تفسير سورة النساء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة النساء من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة النساء
مدنية، وهي ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا. وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة. ومائة وستون آية. قاله الثعلبي. وقال البيضاوي : مائة وخمس وسبعون آية.
ومضمنها : الأمر بحفظ ستة أمور : حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وحفظ الأبدان، وحفظ الأديان، وحفظ اللسان، وحفظ الإيمان.

بعد أن قدم الأمر بالتقوى، التي هي ملاك ذلك كله. فقال :
﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ١ ﴾
قلت : من قرأ :﴿ والأرحامَ ﴾ بالنصب، فعطف على لفظ الجلالة، أي : اتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقرأ حمزة بالخفض على الضمير من ﴿ به ﴾ ؛ كقول الشاعر :١
فَالْيَوْمَ قَدْ بتّ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا فَاذْهَبَ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
وجمهور البصريين يمنعون العطف على الضمير إلا بإعادة الجار، فيقولون : مررت به وبزيد. وقال ابن مالك :
ولَيْس عِنْدي لاَزمَا إذْ قَدْ أَتَى في النَّظْم والنَّثْر الصَّحِيح مُثْبَتَا
والنثر الصحيح هو ما قرأ به حمزة، وهذا هو التوجيه الصحيح، وأما من جعل الواو للقسم فبعيد.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الناس ﴾ أي : جميع الخلق، اتقوا ربكم فيما كلفكم به، ثم بيَّن موجب التقوى فقال :﴿ الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ يعني آدم، ﴿ وخلق منها زوجها ﴾ يعني حواء، من ضلع من أضلاعه، ﴿ وبث ﴾ أي : نشر ﴿ منهما رجالاً كثيرًا ونساء ﴾ أي : نشر من تلك النفس الواحدة بنين وبنات. قال البيضاوي : واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء، إذْ الحكمة تقتضي أن يكنَّ أكثر، وذكر :﴿ كثيرًا ﴾ حملاً على الجمع، وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تُخشى والنعمة الباهرة التي توجب طاعة مولاها. ه.
﴿ واتقوا الله الذي تساءَلون به ﴾ أي : يسأل بعضكم بعضَا فيقول : أسألك بالله العظيم، ﴿ والأرحام ﴾ أي : واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فمن قطعها قعطه الله، ومن وصلها وصله الله، كما في الحديث. أو تساءلون به وبالأرحام، فيقول بعضكم لبعض : أسألك بالرحم التي بيني وبينك، أو بالقرابة التي بيني وبينك. ثم هددهم على ترك ما أُمروا به فقال :﴿ إن الله كان عليكم رقيباً ﴾ حافظًا مطلعًا شهيدًا عليكم في كل حال.
الإشارة : درجهم في آخر السورة في مدارج السلوك حتى زجَّهم في حضرة ملك الملوك، وأمرهم أن يتقوا ما يُخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية، ثم دلاهم في أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية، في النشأة الأولية، ليعلَّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة، أو بين الفناء والبقاء.
وقد تكلم ابن جزي هنا على أحكام المراقبة، فقال : إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها، استفاد مقام المراقبة، وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثُمر حالين. أما العلم : فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه، ناظر إليه في جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال : فهو ملازمة هذا العلم بالقلب، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه. ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين : الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات، وكانت ثمرتهما عند المقربين : المشاهدة، التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال.
وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله :( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإن يراك )، فقوله :( أن تعبد الله كأنك تراه ) إشارة إلى الثمرة الثانية، وهي الموجبة للتعظيم، كمن يشاهد ملكا عظيما فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة، وقوله :( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) إشارة إلى الثمرة الأولى، ومعناه : إن لم تكن من أهل المشاهدة – التي هي مقام المقربين- فاعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى، ورأى أن كثيرا من الناس قد يعجزون عنه، تنزل منه إلى المقام الآخر.
واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاتبة، فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة، وترك المعاصي، وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة في أول الأمر تكون المراقبة الخ.
وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد وفى بما عاهد عليه الله يحمد الله، وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة ونقض عهد المقاربة، عاقب النفس عقابا شديدا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة، وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، وهكذا يكون إلى أن يلقى الله تعالى. انتهى كلامه، وهو مقتبس من الإحياء. والله تعالى أعلم.
١ يروى صدر البيت:
فاليوم مربت تهجونا وتشتمنا
والبيت بلا نسبة في الإنصاف ص٤٦٤، وخزانة الأدب ٥/١٢٣، ١٢٦، وشرح الأشموني ٢/٤٣٠، والدرر ٢/٨١، وشرح أبيات سيبويه ٢/٢٠٧، وشرح ابن عقيل ص٥٠٣، والكتاب ٢/٣٩٢..

ثم شرع تعالى في الكلام على حفظ الأموال، وبدأ بأموال اليتامى، اعتناء بهم لضعفهم، فقال :
﴿ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ٢ ﴾
قلت : اليتيم : مَنْ فقدَ أباه، ولا يقال فيه اليتيم عُرفا إلا قبل البلوغ، وهو هنا مجاز، أي : من كان يتيمًا، والحوبُ : الإثم، ويقال فيه : حوبا، بالضم والفتح، مع الواو والألف، مصدر حاب حوبًا وحوَبا وحابا.
يقول الحقْ جلّ جلاله :﴿ وآتوا ﴾ أي أعطوا ﴿ اليتامى أموالهم ﴾ إذا بلغوا، وأُنِس منهم الرشد، وسمَّاهم يتامى بعد البلوغ اتساعًا ؛ لقرب عهدهم بالصغر. حثًا على أن يُدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم، قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إذا أنِسَ فيهم الرشد، ويدل على هذا ما قيل في سبب نزول الآية، وهو أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له، فلما بلغ طلب مال أبيه، فمنعه، فنزلت الآية، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله ورسوله، ونعوذ بالله من الحُوب الكبير. وقيل : إن العرب كانت لا تورِّث الصغار مع الكبار، فأُمِرُوا أن يورثوهم، وعلى هذا يكون اليتيم على حقيقته، فعلى الأول : الخطاب للأوصياء، وعلى الثاني : للعرب التي كانت لا تورث الصغار.
ثم قال :﴿ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ﴾ أي : لا تتبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، أو : لا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتُعطوا الخبيث مكانها من أموالكم. كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف. ﴿ ولا تأكلوا أموالهم ﴾ مضمومًا ﴿ إلى أموالكم ﴾ فتنفقونها معًا، مع أن اليتيم لا يأكل كالكبير، إلا إذا كان المنفَق قدَّر أكله، أو لمصلحة. ﴿ إنه ﴾ أي : الأكل، ﴿ كان حُوبًا كبيرًا ﴾ أي : إثمًا عظيمًا.
الإشارة : أمر الحقّ جلّ جلاله أغنياء القلوب، وهم أكابر الأولياء الراسخون في علم الغيوب، أن يَمنحوا من تعلق بهم من الفقراء والضعفاء، من الغني بالله الذي منحهم الله، حتى لا يلتفتوا إلى سواه، وأن يَقبلوا كل من أتى إليهم من العباد، سواء كان من أهل المحبة والوداد، أو من أهل المخالفة والعناد، ولا يتبدلوا الخبيث بالطيب، بحيث يَقبلون من وجدوه طيب الأخلاق، ويردون من وجدوه خبيث الأخلاق، فإن هذا ليس من شأن أهل التربية النبوية، بل من شأنهم أن يقبلوا الناس على السوية، ويقبلوا فيهم الأعيان، فيقبلون العاصي طائعًا، والكافر مؤمنًا، والغافل ذاكرًا، والشحيح سخيًّا، والخبيث طيبًا، والمسيء محسنًا، والجاهل عارفًا، وهكذا ؛ لما عندهم من الإكسير، وهي الخمرة الأزلية، أي : التي من شأنها أن تقلب الأعيان، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه في وصفها :
تُهذبُ أخلاقَ النَّدامى فيَهْتَدي بها لطريقِ العزمِ مَن لا له عَزْم
ويكرُمُ مَنْ لم يَعْرِف الجودَ كَفُّه ويحلُمُ عند الغيْظِ مَنْ لا لهُ حِلم
وقوله :﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ﴾ يعني : حتى تتحققوا بوصول الغني إلى قلوبهم، فإن تحققتم فخذوا ما بذلوا لكم من أموالهم. والله تعالى أعلم.
ولما كان الأولياء، إذ كانت تحتهم يتيمة لها مال، وخافوا أن يدخل معهم أجنبي، تزوجها أو زوجوها من أبنائهم، حرصا على أكل مالها، ولا يقسطون لها في صداقها، وربما أساءوا عشرتها انتظارا لموتها، فنهاهم الله عن ذلك بقوله :
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا ٣ ﴾
قلت :﴿ ما ﴾ من شأنها أن تقع على ما لا يعقل، وهنا وقعت على النساء لقلة عقلهن حتى التحَقْنَ بمن لا يعقل و﴿ مثنى وثلاث ورباع ﴾ أحوال من ﴿ ما ﴾ ممنوعة من الصرف للوصف والعدل، أي : اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعًا أربعا.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإن خفتم ﴾ يا معشر الأولياء ألاَّ تعدلوا ﴿ في اليتامى ﴾ التي تحت حجركم إذا تزوجتم بهن طلبًا لمالهن، مع قلة جمالهن، فتهجروهن أو تسيئوا عشرتهن، ﴿ فانكحوا ما طاب لكم ﴾ من غيرهن، أو : وإن خفتم ألا تُقسطوا في صداقهن إذا أعجبنكم لِمَالِهنّ الذي بيدكم وجمالهن، فانكحوا غيرهن، ولا تنكحوهن إلا إذا أعطيتموهن صداق أمثالهن.
قالت عائشة رضي الله عنها :( هي اليتيمة تكون في حِجر وليها، فيرغب في مالها وجمالها، ويرد أن ينكحها بأدنى صداقها، فنُهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأُمِروا أن ينكحوا ما سواهن من النساء ). رواه البخاري.
وقال ابن عباس رضي الله عنه :( إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة وأكثر يعني قبل التحريم فإذا ضاق ماله أخذ من مال يتيمه )، فقال لهم : إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى أي : في أموالهن فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن ﴿ مثنى وثلاث ورباع ﴾ أي : اثنتين اثنتين لكل واحدٍ، أو ثلاثاً ثلاثاً، أو أربعًا أربعًا، ولا تزيدوا، فمنع ما كان في الجاهلية من الزيادة على الأربع، وهو مُجمع عليه بنص الآية، ولا عبرة بمن جوَّز تسعًا لظاهر الآية ؛ لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد، لا الجمع، ولو أراد الجمع لقال تسعًا، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانًا.
﴿ فإن خفتم ألا تعدلوا ﴾ بين الاثنتين أو الثلاث أو الأربع، فاقتصروا على واحدة، أو على ما ملكت أيمانكم من قليل أو كثير ؛ إذ لا يجب العدل بينهن، ﴿ ذلك ﴾ الاقتصار على الواحدة ﴿ أدنى ﴾ أي : أقرب ﴿ ألا تعولوا ﴾ أي : تجوروا أو تميلوا، أو ألا تجاوزوا ما فرض عليكم من العدل، أو أدنى ألا يكثر عيالكم فتفتقروا، وهي لغة حِمْيَر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الحق تعالى جعل أولياءه أصنافاً عديدة ؛ فمنهم من غلب عليه فيض العلوم، ومنهم من غلب عليه هجوم الأحوال، ومنهم من غلب عليه تحقيق المقامات، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : كان الجنيد رضي الله عنه قطبًا في العلوم، وكان أبو يزيد رضي الله عنه قطبًا في الأحوال، وكان سهل بن عبد الله قطبًا في المقامات. ه. أي : كل واحد غلب واحد من ذلك، مع مشاركته للآخر في الباقي، فينبغي لكل واحد أن يخوض في فنِّه الذي خصَّه الله به ولا يتصدى لغيره. فقال لهم الحق جل جلاله من طريق الإشارة : فإن خفتم يا مَنْ غلبت عليهم الأحوال أو المقامات، أَلاَّ تُقسطوا في يتامى العلوم التي اختص بها غيركم، فانكحوا ما طاب لكم من ثيبات الأحوال وأبكار الحقائق، كثيرة أو قليلة، فإن خفتم أن تغلبكم الأحوال، أو التنزل في المقامات، ولا تعدلوا فيها، فالزموا حالة واحدة ومقامًا واحدًا، وهو المقام الذي ملكه وتحقق به، فإن أقرب ألا ينحرف عن الاعتدال ؛ لأن كثرة الأحوال تضر بالمريد كما هو مقرر في فنه. والله تعالى أعلم.
ولما أمر بالنكاح أمر ببذل الصداق، فقال :
﴿ وَآتُوا النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ٤ ﴾
قلت :﴿ نِحلة ﴾ : مصدر من ﴿ آتوهن ﴾، لأنها في معنى الإيتاء، يقال : نحله كذا نحلة ونحلا ؛ إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ولا حكم حاكم، والضمير في ﴿ منه ﴾ يعود على الصداق أو على " الإيتاء "، و﴿ نفسًا ﴾ تمييز، و﴿ هنيئاً مريئًا ﴾ : صفتان لمصدر محذوف، أي : أكلاً هنيئًا، وهو من هَنُؤ الطعام ومَرُؤ، إذا كان سائغًا لا تنغيص فيه، وقيل الهنيء : ما يلذه الإنسان، والمريء : ما تُحمد عاقبته.
يقول الحقّ جلّ جلاله : للأزواج :﴿ وآتوا النساء ﴾ التي تزوجتموهن ﴿ صدقَاتهن نحلة ﴾ أي : عطية مُبتلة١، لا مطل فيها ولا ظلم، ﴿ فإن طِبن لكم عن شيءٍ ﴾ من الصداق : وأعطينه لكم عن طيب أنفسهن ﴿ فكلوه هنيئًا ﴾ لاتبعة عليكم فيه، ﴿ مريئًا ﴾ : سائغًا حلالاً لا شبهة فيه، رُوي أن ناسًا كانوا يتحرّجون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئًا، فنزلت. وقيل : الخطاب للأولياء، لأن بعضهم كان يأكل صداق محجورته، فأمروا أن يعطوهن صداقهن، إلا إن أعطينَهم شيئًا عن طيب أنفسهن، والله تعالى أعلم.
الإشارة : وآتوا النفوس حقوقها من الراحة وقوت البشرية، نحلة، ولا تكلفوها فوق طاقتها، فإن طبن لكم عن شيء من الأعمال أو الأحوال، بانشراح صدر ونشاط، فكلوه هنيئًا مريئاً، فإنَّ العبادة مع النشاط والفرح بالله أعظم وأقرب للدوام، وهذا في حق النفوس المطمئنة، وأما النفوس الأمارة فلا يناسبها إلا قهرية المجاهدة مع السياسة ؛ لئلا تمل، أو تقول : من أقامه الحق تعالى في حال من الأحوال أو مقام من المقامات فليلزمه، وليقم حيث أقامه الحق، ويعطيه حقه، فإن طاب وقته لحال من الأحوال فليأكله هنيئًا مريئًا. فالفقير ابن وقته، ينظر ما يبرز له فيه من رزقه، فكل ما وجد فيه قلبه فهو رزقه، فليبادر إلى أكله لئلا يفوته رزقه منه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
١ عطية مبتلة: أي مقطوعة، والتبل: القطع..
ثم نهى الأوصياء عن تمكين اليتامى من أموالهم قبل الرشد، فقال :
﴿ وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ٥ ﴾
قلت :﴿ قيمًا ﴾ : مصدر قام قيامًا وقيما، وأصله : قوامًا، قلبت الواو ياء.
يقول الحقّ جلّ جلاله : للأوصياء :﴿ ولا تؤتوا السفهاء ﴾ التي تحت حضانتكم ﴿ أموالكم ﴾ أي : أموالهم التي في أيديكم، وإنما أضاف أموال اليتامى لهم حثًا على حفظها وتنميتها كأنها مال من أموالهم، أي : ولا تمكنوا السفهاء من أموالهم التي جعلها الله في أيديكم ﴿ قيمًا ﴾ لمعاشهم، تقومون بها عليهم، ولكن احفظوها، واتجروا فيها، واجعلوا رزقهم وكسوتهم فيها باعتبار العادة، فإن طلبوها منكم فعدوهم وعدًا جميلاً، ﴿ وقولوا لهم قولاً معروفًا ﴾ أي : كلامًا لينًا بأن يقول له : حتى تكبر وترشد لتصلح للتصرف فيها. وشبه ذلك. وإنما قال :﴿ وارزقوهم فيها ﴾ دون " منها " ؛ لأن " فيها " يقتضي بقاءها بالتنمية والتجارة حتى تكون محلاً للرزق والكسوة دون " منها "، وقيل : الخطاب للأزواج، نهاهم أن يعمدوا إلى ما خولهم الله من المال فيعطوه إلى نسائهم وأولادهم، ثم ينظرون إلى أيديهم. وإنما سمَّاهن سفهاء استخفافًا بعقلهن، كما عبر عنهن ب " ما " التي لغير العاقل.
وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنما خُلقتْ النارُ للسفهاء قالها ثلاثًا ألا وإن السفهاءَ النساء إلا امرأة أطاعت قيِّمَها ". وقالت أمرأة : يا رسول الله : سميتنا السفهاء ! فقال :( الله تعالى سماكن في كتابه ) يشير إلى هذه الآية. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه :( ثلاثة يَدْعُون الله فلا يُستجاب لهم : رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشْهِد عليه، ورجل أعطى سفيهًا ماله، وقد قال الله تعالى :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ﴾.
قلت : إنما مُنعوا إجابة الدعاء لتفريطهم في مراسم الشريعة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا ينبغي للشيخ أن يُطلع المريد على أسرار التوحيد، وهي أسرار المعاني التي جعلها الله تعالى قائمة بالأشياء، حتى يكمل عقله، ويتحقق أدبه، ويظهر صدقه، فإذا استعجلها قبل وقتها فليعده وعدًا قريبًا، وليقل له قولاً معروفًا، فكم من مريد استعجل الفتح قبل إبانه فعوقب بحرمانه، وكم من مريد اطلع على أسرار الحقيقة قبل كمال خدمته فطُرد أو قتل، ووقتها هو حين تبرز معه فتأخذه الحيرة، اللهم إلا أن يراه الشيخ أهلاً لحملها ؛ لرجحان عقله وكمال صدقه، فيمكنه منها قبل أن تبرز معه، ثم يربيه فيها، وهذا الذي شهدناه من أشياخنا لشدة كرمهم رضي الله عنهم وأرضاهم ورزقنا حسن الأدب معهم، فأطلق الحق تعالى الأموال بطريق الإشارة على أسرار المعاني، وأمر الشيوخ أن يرزقوهم منها شيئًا فشيئًا بالتدريب والتدريج، وأن يكسوهم بالشرائع، ويحتمل أن تبقى الأموال على ظاهرها، ويكون أمر الشيخ أن يمنعوا المريدين من أخذ الأموال قبل التمكين. أشار إلى هذا الورتجبي، فانظره.
ثم ذكر الحق تعالى وقت دفع أموال اليتامى لهم، فقال :
﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَاكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ٦ ﴾
قلت : الابتلاء : الاختبار، و " آنس " : أبصر. والرشد هو كمال العقل بحيث يعرف مصالح نفسه وتدبير ماله من غير تبذير ولا إفساد. و﴿ إسرافًا وبدارًا ﴾ : حالان من " الواو "، أو مفعولان لأجله، و﴿ أن يكبروا ﴾ مفعول ببدار.
يقول الحقّ جلّ جلاله : للأوصياء : واختبروا ﴿ اليتامى ﴾ قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في تصرفاتهم، بأن يُدفع لهم الدرهم والدرهمان، فإن ظهر عليه حسن التصرف زادهم قليلاً قليلا، وإن ظهر عليهم التبذير كفَّ عنهم المال، ﴿ حتى إذا بلغوا النكاح ﴾، وهو البلوغ بعلامته، ﴿ فإن آنستم ﴾ أي : أبصرتم ﴿ منهم رشدًا ﴾، وهو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدين واشترطه قوم، ﴿ فادفعوا إليهم ﴾ حينئِذ ﴿ أموالهم ﴾ من غير تأخير. ﴿ ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا أن يكبروا ﴾ أي : لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم فتزول من يدكم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم ﴿ ومَن كان غنيًّا فليستعفف ﴾ عن أكلها في أجرة قيامه بها، ﴿ ومَن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف ﴾ بقدر حاجته وأجر سعيه، وعنه صلى الله عليه وسلم : أنَّ رجُلاً قال لهُ : إنَّ في حجْرِي يتَيمًا أفآكُلُ مِنْ مَالِهِ ؟ قال :( بالمعْرُوفِ، غَيْرَ مُتأثِّلٍ )١ مَالاً ولا وَاقٍ مَالَكَ بمَالِه ).
﴿ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا ﴾ في قبضها منكم ﴿ عليهم ﴾، فإنه أنفى للتهمة وأبعدُ من الخصومة، وهو ندب، وقيل : فرض، فلا يصدق في الدفع إلا ببينة، ﴿ وكفى بالله حسيبًا ﴾ أي : محاسبًا، فلا تخالفوا ما أمرتم به، ولا تجاوزوا ما حدّ لكم.
وإنما قال :﴿ حسيبًا ﴾ ولم يقل :" شهيدًا "، مع مناسبته، تهديدًا للأوصياء لئلا يكتموا شيئًا من مال اليتامى، فإذا علموا أن الله يحاسبهم على النقير والقطمير، ويعاقبهم عليه، انزجروا عن الكتمان. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغي للشيخ أن يختبر المريد في معرفته وتحقيق بغيته، فإذا بلغ مبلغ الرجال وتحققت فيه أوصاف الكمال، بحيث تحقق فناؤه، وكمل بقاؤه، وتمت معرفته، فيكون تصرفه كله بالله ومن الله وإلى الله، يَفهم عن الله في كل شيء، ويأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ من نصيبه شيئًا، قد تحلَّى بحلية الورع، وزال عنه الجزع والطمع، وزال عن قلبه خوف الخلق وهَمُّ الرزق واكتفى بنظر المَلِك الحق، يأخذ الحقيقة من معدنها، والشريعة من موضعها، فإذا تحققت فيه هذه الأمور، وأنس رشده، فليُطلقُ له التصرف في نفسه، وليأمره بتربية غيره، إن رآه أهلاً لذلك، ولا ينبغي أن يحجر عليه بعد ظهور رشده، ولا يسرف عليه في الخدمة قبل رشده، مخافة أن يزول من يده.
فإن كان غنيًا عن خدمته فليستعفف عنه، وليجعل تربيته لله اقتداء بأنبياء الله. قال تعالى :
﴿ قُل لآَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [ الأنعَام : ٩٠ ] ﴿ وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾
﴿ الشُّعَرَاء : ١٠٩ ]، وإن كان محتاجًا إليها فليستخدمه بالمعروف، ولا يكلفه ما يشق عليه، فإذا دفع إليه السر، وتمكن منه، وأمره بالتربية أو التذكير فليشهد له بذلك، ويوصي بخلافته عنه، كي تطمِئن القلوب بالأخذ عنه، { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ﴾ [ النساء : ٤٥ ].
١ غير متأثل: أي غير جامع..
ولما أمر الحق تعالى بحفظ أموال اليتامى أمر بحفظ أموال النساء، وذكرهن بعدهم لمشاركتهن لهم في الضعف، فقال :
﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ٧ ﴾
قلت : جملة ﴿ مما قل. . ﴾ الخ، بدل ﴿ مما ترك ﴾، و﴿ نصيبًا ﴾ : مصدر مؤكد كقوله :﴿ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ ﴾ [ النساء : ١١ ] أي : نصب لهم نصيبًا مقطوعًا، أو حال، أو على الاختصاص، أعني : نصيبًا مقطوعًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله : وإذا مات ميت وترك مالاً فللرجال نصيب مما ترك آباءهم وأقاربهم، وللنساء نصيب مما ترك والدهن وأقاربهن كالإخوة والأخوات، مما ترك ذلك الميت قل أو كثر، ﴿ نصيبًا مفروضًا ﴾ واجبًا محتمًا.
رُوِيَ أنَّ أَوْسَ بنَ ثَابتِ الأنْصَارِيَّ تُوفِيَّ، وتَركَ امرأة يقال لها :( أم كَحَّة ) وثلاثّ بناتٍ، فأخذ ابْنَا عَمّ الميتِ المَالَ، ولم يُعْطيا المرأَة ولا بَنَاتِه شيئًا، وكان أَهلُ الجَاهلِيَّة لا يُورِّثُون النِّسَاءَ ولا الصغيرَ ولو كان ذكرًا، ويقولون : إنما يَرث مَنْ يُحارب ويَذب عن الموروث، فجاءت أمُ كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيخ، فقالت : يا رسول الله ؛ إن أوس بن ثابت مات، وترك بنات ثلاثًا، وأنا اِمْرأته، ولَيْس عِنْدِي مال أُنْفقُه عَليهنّ، وقد تَرَك أبُوهُن مالاً حسنًا، وهو عند سُويْدٍ وعَرْفَجَة، فَدَعاهُما النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقالا : يا رسُولَ الله ولَدُها لا يَركُب فَرسًا، ولا يَحْمِل سِلاَحًا، لا ينُكأ عَدُوًّا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( انْصَرِفُوا حتى أرى ما يُحدِثُ الله تعالى )، فانْصرَفُوا. فنزلت الآية. فأثبت الله لهن في الآية حقًا، ولم يُبِّين كم هو فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُويد وعَرفجَة :( لا تُفرقا مِنْ مَال أوْسٍ شَيئًا، فَإنّ الله تعالى جَعَل لِبنَاتِه نَصِيبًا، ولم يبَّين كم هو حتى أنظُرَ ما يُنزل الله تعالى )، فأنزل الله تعالى بعدُ :﴿ يُوصِيكُمُ اللهُ ِفي أوْلادِكُمْ ﴾. . . إلى قوله. . . ﴿ الْفَوْزُ الْعَظِيم ١٣ ﴾ [ النساء : ١١، ١٣ ]. فأرسل إليهما :( أن ادفعا إلى أم كحة الثُّمْن، وإلى بناته الثُّلثين، ولكما باقي المال ).
الإشارة : كما جعل الله للنساء نصيبًا من الميراث الحسي جعل لهن نصيبًا من الميراث المعنوي، وهو السر، إن صحبتْ أهل السر، وكان لها أبو الروحانية، وهو الشيخ، فللرجال نصيب مما ترك لهم أشياخهم من سر الولاية، وللنساء كذلك على قدر ما سبق في القسمة الأزلية، قليلة كانت أو كثيرة، نصيبًا مفروضًا معينًا في علم الله وقدره، وقد سواهن الله تعالى مع الرجال في آية السير، فقال :﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِنَاتِ ﴾ [ الأحزَاب : ٣٥ ] إلى آخر الآية، فمَنْ صار منهن مع الرجال أدرك ما أدركوا. وبالله التوفيق.
ثم أمر الورثة بالإحسان إلى من حضر معهم القسمة، فقال :
﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ٨ ﴾
قلت : الضمير في ﴿ منه ﴾ : يعود على المقسوم المفهوم من القسمة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإذا حضر ﴾ معكم في قسمة التركة ذَوو القرابة مِمَّنْ لا يرث، كالأخوال والخالات والعمات، ﴿ واليتامى والمساكين فارزقوهم ﴾ أي : فأعطوهم شيئًا من المال المقسوم تطييبًا لقلوبهم. فإن كان المال لغيركم، أو كان الورثة غيرَ بالغين، فقولوا لهم ﴿ قولاً معروفًا ﴾، بأن تُعلموهم أن المال لغيرنا، ولو كان لنا لأعطيناكم، والله يرزقنا وإياكم.
واختلف في هذا الأمر، هل للندب وهو المشهور أو للوجوب ونسخ بآية المواريث ؟ وقيل : لم يُنسخ، وهي مما تهاون الناس بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله لخواص أحبابه : إذا دارت الكؤوس بخمرة الملك القدوس، وتعاطيتهم قسمتها بين أرواحكم حتى امتلأت جميعُ أشباحكم، وروت منها عُروقكم، وحضر معكم من ليس من أبناء جنسكم، ممن لا يُحل شرْب خمرتكم، فإن كان من أهل المحبة والوداد، أو من له بكم قرابة واستناد، فلا تحرموه من شراب خمرتكم، ولا من نفحات نسمتكم، فإنكم قوم لا يشقى جليسكم، فارزقوه من ثمار علومكم، واسقوه من شراب خمرتكم، وذكَّروه بالله، وقولوا له ما يدله على الله، ويوصله إلى حضرة الله، وهذا هو القول المعروف، الذي هو بالنصح موصوف.
رُوِي أن أبا هريرة رضي الله عنه نادى في سوق المدينة : يا معشر التجار، اذهبوا إلى المسجد، فأنَّ تركة مُحمدٍ تقسم فيه، لتأخذوا حقكم منها مع الناس قبل أن تنفد، فذهب التُجَّارُ إلى المسجد النبوي، فوجدوه معمورًا بالناس، بعضهم يُصلي، وبعضهم يتلو، وبعضهم يذكر، وبعضهم يعلم العلم، فقالوا : يا أبا هريرة، ليس هنا ما ذكرت من قسم التركة‍‍ ! فقال لهم :( هذه تركة محمد صلى الله عليه وسلم، لا ما أنتم عليه من جمع الأموال ) أو كما قال رضي الله عنه.
ثم حث الأوصياء على الرفق بأولاد الناس، الذي هم في حجرهم، فقال :
﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا ٩ ﴾
قلت :﴿ لو ﴾ هنا شرطية، تخلص للاستقبال، وجوابها :﴿ خافوا ﴾، وحذف مفعول ﴿ يخشى ﴾ للعموم، فيصدق بخشية العذاب وخشية العتاب وخشية البعد عن الأحباب، على حساب حال المخاطبين بهذه الخشية.
يقول الحقّ جلّ جلاله : للأوصياء الذين في ولايتهم أولاد الناس :﴿ وليخش ﴾ الذين يتولون يتامى الناس، فليحفظوا مالهم، وليحسنوا تنميته لهم ولا يضيعوه، وليخافوا عليهم الضيعة، كما يخافون على أولادهم، فإنهم لو ماتوا وتركوا ﴿ ذرية ضعافًا خافوا عليهم ﴾، فكما يخافون على أولادهم بعدهم كذلك يخافون على أولاد الناس، ﴿ فليتقوا الله ﴾ في شأنهم، وليحفظوا عليهم أموالهم، وليرفقوا بهم ويلاطفوهم في الكلام، كما يُحبون أن يلاطف بأولادهم، ﴿ وليقولوا ﴾ لهم ﴿ قولاً سديدًا ﴾ أي : عدلاً صوابًا بالشفقة وحسن الأدب.
وقيل : الخطاب لمن حضر المريض عند الإيصاء فيقولون له : قدم لنفسك، أعتق، تصدق، أعط كذا، حتى يستغرق ماله، فنهاهم الحق تعالى عن ذلك، وقال لهم : كما تخافون الضيعة على أولادكم بعدكم خافوا على أولاد الناس، فليتقوا الله في أمر المريض بإعطاء ماله كله، ﴿ وليقولوا قولاً سديدًا ﴾ : عدلاً، وهو الثلث، وقيل : للمؤمنين كلهم عند موتهم، بأن ينظروا للورثة، فلا يسرفوا في الوصية بمجاوزة الثلث. والله تعالى أعلم.
الإشارة : أمر الحق جل جلاله أهل التربية النبوية إذا خافوا على أولادهم الروحانيين أن ينقطعوا بعد موتهم، أن يمدوهم بالمدد الأبهر، ويدلوهم على الغني الأكبر، حتى يتركوهم أغنياء بالله، قد اكتفوا عن كل أحد سواه، مخافة أن يسقطوا بعد موتهم في يد من يلعب بهم، فليتقوا الله في شأنهم، وليدلوهم على ربهم، وهو القول السديد.
وينسحب حكمها على أولاد البشرية، فمن خاف على أولاده بعد موته، فليتق الله وليكثر من طاعة الله، وليحسن إلى عباد الله، في أشباحهم وأرواحهم أما أشباحهم فيُطعمهم مما خوله الله، ففي بعض الأثر عنه عليه الصلاة والسلام :( ما أحْسَنَ عَبْدٌ الصَّدَقَةَ في مَاله إلا أحْسَنَ اللهُ الخِلافَةَ عَلَى تَرِكَته ). وأما الإحسان إلى أرواحهم، فيدلهم على الله، ويرشدهم إلى طاعة الله، ويعلمهم أحكام دين الله. فمن فعل هذا تولى الله حفظ ذريته من بعده، فيعيشون في حفظ ورعاية وعز ونصر، كما هو مشاهد في أولاد الصالحين، قال تعالى :
﴿ وَهُوَ يَتَوَلَّى الْصَّالِحِينَ ﴾ [ الأعرَاف : ١٩٦ ]، وتذكر قوله تعالى :
﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [ الكهف : ٨٢ ].
وقال القشيري في هذه الآية : إن الذي ينبغي للمسلم أن يدخر لعياله التقوى والصلاح، لا المال، لأنه لم يقل فليجمعوا لهم المال، وليكثروا لهم العقار والأسباب، وليخلفوا العبيد والأثاث، بل قال :﴿ فليتقوا الله ﴾ فإنه يتولى الصالحين. ه المراد منه.
ثم ذكر الحق تعالى وعيد من يأكل مال اليتيم، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأُكلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأكلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ١٠ ﴾
قلت :﴿ ظلمًا ﴾ : تمييز، أو مفعول لأجله.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا ﴾ من غير موجب شرعي، ﴿ إنما يأكلون في بطونهم نارًا ﴾، أي : ما يجُر إلى النار ويؤول إليها.
وعن أبي برزة أنه صلى الله عليه وسلم قال :( يبعثُ اللهُ أقوامًا من قبورهم تتأججُ أفواههم نارًا )، فقيل : مَنْ هم يا رسول الله ؟ قال :( ألم تر أن الله يقول :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا ﴾ ) أي : يحترقون في نار، وأي نار ! ! والصَّلْى : هو الشيّ، تقول : صليت الشيء : شويته، وأصليته وصليته، وذكر البطون مبالغة وتهجين لحالهم.
الإشارة : حذَّر الحق جلّ جلاله أهل الدعوى، الذين نصبوا أنفسهم للشيخوخة، وادعوا مقام التربية، مع كونهم جهالاً بالله، محجوبين عن شهود أسرار التوحيد، أن يأخذوا أموال الضعفاء ؛ الذين تعلقوا بهم ؛ لأنهم إنما يدفعون لهم ذلك طمعًا في الوصول إلى الله. وهم ليسوا أهلاً لذلك، فإذا أكلوا ذلك فإنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا، وهو تكثيف الحجاب، وزيادة العنت والتعب، إن أقبل عليهم الناس فرحوا واستبشروا، وإن أدبروا عنهم حزنوا وغضبوا، فأيُّ عذاب أعظم مِنْ هذا ! !.
فتحصَّل من أول الآية إلى آخرها، أن الحق تعالى- أمر أهل الغني الأكبر، وهم الذين أهلَّهم للتربية النبوية، بأن سلكوا الطريق وأشرقت عليهم شموس التحقيق على يد شيخ كامل، بالاستعفاف، ولا يأخذوا إلاّ قدر الحاجة، من أموال مّنْ انتسب إليهم، وسد الباب لأهل الدعوى، لأنه مِنْ أكْلِ أموال الناس بالباطل، لأنه يعطى على وجه لم يوجد في المعطى إليه، إلا إذا كان وجه الصدقة المحضة، مع أنه قد يكون غير مستحق لها. والله تعالى أعلم.
ثم بين الحق تعالى قسمة التركة، فقال :
﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ. . . ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يوصيكم الله ﴾ أي : يأمركم ويعهد إليكم، ﴿ في أولادكم ﴾، أي : في بيان ميراثهم، ثم فصَّله فقال ﴿ للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾، أي يعُدُ كل ذكر بأنثيين، فإذا ترك ابنًا وبنتًا، كانت من ثلاثة للذكر سهمان وللبنت سهم، وإذا ترك ابنًا وبنتين فله قسمتان، ولكل واحدة قسمة، وهكذا، قال ابن جزي : هذه الآية نزلت بسبب سعد بن الربيع، وقيل : بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ؛ ورفَعت ما كان في الجاهلية من ترك توريث النساء والأطفال. وقيل : نُسخت الوصية للوالدين والأقربين.
وإنما قال :﴿ يوصيكم ﴾ بلفظ الفعل الدائم، ولم يقل : أوصاكم، تنبيهًا على نسخ ما مضى، والشروع في حكم آخر، وإنما قال :﴿ يوصيكم ﴾ بالاسم الظاهر، أي :﴿ الله ﴾ ولم يقل : نوصيكم، لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء، وإنما قال :﴿ في أولادكم ﴾ ولم يقل : في أبنائكم ؛ لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى الابن المتبني، وليسوا من الورثة، فإن قيل : هلاّ قال : للأنثيين مثل حظ الذَّكر، أو للأنثى نصف حظ الذَّكر ؟، فالجواب، أنه بدأ بالذَّكَرِ لفضله، ولأن القصد ذكُر حظه، ولو قال للأنثيين مثل حظ الذكر لكان فيه تفضيل للإناث. ه.
الإشارة : كما أوصى الله تعالى في أولاد البشرية، أوصى على أولاد الروحانية، ويقع التفضيل في قسمة الإمداد على حسب التعظيم والمحبة والعطف من الشيخ، فبقدر ما يقع في قلب الشيخ، يسري إليه المدد، فقد يأخذ مثل حظ رجلين أو أكثر، على حسب ما سبق من القسمة الأزلية. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم البنات إذا انفردن، فقال :
﴿. . . فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ. . . ﴾
قلت : أنث الضمير ﴿ كنّ ﴾ باعتبار الخبر، أو يعود على المتروكات، وما قاله الزمخشري بعيد. ومن قرأ ﴿ واحدةُ ﴾ بالرفع، ففاعل كان التامة، ومن قرأ بالنصب فخبر كان.
يقول الحقّ جلّ جلاله : فإن كان المتروك من الأولاد ﴿ نساء ﴾ ليس معهن ذكور ﴿ فوق اثنتين ﴾ أي : اثنتين فما فوق، ﴿ فلهن ثلثا ما ترك ﴾، والباقي للعاصب، وأخذ ابن عباس بظاهر الآية، فأعطاهما النصف كالواحدة، والجمهور على خلافه، وأن لفظ ﴿ فوق ﴾ زائدة كقوله :﴿ فاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاِق ﴾ [ الأنفال : ١٢ ]، وقيل : أخذ الثلثين بالسُنة، وإن ﴿ كانت ﴾ بنتًا ﴿ واحدة فلها النصف ﴾، والباقي للعاصب، وفيه دليل على أن الابن يأخذ جميع المال إذا انفرد ؛ لأن له مثل حظ الأنثيين.
الإشارة : انظر البنت، إذا انفردت أخذت النصف، وإذا اجتمعت مع غيرها نقص لها، كذلك أمداد الأشياخ، من انفرد عددهم وحده، أخذ أكثر مما إذا اجتمع مع غيره، لانجماع نظر الشيخ إليه، وكان شيخنا رضي الله عنه يقول له شيخه : ما زال يأتيك الرجال أي : إخوانك من الفقراء وكان وحده، فيقول له : الله لا يجعل أحدًا يأتي حتى نشبع. وكذلك أيضًا، انفراد العبد بالعبادة، في وقت الغفلة، مددها أعظم من كونه مع غيره، كالمجاهد خلف الفارين. وكذلك قال عليه الصلاة والسلام :" طوُبَى للغُرَبَاءِ " والله تعالى أعلم.
ثم ذكرت ميراث الأبوين، فقال :
﴿. . . وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ. . . ﴾
قلت :﴿ السدس ﴾ مبتدأ، و﴿ لأبويه ﴾ خبر، ﴿ لكل واحد ﴾، بدل من ﴿ أبويه ﴾، ونكتة البدل إفادة أنهما لا يشتركان في السدس، ولو قال : لأبوَيْه السدس ؛ لأوهم الاشتراك.
يقول الحقّ جلّ جلاله : إذا مات الولد، وترك أبويه، فلكل ﴿ واحد منهما السدس إن كان له ولد ﴾ ذكرًا أو أنثى، واحدًا أو متعددًا، للصلب أو ولد ابن، فكلهم يَردُّون الأبوين للسدس، ﴿ فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه ﴾ فقط، ﴿ فلأمه الثلث ﴾، والباقي للأب، ﴿ فإن كان له إخوة ﴾، أي : أخَوَان فأكثر، سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم، أو مختلفين، ﴿ فلأمه السدس ﴾، والباقي للأب، ولا شيء للأخوة معه.
وأخذ ابن عباس بظاهر الآية. فلم يحجبها للسدس باثنين، وجعلها كالواحد، واحتج بأن لفظ الإخوة جمع، وأقله ثلاثة، وأجيب بأن لفظ الجمع، يقع على الاثنين كقوله ﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٧٨ ]، ﴿ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَاب ﴾
[ ص : ٢١ ]، ولقوله صلى الله عليه وسلم " الاثْنَانِ فَما فَوْقَهمَا جَمَاعَةٌ " وهذا كله، بعد إخراج الوصية وقضاء الدين، وإنما قدّم الحق تعالى الوصية على الدَّين، مع كون الدّين مقدمًا في القضاء من رأس المال ؛ لأن أرباب الدّين أقوياء، بخلاف الموصى لهم، فقدمهم اعتناء بهم.
الإشارة : الروح كالأب، والبشرية كالأم، وعقد الصحبة مع الشيخ كالولد، فأن كان الإنسان له صحبة مع شيخ التربية، يعني له ورد منه، فالبشرية والروحانية سواء، إذ كلاهما يتهذبان ويتنوران بالأدب والمعرفة ؛ الأدب للبشرية، والمعرفة للروحانية، إذ استمد بالطاعة الظاهرُ استمد الباطن، وبالعكس، وأن لم يكن عقد الصحبة موجودًا كان ميراث البشرية من الحس أقوى كميراث الأم مع فقد الولد، أو تقول : الإنسان مركب من حس ومعنى، فالحس كالأم، والمعنى كالأب، لأن المعاني قائمة بالحس، والروح تستمد منها معًا، فهي كالولد بينهما، فإن كانت الروح حية بوجود المعرفة، استمدت منهما معًا، وإن كانت ميتة، كان استمدادها من الحس أكثر، كموت الولد في ميراث الأم.
أو تقول : الإنسان بين قدرة وحكمة، القدرة كالأب، والحكمة كالأم، والقلب بينهما كالولد، فإِنْ وُجد القلب استمدت الروح من القدرة والحكمة، واستوى نظرها فيهما. وإن فقد القلب غلب على الروح ميراث الحكمة، كفَقْدِ الولد في ميراث الأم، وإن كان للقلب أخوة من الأنوار والأسرار بهما فللروح من ميراث الحكمة السدس، والباقي كله للقدرة، ولا يعرف هذا إلا من حقق معرفة القدرة والحكمة، ذوقًا وكشفًا، وإلاَّ. . فليسلُم لأهل المعرفة. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى حكمة تقسيم تركة الأب والابن على ما فرض، وأن ذلك لا يعلمه إلا هو : فقال :
﴿. . . آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ١١ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : قد بينت لكم ما يرثُ الأبُ من ابنه، وما يرث الولدُ من أبيه، ولو وكلت ذلك إليكم لأفسدتم القسمة ؛ لأنكم ﴿ لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا ﴾ للأخر، هل الأب أقرب نفعًا لابنه، فتعطوه الميراث كله دون ولد الميت، أو الولد أقرب نفعًا لأبيه، من الأب لابنه، فتخصونه بالإرث، ففرضتُ ميراث الأب وميراث الولد، ولم نكل ذلك إليكم. ﴿ فريضة ﴾ حاصلة ﴿ من الله ﴾، ﴿ إن الله كان عليمًا ﴾ بمصالح العباد ﴿ حكيمًا ﴾ بما فرض وقدَّر.
وقال ابن عباس : لا تدرون أيهم أطوع لله عز وجل من الآباء والأبناء، وأرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله تعالى يشفع المؤمنين في بعضهم بعضًا، فيشفع الولد في والديه، إن كان أرفع درجة منهما، فيرفعهما الله إليه، ويشفع الوالدين في ولدهما، إن كانا أرفع درجة منه، فيرتفع إليهما لتقر بذلك أعينهما، ه. بالمعنى.
الإشارة : الإنسان لا تقوم روحانيته إلا ببشريته، وبشريته إلا بروحانيته، فلا يدري أيهما أقرب له نفعًا، لأن البشرية محل للعبودية، والروحانية محل لشهود عظمة الربوبية، ولا بد للجمع بينهما، وكذلك الحس، لا يقوم إلا بالمعنى، والمعنى لا يقوم إلا بالحس، فلا تدري أيهما أقرب نفعًا لك أيها المريد، فتؤثره، وإن كانت المعاني هي المقصودة بالسير، لكن لا تقوم إلا بوجود الحس، فلا بد من ملاحظته.
وقال الورتجبي هنا ما نصه : أشكل الأمر من تلك الطائفتين، أيهم يبلغ درجة الولاية والمعرفة الموجبة مشاهدة الله وقربته، التي لو وقعت ذرة منها لأحد من هذه الأمة لينجو بشفاعته سبعون ألفًا بغير حساب، أي : اخدموا آباءكم وارحموا أولادكم، فربما يخرج منهم صاحب الولاية، ليشفع لكم عند الله تعالى، وحكمة الإبهام ههنا ؛ ليشمل الرحمة والشفقة على الجمهور، لتوقع ذلك الولي الصادق. ه.
قلت : فسر الآباء والأبناء بالحسيين، وتشمل الآية أيضًا الآباء والأبناء المعنويين والروحانيين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ميراث الزوج والزوجة، فقال :
﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ. . . ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولكم ﴾ أيها الأزواج، من ميراث أزواجكم ﴿ نصف ﴾ ما تركن ﴿ إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد ﴾ وارث، ذكرًا أو أنثى، مفردًا أو متعددًا، من بطنها أو من صلب بنيها أو بني بنيها وإن سفل، منكم أو من غيركم، ﴿ فلكم الربع مما تركن ﴾، بعد قضاء الدين وإخراج الوصية.
﴿ ولهن ﴾ أي : الزوجات من ميراث الزوج ﴿ الربع ﴾ مما ترك ﴿ إن لم يكن ﴾ له ولد لا حق، ذكرًا أو أنثى، على وزان ما تقدم في الزوجة، ﴿ فإن كان لكم ولد فلهن الثمن ﴾ تنفرد به إن كانت واحدة، ويُقسم بينهن إن تعددن، ولا ينقص لأهل السهام مما فرض الله لهم إلا ما نقصه العَوْل على مذهب الجمهور، خلافًا لابن عباس، فإنه لا يقول بالعول.
فإن قيل : لِمَ كرر قوله :﴿ من بعد وصية ﴾ مع ميراث الزوج وميراث الزوجة، ولم يذكره قبل ذلك إلا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين ؟ فالجواب : أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة، والموروث في ميراث الزوجة هو الزوج، فكل واحدة قضية مستقلة، فلذلك ذكر مع كل واحدة، بخلاف الأول ؛ فإن الموروث فيه واحد، ذكرَ حكم ما يرث منه أولاده وأبواه، وهي قضية واحدة، فلذلك قال فيه :﴿ من بعد وصية ﴾ مرة واحدة. قاله ابن جزي. قال البيضاوي : فرض للرجل بحق الزواج ضِعف ما للمرأة كما في النسب، وهكذا قياس كل رجل وامرأة، إذا اشتركا في الجهة والقرب، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة. ه.
الإشارة : إذا ماتت النفس، ولم تبق لها بقية، وورثت الروحُ ما كان لها من العلوم الكسبية : النقلية والعقلية، وأضافته إلى مَالهَا من العلوم الوهبية، فانقلب الجميع وهبيًا، قال بعض شيوخ أشياخنا :( كنت أعرف أربعة عشر علمًا، فلما دخلت علم الحقيقة شرطت ذلك كله، فلم يبقى إلا الكتاب والسنة )، أو كما قال : وقال أبو سليمان الداراني : إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم، من غير أن يؤدي إليها عالمٌ علمًا.
فإن بقي للنفس بقية، نقص ميراث الروح منها، بقدر البقية، كما أن الزوج ينقص ميراثه مع الفرع، وكذلك إذا ماتت الروح بالرجوع عن طريق الجِد، ورثت النفسُ ما كان لها من العلوم الوهبية، والمعاني والأسرار القدسية، فتأكلها، وتردها نقلية حسية، بعد أن كانت وهبية ذوقية، فتتحسس المعاني، وتتكثف الأواني. والعياذ بالله من السلب بعد العطاء، إلا أن ميراث النفس من الروح أقوى، فإن بقي للروح شيء من الحياة، نقص ميراث النفس منها، كنقص الزوجة مع الفرع من ميراث الزوج، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ميراث الأخ للأخ، فقال :
﴿. . . وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ١٢ ﴾
قلت : الكلالة : انقطاع النسل، بحيث لم يبقى للميت فرع ولا أصل، لا ذكر ولا أنثى، وهو مصدر من تَكَلَّلهُ النسبُ، إذا أحاط به كالإكليل، لأن ورثته أحاطوا به ولَيْسوا منه. ونظم بعضهم معنى الكلالة، فقال :
إن امرؤٌ يَسْأَلُ عن كَلاَلَة هو انْقِطاعُ النَّسْلِ لآ مَحَاله
لا والدُ يَبْقَى ولا مولوُد قدْ هَلَكَ الأبْنَاءُ والجُدُود
فتحتمل أن تطلق هنا على الميت، أو على الورثة، أو على الوراثة، أو على القرابة أو على المال. فإن كانت على الميت، فإعرابه خبر كان، و﴿ يورث ﴾ صفة، أو ﴿ يورث ﴾ خبر كان، و﴿ كلالة ﴾ حال من الضمير في ﴿ يورث ﴾، أو " كان " تامة، و﴿ يورث ﴾ صفة و﴿ كلالة ﴾ حال من الضمير. وإن كانت على الورثة، فهو خبر كان، على حذف مضاف ؛ أي : ذا كلالة، وإن كانت الوِرَاثة فهو مصدر في موضع الحال، وإن كانت القرابة، فهو مفعول من أجله، أي : يورث من أجل القرابة. وإن كانت للمال، فهو مفعول ثانِ ليورث، وكل من هذه يحتمل أن تكون " كان " تامة أو ناقصة. قاله ابن جزي. و﴿ غير مضار ﴾، منصوب على الحال، أو العامل فيه ﴿ يوصى ﴾، و﴿ مضار ﴾ أسم فاعل، ووصية : مصدر ليوصي، أو مفعول ﴿ مضار ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله : وإن كان الميت رجلاً أو امرأة، يُورثان كلالة، بحيث لا فرع لهما ولا أصل، قد انقطع عمود نسبهما، ولهما أخ أو أخت لأم ﴿ فلكل واحد منهما السدس ﴾. ﴿ فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ﴾، الذكر والأنثى سواء، لأن الإدلاء للميت بمحض الأنوثة، ومفهوم الآية : أنهما لا يرثان مع الأم والجدة، كما لا يرثان مع البنت وبنت الابن، إذ ليس حينئذٍ بكلالة، وإنما قيدنا الأخ والأخت بكونهما للأم لأن الأخ الشقيق أو للأب سيأتي في آخر السورة. والأخت تقدم أنَّ لها النصف، وأيضًا : قد قرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، :" وله أخ أو أخت لأم ".
وهذا كله ﴿ من بعد وصية يوصى بها أو دين ﴾ حال كونه ﴿ غير مُضارٍ ﴾ في الوصية أو الدين، كالوصية بأكثر من الثلث، أو للوارث، أو فِرارًا منه، فإن عُلِم أنه قصد الإضرار، رد ما زاد على الثلث، واختلف في رد الثلث على قولين. قاله ابن جزي. ﴿ وصيًة من الله ﴾، أي : نوصيكم وصية، أو غير مضار وصية من الله. قال ابن عباس :( الإضرار في الوصية من الكبائر ). ﴿ والله عليم ﴾ بمصالح عباده، يقسم المال على حسب المصلحة، ﴿ حليم ﴾ لا يعاجل بالعقوبة من خالف حدوده.
الإشارة : اعلم أن الأخوة في الشيخ كالأخوة في النسب، لأنهم يرضعون من ثدي واحدة ولبن واحد، فإن مات أحدهم، ورث أخوه المدد الذي كان يأخذه من شيخه، وكذا إذا رجع فإنه موت فينقلب المدد إلى أخيه، ومثاله كماء فُرِّقَ على قواديس، فإذا انسدت إحدى القواديس رجع الماء إلى الأخرى، فإن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في ذلك المدد، والله تعالى أعلم.
ثم حذر الحق –تعالى- من مخالفة ما حد في الوصايا والمواريث، فقال :
﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ١٣ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ١٤ ﴾
قلت : توحيد الضمير في ﴿ نُدخله ﴾ مراعاة للفظ ﴿ من ﴾. وجمع الحال في ﴿ خالدين ﴾ مراعاة للمعنى. و﴿ خالدين ﴾ و﴿ خالدًا ﴾ : حال مقدرة من ضمير ﴿ نُدخله ﴾، كقولك، كقولك : مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا، وليسا صفتين لجنات ونارًا، وإلا لوجب إبراز الضمير ؛ لأنهما جرتا على غير مَنْ هُمَا له.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ تلك ﴾ الأحكام التي شرعناها لكم في أمر الوصايا والمواريث، هي ﴿ حدود الله ﴾ حدَّها لكم لتقفوا معها ولا تتعدوها ﴿ ومن يطع الله ﴾ فيما أمر به وحدّه ﴿ ورسوله ﴾ فيما شرَّعه وسنَّه ﴿ ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز ﴾ أي : الفلاح ﴿ العظيم ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد حدَّ الحق ـ جل جلاله ـ لأهل الشريعة الظاهرة حدودًا قام ببيانها العلماء، وحدَّ لأهل الحقيقة ـ وهي سر الولاية ـ حدودًا، قام بها الأولياء، فمن قام بحدود الشريعة الظاهرة كان من المؤمنين الصالحين، ومن تعداها كان من العاصين الظالمين، ومن قام بحدود الحقيقة الباطنية، وصحب أهلها كان المحسنين العارفين المقربين، ودخل جنة المعارف، ومن تعدَّ حدود الحقيقة، أو لم يصحب أهلها كان من عوام أهل اليمين، وله عذاب الحجاب في غم الحساب، وقال في الحاشية : في حد حدوده إشارة للعبودية، في إخراج كل عن نظره واختياره، ثم انقياده وذلته لحكم ربه، والوقوف عند حدوده.
وقال الورتجبي : قيل :﴿ تلك حدود الله ﴾ أي : الإظهار من الأحوال للمريدين على حسب طاقتهم لها، فإن التعدي فيها يهلكهم، وقال أبو عثمان : ما هلك امرؤ لزم حده ولم يتعد طوره. هـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

﴿ ومن يعص الله ﴾ فيما أمر ونهى، ﴿ ورسوله ﴾ فيما شرعه، ﴿ ويتعدّ حدوده ﴾ التي حدها، فتجاوز إلى متابعة هواه، ﴿ ندخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين ﴾. وهذا إذا أنكر مشروعيتها فيكون كافرًا، وإلاَّ كان عاصيًا في حكم المشيئة، ومذهب أهل السنة أنه لا يخلد، وحملوا الآية على الكافر، أو عبارة عن طول المدة، كما في قاتل النفس. والله أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد حدَّ الحق ـ جل جلاله ـ لأهل الشريعة الظاهرة حدودًا قام ببيانها العلماء، وحدَّ لأهل الحقيقة ـ وهي سر الولاية ـ حدودًا، قام بها الأولياء، فمن قام بحدود الشريعة الظاهرة كان من المؤمنين الصالحين، ومن تعداها كان من العاصين الظالمين، ومن قام بحدود الحقيقة الباطنية، وصحب أهلها كان المحسنين العارفين المقربين، ودخل جنة المعارف، ومن تعدَّ حدود الحقيقة، أو لم يصحب أهلها كان من عوام أهل اليمين، وله عذاب الحجاب في غم الحساب، وقال في الحاشية : في حد حدوده إشارة للعبودية، في إخراج كل عن نظره واختياره، ثم انقياده وذلته لحكم ربه، والوقوف عند حدوده.
وقال الورتجبي : قيل :﴿ تلك حدود الله ﴾ أي : الإظهار من الأحوال للمريدين على حسب طاقتهم لها، فإن التعدي فيها يهلكهم، وقال أبو عثمان : ما هلك امرؤ لزم حده ولم يتعد طوره. هـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ولما فرغ الحق تعالى من الأمر بحفظ الأموال، شرع في الكلام على حفظ الأنساب، وقدّم الكلام أولا على الزنى ؛ إذ به تختلط الأنساب، ويختل نظام حفظها، ثم تكلم بعد على النكاح وما يحرم من النساء وما يحل، فقال :
﴿ وَاللاَّتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ١٥ وَاللَّذَانَ يَأتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً ١٦ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ النساء ﴿ اللاتي يأتين الفاحشة ﴾ أي : الزنى، سُمِّيَ فاحشة لفُحش قبحه وبشاعة فعله شرعًا، ﴿ من نسائكم ﴾ المسلمات، ﴿ فاستشهدوا عليهن ﴾ أي : اطلبوا مَنْ رَمَاهُنَّ بذلك أن يُشْهِدوا ﴿ عليهن أربعة منكم ﴾، أي : من عدول المؤمنين يرونهما كالمرود في المكحلة، وإنما جعلوا أربعة مبالغة في الستر على المؤمن، أو ليكون على كل حال واحد اثنان، ﴿ فإن شهدوا ﴾ عليهن بذلك ﴿ فأمسكوهن في البيوت ﴾، واجعلوه سجنًا لهن ﴿ حتى يتوفاهن الموت ﴾ أي : يستوفي أجلّهن الموتُ، أو يتوفاهن ملك الموت، ﴿ أو يجعل الله لهن سبيلاً ﴾ كتعيين الحد المخلّص من السجن، وكان هذا في أول الإسلام ثم نُسخ بما في سورة النور من الحدود، ويحتمل أن يراد التوصية بإمساكهن بعد أن يُجلدن كي لا يَعُدْن إلى الزنى بسبب الخروج والتعرض للرجال.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي للعبد، إذا طَغَتْ عليه نفسُه، وأرادت ارتكاب الفواحش، أن يستشهد عليها الحفظة، الذين يحفظون عليه تلك المعاصي، فإن لم تستحِ، فليعاقبها بالحبس في سجن الجوع والخلوة والصمت، حتى تموت عن تلك الشهوات، أو يجعل الله لها طريقًا بالوصول إلى شيخ يُغيِّبه عنها، أو بوارد قوي من خوف مزعج أو شوق مقلق، فإن تابت وأصلحت، أعرض عنها واشتغل بذكر الله، ثم يغيب عما سواه. وبالله التوفيق.
واكتفى بذكر حدِّهن، بما في سورة النور، وهذا الإمساك كان خاصًا بالنساء بدليل قوله ﴿ واللذان يأتيانها منكم ﴾ أي : الزاني والزانية منكم، ﴿ فآذوهما ﴾ بالتوبيخ والتقريع ﴿ فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ﴾ أي : اقطعوا عنهما الأذى، أو أعرِضوا عنهما بالإغماض عن ذكر مساوئهما.
قيل : إن هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً، وكان عقوبة الزنى الأذى ثم الحبس ثم الجلد، وقيل، الحبس في المساحقات، والإيذاء في اللواطين، وما في سورة النور في الزناة. والذي يظهر. أن الحكم كان في أول الإسلام في الزنا : الإمساك للنساء في البيوت بعد الإيذاء بالتوبيخ، فتُمسك في بيتها حتى تموت، أو يجعل الله لها سبيلاً بالتزوج بمن يعفها عنه. والإيذاء للرجال بالتعيير والتقريع والتحجيم حتى تتحقق توبته، ثم نسخ ذلك كله بالحدود، وهو جَلْد البكر مائة وتغريبة عامًا ورجم المحصن. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي للعبد، إذا طَغَتْ عليه نفسُه، وأرادت ارتكاب الفواحش، أن يستشهد عليها الحفظة، الذين يحفظون عليه تلك المعاصي، فإن لم تستحِ، فليعاقبها بالحبس في سجن الجوع والخلوة والصمت، حتى تموت عن تلك الشهوات، أو يجعل الله لها طريقًا بالوصول إلى شيخ يُغيِّبه عنها، أو بوارد قوي من خوف مزعج أو شوق مقلق، فإن تابت وأصلحت، أعرض عنها واشتغل بذكر الله، ثم يغيب عما سواه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى وقت التوبة التي تقبل، فقال :
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّواءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً١٧ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ١٨ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إنما التوبة ﴾ التي يُستحق ﴿ على الله ﴾ قبولُها فضلاً وإحسانًا هي ﴿ للذين يعملون السوء ﴾ أي : المعاصي متلبسين ﴿ بجهالة ﴾ أي : سفاهة وجهل وسوء أدب، فكل من اشتغل بالمعصية فهو جاهل بالله، قد انتزع منه الإيمان حتى يفرغ، وإن كان عالمًا بكونها معصية، ﴿ ثم يتوبون ﴾ بعد تلك المعصية ﴿ من قريب ﴾ أي : من زمن قريب، وهو قبل حضور الموت ؛ لقوله بعدُ :﴿ حتى إذا حضر أحدهم الموت ﴾، وقوله عليه الصلاة والسلام :" إن الله يقبلُ توبةَّ العبْدِ مَا لمْ يُغَرْغِرُ " وإنما جعله قريبًا لأن الدنيا سريعة الزوال، متاعها قليل وزمانها قريب، ﴿ فأولئك يتوب الله عليهم ﴾ تصديقاً لوعده المتقدم، ﴿ وكان الله عليمًا ﴾ بإخلاصهم التوبة، ﴿ حكيمًا ﴾ في ترك معاقبة التائب، إذ الحكمة هي وضع الشيء في محله.
وعن الحسن : قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " لما أُهبط إبليسُ قال : وعزتك وعظمتك لا أفارق ابنَ آدم حتى تفارقَ روحُه جسدَه، قال الله تعالى : وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر بها " وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إنّ الشيطانَ قال : وعزتِك لا أبرح أُغوى عبادكَ، ما دامتْ أرواحهم في أجسادهم. قال الله تعالى : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ".
قال ابن جزي : وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها، فيُقطع بقبول توبت عند جمهور العلماء. وقال أبو المعالي : يَغُلِب ذلك على الظن ولا يقطع. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : توبة العوام ليست كتوبة الخواص، إنَّ الله يمهل العوام ترغيبًا لهم في الرجوع، ويُعاقب الخواص على التأخير على قدر مقامهم في القرب من الحضرة، فكلما عظُم القربُ عظمت المحاسبة على ترك المراقبة، منهم من يسامح له في لحظة، ومنهم في ساعة، ومنهم في ساعتين، على قدر المقام، ثم يُعاتبهم ويردهم إلى الحضرة.
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته :﴿ إنما التوبة على الله ﴾ أي : إنما الهداية بعد الذلة، على الله ؛ لأنه الذي يُخلص من قَهْره بكرمه الفياض وبرحمته التي غلبت غضبه، كما قال تعالى :
﴿ كَتَبَ رَبُّكمْ عَلَىَ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [ الأنعَام : ٥٤ ]، ونبه على وقوع الذنب بهم قهرًا، ثم تداركهم بالهداية والإنابة، فضلاً على علمه بتربيتهم وتدريجهم لمعرفته بالعلم والحكمة بقوله :﴿ وكان الله عليمًا حكيمًا ﴾. هـ.

﴿ وليست التوبة ﴾ مقبولة ﴿ للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت ﴾ أي : بلغت الحلقوم ﴿ قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار ﴾ فلا توبة لهم، ﴿ أولئك أعتدنا ﴾ أي : أعددنا وهيأنا ﴿ لهم عذابًا أليما ﴾، قال البيضاوي : سوَّى الحقُ تعالى بين من سوَّف التوبة إلى حضور الموت من الفسقة، وبين من مات على الكفر في نفي التوبة ؛ للمبالغة في عدم الاعتداد به في تلك الحالة، وكأنه يقول : توبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء. وقيل : المراد بالذين يعملون السوء : عصاة المؤمنين، وبالذين يعملون السيئات : المنافقون ؛ لتضاعف كفرهم، وبالذين يموتون : الكفار. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : توبة العوام ليست كتوبة الخواص، إنَّ الله يمهل العوام ترغيبًا لهم في الرجوع، ويُعاقب الخواص على التأخير على قدر مقامهم في القرب من الحضرة، فكلما عظُم القربُ عظمت المحاسبة على ترك المراقبة، منهم من يسامح له في لحظة، ومنهم في ساعة، ومنهم في ساعتين، على قدر المقام، ثم يُعاتبهم ويردهم إلى الحضرة.
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته :﴿ إنما التوبة على الله ﴾ أي : إنما الهداية بعد الذلة، على الله ؛ لأنه الذي يُخلص من قَهْره بكرمه الفياض وبرحمته التي غلبت غضبه، كما قال تعالى :
﴿ كَتَبَ رَبُّكمْ عَلَىَ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [ الأنعَام : ٥٤ ]، ونبه على وقوع الذنب بهم قهرًا، ثم تداركهم بالهداية والإنابة، فضلاً على علمه بتربيتهم وتدريجهم لمعرفته بالعلم والحكمة بقوله :﴿ وكان الله عليمًا حكيمًا ﴾. هـ.

ثم شرع في أحكام النكاح، وبدأ بالعضل ؛ لأنه يتعذر معه العقد، فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ. . . ﴾
قلت : أصل العضل : التضييق، يقال : عضلَت الدجاجة ببيضها إذا ضاقت، ثم أُطلق عُرفًا على منع المرأة من التزوج.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ لا يحل لكم أن تمنعوا النساء من النكاح لترثوا ما لهن ﴿ كرهًا ﴾. قال ابن عباس : كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل، وله امرأة كان قريبه من عصبته أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوجها من غير صداق، إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يُعطها شيئًا، وإن شاء عَضَلهَا وضيَّق عليها لتفتدى منه بما ورثت من الميت، أو تموت فيرثُها، وإن ذهبت إلى أهلها قبل أن يُلقِيَ وليُّ زوجها ثوبَه عليها فهي أحق بنفسها. فكانوا على ذلك في أول الإسلام، حتى توفي أبو قَيس بن الأَسْلتَ الأنصاري، وترك امرأته " كبشة بنت معن الأنصارية "، فقام ابنٌ له من غيرها فطرح ثوبه عليها، تم تركها ولم يقربها، ولم ينفق عليها، يضارّها لتفتدى منه، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ؛ إن أبا قيس تُوفي ووَرِثَ نكاحي ابنُه، وقد أضرَّ بي وطوّل عليّ، فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي، ولا يخلي سبيلي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم :" اقعدي في بيتك حتى يأتَي فيك أمرُ الله " قالت : فانصرفتُ وسمعت بذلك النساءُ في المدينة فأتين النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيخ، فقلن : يا رسول الله : ما نحن إلا كهيئة كبشة، غير أنه لا ينكحنا الأبناء، ونكَحَنا أبناء العَم، فنزلت الآية. فمعنى الآية على هذا : لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يُورثن عن الرجال كما يُورث المال.
وقيل : الخطاب للأزواج الذين يمسكون المرأة في العصمة ليرثوا مالها، من غير غبطة بها، وإنما يمسكها انتظارًا لموتها، وقيل : الخطاب للأولياء الذين يمنعون ولياتهم من التزوج ليرثوهن دون الزوج.
﴿ ولا ﴾ يحل لكم أيضًا أيها الأزواج أن ﴿ تعضلوهن ﴾، أي : تحبسوهن ؛ من غير حاجة لكم فيهن ؛ ﴿ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ﴾ من الصداق افتداء فيه بإضراره. قال ابن عباس رضي الله عنه :( هي أيضًا في الأزواج الذين يمسكون المرأة ويُسيئُون عشرتها حتى تفتدى بصداقها )، ﴿ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾، كالنشوز وسوء العشرة وعدم العفة، فيحل له حينئِذ حبسها حتى تفتدى منه بصداقها، فيأخذه خلعًا على مذهب مالك. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا يحل للمريد أن يُضيق على نفسه تضييقاً يُفضي إلى العطب، فالنفس كالبهيمة : علفها واستخدامها، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
" لا يكن أحدُكُم كالمنبت، لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى ".
فبعض الناس يسمعون أن من ضيَّق على نفسه أورثته العلوم، فيضيق عليها تضييقًا فاحشًا ليرث ذلك منها كرهًا، وإنما يمنعها من شهواتها الزائدة على قيام البنية، إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، بحيث تطغى عليها، فيضيق عليها بما لا يُفضي إلى الهلاك، وهذا كله إنما ينفعه إذا صح مِلْكُه لها بالعقد الصحيح من الشيخ الكامل، وإلاَّ كان تعبه باطلاً، كمن يريد أن يرى امرأة غيره أو دابة غيره. والله تعالى أعلم.
ثم أمر الحق تعالى بحسن العشرة مع النساء، فقال :
﴿. . . وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ١٩ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : وعاشروا النساء ﴿ بالمعروف ﴾ بأن تلاطفوهن في المقال وتجملوا معهن في الفعال، أو يَتَزَيَّنُ لها كما تتزين له. قال الورتجبي : كونوا في معاشرتهن في مقام الأنس وروح المحبة، وفرح العشق حيث أنتم مخصوصون بالتمكين والاستقامة والولاية، فإن معاشرة النساء لا تليق إلا في المستأنس بالله، كالنبي صلى الله عليه وسلم وجميع المستأنسين من الأولياء والأبدال، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم عن كمال مقام أُنْسِه بالله ورؤيته لجمال مشاهدته حيث قال :" حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثَلاث : الطيب، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة " ١.
ثم قال : عن ذي النون : المستأنس بالله يستأنس بكل شيء مليح ووجه صبيح، وبكل صوت طيب وبكل رائحة طيبة، ثم قال : عن ابن المبارك : العشرة الصحيحة : ما لا يورثك الندم عاجلاً ولا آجلاً، وقال أبو حفص : المعاشرة بالمعروف : حسن الخلق مع العيال فيما ساءك. ه.
﴿ فإن كرهتموهن ﴾ فاصبروا ﴿ فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا ﴾ إما ولدًا صالحًا أو عاقبة حسنة في الدين. قال ابن عمر : إن الرجل يستخير الله فيخار له فيسخط على ربه، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له. ه. حكى أن أبا الإمام مالك رضي الله عنه تزوج امرأة فدخل عليها فوجدها سوداء، فبقي متفكرًا ولم يقربها، فقالت له : هل استخرت ربك ؟ فقال : نعم، فقالت : أتَتَّهمُ ربك، فدخل بها، فحملت بالإمام مالك صاحب المذهب. وقال صلى الله عليه وسلم :" لا يَفْرك مؤمنٌ مَؤمنة أي : لا يُبْغِضها إن سخط منها خُلقَا رضي منها آخر " قال الورتجبي : قيل : غيب عنك العواقب ؛ لئلا تسكن إلى مألوف، ولا تفر من مكروه.
الإشارة : إذا طهرت النفس من البقايا، وكملت فيها المزايا، وانقادت بكليتها إلى مولاها، وجب الإحسان إليها والصلح معها ومعاشرتها بالمعروف، فإنما تجب مجاهدتها ما دامت كافرة فإذا أسلمت وانقادت وجب محبتها والإحسان إليها. فإن كرهتها في حال اعوجاجها فجاهدتها ورضتها حتى استقامت كان في عاقبة ذلك خيرٌ كثير، وعادت تأتي إليك بالعلوم اللدنية تشاهد فيها أسرارًا ربانية.
قال الورتجبي : كل أمر من الله سبحانه جاء على مخالفة النفس امتحانًا واختبارًا، والنفس كارهة في العبودية فإذا ألزمت عليها حقوق الله بنعت الرياضة والمجاهدة واستقامت في عبودية الله، أول ما يطلع على قلبك أنوار جنان القرب والمشاهدة، قال الله تعالى :﴿ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأوَى ﴾ [ النازعات : ٤٠، ٤١ ]، وفي أجواب ظلام المجاهدة للعارفين شموس المجاهدات وأقمار المكاشفات. ه. المراد منه.
١ أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/١٦٠، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين٣/٢٢..
فإذا لم يصير العبد على أذى زوجته، وأراد فراقها، فلا بد أن يؤدي إليها صداقها، كما أشار إلى ذلك الحق جل جلاله، فقال :
﴿ وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَاخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا وَكَيْفَ تَاخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾
قلت :﴿ بهتانًا ﴾ : حال، أو على إسقاط الخافض.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإن أردتم ﴾ أن تبدلوا زوجًا ﴿ مكان زوج ﴾ أخرى ؛ بأن تُطلقوا الأولى وتتزوجوا غيرها، وقد كنتم أعطيتم ﴿ إحداهن قنطارًا ﴾ أو أقل أو أكثر، ﴿ فلا تأخذوا منه شيئًا ﴾ بل أدوه لها كاملاً. ثم وبَّخهم على ما كانوا يفعلون في الجاهلية، فقال :﴿ أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا ﴾، أي : مباهتين وآثمين، أو بالبهتان والإثم الظاهر، والبهتان : الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، رُوي أن الرجل كان إذا أراد أن يتزوج امرأة جديدة، بهت التي عنده بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه في تزوج الجديدة، فَنُهُوا عن ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا كان العبد مشتغلاً بجمع دنياه، عاكفًا على حظوظه وهواه، ثم استبدل مكان ذلك الانقطاع إلى مولاه والاشتغال بذكر الله، حتى أفضى إلى شهود أنوار قدسه وسناه، فلا ينبغي أن يرجع إلى شيء خرج عنه لله، ولا يلتفت إلى ما ترك من أمر دنياه، فإن الرجوع في الشيء من شيم اللئام وليس من شأن الكرام، وتأمل ما قاله الشاعر :
إذا انْصَرَفَتْ نفسي عن الشيء لم تكن إليه بوجهِ آخرَ الدهرِ تُقبِلُ
وكيف تأخذُ ما خرجت عنه لله، وقد أفضيت إلى شهود أنوار جماله وسُكْنَى حماه، فاتحد عندك كل الوجود، وكل شيء عن عين بصيرتك مفقود، بعد أن أخذ عليك مواثيق العهود، ألا ترجع إلى ما كان يقطعك عن حضرة الشهود، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ثم استعظم ذلك فقال :﴿ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ﴾ بالمماسة والجماع حتى تقرر الصداق واستحقته بذلك، وقد ﴿ أخذن منكم ميثاقاً غليظًا ﴾ وهو حسن الصحبة، أو الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، أو تمكينها نفسها منه، فإنها ما مكنته إلا لوفاء العهد في الصداق ودوام العشرة. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا كان العبد مشتغلاً بجمع دنياه، عاكفًا على حظوظه وهواه، ثم استبدل مكان ذلك الانقطاع إلى مولاه والاشتغال بذكر الله، حتى أفضى إلى شهود أنوار قدسه وسناه، فلا ينبغي أن يرجع إلى شيء خرج عنه لله، ولا يلتفت إلى ما ترك من أمر دنياه، فإن الرجوع في الشيء من شيم اللئام وليس من شأن الكرام، وتأمل ما قاله الشاعر :
إذا انْصَرَفَتْ نفسي عن الشيء لم تكن إليه بوجهِ آخرَ الدهرِ تُقبِلُ
وكيف تأخذُ ما خرجت عنه لله، وقد أفضيت إلى شهود أنوار جماله وسُكْنَى حماه، فاتحد عندك كل الوجود، وكل شيء عن عين بصيرتك مفقود، بعد أن أخذ عليك مواثيق العهود، ألا ترجع إلى ما كان يقطعك عن حضرة الشهود، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ثم شرع يتكلم على ما يحرم من النساء، فقال :
﴿ وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً ٢٢ ﴾
قلت : أوقع ﴿ ما ﴾ على ما يعقل لقلة عقل النساء، كما تقدم١، أو مصدرية، والاستثناء منقطع أو متصل على وجه المبالغة في التحريم، أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف لآبائكم إن قدرتم عليه، فهو كقول الشاعر :٢
لا عَيُبَ فِيِهمْ غيَر أَنَّ سُيُوفَهُم بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا تتزوجوا ما تزوج به ﴿ آباؤكم من النساء ﴾ بالعقد في الحرائر والوطء في الإماء، ﴿ إلا ما قد سلف ﴾ فإن الله قد عفا عنكم بعد فسخه وردَّه، ﴿ إنه كان فاحشة ﴾ عظيمة عند الله، ما أحله لأحد من الأمم قبلكم، ﴿ ومقتًا ﴾ أي : ممقوتًا فاعله عند الله عند ذوي المروءات من عباد الله، وكان يسمى ولد الرجل من امرأة أبيه مَقيتًا ومقتيًا. ﴿ وساء سبيلاً ﴾، وبئس طريقًا لمن يريد أن يسلكه بعد التحريم.
فالمراد بالنكاح في الآية : العقد، فعلى هذا لا تحرم المرأة على الولد إذا زنا بها أبوه على المشهور، قال في الرسالة : ولا يحرم بالزنا حلال. ه.
الإشارة : ما جرى في آباء البشرية يجري في آباء الروحانية من طريق الأدب لا من طريق الشرع، فلا ينبغي للمريد أن يتزوج بامرأة شيخه، مات عنها أو طلقها، فإن ذلك قبيح ومقت عند أرباب الأدب، وأما بنت الشيخ فإن قدر على القيام بتعظيمها فلا بأس، وقد تزوج سيدنا علي كرم الله وجهه بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن السلامة في الترك أكثر.
وهنا إشارة أخرى أرق، وهي أن يشير بالنساء إلى الأحوال، فلا ينبغي للفقير أن يتعاطى أحوال الشيخ، ويفعل مثله. فإن الشيخ في مقام وهو في مقام، فإذا رجع الشيخ إلى الأسباب وتعاطى العلويات، فلا يقتدى به. إلا أن يدرك مقامه، وكان شيخ شيخنا يقول :( لا تقتدوا بالأشياخ في أفعالهم، وإنما اقتدوا بهم في أقوالهم، فإن أقوالهم لكم ولهم، وأفعالهم خاصة بهم ). إلا ما قد سلف لهم من الأحوال في حال سيرهم، فخذوها وسيروا من حيث ساروا، حتى تدركوا ما أدركوا، وافعلوا ما شئتم. والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير الآية ٣ من هذه السورة..
٢ البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص٤٤، والأزهية ص١٨٠، وإصلاح المنطق ص٢٤، وخزانة الأدب ٣/٣٢٧، والدرر ٣/١٧٣، والكتاب ٢/٣٢٦..
ثم ذكر بقية المحرمات، فقال :
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ٢٣ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. . . ﴾
قلت :﴿ كتاب الله عليكم ﴾ : مصدر مؤكد. أي : كتب الله ذلك كتاباً، أو على الإغراء.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ حرمت عليكم ﴾ من النساء أصنافٌ : منها بالنسب ومنها بالرضاع ومنها بالمصاهرة : فأما التي تحرم بالنسب فهي ﴿ أمهاتكم ﴾، وهي الأم، والجدة من الأم ومن الأب ما عَلَوْن، ﴿ وبناتكم ﴾ وهي البنت وبنت الابن، وبنت البنت ما سفلن، ﴿ وأخواتكم ﴾ وهي الأخت الشقيقة والتي للأب والأخت للأم، ﴿ وعماتكم ﴾ وهي أخت الوالد وأخت الجد ما علت، شقيقة أو لأب أو لأم، ﴿ خالاتكم ﴾ وهي أخت الأم وأخت الجدة ما علت، شقيقة أو لأب أو لأم، ﴿ وبنات الأخ ﴾ الشقيق، أو للأب، وما تناسل منهم. ﴿ وبنات الأخت ﴾، فيدخل كل ما تناسل من الأخت الشقيقه أو للأب أو للأم.
والضابط في ذلك : أنه يحرم على الرجل أصوله وإن علت، وفصوله وإن سفلت، وفصول أبويه ما سفلت، وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه.
ثم ذكر ما يحرم بالرضاع، فقال :﴿ وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ﴾ ذلك تعالى صنفين، وحرمت السُّنَّةُ كل ما يحرم من النسب. قال صلى الله عليه وسلم " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " فيدخل الأصناف السبعة، وهي الأم من الرضاع والبنت والأخت والعمة والخالة وبن الأخ وبنت الأخت.
ثم ذكر ما يحرم بالمصاهرة، فقال :﴿ وأمهات نسائكم ﴾، وتقدمت زوجة الأب، وسيأتي حليلة الابن، ﴿ وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم ﴾ لا مفهوم لهذا القيد، لكنه جرى مجرى الغالب، فهي محرمة، كانت في حجره أم لا، على قول الجمهور، ورُوي عن علي رضي الله عنه أنه أجاز نكاحها إن لم تكن في حجره. وأما قوله :﴿ اللاتي دخلتم بهن ﴾ فهو معتبر إجماعًا، فلو عقد على المرأة ولم يدخل بها، فله طلاقها ويأخذ ابنتها، ولذلك قال :﴿ فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ﴾ أن تنكحوهن.
﴿ وحلائل أبنائكم ﴾ وهي التي عقد عليها الابن فحلت له، فتحرم على الأب بمجرد العقد. والحاصل : أن زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة يحرمن بالعقد، وأما بنت المرأة فلا تحرم إلا بالدخول بأمها، فالعقد على البنات يُحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يُحرم البنات. وقوله تعالى :﴿ الذين من أصلابكم ﴾ احترز به من زوجة المتبنِّي فلا تحرم حليلته، كقضية زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ وأن تجمعوا بين الأختين ﴾، شقيقتين أو للأب أو للأم، وهذا في النكاح، وأما في الملك دون الوطء فلا بأس، أما في الوطء فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة، وأجازه الظاهرية، ﴿ إلا ما قد سلف ﴾ أي : في الجاهلية، فقد عفا عنكم، ﴿ إن الله كان غفورًا رحيمًا ﴾، قال ابن عباس :( كانت العرب تُحرم كل ما حرمت الشريعة إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فلذلك ذكر الحق تعالى :﴿ إلا ما قد سلف ﴾ فيهما.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الإنسان لا يصير كاملاً عارفًا حتى يولد ثلاث مرات بعد الأم الحسية، أولها : خروجه من بطن حب الدنيا الدنية، ثم من الغفلة والشهوات الجسمانية، ثم من ضيق الأكوان الظلمانية، إلى فضاء المشاهدة والمعاينة، وقال بعض الأولياء :( ليس منا من لم يولد مرتين ) : فاعتبر الأولى والثالثة، فإذا خرج الإنسان من هذه البطون حرَّم الله عليه نكاحها والرجوع إليها.
وكذا يحرم عليه الرجوع إلى ما تولد منه من الزلات، والأحوال الظلمانية، وما كان ألفه وتواخى معه من البطالات والمألوفات، وما وجد عليه أسلافه من التعصبات والحميات والرئاسات، ولا فرق بين ما واجهه من ذلك من قبل الآباء والأمهات، وكذلك ما ارتضع من ثدي الشهوات من لِبان الغفلة، وتراكم الأَكِنَّات١، فليبادر إلى تحريمها، وفطام نفسه عنها، قبل تحكمها، كما قال البوصيري رضي الله عنه :
والنَّفْسُ كالطِّفلِ إنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم
وكذا يحرم عليه، صحبة من ارتضع معه في هذا الثدي قبل الفطام ؛ من الأخوة والأخوات، وكذا أمهات الخطايا، وهي حب الدنيا والرياسة والجاه، وكذلك حرمت عليكم ربائب العلائق والعوائق، لتدخلوا بلاد الحقائق، فإن لم تكونوا من أهل الحقائق فلا جناح عليكم إذ كنتم من عوام الخلائق، وكذلك يحرم عليكم ما حل لأبناء جنسكم من تعاطي الأسباب والاشتغال بها عن خدمة رب الأرباب، وأن تجمعوا بين حب الدنيا ومحبة المولى. قال الشافعي رضي الله عنه :( من ادَّعى أنه جمَعَ بين حب الدنيا وحب خالقها، فقد كذب ).
إلا ما قد سلف في أيام البطالة، وكذا يحرم على المريد المتجرد المستشرف على المعاني تعاطى العلوم الظاهرة، التي دخل بها أهل الظاهر وأفتضوا بكارتها ـ إلا ما ملكه قبل التجريد، فلا يضره إن غاب عنها في أسرار التوحيد، والله تعالى أعلم بأسرار غيبه.

ثم ذكر الحق تعالى ما يحلّ من النساء، فقال :
﴿. . . وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ٢٤ ﴾
﴿ و ﴾ حَرم الله تعالى ﴿ المحصنات من النساء ﴾ وهُنَّ اللاتي في عصمة أزواجهن، فلا يحل نكاحهن ما دُمْنَ في عصمة الزوج، ﴿ إلا ما ملكت أيمانكم ﴾ من الغنيمة، فإذا سُبيت الكافرة، ولها زوج، جاز لمن ملكها أن يطأها بالملك بعد الاستبراء، قال في المختصر : وهدم السبيْ النكاحَ، إلا أن تُسبى وتُسلْم في عدتها فهو أحق بها، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا إلى أَوْطَاس، فأصابوا سبيًا من العدو، ولهن أزواج من المشركين فتأثموا من غشيانهن، فنزلت الآية مُبيحة لذلك، ﴿ كتاب الله عليكم ﴾ أي : كتب الله ذلك عليكم كتاباً، وهو ما حرّم في الآية من النساء.
قلت :﴿ وأُحِلَّ ﴾ عطف على الفعل العامل في " كتاب الله عليكم " أي : كتب الله عليكم تحريم ما ذكر، وأحل ما سوى ذلك. ومن قرأ بالبناء للمفعول فعطف على " حُرمت ". و﴿ أن تبتغوا ﴾ مفعول لأجله، أي : إرادة أن تبتغوا. أو بدل من ﴿ وراء ذلكم ﴾، و﴿ محصنين ﴾ حال من الواو. والسفاح : الزنا، من السفح وهو الصب، لأنه يصب المنيّ في غير محله.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وأُحل لكم ﴾ أن تتزوجوا من النساء ما سوى ذلكم المحرمات، وما سوى ما حرمته السنة بالرضاع، كما تقدم، والجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، فقد حرَمتْه السُنة، وإنما أحل لكم نكاح النساء إرادة أن تطلبوا بأموالكم الحلال، فتصرفوها في مهور النساء. . . حال كونكم ﴿ مُحصنين ﴾ أي : أعفة متحصنين بها من الحرام، ﴿ غير مسافحين ﴾ أي : غير زناة، تصبون الماء في غير موضعه، ﴿ فما استمتعتم به منهن ﴾ أي : من تمتعتم به من المنكوحات ﴿ فآتوهن أجورهن ﴾ أي : مهورهن، لأن المهر في مقابلة الاستمتاع ﴿ فريضة ﴾، أي : مفروضة مقدرة، لا جَهْلَ فيها ولا إبهام، ﴿ ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به ﴾ من زيادة على المهر المشروط، أو نقص منه، ﴿ من بعد الفريضة ﴾، التي وقع العقد عليها، ﴿ إن الله كان عليمًا ﴾ بمصالح خلقه، ﴿ حكيمًا ﴾ فيما شرع من الأحكام.
وقيل قوله :﴿ فما استمتعتم به. . . ﴾ إلى آخره. نزل في نكاح المتعة، التي كانت ثلاثة أيام في فتح مكة، ثم نُسِخَ بما رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أباحه، ثم أصبح يقول :" أيُّهَا النَّاسِ، إِنِّي كُنْتُ أمرتكم بالاسِتْمْتَاعِ مِنَ هذه النَّساء، ألا إنَّ اللهَ حَرَمَ ذَلِكَ إلىَ يَوْمِ القِيَامةِ ". وهو النكاح المؤقت بوقت معلوم، سُمي به لأن الغرض منه مجرد الاستمتاع. وتمتعها بما يُعطى لها. وجوَّزه ابن عباس رضي الله عنه ثم رجع عنه. والله تعالى أعلم.
سورة النساء
مدنية، وهي ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا. وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة. ومائة وستون آية. قاله الثعلبي. وقال البيضاوي : مائة وخمس وسبعون آية.
ومضمنها : الأمر بحفظ ستة أمور : حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وحفظ الأبدان، وحفظ الأديان، وحفظ اللسان، وحفظ الإيمان.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله من طريق الإشارة : إذا خرجتم من بطن الشهوات، ورفضتم ما كنتم عليه من العوائد والمألوفات، وزهدتم فيما يشغل فكرتكم من العلوم الرسميات، حل لكم ما وراء ذلكم من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، التي هي وراء طور العقول ولا تدرك بالطروس١ ولا بالنقول، وإليها أشار ابن الفارض رضي الله عنه حيث قال :
ولا تكُ مِمَنْ طَيّشَتْهُ طروسه بحيثُ استخفت عقَلَهُ واستفزّتِ
فَثمَ وراء النّقلِ عِلْمٌ يَدِقُّ عن مَدارِكِ غايات العقولِ السليمهِ
تَلَقيْتُه منّي وعني أَخَذْتهُ ونفسي كانت من عَطاءٍ مُمدَّهِ
أردنا منكم أن تبتغوا ببذل أموالكم ومُهجكم تلك العلوم المقدسة، والأسرار المطهرة، متحصنين من دنس الحس والهوى، غير مباشرين لنجاسة الدنيا، ولا مصطحبين مع أهلها، لتتمتعوا بشهود أسرارنا، وأنوار قدسنا، فما استمتعتم به من ذلك، فصونوه من غير أهله، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من إعطائه لأهله، من بعد حفظه عمن لا يستحقه، والله تعالى أعلم.
١ الطروس: جمع طرس، وهي الصحيفة..
ثم ذكر حكم من عجز عن صداق الحرة، فقال :
﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ. . . ﴾
قلت : الطول : الغنى والسعة، ويطلق على العلو، مصدر طال طَوْلاً، وهو مفعول ﴿ يستطع ﴾، أو مصدر له لتقارب معناهما، و﴿ أن ينكح ﴾ بدل منه على الأول، أو مفعول به على الثاني، أي : لأن ينكح، و﴿ محصنات غير مسافحات ﴾، حالان، والعامل فيه :﴿ أنكحوهن ﴾، والخدن : الخليل.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن لم يستطع منكم طَوْلاً ﴾ أي : لم يجد غني يقدر به على نكاح ﴿ المحصنات ﴾، أي : الحرائر ﴿ المؤمنات ﴾، فليتزوج من ما ملكت أيمانكم، من الإماء المؤمنات دون الكافرات، فإن أظهرت الإيمان فاكتفوا بذلك، وعلم الباطن لا يعلمه إلا الله، ﴿ والله أعلم بإيمانكم ﴾ فلا يمنعكم من نكاحهن خوف المعرة، فإنما أنتم جنس واحد، ودينكم واحد، ﴿ بعضكم من بعض ﴾ فلا تستنكفوا من نكاحهن، ﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن ﴾، أي أربابهن، حتى يعقدوا لكم نكاحهن، ﴿ وآتوهن أجورهن ﴾ : أي : مهورهن، وهن أحق به دون ساداتهن، على مذهب مالك، ﴿ بالمعروف ﴾ من غير مطل، ولا نقص، على ما تقتضيه السنة. حال كونهن ﴿ محصنات ﴾ أي : عفيفات ﴿ غير مسافحات ﴾ أي : غير زانيات ﴿ ولا متخذات أخدان ﴾، أي : أصحاب يزنون بهن. وكان في الجاهلية مِن النساء مَنْ تتخذ صاحبًا واحدًا تزني معه خاصة، ومنها من لا ترد يد لامس.
قال ابنُ جزي : مذهب مالك وأكثر أصحابه أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين : أحداهما : عدم الطول ؛ وهو ألاَّ يجد ما يتزوج به حُرة، والآخر : خوف العنت ؛ وهو الزنا. لقوله بعد هذا :﴿ ذلك لمن خشي العنت منكم ﴾، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين، على القول بأن دليل الخطاب لا يُعتبر، واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة، لقوله :﴿ من فتياتكم المؤمنات ﴾ إلا أهل العراق فلم يشترطوه. ه.
الإشارة : فمن لم يستطع أن ينكح أبكار الحقائق، لكونه لم يقدر أن يدفع عن قلبه الشواغل والعلائق، فليتنزل لنكاح العلوم الرسمية والأعمال الحسية، بأخذها من أربابها، ويحصنها بالإخلاص في أخذها، ويقوم بحقها بقدر الإمكان، وهو بذلها لأهلها والصبر على نشرها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فإن صح قصده، وخلص عمله، قيض الله له وليًا من أوليائه يغنيه بالله، حتى يصير من الأغنياء به، فيتأهل لنكاح الحرائر، ويلتحق بأولياء الله الأكابر، ﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ٢٠ ﴾ [ إبراهيم : ٢٠ ].
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه لما تكلم على ثمرات المحبة قال : فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصنًا بمعرفته، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغمورًا في مشاهدته، والعبد يستزيد من حبه فيُزاد ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسى حُلل التقريب على بساط القُربة، ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم.
فعلم الحقائق أبكار، وما يوصل إليه من علوم الطريقة ثيبات حرائر، وما سواها من علوم الرسوم إماء بالنسبة إلى غيرها، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حدَّ الأمَةِ إذا زنت، فقالت :
﴿. . . فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ. . . ﴾
قلت : أحصن الرجل بفتح الهمزة وضمها : صار محصنًا بالفتح والكسر، وهذا مما اتحد فيه البناء للفاعل والمفعول. وقيل بالفتح، معناه : أسلم، وبالضم : تزوج.
قلت : العنت : المشقة والضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم، ولا سيما بأفحش الفواحش ؛ وهو الزنا.
يقول الحقّ جلّ جلاله : إن الإماء إذا تزوجن ﴿ فإن أتين بفاحشة ﴾، وهو الزنا، فعليهن نصف ما على الحرة من الحد، وهو خمسون، لأن حد البكر مائة. ويفهم منه أنها لا ترجم ؛ لأن الرجم لا يتبعض. وكذلك الذكور من العبيد عليهم نصف الحدود كلها، ولا رجم عليهم، وسمَى الحد عذابًا، كقوله :
﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ ﴾ [ النور : ٢ ]
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ذلك ﴾ أي : نكاح الإماء إنما أبَحْتُهُ لمن خشي الوقوع في الزنا، الذي هو أقبح الفواحش، فنكاح الأمةُ، وإرقاق الولد يباع في الأسواق أخف من الزنا. ﴿ وأن تصبروا ﴾ عن نكاحهن، مع التعفف عن الزنا، ﴿ خير لكم ﴾ لئلا يرق أولادكم. وعن أنس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" مَنْ أرادَ أنْ يَلْقَى اللهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّج الْحَرائِر "
وقال أبو هريرة : سمعته صلى الله عليه وسلم يقول :" الحَرَائِر صَلاحُ البَيْتَ، والإمَاءُ هَلاكُ البَيت " ١.
﴿ والله غفور ﴾ لكم فيما سلف من المخالفة، ﴿ رحيم ﴾ بكم، حيث رخَّص لكم عند خوف الإثم نكاحَ الأمَة.
الإشارة : بقدر ما يعلو المقام يُشدد العقاب، وبقدر ما يحصل من القرب يُطلَب الآداب، فليست المعصية في البعد كالمعصية في القرب، وليس يُطلب من البعيد ما يُطلب من القريب، وانظر إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى لهن :﴿ يَا نِسَآءَ النَّبِيّ مَن يَأَتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَاَبُ ضِعْفَيْنِ ﴾ [ الأحزاب : ٣٠ ]. وما ذلك إلا لحظوتهن وشدة قربهن من الله. ولذلك كان لا يدخل الحضرة إلا أهل الآداب والتهذيب، بعد التدريج والتدريب، وتأمل قضيةَ الجنيد، حيث قيل له في المنام : مثلُك لا يُرضى منه هذا، حيث خطر على قلبه الاعتراض على السائل، غير أن المقربين يعاتبون، ويردون إلى الحضرة، وأهلُ البُعد يزيدون بُعداً، ولكن لا يشعرون، والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية، أو الأعمال الحسية، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق، وإن صبر وتماسك، حتى يتقوى على حمل أعبائها، فهو خير له، لأن الرجوع إلى الحس، لا يؤمن من الحبس، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم، رحيم حين جعل له الرخصة، ﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ سلوك الطريق إلى عين التحقيق، ويهديكم طرق الوصول، كما هدى مَنْ قبلكم، ويتوب فيما خطر ببالكم، من الفترة أو الوقفة، والله يريد أن يتعطف عليكم، لترجعوا إليه بكليتكم.
وأهل الغفلة المنهمكون في الشهوات، يريدون ميلكم عن طريق الوصول إلى حضرة ربكم، يرد الله أن يخفف عنكم، فلا يُحملكم من الواردات إلا ما تطيقه طاقتكم، لأنكم ضعفاء إلا إن قوَّاكُم. اللهم قونا على ما نريد، وأيدنا فيما تريد، إنك على كل شيء قدير.
ولمّا ذكر ما يتعلق بحفظ أموال اليتامى وأموال النساء، وانجر الكلام إلى ما يتعلق بهن من حدودهن، وما يحل وما يحرم منهن، ذكر ما بقي من حفظ أموال الرجال.


١ أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٤٤٥٤٣، والقرطبي في تفسيره ٥/١٤٧، والعجلوني في كشف الخفا ١/٤٢٤..
ثم ذكر شرط تزوج الأمة لعادم الطَوْل، فقال :
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾، أي : لأن يُبين، واللام زائدة في المفعول، لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإدارة.
﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ شرائع دينكم، ومصالح أموركم، ﴿ ويهديكم سنن الذين من قبلكم ﴾ أي : مناهج مَنْ تقدمكم من أهل الرشد، كالأنبياء والصالحين، لتسلكوا مناهجهم، كحفظ الأموال والأنساب، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات، فإنهن محرمات على من قبلكم، ﴿ ويتوب عليكم ﴾ أي : يغفر ذنوبكم الماضية، أو يرشدكم إلى التوبة، أو يمنعكم من المعاصي بالعصمة. ﴿ والله عليم ﴾ بما أسلفتم وما تستقبلونه من أفعالكم، ﴿ حكيم ﴾ بما دبر وأبرم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية، أو الأعمال الحسية، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق، وإن صبر وتماسك، حتى يتقوى على حمل أعبائها، فهو خير له، لأن الرجوع إلى الحس، لا يؤمن من الحبس، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم، رحيم حين جعل له الرخصة، ﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ سلوك الطريق إلى عين التحقيق، ويهديكم طرق الوصول، كما هدى مَنْ قبلكم، ويتوب فيما خطر ببالكم، من الفترة أو الوقفة، والله يريد أن يتعطف عليكم، لترجعوا إليه بكليتكم.
وأهل الغفلة المنهمكون في الشهوات، يريدون ميلكم عن طريق الوصول إلى حضرة ربكم، يرد الله أن يخفف عنكم، فلا يُحملكم من الواردات إلا ما تطيقه طاقتكم، لأنكم ضعفاء إلا إن قوَّاكُم. اللهم قونا على ما نريد، وأيدنا فيما تريد، إنك على كل شيء قدير.
ولمّا ذكر ما يتعلق بحفظ أموال اليتامى وأموال النساء، وانجر الكلام إلى ما يتعلق بهن من حدودهن، وما يحل وما يحرم منهن، ذكر ما بقي من حفظ أموال الرجال.

﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ كرره توطئة لقوله :﴿ ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ﴾ عن الحق ﴿ ميلاً عظيمًا ﴾ بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات، وكأنه تعالى يقول : إنا نريد توبتكم ورشدكم، والذين يتبعون الشهوات يريدون ميلكم وإضلالكم، والمراد بهم الزناة ؛ لأنهم يودون أن يكون الناس كلهم زناة، وأمَّا من تعاطى شهوة النكاح في الحلال، فإنه متبع للحق لا لهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام :" تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإنِّي مُبَاهِ بِكُمُ الأممَ يَوم القِيَامة ". وقد كان سيدنا علي كرم الله وجهه أزهدَ الصحابة، وكان له أربع حرائر وسبعُ جواري سُرِّيَّاتٍ، وقيل : سبع عشرة، وقيل : المراد بهم اليهود والنصارى، لأن اليهود يُحلون الأقارب من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت. وقيل : المجوس.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية، أو الأعمال الحسية، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق، وإن صبر وتماسك، حتى يتقوى على حمل أعبائها، فهو خير له، لأن الرجوع إلى الحس، لا يؤمن من الحبس، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم، رحيم حين جعل له الرخصة، ﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ سلوك الطريق إلى عين التحقيق، ويهديكم طرق الوصول، كما هدى مَنْ قبلكم، ويتوب فيما خطر ببالكم، من الفترة أو الوقفة، والله يريد أن يتعطف عليكم، لترجعوا إليه بكليتكم.
وأهل الغفلة المنهمكون في الشهوات، يريدون ميلكم عن طريق الوصول إلى حضرة ربكم، يرد الله أن يخفف عنكم، فلا يُحملكم من الواردات إلا ما تطيقه طاقتكم، لأنكم ضعفاء إلا إن قوَّاكُم. اللهم قونا على ما نريد، وأيدنا فيما تريد، إنك على كل شيء قدير.
ولمّا ذكر ما يتعلق بحفظ أموال اليتامى وأموال النساء، وانجر الكلام إلى ما يتعلق بهن من حدودهن، وما يحل وما يحرم منهن، ذكر ما بقي من حفظ أموال الرجال.

﴿ يريد الله أن يخفّف عنكم ﴾ فلذلك شرع لكم الشريعة الحنيفية السمحة السهلة، ورخص لكم عند المضايق في نكاح الأمة. ﴿ وخُلق الإنسانُ ضعيفًا ﴾ في كل شيء، لأنه خُلق من ضعف، ويؤول إلى ضعف، أسير جَوعة، صريع شبعة، وخصوصًا عن شهوة النساء، فإنه لا يصبر عن الجماع، ولا يكون في شيء أضعفَ منه في أمر النساء، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال :( ألا تروني أني لا أقوم إلا رفدًا١، ولا آكل إلا ما لُيِّن لي، وقد مات صاحبي يعني ذكره منذ زمان، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي، وأن لي ما تطلع عليه الشمس، مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه، على أنه لا سمع ولا بصر ).
قال ابن عباس : ثماني آيات في سورة النساء، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، ﴿ يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٦ ]، ﴿ وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٧ ]، ﴿ يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٨ ]،
[ إن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . . } [ النساء : ٣١ ] الآية، [ إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ. . . ] [ النساء : ٤٨ ] الآية، [ إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. . . } [ النساء : ٤٠ ] ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظلِمْ نَفْسَهُ ﴾ [ النساء : ١١٠ ] الآية،
﴿ مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ. . . ﴾ [ النساء : ١٤٧ ] الآية. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية، أو الأعمال الحسية، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق، وإن صبر وتماسك، حتى يتقوى على حمل أعبائها، فهو خير له، لأن الرجوع إلى الحس، لا يؤمن من الحبس، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم، رحيم حين جعل له الرخصة، ﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ سلوك الطريق إلى عين التحقيق، ويهديكم طرق الوصول، كما هدى مَنْ قبلكم، ويتوب فيما خطر ببالكم، من الفترة أو الوقفة، والله يريد أن يتعطف عليكم، لترجعوا إليه بكليتكم.
وأهل الغفلة المنهمكون في الشهوات، يريدون ميلكم عن طريق الوصول إلى حضرة ربكم، يرد الله أن يخفف عنكم، فلا يُحملكم من الواردات إلا ما تطيقه طاقتكم، لأنكم ضعفاء إلا إن قوَّاكُم. اللهم قونا على ما نريد، وأيدنا فيما تريد، إنك على كل شيء قدير.
ولمّا ذكر ما يتعلق بحفظ أموال اليتامى وأموال النساء، وانجر الكلام إلى ما يتعلق بهن من حدودهن، وما يحل وما يحرم منهن، ذكر ما بقي من حفظ أموال الرجال.


١ لا أقوم إلا رفدا: أي إلا بمعاونة غيري..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ. . . ﴾
قلت : الاستثناء منقطع، وكان تامة لمن رفَع، وناقصه لمن نصب، واسمها : ضمير الأموال، على حذف مضاف، إلاَّ أن تكون الأموال أموالَ تجارة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ الذي لا تُجوزه الشريعة، كالربا والقمار، والغصب والسرقة، والخيانة والكهانة والسحر وغير ذلك ﴿ إلا أن تكون ﴾، أي : لكن إن وجدت ﴿ تجارة ﴾ صحيحة ﴿ عن تراضٍ منكم ﴾ أي : اتفاق منكم على البيع، وبه استدلت المالكية على انعقاد البيع بالعقد ولو لم يحصل تفرق بالأبدان.
وقال الشافعي : إنما يتم بالتفرق بالأبدان، لقوله عليه الصلاة والسلام :" البَيِّعَان بالخِيَار مَا لَمْ يتَفَرَّقَا " وحمله مالك على التفرق بالكلام، وقال أكثر المفسرين : التخيير، هو أن يُخير كلُ واحد منهما صاحبه بعد عقد البيع، وقد ابتاع عمرو بن جرير فرسًا، ثم خَيَّر صاحبه بعد البيع، ثم قال : سمعت أبا هريرة يقول : البيع عن تراض. قال البيضاوي : وتخصيص التجارة من الوجوه التي يحل بها انتقال مال الغير، لأنها أغلب وأوفق لذوي المروءات، ويجوز أن يُراد بها الانتقال مطلقًا. وقيل : المقصود بالنهي : صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى، وبالتجارة : صرفه فيما يرضى. ه.
الإشارة : لا تصرفوا أموالكم ولا أحوالكم في غير ما يُقربكم إلى الحق ؛ فإن ما سوى الحق كله باطل، كما قال الشاعر :١
ألا كُلُّ شيء مَا خَلآ اللهَ باطلُ وكُلٌّ نَعِيمٍ لا مَحَالةَ زائل
إلا أن يكون صرفه في تجارة رابحة، تقربكم من الحبيب، وتجلبُكم إلى حضرة القريب، فتلك تجارة رابحة وصفقة نافعة. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على بعض ما يتعلق بحفظ الأبدان، وسيأتي تمامه في قوله :
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنِ. . . ﴾ [ النساء : ٩٢ ] إلى آخر الآيات، فقال :
﴿. . . وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾، بالخنق أو بالنخع٢ أو بالجرح، الذي يؤدي إلى الموت، أو بالإلقاء إلى التهلكة. وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال :( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزوة ذَات السَّلاَسِلِ، فأجنَبتُ في لَيْلَة بَارِدَة، فَأشْفَقْتُ على نفسي وصَليْتُ بأصحَابِي صَلاة الصُبح بالتيمم. فلَمّا قَدِمتُ ذَكَرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" يا عَمرُو صلَّيتَ بأصحَابِكَ وأنت جُنُب ؟ " قلت : نعم يا رسول الله، أشفيتُ إن اغتسلتُ أن أهلك، فذكرت قوله تعالى :﴿ لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا ﴾، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً ).
أو : ولا تقتلوا إخوانكم في الإسلام، فإن المؤمنين كنفس واحدة.
قال البيضاوي : جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم. ه.
وإنما نهاكم عن قتل أنفسكم رأفة، ورحمة بكم، ﴿ إن الله كان بكم رحيمًا ﴾، فقد أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم، وأنتم نهاكم عنه.
١ البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص٢٥٦، وخزانة الأدب ٢/٢٥٥، والدرر ١/٧١، وديوان المعاني ١/١١٨، وسمط اللآلي ص٢٥٣، وشرح شذور الذهب ص٣٣٩، والعقد الفريد ٥/٢٧٣، ولسان العرب (رجز)..
٢ النخع: هو القتل الشديد، مشتق من قطع النخاع..
﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ القتل. أو جميع ما سبق من المحرمات ﴿ عدوانًا وظلمًا ﴾، أي : إفراطًا في التجاوز عن الحد، وإتيانًا بما لا يستحق، أو تعديًا على الغير وظلمًا على النفس، بتعريضها للعقاب، ﴿ فسوف نصليه نارًا ﴾ أي : نحرقه ونشويه فيها. ﴿ وكان ذلك على الله يسيرًا ﴾.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" مَن قَتَل نفسَهُ بِشَيءٍ عُذِبَ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا " وهو تغليظ، أو لمن استحل ذلك. وهذا الوعيد الذي ذكره الحق هنا في قتل الإنسان بيده، أهون مما ذكره في قتل الغير، الذي يأتي، لأنه زاد هناك الغصب واللعنة والعذاب العظيم، أما قول ابن عطية : إنه أجمع المفسرون أن هذه الآية في قتل بعضهم بعضًا، فليس بصحيح، والله تعالى أعلم.
الإشارة : ولا تقتلوا أنفسكم باتباع الشهوات وتراكم الغفلات، فإنه يفوتها الحياة الحقيقية، وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه :( لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظ نفسه، فكأنما قتلها ). وحظ النفس هو تزكيتها وتحليتها بالكمالات، أو قُوتها من العلم اليقين، والمعرفة وصحة التمكين، والمراد بالنفس هذا الروح، وأما ما اصطلحت عليه الصوفية من أن النفس يجب قتلها، فإن مرادهم بذلك النفس الأمارة، فإن الروح ما دامت مُظلمة بالمعاصي والهوى سميت نفسًا، فإذا تطهرت وتزكت سميت روحًا. وهو المراد هنا. سماها نفسًا باعتبار ما كانت عليه. والله تعالى أعلم.
ثم إن قتل النفس من الكبائر، فمن اجتنبه مع غيره من الكبائر غفرت له الصغائر، كما أشار إلى ذلك ترغيبا في اجتناب ما ذكر، فقال :
﴿ إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ﴾
قلت : المدخل بالضم : مصدر، بمعنى الإدخال، وبالفتح : المكان، ويحتمل المصدر.
يقول الحقّ جلّ جلاله : إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي تُنهون عنها ﴿ نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ الصغائر ﴿ وندخلكم مُدْخلاً كريمًا ﴾ وهو الجنة، أو إدخالاً مصحوبًا بالكرامة والتعظيم، واختلف في الكبائر، هل تعرف بالعد أو بالحد ؟ فقيل : سبع، وقيل : سبعون، وقيل : سبعمائة، وقيل : كل معصية فهي كبيرة. عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " اجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ : الإشراك باللهِ، والسَّحرَ، وقَتلَ النَّفس بغير حقها، وأكلَ الرَيّا، وأكلَ مَالِ اليَتِيمِ، والفرار مِن الزَّحفِ، ورَمي المُحصنَاتٍ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ ".
قال ابن جزي : لا شك أن هذه مِنَ الكبائر لنص الشارع عليها، وزاد بعضهم عليها أشياء ورد النص عليها في الحديث أنها من الكبائر، منها عقوق الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنهبة، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل الماء، والإلحاد في البيت الحرام، والنميمة، وترك التحرّز من البول، والغلول، واستطالة الرجل في عرض أخيه، والجور في الحكم.
وقيل في حدّها : كل جريمة تؤذن بقلة الدين ورقة الديانة، وقيل : ذنوب الظاهر صغائر، وذنوب الباطن كبائر. وقيل : كل ما فيه حق الغير فهو كبائر، وما كان بينك وبين الله تعالى صغائر، واحتج هذا بقوله عليه الصلاة والسلام :" يُنَادِي يومَ القيامة مناد من بُطنان العرش١ : يا أمّة أحمد، إنّ الله تعالى يقول : أمَّا ما كان لي قِبلَكُمُ فقد وهبتهُ لكم، وبقيت التباعات، فَتواهبُوها، وادخلوا الجنة ".
الإشارة : كل ما يُبعد العبد عن حضرة ربه فهو من أكبر الكبائر، فمن اجتنب ذلك واتقى كل ما يشغله عن الله أدخله الله مدخلاً كريمًا، وهو حضرة الشهود والتلذذ برؤية المعبود، والترقي في أسرار الحبيب الودود. قال الورتجبي : قال أبو تراب : أمر الله باجتناب الكبائر، وهي الدعاوى الفاسدة، والإشارات الباطلة، وإطلاق اللفظ بغير الحقيقة. ه.
١ بطنان العرش: أي من وسطه..
ولما قسم الله المواريث على ما تقدم، قال بعض النساء : ليتنا استوينا مع الرجال، أو يكون لنا سهمان ؛ لأننا أحوج منهم، فأنزل الله :
﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولا تتمنوا ما فضَّل الله به ﴾ من الميراث ﴿ بعضكم على بعض ﴾، كتضعيف الذكر على الأنثى، فللرجال ﴿ نصيب مما اكتسبوا ﴾ أي : مما أصابوا وأحرزوا في القسمة، ﴿ وللنساء نصيب مما اكتسبن ﴾ منه، قلَّ أو كثر، فلتقنع بما قسم الله لها، ولا تعترض على أحكام الشريعة، ولكن ﴿ اسألوا الله من فضله ﴾ يُعطكم من غير الميراث، هكذا فسرها ابن عباس.
وقال مجاهد : قالت أُم سلمة : يغزو الرجال ولا نغزو، فليتنا رجال نغزو، ونبلغ ما يبلغ الرجال. فنزلت. فيكون المعنى : ولا تتمنوا ما فضل اللهُ به الرجال على النساء كالغزو وغيره، فللرجال نصيب مما اكتسبوا من ثواب الجهاد وسائر أعمالهم، ﴿ وللنساء نصيب مما اكتسبن ﴾ من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهم وسائر بقية أعمالهن.
والتحقيق أنها عامة في جميع المراتب الدينية والدنيوية لأن ذلك ذريعة إلى التحاسد والتعادي، ومعربة عن عدم الرضا بما قسم الله له، وإلى التشهي لحصول الشيء له من غير طلب، وهو مذموم ؛ لأن تمنّي ما لم يقدر له، معارضة لحِكمة القدر، وتمنّي ما قدر له بكسب، بطالة وتضييع حظ، وتمنّي ما قدر له بغير كسب، ضياع ومحال، قاله البيضاوي. فللرجال نصيب من أجل ما اكتسبوا من الأعمال، وتحملوا من المشاق، فيعطيهم الله على قدر ما اكتسبوا ﴿ وللنساء نصيب مما اكتسبن ﴾ كذلك، فلا فائدة في تمني ما للناس، ولكن ﴿ اسألوا الله من فضله ﴾ يُعطكم مثله، أو أكثر من خزائنه التي لا تنفذ. ﴿ إن الله كان بكل شيءٍ عليمًا ﴾ وهو يعلم ما يستحقه كل إنسان، فيُفَضِّل من شاء بما شاء عن علم وبيان، ومناسبة الآية حينئِذ لما قبلها : أن تجنب الكبائر فضل من الله ونعمة، وهو أفضل ممن يقع فيها، لكن لا ينبغي تمني ذلك من غير عمل، ولكن يسأل الله من فضله حتى يُلحقه بأهل العصمة. وبالله التوفيق.
الإشارة : قد وقع التفضيل في مقامات الأولياء كالأنبياء، لكن لا ينبغي تعيين الفاضل من المفضول، لِما يؤدي إليه من التنقيص فيؤدي إلى الغيبة، والتفضيل يقع بزيادة اليقين وصحة التمكين، والترقي في أنوار التوحيد وأسرار التفريد. يكون أيضًا بهداية الخلق على يده، وظهور إحسانه ورفده، فإذا رأى العبدُ أنه لم يبلغ إلى مقام غيره فلا يتمنى ذلك المقام بعينه، فقد يكون مقامه عند الله في عمله أعظم، وقد يكون أدون، فيُسيء الأدب، فالخير كله في العبودية والرضى بأحكام الربوبية، فللأقوياء نصيب مما اكتسبوا بالقوة والمجاهدة التي خلق الله فيهم، حكمةً وفضلاً، وللضعفاء نصيب مما اكتسبوا قسمة وعدلاً، ولكن يسأل الله من فضله العظيم، فإن الله بكل شيء عليم، فقد يُعطى بلا سبب ويُبَلِّغ بلا تعب.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" سَلُوا الله مِن فَضلِهِ فَإنَّ اللهَ يُحِبُ أن يُسألَ " وفي حديث أخر :" مَن لَم يَسألِ اللهَ يَغضَب عَلَيهِ " وقال الورتجبي : أمر بالسؤال ونهى عن التمني ؛ لأن السؤال افتقار، والتمني، اختيار. ه. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على ميراث الحليف على ما كان في أول الإسلام، فقال :
﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ﴾
قلت : التنوين في " كل " : للعوض، و﴿ مما ترك ﴾ بيان للمعوض منه، أي : ولكل مال مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي : أي : ورثة، وهم الذرية والعصبة يرثون من ذلك المال، والوالدان على هذا فاعل، ويحتمل أن يكون مبتدأ والتنوين عوض عن الميت الموروث، أي : ولكل ميت جعلنا ورثة يرثون مما ترك ذلك الميت، وهم الوالدان والأقربون فيوقف على ﴿ ترك ﴾، و﴿ مما ﴾ يتعلق بمحذوف، و﴿ الذين ﴾ مبتدأ، و﴿ فآتوهم ﴾ خبر، دخلت الفاء لما في المبتدأ من العموم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولكل ميت جعلنا وَرَثَة يرثون ﴿ مما ترك ﴾ ذلك الميت، وهم ﴿ الوالدان والأقربون ﴾، أو لكل تركة جعلنا لها ﴿ موالي ﴾ أي : ورثة يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، ﴿ والذين عقدت أيمانكم ﴾ وهم موالي الحِلف، كانوا يتحالفون في الجاهلية على النصرة والمؤازرة، يقول الرجل لآخر : دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك. فيضرب بعضهم على يد الآخر في عقد ذلك الحلف. فلذلك قال :﴿ عقدت أيمانكم ﴾ فكان في أول الإسلام يرث من حليفه السدس، وإليه أشار بقوله :﴿ فآتوهم نصيبهم ﴾، ثم نسخ.
وقيل : نزلت في المؤاخاة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فكان يرث السدس، ثم نُسخ بقوله ﴿ وَأوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ]. وعن أبي حنيفة : لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث. وقال ابن عباس : آتوهم نصيبهم من النصرة التي تعاقدوا عليه، فيُوفي لهم بها، فلا نسخ.
﴿ إن الله كان على كل شيء شهيدًا ﴾، هو تهديد لم تعدى الحدود، ونقض العهود. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ولكل زمان جعلنا أولياء كبراء، يرثون مما ترك أشياخهم من خصوصية الولاية وسر العناية، إلى يوم القيامة ؛ فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة ويظهر المحجة، فيقال لهم : والذين عقدت أيمانكم في الصحبة معكم، فظهر صدقهم، وبانت خدمتهم، فآتوهم نصيبهم مما خصكم الله به من سر الولاية ولطف العناية، ﴿ إن الله كان على كل شيء شهيدًا ﴾، لا يخفى عليه من يستحق الخلافة ويرث سرَ الولاية. والله تعالى أعلم.
ثم بين حكمة تفضيل الرجال على النساء في المواريث وغيرها، فقال :
﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ﴾
قلت :﴿ فالصالحات ﴾ مبتدأ، وما بعده إخبار عنه، وأتى بالفاء المؤذنة بالسببية والتفريع، وكأنه تعالى يقول : الرجال قوامون على النساء، فمن كانت صالحة قام عليها بما تستحقه من حسن المعاشرة، ومن كانت ناشزة عاملها بما تستحقه من الوعظ وغيره. وكل ما هنا من لفظ ( ما ) فهي مصدرية. إلا ما قرأ به أبو جعفر :[ بما حفظ الله ] بالنصب، فهي عنده موصولة اسمية، أي : بالأمر الذي حفظ الله ؛ وهو طاعتها لله فحفظها بذلك، وقيل إنها مصدرية. انظر الثعلبي.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الرجال قوّامون على النساء ﴾ أي : قائمون عليهن قيام الولاة على الرعية، في التأديب والإنفاق والتعليم، ذلك لأمرين : أحدهما وهبي، والآخر كسبي ؛ فالوهبي : هو تفضيل الله لهم على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خُصوا بالنبوة، والإمامة، والولاية، وإقامة الشعائر، والشهادة، في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوهما، والتعصيب، وزيادة السهم في الميراث، والاستبداد بالطلاق. والكسبي هو :﴿ بما أنفقوا من أموالهم ﴾ في مهورهن، ونفقتهن، وكسوتهن.
فيجب على الزوج أن يقوم العدل في أمر نسائه، فالمرأة الصالحة القانتة، أي : المطيعة لزوجها ولله تعالى، الحافظة للغيب، أي : لما غاب عن زوجها من مال بيته وفرجها وسر زوجها، حفظت ذلك بحفظ الله، أي : بما جعل الله فيها من الأمانة والحفظ، وبما ربط على قلبها من الديانة، أو بحفظها حق الله، فلما حفظت حقوق الله حفظها الله بعصمته، لقوله عليه الصلاة والسلام :" احفَظَ اللهَ يَحفَظكَ " فمن كانت على هذا الوصف من النساء فيجب على الزوج حُسن القيام بها، ومقابلتها في القيام بما قابلته من الإحسان، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " خير النساء أمرأةٌ إن نَظَرتَ إلَيهَا سَرَّتكَ، وإن أمرتها أطَاعَتكَ، وإن غِبتَ حفظتك في مَالِها ونَفسِهَا ". وتلا هذه الآية.
وأما النساء التي ﴿ تخافون ﴾ أي : تتيقنون ﴿ نشوزهن ﴾ أي : ترفعهن عن طاعة أزواجهن وعصيانهن، ﴿ فعظوهن ﴾ بالقول، فإن لم ينفع فاهجروهن في المضاجع، أي : لا تدخلوا معهن في لحاف، أو لا تجامعوهن، فإن لم ينفع فاضربوهن ضربًا غير مؤلم ولا شائن. قال صلى الله عليه وسلم :" عَلِّق السَّوطَ حَيثُ يَرَاهُ أهلُ البيت " وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت :( كنتُ رابعَ نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا، ضربها بعود المِشجب، حتى ينكسر ). والمشجب : أعواد مركبة يجعل عليها الثياب.
﴿ فإن أطعنكم ﴾ يا معشر الأزواج، أو عقدن التوبة مما مضى، ﴿ فلا تبغوا عليهن سبيلاً ﴾ أي : لا تطلبوا عليهن طريقًا تجعلونه سبيلاً لإيذائهن، بل اجعلوا ما كان منها من النشوز كأن لم يكن، ( فإنَّ التَّائِبَ مِن الذَّنبِ كَمَن لا ذَنَب لَهُ ). وقال ابن عُيَيْنَة : أي لا تكلفوهن بحبكم. ه. وقال الورتجبي : إذا حصل منهن صورة طاعة الرجال فلا يطلب منهن موافقة الطباع، فإن ذلك منازعة للقدر. قال تعالى :
﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ﴾ [ الرُّوم : ٣٠ ]، وذكر حديث " الأروَاح جُنودٌ مُجنَّدةٌ ".
ثم هدد الأزواج فقال :﴿ إن الله كان عليًّا كبيراً ﴾ فاحذروه، فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت ولايتكم، أو : إنه على علو شأنه، يتجاوز عن سيئاتكم، فأنتم أولى بالعفو عن نسائكم، أو : أنه يتعالى ويَكبر أن يظلم أحدًا أو يُنقص حقه.
وسبب نزول الآية : أن سَعدَ بنَ الرَّبِيع، وَكَانَ مِن النُقَبَاءِ، لَطَمَ امرأته حَبيبَةَ بِنتَ زَيدِ بن أبي زُهَيرِ، وكانت نَشَزَتَ عَليهِ، فَانطَلَقَ أبُوُها معَهَا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال : أفرَشتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَها، فقال عليه الصلاة والسلام :" لِتقتَصَّ مِنهُ "، فَانصرَفَت لتقتصّ منه فقال صلى الله عليه وسلم :" ارجعوا، هذا جِبرِيلُ أتَاني وأنزَلَ الله هَذِهِ الآية :﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾ " إلى آخرها، فقال عليه الصلاة والسلام :" أَرَدنَا أمرًا، وأرَادَ اللهُ أمرًا، والَّذِي أرَاد اللهُ خَير " فرفع القِصَاص. وقيل : نزلت في غيره ممن وقع له مثل هذا من النشوز. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الرجال الأقوياء قوامون على نفوسهم قهارون لها، بفضل القوة التي مكنهم الله منها، وبما أنفقوا عليها من المجاهدات والرياضات، فهم ينظرون إليها ويتهمونها في كل حين، فإن صلحت وأطاعت وانقادت لما يراد منها من أحكام العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، عاملوها بالإكرام والإجمال، ورفعوا عنها الآداب والنكال، وإن نشزت وترفعت أدبوها وهجروها عن مواطن شهواتها ومضاجع نومها، وضربوها على قدر لجاجها وغفلتها.
وكان الشيخ أبو يزيد يأخذ قبضة من القضبان ويذهب إلى خلوته، فكلما غفلت ضربها، حتى يكسرها كلها، وكان بعض أصحابنا يأخذ خشبة ويذهب إلى خلوته، فكلما غفل ضرب رأسه به، حتى يأتي رأسُه كلَّه مفلول، وبلغني أن بعض أصحابنا كان يُدخل في لحمة رجله سكيناً كلما غفل قلبه، وهذا إغراق، وخير الأمور أوسطها. وبالله التوفيق.
ولما تكلم على حكم المرأة الطائعة والناشزة، تكلم على ما إذا أشكل الأمر، فقال :
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيرا ﴾
قلت : الشقاق : المخالفة والمساورة، وأضيف إلى الظرف توسعًا كقوله :
﴿ بَلْ مَكْرُ الَّليْل ﴾ [ سَبَأ : ٣٣ ]، والأصل : شقاقًا بينهما، والضمير في ﴿ يُريدا ﴾ للحكمين، وفي ﴿ بينهما ﴾ للزوجين، وقيل : للحكمين معًا، وقيل : للزوجين معًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإن خفتم ﴾ يا معشر الحكام، أي علمتم خلافَا بين الزوجين ومشاررة، ولم تدروا الظالم من المظلوم، ﴿ فابعثوا ﴾ رجلين أمينين يحكمان بينهما، يكون أحداهما من أهله والآخر من أهلها، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للإصلاح، فإن بعثهما الحاكمُ أجنبيين صح، وكذا إن أقامهما الزوجان.
وما اتفق عليه الحكمان لزم الزوجين من خُلع أو طلاق أو وفاق. وقال أبو حنيفة : ليس لهما التطليق إلاَّ أن يجعل لهما، وإذا اختلفا لم يلزم شيء، ويستأنفان الحكم، قال ابن جُزَي : ومشهور مذهب مالك : أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين، وقيل : الزوجان، وجرت عادة القضاء أن يبعثوا امرأة أمينة ولا يبعثوا الحكمين، قال بعض العلماء : هو تغيير القرآن والسنة الجارية. ه.
فإن بُعِث الحكمان، فإن أرادا إصلاحًا بين الزوجين، واتفقا عليه، وفق الله بينهما ببركة قصدهما، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه. ﴿ إن الله كان عليمًا خبيرًا ﴾ بما في الظواهر والبواطن، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق.
الإشارة : وإن خفتم، أيها الشيوخ، على صاحبكم منازعة النفس والروح ؛ فكانت النفس تجمح به إلى أسفل سافلين، بمتابعة هواها وعصيان مولاها، والروح تجنح به إلى أعلى عليين، بجهاد هواها ومشاهدة مولاها، فابعثوا له واردين قويين، إما شوق مقلق يرحل الروح إلى مولاها، أو خوف مزعج يزجر النفس عن هواها. فإن أراد الله بذلك العبد إصلاحًا لحاله أرسلهما معًا متفقين على تخليصه وارتفاعه، فيتقدم الخوف المزعج ويستدركه الشوق المقلق، فيلتحق بأهل التحقيق من أهل التوفيق، وما ذلك على الله بعزيز، وفي الحكم :" لا يُخرِج الشهوةَ من القلب إلا خوف مزعج، أو شوق مقلق ". والله تعالى أعلم.
ولما فرغ الحق جلا جلاله من الكلام على حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وبعض حفظ الأبدان، شرع يتكلم على حفظ الأديان، وما يتعلق بذلك، فقال :
﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾
قلت : الجُنب بالضم : البعيد، يقال فيه : جُنُب وأجنب وأجنبي، وسمي الجُنبُ جُنُبًا لأنه يبعد من المسجد وعن الصلاة وعن التلاوة، و( مختال ) أسم فاعل، وأصله : مختيل، بالكسر، من الخُيَلاَء وهو التكبر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ واعبدوا الله ﴾ أي : وَحِّدُوه وأطيعوه ﴿ ولا تشركوا به شيئًا ﴾ جليًا أو خفيًا في اعتقادكم أو في عبادتكم، فمن قصد الحج والتجارة، فقد أشرك مع الله في عبادته، وأحسنوا بالوالدين إحسانًا حسنًا، وهو برهما والقيام بحقهما، ﴿ وبذي القربى ﴾، أي : القرابة في النسب، أو الدين ﴿ واليتامى ﴾ لضعف حالهم، ﴿ والمساكين ﴾ لقلة ما بيدهم، وقد شكى بعض الناس قساوة قلبه، فقال له عليه الصلاة والسلام :" إن أردتَ أن يلين قلبُك، فأطعم والمسكين وامسح رأس اليتيم، وأطعمه "
﴿ والجار ذي القربى ﴾ الذي قّرُب جواره أو نسبه، ﴿ والجار الجُنب ﴾ الذي بَعُد مكانه أو نسبه، وحَدَّد بعضُهم الجوار بأربعين دارًا من كل ناحية. وقال ابن عباس : الجار ذي القربى : الجار الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجنب : الجار من قوم آخرين. ه.
قيل يا رسول الله : ما حق الجار على الجار قال :" إن دعاك أجبتَه، وإن أصابته فاقةٌ عُدتَ عليه، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عُددته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن توفي شهدت جنازته، ولا تستعل عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقُتار قدرك أي : بخارها إلا أن تغرف له منها، وإن ابتعت فاكهة فأهد له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سرًا، ولا يخرج ولدك منها بشيء فيغيظ ولده، " ثم قال :" الجيران ثلاثة : فَجَارٌ له ثلاثة حقوق : حق الجوَارِ، وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان : حق الجِوَار، وحق الإسلام، وجَارٌ له حق واحد : وهو المشرك من أهل الكتاب ".
﴿ والصاحب بالجنب ﴾، وهي الرفيق في أمر حسن، كتعلم وتصرف وصناعة وسفر، فإنه صحبك بجنبك، وعن علي كرم الله وجهه ( أنها الزّوجة )، فيتأكد في حقها الإحسان زيادة على المعاشرة بالمعروف، قال بعضهم : أول قدم في الولاية ؛ كفّ الأذى وحمل الجفا، ومعيار ذلك حسن معاشرة الأهل والولد، وقال عليه الصلاة والسلام :" خَيرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنسَائِه، وأنَا خَيْرُكُمْ لِنسَائِي " ﴿ وابن السبيل ﴾، وهو الضيف أو المسافر لغرابته، ﴿ وما ملكت أيمانكم ﴾، من الإماء والعبيد، وكَانَ آخِرُ كلامِ النّبُي عليه الصلاة والسلام :" الصلاةَ الصَلاةَ وَمَا مَلَكتْ أيمانُكُمْ ".
﴿ إن الله لا يحب مَن كان مختالاً ﴾ أي : متكبراً، يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم، ﴿ فخورا ﴾ يتفاخر عليهم بماله وجاهه، وما خوله الله من نعمه، فهو جدير أن تسلب منه.
الإشارة : واعبدوا الله، أي : بالقيام بوظائف العبودية، ومشاهدة عظمة الربوبية، وقال بعض الحكماء : العبودية : ترك الاختيار، وملازمة الذل والافتقار. وقيل : العبودية أربعة أشياء : الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود، وعنوان ذلك صفاء التوحيد، ولذلك قال :﴿ ولا تشركوا به شيئًا ﴾ أي : لا تَرَوْا معه غيره، كما قال القائل :
مُذْ عَرَفْتُ الإِلهَ لَم أرَ غَيْرًا وكَذَا الغَيْرُ عِنْدنَا ممْنُوعُ
وقال آخر :( لو كُلفت أن أرى غيره، لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى أشهده ). فإذا حصلت العبودية في الظاهر، وتحقق التوحيد في الباطن، ظهرت عليه مكارم الأخلاق فيُحسن إلى الأقارب والأجانب، ويجود عليهم بالحس والمعنى، لأن الفتوة من شأن أهل التوحيد، ومن شيم أهل التجريد، كما هو معلوم من حالهم، نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
قال الورتجبي :" الوالدين " : مشايخ المعرفة. ثم نقل عن الجنيد، أنه قال : أمرني أبي أمرًا، وأمرني السري أمرًا. فقدمت أمر السري على أمر أبي، وكل ما وجدت فهو من بركاته. ه. وذوو القربى هم الأخوة في الشيخ، ﴿ واليتامى ﴾ : من قصدهم من المتفقرة الجاهلة، ﴿ والمساكين ﴾ : ضعفاء اليقين من العامة، أمر الله تعالى أهل الخصوصية بالإحسان إليهم والبرور بهم، وهو أن يقرهم في طريقهم، وبحوشهم إلى ربهم.
﴿ والجار ذي القربى ﴾ وهو جارك في السكنى وأخوك في النسبة، فيستحق عليك زيادة الإحسان. ﴿ والجار الجنب ﴾ : من جاورك من العوام فتنصحه وترشده، ﴿ والصاحب بالجنب ﴾ : من رافقك في أمر من العوام، كَسَفَرٍ وغيره، ﴿ وابن السبيل ﴾ : من نزل بأهل الخصوصية من الأضياف، فلهم حق الضيافة عليهم حسًّا ومعنًى، ﴿ وما ملكت أيمانكم ﴾ : ما لكم تصرف عليهم الأهل والبنين والإماء والعبيد، فتقربونهم إلى حضرة الملك المجيد. ثم أمرهم بالتواضع والإقبال على الخاص والعام. فقال :﴿ إن الله لا يحب مَن كان مختالاً فخورًا ﴾. والله تعالى أعلم.
ثم بين حال أضداد هؤلاء، فقال :
﴿ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً ﴾
قلت :﴿ الذين ﴾ بدل مِن :" مَن كان "، أو منصوب على الذم، أو مرفوع عليه، أي : هم. أو مبتدأ حذف خبره، أي : نعذبهم عذابًا مُهينًا، أو أحقاء بكل ملامة، و﴿ الذين ينفقون ﴾ : عطف على الأولى، أو مبتدأ حُذف خبره، أي : الشيطان قرينهم. والبخل فيه لغتان : البُخل والبَخَل بحركتين.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الذين يبخلون ﴾ بأموالهم على أقاربهم وجيرانهم، ﴿ ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله ﴾ من الغنى، فيظهرون القلة والعيلة، أو يكتمون العلم بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، هم أحقاء بكل لوم وعتاب. ﴿ وأعتدنا للكافرين ﴾ منهم ﴿ عذابًا مُهينًا ﴾ يهينهم ويخزيهم، نزلت في اليهود، كانوا يقولون للأنصار : لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر، وكتموا صفته عليه الصلاة والسلام وَوَضعَ الظاهر موضع المضمر وكأنه يقول : وأعتدنا لهم، إشعارًا بأن مَن هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كفر بنعمة الله وأهانها استحق عذابًا مهينًا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال بعض الصوفية :( من أقبح كل قبيح صوفي شحيح )، فالصوفية العارفون ـ رضي الله عنهم ـ الذين هم صفوة العباد متخلقون بأضداد ما وسم به الحق ـ تعالى ـ أهل العناد، فهم يجودون بأنفسهم وما خصهم الله بهم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية، على من يستحقه من أهل التخلية والتحلية، ويأمرون الناس بالسخاء ومكارم الأخلاق، ويتحدثون بما منحهم الملك الخلاق، ويظهرون الغنى بالله والاكتفاء به عن كل ما سواه، وإذا بذلوا أموالهم أعطوها لله وبالله ومن الله وإلى الله وابتغاء مرضاة الله، هجم عليهم اليقين، وتمكنوا من شهود رب العالمين، فلا يقرب ساحتهم الشيطان، ولا يرون في الدارين إلا الملك الديان، تحبهم ملائكة الرحمن، ويحن إليهم الأنس والجان. نفعنا الله بمحبتهم، وخرطنا في مسلكهم، آمين.
﴿ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ﴾ طالبًا لمدحهم وخوفًا من ذمهم، ﴿ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾، يتحرّون بإنفاقهم مراضية، فالشيطان قرينهم لا يفارقهم، ﴿ ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا ﴾، فلمّا كان الشيطان قرينهم زين لهم التهالك على الأموال والرياء في الأعمال، وإنما أشرك أهل الرياء مع البخلاء في الوعيد من حيث إنهما طَرَفَا تفريط وإفراط، وهما سواء في القبح واستجلاب الذم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال بعض الصوفية :( من أقبح كل قبيح صوفي شحيح )، فالصوفية العارفون ـ رضي الله عنهم ـ الذين هم صفوة العباد متخلقون بأضداد ما وسم به الحق ـ تعالى ـ أهل العناد، فهم يجودون بأنفسهم وما خصهم الله بهم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية، على من يستحقه من أهل التخلية والتحلية، ويأمرون الناس بالسخاء ومكارم الأخلاق، ويتحدثون بما منحهم الملك الخلاق، ويظهرون الغنى بالله والاكتفاء به عن كل ما سواه، وإذا بذلوا أموالهم أعطوها لله وبالله ومن الله وإلى الله وابتغاء مرضاة الله، هجم عليهم اليقين، وتمكنوا من شهود رب العالمين، فلا يقرب ساحتهم الشيطان، ولا يرون في الدارين إلا الملك الديان، تحبهم ملائكة الرحمن، ويحن إليهم الأنس والجان. نفعنا الله بمحبتهم، وخرطنا في مسلكهم، آمين.
﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله ﴾ أي : لا ملامة عليهم ولا تبعة تحيق بهم ؛ لو أخلصوا الإيمان وأنفقوا مما رزقهم الكريم المنان. قال البيضاوي : وفيه تنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يُجيب إليه احتياطاً، فكيف إذا تضمن المنافع. وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخره في الآية الأخرى : لأن القصد بذكره هنا التخصيص، وثَم التقليل. ه. ﴿ وكان الله بهم عليمًا ﴾ لا يخفى عليه شيء من أمورهم وقصدهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال بعض الصوفية :( من أقبح كل قبيح صوفي شحيح )، فالصوفية العارفون ـ رضي الله عنهم ـ الذين هم صفوة العباد متخلقون بأضداد ما وسم به الحق ـ تعالى ـ أهل العناد، فهم يجودون بأنفسهم وما خصهم الله بهم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية، على من يستحقه من أهل التخلية والتحلية، ويأمرون الناس بالسخاء ومكارم الأخلاق، ويتحدثون بما منحهم الملك الخلاق، ويظهرون الغنى بالله والاكتفاء به عن كل ما سواه، وإذا بذلوا أموالهم أعطوها لله وبالله ومن الله وإلى الله وابتغاء مرضاة الله، هجم عليهم اليقين، وتمكنوا من شهود رب العالمين، فلا يقرب ساحتهم الشيطان، ولا يرون في الدارين إلا الملك الديان، تحبهم ملائكة الرحمن، ويحن إليهم الأنس والجان. نفعنا الله بمحبتهم، وخرطنا في مسلكهم، آمين.
ثم رغب الحق –تعالى- في الإنفاق مع الإخلاص، الذي هو عنوان الدين الخاص، فقال :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ﴾
قلت : الذرة : النملة الصغيرة الحمراء. وتطلق على جزء من أجزاء الهباء. ومن نَصَب ﴿ حسنة ﴾ فَخَبَرُ كان. وأُنث الضمير باعتبار الخبر. أو لإضافة مثقال إلى ذرة، فاكتسب التأنيث، ومن رفع فهي تامة، وحذف نونها على غير قياس، تشبيهًا لها بحروف العلة. وضاعف وضّعف بمعنى واحد.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الله لا يظلم ﴾ أحدًا بحيث ينقص من ثواب عمله، أو يزيد في عقبا ما يستحقه، ولو مثقال ذرة. بل يجازي كلاً على قدر عمله. فإن كان صالحًا، ولو صغر قدره، عظُم أجره. ﴿ فإن تك حسنة يُضاعفها ﴾ بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، بحسب الإخلاص. قال أبو هريرة رضي الله عنه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" إنَّ اللهَ يُعْطِي المُؤمنَ عَلى الحَسَنة ألفي ألف حَسَنة "، ثم تلا ﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ الآية.
﴿ ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا ﴾، وخيرًا جسيمًا، فضلاً منه وإحسانًا. قال صلى الله عليه وسلم :" إنَّ اللهَ لا يظلم المُؤمنَ حَسنةً، بل يُثاب عليها الرزق في الدُنيَا ويجزيه بها في الآخِرَةِ. والكَافِر يعطيه بها في الدُّنيَا، فإذا كان يوم القيامة لم يكُن لَهُ حَسَنةٌ ".
الإشارة : كما أن الحق تعالى لا يظلم طالبي الأجور، بل يضاعف لهم في زيادة الحور والقصور، كذلك لا يبخس طالبي القرب والحضور، ورفع الحُجب والستور. بل كلما فعلوا من أنواع المجاهدات ضاعف لهم أنوار المشاهدات. وكلما نقص لهم من الحس ولو مثقال ذرة زادهم في المعنى قَدْرَهُ وأكثر شهودًا ونظرة. وكلما يقهر النفس ولو مقدار الفتيل، شربوا مقداره وأكثر من خمرة الجليل، وهذا كله مع صحبة المشايخ أهل التربية، وإلاَّ فلا تزيده مجاهدته إلا حَجبًا وبعدًا عن الخصوصية. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى الموطن الذي تظهر فيه مقادير الأعمال، فقال :
﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ﴾
قلت :﴿ كيف ﴾ إذا كان الكلام بعدها تامًا أُعربت حالاً، كقولك : كيف جاء زيد ؟ وإذا كان ناقصًا، كانت خبرًا، كقولك : كيف زيد ؟ وهي هنا خبر ؟ أي : كيف الأمر إذا. . . الخ. وهي مبنية لتضمنها معنى الاستفهام، والعامل في ﴿ إذا ﴾ مضمون المبتدأ، أو الخبر، أي : كيف يستقر الأمر أو يكون إذا جئنا ؟
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فكيف ﴾ يكون حال هؤلاء الكفرة واليهود ﴿ إذا ﴾ قامت القيامة و﴿ جئنا من كل أمة بشهيد ﴾ يشهد عليها بخيرها وشرها، وهو نبيهم الذي أرسل إليهم، ﴿ وجئنا بك ﴾ أنت يا محمد ﴿ على هؤلاء ﴾ الأمة التي بعثت إليهم ﴿ شهيدًا ﴾ عليهم، أو على صدق هؤلاء الشهداء شهيدًا، تشهد على صدق رسالتهم وتبليغهم ؟ لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك مجامع قواعدهم، وقيل :﴿ وعلى هؤلاء ﴾ الكفرة المستفهم عن حالهم، وقيل : على المؤمنين لقوله :
﴿ لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾
[ البقرة : ١٤٣ ]
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لا بد أن يحصل الندم لمن فاته صحبة أهل الخصوصية، حتى مات محجوبًا عن مشاهدة أسرار الربوبية، لا سيما إذا انضم إليهم كفرهم بخصوصيتهم والإنكار عليهم، وذلك حين يكشف له عن مقامهم البهي وحالهم السني، مصاحبين للمقربين في جوار الأنبياء والمرسلين، وهو في مقام أهل اليمين، ثم يعاقب على ما أسر عليه من الكبائر، وهي معاصي القلوب والضمائر، وهذا إذا مات على الإسلام، وإلا فالإنكار على الأولياء شُؤمُه سوء الخاتمة. والعياذ بالله من ذلك. وقد تقدم أن العارفين بالله يشهدون على العلماء، والعلماء يشهدون على العموم، ونبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ يزكي من يحتاج إلى التزكية. والله تعالى أعلم.
ومن قرأ ﴿ تَسوّى ﴾ بالشد، فأصله تتسوى، أدغمت الأولى في الثانية، ومن قرأ ﴿ لو تُسوّى ﴾ بالبناء للمفعول فحذف الثانية.
﴿ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول ﴾ أي : الذين جمعوا بين الكفر والعصيان يتمنون أن ﴿ تسوى بهم الأرض ﴾ فيكونون ترابًا لما يرون من هول المطلع، فإذا شهدت عليهم الرسل بالكفر قالوا :
﴿ واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعَام : ٢٣ ]، فيُنطق ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بشركهم فيفتضحون ﴿ ولا يكتمون الله حديثاً ﴾ واحدًا، لأنهم كلما هموا بالكتمان شهدت عليهم جوارحهم بالكفر والعصيان.
وقيل : إن القيامة مواطن، في موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسًا، وفي موطن يتكلمون ويقولون : والله ربنا ما كنا مشركين، إلى غير ذلك من اختلاف أحوالهم. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لا بد أن يحصل الندم لمن فاته صحبة أهل الخصوصية، حتى مات محجوبًا عن مشاهدة أسرار الربوبية، لا سيما إذا انضم إليهم كفرهم بخصوصيتهم والإنكار عليهم، وذلك حين يكشف له عن مقامهم البهي وحالهم السني، مصاحبين للمقربين في جوار الأنبياء والمرسلين، وهو في مقام أهل اليمين، ثم يعاقب على ما أسر عليه من الكبائر، وهي معاصي القلوب والضمائر، وهذا إذا مات على الإسلام، وإلا فالإنكار على الأولياء شُؤمُه سوء الخاتمة. والعياذ بالله من ذلك. وقد تقدم أن العارفين بالله يشهدون على العلماء، والعلماء يشهدون على العموم، ونبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ يزكي من يحتاج إلى التزكية. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على عماد الدين وهي الصلاة، فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾
قلت : جملة ﴿ وأنتم سكارى ﴾ : حال، وسكارى : جمع سكران، ويجمع على سُكارى بالفتح وسكْرى بالسكون، و﴿ لا جُنُبًا ﴾ عطف على جملة الحال، و﴿ جُنب ﴾ يستوي فيه الواحد والاثنان والجماعة والمذكر والمؤنث، لأنه يجري مجرى المصدر فلا يُثنى ولا يُجمع. و﴿ إلا عابري ﴾ مستثنى من عام الأحوال، وأصل الغائط : الموضع المنخفض من الأرض، ثم أطلق على الواقع فيه مما يخرج من الإنسان.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ : لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من خمر، أو غلبة نوم، أو شدة غفلة، ﴿ حتى تعلموا ما تقولون ﴾ في صلاتكم، وتتدبروا ما تقرأون فيها، فالصلاة من غير حضور خاوية، وعند الخصوص باطلة، رُوِي أن عبد الرحمن بن عَوف صنَع مأدبة، ودَعَا إليها نفرًا من الصحابة، حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا حتى ثَمِلُوا، وجاء وقت صلاة المغرب، فتقدم أحدهم ليصلي بهم، فقرأ : أعبد ما تعبدون من غير نفي فنزلت الآية قبل تحريم الخمر، ثم حرمت بآية المائدة.
ولا تقربوها حالة جنابتكم في آي حال كان، ﴿ إلا عابري سبيل ﴾ أي : في وقت سفركم، حيث لم تجدوا ماءً، بدليل ما يأتي، فيتيمم ويقرب الصلاة وهو جنب، وفيه دليل أن التيمم لا يرفع الحدث، قيل المراد بالصلاة مواضعها، وهي المساجد فلا يدخلها الجنب إلا مارًا، وبه قال الشافعي رضي الله عنه وقال أبو حنيفة : لا يجوز المرور، إلاَّ إذا كان فيه الماء والطريق. وقال مالك : لا يدخل إلا بالتيمم ولا يمر به أصلاً.
فلا تقربوا الصلاة وأنتم جنب ﴿ حتى تغتسلوا ﴾.
﴿ وإن كنتم مرضى ﴾ تخافون ضرر الماء، أو زيادته، أو تأخر برء، أو منع الوصول إلى الماء، ﴿ أو على سفر ﴾ لم تجدوه فيه، ﴿ أو ﴾ كنتم في الحضر مُحدِثِين حيث ﴿ جاء أحد منكم من الغائط ﴾، أو البول، أو بغيره من الأحداث، ﴿ أو لامستم النساء ﴾ أي : مست بشرتكم بشرتهن، بقصد اللذة أو عند وجدانها، وبه قال مالك. وقال الشافعي : ينقض مطلقًا، قصد أم لا، وجد أم لا، ولو بميتة، وقال أبو حنيفة : إن كانت ملامسة فاحشة بحيث يحصل الانتشار نقضت، وإلا فلا.
وقال ابن عباس والحسن البصري ومحمد بن الحسن : لا تنقض الملامسة مطلقًا، ويقاس على اللمس سائر نواقض الأسباب، فتحصَّل أن " أو " تبقى على أصلها من التقسيم، فتكون الآية نصًا في تيمم الحاضر الصحيح، وبه قال مالك، ولا يعيد. وقال الشافعي : يُصلي بالتيمم ويُعيد، وقال أبو حنيفة : لا يُصلي حتى يجد الماء، ومن قال :" أو " بمعنى الواو فخروج عن الأصل بلا داع.
ثم قيّد التيمم في هذه الأحوال بفقد الماء، فقال :﴿ فلم تجدوا ماء ﴾ كافيًا، أو لم تقدروا على استعماله، ﴿ فتيمموا ﴾ أي : اقصدوا ﴿ صعيداً طيبًا ﴾ أي : ظاهرًا، وهو ما صعد على وجه الأرض من جنسها ؛ كتراب، وهو الأفضل، وثلج وخضخاض١ وحجر ومدر، لا شجر وحشيش ومعدن ذهب وفضة، وما التحق بالعقاقير، كشب، وملح، وكبريت، وغاسول٢ وشبهه، فلا يجوز.
وقال أبو حنيفة : بكل شيء من الأرض وما اتصل بها كشجر وكُحل، وزنيخ، وشب ونورة، وجص، وجوهر، إلا منخالة الذهب والفضة والرصاص. وقال الشافعي : لا يجوز إلا بالتراب المنبت خاصة، وبه فسر الطيب، واشترط علوق التراب بيده، ولم يشترطه غيره.
ثم علّم الكيفية فقال :﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾. قال مالك : اليد اسم للكف بدليل قطع السارق منه، فجعل المسح إلى المرفق سنة. وقال الشافعي : فرض، قياسًا على الوضوء، ﴿ إن الله كان عفوًّا غفورًا ﴾ فلذلك يسَّر عليكم ورخص لكم في التيمم.
الإشاره : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا صلاة الحضرة القدسية، وأنتم سكارى بحب الدنيا الدنية، حتى يذهب عنكم سُكر حبها، وتعلموا ما تقولون في مناجاة خالقها، ولا جنبًا من جنابة الغفلة، إلا ما يمر بالخواطر على سبيل الندرة والقلة، حتى تغتسلوا بماء الغيب، الذي يحصل به طهارة الجنان، ويغيب المتطهر به عن رؤية الأكوان. وإليه أشار ابن العربي الحاتمي : كما في طبقات الشعراني، ونسبها غيرُه للجنيد رضي الله عنهم أجمعين وهو الأصح بقوله :
تَوَضَّأ بماءِ الغَيبِ إن كُنتَ ذا سِرٍّ وإلاَّ تَيَمَّم بالصَّعِيدِ أو الصَّخر
ِوقّدَّم إمَامًا كُنتَ أنتَ إمَامَه وصَلِّ صلاة الظُّهرِ في أولِ العَصر
ِفَهَذِي صَلاةُ العَارِفينَ بربّهِم فإن كُنتَ مِنهم فانضَحِ البرِّ بالبَحر
أي : إن لم تقدر على الطهارة الأصلية ؛ وهي الغيبة عن الأحداث الكونية، فاقصد العبادة الحسية، وقَّدم الشريعة أو من قام بها من أهل التربية النبوية أمامك، بعد أن كان يطلبك من قبل أن تعرفه، وأجمع ظُهر الشريعة لعصر الحقيقة، فهذه صلاة العارفين، فإن كنت منهم فانضح بَرَّ ظاهرك بحقيقة باطنك، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر. لهذا أشار تعالى بقوله :﴿ وإن كنتم مرضى ﴾ بحب الهوى، ﴿ أو على سفر ﴾ في عجلة شغل الدنيا، أو جاء أحد منكم من غائط الحس، أو لامستم العلوم الرسمية، وانطبع صُورُ خيالها في قلوبكم، ولم تجدوا من يسقيكم ماء الغيب، وهي الخمرة الأزلية، فاقصدوا الأعمال الحسية، فلعلها توصلكم إلى الأعمال الباطنية، ﴿ إن الله كان عفوًا غفورًا ﴾، وفي الحِكَم :" كيف يشرق قلبٌ صورُ الأكوان منطبعة في مرآته ؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته ؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته ؟ "
١ الخضخاض: نوع من القطران الأسود، تطلى به الإبل الجربى..
٢ الغاسول: عشب ينبت في الصحراء..
ثم نبه الحق تعالى على عداوة اليهود، وأن من شأنهم إذا سمعوا عليكم مثل ما وقع من تحريف الآية الذي صدر من المصلي في حال السكر فرحوا بذلك، فحذر المؤمنين من العود لمثل ذلك، فقال :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله ﴿ ألم تر ﴾ يا محمد، أو يا من يسمع، ببصرك أو بقلبك ﴿ إلى ﴾ حال ﴿ الذين أوتوا نصيبًا ﴾ يسيرًا ﴿ من ﴾ علم ﴿ الكتاب ﴾ أي : التوراة، وهم أحبار اليهود، ﴿ يشترون الظلال ﴾ بالهدى، أي : يستبدلونها بها بعد تمكنهم منها عادة، ﴿ ويُريدون أن تضلوا السبيل ﴾ أي : الطريق الموصلة إلى الحق، أي : يتمنون انحرافكم عنها، فإذا سمعوا عنكم ما يحرفكم عنه فرحوا واستبشروا، لأنهم انحرفوا عنها فحرفوا كتابهم وبدلوا، فتمنوا أن تكونوا مثلهم، فاحذروا ما يتوقع منكم أعداؤكم.
سورة النساء
مدنية، وهي ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا. وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة. ومائة وستون آية. قاله الثعلبي. وقال البيضاوي : مائة وخمس وسبعون آية.
ومضمنها : الأمر بحفظ ستة أمور : حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وحفظ الأبدان، وحفظ الأديان، وحفظ اللسان، وحفظ الإيمان.
قلت : دخلت الباء على الفاعل في ﴿ كفى بالله ﴾، لتضمنه معنى أكتف بالله وكيلاً.
فإن الله أعلم بهم منكم، فسيكفيكم الله أمرهم، فثقوا به وتوكلوا عليه، فكفى بالله وليًا وكفى بالله نصيرًا، فسيتولى أمركم وينصركم على من عاداكم. وبالله التوفيق.
الإشارة : من شأن أهل الإنكار، ولا سيما من سلف له في أسلافه رياسة أو إظهار، إذا سمعوا بأهل النسبة وقع لهم شيء من الأكدار، فرحوا واستبشروا، وودوا لو حادوا كلهم عن سبيل الحق، والله مطلع على أسرارهم، وكاف بأسهم وشرهم، ﴿ وكفى بالله وليًا ﴾ لأوليائه ونصيرًا لأحبابه، والله تعالى أعلم.
ثم بينهم، أو ذكر حال فريق منهم، فقال :
﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾
قلت :﴿ من الذين هادوا ﴾ : خبر عن محذوف، أي : منهم قوم يحرفون، أو بيان للذين قبله، أو متعلق بأعدائكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : من اليهود قوم تمردوا في الكفر ؛ وهم أحبارهم، ﴿ يُحرّفون الكلم ﴾ وهو التوراة ﴿ عن مواضعه ﴾ أي : يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، بإزالة لفظه أو تأويله. وقال ابن عباس :( لا يقدر أحد أن يُحرّف كلام الله ولكن يفسرونه على غير وجهه )، ﴿ ويقولون ﴾ لمن دعاهم إليه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم :﴿ سمعنا ﴾ قولك، ﴿ وعصينا ﴾ أمرك، ﴿ واسمع ﴾ منا ﴿ غير مسمع ﴾ قولك، أي : لا نلتفت إليه، أو دعاء بالصمم : أي : لا سمعت، أو غير مسمع منا مكروهًا، نفاقًا، ويقولون له مكان انظرنا :﴿ راعنا ﴾ قاصدين بذلك الشتم والسخرية، من الرعونة، وقد كان الصحابة يخاطبون به الرسول عليه الصلاة والسلام ومعناه : انظرنا. أو راعنا بقلبك، فوجد اليهود بها سبيلاً إلى الشتم، فنهاهم الله عن ذلك، وبقيت اليهود تقولها شتماً واستهزاءً ﴿ ليًّا بألسنتهم ﴾، أي : فَتلاً لها عن معناها، من الانتظار إلى ما قصدوا من رَميِه بالرُّعُونة، ﴿ وطعنًا في الدين ﴾ أي : استهزاء به، ﴿ ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا ﴾ مكان سمعنا وعصينا، ﴿ واسمع ﴾ منا فقط، مكان : واسمع غير مسمع، ﴿ وانظرنا ﴾ مكان راعنا، ﴿ لَكَانَ ﴾ قولهم ذلك ﴿ خيرًا لهم وأقوم ﴾ وأعدل، ﴿ ولكن لعنهم الله ﴾ أي : طردهم وأبعدهم بسبب كفرهم، ﴿ فلا يؤمنون إلا ﴾ إيمانًا ﴿ قليلاً ﴾ لا يعبأ به وهو الإيمان بالبعض والكفر بالبعض من الآيات والرسل. والله تعالى أعلم.
الإشارة : والله ما ربح من ربح، إلا بالأدب والتعظيم، وما خسر من خسر إلا من فقدهما. قال بعضهم :" اجعل عملك ملحًا، وأدبك دقيقًا ". وآداب الظاهر عنوان آداب الباطن، ويظهر الأدب في حسن الخطاب، ورد الجواب، وفي حسن الأفعال، وظهور محاسن الخلال. والله تعالى أعلم.
ثم دعاهم إلى الإيمان بعد أن وسمهم بالعصيان، فقال :
﴿ يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب ﴾ من اليهود ﴿ آمنوا بما نزلنا ﴾ من القرآن ﴿ مصدقًا لما معكم ﴾ من التوراة ﴿ من قبل أن نطمس وُجُوهاً ﴾ أي : نغير صُورها ونمحو تخطيط أشكالها، فلا تبقى عين ولا أنف ولا حاجب، ﴿ فنرُدها على ﴾ هيئة ﴿ أدبارها ﴾ من الأقفاء، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا، ﴿ أو نلعنهم ﴾ أي : نخزيهم بالمسخ، ﴿ كما لعنَّا أصحاب السبت ﴾، فمسخناهم قردة وخنازير، ﴿ وكان أمر الله مفعولاً ﴾، لا مرد له، ولعله كان مشروطاً بعدم إيمان بعضهم، أو يراد بطمس الوجوه ما يكسوها من الذلة والصغار. ويراد باللعن حقيقته، أي : نلعنهم على لسانك كما لُعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم.
وهذه الآية كانت سبب إسلام كعب الأحبار، سمعها من بعض الصحابة فأسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والمسخ جائز على هذه الأمة، كما وقع الأمم السابقة، بدليل ما في كتاب الأشربة من البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ليكوننَّ من أمَّتي أقوام يَستحلُّون الحِر والحَريرَ، والخمر والمعازف، ولينزلنَّ أقوام إلى جَنِب علَمِ، يَروحُ عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة، فيقولون : ارجع إلينا غَدًا، فيُبيَّتُهم الله، ويضع عليهم العَلَم، ويَمسَخُ آخرين قِردَة وخنازيرَ إلى يوم القيامة ".
الإشارة : حملة الشريعة يخاطبون بالإيمان بأهل الحقيقة، لأنها لبها وصفاؤها، فإن امتنعوا من الإيمان بها ومن الإذعان لأهلها، طمس الله وجوه قلوبهم، وملأها خوفًا وجزعًا وحبًا للدنيا، وردها على أدبارها، فلا تفهم أسرارَ الكتاب ولا تفقه إشارة الخطاب، فإن قصّروا عن حقوق الشريعة، وغيَّروا أحكامها مُسخوا قردة وخنازير. وفي نوادر الأصول بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" تَكُونُ فِي أُمَّتي قزَعةٌ١، فَيَصيرُ النَّاسُ إلى عُلَمَائِهِمْ، فإذا هُم قِردَةٌ وخَنَازِيرُ ".
قال الترمذي الحكيم : فالمسخ : تغيير الخلقة عن جهتها، فإنما حل بهم المسخ لأنهم غيَّروا الحق عن جهته، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فمسخوا عن أعين الخلق، وقلوبُهم عن رؤية الحق. فمسخ الله صورهم وبدَّل خِلقتهم، كما بدلوا الحق باطلاً. ه. وبالله التوفيق.
١ قزعة: قطعة من الغيم، وجمعها: قزع..
ولما دعاهم إلى الإيمان، أخبرهم أنهم إن داموا على الكفر لا مطمع لهم في الغفران، فقال :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ لأنه بتَّ الحكم على خلود عذابه، لأن الله تعالى غيور لا أحد أغير منه. كما في الحديث، ومن عادة الملوك إذا خرج أحدٌ من رعيته ونصر غيره لا يقبل منه إلا الرجوع أو الموت. ولا شفاعة تنفع في غير الرجوع عنه. ﴿ ويغفر ما دون ذلك ﴾ الشرك ﴿ لمن يشاء ﴾ من الكبائر والصغائر. تاب أم لا. فالعصاة إذا لم يتوبوا في مشيئة الله، ﴿ ومن يُشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا ﴾ ؛ ارتكب ما تستحقر دونه الآثام. وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب، والله تعالى أعلم.
الإشارة : ولما رأت الصوفية أن الشرك لا يُغفر، ولا يُسمح في شيء منه، جليًا أو خفيًا، حققوا إخلاصهم، ودققوا معاملتهم مع ربهم، وفتشوا على قلوبهم، هل بقي فيها شيء من محبة غير مولاهم، أو خوفٌ من شيء دونه، وطهروا توحيدهم من نسبة التأثير لشيء من الكائنات، فتوجهوا إلى الله في إزالة ذلك عنهم.
قال بعضهم : شربتُ لبنًا فأصابني انتفاخ، فقلت ضرني ذلك اللبن، فلما كنت ذات يوم أتلو، هذه الآية قلت : يا رب ؛ أنا لا أشرك بك شيئًا، فقال لي هاتفٌ : ولا يوم اللبن، فبادرت إلى التوبة. اه. بالمعنى. والله تعالى أعلم.
ثم عاتبهم على تزكية أنفسهم بالدعوى، فقال :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ألم تر ﴾ يا محمد ﴿ إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾، وهم اليهود، قالوا : نَحنُ أبنَاءُ اللهِ وَأحبَّاؤُه، وقيل : طائفة منهم، أتَوا بأطفَالِهِم إلَى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا : هَل عَلَى هؤُلاءِ ذَنبٌ، قال :" لا ". قَالوُا : واللهِ مَا نَحنُ إلا كَهَيئَتِهِم، مَا عَمِلنَا بالنّهَارِ يُكَفَّر عَنَّا باللَّيلِ، وما عملنا باللَّيلِ يُكَفَّر عَنَّا بالنّهَارِ، فنزلت فيهم الآية. وفي معناهم : من زكى نفسه وأثنى عليها قبل معرفتها.
﴿ بل الله يُزكي من يشاء ﴾ لأنه العالم بخفيات النفوس وكمائنها، وما انطوت عليه من قبيح أو حسن، فيزكي من يستحق التزكية، ويفضح المُدَّعِين، ﴿ ولا يُظلمون فتيلاً ﴾، وهو الخيط الذي في شق النواة، يضرب مثلاً لحقارة الشيء، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال بعض الصوفية : للنفس من النقائص ما لله من الكمالات، فلا ينبغي للعبد أن يُزكي نفسه، ولو بلغ فيها من التطهير ما بلغ، ولا يرضى عنها ولو عملت من الأعمال ما عملت. قال أبو سليمان الداراني : لي أربعون سنة وأنا مُتَّهٍمٌ لنفسي. وفي الحِكَم " أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ : الرضا عن النفس، وأصلُ كل طاعةٍ ويقظةٍ وعفةٍ : عدمُ الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خيرٌ من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه، فأيُّ علمٍ لعالمٍ يرضى عن نفسه ؟ ! وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه ؟ ! ".
﴿ انظر كيف يفترون على الله الكذب ﴾ في زعمهم أنهم أبناء الله، أو أنهم مغفور لهم، ﴿ وكفى به ﴾ أي : بالافتراء، ﴿ إثماً مبينًا ﴾ أي : ظاهرًا لا يخفى على أحد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال بعض الصوفية : للنفس من النقائص ما لله من الكمالات، فلا ينبغي للعبد أن يُزكي نفسه، ولو بلغ فيها من التطهير ما بلغ، ولا يرضى عنها ولو عملت من الأعمال ما عملت. قال أبو سليمان الداراني : لي أربعون سنة وأنا مُتَّهٍمٌ لنفسي. وفي الحِكَم " أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ : الرضا عن النفس، وأصلُ كل طاعةٍ ويقظةٍ وعفةٍ : عدمُ الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خيرٌ من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه، فأيُّ علمٍ لعالمٍ يرضى عن نفسه ؟ ! وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه ؟ ! ".
ثم وبخهم على سجودهم للأصنام، وشهادتهم لأهل الكفر بأنهم أهدى من أهل الإسلام، فقال :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ﴾
قلت : الجبت في الأصل : اسم صنم، فاستعمل في كل ما عُبد من دون الله، ﴿ والطاغوت ﴾ : كل باطل من معبود أو غيره، أو الجبت : السحر، ﴿ والطاغوت ﴾ : الساحر، وبالجملة : هو كل ما عُبد أو أطيع من دون الله، وقال الجوهري : الجبت : اسم لكل صنم ولكل عاصٍ ولكل ساحر وكل مُضِلّ، ﴿ والطاغوت ﴾ : الشيطان، وأصله : طغيوت، فعلوت، من الطغيان، ثم قلب فصار طيَغوت، ثم قلبت الياء ألفًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من ﴾ علم ﴿ الكتاب ﴾، وهم أحبار اليهود ﴿ يُؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾ ؛ يقرون بصحة عبادتهما، ﴿ ويقولون للذين كفروا هؤلاء ﴾ الكفرة ﴿ أهدى من الذين آمنوا ﴾ طريقًا، نزلت في اليهود - لعنهم الله - : كانوا يقولون : إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل : في حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف، خرجا في سبعين راكبًا إلى مكة يُحالفون قريشًا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة أُحد، وينقضون العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كَعبُ على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش. فقال أهل مكة : أنتم أهل كتاب، ومحمدٌ صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكيدة منكم. فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين، وآمنوا بهما، ففعلوا، فذلك قوله تعالى :﴿ يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾.
ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأيُّنا أهدى سبيلاً وأقرب إلى الحق، نحن أو محمد ؟ قال كعب : اعرضوا عليَّ دينَكم، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكومَاءَ أي : العظيمة من النوق ونسقي الماء، ونَقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمدٌ فارقَ دينَ أبائه، وقطع الرحم وفارق الحرم، فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلاً. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الورتجبي : وبَّخ الله تعالى أهل ظاهر العلم الذين اختاروا الرياسة، وأنكروا على أهل الولاية، وآثروا صحبة المخالفين، يقبلون هواجس نفَوسهم التي هي الجبت، ويَحظُون على آثار الطاغوت، التي هي إبليس. هـ.
قلت : وينسحب التوبيخ على من فضّل أهل الظاهر على أهل الباطن، وفضَّل العلماء على الأولياء، ويقولون : هم أهدى منهم سبيلاً. هيهات ! بينهم من البَون ما بين السماء والأرض.
والكلام إنما هو في التفضيل بين العارفين بالله، الذين جمعوا بين الفناء والبقاء، وبين العلماء والأتقياء. وأما العُبَّاد والزهاد والصالحون فلا شك أن العلماء الأتقياء أفضل منهم، وإليهم أشار صلى الله عليه وسلم بقوله :
" فَضلُ العَالِمِ على العابِد كَفَضِلِي عَلَى أدناكُم " وكذلك الأحاديث التي وردت في تفضيل العلماء. وأما العارفون بالله فهم أعظم العلماء، لأن علمهم متعلق بذات الله كشفًا وذوقًا، وعلماء الظاهر علمهم متعلق بأحكام الله. مفرقُون عن الله، بل هم أشد حجابًا من غيرهم عن الله. قال بعض الأولياء : أشد الناس حجابًا عن الله : العلماء ثم العباد ثم الزهاد. هـ. لأن حلاوة ما هم فيه تمنعهم عن الانتقال عنه، وقد تقدم الكلام عند قوله :﴿ كُنتٌمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [ آل عِمرَان : ١١٠ ] بأبلغ من هذا. والله تعالى أعلم.

﴿ أولئك الذين لعنهم الله ﴾ وأبعدهم وأسحقهم ﴿ ومَن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا ﴾ ينصره من عذاب الله. فقد قُتل هؤلاء كلهم شر قتلة، وذهبوا إلى الهاوية. عائذاً بالله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الورتجبي : وبَّخ الله تعالى أهل ظاهر العلم الذين اختاروا الرياسة، وأنكروا على أهل الولاية، وآثروا صحبة المخالفين، يقبلون هواجس نفَوسهم التي هي الجبت، ويَحظُون على آثار الطاغوت، التي هي إبليس. هـ.
قلت : وينسحب التوبيخ على من فضّل أهل الظاهر على أهل الباطن، وفضَّل العلماء على الأولياء، ويقولون : هم أهدى منهم سبيلاً. هيهات ! بينهم من البَون ما بين السماء والأرض.
والكلام إنما هو في التفضيل بين العارفين بالله، الذين جمعوا بين الفناء والبقاء، وبين العلماء والأتقياء. وأما العُبَّاد والزهاد والصالحون فلا شك أن العلماء الأتقياء أفضل منهم، وإليهم أشار صلى الله عليه وسلم بقوله :
" فَضلُ العَالِمِ على العابِد كَفَضِلِي عَلَى أدناكُم " وكذلك الأحاديث التي وردت في تفضيل العلماء. وأما العارفون بالله فهم أعظم العلماء، لأن علمهم متعلق بذات الله كشفًا وذوقًا، وعلماء الظاهر علمهم متعلق بأحكام الله. مفرقُون عن الله، بل هم أشد حجابًا من غيرهم عن الله. قال بعض الأولياء : أشد الناس حجابًا عن الله : العلماء ثم العباد ثم الزهاد. هـ. لأن حلاوة ما هم فيه تمنعهم عن الانتقال عنه، وقد تقدم الكلام عند قوله :﴿ كُنتٌمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [ آل عِمرَان : ١١٠ ] بأبلغ من هذا. والله تعالى أعلم.

ثم رد الحق تعالى على اليهود، حيث ادعوا أن الملك سيصير إليهم، فقال :
﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ﴾
قلت :﴿ أم ﴾ : منقطعة، بمعنى بل، والهمزة للإنكار، وهو إنكار وجحدٌ لما زعمت اليهود من أنَّ المُلكَ سيصيرُ لهم، و﴿ إذًا ﴾ إن فُصل بينها وبين المضارع، ب " لا " ففيها الإهمال والإعمال، وقد قرئ :( وإذًا لا يلبثوا )، والنقير : النقرة التي في ظهر النواة، وهو هنا كنابة عن نهاية بخلهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : مُنكِرًا على اليهود : أيحصل لهم ﴿ نصيب من المُلك ﴾ والرياسة ؟ هيهات، لا يكون هذا أبدًا، فكيف يكون لهم الملك وهم أبخل الناس ؟. فإذا أُوتوا شيئًا من الملك لا يُعطون الناس نقيرًا، فما بالك بأكثر، والملك والنصر ولا يكونان إلا لأجل الكرم والجود والشجاعة، وإصابة الرأي وحسن التدبير، وهم بعداء من هذه المكارم.
الإشارة : لا يُمكن اللهُ من العز والنصر والتصرف الظاهر أو الباطن إلا أهل السخاء والجود، فمن جاد بمالِهِ حتى لا يبالي كم أعطى ولا لمن أعطى، مكّنه الله من العز والتصرف الحسي، ومن جاد بنفسه وجاهه، وبذلهما في مرضاة ربه، مكّنه الله من العز والنصر والتصرف المعنوي ؛ يتصرف بهمته في الوجود بأسره، من عرشه إلى فرشه، ويدوم عزه ونصره أبد الأبد. والله تعالى أعلم.
ولما كان الحسد والبخل رذيلتين متناهيتين في الذم وصفهم الحق –تعالى- أيضا به، فقال :
﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ﴾
قلت :﴿ أم ﴾ بمعنى بل.
يقول الحقّ جلّ جلاله : توبيخًا لليهود على الحسد :﴿ أم يحسدون الناس ﴾، أي : العرب حيث انتقلت النبوة إليهم، وقد كانت في أسلافهم، ﴿ على ما آتاهم الله من فضله ﴾، وهو ظهور النبوة فيهم، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه اجتمع فيه ما افترق في سائر الناس، حسدوه على ما آتاه الله من فضله، من النبوة وغيرها، وقالوا لعنهم الله : ما له همٌّ إلا النساء ولو كان نبيًا لشغله أمر النبوة عن النساء.
فكَّذبهم الله تعالى وردَّ عليهم بقوله :﴿ فقد آتينا آل إبراهيم ﴾ وهم : يوسف وداود وسليمان، ﴿ الكتاب والحكمة ﴾ أي : النبوّة، ﴿ وآتيناهم مُلكّاً عظيمًا ﴾. فقد اجتمع لداود عليه السلام مائة امرأة. ولسليمان عليه السلام ألف امرأة : ثلاثمائة مهيرة، أي بالمهر وسبعمائة سرية، فقال لهم عليه الصلاة والسلام حين نزلت الآية : ألف امرأة عن رجل، ومائة امرأة عند آخر، أكثر من تسع نسوة، فسكتوا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الحسد خلق مذموم، لا يتطهر منه إلا الصديقون، وكل من بقي فيه بقية من الحسد لا يشم رائحة المعرفة، إذ لو عرف الله لم يجد من يحسد، وقد قيل : الحسود لا يسود. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أن قال :" الحَسدُ يأكُلُ الحسنَاتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ " وقال سفيان :( بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول : الحاسدُ عدو نعمتي، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمت بين عبادي ). وأنشدوا :
ألاَ قُل لمَن كانَ لي حَاسِدًا أتدري على مَن أسَأتَ الأدَب
أسَأتَ على اللهِ في فِعلِه إذا أنتَ لم تَرضَ لي مَا وَهَب
جَزَاؤُكَ منه الزيادةُ لي وألاَّ تَنَالَ الذِي تَطَّلِب

وقال آخر :
إن تحسُدُوني فإني غيرُ لائمكم قَبَلى من الناسِ أهل الفضلِ قّد حُسِدُوا
فَدَامَ لي وَلَهُم ما كَانَ بي وبهم وماتَ أكثَرُنا غيظًا بما يَجِدُ
ثم إن الحسود لا تزول عداواته، ولا تنفع مداواته، وهو ظالم يشتكي كأنه مظلوم. ولقد صدق القائل :
كلُ العَدَاوةِ قد تُرجىَ إزالتُها إلا عداوة مَن عَادَاكَ مِن حَسَدٍ

وقال حكيم الشعراء :
وأظلمُ خَلقِ اللهِ مَن بَاتَ حَاسِدًا لِمَن بَاتَ في نَعمَائِه يَتَقَلَّبُ

وقال آخر :
أني لأرحمُ حاسِدِيَّ لفرطِ ما ضَمَّت صُدُوُرُهُم مِن الأوغَارِ
نَظَرُوا صنيعَ اللهِ في فَعُيُونهُم في جَنَّةٍ وقَلوبُهُم في نارِ
قال بعض الحكماء :( الحاسدُ يضرُّ نفسه ثلاث مضرات : إحداها : اكتساب الذنوب ؛ لأن الحسد حرام. الثانية : سوء الأدب مع الله ـ تعالى ـ فإنَّ حقيقة الحسد : كراهية إنعام الله على غيره، واعتراض على الله في فعله. الثالثة : تألم قلبه وكثرة همه وغمه ). عافانا الله من ذلك كله، فالحاسد لا ينفك عن نار الحجاب وغم الحساب، والمتطهر منه يدخل جنة الرضى والتسليم في جوار الحبيب، وهو محل الراحة والأمن في الدارين، وهو الظل الظليل. والله تعالى أعلم.

و﴿ سعيرًا ﴾ تمييز.
﴿ فمنهم ﴾ أي : اليهود، ﴿ من آمن به ﴾ أي : بمحمد عليه الصلاة والسلام كعبد الله بن سلام وأصحابه، ﴿ ومنهم من صدّ عنه ﴾ أي : أعرض عنه، أو : من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ﴿ ومنهم من صدّ عنه ﴾، ولم يكن في ذلك توهين لقدر إبراهيم، فكذلك لا يُوهن كفرُ هؤلاء أمرَك، أو : من أسلافهم من آمن بما أُوتي آل إبراهيم من الكتاب والحكمة والمُلك، ﴿ ومنهم مَن صدّ عنه ﴾، كما فعلوا مع سليمان وغيره. ﴿ وكفى بجهنم سعيرًا ﴾ لمن كفر بما جاء به أحد من الرسل، أي : فإن لم يُعاجَلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الحسد خلق مذموم، لا يتطهر منه إلا الصديقون، وكل من بقي فيه بقية من الحسد لا يشم رائحة المعرفة، إذ لو عرف الله لم يجد من يحسد، وقد قيل : الحسود لا يسود. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أن قال :" الحَسدُ يأكُلُ الحسنَاتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ " وقال سفيان :( بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول : الحاسدُ عدو نعمتي، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمت بين عبادي ). وأنشدوا :
ألاَ قُل لمَن كانَ لي حَاسِدًا أتدري على مَن أسَأتَ الأدَب
أسَأتَ على اللهِ في فِعلِه إذا أنتَ لم تَرضَ لي مَا وَهَب
جَزَاؤُكَ منه الزيادةُ لي وألاَّ تَنَالَ الذِي تَطَّلِب

وقال آخر :
إن تحسُدُوني فإني غيرُ لائمكم قَبَلى من الناسِ أهل الفضلِ قّد حُسِدُوا
فَدَامَ لي وَلَهُم ما كَانَ بي وبهم وماتَ أكثَرُنا غيظًا بما يَجِدُ
ثم إن الحسود لا تزول عداواته، ولا تنفع مداواته، وهو ظالم يشتكي كأنه مظلوم. ولقد صدق القائل :
كلُ العَدَاوةِ قد تُرجىَ إزالتُها إلا عداوة مَن عَادَاكَ مِن حَسَدٍ

وقال حكيم الشعراء :
وأظلمُ خَلقِ اللهِ مَن بَاتَ حَاسِدًا لِمَن بَاتَ في نَعمَائِه يَتَقَلَّبُ

وقال آخر :
أني لأرحمُ حاسِدِيَّ لفرطِ ما ضَمَّت صُدُوُرُهُم مِن الأوغَارِ
نَظَرُوا صنيعَ اللهِ في فَعُيُونهُم في جَنَّةٍ وقَلوبُهُم في نارِ
قال بعض الحكماء :( الحاسدُ يضرُّ نفسه ثلاث مضرات : إحداها : اكتساب الذنوب ؛ لأن الحسد حرام. الثانية : سوء الأدب مع الله ـ تعالى ـ فإنَّ حقيقة الحسد : كراهية إنعام الله على غيره، واعتراض على الله في فعله. الثالثة : تألم قلبه وكثرة همه وغمه ). عافانا الله من ذلك كله، فالحاسد لا ينفك عن نار الحجاب وغم الحساب، والمتطهر منه يدخل جنة الرضى والتسليم في جوار الحبيب، وهو محل الراحة والأمن في الدارين، وهو الظل الظليل. والله تعالى أعلم.

ثم بيَّن مآل من كفر، فقال :﴿ إن الذين كفروا بآياتنا ﴾ المنزلة على رسلنا، أو الدالة على وحدانيتنا، ﴿ سوف نصليهم نارًا ﴾ أي : نحرقهم بها ونشويهم، ﴿ كلما نضجت جلودهم ﴾ أي : لانت واحترقت ﴿ بدّلناهم جلودًا غيرها ﴾، قال صلى الله عليه وسلم :" تُبدَّلُ في ساعةٍ مائةَ مَرَّة " وقال الحسن :( تأكلهم النارُ في كل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم وأنضجتهم قيل لهم : عودوا فيعودوان كما كانوا ). وقال مجاهد :( ما بين جلده ولحمه دود، لها جلبة أي حركة وهرير كجلبة حمر الوحش ). رَوى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" غلظٌ جِلدِ الكَافِرِ اثنَانٍ وأربعَونَ ذرَاعًا، وضِرسه مِثلُ أحُد "
وإنما بدلت جلودهم ﴿ ليذوقوا ﴾ ألم ﴿ العذاب ﴾، أي : يدوم لهم ذلك بخلق جلد آخر مكانه، والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية لا لآلة إدراكها، فلا محذور، ﴿ إن الله كان عزيزًا ﴾ لا يمتنع عليه ما يريد، ﴿ حكيمًا ﴾ يعاقب على قدر حكمته.
ثم ذكر مقابل هؤلاء فقال :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا لهم فيها أزواج مطهرة ﴾
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الحسد خلق مذموم، لا يتطهر منه إلا الصديقون، وكل من بقي فيه بقية من الحسد لا يشم رائحة المعرفة، إذ لو عرف الله لم يجد من يحسد، وقد قيل : الحسود لا يسود. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أن قال :" الحَسدُ يأكُلُ الحسنَاتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ " وقال سفيان :( بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول : الحاسدُ عدو نعمتي، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمت بين عبادي ). وأنشدوا :
ألاَ قُل لمَن كانَ لي حَاسِدًا أتدري على مَن أسَأتَ الأدَب
أسَأتَ على اللهِ في فِعلِه إذا أنتَ لم تَرضَ لي مَا وَهَب
جَزَاؤُكَ منه الزيادةُ لي وألاَّ تَنَالَ الذِي تَطَّلِب

وقال آخر :
إن تحسُدُوني فإني غيرُ لائمكم قَبَلى من الناسِ أهل الفضلِ قّد حُسِدُوا
فَدَامَ لي وَلَهُم ما كَانَ بي وبهم وماتَ أكثَرُنا غيظًا بما يَجِدُ
ثم إن الحسود لا تزول عداواته، ولا تنفع مداواته، وهو ظالم يشتكي كأنه مظلوم. ولقد صدق القائل :
كلُ العَدَاوةِ قد تُرجىَ إزالتُها إلا عداوة مَن عَادَاكَ مِن حَسَدٍ

وقال حكيم الشعراء :
وأظلمُ خَلقِ اللهِ مَن بَاتَ حَاسِدًا لِمَن بَاتَ في نَعمَائِه يَتَقَلَّبُ

وقال آخر :
أني لأرحمُ حاسِدِيَّ لفرطِ ما ضَمَّت صُدُوُرُهُم مِن الأوغَارِ
نَظَرُوا صنيعَ اللهِ في فَعُيُونهُم في جَنَّةٍ وقَلوبُهُم في نارِ
قال بعض الحكماء :( الحاسدُ يضرُّ نفسه ثلاث مضرات : إحداها : اكتساب الذنوب ؛ لأن الحسد حرام. الثانية : سوء الأدب مع الله ـ تعالى ـ فإنَّ حقيقة الحسد : كراهية إنعام الله على غيره، واعتراض على الله في فعله. الثالثة : تألم قلبه وكثرة همه وغمه ). عافانا الله من ذلك كله، فالحاسد لا ينفك عن نار الحجاب وغم الحساب، والمتطهر منه يدخل جنة الرضى والتسليم في جوار الحبيب، وهو محل الراحة والأمن في الدارين، وهو الظل الظليل. والله تعالى أعلم.

﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا لهم فيها أزواج مطهرة ﴾ مما يستقذر ﴿ وندخلهم ظلاً ظليلاً ﴾ أي دائمًا لا تنسخه شمس، ولا يصحبه برد، قدَّم وعيد الكفار على وعد المؤمنين، لأن الكلام فيهم، وذكر المؤمنين بالعرض. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الحسد خلق مذموم، لا يتطهر منه إلا الصديقون، وكل من بقي فيه بقية من الحسد لا يشم رائحة المعرفة، إذ لو عرف الله لم يجد من يحسد، وقد قيل : الحسود لا يسود. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أن قال :" الحَسدُ يأكُلُ الحسنَاتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ " وقال سفيان :( بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول : الحاسدُ عدو نعمتي، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمت بين عبادي ). وأنشدوا :
ألاَ قُل لمَن كانَ لي حَاسِدًا أتدري على مَن أسَأتَ الأدَب
أسَأتَ على اللهِ في فِعلِه إذا أنتَ لم تَرضَ لي مَا وَهَب
جَزَاؤُكَ منه الزيادةُ لي وألاَّ تَنَالَ الذِي تَطَّلِب

وقال آخر :
إن تحسُدُوني فإني غيرُ لائمكم قَبَلى من الناسِ أهل الفضلِ قّد حُسِدُوا
فَدَامَ لي وَلَهُم ما كَانَ بي وبهم وماتَ أكثَرُنا غيظًا بما يَجِدُ
ثم إن الحسود لا تزول عداواته، ولا تنفع مداواته، وهو ظالم يشتكي كأنه مظلوم. ولقد صدق القائل :
كلُ العَدَاوةِ قد تُرجىَ إزالتُها إلا عداوة مَن عَادَاكَ مِن حَسَدٍ

وقال حكيم الشعراء :
وأظلمُ خَلقِ اللهِ مَن بَاتَ حَاسِدًا لِمَن بَاتَ في نَعمَائِه يَتَقَلَّبُ

وقال آخر :
أني لأرحمُ حاسِدِيَّ لفرطِ ما ضَمَّت صُدُوُرُهُم مِن الأوغَارِ
نَظَرُوا صنيعَ اللهِ في فَعُيُونهُم في جَنَّةٍ وقَلوبُهُم في نارِ
قال بعض الحكماء :( الحاسدُ يضرُّ نفسه ثلاث مضرات : إحداها : اكتساب الذنوب ؛ لأن الحسد حرام. الثانية : سوء الأدب مع الله ـ تعالى ـ فإنَّ حقيقة الحسد : كراهية إنعام الله على غيره، واعتراض على الله في فعله. الثالثة : تألم قلبه وكثرة همه وغمه ). عافانا الله من ذلك كله، فالحاسد لا ينفك عن نار الحجاب وغم الحساب، والمتطهر منه يدخل جنة الرضى والتسليم في جوار الحبيب، وهو محل الراحة والأمن في الدارين، وهو الظل الظليل. والله تعالى أعلم.

ولما كان حفظ نظام الدين لا يقوم إلا بالجهاد، ولا ينتظم الجهاد إلا بنصب الإمام، تكلم الحق –جل جلاله- على ما يتعلق بالأمراء، ثم بعد ذلك يتكلم على الجهاد، فقال :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾
قلت :" ما " في ﴿ نِعِمَّا ﴾ تمييز أو فاعل، والمخصوص محذوف، أي نعم شيئًا شيء يعظكم به، أو نعم الذي يعظكم به ذلك الأمر، وهو رد الأمانات والعدل في الحكومات.
قال زيد بن أسلم وشهر بن حوشب : نزلت الآية في شأن الأمراء. ه. قلت : وأن نزلت في شأن عثمان بن طلحة سَادِن الكَعبَةِ فهي عامة. والمخاطب بذلك أولاً الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأمراء، أمره الحق تعالى أن يرد المفاتح إلى عثمان، وذلك أن عثمان أغلق باب الكعبة يوم فتح مكة، وأبى أن يدفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل الكعبة، وقال : لو عَلمِتُ أنه رَسُول الله ما منعتُهُ، فَلَوى عَلِيَّ يده، وأخذّها مِنهُ، فدخل رسول الله صلى عليه وسلم وصَلّى رَكعَتينِ، فلما خَرَجَ سألُه العباس أن يُعطيه المفتَاح، وَيَجمَعَ له السِّدَانَةَ والسِّقَايةَ، فأمره اللهُ تعالى أن يرده إليه، فأمر عَلِيًّا بأن يَرُدَّه وَيَعتَذِر إليه، وكان ذلك سببًا لإسلام عثمان، ونزل الأمر بأن السِّدَانَة في أولاده أبدًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الله يأمركم ﴾، يا معشر الأمراء، أن تردوا ﴿ الأمانات إلى أهلها ﴾ من أنفسكم، أو من رعيتكم فتُنصفوا المظلوم من الظالم، حتى يؤدي ما ائتُمن عليه من دَينٍ، أو وديعة، أو غصب، أو سرقة، أو غير ذلك من حقوق العباد، بعضهم من بعض، وأن تؤدوا الزكاة إلى من يستحقها، وتصرفوا بيت المال فيمن يستحقه، لا تظلموا أهلها، ولا تضيعوا منها شيئاً في غير مستحقها.
﴿ و ﴾ يأمركم ﴿ إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ في من يَنفُذُ عليه حكمُكُم، ﴿ إن الله نعمًا يعظكم به ﴾ أي : إن الله يعظكم بأمر نعم ما هو، ﴿ إن الله كان سميعًا بصيرًا ﴾ لا يخفى عليه أحكامكم، ولا ما أخفيتم من أمانات غيركم.
الإشارة : أمر الحقّ جلّ جلاله شيوخ التربية أن يؤدوا السر إلى من يستحقه من الفقراء، إذا تحققوا أهليتهم له، بحيث تخلوا عن الرذائل، كالحسد والكبر وغيرهما، وتحلوا بالفضائل، كسلامة الصدر وسخاوة النفوس وحسن الخلق، وغير ذلك من أوصاف الكمال، فإن تحققوا بالتخلية والتحلية، استحقوا الاطلاع على أسرار الربوبية، التي هي أمانات عند أهل الخصوصية، وأمرهم أن يحكموا بين الفقراء بالعدل، فيمدوا كلاً على قدر صِدقِه وخِدمَتِه، والله تعالى أعلم.
ثم أمر الحق تعالى بطاعة الأمراء الذين أمرهم بالعدل وأداء الأمانة، فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً ﴾
أعاد العامل في قوله :﴿ وأطيعوا الرسول ﴾، إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يُعده في ﴿ أولي الأمر ﴾ إشارة إلى أنه يوجد منهم من لا تجب طاعته، ثم بيّنه بقوله :﴿ فإن تنازعتم في شيء ﴾ كأنه قيل : فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم، وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله. قال الطيبي، وسيأتي تحريرُ ذلك إن شاء الله تعالى.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ﴾ فيما أمركم به ونهاكم عنه، ﴿ وأطيعوا الرسول ﴾ كذلك. ﴿ وأولي الأمر منكم ﴾ أي : مَن ولي أمرَكم. من وُلاَةِ العدل كالخلفاء والأمراء بعدهم، تجب طاعتهم فيما أمَروُا به من الطاعة دون المعصية إلا لخوف هرج، قال عليه الصلاة والسلام :" إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعرُوف "، فأن لم يعدل : وجبت طاعته خوفًا من الفتنة. وهذا هو الأصح. لقوله عليه الصلاة والسلام :" سَيَليكم ولاة، فيليكم البَرُّ ببره، والفاجر بفجوره، فاستمعوا لهم، وأطيعوا في كل ما وافق الحق، فصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم " رواه أبو هريرة.
وفي حديث آخر :" لا أن تَروا كُفرًا بَوَاحًا، لكم عليه من اللهِ بُرهَانٌ " أي : فيجب عزلهم. وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو وائل فقال : يا رسول الله ؛ أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقنا ويسألون حقهم ؟. فقال صلى الله عليه وسلم :" اسمَعُوا وأطِيعُوا، فَإنَّ عليهم ما حُمِّلُوا وَعَليكُم ما حُملتم ".
وقال جابر بن عبد الله والحسن والضحاك ومجاهد : أولو الأمر هم الفقهاء والعلماء، أهل الدين والفضل، يُعلَّمون الناس معالم دينهم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، دليله. قوله تعالى :﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ. . . ﴾ [ النساء : ٨٣ ] الآية. قال أبو الأسود : ليس شيء أعز من العلم، الملوك حُكَّام على الناس، والعلماء حُكَّام على الملوك. ه.
﴿ فإن تنازعتم ﴾ أنتم وأولو الأمر، أو بعضكم مع بعض أي : اختلفتم في حكم شيء من أمر الدين فلم تعلموا حكمه، ﴿ فردّوه إلى الله ﴾ أي : إلى كتاب الله، ﴿ و ﴾ إلى ﴿ الرسول ﴾ في زمانه، أو سنته بعد موته، فإن لم يوجد بالنص فبالقياس. فالأحكام ثلاثة : مثبت بالكتاب، ومثبت بالسنة، ومثبت بالرد إليهما على وجه القياس. وعن إبراهيم بن يسار قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" اعملُوا بالقرآن : أحلُّوا حَلاَلهُ، وحرَّمُوا حرامَهُ، وآمنوا بِه ولا تكفُروا بشيءٍ منهُ، وما اشتبه عليكُم فردُّوه إلي الله تعالى وإلى أولى العِلم من بَعدي، كيما يُخبرُونكم به "، ثم قال :" وليَسعُكُم القرآن وما فيهِ من البَيَانِ ؛ فإنه شافعٌ مشفَّعٌ، وما حِلٌ مُصدَّقَّ " ١، وإن له بكل حَرفٍ نُورًا يومَ القِيَاَمَة ".
فردوا الأحكام إليه وإلى الرسول، ﴿ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ﴾ فإن الإيمان يُوجِبُ ذلك. ﴿ ذلك ﴾ الرد ﴿ خير ﴾ لكم ﴿ وأحسن تأويلاً ﴾ من تأويلكم بالرأي من غير رد، وأحسن عاقبة ومآلاً، والله تعالى أعلم.
الإشارة : أولو الأمر عند الصوفية، هم شيوخ التربية العارفون بالله، فيجب على المريدين طاعتهم في المنشط والمكره، وفي كل ما أمروا به، فمن خالف أو قال :" لِمَ " لَم يفلح أبدًا، ويكفي الإشارة عن التصريح عند الحذاق أهل الاعتناء، فإن تعارض أمر الأمراء وأمر الشيوخ، قدَّم أمر الشيخ إلا لفتنة فادحة، فإن الشيخ يأمر بطاعتهم أيضًا لما يؤدي من الهرج بالفقراء، فإن تنازعتم يا معشر الفقراء، في شيء من علم الشريعة أو الطريقُ، فردوه إلى الكتاب والسنُّة. قال الجنيد رضي الله عنه : طريقتنا هذه مؤيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويتعلم الحديث لا يُقتدى به في هذا الشأن. ه. ويكفي المهم من ذلك، وهو ما يتوقف عليه أمر عبادته. والله تعالى أعلم.
١ ما حل مصدق: أي خصم مصدق..
ثم ذكر الحق تعالى من أعوض عن حكم الله ورسوله، ورضي بحكم غيرهما، فقال :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَائِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ألم تر ﴾ يا محمد ﴿ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ وهم المنافقون، ﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾، كعب بن الأشرف لفرط طغيانه. وفي معناه كل من يحكم بالباطل، ﴿ وقد أُمروا أن يكفروا به ﴾، ويؤمنوا بالله ويرضوا بحكمه. ﴿ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا ﴾، بأن يصرفهم عن حكم الله ورسوله.
قال ابن عباس : إنَّ منافقًا خَاصَمَ يَهُودِيًّا فَدَعَاهُ اليَهُوديُّ إلى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي بالحق ؛ فلم يرض المنافق، وقال : نتحاكم إلى عُمَر، فقال اليهودي : نعم فذهبا إلى عمر رضي الله عنه فقال اليهودي : قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضى بقضائه وخاصم إليك، فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟. قال : نعم، فقال : على رسلكما حتى أخرج إليكما، فدخل وأخذ سيفه فخرج، فضرب به عنق المنافق حتى برد١، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله ورسوله، فنزلت الآية. . وقال جبريل رضي الله عنه : إن عمر فرّق بين الحق والباطل. فسُمي الفاروق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من دخل تحت ولاية شيخ التربية، وجب أن يرد حكوماته كلها إليه، ويرضى بما قضى عليه، وترى بعض الفقراء يزعمون أنهم في تربية الشيخ وتحت أحكامه، ثم يتحاكمون إلى حُكام الجور وقضاة الزمان في أمر الدنيا وما يرجع إليها، فهؤلاء قد ضلوا ضلالاً بعيدًا. إلا أن يتوبوا ويُصلحوا ما أفسدوا، بإصلاح قلب الشيخ حتى يجبر كسرهم، فالمريد الصادق لا يصل إلى الحاكم، ولو ذهب ماله كله، فإن كان ولا بد. فليوكل عنه في ذلك.
فكيف إذا أصابت هؤلاء مصيبة وهي ظلمة القلب، وفتنة الدنيا بسبب ما قدمت أيديهم من تخطى حكم شيخهم إلى حُكم غيره، ثم جاؤوك يحلفون بالله ما أردنا إلا إحسانًا وهو حفظ مالنا، وتوفيقًا بيننا وبين خصمنا، فيجب على الشيخ أن يُعرض عن عتابهم ويذكرهم حتى يتوبوا، فإن تابوا فإن الله غفور رحيم.


١ برد: أي مات..
قلت :﴿ رأيت المنافقين ﴾، وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالنفاق وذمًا لهم به. وكان القياس : رأيتهم، و﴿ صدودًا ﴾ : مصدر، أو اسم مصدر الذي هو الصد، والفرق بينه وبين المصدر : أن المصدر اسم للمعنى الذي هو الحدث، واسم المصدر اسم للفظ المحسوس، ﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين ﴾ أي : بعضَهم، ﴿ يصدون عنك ﴾ غير راضين بحكمك ﴿ صدودًا ﴾ عظيمًا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من دخل تحت ولاية شيخ التربية، وجب أن يرد حكوماته كلها إليه، ويرضى بما قضى عليه، وترى بعض الفقراء يزعمون أنهم في تربية الشيخ وتحت أحكامه، ثم يتحاكمون إلى حُكام الجور وقضاة الزمان في أمر الدنيا وما يرجع إليها، فهؤلاء قد ضلوا ضلالاً بعيدًا. إلا أن يتوبوا ويُصلحوا ما أفسدوا، بإصلاح قلب الشيخ حتى يجبر كسرهم، فالمريد الصادق لا يصل إلى الحاكم، ولو ذهب ماله كله، فإن كان ولا بد. فليوكل عنه في ذلك.
فكيف إذا أصابت هؤلاء مصيبة وهي ظلمة القلب، وفتنة الدنيا بسبب ما قدمت أيديهم من تخطى حكم شيخهم إلى حُكم غيره، ثم جاؤوك يحلفون بالله ما أردنا إلا إحسانًا وهو حفظ مالنا، وتوفيقًا بيننا وبين خصمنا، فيجب على الشيخ أن يُعرض عن عتابهم ويذكرهم حتى يتوبوا، فإن تابوا فإن الله غفور رحيم.

و﴿ يحلفون ﴾ حال.
﴿ فكيف ﴾ يكون حالهم ﴿ إذا أصابتهم مصيبة ﴾ كقتل عمر المنافقَ، بسبب ما قدمت ﴿ أيديهم ﴾ من عدم الرضى بحكم الله، ﴿ ثم جاؤوك ﴾ يطلبون ديّة صاحبهم، ﴿ يحلفون بالله إن أردنا ﴾ بالإنصراف إلى عمر ﴿ إلا أحسانًا ﴾ منه بالخصمين، ﴿ وتوفيقاً ﴾ بينهما، قطعًا للنزاع بينهما.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من دخل تحت ولاية شيخ التربية، وجب أن يرد حكوماته كلها إليه، ويرضى بما قضى عليه، وترى بعض الفقراء يزعمون أنهم في تربية الشيخ وتحت أحكامه، ثم يتحاكمون إلى حُكام الجور وقضاة الزمان في أمر الدنيا وما يرجع إليها، فهؤلاء قد ضلوا ضلالاً بعيدًا. إلا أن يتوبوا ويُصلحوا ما أفسدوا، بإصلاح قلب الشيخ حتى يجبر كسرهم، فالمريد الصادق لا يصل إلى الحاكم، ولو ذهب ماله كله، فإن كان ولا بد. فليوكل عنه في ذلك.
فكيف إذا أصابت هؤلاء مصيبة وهي ظلمة القلب، وفتنة الدنيا بسبب ما قدمت أيديهم من تخطى حكم شيخهم إلى حُكم غيره، ثم جاؤوك يحلفون بالله ما أردنا إلا إحسانًا وهو حفظ مالنا، وتوفيقًا بيننا وبين خصمنا، فيجب على الشيخ أن يُعرض عن عتابهم ويذكرهم حتى يتوبوا، فإن تابوا فإن الله غفور رحيم.

و﴿ في أنفسهم ﴾ يتعلق بقُل، وقيل ببليغًا. وهو ضعيف ؛ لأن الصفات لا يتقدم عليها معمولها، اللهم إلا أن يتوسع في الظروف.
قال تعالى :﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾ من النفاق، فلا يغني عنهم الكتمان والحلف الكاذب من الله شيئًا، أو يعلم الله ما في قلوبهم من الطمع في الدية، ﴿ فأعرض عنهم ﴾، أي : عن قبول معذرتهم ولا تمكنهم من طمعهم، ﴿ وقل لهم في أنفسهم ﴾، أي : خاليًا بهم ﴿ قولاً بليغًا ﴾ يبلغ إلى قلوبهم، ويؤثر فيهم، لينزجروا عن طلب دم صاحبهم، وإنما أمر أن يعظهم خاليّا لأن النصح في ذلك أنجح، وأقرب للقبول، ولذلك قيل : من نصحك وَحدَكَ فقد نصحك، ومن نصحك مع الناس فقد فضحك. والله أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من دخل تحت ولاية شيخ التربية، وجب أن يرد حكوماته كلها إليه، ويرضى بما قضى عليه، وترى بعض الفقراء يزعمون أنهم في تربية الشيخ وتحت أحكامه، ثم يتحاكمون إلى حُكام الجور وقضاة الزمان في أمر الدنيا وما يرجع إليها، فهؤلاء قد ضلوا ضلالاً بعيدًا. إلا أن يتوبوا ويُصلحوا ما أفسدوا، بإصلاح قلب الشيخ حتى يجبر كسرهم، فالمريد الصادق لا يصل إلى الحاكم، ولو ذهب ماله كله، فإن كان ولا بد. فليوكل عنه في ذلك.
فكيف إذا أصابت هؤلاء مصيبة وهي ظلمة القلب، وفتنة الدنيا بسبب ما قدمت أيديهم من تخطى حكم شيخهم إلى حُكم غيره، ثم جاؤوك يحلفون بالله ما أردنا إلا إحسانًا وهو حفظ مالنا، وتوفيقًا بيننا وبين خصمنا، فيجب على الشيخ أن يُعرض عن عتابهم ويذكرهم حتى يتوبوا، فإن تابوا فإن الله غفور رحيم.

ثم أعاد الأمر بطاعة الرسول وتحكيمه في جميع الأمور ترهيبا وترغيبا، فقال :
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِيا أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾
قلت :﴿ توابًا رحيمًا ﴾ مفعولاً ( وَجَدَ ) إن كانت علمية، أو ﴿ توابًا ﴾ حال، و﴿ رحيمًا ﴾ بدل منه، أو حال من ضميره إن فسرت بصادف.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وما أرسلنا من رسول ﴾ من لدن آدم إلى زمانك، ﴿ إلا ليُطاع بإذن الله ﴾ وأمره بطاعته، فمن لم يطعه ولم يرض بأحكامه فهو كافر به. ﴿ ولو أنهم ﴾ أي : المنافقون حين ﴿ ظلموا أنفسهم ﴾ بالترافع إلى غيرك، والتحاكم إلى الطاغوت ﴿ جاؤوك ﴾ تائبين ﴿ فاستغفروا الله ﴾ بالتوبة، ﴿ واستغفر لهم الرسول ﴾ حين اعتذروا إليه حتى انتصب لهم شفيعًا، ﴿ لوجدوا الله ﴾ أي : تحققوا كونه ﴿ توابًا رحيمًا ﴾، قابلاً لتوبتهم متفضلاً عليهم بالرحمة والغفران. وإنما عدل عن الخطاب في قوله :﴿ واستغفر لهم الرسولُ ﴾ ولم يقل : واستغفرت لهم، تفخيمًا لشأنه، وتنبيهًا على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائبين، وإن عَظُم جُرمُهم، ويشفع لهم، ومن جلالة منصبه أن يشفع في عظائم الذنوب وكبائرها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته، أمر بطاعة ورثته بعد مماته، وهم العلماء الأتقياء الذين يعدلون في الأحكام، والأولياء العارفون الذين يحكمون بوحي الإلهام، فالعلماء حُكَّام على العموم، والأولياء حكام على الخصوص، أعني من تعلق بهم من أهل الإرادة، فمن لم يرض بحكم العلماء، ووجد في نفسه حرجًا مما قضوا به عليه، ففيه شُعبة من النفاق، وخصلة من المنافقين. ومن لم يرض بحكم الأولياء فقد خرج من دائرتهم، ومن عُش تربيتهم، لأن حكم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وحكم ورثته هو حكم الله، ومن لم يرض بحكم الله خرج عن دائرة الإيمان.
فلا يكمل إيمان العبد حتى لا يجد في نفسه حرجًا من أحكام الله، القهرية والتكليفية، ويسلم لما يبرز من عنصر القدرة الأزلية، كيفما كان، فقرًا أو غنى، ذلاً أو عزًا، منعًا أو عطاء، قبضًا أو بسطًا، مرضًا أو صحة، إلى غير ذلك من اختلاف المقادير. ويرضى بذلك ظاهرَا وباطنًا، وينسلخ من تدبيره واختياره ؛ إلى اختيار مولاه فهو أعلم بمصالحه، وأرحم به من أمه وأبيه : وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ثم أقسم بربوبيته على نفي إيمان من لم يرض بحكم رسوله، فقال :﴿ فلا وربك لا يؤمنون ﴾ إيمانًا حقيقيًا ﴿ حتى يحكموك ﴾ أي : يترافعوا إليك، راضين بحكمك، ﴿ فيما شَجَر بينهم ﴾ أي : اختلط بينهم واختلفوا فيه ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ﴾ أي : ضيقًا وشكًا ﴿ مما قضيت ﴾، بل تنشرح صدورهم لحكمك ؛ لأنه حق من عند الله. ﴿ ويُسلموا ﴾ لأمرك ﴿ تسليمًا ﴾. أي ينقادوا لأمرك ظاهرًا وباطنًا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته، أمر بطاعة ورثته بعد مماته، وهم العلماء الأتقياء الذين يعدلون في الأحكام، والأولياء العارفون الذين يحكمون بوحي الإلهام، فالعلماء حُكَّام على العموم، والأولياء حكام على الخصوص، أعني من تعلق بهم من أهل الإرادة، فمن لم يرض بحكم العلماء، ووجد في نفسه حرجًا مما قضوا به عليه، ففيه شُعبة من النفاق، وخصلة من المنافقين. ومن لم يرض بحكم الأولياء فقد خرج من دائرتهم، ومن عُش تربيتهم، لأن حكم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وحكم ورثته هو حكم الله، ومن لم يرض بحكم الله خرج عن دائرة الإيمان.
فلا يكمل إيمان العبد حتى لا يجد في نفسه حرجًا من أحكام الله، القهرية والتكليفية، ويسلم لما يبرز من عنصر القدرة الأزلية، كيفما كان، فقرًا أو غنى، ذلاً أو عزًا، منعًا أو عطاء، قبضًا أو بسطًا، مرضًا أو صحة، إلى غير ذلك من اختلاف المقادير. ويرضى بذلك ظاهرَا وباطنًا، وينسلخ من تدبيره واختياره ؛ إلى اختيار مولاه فهو أعلم بمصالحه، وأرحم به من أمه وأبيه : وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.

﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ﴾، توبة من ذنوبكم، كما كتبناه على بني إسرائيل، أو في الجهاد في سبيل الله، ﴿ أو اخرجوا من دياركم ﴾ كما خرج بنو إسرائيل حين أمرناهم بالهجرة من مصر، ﴿ ما فعلوه إلا قليل منهم ﴾ وهم المخلصون. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه :( لو كتب ذلك علينا أنا أول خارج ). قال ثابت بن قيس بن شماس :( لو أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل نفسي لفعلت ). وكذلك قال عُمر وعمارُ بن ياسر وابنُ مسعود وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أمرنا لفعلنا. فبلغ ذلك النبيُ صلى الله عليه وسلم فقال :" إنَّ مِن أُمَّتِي رِجَالاً : الإيمَانُ في قُلُوبِهِم أثبَتُ مِنَ الجِبَالِ الرَّوَاسِي ". فهؤلاء من القليل.
وسبب نزول قوله :﴿ فلا وربك. . . ﴾ الخ : قضية الزُّبَيرِ مع حَاطِب في شرَاج الحَرَّة، كَانَا يسقيانِ به النّخل، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام :" اسقِ يا زُبيرُ وأرسِل إلى جارِكَ " فقال حَاطبُ : لأن كَان ابن عمتك. فقال عليه الصلاة والسلام :" اسقِ يا زُبيرُ، واحِبِس الماءَ حتَّى يبلغ الجدر١ واستوف حقك " وقيل : نزلت في اليهودي مع المنافق المتقدم، وهو أليق بالسياق.
﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ﴾ من طاعة الرسول، والرضى بحكمه، ﴿ لكان خيرًا لهم ﴾ في آجلهم وعاجلهم، ﴿ وأشد تثبيتًا ﴾ في دينهم وقوة في إيمانهم، أو تثبيتًا لثواب أعمالهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته، أمر بطاعة ورثته بعد مماته، وهم العلماء الأتقياء الذين يعدلون في الأحكام، والأولياء العارفون الذين يحكمون بوحي الإلهام، فالعلماء حُكَّام على العموم، والأولياء حكام على الخصوص، أعني من تعلق بهم من أهل الإرادة، فمن لم يرض بحكم العلماء، ووجد في نفسه حرجًا مما قضوا به عليه، ففيه شُعبة من النفاق، وخصلة من المنافقين. ومن لم يرض بحكم الأولياء فقد خرج من دائرتهم، ومن عُش تربيتهم، لأن حكم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وحكم ورثته هو حكم الله، ومن لم يرض بحكم الله خرج عن دائرة الإيمان.
فلا يكمل إيمان العبد حتى لا يجد في نفسه حرجًا من أحكام الله، القهرية والتكليفية، ويسلم لما يبرز من عنصر القدرة الأزلية، كيفما كان، فقرًا أو غنى، ذلاً أو عزًا، منعًا أو عطاء، قبضًا أو بسطًا، مرضًا أو صحة، إلى غير ذلك من اختلاف المقادير. ويرضى بذلك ظاهرَا وباطنًا، وينسلخ من تدبيره واختياره ؛ إلى اختيار مولاه فهو أعلم بمصالحه، وأرحم به من أمه وأبيه : وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.


١ الجدر: أي الجدار الذي يحيط بالمزرعة، وهو أصغر من الجدار..
﴿ وإذًا ﴾ لو فعلوا ذلك ﴿ لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمًا ولهديناهم صراطًا مستقيمًا ﴾ يصلون بسلوكه إلى حضرة القدس، ودوام الأنس، ويفتح لهم أسرار العلوم، ومخازن الفهوم، قال صلى الله عليه وسلم :
" من عَمِلَ بما عِلَمَ أورثه الله علمَ ما لم يعلم " والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته، أمر بطاعة ورثته بعد مماته، وهم العلماء الأتقياء الذين يعدلون في الأحكام، والأولياء العارفون الذين يحكمون بوحي الإلهام، فالعلماء حُكَّام على العموم، والأولياء حكام على الخصوص، أعني من تعلق بهم من أهل الإرادة، فمن لم يرض بحكم العلماء، ووجد في نفسه حرجًا مما قضوا به عليه، ففيه شُعبة من النفاق، وخصلة من المنافقين. ومن لم يرض بحكم الأولياء فقد خرج من دائرتهم، ومن عُش تربيتهم، لأن حكم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وحكم ورثته هو حكم الله، ومن لم يرض بحكم الله خرج عن دائرة الإيمان.
فلا يكمل إيمان العبد حتى لا يجد في نفسه حرجًا من أحكام الله، القهرية والتكليفية، ويسلم لما يبرز من عنصر القدرة الأزلية، كيفما كان، فقرًا أو غنى، ذلاً أو عزًا، منعًا أو عطاء، قبضًا أو بسطًا، مرضًا أو صحة، إلى غير ذلك من اختلاف المقادير. ويرضى بذلك ظاهرَا وباطنًا، وينسلخ من تدبيره واختياره ؛ إلى اختيار مولاه فهو أعلم بمصالحه، وأرحم به من أمه وأبيه : وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧:﴿ وإذًا ﴾ لو فعلوا ذلك ﴿ لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمًا ولهديناهم صراطًا مستقيمًا ﴾ يصلون بسلوكه إلى حضرة القدس، ودوام الأنس، ويفتح لهم أسرار العلوم، ومخازن الفهوم، قال صلى الله عليه وسلم :
" من عَمِلَ بما عِلَمَ أورثه الله علمَ ما لم يعلم " والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته، أمر بطاعة ورثته بعد مماته، وهم العلماء الأتقياء الذين يعدلون في الأحكام، والأولياء العارفون الذين يحكمون بوحي الإلهام، فالعلماء حُكَّام على العموم، والأولياء حكام على الخصوص، أعني من تعلق بهم من أهل الإرادة، فمن لم يرض بحكم العلماء، ووجد في نفسه حرجًا مما قضوا به عليه، ففيه شُعبة من النفاق، وخصلة من المنافقين. ومن لم يرض بحكم الأولياء فقد خرج من دائرتهم، ومن عُش تربيتهم، لأن حكم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وحكم ورثته هو حكم الله، ومن لم يرض بحكم الله خرج عن دائرة الإيمان.
فلا يكمل إيمان العبد حتى لا يجد في نفسه حرجًا من أحكام الله، القهرية والتكليفية، ويسلم لما يبرز من عنصر القدرة الأزلية، كيفما كان، فقرًا أو غنى، ذلاً أو عزًا، منعًا أو عطاء، قبضًا أو بسطًا، مرضًا أو صحة، إلى غير ذلك من اختلاف المقادير. ويرضى بذلك ظاهرَا وباطنًا، وينسلخ من تدبيره واختياره ؛ إلى اختيار مولاه فهو أعلم بمصالحه، وأرحم به من أمه وأبيه : وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.


ثم وعد المطيعين وعدا جميلا، وخيرا جزيلا، ترغيبا في امتثال ما أمر به من طاعة الرسول، فقال :
﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقاً ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً ﴾
قلت :﴿ رفيقاً ﴾ : تمييز لما في ﴿ حَسُن ﴾ من معنى التعجب أو المدح، ولم يجمع ؛ لأن فعيلا يُحمل على الواحد والجمع، أو لأنه أريد حسن كل واحد منهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن يطع الله والرسول ﴾ ويرضى بأحكامهما ويمتثل أمرهما ويجتنب نهيهما، ﴿ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ﴾، وهم أكرم الخلق عند الله وأعظمهم قدرًا ﴿ من النبيين ﴾ والمرسلين ﴿ والصديقين ﴾ وهم من كثر صدقهم وتصديقهم وعظم يقينهم ؛ وهم الأولياء العارفون بالله، ﴿ والشهداء ﴾ الذين ماتوا جهادًا في سبيل الله، ﴿ والصالحين ﴾ وهم العلماء الأتقياء، ومن صلح حاله من عامة المسلمين.
قال البيضاوي : قسمهم أربعة أقسام، بحسب منازلهم في العلم والعمل، وحث كافة الناس على ألاَّ يتأخروا عنهم، وهم : الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل، المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل. ثم الصديقون الذين صعِدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات، وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان، حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليها. ثم الشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة والجد في إظهار الحق، حتى بذلوا مُهَجَهُم في أعلاء كلمة الله، ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته، وأحوالهم في مرضاته، ولك أن تقول : المُنعَمُ عليهم هم العارفون بالله، وهؤلاء إما أن يكونوا بالغين درجة العيان، أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان، والأولون إما أن ينالوا مع العيان القرب، بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريبًا، وهم الأنبياء، أو لا، فيكونون كمن يرى الشيء بعيدًا، وهم الصديقون، والآخرون إما أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة، وهم العلماء الراسخون الذين هم شهداء الله في أرضه، وإما أن يكون بأمارات وإقناعات تطمئن إليها نفوسهم، وهم الصالحون. انتهى كلامه.
وفيه نظر من وجهين : أحدهما : أنه أطلق على أهل الاستدلال أنهم عارفون، ولا يقال عند الصوفية فيه عارف، حتى يترقى عن مقام الاستدلال، وإلا فهو عالم فقط، والثاني : أنه جعل الصديقين بمنزلة من يرى الشيء بعيدًا، وأهل الفناء لم يبق لهم بُعدٌ، بل غابوا في القرب حتى امتحى اسمهم ورسمهم. فأيُّ بينونة وأيُّ بُعد يبقى للعارف، لولا فقدان الذوق، ولكن لكلِّ فنِ أربابُه، وسيأتي في الإشارة تحقيق ذلك إن شاء الله.
ثم قال جلّ جلاله :﴿ وحسن أولئك رفيقًا ﴾ أي : ما أحسنهم رفقًا في الفراديس العُلى، فهم يتمتعون فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كانوا أعلى منهم، فلا يلزم من كونه معهم أن تستوي درجته معهم، قال في الحاشية : وتعقل مرافقة من دون النبي في المدانات من حاله وكشفه، بحيث لا يحجب عنه، وإن كان لا مطمع له في منزلته، واعتبر برؤية البصائر له وعدم غيبته عنهم وأنسهم به والاستفادة منه، رُوِي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :
" يزور الأعلَون من أهل الجنة الأسفلين، ولا يزور الأسفلون الأعلين، إلا من كان يزور في الله في الدنيا، فذلك يزور الجنة حيث شاء ".
رُوِيَ أن ثَوبَانَ مَولى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أتاه يومًا وَقَد تَغَيَّر وَجهُهُ وَنَحَلَ جِسمُهُ، فسأله عليه الصلاة والسلام عن حاله، فقال : ما بي وَجَعٌ، غَيرَ أنِّي إذَا لَمْ أرَكَ اشتقْتُ إليك، واستَوحَشتُ وَحشةً شَدِيدَةً حَتَى ألقَاكَ، ثمَّ ذَكَرتُ الآخِرَةَ فخفت ألا أرَاكَ هُنَاكَ ؛ لأني عرفت أنكَ تُرفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ. وإن دخلتُ الجَنَّة، كُنتُ في مَنزلٍ أدون مِن مَنزِلكَ، وأن لَم أدخُلِ الجَنَّةَ فّذَلكَ حَرِيّ ألا أرَاكَ أبَدًا. فنزلت الآية ﴿ ومَن يطع الله والرسول. . . ﴾ الخ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الطاعة التي توجب المعية الحسية في النعيم الحسي الجسماني هي الطاعة الظاهرة الحسية. والطاعة التي توجب المعية المعنوية في النعيم الروحاني هي الطاعة الباطنية القلبية. فالمعية الحسية صاحبها مفروق، والمعية المعنوية صاحبها مجموع، لا يغيب عن حبيبه لحظة. هؤلاء هم الصديقون المقربون. وفوقهم الأنبياء، وتحتهم الشهداء والصالحون.
وبيان ذلك أن العلم بالله تعالى : إما أن يكون عن كشف الحجاب وانقشاع السحاب، أعني سحاب الأثر، وهم أهل الشهود والعيان. وإما أن يكون من وراء الحجاب، يأخذون أجرهم من وراء الباب، يستدلون بالآثار على المؤثر. وهم أهل الدليل والبرهان. والأولون إما أن يرتقوا إلى مكافحة الوحي ورؤية الملائكة الكرام. وهم الأنبياء والرسل ـ عليه الصلاة والسلام -، وإما أن يقصروا عن درجة الوحي ويكون لهم وحي إلهام، وهم الصديقون ؛ أهل الحال والمقام، فقد اشتركوا في مقام العيانِ. لكن مقام الحضرة فضاؤه واسع، والترقي في معارج أسرار التوحيد غير متناهٍ، فحيث انتهى قدم الولي ابتدأ ترقي النبي، وأما أهل الحجاب فإما أن يكون علمهم بالله بالبراهين القطعية والدلائل السمعية، وهم العلماء الراسخون، وهو مقام الشهداء، وإما أن يكون علمهم بالرياضات والمجاهدات وتواتر الكرامات، وهم العباد والزهاد. وهو مقام الصالحين، ويلتحق بهم عوام المسلمين، لأن كل مقام من هذه المقامات في درجات ومقامات لا يحصرها إلا العالم بها. والله تعالى أعلم.

﴿ ذلك الفضل من الله ﴾ إشارة إلى ما للمطيعين من الأجور، ومزيد القرب والحضور، وأنه فضل تفضل على عباده، ﴿ وكفى بالله عليمًا ﴾ بمقادير الأعمال والمقامات. فيُجازى كُلاًّ على حسب مقامه. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الطاعة التي توجب المعية الحسية في النعيم الحسي الجسماني هي الطاعة الظاهرة الحسية. والطاعة التي توجب المعية المعنوية في النعيم الروحاني هي الطاعة الباطنية القلبية. فالمعية الحسية صاحبها مفروق، والمعية المعنوية صاحبها مجموع، لا يغيب عن حبيبه لحظة. هؤلاء هم الصديقون المقربون. وفوقهم الأنبياء، وتحتهم الشهداء والصالحون.
وبيان ذلك أن العلم بالله تعالى : إما أن يكون عن كشف الحجاب وانقشاع السحاب، أعني سحاب الأثر، وهم أهل الشهود والعيان. وإما أن يكون من وراء الحجاب، يأخذون أجرهم من وراء الباب، يستدلون بالآثار على المؤثر. وهم أهل الدليل والبرهان. والأولون إما أن يرتقوا إلى مكافحة الوحي ورؤية الملائكة الكرام. وهم الأنبياء والرسل ـ عليه الصلاة والسلام -، وإما أن يقصروا عن درجة الوحي ويكون لهم وحي إلهام، وهم الصديقون ؛ أهل الحال والمقام، فقد اشتركوا في مقام العيانِ. لكن مقام الحضرة فضاؤه واسع، والترقي في معارج أسرار التوحيد غير متناهٍ، فحيث انتهى قدم الولي ابتدأ ترقي النبي، وأما أهل الحجاب فإما أن يكون علمهم بالله بالبراهين القطعية والدلائل السمعية، وهم العلماء الراسخون، وهو مقام الشهداء، وإما أن يكون علمهم بالرياضات والمجاهدات وتواتر الكرامات، وهم العباد والزهاد. وهو مقام الصالحين، ويلتحق بهم عوام المسلمين، لأن كل مقام من هذه المقامات في درجات ومقامات لا يحصرها إلا العالم بها. والله تعالى أعلم.

ثم رغب في الجهاد الذي هو المقصود، فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾
قلت : الحِذر والحَذَر واحد، كالشِّبه والشِّبَه، وبَطًأ يستعمل لازمًا بمعنى ثقل، ومتعديًا بالتضعيف أي : بطَّأ غيره، يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ تأهبوا واستعدوا لجهاد الأعداء، و﴿ خذوا حذركم ﴾ منهم ؛ بالعُدَّةِ والعَدَد، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ولا حجة فيه للقدرية ؛ لأن هذا من الأسباب التي ستر الله بها أسرار القدرة. وقد قال لنبيِّه عليه الصلاة والسلام :﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام :" اعقلها وتوكل " وفي ذلك طمأنينة للقلوب التي لم تطمئن وتشريعًا للضعفاء، فإذا تأهبتم واستعددتم ﴿ فأنفروا ﴾ أي : اخرجوا إلى الجهاد ﴿ ثُباتٍ ﴾ أي : جماعات متفرقة، سرية بعد سرية، ﴿ أو انفروا جميعًا ﴾ أي : مجتمعين مع نبيكم، أو مع أميركم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص ؛ خذوا حذركم من خدع النفوس، لئلا تعوقكم عن حضرة القدوس، فانفروا إلى جهادها ثُباتٍ أو جماعة ؛ " فإن يد الله مع الجماعة، فالصحبة عند الصوفية شرط مؤكد وأمر محتم. والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح، فالنفس الحية لا تموت مع الأحياء، وإنما تموت مع الأموات، فهي كالحوت ما دامت في البحر مع الحيتان لا تموت أبدًا، فإذا أخرجتها وعزلتها عن أبناء جنسها ماتت سريعًا. كما قال شيخنا رضي الله عنه.
وإن من نفوسكم لمن ليبطئنكم عن السير إلى حضرة قدسكم، تفر من مواطن الشدة والمحن، وفي ذلك حياتها لو تعقل وتفطن، فإن أصابتكم-أهل النسبة- نكبة، أو تعرف من التعرفات، ولم يصادفها في ذلك الوقت شيء من تلك النكبات، قال : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا، ولئن أصابكم بعد ذلك فضل من الله كنفحات ربانية وخمرات أزلية، قالت : يا ليتني كنت معهم فأفوز كما فازوا، فليجاهد نفسه في سبيل الله من أراد الظفر بحضرة الله، يقدمها إلى المكاره، وهو كل ما يثقل عليها، ويجنبها الشهوات، وهو كل ما يخف عليها، هكذا يسير معها ويقاتلها، حتى يموت أو يغلبها ويظفر بها.
قال بضع المشايخ : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم. فإن ظفروا بها وصلوا. هـ. وحينئذ تذهب عنه المتاعب والأنكاد، وتصير الأزمنة كلها عنده مواسم وأعياد، ويقال له حينئذ :
لك الدهر طوع والأنام عبيد فعش كل يوم من أيامك عيد

ويقال له أيضا :
بدا لك سر طال عنك اكتتامه ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فأنت حجاب القلب عن سر غيبه ولولاك لم يطبع عليه ختامه
إذا غبت عنه حل فيه وطنبت١ على موكب الكشف المصون خيامه
وجاء حديث لا يمل سماعه شهي إلينا نثره ونطامه
إذا سمعته النفس طاب نعيمها وزال عن القلب المعنى غرامه

و﴿ لَمَن ليبطئن ﴾ اللام الأولى للابتداء، والثانية للقسم، أي : وإنَّ منكم أُقسم بالله لمن ليبطئن.
﴿ وإن منكم ﴾ يا معشر المسلمين ﴿ لمن ليبطئن ﴾ الناس عن الجهاد، أو ليتثاقلن ويتخلفن عنه، وهو عبد الله بن أُبُيّ المنافق، وأشباهه من المنافقين، ﴿ فإن أصابتكم مصيبة ﴾ ؛ كقتل أو هزيمة ﴿ قال قد أنعم الله عليّ ﴾ حين تخلفت ﴿ إذا لم أكن معهم شهيدًا ﴾ فيصيبني ما أصابهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص ؛ خذوا حذركم من خدع النفوس، لئلا تعوقكم عن حضرة القدوس، فانفروا إلى جهادها ثُباتٍ أو جماعة ؛ " فإن يد الله مع الجماعة، فالصحبة عند الصوفية شرط مؤكد وأمر محتم. والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح، فالنفس الحية لا تموت مع الأحياء، وإنما تموت مع الأموات، فهي كالحوت ما دامت في البحر مع الحيتان لا تموت أبدًا، فإذا أخرجتها وعزلتها عن أبناء جنسها ماتت سريعًا. كما قال شيخنا رضي الله عنه.
وإن من نفوسكم لمن ليبطئنكم عن السير إلى حضرة قدسكم، تفر من مواطن الشدة والمحن، وفي ذلك حياتها لو تعقل وتفطن، فإن أصابتكم-أهل النسبة- نكبة، أو تعرف من التعرفات، ولم يصادفها في ذلك الوقت شيء من تلك النكبات، قال : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا، ولئن أصابكم بعد ذلك فضل من الله كنفحات ربانية وخمرات أزلية، قالت : يا ليتني كنت معهم فأفوز كما فازوا، فليجاهد نفسه في سبيل الله من أراد الظفر بحضرة الله، يقدمها إلى المكاره، وهو كل ما يثقل عليها، ويجنبها الشهوات، وهو كل ما يخف عليها، هكذا يسير معها ويقاتلها، حتى يموت أو يغلبها ويظفر بها.
قال بضع المشايخ : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم. فإن ظفروا بها وصلوا. هـ. وحينئذ تذهب عنه المتاعب والأنكاد، وتصير الأزمنة كلها عنده مواسم وأعياد، ويقال له حينئذ :
لك الدهر طوع والأنام عبيد فعش كل يوم من أيامك عيد

ويقال له أيضا :
بدا لك سر طال عنك اكتتامه ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فأنت حجاب القلب عن سر غيبه ولولاك لم يطبع عليه ختامه
إذا غبت عنه حل فيه وطنبت١ على موكب الكشف المصون خيامه
وجاء حديث لا يمل سماعه شهي إلينا نثره ونطامه
إذا سمعته النفس طاب نعيمها وزال عن القلب المعنى غرامه

وجملة :﴿ كأن لم يكن ﴾ : اعتراضية بين القول والمقول، تنبيهًا على ضعف عقيدتهم، وأن قولهم هذا قولُ من لا مواصلة بينكم وبينه.
﴿ ولئن أصابكم فضل من الله ﴾، كنصر وغنيمة، ﴿ ليقولن ﴾ لفرط عداوته :﴿ يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزًا عظيمًا ﴾، بالمال والعز. كأن ذلك المنافق، لم يكن بينكم وبينه مودة ولا مواصلة أصلاً، حيث يتربص الدوائر، يفرح بمصيبتكم ويتحسر بعزكم ونصركم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص ؛ خذوا حذركم من خدع النفوس، لئلا تعوقكم عن حضرة القدوس، فانفروا إلى جهادها ثُباتٍ أو جماعة ؛ " فإن يد الله مع الجماعة، فالصحبة عند الصوفية شرط مؤكد وأمر محتم. والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح، فالنفس الحية لا تموت مع الأحياء، وإنما تموت مع الأموات، فهي كالحوت ما دامت في البحر مع الحيتان لا تموت أبدًا، فإذا أخرجتها وعزلتها عن أبناء جنسها ماتت سريعًا. كما قال شيخنا رضي الله عنه.
وإن من نفوسكم لمن ليبطئنكم عن السير إلى حضرة قدسكم، تفر من مواطن الشدة والمحن، وفي ذلك حياتها لو تعقل وتفطن، فإن أصابتكم-أهل النسبة- نكبة، أو تعرف من التعرفات، ولم يصادفها في ذلك الوقت شيء من تلك النكبات، قال : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا، ولئن أصابكم بعد ذلك فضل من الله كنفحات ربانية وخمرات أزلية، قالت : يا ليتني كنت معهم فأفوز كما فازوا، فليجاهد نفسه في سبيل الله من أراد الظفر بحضرة الله، يقدمها إلى المكاره، وهو كل ما يثقل عليها، ويجنبها الشهوات، وهو كل ما يخف عليها، هكذا يسير معها ويقاتلها، حتى يموت أو يغلبها ويظفر بها.
قال بضع المشايخ : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم. فإن ظفروا بها وصلوا. هـ. وحينئذ تذهب عنه المتاعب والأنكاد، وتصير الأزمنة كلها عنده مواسم وأعياد، ويقال له حينئذ :
لك الدهر طوع والأنام عبيد فعش كل يوم من أيامك عيد

ويقال له أيضا :
بدا لك سر طال عنك اكتتامه ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فأنت حجاب القلب عن سر غيبه ولولاك لم يطبع عليه ختامه
إذا غبت عنه حل فيه وطنبت١ على موكب الكشف المصون خيامه
وجاء حديث لا يمل سماعه شهي إلينا نثره ونطامه
إذا سمعته النفس طاب نعيمها وزال عن القلب المعنى غرامه

فإن تثاقل هذا عن القتال أو بطَّأ غيره، ﴿ فليقاتل في سبيل الله ﴾ أهلُ الإخلاص والإيمان ﴿ الذين يشرون ﴾، أي : يبيعون ﴿ الحياة الدنيا بالآخرة ﴾، فيؤثرون الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، ﴿ ومن يقاتل في سبيل الله ﴾ لإعلاء كلمة الله ﴿ فيُقتل ﴾ شهيدًا ﴿ أو يَغلب ﴾ عدوه وينصره الله ﴿ فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا ﴾، وإنما قال تعالى :﴿ فيُقتل أو يَغلب ﴾ تنبيهًا على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة، حتى يعز نفسه بالشهادة، أو الدين بالظفر والنصر. وألا يكون قصده بالذات القتل، بل إعلاء الحق وإعزاز الدين. قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص ؛ خذوا حذركم من خدع النفوس، لئلا تعوقكم عن حضرة القدوس، فانفروا إلى جهادها ثُباتٍ أو جماعة ؛ " فإن يد الله مع الجماعة، فالصحبة عند الصوفية شرط مؤكد وأمر محتم. والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح، فالنفس الحية لا تموت مع الأحياء، وإنما تموت مع الأموات، فهي كالحوت ما دامت في البحر مع الحيتان لا تموت أبدًا، فإذا أخرجتها وعزلتها عن أبناء جنسها ماتت سريعًا. كما قال شيخنا رضي الله عنه.
وإن من نفوسكم لمن ليبطئنكم عن السير إلى حضرة قدسكم، تفر من مواطن الشدة والمحن، وفي ذلك حياتها لو تعقل وتفطن، فإن أصابتكم-أهل النسبة- نكبة، أو تعرف من التعرفات، ولم يصادفها في ذلك الوقت شيء من تلك النكبات، قال : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا، ولئن أصابكم بعد ذلك فضل من الله كنفحات ربانية وخمرات أزلية، قالت : يا ليتني كنت معهم فأفوز كما فازوا، فليجاهد نفسه في سبيل الله من أراد الظفر بحضرة الله، يقدمها إلى المكاره، وهو كل ما يثقل عليها، ويجنبها الشهوات، وهو كل ما يخف عليها، هكذا يسير معها ويقاتلها، حتى يموت أو يغلبها ويظفر بها.
قال بضع المشايخ : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم. فإن ظفروا بها وصلوا. هـ. وحينئذ تذهب عنه المتاعب والأنكاد، وتصير الأزمنة كلها عنده مواسم وأعياد، ويقال له حينئذ :
لك الدهر طوع والأنام عبيد فعش كل يوم من أيامك عيد

ويقال له أيضا :
بدا لك سر طال عنك اكتتامه ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فأنت حجاب القلب عن سر غيبه ولولاك لم يطبع عليه ختامه
إذا غبت عنه حل فيه وطنبت١ على موكب الكشف المصون خيامه
وجاء حديث لا يمل سماعه شهي إلينا نثره ونطامه
إذا سمعته النفس طاب نعيمها وزال عن القلب المعنى غرامه

ثم عاتب العباد على عدم النهوض إلى الجهاد، فقال :
﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً ﴾
قلت :﴿ ما ﴾ مبتدأ. و﴿ لكم ﴾ خبر. و﴿ لا تقاتلون ﴾ حال، و﴿ المستضعفين ﴾ عطف على اسم الجلالة، أي : أيَ شيء حصل لكم حال كونكم غير مجاهدين في سبيل الله وفي تخليص المستضعفين ؟ و﴿ الظالم ﴾ نعت للقرية، وإنما ذُكَّر ولم يؤنث، لأنه أسند إلى المذكر، واسم الفاعل إذا جرى على غير مَن هُوَ لَهُ أجرى مجرى الفعل، فيذكر ويؤنث باعتبار الفاعل.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وما لكم ﴾ يا معشر المسلمين ﴿ لا تقاتلون في سبيل الله ﴾، وفي تخليص إخوانكم ﴿ المستضعفين ﴾ بمكة، الذين حبسهم العدو أو أسرهم ومنعهم من الهجرة ؛ ﴿ من الرجال والنساء والولدان ﴾، فهم في أيديهم مغللون ممتحنون. قال البيضاوي : وإنما ذكر الولدان مبالغة في الحث وتنبيهًا على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان، وأن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء، حتى تشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية. ه.
ثم ذكر دعاءهم فقال :﴿ الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية ﴾ أي : مكة ﴿ الظالم أهلها ﴾ بالشرك والطغيان حتى تعدى إلى النساء والصبيان. ﴿ واجعل لنا من لدنك وليًّا ﴾ يصوننا عن أذاهم، ﴿ ونصيرًا ﴾ يمنعنا من التخلف عن الهجرة إلى رسولك صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الله دعاءهم بأن يسَّر لبعضهم الخروج إلى المدينة، وجعل لمن بقي منهم أعظم ولي وناصر، بفتح مكة على نبيه صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ونصرهم، واستعمل عليهم عتَّاب بن أسيد، فحماهم وأعزهم حتى صاروا أعزاء أهلها، كما هي عادته سبحانه في إجابة دعاء المضطرين.
الإشارة : ما لكم يا معشر العِباد، وخصوصًا المريدين من أهل الجد والاجتهاد، لا تجاهدون نفوسكم في طريق الوصول إلى الله، كي تنالوا بذلك مشاهدة جماله وسناه، وتخلصوا ما كمن في نفوسكم من الأسرار، وما احتوت عليه من العلوم والأنوار. فإن قرية البشرية قد احتوت عليها وأسرتها بظلمات شهواتها، واستضعفتها بتراكم غفلتها وتكثيف حجاب حسها. فمن جاهدها استخلص جواهر تلك العلوم والأسرار مِن صَدَفِها. وفي ذلك يقول ابن البنا في مباحثه :
ولم تزل كُلُّ النُّفُوسِ الأحيا عَلاَّمة درَّاكة للأشيَا
وإنما تَعُوقُها الأبدَان والأنفس النزع والشَّيطَان
فكلُّ مَن أذَاقَضهم جهادَه أظهرَ للقاعد خَرقَ العاده
وقال أيضًا :
وَهِيَ مِن النفوس في كُمُون كما يكون الحَبُّ في الغُصُون
فالرجال : الأسرار والأنوار، والنساء : العلوم والأذكار، والولدان : الحكم بنات الأفكار. فكل هؤلاء مستضعفون تحت قهر البشرية الظالم أهلها. ومن الأنفس النزع والشياطين المغوية، فكل من جاهد هؤلاء القواطع أظهر تلك العلوم والأنوار السواطع، واستخلص رُوحه من أسر حجاب الأكوان، وأفضى إلى فضاء الشهود والعيان. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم حث أولياءه، من أهل الإيمان يقاتلوا أولياء الشيطان، فقال :
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : في مدح المخلصين :﴿ الذين آمنوا يُقاتلون في سبيل الله ﴾، وابتغاء مرضات الله، وإعلاء كلمة الله، ﴿ والذين كفروا ﴾، من أهل مكة وغيرهم، ﴿ يُقاتلون في سبيل الطاغوت ﴾ وهو الشيطان، ﴿ فقاتلوا ﴾ يا أولياء الله ﴿ أولياء الشيطان ﴾ ولا يهولكم كيده ؛ ﴿ إن كيد الشيطان كان ضعيفًا ﴾، وكيد الله للكافرين كان قويًا متينًا، فلا تخافوا أولياءه، فإنهم اعتمدوا على أضعف شيء وأوهنه، وأنتم اعتمدتم على أقوى شيء وأمتَنِه.
الإشارة : كل ما سوى الله طاغوت، فمن قصد بجهاده أو عمله رضي الله والوصول إلى حضرته دون شيء سواه، كان من أولياء الله، ومن قصد بجهاده أو أعماله حظًا دنيويًا أو أخرويًا خرج من دائرة الولاية، فإما أن يكون مع عامة أهل الإيمان، أو من أولياء الشيطان. قال صلى الله عليه وسلم " إنَّما الأعمَالُ بالنيات، وإنما لكلِّ امرئ مَا نَوَى، فمن كانَت هجرَتُه إلى الله ورسولِه فهجرتُه إلى اللهْ ورسولِه، ومن كانت هجرتُه إلى دُنيا يُصيبهُا أو امرأةٍ ينكِحُها، فهجرتُه إلى ما هَاجَرَ إليه " وقال في الحِكَم :" لا ترحل من كَونٍ إلى كَونٍ، فتكون كحمار الرحى، يسير والذي ارتحل منه هو الذي ارتحل إليه، ولكن أرحل من الأكوانِ إلى المُكَوِّنِ، ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ [ النُجُم : ٤٢ ].
ثم عاتب الحق جل جلاله قوما طلبوا فرض الجهاد، فلما فرض عليهم خطر ببالهم شيء من طبع البشر، الذي هو الخوف من الموت، فقال :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. . . ﴾
قلت :﴿ أو أشد ﴾ عطف على الكاف النائبة عن المصدر، أي : خشيةً مثل خشية الله أو أشد، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي : مثل خشيتهم الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ألم تر ﴾ يا محمد ﴿ إلى الذين ﴾ طلبوا منك فرضَ الجهاد حرصًا على أن يجاهدوا، فقيل لهم على لسان الرسول :﴿ كُفّوا أيديكم ﴾ عنه إلى أوَانِ فَرضِه، واشتغلوا بما أُمِرتم به من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ﴿ فلما كُتب عليهم القتال ﴾ دخلهم الخوف ﴿ إذا فريق منهم يخشون الناس ﴾ أي : الكفار، أن يقتلوهم مثل خشية عقاب ﴿ الله ﴾ أو أشد خشية منه. ﴿ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ﴾ في هذا الوقت ﴿ لولا ﴾ : هلاّ ﴿ أخّرتنا إلى أجل قريب ﴾ نتمتع فيه بحياتنا أو إلى أن نموت بآجالنا. قلت : والظاهر أنهم قالوا ذلك في نفوسهم، خواطر خطرت لهم، ولم يفوهوا به، إن نزلت في الصحابة رضي الله عنهم، وإن كانت في المنافقين فيمكن أن ينطقوا بها.
﴿ قل متاع الدنيا قليل ﴾ وعيشها ذليل، وأجلها قريب، ﴿ والآخرة خير لمن اتقى ﴾، وحياتها خير وأبقى، وسَتَقدُمون على مولاكم، فيكرم مثواكم، ويوفيكم جزاء أعمالكم، ﴿ ولا تظلمون فتيلاً ﴾ من ثواب أعمالكم، ولا تنقصون من أيام أعماركم، جاهدتم أو قعدتم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : نرى بعض الفقراء يبطشون إلى مقام التجريد ومجاهدة نفوسهم قبل كمال يقينهم، فإذا أُمِروا بذلك، ورأوا ميادين الحروب واشتعال نيران قتل النفوس، وأمروا بالصبر على المكاره، من مواجهة الإنكار ولحوق الذل والافتقار، جبنوا وكلَّوا ورجعوا القهقرى، فيقال لهم : متاعُ الدنيا قليل وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وكبيرها حقير، وما تنالون من الله في جزاء مجاهدتكم خيرٌ وأبقى، ولا تُظلمون فتيلاً من مجاهدتكم لنفوسكم، فلو صبرتم لفزتم بالوصول إلى حضرة ربكم، فلما جبُنتُم ورجعتم، كان جزاؤكم الحرمان، عما ظفر به أهل العرفان.
وفي مثل هؤلاء يقول ابن الفارض رضي الله عنه :
تعرّضَ قومٌ للغرامِ وأعرَضوا بجانبهم عن صحّتي فيه واعتلّوا
رضوا بالأماني، وابُتُلوا بحظُوظهم وخاضوا بحارَ الحبّ، دعوى، فما ابتلّوا
فهُم في السُّرى لم يَبرَحوا من مكانهم وما ظَعَنوا في السير عنه، وقد كلَّوا

ثم حكى مقالتهم الدالة على نفاقهم، فقال :
﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ. . . ﴾
﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ﴾ عند انقضاء آجالكم، ﴿ ولو كنتم في بروج مشيدة ﴾ عالية محصنة. فإن كان الموت لا بد منه ففي الجهاد أفضل، لأنه حياة لا موتَ بعده. قال الكلبي : نزلت في قوم من الصحابة، منهم : عبد الرحمن بن عوف، والمِقدادُ وقٌدامة بن مَظعون وغيرهم، كانوا يُؤذَونَ بمكة، ويستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في القتال، فيقول لهم : كفوا أيديكم حتى يُؤذن فيه لكم، فلما هاجروا إلى المدينة وأُمروا به، كرهه بعضهم كراهية الطبع البشري، فخطر ببالهم شيءٌ مما حكى الله عنهم. فلما كانوا في عين العناية ومحل القرب والهداية عوقبوا على تلك الخواطر، ولو كان غيرهم من أهل البُعد لسُومح له في ذلك، وقيل : نزلت في قوم من المؤمنين أُمروا بالجهاد فنافقوا من الجُبن، وتخلفوا عن الجهاد، وهذا أليق بما بعده من قوله :﴿ إن تصبهم حسنة ﴾. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في وصف أهل النفاق : وإنهم إن ﴿ تصبهم حسنة ﴾ كخصب ورخاء ونعمة ظاهرة، قالوا :﴿ هذه من عند الله ﴾، ونسبوها إلى الله بلا واسطة، ﴿ وإن تصبهم سيئة ﴾ كقحط وجوع وموت وقتل، قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام :﴿ هذه من عندك ﴾ بشؤم قدومك أنت وأصحابك، كما قالت اليهود لعنهم الله : منذ دخل محمدٌ المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها.
قلت : بل زكت ثمارها، ورخصت أسعارها، وأشرقت أنوارها، ولاحت أسرارها، وقد دعا صلى الله عليه وسلم للمدنية بمثل ما دعا إبراهيمُ لمكة، وأضعاف ذلك، فما زالت الخيرات تترادف إليها حسًا ومعنى إلى يوم القيامة، وهذه المقالة قد صدرت ممن كان قبلهم ؛ فقد قالوا لسيدنا صالح عليه السلام :
﴿ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ﴾ [ النَّمل : ٤٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيَّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ﴾ [ لأعراف : ١٣١ ] [ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قّدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فُصّلَت : ٤٣ ]. قال تعالى مكذبًا لهم :﴿ قل كلٌّ من عند الله ﴾ ؛ الحسنة بفضله، والسيئة بعدله. ثم عيرهم بالجهل فقال :﴿ فمالِ هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا ﴾ ؛ فهُم كالبهائم أو أضل سبيلاً، أو لا يفقهون القرآن ويتدبرون حديثه، ولو تدبروا لعلموا أن الكل من عند الله، وأنه خالق كل شيء، المقدَّر لكل شيء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : نرى بعض الفقراء يبطشون إلى مقام التجريد ومجاهدة نفوسهم قبل كمال يقينهم، فإذا أُمِروا بذلك، ورأوا ميادين الحروب واشتعال نيران قتل النفوس، وأمروا بالصبر على المكاره، من مواجهة الإنكار ولحوق الذل والافتقار، جبنوا وكلَّوا ورجعوا القهقرى، فيقال لهم : متاعُ الدنيا قليل وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وكبيرها حقير، وما تنالون من الله في جزاء مجاهدتكم خيرٌ وأبقى، ولا تُظلمون فتيلاً من مجاهدتكم لنفوسكم، فلو صبرتم لفزتم بالوصول إلى حضرة ربكم، فلما جبُنتُم ورجعتم، كان جزاؤكم الحرمان، عما ظفر به أهل العرفان.
وفي مثل هؤلاء يقول ابن الفارض رضي الله عنه :
تعرّضَ قومٌ للغرامِ وأعرَضوا بجانبهم عن صحّتي فيه واعتلّوا
رضوا بالأماني، وابُتُلوا بحظُوظهم وخاضوا بحارَ الحبّ، دعوى، فما ابتلّوا
فهُم في السُّرى لم يَبرَحوا من مكانهم وما ظَعَنوا في السير عنه، وقد كلَّوا


الإشارة : ثلاث خصال لا ينجو منها إلا القليل كما في الحديث : الطيرة، والحسد، والظن. فقال عليه الصلاة والسلام :" إذا تَطَيَّرتَ فامضِ، وإذا حسدتَ فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تٌحَقّق " فيتأكد على المريد أن يتطهر من هذه الخصال، ويصفي مشربه من التوحيد، فلا يرى في الوجود إلا مولاه، ولا ينسب التأثير إلى شيء سواه، إذا رأى نعمة به أو بغيره، قال : من الله، وإذا رأى مصيبة كذلك تأدب مع الله، فيعتقد في قلبه أنها من قَدَرِ الله، يقول :﴿ قل كلٌّ من عند الله ﴾، وينسب النقص إلى نفسه وهواه، فالنفس والشيطان مناديل الحضرة، تمسح فيهما أوساخ الأقدار، [ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } [ القَصَص : ٦٨ ]. والله تعالى أعلم.
تم شَهِدَ جلّ جلاله لرسوله بالرسالة، تحريضًا على تعظيمه وحثًا على طاعته، وترهيبًا من سوء الأدب معه، كما صدر من المنافقين، فقال :
﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾
قلت : إن تعلق الجار بالفعل كان ﴿ رسولاً ﴾ حال مؤكدة، وإن تعلق بالاسم كان حالاً مؤسسة تفيد العموم ؛ أي أرسلناك رسولاً للناس جميعًا، و﴿ حفيظًا ﴾ حال من الكاف.
ثم علَّمنا الأدب بنسبة الكمالات إليه سبحانه بلا وساطة، ونسبة النقائص إلى شؤم ذنوبنا، فقال :﴿ ما أصابك من حسنة ﴾ أي : نعمة ﴿ فمن الله ﴾ فضلاً وإحسانًا، وأما طاعة العبد فلا تفي بشكر نعمة واحدة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :" لن يَدخلَ أحدُكُمُ الجنةَ بعملهِ "، قيل : ولا أنتَ يا رسول الله ؟ قال :" ولا أنَا، إلا أن يتَغمدني الله برَحمته " ﴿ وما أصابك ﴾ أيها الإنسان ﴿ من سيئة ﴾ أي : بلية ﴿ فمن نفسك ﴾ أي : شؤم ذنبك، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :" مَا مِن خَدشٍ بعُود ولا اختلاج عرق ولا غيره إلا بذنب، وما يَعفو الله عنه أكثرُ " فلا ينافي قوله :﴿ قل كلٌّ من عند الله ﴾ ؛ فإن الكل منه إيجاداً واختراعًا، غير أن الحسنة إحسانٌ، والسيئة مُجَازاة وانتقام. كما قالت عائشة رضي الله عنها :" مَا مِن مُسلمٍ يُصيبه وَصَبٌ ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يُشَاكها، وحتى انقطاع شِسع نَعلهِ، إلا بذنب، وما يعفوا الله عنه أكثر ".
وفي مصحف ابن مسعود :( قالوا :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله ﴾ ) الآية. فتكون حينئٍذ من مقالة المنافقين، والآيتان كما ترى لا حجة فيها للمعتزلة. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وأرسلناك ﴾ يا محمد ﴿ للناس رسولاً ﴾ تعلمهم التوحيد وتدلهم على الأدب، فالتوحيد محله البواطن، فلا يرى الفعل إلا من الله، والأدب محله الظواهر فينسب بلسانه النقص إلى نفسه وهواه. وإذا شهد الحق جل جلاله لرسوله بالرسالة أغْنَى عن غيره، ﴿ وكفى بالله شهيدًا ﴾. وشهادة الحق له بالمعجزات والواضحات، والبراهين القطعيات، والدلائل السمعيات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما شهد الحق ـ جل جلاله ـ لرسله بالرسالة، بما أظهر لهم من المعجزات، شهد لأوليائه بالولاية بما منحهم من الكرامات. والمراد بالكرامة : هي تحقيق العرفان، ومعرفة الذوق والوجدان، واستقامة الظواهر والبواطن، وتهذيب الأخلاق وهداية الناس على يديه إلى العليم الخلاق، فهذه الكرامة المعتبرة عند المحققين، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عن معرفة الله، ومن أحبهم فقد أحب الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله ؛ لأنهم نور من أنوار الله، وعين من عيون الله، إذا لم يبق فيهم بقية مما سوى الله، أقدامهم عرى قدم رسول الله،
{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " [ الفتح : ١٠ ] فافهم، والله تعالى أعلم.

فإذا ثبتت رسالته وجب على الناس طاعته، ولذلك قال :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ ؛ لأنه مُبلغ عن الله لا ينطق عن الهوى. رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم قال :" مَن أطَاعَنِي فَقَد أطَاعَ الله، ومَن أحبَني فقَد أحبَ الله " فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربًّا، كما اتخذت النصارى عيسى. فنزل :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى ﴾ وأعرض ﴿ فما أرسلناك عليهم حفيظًا ﴾ تَحفَظُ عليهم أعمالهم، وتحاسبهم عليها، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما شهد الحق ـ جل جلاله ـ لرسله بالرسالة، بما أظهر لهم من المعجزات، شهد لأوليائه بالولاية بما منحهم من الكرامات. والمراد بالكرامة : هي تحقيق العرفان، ومعرفة الذوق والوجدان، واستقامة الظواهر والبواطن، وتهذيب الأخلاق وهداية الناس على يديه إلى العليم الخلاق، فهذه الكرامة المعتبرة عند المحققين، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عن معرفة الله، ومن أحبهم فقد أحب الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله ؛ لأنهم نور من أنوار الله، وعين من عيون الله، إذا لم يبق فيهم بقية مما سوى الله، أقدامهم عرى قدم رسول الله،
{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " [ الفتح : ١٠ ] فافهم، والله تعالى أعلم.

ثم ذكر أحوال أهل النفاق، فقال :
﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾
قلت :﴿ طاعة ﴾ : خبر، أي : أمرنا طاعة، وأصله النصب على المصدر، ورُفِعَ للدلالة على الثبوت، وبيِّتَ الشيء، دبَّره ليلاً وأضمره في نفسه.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن المنافقين :﴿ ويقولون ﴾ لك إذا حضروا معك : أمرنا وشأننا ﴿ طاعةٌ ﴾ لك فيما تأمرنا به، ﴿ فإذا برزوا ﴾ أي : خرجوا ﴿ من عندك بيَّت طائفة منهم ﴾ أي : دبرَّت ليلاً وأخفت من النفاق ﴿ غير الذي تقول ﴾ لك من قبول الإيمان وإظهار الطاعة، أو زوَّرت خلاف ما قلتَ لها من الأمر بالطاعة، ﴿ والله يكتب ما يبيتون ﴾ أي : يُثبِتُه في صحائفهم فيجازهم عليه، ﴿ فأعرض عنهم ﴾ ولا تبال بهم، ﴿ وتوكل على الله ﴾ يكفك شرهم، ﴿ وكفى بالله وكيلاً ﴾ عليهم، فسينتقم لك منهم.
الإشارة : هذه الخصلة موجودة في بعض العوام ؛ إذا حضروا مع أهل الخصوصية أظهروا الطاعة والإقرار، وإذا خرجوا عنهم بيَّتوا الانتقاد والإنكار، فلا يليق إلا الإعراض عنهم، والغيبة في الله عنهم، فإن الله يكفي شرهم بكفالته وحفظه. والله تعالى أعلم.
ثم دلهم على ما فيه دواء مرض قلوبهم، فقال :
﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون ﴿ القرآن ﴾، وينظرون ما فيه من البلاغة والبيان، ويتبصّرون في معاني علومه وأسراره، ويطلعون على عجائب قصصه وأخباره، وتَوافُق آياتهِ وأحكامه، حتى يتحققوا أنه ليس من طوق البشر، وإنما هو من عند الله الواحد القهار، ﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا ﴾ بَين أحكامه وآياته، من تَفَاوتِ اللفظ وتناقض المعنى، وكَون بعضه فصيحًا، وبعضه ركيكًا، وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل، وبعضه توافق أخباره المستقبلة للواقع، وبعضه لا يوافق، وبعضه يوافق العقل، وبعضه لا يوافقه، على ما دل عليه الاستقراء من أن كلام البشر، إذا طال، قطعًا يوجد فيه شيء من الخلل والتناقض.
قال البيضاوي : ولعل ذكره للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس للتناقض في الحكم، بل لاختلاف الأحوال من الحكم والمصالح. ه. قال ابن جزي : وإن عَرَضَت لأحدٍ شبهةٌ وظن اختلافًا في شيء من القرآن، فالواجب أن يَتَّهِمَ نظره، ويسأل أهل العلم ويطالع تآليفهم، حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف. ه.
الإشارة : تدبر القرآن على حساب صفاء الجنان، فبقدر ما يتطهر القلب من حب الدنيا والهوى تتجلى فيه أسرار كلام المولى، وبقدر ما يتراكم في مرآة قلبه من صور الأكوان، يتحجب عن أسرار معاني القرآن ؛ ولو كان من أكابر علماء اللسان. فلما كان القرآن هو دواء لمرض القلوب، أمر الله المنافقين بالتدبر في معانيه ؛ لعل ذلك المرض ينقلع عن قلوبهم، لكن الأقفال التي على القلوب مَنَعَت القلوبَ من فهم كلام علام الغيوب، فحلاوة كلام الله لا يذوقها إلا أهل التجريد، الخائضون في تيار بحار التوحيد، الذين صَفَت قلوبُهم من الأغيار، وتطهرت من الأكدار، يتمتعون أولاً بحلاوة الكلام، ثم يتمتعون ثانيًا بحلاوة وشهود المتكلم. والله تعالى أعلم.
ومن مساوئ المنافقين إفشاء أسرار المؤمنين، كما قال تعالى :
﴿ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ. . . ﴾
قلت : استنبط الشيء : استخرجه من غيره، وأصل الاستنباط : إخراج النبط، وهو الماء، يخرج من البئر أول ما يحفر، والجار في ﴿ منهم ﴾ : إما بيان للموصول، أي : لعلم المستنبطون الذين هم أولو الأمر، أو يتعلق ب( علم )، أي : لعلمه الذين يستخرجونه إلى الناس من أولي الأمر.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في ذمّ المنافقين أو ضعفة المسلمين :﴿ وإذا جاءهم أمرٌ ﴾ أي : خبر عن السرايا الذين توجهوا للغزو، من نصر وغنيمة وأمن أو خوف، وقتل وهزيمة، ﴿ أذاعوا به ﴾ أي : تحدثوا به، وأشهروه، وأرجفوا به قبل أن يصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأكابر الصحابة، الذين هم أولو الأمر وأهل البصائر، فيعرفون كيف يتحدثون به،
ولو ردوا ذلك ﴿ إلى الرسول ﴾ وأخبروه به سرًا، أو سكتوا حتى يصل إليه، أو يردوه ﴿ إلى أولي الأمر ﴾ من أكابر الصحابة، لعلمه الذين يستخرجونه إلى الناس ﴿ منهم ﴾ فينقلونه على وجهه، ويعرفون كيف يتحدثون به من غير إرجاف ولا تخويف، أو ﴿ لعَلمَه الذين يستنبطونه ﴾ وهم أولو الأمر أولاً، ثم يعلم الناس، فلا يكون فيه إرجاف ولا سوء أدب. أو : وإذا جاءهم أمر من وحي السماء : من تخويف أو تأمين، أذاعوا به قبل أن يظهره الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو سكتوا وردوا ذلك إلى الرسول حتى يتحدث به للناس، ويظهره أولو الأمر من أكابر أصحابه، لعلمه الذين يستخرجون ذلك الوحي من أصله، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وأكابر أصحابه، كما فعل عمر رضي الله عنه : إذ سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فدخل عليه فقال : أطلقت نساءك ؟ قال :" لا " فقال على باب المسجد، فقال : إن رسول الله صلى عليه وسلم لم يطلق نساءه، فأنزل الله هذه القصة، قال : وأنا الذي استنبطته. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قالت الحكماء : قلوب الأحرار قبور الأسرار، وهذه الخصلة التي ذمَّها الله تعالى توجد في كثير من العوام ؛ مهما سمعوا خبرًا : خيرًا أو شرًا، بادروا إلى إفشائه، ولا سيما إذا سمعوه على أهل النسبة أو أهل الخصوصية، وقد تُوجد في بعض الفقراء، وهي غفلة ونوع من الفضول، فالفقير الصادق غائب عن أخبار الزمان وأهله، وقد ترك الناسَ وما هم فيه، وقد تغلب عليه الغيبة في الله حتى تغيب عنه الأيام، وأما الفقير الذي يتسمع الأخبار ويبحث عنها فلا نسبة له في الفقر، إلا اسم بلا مسمى، وقد ترى بعض الفقراء، يُبلِّغُ مساوِئ إخوانه إلى المشايخ، وهو سبب الطرف، والعياذ بالله. وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول :" لا تبلغوني مساوئ أصحابي " ١ ؛ لأن ذلك يسؤوهم، والخير كله في إدخال السرور على قلوب المشايخ.
وتنسحب الآية على مَن يُفشِيِ أسرار الربوبية، ويُطلع الفقراء علَى الحقيقة، ولو ردوا ذلك إلى شيخهم حتى يكون هو الذي يطلعهم لكان أحسن، لأن الحقيقة إذا أُخِذَت من الشيخ كان فيها سر كبير، بخلاف ما إذا أُخِذّت من غيره، إلاَّ إذا كان مأذونًا في ذلك فكأنه هو. والله تعالى أعلم.
وقال الورتجبي : قال أبو سيعد الخراز : إن له عبادًا يدخل عليهم الخلل، ولولا ذلك لفسدوا وتعطلوا، وذلك أنهم بَلَغُوا من العلم غاية، صاروا إلى علم المجهول، الذي لم ينصُّه كتاب، ولا جاء به خبر، لكن العقلاء العارفون، يحتجون له من الكتاب والسنة، بحسن استنباطهم ومعرفتهم، قال تعالى :﴿ لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾. ه.
قلت : ومعنى كلامه : أن الله تعالى أشغل علماء الظاهر بتقرير علم الفرق، ولولا اشتغالهم بذلك لتعطلوا وتبطلوا، إذ لا قدرة لهم على عمل القلوب من الفكرة والنظرة، لكن العارفون يقرون لهم ذلك، ويحتجون لهم بما في نشر العلم من الأجور، من الكتاب والسنة، لأنهم قاموا بنظام عمل الحكمة ورفعوا علم الشريعة، ولولا قيامهم بذلك لتعين على أهل الباطن، فتتشوش عليهم قلوبهم، وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه يقول : جزاهم الله عنا خيرًا ؛ رفعوا لنا علم الشريعة، نحن نغرق في البحر، ثم نرفع رأسنا فنرى العلم قائمًا، ثم نرجع إلى البحر. ه. بالمعنى، والله تعالى أعلم.
ثم إن الهداية بيد الله، قوم أقامهم في الفرق، وقوم هداهم إلى الجمع، كما قال تعالى :
﴿. . . وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً. . . ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : لولا أن الله تفضل عليكم ورحمكم بنبي الرحمة، وأنقذكم من متابعة الشيطان وعبادة الأوثان، لبقيتم على كفركم وضلالكم، ولاتبعتم الشيطان فيما يأمركم به من الكفر والعصيان، إلا قليلاً ممن اهتدى قبل بعثته، كقس بن ساعدة، وزيد بن نفيل، وورقة بن نوفل، رزقهم الله كمال العقل ؛ فنظروا وتفكروا بعقولهم ؛ فوجدوا الله واعتزلوا ما كان يعبد آباؤهم وإخوانهم. أما قس فاعتزل قومه، وعبد الله وحده، وكان يخطب على الناس ويأمرهم بالتوحيد، ويعيب عليهم عبادة الأصنام. وعاش سبعمائة عام. وأما زيدٌ فتعلق بالحنيفية، دين إبراهيم، حتى مات قبل البعثة. وأما ورقة فأخذ بدين النصرانية التي لم تُغَيَّر، وأدرك أول البعثة، وآمن بالرسول قبل أن يُؤمر بالإنذار، قال عليه الصلاة والسلام :" رأيتُه في الجنة عليه ثيابُ خُضر " والله تعالى أعلم.
الإشارة : لولا فضل الله عليكم بأن بعث لكم مَن يدلكم على الله ويعرفكم بالله، ورحمته بأن أخرجكم من ضيق الفرق، إلى فضاء الجمع، لاتبعتم الفرق علمًا وعملاً، لكن الله تعالى بفضله ورحمته غيبكم عن شهود الفرق بشهود الملك الحق. إلاّ فرقًا قليلاً تقيمون به رسم العبودية، وتظهرون به الآداب مع الربوبية.
قال الورتجبي : الفضل والرحمة منه للعموم، ومحبته للخصوص، الذين هم مستثنون بقوله :" إلا قليلاً ". ه. قال القشيري :﴿ ولولا فضل الله ﴾ مع أوليائه لهاموا في كل وادٍ من الفرقة كأشكالهم في الوقت. ه. فَخَصَّ الإشارة بالأولياء، وعليه فقوله :﴿ إلا قليلاً ﴾ أي : إلا تفرقة قليلة تعرض لهم، تربيةً لهم، وإبقاء لرسمهم ومناطِ تكليفهم. والله تعالى أعلم. قاله في الحاشية.
١ أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء ١/٢٦٧، بلفظ: "لا تبلغوني عن أحد من أصحابي...".
ولا يظهر هذا كله إلا بالجهاد الأكبر والأصغر، كما قال تعالى :
﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَاسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَاساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ﴾
قلت :﴿ نفسك ﴾ : مفعول ثانٍ، والأول نائب، أي : لا يكلفك الله إلا نفسك.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فقاتل ﴾ يا محمد ﴿ في سبيل الله ﴾ ولو وَحدَكَ إن تثبطوا عن الجهاد، لا نكلفك إلا أمر نفسك، ﴿ و ﴾ لكن ﴿ حَرِّض المؤمنين ﴾ على الجهاد، إذ ما عليك إلا التحريض. فجاهدوا حتى تكون كلمة الله هي العليا. ﴿ عسى الله أن يكف ﴾ بجهادكم ﴿ بأس الذين كفروا ﴾ ويبطل دينهم الفاسد. ﴿ والله أشد بأسًا ﴾ منهم ﴿ وأشد تنكيلاً ﴾ أي : تعذيبًا لهم. وقد حقَّق الله ذلك ففتح الله على نبيه قبائل العرب، فلم يبق فيهم مشرك، ثم فتح على الصحابة سائر البلاد، وهدى الله بهم جميع العباد، إلا من فرّ من الكفار إلى شواهق الجبال.
وإنما أمرتك بالتحريض على الجهاد، لأن الدال على الخير كفاعله، وذلك كالشفاعة بين الناس ودلالتهم على إصلاح ذات البين، فمن ﴿ يشفع شفاعة حسنة ﴾ بأن ينفع المشفوع له، بدفع ضرر أو جلب نفع، ابتغاء وجه الله، ﴿ يكن له نصيب منها ﴾، أي : حظ كبير من الثواب ؛ لأنه دل المشفوع عنده على الخير، وأوصل النفع إلى المشفوع له، فله من الأجر مثل ما لهما، ومنها : الدعاء بظهر الغيب، فقد قال عليه الصلاة والسلام :" مَن دعا لمسلمