوج وما هنالك يعنى وما فى بلاد الشرق من الهند وغير ذلك. قلت وعندى ان نوحا لم يكن مبعوثا الى كافة الناس فان الإرسال الى الناس كافة كان من خصائصه ﷺ بل كان مبعوثا الى قومه خاصة فلم يؤمنوا فدعا عليهم فاهلكوا بالطوفان والمراد بالأرض فى قوله تعالى ربّ لا تذر على الأرض من الكفرين ديّارا ارضه المعهود فعلى هذا الحصر فى هذه الاية إضافي يعنى جعلنا ذرّيته هم الباقين من قومه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) من الأمم هذا الكلام.
سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) جيء به على الحكاية والمعنى يسلمون عليه تسليما ويقولون هذا القول وقيل هو سلام من الله ومفعول تركنا محذوف تقديره تركنا عليه الثناء والذكر الجميل وفى العالمين متعلق بالظرف المستقر اى عليه.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) يعنى انا نجزى كل محسن جزاء كذلك الجزاء او الذي جزينا نوحا بإبقاء الذكر الجميل والسلام قولا من ربّ العلمين.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) يعنى انما جزيناه ذلك الجزاء بايمانه وإحسانه وفيه بشارة للمحسنين من امة محمد صلى عليه وسلم.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) يعنى غير المحسنين من قومه عطف على نجّينا-
(١) قلت الظاهر عندى ان كل من كان فى السفينة كانوا من ذرية نوح عليه السلام عن أولاد سام او حام او يافث فان لبثه فى قومه الف سنة الّا خمسين عامّا يقتضى ان يكون أولاده فى هذه المدة الطويلة كثيرة جدّا فلم يؤمن حام الأشر ذمة قليلة وهم ركبوا السفينة- منه نور الله مرقده
.
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ عطف على قوله انّه من عبادنا المؤمنين يعنى ممن شايعة فى الايمان واصول الدين او فى الفروع ايضا جميعها او أكثرها لَإِبْراهِيمَ (٨٣) وكان بين نوح وابراهيم الفان وست مائة وأربعون سنة وكان بينهما هود وصالح عليهم السلام.
إِذْ جاءَ رَبَّهُ يعنى توجه اليه والظرف متعلق بما فى الشيعة من معنى المشائعة يعنى تابعه وقت مجيئه او بمحذوف وهو اذكر بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٣) من الاشتغال بغير الله تعالى خاليا عن الغير وحبه كما يدل عليه قصة ذبح ابنه لامتثال امر ربه.
إِذْ قالَ بدل من إذ السابقة او ظرف لجاء او لسليم لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) استفهام توبيخ على عبادة الحجارة.
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) هذا الاستفهام ايضا توبيخ بعد توبيخ الهة مفعول به لتريدون ودون الله صفة لالهة وإفكا مفعول له قدم المفعول على الفعل للعناية وقدم عليه المفعول له لان الأهم ان يقرر ان مبنى أمرهم على الافك والباطل وجاز ان يكون إفكا مفعولا به والهة بدل منه على انها افك فى أنفسها مبالغة وان يكون إفكا حالا بمعنى افكين.
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) اى بمن هو حقيق لكونه ربّا للعالمين حتى تركتم عبادته او أشركتم به غيره ءامنتم من عذابه والمعنى انكار ما يوجب الظن فضلا عن موجب القطع الذي يصد عن عبادته او يجوّز الإشراك به او يقضى الامن من عقابه على طريقة الإكرام وهو كالحجة على ما قبله..
فَنَظَرَ عطف على قال نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) اى فى مواقعها واتصالاتها او فى علمها او فى كتابها وهذا يدل على ان النظر فى علم النجوم وتعليمه وتعلمه كان جائزا فى شريعته لكن صار منسوخا فى شريعتنا حيث قال رسول الله ﷺ من اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد- رواه احمد وابو داود وابن ماجة من حديث ابن عباس ورواه رزين وزاد المنجم كاهن والكاهن ساحر والساحر كافر والمعنى ان ثلاثتهم فى الكفر بمنزلة واحدة ويمكن ان يقال انما يحرم النظر فى علم النجوم إذا أسند الحوادث الى الكواكب واما إذا أسندها الى الله سبحانه وجعل اتصالات النجوم علامات حسب جرى عادة الله على خلق بعض الأشياء عند تلك الاتصالات كما ان الله تعالى يخلق الشفاء غالبا عند شرب الدواء
121
ويخلق الموت عند شرب السم ويخلق افعال العباد عند القصد المصمم منهم فلا بأس به- ولعل النبي ﷺ انما نهى عن اقتباس علم النجوم لئلّا يسند الناس الحوادث الى الكواكب عن زيد بن خالد الجهني قال صلى لنا رسول الله ﷺ الصبح بالحديبية على اثر سماء كانت من الليل فلمّا انصرف اقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله اعلم قال قال أصبح من عبادى مؤمن بي وكافر بي فامّا من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب واما من قال مطرنا بنؤ كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب- متفق عليه وعن ابى هريرة عن رسول الله ﷺ قال ما انزل الله من السماء من بركة الا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزّل الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا- رواه مسلم وقد ذكر الامام محمد الغزالي رحمه الله فى كتابه المنقذ من الضلال ان علم الطب والنجوم انزلهما الله تعالى على بعض الأنبياء ثم بقي العلمان بايد الكفرة- ويدل على إفادة علم النجوم علما ظنيا (مثل الطب) اخبار المنجمين فرعون بولادة موسى وزوال ملكه على يديه- وروى البخاري فى الصحيح بسنده عن الزهري انه كان ابن الناطور (صاحب ايليا وهرقل) اسقفا على نصارى الشام «اسقف رئيس دين النصارى وعالمهم- منه ره» يحدث ان هرقل لما قدم ايليا أصبح يوما خبيث النفس فقال بعض بطارقته «هم خواص دولة الروم- منه ره» قد استنكرنا هيئتك (قال ابن الناطور وكان هرقل حزّاء «اى كاهنا- منه» ينظر «١» فى النجوم) فقال لهم حين سالوه انى رايت الليلة حين نظرت فى النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الامة قالوا ليس يختتن الا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب الى مدائن ملكك فليقتل من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم اتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان بخبر عن خبر رسول الله ﷺ فلمّا استخبره هرقل قال اذهبوا فانظروا امختتن هو أم لا فنظروا اليه فحدثوه انه مختتن وساله عن العرب فقال هم يختتنون فقال هرقل ملك هذه الامة قد ظهر ثم كتب هرقل الى صاحب له برويته
(١) ينظر فى النجوم ان جعل خبرا ثانيا فلا بعد لانه كان ينظر فى الامرين. وان جعل تفسيرا للاول فالكهانة تارة يستند الى إلقاء الشياطين وتارة يستفاد من احكام النجوم ١٢ فتح الباري منه رحمه الله-[.....]
122
وكان نظيره فى العلم وسار هرقل الى حمص فلم يرم بحمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأى هرقل على خروج النبي ﷺ وانه نبى. قال الشيخ ابن حجر رواية الزهري موصولة لابن الناطور لا معلقة قد بين ابو نعيم فى دلائل النبوة ان الزهري قال لقيت ابن الناطور بدمشق فى زمن عبد الملك بن مروان وأظنه لم يتحمل عنه ذلك الا بعد ان اسلم فان هذا الحديث وأمثاله يدل على إفادة علم النجوم نوعا من العلم لكن لما كان الاشتغال به موجبا لما ذكرنا من المفسدة وهو اسناد الحوادث الى الكواكب وكان اشتغاله اضاعة للاوقات لكونها غير نافعة فى الدين نهى النبي ﷺ عن الاشتغال به والظاهران الاشتغال بعلم النجوم كان جائزا فى دين عيسى عليه السلام والا لم يشتغل به علماء النصارى والله اعلم.
ومن زعم ان علم النجوم باطل لا اصل له قال ان هذا القول من ابراهيم كان إيهاما منه قال ابن عباس كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروها عليه. وذلك انه أراد ان يكايدهم فى أصنامهم ليلزم الحجة عليهم فى انها غير مستحقة للعبادة وكان لهم من الغد عيد ومجمع فكانوا يدخلون على أصنامهم ويفرشون لهم الفراش ويضعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم الى عيدهم زعموا التبرك عليه فاذا انصرفوا من عيدهم أكلوه وقالوا لابراهيم تخرج غدا هنا الى عيدنا فنظر نظرة فى النّجوم.
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) قال ابن عباس اى مطعون وكانوا يفرون من الطاعون وقال الحسن اى مريض وقال مقاتل وجع فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ لم يكذب ابراهيم الا ثلاث كذبات ثنتين منه فى ذات الله قوله انّى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا الحديث. وذكر الثالث قوله لسارة أختي وقد مر الحديث فى سورة الأنبياء والمراد بالكذبات التعريضات والتّورية قال الضحاك معناه ساسقم وقيل تأويله ان من فى عنقه الموت سقيم ومنه ما قيل ان رجلا مات فجاءة فقالوا مات وهو صحيح فقال أعرابي اصحيح من الموت فى عنقه وقيل أراد إنى سقيم النفس لكفركم وقد ذكرنا تأويلات قوله بل فعله كبيرهم فى سورة الأنبياء.
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)
الى عيدهم فدخل ابراهيم على الأصنام فكسرها كما قال الله تعالى.
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ اى دخل عليها خفية من روغه الثعلب وأصله الميل بحيلة قال البغوي لا يقال راغ حتى يكون صاحبه مخفيا لذهابه ومجيئه فَقالَ ابراهيم استهزاء أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) الطعام الذي بين ايديكم.
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) بجوابى حال والعامل فيه معنى الفعل فى ما لكم اى ما تصنعون حال كونكم غير ناطقين.
