تفسير سورة ص

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة ص من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا، وقوله تعالى :﴿ والقرآن ذِي الذكر ﴾ أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد، ونفع لهم في المعاش والمعاد، قال الضحّاك ﴿ ذِي الذكر ﴾ كقوله تعالى :﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ [ الأنبياء : ١٠ ] أي تذكيركم.
وقال ابن عباس ﴿ ذِي الذكر ﴾ ذي الشرف أي ذي الشأن والمكانة. ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف، مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار، واختلفوا في جواب هذا القسم : فقال قتادة : جوابه ﴿ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ واختاره ابن جرير، وقيل : جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها، والله أعلم، وقوله تعالى :﴿ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ أي إن في هذا القرآن لذكرى لمن يتذكر وعبرة لمن يعتبر، وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم ﴿ فِي عِزَّةٍ ﴾ أي استكبار عنه وحمية، ﴿ وَشِقَاقٍ ﴾ أي ومخالفة له ومعاندة ومفارقة، ثم خوفهم ما أهلك به الأمم الكاذبة قبلهم فقال تعالى :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ ﴾ أي من أمة مكذبة، ﴿ فَنَادَواْ ﴾ أي حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى، وليس ذلك بمُجْدٍ عنهم شيئاً، كما قال عزّ وجلّ :﴿ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٢ ] أي يهربون، قال التميمي : سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله تبارك وتعالى :﴿ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ ! قال : لليس بحين نداء ولا نزاعٍ ولا فرار، وعن ابن عباس : ليس بحين مغاث، نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد :
تذكَّرَ ليلى لات حين تذكر... وقال محمد بن كعب : نادوا بالتوحيد حيث تولت الدنيا عنهم، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم، وقال قتادة : لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء، وقال مجاهد :﴿ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ ليس بحين فرار ولا إجابة، وعن زيد بن أسلم :﴿ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ ولا نداء في غير حين النداء، وهذه الكلمة، وهي ( لات ) هي ( لا ) التي للنفي زيدت معها التاء، كما تزايد في ثم، فيقولون : ثمت، ورب، فيقولون : ربت. وأهل اللغة يقولون : النوص : التأخر، والبوص : التقدم، ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ أي ليس حين فرار، ولا ذهاب، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في تعجبهم من بعثة رسول الله ﷺ بشيراً ونذيراً، كما قال عزّ وجلّ :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس ﴾ [ يونس : ٢ ] الآية، قال جلّ علا هاهنا :﴿ وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ أي بشر مثلهم، وقال الكافرون :﴿ هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً ﴾ أي أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟ أنكر المشركون ذلك قبحهم الله تعالى وتعجبوا من ترك الشرك بالله، فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم، فلما دعاهم رسول الله ﷺ إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية، وأعظموا ذلك وتعجبوا، وقالوا :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ ﴾ وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين ﴿ امشوا ﴾ أي استمروا على دينكم، ﴿ وَاْصْبِرُواْ على آلِهَتِكُمْ ﴾، ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ قال ابن جرير : إن هذا الذي يدعونا إليه محمد ﷺ من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه.
( ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمات )
روى ابن جرير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :« لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم ( أبو جهل ) فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه، فجاء النبي ﷺ، فدخل البيت، وبينهم وبين أبو طالب قدر مجلس رجُل، قال : فخشي أبو جهل، لعنه الله، إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله ﷺ مجلساً قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب : أي أين أخي، ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال : وأكثر عليه من القول، وتكلم رسول الله ﷺ فقال :» يا عم إني إريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية «، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم : كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً، فقالوا : وما هي؟ وقال أبو طالب : وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال ﷺ :» لا إله إلا الله «، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ ونزلت من هذا الموضع إلى قوله :﴿ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ﴾ ».
وقولهم :﴿ مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة ﴾ أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد بن التوحيد في الملة الآخرة، قال مجاهد و قتادة : يعنون دين قريش، وقال السدي : يعنون النصرانية، وقال ابن عباس :﴿ مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة ﴾ يعني دين النصرانية، قالوا : لو كان هذا القرآن حقاً لأخبرتنا به النصارى ﴿ إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق ﴾ قال مجاهد : كذب، وقال ابن عباس : تخرص، وقولهم :﴿ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا ﴾ يعني أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كما قال في الآية الأخرى :
2169
﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ]، ولهذا لما قالوا هذا الذي دل على جهلهم وقلة عقلهم، في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم، قال الله تعالى :﴿ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ﴾ أي إنما يقولون هذا، لأنهم ما ذاقوا عذاب الله تعالى ونقمته، وسيعلمون غِبَّ ما قالوا وما كذبوا به.
ثم قال تعالى مبيناً أنه المتصرف في ملكه، الفعال لما يشاء، الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده، وأنَّ العباد لا يملكون شيئاً من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة، ولهذا قال تعالى منكراً عليهم :﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب ﴾ أي العزيز الذي لا يرام جنابه، الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾ [ النساء : ٥٣-٥٤ ] الآية، كما أخبر عزّ وجلّ عن قوم صالح عليه السلام حين قالوا :﴿ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر ﴾ [ القمر : ٢٥-٢٦ ] وقوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب ﴾ أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب، قال ابن عباس : يعني طرق السماء، وقال الضحاك : فليصعدوا إلى السماء السابعة، ثم قال عزّ وجلّ :﴿ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب ﴾ أي هؤلاء الجند المكذبون سيهزمون ويغلبون، ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين، وهذه الآية كقوله جلَّت عظمته :﴿ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ﴾ [ القمر : ٤٤-٤٥ ] كان ذلك يوم بدر ﴿ بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ ﴾ [ القمر : ٤٦ ].
2170
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء القرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة، وقوله تعالى :﴿ أولئك الأحزاب ﴾ أي كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً، فما دفع ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ فجعل علة إهلاكهم هو تكذيبهم بالرسل، فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَنظُرُ هؤلاءآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ﴾ قال زيد بن أسلم : أي ليس لها مثنوية، أي ما ينظرون ﴿ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا ﴾ [ محمد : ١٨ ] أي فقد اقتربت ودنت وأزفت، وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله تعالى إسرافيل أن يطولها، فلا يبقى أحد من أهل السماوات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عزّ وجلّ، وقوله جلّ جلاله :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب ﴾ هذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب، فإن القِط هو الكتاب، وقيل : هو الحظ والنصيب، قال ابن عباس ومجاهد والضحّاك : سألوا بتعجيل العذاب كما قالوا :﴿ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] وقيل : سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة ليلقوا ذاك في الدنيا، وإنما خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب، قال ابن جرير : سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا، وهذا الذي قاله جيد، ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد قال الله تعالى لرسوله ﷺ آمراً له بالصبر على أذاهم، ومبشراً له على صبره بالعاقبة والنصر والظفر.
يذكر تعالى عن عبده وسوله ( داود ) ﷺ أنه كان ذا أيد، و ( الأيد ) القوة في العلم والعمل، قال ابن عباس : الأيد القوة، وقرأ ابن زيد :﴿ والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٧ ] وقال مجاهد : الأيد، القوة في الطاعة. وقال قتادة : أعطي داود ﷺ قوة في العبادة وفقهاً في الإسلام، وقد ذكر لنا أنه ﷺ كان يقوم ثلث الليل، ويصوم نصف الدهر، وهذا ثابت ي « الصحيحين » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى لله عزّ وجلّ صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى »، وأنه كان ( أوَّاباً ) وهو الرجَّاع إلى الله عزّ وجلّ في جميع أموره، وشؤونه، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق ﴾ أي أنه تعالى سخر الجبال تسبّح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، كما قال عزّ وجلّ :﴿ ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير ﴾ [ سبأ : ١٠ ] وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجّع بترجيعه، إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء، فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب بل يقف في الهواء، ويسبح معه ويجيبه الجبال الشامخات ترجّع معه وتسبح تبعاً له.
ولهذا قال عزَّ وجلَّ :﴿ والطير مَحْشُورَةً ﴾ أي محبوسة في الهواء ﴿ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ﴾ أي مطيع يسبح تبعاً له، قال سعيد بن جبير وقتادة ﴿ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ﴾ أي مطيع، وقوله تعالى :﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ﴾ أي جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك، قال مجاهد : كان أشد أهل الدنيا سلطاناً، وقال السدي : كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف، وقوله عزّ وعلا :﴿ وَآتَيْنَاهُ الحكمة ﴾ قال مجاهد : يعني الفهم والعقل والفطنة، وعنه :﴿ الحكمة ﴾ العدل، وقال قتادة : كتاب الله واتباع ما فيه وقال : السدي :﴿ الحكمة ﴾ النبوة، وقوله جلّ جلاله :﴿ وَفَصْلَ الخطاب ﴾ قال شريح القاضي والشعبي : فصل الخطاب : والشهود والأيمان، وقال قتادة : شاهدان على المدعي أو يمين المدعي عليه، وقال مجاهد والسدي : هو إصابة القضاء وفهم ذلك، وقال مجاهد أيضاً : هو الفصل في الكلام وفي الحكم، وهذا يشمل كل ذلك، وهو المراد اختباره ابن جرير، وعن أبي موسى رضي الله عنه، أول من قال :( أما بعد ) داود عليه السلام، وهو فصل الخطاب، وكذا قال الشعبي : فصل الخطاب : أما بعد.
قد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ان أبي حاتم هنا حديثاً، لا يصح سنده، لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنَس رضي الله عنه، ويزيد وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة؛ فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يُرَدَّ علمها إلى الله عزّ وجلّ، فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضاً، وقوله تعالى :﴿ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ﴾ إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه، وهو أشرف مكان في داره، وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم، فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب، أي احتاطا به، يسألانه عن شأنهما، وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَعَزَّنِي فِي الخطاب ﴾ أي غلبني، يقال : عز يعز إذا قهر وغلب، وقوله تعالى :﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾ قال ابن عباس : أي اختبرناه، وقوله تعالى :﴿ وَخَرَّ رَاكِعاً ﴾ أي ساجداً، ﴿ وَأَنَابَ ﴾ أي رجع وتاب ويحتمل أنه ركع أولاً ثم سجد بعد ذلك ﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾ أي ما كان منه مما يقال فيه :« حسنات الأبرار سيئات المقربين ».
وقد اختلف الأئمة في سجدة ( ص ) هل هي من عزائم السجود؟ على قولين : الجديد من مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست من عزائم السجود، قل هي سجدة شكر؛ والدليل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : السجدة في ( ص ) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله ﷺ يسجد فيها، وروى البخاري عند تفسيرها عن العوام قال : سألت مجاهداً عن سجدة ( ص ) فقال : سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدت؟ فقال : أو ما تقرأ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ [ الأنعام : ٨٤ ]، و ﴿ أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] فكان داود ﷺ ممن أمر نبيكم صى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه الصلاة السلام، فسجدها رسول الله ﷺ. وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ أي وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عزّ وجلّ بها، وحسن مرجع، وهو الدرجات العالية في الجنة لتوبته وعدله التام في ملكه، كما جاء في الصحيح :« المقسطون على منابر من نور، عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يقسطون في أهليهم، وما ولوا » وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ :« إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأقربهم منه مجلساً إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر ».
هذه وصية من الله عزّ وجلّ لولاة الأمور، أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد، روى ابن أ بي حاتم بسنده عن أبي زرعة وكان قد قرأ الكتاب أن الوليد بن عبد الملك قال له : أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت؟ فقلت : يا أمير المؤمنين أقول؟ قال : قل في أمان الله، قلت : يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود ﷺ ؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال تعالى :﴿ ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ الآية، وقال عكرمة :﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب ﴾ هذا من المقدم والمؤخر : لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا، وقال السدي : لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب، وهذا القول أظهر، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثاً، وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحّدوه، ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر، ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ ﴾، أي الذين لا يرون بعثاً ولا معاداً، وإنما يعتقدون هذه الدار فقط، ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار ﴾ أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم، ثم بيَّن تعالى أنه عزّ وجلّ من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين، فقال تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار ﴾ أي لا نفعل ذلك، ولا يستوون عند الله، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من دار أخرى يثاب فيها المطيع، ويعاقب فيها هذا الفاجر، وتدل العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء، فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه، ويموت كذلك، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلا بد في حكمه الحكيم العليم العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك داراً أخرى، لهذا الجزاء والمواساة، ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة قال تعالى :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب ﴾ أي ذوو القعول، هي ( الألباب ) جمع لب وهو العقل، وقال الحسن البصري : والله ما تدبره بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل.
يقول تعالى مخبراً أنه وهب لداود ( سليمان ) أي نبياً، كما قال عزّ وجلّ :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ [ النمل : ١٦ ] أي في النبوة، وإلا فقد كان له بنون غيره، فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر، وقوله تعالى :﴿ نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عزّ وجلّ، وقوله تعالى :﴿ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد ﴾ أي إذا عرض على سليمان ﷺ في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات، قال مجاهد : وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة، والجياد السراع، وعن إبراهيم التيمي قال : كانت الخيل التي شغلت سليمان ﷺ عشرين ألف فرس فعقرها، وعن عائشة رضي الله عنها قالت :« قدم رسول الله ﷺ من غزة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر، فهبت الريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة رضي الله عنها لعب، فقال ﷺ :» ما هذا يا عائشة « قالت رضي الله عنها : بناتي، ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع، فقال صل الله عليه وسلم :» ما هذا الذي أرى وسطهن «؟ قالت رضي الله عنها : فرس، قال رسول الله ﷺ :» ما هذا الذي عليه؟ قالت رضي الله عنها : جناحان، قال رسول الله ﷺ :« فرس له جناحان » قالت رضي الله عنها : أما سمعت أن سليمان ﷺ كان له خيل لها أجنحة؟ قالت رضي الله عنها : فضحك ﷺ حتى رِأيت نواجذه « وقوله تبارك وتعالى :﴿ فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي حتى تَوَارَتْ بالحجاب ﴾ ذكر غير واحد من السلف والمفسرين : أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر، والذي يقطع به أنه لم يتركها عمداً، بل نسياناً، كما شغل النبي صل الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر، حتى صلاها بعد الغروب؛ وذلك ثابت في » الصحيحين « عن جابر رضي الله عنه قال :» جاء عمر رضي الله عنه يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش، ويقول : يا رسول الله، والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله ﷺ :« والله ما صليتها »، قال فقمنا إلى بطحان فتوضأ نبي الله ﷺ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب «، ويحتمل أنه كان سائغاً في ملتهم تأخير الصلاة لعذر والغزو والقتال، والأول أقرب، لأنه قال بعده :﴿ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق ﴾ قال الحسن البصري : لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك، ثم أمر بها فعقرت، وقال السدي : ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف، ولهذاعوضه الله عزّ وجلّ ما هو خير منها، وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غدوها شهر ورواحها شهر، فهذا أسرع وخير من الخيل.
يقول تعالى :﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ﴾ أي اختبرناه بأن سلبناه الملك، ﴿ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ﴾. قال ابن عباس والحسن وقتادة : يعني شيطاناً، ﴿ ثُمَّ أَنَابَ ﴾ أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته، قال ابن جرير : وكان اسم ذلك الشيطان صخراً، وقيل : آصف، ﴿ قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب ﴾ قال بعضهم : معناه لا ينبغي لأحد منم بعدي ولا يصلح لأحد أن يسلبنيه بعدي، والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكاً لا يكون لأحد من بعده من الشر مثله، وهذا هو ظاهر السياق من الآية، وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله ﷺ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« إن عفريتاً من الجن تفت عليَّ البارحة أو كلمة نحوها ليقطع علي الصلاة فأمكنني بالله تبارك وتعالى منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان ﷺ :﴿ قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي ﴾ » قال روح : فرده خاسئاً. وروى مسلم في « صحيحه » عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال :« قام رسول الله ﷺ، فسمعناه يقول :» أعوذ بالله منك، ثم قال : ألعنك بلعنة الله « ثلاثاً، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال :ﷺ :» إن عدوّ الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت : أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت : ألعناك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مراتب، ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة « ».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه « أن رسول الله ﷺ قام يصلي الصبح، وأنا خلفه فقرأ، فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال :» لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين الإبهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل « ».
وقوله تبارك وتعالى :﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ قال الحسن البصري : لما عقر سليمان ﷺ الخيل غضباً لله عزّ وجلّ، عوّضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر، وقوله جل علا :﴿ حَيْثُ أَصَابَ ﴾ أي حيث أراد من البلاد، وقوله جل جلاله :﴿ والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ ﴾ أي منهم ما هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر، وطائفة غواصون في البحار يستخرجون ما بها من اللآلىء والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها، ﴿ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد ﴾ أي موثوقون في الأغلال والأكبال ممن تمرد وعصى، وامتنع من العمل وأبى، أو قد أساء في صنيعه واعتدى، وقوله عزّ وجلّ :﴿ هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا، فأعظ من شئت، واحرم من شئت، لا حساب عليك، أي مهما فعلت فهو جائز لك، وقد ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله ﷺ لما خيِّر بين أن يكون ( عبداً رسولاً )، وبين أن يكون ( نبياً ملكاً ) يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، بلا حساب ولا جناح، اختار المنزلة الأولى بعد ما استشار جبريل عليه السلام، فقال له : تواضع فاختار المنزلة الأولى، لأنها أرفع قدراً عند الله عزّ وجلّ وأعلى منزلة من المعاد، ون كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضاً في الدنيا والآخرة، ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان ﷺ في الدنيا نبه تعالى أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضاً، فقال تعالى :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ أي في الدار الآخرة.
يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله ( أيوب ) ﷺ، وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليماً سوى قلبه، ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه، غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه، نحواً من ثماني عشرة سنة، وقد كان قبل ذلك من مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا، فسلب جميع ذلك حتى رفضه القريب البعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحاً ومساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريباً، فلما طال المطال، واشتد الحال، وانتهى القدر، وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال :﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين ﴾ [ الأنبياء : ٨٣ ]، وفي هذه الآية الكريمة قال ﴿ واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ قيل :﴿ بِنُصْبٍ ﴾ في بدني و ﴿ وَعَذَابٍ ﴾ في مالي وولدي، فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين، وأمره أن يقوم من مقامه، وأن يركض الأرض برجله، ففعل، فأنبع الله تعالى عيناً وأمره أن يغتسل منها، فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر، فأنبع له عيناً أخرى، وأمره أن يشرب منها، فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهراً وباطناً؛ ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾. روى ابن جرير وابن أبي حاتم، عن أنَس بن مالك رضي الله عنه قال : إن رسول الله ﷺ قال :« إن نبي الله أيوب ﷺ لبث في بلائه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد في العالمين، قال له صاحبه : وما ذاك؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى، فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذلك له، فقال أيوب ﷺ : لا أدري ما تقول غير أن الله عزّ وجلّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله تعالى، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق، قال : وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب ﷺ أن :﴿ اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ فاستبطأته، فالتفتت تنظر، فأقبل عليها، قد ذهب الله ما به من البلاء، وهو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، فوالله القدير على ذلك، ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً، قال : فإني أنا هو ».
2178
وفي الحديث قال رسول الله ﷺ :« بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب ﷺ يحثو في ثوبه، فناداه ربه عزَّ وجلَّ : يا أيوب ألم أكن أغنيك عما ترى؟ قال ﷺ : بلا يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك » ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب ﴾ قال الحسن وقتادة : أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم، وقوله عزّ وجلّ « ﴿ رَحْمَةً مِّنَّا ﴾ أي به على صبره وثباته وإنباته وتواضعه واستكانته، ﴿ وذكرى لأُوْلِي الألباب ﴾ أي لذوي العقول ليعلما أن عاقبة الصبر الفرج، وقوله جلَّت عظمته :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ﴾ وذلك أن أيوب ﷺ كان قد غضب على زوجته ووجد في أمر فعلته، وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة، فلما شفاه الله عزّ وجلّ وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب، فأتفاه الله عزّ وجلّ أن يأخذ ﴿ ضِغْثاً ﴾ وهو الشمراخ فيه مائة قضيب، فيضربها به ضربة واحدة، وقد برت يمينه، وخرج من حنثه ووفى بنذره، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه، ولهذا قال جلّ وعلا :﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ أنثى الله تعالى عليه ومدحه بأنه ﴿ نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ أي رجَّاع منيب؛ ولهذا قال جلّ جلاله :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢-٣ ] الآية واستدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الإيمان والله أعلم.
2179
يقول تبارك وتعالى مخبراً عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين :﴿ واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيدي والأبصار ﴾ يعني بذلك العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة، قال ابن عباس :﴿ أُوْلِي الأيدي ﴾ : أولي القوة، ﴿ والأبصار ﴾ : الفقه في الدين، وقال مجاهد :﴿ أُوْلِي الأيدي ﴾ يعني القوة في طاعة الله تعالى، ﴿ والأبصار ﴾ يعني البصر في الحق، وقال قتادة والسدي : أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين، وقوله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار ﴾ قال مجاهد : أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم همّ غيرها، وقال مالك بن دينار : نزع الله تعالى من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها، وقال سعيد بن جبير : يعني بالدار ( الجنة ) يقول : أخلصناها لهم بذكرهم لها، وقال ابن زيد : جعل لهم خاصة أفضل شيء في الدار الآخرة، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار ﴾ أي المختارين المجتبين الأخيار، فهم أخيار مختارون، وقوله تعالى :﴿ واذكر إِسْمَاعِيلَ واليسع وَذَا الكفل وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار ﴾. قد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أغنى عن إعادته هاهنا، وقوله عزّ وجلّ ﴿ هذا ذِكْرٌ ﴾ [ ص : ٤٩ ] أي هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر وقال السدي : يعني القرآن العظيم.
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين السعداء أن لهم في الدار الآخرة ﴿ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ وهو المرجع والمنقلب، ثم فسره بقوله تعالى :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ أي جنات إقامة ﴿ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب ﴾ والألف واللام هاهنا بمعنى الإضافة، كأنه يقول مفتحة لهم أبوابها، أي إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها، وقد ورد في ذكر أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة، وقوله عزّ وجلّ :﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا ﴾ قيل : متربعين على سرير تحت الحجال، ﴿ يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ﴾ أي مهما طلبوا وجدوا وأحضر كما أرادوا، ﴿ وَشَرَابٍ ﴾ أي من أي أنواعه شاءوا أتتهم به الخدام ﴿ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴾ [ الواقعة : ١٨ ]، ﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف ﴾ أي عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن ﴿ أَتْرَابٌ ﴾ أي متساويات في السن والعمر، ﴿ هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب ﴾ أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هي التي وعدها لعباده المتقين، التي يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار، ثم أخبر تبارك وتعالى عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا زوال ولا انقضاء ولا انتهاء فقال تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴾، كقوله عزّ وجلّ :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [ هود : ١٠٨ ]، وكقوله تعالى :﴿ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ [ فصلت : ٨ ] أي غير مقطوع، وكقوله :﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار ﴾ [ الرعد : ٣٥ ]، والآيات في هذا كثيرة جداً.
لما ذكر تبارك وتعالى مآل السعداء، ثنَّى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم، فقال عز و جل :﴿ هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ﴾ وهم الخارجون عن طاعة الله عزّ و جلّ، المخالفون لرسل الله ﷺ ﴿ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ﴾ أي لسوء منقل ومرجع، ثم فسره بقوله جلّ وعلا :﴿ لَشَرَّ مَآبٍ ﴾ أي يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم ﴿ فَبِئْسَ المهاد * هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴾، أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره، وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾ أي وأشياء من هذا القبيل، الشيء وضده يعاقبون بها، عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ أنه قال :« لو أن دلواً من غسّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ». وقال كعب الأحبار ﴿ غَسَّاقٌ ﴾ عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية، وعقرب وغير ذلك فيستنقع، فيؤتى بالآدمي، فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج، وقد سقط جلده ولحمه عن العظام، ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه، ويجر لحمه كله كما يجر الرجل ثوبه، وقال الحسن البصري :﴿ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾ : ألوان من العذاب، كالزمهرير، والسموم، وشرب الحميم، وأكل الزقوم، والصعود والهويّ، إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادة، والجميع مما يعذبون به، ويهانون بسببه، وقوله عزّ وجلّ :﴿ هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار ﴾، هذا إخبار من الله تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض، كما قال تعالى :﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون، ويكفر بعضهم ببعض، فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى، إذا أقبلت مع الخزنة من الزبانية ﴿ هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ ﴾ أي داخل ﴿ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار ﴾ أي لأنهم من أهل جهنم، ﴿ قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ ﴾ أي فيقول لهم الداخلون ﴿ قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ﴾ أي أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير، ﴿ فَبِئْسَ القرار ﴾ أي فبئس المنزل والمستقر والمصير ﴿ قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار ﴾، كما عزّ وجلّ :﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] أي لكل منكم عذاب بحسبه، ﴿ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار ﴾ ؟ هذا إخبار عن الكفار في النار، أنهم يفتقدون رجالاً كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة، وهم المؤمنون في زعمهم قالوا : ما لنا لا نراهم معنا في النار؟ قال مجاهد : هذا قول أبي جهل يقول : ما لي لا أرى بلالاً وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً؟ وهذا ضرب مثلن وإلا فكل الكفار هذا حالهم، يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار، فلما دخل الكفار النار، افتقدوهم فلم يجدوهم، فقالوا :﴿ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً ﴾ أي في الدار الدنيا ﴿ أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار ﴾ ؟ يسلّون أنفسهم بالمحال، يقولون : أو لعلهم معنا في جهنم، ولكن لم يقع بصرنا عليهم، فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عزّ وجلّ :
2182
﴿ ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار ﴾، أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد، من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض، ولعن بعضهم لبعض، لحقّ لا مرية فيه ولا شك؟
2183
يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ ﴾ لست كما تزعمون، ﴿ وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد القهار ﴾ أي هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه، ﴿ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ أي هو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه، ﴿ العزيز الغفار ﴾ أي غفار مع عظمته وعزته، ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴾ أي خبر عظيم وشأن بليغ، وهو إرسال الله تعالى إياي إليكم، ﴿ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴾ أي غافلون، قال مجاهد ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴾ : يعني القرآن، وقوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ أي لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى؟ يعني في شأن آدم ﷺ، وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه، وغير ذلك.
هذه القصة ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة، وفي أول الأعراف، وفي سورة الحجر، وسبحان، والكهف، وهاهنا، وهي أن الله سبحانه وتعالى، أعلم الملائكة قبل خلق آدم ﷺ، بأنه سيخلقه بشراً من صلصال من حمأ مسنون، وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته، فليسجدوا له إكراماً وإعظاماً واحتراماً وامتثالاً لأمر الله عزّ وجلّ، فامتثل الملائكة كلهم سوى إبليس ولم يكن منهم جنساً، كان من الجن، فخانه طبعه وجبلته، فاستنكف عن السجود لآدم، وخاصم ربه عزّ وجل فيه، وادعى أنه خير من آدم، فإنه مخلقو من نار، وآدم مخلوق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله تعالى، وكفر بذلك فأبعده الله عزّ وجلّ، وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه، وحضرة قدسه، وسماه ( إبليس ) إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة، وأنزله من السماء مذموماً مدحوراً إلى الأرض، فسأل الله إلنظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى، وقال :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين ﴾، كما قال عزّ وجلّ :﴿ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإِسراء : ٦٢ ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى، وهي قوله تعالى :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٦٥ ]، وقوله تعالى :﴿ قَالَ فالحق والحق أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، قال السدي : هو قسم أقسم الله به، كقوله تعالى :﴿ ولكن حَقَّ القول مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ [ السجدة : ١٣ ]، وكقوله عزّ وجلّ :﴿ قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً ﴾ [ الإسراء : ٦٣ ].
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين ما أسألكم على هذا البلاغ، وهذا النصح أجراً تعطوني إياه من عرض الحياة الدنيا ﴿ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين ﴾ أي وما أريد على ما أرسلني الله تعالى به، ولا أبتغي زيادة عليه، بل ما أمرت به أديته، لا أزيد عليه ولا أنقص منه، وإنما أبتغي بذلك وجه الله عزّ وجلّ والدار الآخرة، قال مسروق : أتينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال : يا أيها الناس من علم شيئاً فيلقل به، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم، فإنْ الله عزّ وجلّ قال لنبيكم ﷺ :﴿ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين ﴾. وقوله تعالى :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ يعني القرآن ذكر لجميع المكلفين من الإنس والجن، قال ابن عباس ﴿ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ قال : الجن والإنس، وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ ﴾ أي خبره وصدقه ﴿ بَعْدَ حِينِ ﴾ أي عن قريب، قال قتادة : بعد الموت، قال عكرمة : يعني يوم القيامة، ولا منافاة بين القولين، فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة، وقال الحسن البصري : يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
Icon