فَراغَ عَلَيْهِمْ اى مال عليهم مستخفيّا والتعدية بعلى للاستعلاء ولان المراد الميل المكروه ضَرْباً منصوب على المصدرية لان فى راغ معنى ضرب او بفعل محذوف اى فضرب ضربا بِالْيَمِينِ (٩٣) اى بيد اليمنى لانه أقوى من اليسار وقيل أراد به القسم الذي سبق منه وهو قوله تالله لاكيدنّ أصنامكم بعد ان تولّوا مدبرين-.
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يعنى اقبل قوم ابراهيم اليه بعد ما رجعوا وراوا أصنامهم مكسورة وسالوا عن كاسرها بقولهم من فعل هذا بآلهتنا انّه لمن الظّالمين وظنوا انه هو حيث قالوا سمعنا فتى يّذكرهم يقال له ابراهيم يَزِفُّونَ (٩٤) قرأ الأعمش وحمزة بضم الياء والباقون بفتحها قيل هما لغتان والمعنى يسرعون وقيل معنى يزفّون بالضم يحملون على الزفيف يعنى كان يحمل بعضهم بعضا على الاسراع.
قالَ ابراهيم أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) اى ما تنحتونه عن الأصنام استفهام للانكار والتوبيخ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) الجملة حال من فاعل تعبدون والتقيد بالحال انكار بعد الإنكار والظاهر ان ما مصدرية يعنى والحال ان الله خلقكم وخلق أعمالكم فما لكم تتركون عبادة الخالق وتؤثرون عبادة المحتاج إليكم فهذه الاية حجة لنا على ان افعال العباد مخلوقة لله تعالى- وقالت المعتزلة ما موصولة والمعنى خلقكم وما تعملونه يعنى الأصنام فان جوهرها بخلقه تعالى وشكلها وان كان بفعلهم (ولذلك جعل من أعمالهم) فباقداره إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه من الدواعي والعدد او مصدرية والمعنى عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون- قلنا الوجه هو الاول لان الأخيرين يقتضى الحذف والمجاز ولا شك ان معمولهم ليس الا الشكل دون جوهر الأصنام وعلى التأويلين الأخيرين ايضا يثبت ان الشكل مخلوق لله تعالى ومعمول اى مكسوب للعباد وهو المقصود.
قالُوا فيما بينهم لما عجزوا عن المحاجة ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) اى فى النار الشديدة التأجج كذا فى القاموس واللام بدل الاضافة والجملة معطوفة على جمل محذوفة معطوفة بعضها على بعض تقديره فاملئوه حطبا واضربوه بالنار فاذا التهب القوه فى الجحيم قال مقاتل بنوا له حائطا من الحجر طوله فى السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملئوه من الحطب واوقدوا فيها.
فَأَرادُوا بِهِ اى بإبراهيم عليه السلام كَيْداً اى شرّا وهو ان يحرّقوه كيلا يظهر عجزهم للعامة فطرحوه فيها موثقا يداه ورجلاه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) اى الأذلين بابطال كيدهم وجعله برهانا واضحا على علو شانه حيث جعل النار عليه بردا وسلاما ولم يحرق منه الا وثاقه وكان ذلك بأرض بابل في زمن نمرود الجبار..
وَقالَ ابراهيم حين خرج من النار سالما ولم يؤمنوا به إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي يعنى اهجر دار الكفر واذهب الى حيث اتجرد فيه بعبادة ربى سَيَهْدِينِ (٩٩) عطف على ما يفهم من قوله فجعلناهم الأسفلين يعنى خرج من النار سالما وقال انّى ذاهب الى ربّى سيهدين الى ما فيه صلاح دينى او الى مقصد قصدته حيث أمرني ربى وهو الشام وحينئذ فرّ ابراهيم هاربا مع سارة من ارض بابل من خوف نمرود وكانت سارة من أجمل نساء عصرها ومرّ بحدود مصر وفرعونها يومئذ صادف بن صادف وفى شرح البخاري لابن الملقن اسمه سنان بن علوان أخو الضحاك وقيل اسمه عمرو بن امرأ القيس فغصب سارة من ابراهيم فحمل صادف الجبار سارة الى قصره وجعل الله الجدر والستور لابراهيم كقشر البيضة ينظر إليها كيلا يقيد قلبه إليها وكان رجلا غيورا- فلمّا همّ بها زلزل القصر فلم يدران ذلك من أجلها فتحول الى القصر الثاني فزلزل به فتحول الى القصر الثالث فزلزل به فقالت سارة هذا من الى ابراهيم رد اليه امرأته. وفى رواية فلمّا مدّيده إليها شلت يده فاستغاث صادف بسارة وطلب الدعاء فدعت سارة فعادت اليد كما كانت فمديده إليها ثانية فصارت مشلولة فطلب الدعاء منها ثانيا وعهد ان لا يفعل لهذا الفعل فدعت السارة فمد يده إليها ثالثة
فشلت يده ثالثا وحلف ان عوفى ان لا يفعل ابدا فدعت سارة فصحت يده- وروى احمد فى مسنده والبخاري ومسلم عن ابى هريرة عن النبي ﷺ بينا هو ذات يوم وسارة إذ اتى على جبار من الجبابرة فقيل له ان هاهنا رجل معه امراة من احسن الناس فارسل اليه فساله عنها فقال من هذه قال أختي فاتى سارة فقال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك وان هذا سالنى فاخبرته انك أختي فلا تكذبنى فارسل إليها فلمّا دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فاخذ فقال ادعى الله لى ولا اضرك فدعت الله فاطلق ثم تناولها ثانيا فاخذ مثلها او أشد فقال ادعى الله لى ولا اضرك فدعت الله فاطلق فدعا بعض حجبته فقال انك لم تأتينى بانسان انما أتيتني بشيطان فاخدمها هاجر فاتته وهو قائم يصلى فاومى بيده مهيم قالت رد الله كيد الفاجر فى نحره وأخدمني هاجر- وفى المواهب اللّدنية ان فى رواية صارت يد صادف مغلولة حين مدها الى سارة فاستغاث صادف بإبراهيم عليه السلام فدعا ابراهيم فاطلق الله يده فاعطاه هاجر أم إسماعيل عليه السلام وقال لا سبيل لى الى سارة بعد وكانت هاجر امينة وخازنة وجليسة وقال حين وهبها ما أجرك الخطاب لابراهيم ان وهبها له او لسارة ان وهبها لها فسميت هاجر من ذلك ثم وهبها ابراهيم لسارة طلبا لرضاها فلم يلد سارة قبل ولادة إسماعيل وظنت بها العقم وقالت لابراهيم ان هاجر امراة مرغوبة فقد وهبتها لك لعله يكون لك منها ولد فوطيها فولدت إسماعيل عليه السلام.
قلت وذلك حين دعا ابراهيم ربه وقال.
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) اى هب لى ولدا كائنا من الصالحين قال مقاتل لما قدم الأرض المقدسة سال ربه الولد..
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) يعنى ذا إناءة وعقل كذا فى القاموس يعنى إسماعيل عليه السلام وهو الصحيح واليه ذهب ابن عمر وهو قول سعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومجاهد والربيع بن انس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وهو رواية عن عطاء بن ابى رباح ويوسف بن مامك عن ابن عباس قال المفدى إسماعيل- واخرج الواقدي وابن عساكر من طريق عامر بن سعيد عن أبيه انه كانت سارة تحت ابراهيم فمكثت عنده دهرا لا يرزق ولدا فلمّا رات ذلك وهبت له هاجر امة قبطية فولدت له إسماعيل فغارت من ذلك سارة وقد
126
ذكرنا القصة فى سورة ابراهيم ثم جاء ابراهيم بها وبإسماعيل بمكة وهى ترضعه حتى وضعهما عند البيت كذا فى البخاري وذكرنا حديث البخاري ايضا فى سورة ابراهيم- وقالت اليهود والنصارى الغلام الذي امر ابراهيم بذبحه هو إسحاق وهذا كذب منهم قال البغوي قال محمد بن كعب القرظي سال عمر بن عبد العزيز رجلا من علماء اليهود (وحسن إسلامه) اىّ ابني ابراهيم امر بذبحه فقال إسماعيل ثم قال يا امير المؤمنين ان اليهود يعلم ذلك ولكنهم يحسدون كم يا معشر العرب على ان يكون أباكم الذي كان من امر الله بذبحه ويزعمون انه إسحاق بن ابراهيم ومن الدليل عليه ان قرنى الكبش كانا منوطين فى الكعبة فى يدى بنى إسماعيل الى ان احترقت البيت واحترق القرنان فى ايام ابن الزبير والحجاج- اخرج سعيد بن منصور والبيهقي فى سننه عن امراة من بنى سليم عن عثمان بن طلحة انه كان قرنا الكبش معلقين بالكعبة وقال البغوي قال الشعبي رايت قرنى الكبش منوطين بالكعبة وقال ابن عباس والذي نفسى بيده لقد كان أول الإسلام وان رأس الكبش تعلق بقرنيه وميزاب الكعبة قد وحش يعنى يبس- قال الأصمعي سالت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسماعيل او إسحاق قال يا اصمع اين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة انما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه قال البغوي وكلا القولين يروى عن رسول الله ﷺ قلت وقول البغوي هذا كناية عن انه لم يثبت عن النبي ﷺ فى الباب شىء إذ لو صح أحدهما لم يعتد بقول اخر- وما ذكر البغوي انه ذهب من الصحابة عمر وعلى وابن مسعود وابن عباس ومن التابعين واتباعهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدى وهو رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس الى انه إسحاق- وقال سعيد بن جبير ارى ابراهيم ذبح إسحاق بالشام فساربه مسيرة شهر فى غدوة واحدة حتى اتى به المنحر بمنى فلمّا امره الله بذبح الكبش وذبحه ساربه مسيرة شهر فى روحة واحدة فطويت له الاودية والجبال- فلعل من قال منهم هذا القول اعتمد على اخبار اليهود والله اعلم- والدليل على كون إسماعيل مامورا بذبحه انه هو المولود اولا بعد الهجرة الى الشام اجماعا وقد عطف الله قوله فبشّرناه بغلام حليم على قوله وقال انّى ذاهب الى ربّى سيهدين بالفاء
127
لموضوع للتعقيب بلا تراخ واما إسحاق فقد ولد بعد ذلك بتراخ والمأمور بذبحه انما هو ذلك المبشر به لمّا بلغ معه السعى ولان البشارة بإسحاق بعد ذلك معطوفة على البشارة بهذا الغلام فهو غير ذلك دليل واضح على انه غيره لا يقال ان البشارة التي بعد ذلك المعطوفة انما هى بشارة بنبوة إسحاق لا بولادته كما قيل بشر ابراهيم بإسحاق مرتين مرة بولادته ومرة بنبوته لانه خلاف ظاهر الاية فان الله تعالى قال وبشّرناه بإسحاق نبيّا من الصّالحين يعنى بشرناه بنفس إسحاق حال كونه مقضيا بالنبوة والصلاح ولم يقل بشرناه بنبوة إسحاق وصلاحه والصرف عن الظاهر لا يجوز بلا ضرورة. ولان سارة لمّا بشرت بإسحاق بشرت معه بيعقوب ولدا منه حبث قال الله تعالى فبشّرناها بإسحاق ومن وراء اسحق يعقوب فلا يتصور الأمر بذبحه مراهقا قبل ولادة يعقوب..
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ عطف على جملة محذوفة تقديره فولد له الغلام فلمّا بلغ معه السّعى اى بلغ ان يسعى معه فى اعماله ويعينه وقال الكلبي يعنى العمل لله وهو قول الحسن ومقاتل بن حبان وابن زيد قالوا هو العبادة وقال ابن عباس وقتادة لما بلغ ان يسعى الى الجبل معه وقال مجاهد عن ابن عباس يعنى انه شبّ حتى بلغ سعيه سعى ابراهيم قيل كان سنه ثلاث عشرة سنة وقيل سبع سنين- والظرف اعنى معه متعلق بمحذوف دل عليه السعى لا به لان صلة المصدر لا يتقدمه ولا ببلغ فان بلوغهما لم يكن معا كانّه قال فلمّا بلغ السعى فقيل مع من فقيل معه كذا قيل والاولى ان يقال انه ظرف مستقر حال من السعى قالَ يا بُنَيَّ قرأ حفص بفتح الياء إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل انه راى ذلك ويحتمل انه راى ما هو تعبيره قال محمد بن إسحاق كان ابراهيم إذا زاد هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت بالشام حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعى وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته امر فى المنام ان يذبحه وذلك انه راى ليلة التروية كانّ قائلا يقول له ان الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلمّا أصبح روّى فى نفسه اى فكر من الصباح الى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمى يوم التروية فلما امسى راى فى المنام ثانيا
فلما أصبح عرف ان ذلك من الله فمن ثم سمى عرفة كذا اخرج البيهقي فى شعب الايمان من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال ابن إسحاق وغيره فلمّا امر ابراهيم بذبح ابنه قال لابنه خذ الحبل والمدينة ينطلق الى هذا الشعب نحتطب فلمّا خلا ابراهيم بابنه فى شعب ثبير أخبره بما امر به قال مقاتل راى فى المنام ثلاث ليال متتابعات فلما تيقن ذلك اخبر به ابنه انّى ارى فى المنام انّى أذبحك- وقال السدىّ لمّا دعا ابراهيم فقال ربّ هب لى من الصّالحين وبشر به قال هو إذا لله ذبيح فلمّا ولد وبلغ معه السّعى قيل له يعنى من الله أوف بنذرك هذا هو السبب فى امر الله بذبح ابنه. وهذا القول ينافى الابتلاء قال البغوي انه قال ابراهيم لاسماعيل انطلق نقرب قربانا لله عزّ وجلّ فاخذ سكينا وحبلا فانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال فقال الغلام يا أبت اين قربانك قال يا بنىّ انّى ارى فى المنام انّى أذبحك قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو «وابو جعفر- ابو محمد» بفتح ياء المتكلم فى انّى ارى وانّى أذبحك والباقون بإسكانها فيهما فَانْظُرْ ماذا تَرى قرأ حمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» بضم التاء وكسر الراء من الافعال من الرأى لا من الرؤية اى ماذا تشير وانما استشاره ليعلم صبره على امر الله وعزيمته على طاعته والباقون بفتح التاء والراء وابو عمرو «وورش يقلله- ابو محمد» يميل فتحة الراء قالَ إسماعيل يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ اى ما تؤمر به فحذفا دفعة او على الترتيب او افعل أمرك اى مأمورك والاضافة الى المأمور وهذا يدل على ان روياء الأنبياء وحي واجب الامتثال وقد روى عبد بن حميد عن قتادة ان رؤيا الأنبياء وحي وروى البخاري فى الصحيح عن ابى سعيد الخدري ومسلم عن ابن عمرو ابى هريرة واحمد وابن ماجة عن ابى رزين والطبراني عن ابن مسعود مرفوعا الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة- ولا شك ان رؤيا الأنبياء كلما صالحة لا يحتمل الفساد واما رؤيا غيرهم فمنها صالحة ومنها دون ذلك سَتَجِدُنِي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) على الذبح..
فَلَمَّا أَسْلَما اى استسلما وانقادا وخضعا لامر الله وقال قتادة اى اسلم ابراهيم ابنه واسلم ابنه نفسه وَتَلَّهُ اى صرعه على الأرض لِلْجَبِينِ (١٠٣) قال ابن عباس
129
أضجعه على جنبه على الأرض والجبهة بين الجنبين وكان ذلك عند الصخرة بمنى أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم والحاكم عن ابن عباس واخرج البغوي عن عطاء بن السائب عن رجل من قريش عن أبيه عن النبي ﷺ انه بالمنحر الذي ينحر فيه اليوم- قال البغوي قالوا قال له ابنه يا أبت اشدد رباطى حتى لا اضطرب واكفف عنّى ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمى شىء فينقص اجرى وتراه أمي فتحزن واستحد شفرتك واسرع مر السكين على حلقى ليكون أهون علىّ فان الموت شديد وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام منى وان رايت ان ترد قميصى على أمي فافعل فانه عسى ان يكون اسلى لها قال ابراهيم عليهما السلام نعم العون أنت يا نبى على امر الله ففعل ابراهيم ما قال له ابنه ثم اقبل عليه وقبله وربطه وهو يبكى ثم انه وضع السكين على حلقه فلم يحك السكين وروى انه كان يمرّ الشفرة على حلقه ولا يقطع فشحذه مرتين او ثلاثا بالحجر كل ذلك لا يقطع- اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن السدىّ انه امرّ السكين بقوّته على حلقه مرارا فلم يقطع وضرب الله على حلقه صفحة من نحاس قالوا فقال الابن عند ذلك يا أبت كبنى بوجهي على جنبى فانك إذا نظرت فى وجهى رحمتنى وأدركتك رقة تحول بينك وبين امر الله وانى لا انظر الى الشفرة فاجزع ففعل ذلك ابراهيم ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين- واخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن مجاهد ايضا ان ابراهيم كبّه على وجهه- وروى ابو هريرة عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله لمّا أراد ابراهيم ذبح ابنه قال الشيطان لان لم افتن عند هذا ال ابراهيم لا افتن منهم أحدا ابدا فتمثل الشيطان رجلا فاتى أم الغلام فقال لها هل تدرين اين ذهب ابراهيم بابنك قالت ذهبا يحتطبان من هذا الشعب قال لا والله ما ذهب به الا ليذبحه قالت لا هو ارحم به وأشد حبا له من ذلك قال انه يزعم ان الله امره بذلك قالت فان كان ربه امره بذلك فقد احسن ان يطيع ربه فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشى على اثر أبيه
130
فقال يا غلام هل تدرى اين يذهب بك أبوك قال نحتطب لاهلنا من هذا الشعب قال لا والله ما يريد الا ان يذبحك قال ولم قال يزعم ان ربه امره بذلك قال فليفعل ما امر به ربّه سمعا وطاعة فلما امتنع منه الغلام اقبل على ابراهيم فقال له اين تريد ايها الشيخ قال أريد هذا الشعب لحاجة لما فيه قال والله انى لارى ان الشيطان قد جاءك فى منامك فامرك بذبح ابنك هذا فعرفه ابراهيم فقال إليك عنى يا عدو الله فو الله لامضينّ لامر ربى فرجع إبليس بغيظه ولم يصب من ابراهيم واله شيئا ممّا أراد وامتنعوا منه بعون الله عزّ وجلّ وروى ابو الطفيل عن ابن عباس ان ابراهيم لما امر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر سابقة فسبقه ابراهيم ثم ذهب الجمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أدركه عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم ادكه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى ابراهيم لامر الله عزّ وجلّ وثلّه للجبين-.
وَنادَيْناهُ قال البغوي الواو زائدة ونادينه جواب لمّا وقال البيضاوي جواب لمّا محذوف تقديره كان ما كان فما ينطق به الحال ولا يحيط به المقال من استبشارهما وشكرهما لله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله واظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب الجزيل الى غير ذلك قلت وجاز ان يكون الواو للعطف على جواب لمّا المحذوف تقديره فلمّا أسلما وتلّه للجبين منعنا عنه الذبح وناديناه أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) ان مفسرة لنا دينا.
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا حيث أتيت من الفعل ما كان مقدورا لك والمطلوب من التكليف والابتلاء هو الإتيان بالمقدور لا غير وقيل كان راى فى المنام معالجة الذبح ولم ير اراقة الدم وقد فعل فى اليقظة ما راى فى النوم وعلى هذا قد صدّقت الرّؤيا حقيقة فى معناه وعلى الاول مجاز فان قيل على التقدير الثالث الم يكن ذبح الولد عليه واجبا وانما كان الواجب عليه معالجة اسباب الذبح فما معنى قوله وفديناه فان الفداء لا يتصور الا بعد الوجوب قلنا على التقدير الثاني إذا كان معالجة الذبح واجبا أصالة صار الذبح واجبا دلالة لكونه لازما له
عادة فصح اطلاق الفداء عليه وهذا نسخ للحكم قبل القدرة على إتيانه إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) تعليل لفرج تلك الشدة عنهما باحسانهما يعنى انا نجزى المحسنين بإحسانهم جزاء مثل ما جزينا ابراهيم وعفوناه عن ذبح الولد مع ما أعطيناه من الثواب العظيم وفضلناه به على العالمين.
إِنَّ هذا اى الأمر بتذبيح ابنه لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) اى الاختبار الظاهر الذي به يتبين المخلص من غيره او المحنة والصعوبة البينة فانه لا أصعب منها وقيل المراد بالبلاء هو النعمة وهى ان فدى ابنه بالكبش-.
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عطف على نادينا روى انه لمّا سمع ابراهيم النداء نظر الى السماء فاذا هو بجبرئيل ومعه كبش أملح اقرن وقال هذا فداء لابنك فاذبحه دونه فكبر جبرئيل وكبر الكبش وكبر ابراهيم وكبر ابنه فاخذ ابراهيم الكبش واتى المنحر من منى فذبحه والفادي على الحقيقة ابراهيم وانما قال وفديناه لانه المعطى له والأمر به على التجوز فى الفداء او الاسناد عَظِيمٍ (١٠٧) اى عظيم الجثة سمين او عظيم القدر فى الثواب وقال الحسين بن الفضل لانه كان من عند الله قال سعيد بن جبير حق له ان يكون عظيما وقال مجاهد سماه عظيما لانه متقبل- قال البغوي قال اكثر المفسرين كان ذلك فى الجنة أربعين خريفا وأخرجه ابن ابى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وروى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان الكبش الذي ذبحه ابراهيم هو الذي كان قربه ابن آدم هابيل- استدل الحنفية بهذه الاية على انه من نذر بذبح ولده لزمه ذبح شاة قال البيضاوي وليس فيها ما يدل عليه قلت قد ذكرنا المسألة فى سورة الحج فى تفسير قوله تعالى وليوفوا نذورهم «١» وذكرنا ان القياس يقتضى ان لا يلزمه شىء لانه نذر بالمعصية وبه قال ابو يوسف لكن استحسن ابو حنيفة انه يلزمه شاة لان الحقيقة إذا كانت مهجورة شرعا تعين المجاز فلما نذر بذبح الولد مملناه على التزامه بدله اعنى الشاة بدليل هذه الاية حيث جعل الله تعالى كبشا فداء لابن ابراهيم عليهما السلام وبه افتى ابن عباس كما ذكرنا هناك.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ اى على ابراهيم عطف على صدر القصة يعنى جاء ربّه بقلب سليم
(١) وفى الأصل نذوركم ١٢
وجاز ان يكون عطفا على فديناه فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) من الأمم الثناء والذكر حذف المفعول لدلالة سياق الكلام وجاز ان يكون قوله.
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) بتقدير هذا القول مفعولا لتركنا.
كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) تعليل للسلام ولعله طرح عنه انا اكتفاء بذكره مرة فى هذه القصة.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ اى بان نهب لك ولذلك سمى إسحاق نَبِيًّا اى مقضيا نبوته مقدرا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا يقدح فيه عدم المبشر به وقت البشارة فان وجود ذى الحال ليس بشرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار المعنى بالحال فلا حاجة الى تقدير المضاف يجعل عاملا فيهما مثل وبشّرناه بوجود إسحاق اى بان يوجد إسحاق نبيّا من الصالحين ومع ذلك لا يصير نظير قوله تعالى فادخلوها خالدين فان الداخلين مقدرون خلودهم وقت الدخول وإسحاق لم يكن مقدّرا نبوة نفسه وصلاحه حيث ما يوجد- وفى ذكر الصلاح بعد النبوة ثناء عليه وتعظيم لشأنه وايماء بانه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإطلاق.
وَبارَكْنا عَلَيْهِ اى أفضنا بركات الدين والدنيا عليه وقيل باركنا اى على ابراهيم فى أولاده وَعَلى إِسْحاقَ بكون الف بنى من نسله أولهم يعقوب وآخرهم عيسى وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ فى عمله او على نفسه بالايمان والطاعة وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر والمعاصي مُبِينٌ (١١٣) ظاهر ظلمه وفى ذلك تنبيه على ان النسب لا اثر له فى الهدى والضلال وان الظلم فى اعقابهما لا يضرهما-.
وَلَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) عطف على ولقد نادينا نوح وبينهما معترضات.
وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما بنى إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) اى من فرعون يسومهم سوء العذاب وقيل من الغرق.
وَنَصَرْناهُمْ يعنى موسى وقومه فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) على فرعون وقومه.
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ اى التوراة الْمُسْتَبِينَ (١١٧) البالغ فى بيان احكام الله وشرائعه.
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) الطريق
الموصل الى الحق والصواب لمن يسلكه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) سبق مثل ذلك-.
وَإِنَّ إِلْياسَ قرأ ابن ذكوان برواية النقاش عن الأخفش بحذف الهمزة والباقون بتحقيقها لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) عطف على ولقد مننّا روى عن عبد الله ابن مسعود قال الياس هو الادريس وفى مصحفه انّ إدريس لمن المرسلين وهذا قول عكرمة وقال الآخرون هو نبى من أنبياء بنى إسرائيل قال ابن عباس هو ابن عم اليسع وقال محمد بن إسحاق هو الياس بن بشر بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران عليه السلام وقال ايضا محمد بن إسحاق والعلماء من اصحاب الاخبار لمّا قبض الله عزّ وجلّ قبله نبيّا عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل وظهر الشرك ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله فبعث الله إليهم الياس نبيّا وكانت الأنبياء من بنى إسرائيل يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة- وبنوا إسرائيل كانوا متفرقين فى ارض الشام وكان سبب ذلك ان يوشع بن نون لمّا فتح الشام بوأها بنى إسرائيل وقسمها بينهم فاحل سبطا منهم بعلبك ونواحيها وهم الذين كان منهم الياس فبعثه الله إليهم نبيّا وعليهم يومئذ ملك يقال له أجب فداخل قومه واجبرهم على عبادة الأصنام وكان يعبد صنما يقال له بعل وكان طوله عشرون ذراعا ولها اربعة وجوه- فجعل الياس يدعوهم الى عبادة الله عزّ وجلّ وهم لا يسمعون منه شيئا الا ما كان من امر الملك فانه صدقه وأمن به فكان الياس يقوّم امره ويسدّده ويرشده- وكانت لاجب امراة يقال لها ازبيل فكان يستخلفها على رعيته إذا كان غائبا فى غزاة وغيرها وكانت تبرز وتقضى للناس وكانت قتّالة للانبياء يقال هى التي قتل يحيى بن زكريا عليهما السلام- وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتم إيمانه وكان قد خلص من يدها ثلاث مائة نبى كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قتلتهم وكانت فى نفسها غير محصنة وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بنى إسرائيل وقتلت كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال انها ولدت سبعين ولدا
134
وكان لاجب هذا جار رجل صالح يقال له مزدكى وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ومرمتها وكانت الجنينة الى جانب قصر الملك وامرأته وكانا يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويغسلان فيها وكان أجب الملك يحسن جوار صاحبه مزدكى ويحسن اليه وامرأته ازبيل تحسده لاجل تلك الجنينة وتحتال ان تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها وتحتال ان تقتله والملك ينهاها من ذلك فلم تجد اليه سبيلا- ثم انه اتفق خروج الملك الى سفر بعيد فطالت غيبته فاغتنمت امرأته ازبيل وأمرت رجالا يشهدوا على مزدكى انه سبّ زوجها أجب فاجابوها اليه وكان فى حكمهم فى ذلك الزمان القتل على من سب الملك فاقامت عليه البينة وأحضرت مزدكى وقالت بلغني انك شتمت الملك فانكر المزدكى وأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور فامرت بقتله وأخذت جنينته فغضب الله عزّ وجلّ عليهم للعبد الصالح فلمّا قدم الملك من سفره أخبرته الخبر فقال ما أحسنت ولا أرانا نفلح بعده فقد جاورنا منذ زمان واحسنّا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا فختمت امره بأسوإ الجوار قالت انما غضبت لك وحكمت بحكمك فقال لها ما كان يسعه حلمك فتحفظين له حواره قالت قد كانت ما كانت- فبعث الله الياس الى أجب الملك وقومه فامره ان يخبرهم ان الله قد غضب لوليه حين قتلوه ظلما والى على نفسه انهما ان لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردا الجنينة الى ورثة المزدكى ان يهلكهما يعنى أجب وامرأته فى جوف الجنينة ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى يتعرى عظامهما من لحومهما ولا يتمتعان بهما الا قليلا قال فجاء الياس فاخبره بما اوحى الله اليه فى امره وامر امرأته برد الجنينة فلمّا سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له يا الياس ما ارى ما تدعو اليه الا باطلا وما ارى فلانا وفلانا (سمى ملوكا منهم) قد عبدوا الأوثان الا على مثل ما نحن عليه يأكلون ويتنعمون مملكين ما ينقص من دنياهم أمرهم الذي تزعم انه باطل وما نرى لنا عليهم من فضل- قال وهمَّ الملك بتعذيب الياس وقتله فلما احسّ الياس الشرّ رفضه وخرج عنه ولحق بشواهق الجبال وعاد
الملك الى عبادة البعل وارتقى الياس الى أصعب جبل وأشمخه «الشامخ العالي- منه ره» فدخل مغارة فيه يقال انه بقي
135
سبع سنين شريدا خائفا يأوى الى الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم فى طلبه وقد وضعوا عليه العيون والله يستره- فلمّا تم سبع سنين اذن الله فى إظهاره وشفاء غيظه منهم فامرض الله عزّ وجلّ ابنا لاجب وكان ذلك أحب ولده اليه وأشبههم به فادنف «يعنى مرض شديدا لازما- منه ره» حتى يئس منه فدعا صنمه بعلا وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه حتى جعلوا له اربع مائة سادن فوكلوهم به وجعلوهم أنبياء وكان الشيطان يدخل فى جوف الصنم فيتكلم والأربع مائة يصغون بآذانهم الى ما يقول الشيطان ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيبينونها للناس فيعلمون بها ويسمونهم أنبياء- فلما اشتد مرض ابن الملك طلب إليهم الملك ان يتشفعوا الى بعل ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء فدعوه فلم يجبهم ومنع الله الشيطان فلم يمكنه الولوج فى جوفه وهم مجتهدون فى التضرع اليه- فلمّا طال عليهم ذلك قالوا لاجب ان فى ناحية الشام الهة اخرى فابعث إليها أنبياءك فلعلها تشفع لك الى إلهك بعل فانه غضبان عليك ولولا غضبه عليك لاجابك قال ومن أجل ماذا غضب علىّ وانا أطيعه قالوا من أجل انك لم تقتل الياس وفرطتّ فيه حتى نجا سليما وهو كافر بإلهك قال أجب وكيف لى ان اقتل الياس وانا مشغول عن طلبه لوجع ابني وليس لالياس مطلب ولا يعرف له موضع فيقصد فلو عوفى ابني لفرغت لطلبه حتى أجده فاقتله فارضى الهى- ثم انه بعث أنبياءه الأربع مائة الى الالهة التي بالشام يسئلونها ان تشفع الى صنم الملك يشفى ابنه فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه اليأس اوحى الله اليه ان يهبط من الجبل ويعارضهم ويكلمهم وقال له لا تخف فانى ساصرف عنك شرهم والقى الرعب فى قلوبهم فنزل الياس من الجبل فلما لقيهم استوقفهم فلما وقفوا قال لهم ان الله عزّ وجلّ أرسلني إليكم والى من ورائكم فاستمعوا ايها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم فارجعوا اليه وقولوا ان الله يقول الست تعلم يا أجب انى انا الله لا اله الا انا اله بنى إسرائيل الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم وقلة عملك حملك على ان تشرك بي وتطلب الشفاء لابنك من غيرى ممن لا يملكون لانفسهم شيئا الا ما شئت انى حلفت باسمي لاغضبنك فى ابنك ولاميتنه
136
فى فوره غدا حتى تعلم ان أحدا لا يملك له شيئا دونى فلمّا قال لهم هذا رجعوا وقد ملئوا منه رعبا- فلما صاروا الى الملك اخبروه بان الياس قد انحط عليهم وهو رجل نحيف طوال قد نحل وتمعط شعره واقشعر جلده عليه جبة من شعر وعباءة قد خللها على صدره «نحل جسمه نحولا ذهب من مرض او سفر قاموس منه ره» بخلال فاستوقفنا فلمّا صار معنا قذف له فى قلوبنا الهيبة والرعب وانقطعت ألسنتنا ونحن فى هذا العدد الكثير فلم نقدر ان نكلمه ونراجعه حتى رجعنا إليك وقصوا عليه كلام الياس- فقال أجب لاننتفع بالحياة ما كان الياس حيّا ولا يطاق الا بالمكر والخديعة فقيض له خمسين رجلا من قومه ذوى القوة والبأس وعهد إليهم عهده وأمرهم بالاحتيال له والاغتيال «القتل بالخديعة- منه ره» له وان يطمعوه فى انهم قد أمنوا به هم ومن وراء هم ليستنيم إليهم و «اى يسكن وإليهم يطمئن قاموس منه ره» يغتر بهم فيمكنهم من نفسه فيأتون به ملكهم فانطلقوا حتى ارتفعوا ذلك الجبل الذي يسكن فيه الياس ثم تفرقوا فيه ينادونه بأعلى أصواتهم ويقولون يا نبى الله ابرز إلينا وامتن علينا بنفسك فانا قد أمنا بك وصدقناك وملكنا أجب وجميع الناس وأنت أمن على نفسك وجميع بنى إسرائيل يقرءون عليك السلام ويقولون قد بلغتنا رسالتك وعرفنا ما قلت فامنّا بك وأجبناك الى ما دعوتنا فهلم إلينا فاقم بين أظهرنا واحكم فينا فننقاد لما امرتنا وننتهى عما نهيتنا وليس يسعك ان تتخلف عنا مع أيماننا بك وطاعتنا فارجع إلينا- وكل هذا منهم مما كرة وخديعة فلمّا سمع الياس مقالتهم وقع فى قلبه وطمع فى ايمانهم وخاف الله ان هو لم
يظهر لهم فالهمه الله التوقف والدعاء فقال اللهم ان كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لى فى البروز إليهم وان كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم فما استتم قوله حتى حصبوا بالنار «اى رموا بها- منه ره» من فوقهم فاحترقوا أجمعين قال فبلغ أجب وقومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء «اى لم يكف ولم يرد- منه ره» واحتال ثانيا فى امر الياس وقيض اليه فئة اخرى مثل عددهم أولئك أقوى منهم وأمكن فى الحيلة والرأى فاقبلوا حتى توقلوا «اى صعدوا» قلل الجبال متفرقين وجعلوا ينادون يا نبى الله انّا نعوذ بالله بك من غضب الله وسطواته «السطوة البطش والقهر قاموس منه ره» انا لسنا كالذين أتوك قبلنا وان أولئك فرقة نافقوا
137
فصاروا إليك ليكيدوا من غير رأينا ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤنتهم فالان قد كفاك ربك أمرهم واهلكهم وانتقم لنا ولك منهم- فلمّا سمع الياس مقالتهم دعى الله بدعوته الاولى فامطر عليهم النار فاحترقوا عن آخرهم وفى كل ذلك ابن الملك فى البلاء الشديد من وجعه- فلمّا سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا ازداد غضبا الى غضب وأراد ان يخرج الى طلب الياس بنفسه الا انه شغله من ذلك مرض ابنه فلم يمكنه فوجه نحو الياس المؤمن الذي هو كاتب امرأته رجاء ان يأنس به الياس فينزل معه واظهر للكاتب انه لا يريد بالياس سوء او انما اظهر له لما اطلع عليه من إيمانه وكان الملك مع اطلاعه على إيمانه مثنيا عليه لما هو عليه من الكفاية والامانة وسداد الرأى- فلمّا وجهه نحوه أرسل معه فئة واوغر «من التوغير اى الإغراء بالحقد- منه ره» الى الفئة دون الكاتب ان يوثقوا الياس ويأتوه به ان أراد التخلف عنهم وان جاء مع الكاتب واثقا به لم يروّعوه «الروع الفزع- منه ره» ثم اظهر مع الكاتب الانابة وقد قال له انه قد ان لى وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا والبلاء الذي فيه ابني وقد عرفت ان ذلك بدعوة الياس ولست أمنا ان يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته فانطلق اليه وأخبره انا قد تبنا وأنبنا وانه لا يصلحنا فى توبتنا وما نريد من رضاء ربنا وخلع أصنامنا الا ان يكون الياس بين أظهرنا يأمرنا وينهانا ويخبرنا بما يرضى ربنا- وامر قومه فاعتزلوا وقالوا له اخبر الياس انا قد خلعنا الهتنا التي كنا نعبد وارخينا أمرها حتى ينزل الياس فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها وكان ذلك مكرا من الملك- فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه الياس ثم ناداه فعرف الياس صوته فتاقت نفسه اليه «اى اشتاقت منه ره» وكان مشتاقا الى لقائه فاوحى الله اليه ان ابرز الى أخيك الصالح فالقه وجدد العهد به فبرز اليه وسلم عليه وصافحه فقال له ما لخبر فقال له المؤمن انه قد بعثني إليك هذا الجبار الطاغي وقومه ثم قص عليه ما قالوا ثم قال له وانى خائف ان رجعت اليه ولست معى ان يقتلنى فمرنى بما شئت افعله ان شئت انقطعت إليك وكنت معك وتركته وان شئت جاهدته معك وان
138
شئت ترسلنى اليه بما تحبّ فابلّغه رسالتك وان شئت دعوت ربّك ان يجعل لنا من أمرنا خرجا ومخرجا- فاوحى الله الى الياس ان كل شىء جاءك منهم مكر وخديعة وكذب ليظفروا بك وانّ أجب الملك ان أخبرته رسله انك لقد لفيت لهذا الرجل ولم يأت بك اتهمه وعرف انه قد واهن فى أمرك فلم يؤمن ان يقتله فانطلق معه وانى ساشغل عنكما أجب فاضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له هم غيره ثم أميته على شر حال فاذا مات هو فارجع منه قال فانطلق معهم حتى قدموا على أجب فلما قدموا شدّد الله الوجع على ابنه وأخذ الموت بكظمه «الكظم محركة الحلق او الضم او مخرج النفس- قاموس منه ره» فشغل الله بذلك أجب وأصحابه عن الياس فرجع الياس سالما الى مكانه- فلمّا مات ابن أجب وفرغوا من امره وقلّ جزعه انتبه لالياس وسال عنه الكاتب الذي جاء به فقال ليس لى به شغلنى عنه موت ابنك والجزع عليه ولم أكن أحسبك الا وقد استوثقت منه فاضرب عنه أجب وتركه لما فيه من الحزن على ابنه.
فلمّا طال الأمر على الياس ومد الكون فى الجبال واشتاق الى الناس نزل من الجبل وانطلق حتى نزل بامراة من بنى إسرائيل وهى أم يونس بن متى ذى النون استخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود مرضع فكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها «اى تخدمه بما لها- منه ره» - ثم ان الياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال فاحب اللحوق بالجبل فخرج وعاد الى مكانه فجزعت أم يونس لفراقه وأوحشها فقده ثم لم تلبث الا يسيرا حتى مات ابنها يونس حين فطمته فعظمت مصيبتها فخرجت فى طلب الياس ولم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ووجدته وقالت له انى قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتى واشتد لفقده بلائي وليس لى ولد غيره فارحمنى وادع الله جلّ جلاله ليحيى لى ابني وانى تركته مسبّحى لم ادفنه قد أخفيت مكانه- فقال لها الياس ليس هذا مما أمرت به وانّما انا عبد مأمورا عمل بما يأمرنى ربى فجزعت المرأة وتضرعت واعطف الله قلب الياس إليها فقال لها متى مات ابنك قالت مند سبعة ايام فانطلق الياس معها وسار سبعة ايام اخرى حتى انتهى الى منزلها فوجد ابنها ميتا له اربعة عشر يوما
139
فتوضأ وصلى ودعا فأحيى الله يونس بن متى فلمّا عاش وجلس وثب الياس وتركه وعاد الى موضعه- فلمّا طال عصيان قومه ضاق الياس بذلك ذرعا فاوحى الله اليه سبع سنين وهو خائف مجهود فنادى الله الياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه الست أمينا على وحيي وحجتى فى ارضى وصفوتى فى خلقى فاسئلنى أعطيك فانى ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم قال الياس فان تميتنى فتلحقنى بآبائي فقد مللت بنى إسرائيل وملونى فاوحى الله اليه يا الياس ما هذا باليوم الذي اعرى عنك الأرض وأهلها وانما قوامها وصلاحها بك واشباهك وان كنتم قليل ولكن سلنى فاعطيك قال الياس فان لم تمتنى فاعطنى ثارى من بنى إسرائيل قال الله عزّ وجلّ واىّ شىء تريد ان أعطيك قال تمكننى من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشر عليهم سحابة الا بدعوتي ولا تمطر عليهم قطرة الا بشفاعتى فانه لا تذلهم الا ذلك قال الله عز وجل يا الياس انا ارحم بخلقي من ذلك وان كانوا ظالمين قال فست سنين قال انا ارحم بخلقي من ذلك قال فخمس سنين قال انا ارحم بخلقي من ذلك ولكنى أعطيك ثارك ثلاث سنين اجعل خزائن المطر بيدك قال الياس باىّ شىء اعيش قال أسخر لك جيشا من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف «ارض فيها زرع ونخل- منه ره» والأرض التي لم تقحط قال الياس قد رضيت- قال وامسك الله عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر وجهد الناس جهدا شديدا والياس على حالته مستخف من قومه يوضع الرزق حيث ما كان وقد عرف ذلك قومه وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز فى بيت قالوا لقد دخل الياس هذا المكان فطلبوه ولقى منهم اهل ذلك المنزل شرّا قال ابن عباس أصاب بنى إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر الياس بعجوز فقال لها هل عندك طعام قالت نعم لشيء من دقيق وزيت قليل قال فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسه حتى ملا جرابها دقيقا وملأ خوابيها زيتا فلمّا راوا ذلك عندها قالوا من اين لك هذا قالت مربى رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته فعرفوه قالوا ذلك الياس فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ثم انه أوى الى بيت امراة من بنى إسرائيل لها ابن يقال لها اليسع بن أخطوب به
140
ضرّ فاوته وأخفته فدعا له فعوفى من الضر الذي كان به واتبع اليسع الياس وأمن به وصدقه ولزمه وكان يذهب حيث ما ذهب وكان الياس قد اسنّ وكبر واليسع غلام شابّ.
ثم ان الله تعالى اوحى الى الياس انك قد أهلكت كثيرا من الخلق فمن لم يعص من البهائم والدوابّ والطير والهوام لحبس المطر- فيزعمون والله اعلم ان الياس قال يا رب دعنى أكون انا الذي ادعو لهم وآتاهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم ان يرجعوا او ينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك فقيل له نعم- فجاء الياس الى بنى إسرائيل فقال انكم قد هلكتم جوعا وجهدا وهلكت البهائم والطير والدوابّ والهوام والشجر بخطاياكم وانكم على باطل فان كنتم تحبون ان تعلموا ذلك فاخرجوا باصنامكم علىّ فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون وان هى لم تفعل علمتم انكم على باطل فنزعتم ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قالوا أنصفت فخرجوا باوثانهم فدعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ثم قالوا لالياس انا قد أهلكنا فادع الله لنا فدعا لهم الياس ومعه اليسع بالفرج فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فاقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله عليهم المطر فاغاثهم وحييت بلادهم فلمّا كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد ولم ينزعوا عن كفرهم فاقاموا على أخبث ما كانوا.
فلمّا راى ذلك الياس دعا ربه تعالى ان يريحه منهم فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه الى موضع كذا وكذا فما جاءك من شىء فاركبه ولا تهبه فخرج الياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي امر به اقبل فرس من نار وقيل لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فوثب عليه الياس فانطلق به الفرس- فناداه اليسع يا الياس ما تأمرنى به فقذف اليه الياس بكسائه من الجوّ الأعلى وكان ذلك علامة استخلافه إياه على بنى إسرائيل فكان ذلك اخر العهد به ورفع الله اليأس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسيا ملكيّا سماويّا ارضيّا وسلط الله على أجب الملك وقومه عدو الهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم فقتل أجب وامرأته ازبيل فى بستان مزدكى فلم يزل جيفتاهما ملقاتين فى تلك الجنينة
141
حتى بليت لحومهما ورمّت عظامها- ونبّا الله اليسع وبعثه رسولا الى بنى إسرائيل واوحى اليه فامنت به بنوا إسرائيل وكانوا يعظمونه وحكم فيهم قائم الى ان فارقهم اليسع روى السرى بن يحيى عن عبد العزيز عن ابى الرداد قال الياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم فى كل عام وقيل ان الياس مؤكل فى الفيافي والخضر مؤكل بالبحار هكذا ذكر البغوي فى تفسير قوله تعالى وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ-.
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) عذاب الله.
أَتَدْعُونَ تعبدون بَعْلًا اسم صنم كانوا يعبدونها سميت بها مدينتهم بعلبك وقال مجاهد وعكرمة وقتادة البعل الرب بلغة اهل اليمن وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) فلا تعبدونه وجملة اتدعون الى آخره بيان او بدل لما قبله.
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص «وخلف- ابو محمد» بالنصب على البدل والباقون بالرفع على الاستئناف.
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) فى العذاب وانما اطلق اكتفاء بالقرينة او لان الإحضار المطلق مخصوص بالشرّ عرفا.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) مستثنى من فاعل كذّبوه لا من المحضرين لفساد المعنى وقيل استثناء منقطع او متصل من المحضرين ان كان المحضرين من قبيل توصيف الكل بوصف البعض كما فى قوله تعالى ايّتها العير انّكم لسارقون فحينئذ يكون شاملا للمستثنى منه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) لغة فى الياس كسيناء وسينين وإسماعيل وسمعين وميكائيل وميكائين وقال الفراء هو جمع أراد الياس واتباعه من المؤمنين فيكون بمنزلة الأشعريين والأعجمين بالتخفيف لكن فيه ان العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام وقرا نافع وابن عامر «ويعقوب- وابو محمد» ال ياسين بفتح الهمزة شبعة وكسر اللام مقطوعة لانها فى المصحف مفصولة فيكون ياسين أبا الياس وجاز ان يكون ياسين اسما لالياس والمراد بال ياسين هو واتباعه- وما قيل ان ياسين محمد ﷺ او القران او غيره من الكتب السماوية لا يناسب نظم سائر القصص وما قبله وما بعده من قوله.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
إذ الظاهر ان الضمير لالياس وفى قراءة ابن مسعود سلم على ادريسين يعنى إدريس واتباعه لانه قرأ انّ إدريس لمن المرسلين-.
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) من العذاب الذي نزل على قومه.
إِلَّا عَجُوزاً وهى امرأته كائنة فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) الباقين فى العذاب.
ثُمَّ دَمَّرْنَا
أهلكنا الْآخَرِينَ
(١٣٦) من قومه.
وَإِنَّكُمْ
يا اهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
اى على منازلهم فى اسفاركم الى الشام فان سدوم فى طريقه مُصْبِحِينَ
(١٣٧) داخلين فى الصباح.
وَبِاللَّيْلِ
او مساءً والمعنى نهارا او ليلا ولعلها وقعت قريبا من موضع النزول فيمر المرتحل عنه صباحا والقاصد لها مساءً ان كان السير نهارا او بالعكس ان كان السير ليلا أَفَلا تَعْقِلُونَ
(١٣٨) يعنى ألستم ذوى العقول فتعتبروا والجملة معترضة-.
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ
اى هرب وأصله هرب العبد من السيد لكن لمّا كان هربه من قومه بلا اذن ربه حسن إطلاقه عليه إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
(١٤٠) اخرج عبد الرزاق واحمد فى الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر عن طاؤس انه لمّا وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم (يعنى لمّا تأخر عنهم العذاب) قبل ان يأمره الله به فركب السفينة فوقفت فقال الملاحون هاهنا عبد ابق فاقترعوا فخرجت عليه فقال انا الآبق ورمى بنفسه فى الماء وذكر البغوي قول ابن عباس ووهب نحوه وذكر انهم اقترعوا ثلاثا فوقعت القرعة على يونس- قال البغوي وروى انه لمّا وصل الى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب وأراد ان يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب ثم جاءت موجة اخرى وأخذت ابنه الأكبر وجاء ذئب وأخذ ابن الأصغر فبقى فريدا فجاء مركب اخر فركبه فقعد ناحية من القوم فلمّا مرت السفينة فى البحر ركدت فاقترعوا- وقد ذكرنا القصة فى سورة يونس فذلك قوله تعالى.
فَساهَمَ
فقارع والمساهمة إلقاء السهام على جهة القرعة فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
(١٤١) فصار من المغلوبين بالقرعة وأصله المزلق عن مقام الظفر.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ اى اخذه
لقمة وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) اى داخل فى الملامة او أت بما يلام عليه او مليم نفسه حال من مفعول التقمه-.
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) قال ابن عباس من المصلين وقال وهب من العابدين قال الحسن ما كانت له صلوة فى بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحا قال الضحاك شكر الله له طاعته القديمة- قلت ويمكن ان يكون هو مصليّا فى بطن الحوت بالاشارة لكونه حيّا مفيقا والاولى ان يقال ولولا انه كان من المسبحين فى بطن الحوت يعنى ذاكرا له بقوله لا اله الّا أنت سبحانك انّى كنت من الظّالمين كما نطق به القران.
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) يعنى لمات فى بطنه وصار له قبرا فيبقى اجزاؤه مختلطا بأجزاء الحوت حيثما كان فى علم الله الى يوم القيامة.
فَنَبَذْناهُ بان حملنا الحوت على لفظه بِالْعَراءِ اى المكان الخالي مما يغطيه من الشجر ونحوه وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) كالفرخ الممعط وقيل كان قد بلى لحمه ورق عظمه ولم يبق له قوة واختلفوا فى مدة لبثه فى بطن الحوت قال البغوي قال مقاتل بن حبان ثلاثة ايام وكذا اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة وقال البغوي قال عطاء سبعة أيام كذا اخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير وقال البغوي قال الضحاك عشرين يوما وقال السدىّ والكلبي ومقاتل بن سليمان أربعين يوما كذا اخرج الحاكم عن ابن عباس وابن ابى شيبة واحمد فى الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن ابى مالك وعبد الرزاق وابن مردوية عن ابن جريج وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة واخرج عبد بن حميد فى زوائد الزهد انه بعض يوم واخرج ابن ابى حاتم والحاكم والبغوي عن الشعبي انه التقمه ضحى ولفظه عشية.
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ اى فوقه مظلة شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) قال البغوي قال الحسن ومقاتل كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض ليس له ساق ولا يبقى على الشتاء نحو القرع والقثاء والبطيخ فهو يقطين وقال كان ذلك اليقطين بساق على خلاف العادة انتهى وهو يفعيل من قطن بالمكان إذا قام به قلت وكان قرعا تغطه من أوراقها
144
عن الذباب فانه لا يقع عليه كذا قال البغوي انه قول جميع المفسرين وكذا اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة وقال مقاتل بن حبان وكان يونس يستظل بالشجرة وكانت وعلة تختلف اليه يشرب لبنها بكرة وعشية حتى اشتد لحمه ونبت شعره وقوى فنام نومة فاستيقظ وقد يبست الشجرة فحزن حزنا شديدا إذ أصابه أذى الشمس فجعل يبكى فبعث الله اليه جبرئيل فقال أتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة الف من أمتك وقد اسلموا وتابوا- (مسئلة) لا يجوز ذكر ذلة الأنبياء فان زلاتهم توجب كمال الانابة الى الله ورفع درجاتهم ومن اعترض على أحد من الأنبياء فقد كفر قال الله تعالى لا نفرّق بين أحد من رّسله وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ ما ينبغى لعبد ان يقول انى خير من يونس بن متى- متفق عليه وفى رواية للبخارى من قال انا خير من يونس بن متى فقد كذب وعن ابى هريرة قال استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال والذي اصطفى محمدا على العالمين وقال اليهودي والذي اصطفى موسى على العالمين فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي فذهب اليهودي الى النبي ﷺ فاخبره بما كان من امره وامر المسلم فدعا النبي ﷺ فساله عن ذلك فاخبره فقال النبي ﷺ لا تخيرونى على موسى فان الناس يصعقون يوم القيامة فاصعق معهم فاكون أول من يفيق فاذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدرى كان فيمن صعق فافاق قبلى او كان فيمن استثنى الله وفى رواية فلا أدرى احوسب بصعقة يوم الطور او بعث قبلى ولا أقول ان أحدا أفضل من يونس بن متى- وفى رواية ابى سعيد قال لا تخيروا بين الأنبياء متفق عليه وفى رواية ابى هريرة لا تفضلوا بين أنبياء الله- فان قيل ما المعنى والمراد بالنهى عن التفضيل بين الأنبياء مع كونه ثابتا بالنص والإجماع قال الله تعالى تلك الرّسل فضّلنا بعضهم على بعض وقال رسول الله ﷺ انا سيد ولد آدم يوم القيامة واوّل شافع وأول مشفع- رواه مسلم وابو داود عن ابى هريرة وقال انا سيد ولد آدم يوم
145
القيامة ولا فخر وما من نبى يومئذ آدم فمن سواه الا تحت لوائى وانا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر وانا أول شافع وأول مشفع ولا فخر- رواه احمد والترمذي وابن ماجة عن ابى سعيد وقال عليه السلام انا قائد المرسلين ولا فخر وانا خاتم النبيين ولا فخر وانا أول شافع ومشفع ولا فخر- رواه الدارمي عن جابر قلت معناه والله اعلم لا تفضلوا بين أنبياء الله بالظن والتخمين ما لم يأتكم علم من الله تعالى واما بعد ما ثبت ذلك بوحي من الله تعالى فلا بأس به او يقال لا تخيروا بين الأنبياء فى نفس النبوة بان تؤمنوا ببعض وتعظموه وتوقروه ولا تؤمنوا ببعض والله اعلم-.
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ قال البغوي قال قتادة أرسل الى نينوى من ارض الموصل قبل ان يصيبه ما أصابه وكذا اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عنه وعن الحسن والمعنى وقد أرسلناه الى مائة الف وقيل معناه أرسلناه إليهم ثانيا بعد خروجه من بطن الحوت وقيل الى قوم آخرين أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) قال مقاتل والكلبي معناه بل يزيدون وقال ابن عباس معناه ويزيدون او بمعنى الواو كقوله تعالى عذرا او نذرا وقال الزجاج او هاهنا على أصله معناه او يزيدون على تقديركم وظنكم كالرجل يرى قوما فيقول هؤلاء الف او يزيدون فالشك على تقدير المخلوقين واختلفوا فى مبلغ تلك الزيادة فقال ابن عباس ومقاتل كانوا عشرين الفا رواه الترمذي عن أبيّ بن كعب عن رسول الله ﷺ قال يزيدون عشرون الفا وقال الحسن بضعا وثلاثين الفا وقال سعيد بن جبير سبعين الفا.
فَآمَنُوا يعنى الذين أرسل إليهم يونس أمنوا به بعد معائنة العذاب فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) الى أجلهم المسمى ولعله انما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص تفرقة بينهما وبين اصحاب الشرائع الكبر واولى العزم من الرسل او اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور فى اخر السورة-.
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) عطف على قوله فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا امر رسول الله ﷺ اولا عن وجه انكارهم
البعث بان يسئلهم سوال تقرير اىّ الخلقين أشد أخلقهم أم خلق غيرهم من السماء والأرض والملائكة او من سبقهم من عاد وثمود فاذا هم أقرّوا بانّ خلق من سبقهم أشد لزمهم الخوف ممن انتقم منهم واهلكهم بكفرهم وهو قادر على خلق من هو أشد منهم وعلى كل خلق وقادر على البعث والتعذيب ثم جاء بما يلائمه من القصص لبعضها ببعض- ثم امره بالسؤال عن وجه القسمة حيث جعلوا لله البنات ولانفسهم البنين فى قولهم الملائكة بنات الله وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات اخر التجسيم وتجويز البنات على الله فان الولادة مخصوصة بالأجسام القابلة للكون والفساد سريعا وتفضيل أنفسهم على الله حيث جعلوا اخس الصنفين لله وأشرفهم لانفسهم واستهانتهم الملائكة باتصافهم بالانوثة. ولذلك كرر الله تعالى انكار ذلك وابطاله فى كتابه مرارا وجعله مما تكاد السّماوات يتفطّرن من شوم هذا القول وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا والإنكار هاهنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما وذلك ان جهينة وبنى سلمة بن عبد الدار زعموا ان الملائكة بنات الله ولان فسادهما مما يدكه العامة بمقتضى طباعهم حيث جعل المعادل لاستفهام عن أنفسهم.
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) فيه استهزاء واشعار بانهم لفرط جهلهم يحكمون به كانهم شاهدوا خلقهم.
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ اى كذبهم الذي هو ظاهر البطلان وينفيه البرهان لَيَقُولُونَ (١٥١).
وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) عند جميع العقلاء قطعا.
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) قرأ ابو جعفر بهمزة الوصل المكسورة عند الابتداء وإسقاطها فى الدرج وهى رواية عن نافع اما على حذف همزة الاستفهام من اللفظ او على الاخبار بتقدير قالوا يعنى انّهم لكاذبون حيث قالوا اصطفى البنات وقرأ العامة بهمزة مفتوحة للاستفهام داخلة على همزة الوصل إنكارا واستبعادا بتقدير يقال لهم اصطفى البنات على البنين.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) ان لله البنات ولكم البنين والاصطفاء أخذ صفوة الشيء والبنات اخس الصنفين.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) عطف على محذوف تقديره أفلا تتفكرون فلا تتذكّرون انه تعالى منزه عن ذلك حذفت احدى التاءين.
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) حجة واضحة نزلت عليكم من الله تعالى بان الملائكة
بناته يعنى ان اسباب العلم منحصرة فى ثلاثة العقل والحس والخبر الصادق والخبر لا يفيد العلم ما لم يبتنى على الحس او على الاعلام من الله العالم للغيب- فانكر اولا دلالة العقل بقوله ألربّك البنات ولهم البنون فانه مع قيام البرهان على امتناع الولد لله سبحانه لا يجوز درك انوثية الملائكة بالعقل الصرف ولا يجوز عاقل ان يثبت اخس الفريقين للخالق وأشرفهما للمخلوقين وأنكر ثانيا دلالة الحس بقوله أم خلقنا الملئكة إناثا وهم شاهدون يعنى لم يشهدوا ذلك وأنكر ثالثا الخبر الصادق الى الحجة النازلة من الله العليم الخبير فانه اعلم إفادة للعلم من غيره وأقوى فقال أم لكم سلطان مبين- ولمّا كان هاهنا مظنة ان يقولوا الله علمنا بهذا كما انهم إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قال.
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي منزل من الله مخبر بان الملائكة بناته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(١٥٧) فى دعواكم-.
وَجَعَلُوا حال من الضمير المنصوب فى استفتهم بتقدير قد اى استفتهم وقد جعلوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً اخرج جويبر عن ابن عباس انه قال نزلت هذه الاية فى ثلاثة احياء قريش سليم وخزاعة وجهينة قال مجاهد وقتادة أراد بالجنّة الملائكة سموها جنّة لاجتنانهم عن الابصار قلت ذكرهم بهذا الاسم تحقيرا لشأنهم عن مرتبة البنوة لله سبحانه وقال ابن عباس حيى من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس قالوا هم بنات الله وقال الكلبي قالوا (لعنهم الله) ان الله تزوج من الجن فخرج منها الملائكة تعالى الله عن ذلك وقال بعض قريش ان الملائكة بنات الله فقال ابو بكر الصديق فمن أمهاتهم قالوا سروات الجن كذا اخرج البيهقي فى شعب الايمان عن مجاهد وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ جملة معترضة إِنَّهُمْ اى قائلى هذا القول او الانس مطلقا او الجنة بمعنى يعم الملائكة وغيرهم لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) فى النار.
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) اى عما يصفونه به من الولد والنسب جملة معترضة اخرى.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) استثناء متصل من ضمير انهم ان أريد به ما يعم المؤمن والكافر او منقطع ان أراد به القائلون بالولد.
فَإِنَّكُمْ يا اهل مكة التفات من الغيبة الى الخطاب والفاء قيل جزائية
والشرط محذوف تقديره إذا جعلتم بينه وبين الجنة نسبا فانّكم وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) من الأصنام.
ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ اى على الله متعلق بقوله بِفاتِنِينَ (١٦٢) اى بمضلين الناس بالإغواء أحدا.
إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) فى علم الله يعنى من سبق لهم فما علم الله القديم الشقاوة-.
وَما مِنَّا معشر الملائكة أحد إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) هذه الجملة بتقدير القول معطوف على قوله تعالى ولقد علمت الجنّة تقديره وقالت ما منّا الّا له مقام معلوم فى العبودية او فى السماوات يعبد الله فيه قال رسول الله ﷺ أطت «١» السماء وحق لها ان تاط والذي نفسى بيده ما فيها موضع اربعة أصابع الا وملك واضع جبهته ساجدا لله- رواه البغوي او مقام معلوم فى مراتب القرب لا يتجاوز عنه وكذا قال السدى الّا له مقام معلوم فى القربة والمشاهدة وقال ابو بكر الوراق الّا له مقام معلوم يعبد الله عليه كالخوف والرجاء والمحبة والرضاء- قلت واما الانس فلا يزال يرتقى على معارج القرب قال رسول الله ﷺ حكاية عن الله سبحانه ما يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته الحديث. رواه البخاري عن ابى هريرة واما الملائكة فلا يتجاوزون عن مقاماتهم عن زرارة بن ابى اوفى ان رسول الله ﷺ قال لجبرئيل هل رايت ربّك فانتفض جبرئيل وقال يا محمد ان بينى وبينه سبعين حجابا من نور لو دنوت من بعضها لاحترقت هكذا فى المصابيح ورواه ابو نعيم فى الحلية عن انس الا انه لم يذكر فانتفض جبرئيل عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ ان الله خلق اسرافيل منذ يوم خلقه صافا قدميه لا يرفع بصره بينه وبين الرب تبارك وتعالى سبعون نورا ما منها من نور يدنو منه الا احترق- رواه الترمذي وصححه وهذه الاية رد على عابدى الملائكة نظيره قوله تعالى لقد كفر الّذين قالوا انّ الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربّى وربّكم انّه من يّشرك بالله
(١) الأطيط صوت الاقتاب يعنى آواز پالان شتر قال فى النهاية يعنى انّ كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلتها حتى أطت وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وان لم يكن ثمه اطيطه نور الله مرقده-
فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأويه النّار.
وَإِنَّا معشر الملائكة لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) اخرج ابن ابى حاتم عن يزيد بن مالك قال كان الناس يصلون متبدين فانزل الله وانّا لنحن الصّافّون فامرهم ان يصفوا- واخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه قال الكلبي صفوف الملائكة فى السماء للعبادة كصفوف الناس فى الأرض يعنى فى الصلاة روى مسلم عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله ﷺ الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الاولى وينراصون فى الصف- والمعنى وانا لنحن صافون أقدامنا فى أداء الطاعة.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) اى المنزهون عما لا يليق به كاتخاذ الولد ونحو ذلك- وما فى انّ واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص انما هو للرد على من زعم انهم بنات الله والحصر إضافي بالنسبة الى الكفار يعنى لسنا كهيئة الكفار مشركين مصنعين فى العبادة والتسبيح.
وَإِنْ كانُوا وانهم يعنى كفار مكة كانوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
لَوْ ثبت أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) اى كتابا من الكتب التي أنزلت عليهم.
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) يعنى لاخلصنا له العبادة ولم نخالف.
فَكَفَرُوا بِهِ اى بالذكر الذي هو اشرف الاذكار لمّا جاءهم فَسَوْفَ الفاء للسببية فان الكفر سبب للوعيد يَعْلَمُونَ (١٧٠) عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام ان مخففة للمثقلة واللام هى فارقة وفى ذلك ايماء بانهم كانوا يقولون مؤكدين للقول جازمين فيه فكم بين أولهم وآخرهم.
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) بيان للكلمة ولذلك لم يعطف عليه قلت وانما يظهر التخلف لاجل شوم العصيان قال الله تعالى انّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا وقال الله تعالى.
إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اى اعرض عنهم حَتَّى حِينٍ (١٧٤) قال ابن عباس يعنى الموت وقيل يوم يأتيهم العذاب فى الدنيا وقال مجاهد يوم بدر وكذا اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم
عن السدّى وقال البغوي قال السدّى يوم يأمركم بالقتال وهو المراد بقول مقاتل نسختها اية القتال.
وَأَبْصِرْهُمْ مغلوبا مقتولا معذّبا- فيه دلالة على انه كائن قريب كانّه قدامه فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) ما قضينا لك من التأييد والنصرة فى الدنيا والثواب فى الاخرة وما يحل بهم فى الدارين وسوف للوعيد لا للتبعيد- اخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما انه متى نزل فسوف يبصرون قالوا متى هذا العذاب واخرج جويبر عنه نحوه فنزل.
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) استفهام للانكار والتوبيخ والفاء للعطف على محذوف تقديره أيجهلون شأننا فبعذابنا يستعجلون.
فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ بفنائهم قال الفراء العرب يكتفى بذكر الساحة من القوم- او المعنى إذ نزل الرسول ﷺ مع جيشه بساحة الكفار فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) اى صباحهم مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب ولما كثرت الهجوم والغارة فى الصباح عادة سموا الغارة صباحا وان وقعت فى وقت اخر عن انس بن مالك رضى الله عنه ان رسول الله ﷺ حين خرج الى خيبر أتاها ليلا وكان إذا جاء قوما بليل لم يغز حتى يصبح- قال فلمّا أصبح خرجت يهود خيبر بمساحيها «١» ومكاتلها «المكتل الزنبيل الكبير- نهاية منه ره» فلمّا راوه قالوا محمد والله والخميس فقال رسول الله ﷺ الله اكبر خربت خيبر انا إذا نزلنا بساحتهم فسآء صباح المنذرين رواه البغوي وفى الصحيحين عن انس ان النبي ﷺ كان إذا غزابنا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر إليهم فان سمع اذانا كفّ عنهم وان لم يسمع اذانا أغار عليهم فخرجنا الى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلمّا أصبح ولم يسمع اذانا ركب وركبت خلف ابى طلحة وان قدمى لتمس قدم نبي الله ﷺ قال فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم فلمّا راوا النبي ﷺ قالوا محمد والله محمد والخميس فلجاءوا الى الحصن فلمّا راهم رسول الله ﷺ قال الله اكبر الله اكبر خربت خيبر انا إذا نزلنا بساحة قوم فسآء صباح المنذرين ثم كرر الله سبحانه تأكيد الوعيد العذاب فقال.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ العذاب إذا نزل بهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) فيه اطلاق بعد تقييد للاشعار
(١) المساحي جمع مسحاة وهى المجرفة من الحديد والميم زائدة لانه من السحو اى الكشف والازالة ١٢ نهاية منه يرد الله
بانه يبصر وانهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من اصناف المسرّة وانواع المساءة او الاول لعذاب الدنيا والثاني لعذاب الاخرة-.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ اى الغلبة والقوة أضاف الرب الى العزة لاختصاص به إذ لا عزة الا له او لمن انتسب اليه رسوله والمؤمنون به- وفيه اشعار بان صفاته تعالى مقتضيات لذاته- واجبات بالغير اى بذاته تعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) اى عما يصفونه به المشركون ممّا حكى فى السورة وقد أدرج فيه جملة صفاته السلبية والثبوتية مع الاشعار بالتوحيد.
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) الذين وصفوه على ما هو عليه وهذا تعميم للرسل بالتسليم.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢) على ما هدى المؤمنين الى معرفة ذاته وصفاته بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصرة الأنبياء وتدمير الأعداء عن على كرم الله وجهه انه قال من أحب ان يكتال بالمكيال الاوفى من الاجر يوم القيامة فليكن اخر كلامه من مجلسه سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين- رواه البغوي فى تفسيره وعبد بن رنجوية فى ترغيبه والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله تعالى وسلم على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى اصل طاعته أجمعين تمت تفسير سورة الصّافّات من التفسير المظهرى (ويتلوه ان شاء الله تعالى تفسير سورة ص) فى يوم السبت الثامن والعشرين من الجمادى اوّل من السنة السابعة بعد الف سنة ١٢٠٧ ومائتين بتصحيح مولانا غلام نبى تونسوى الراجي الى مغفرة ربه القوى.
Icon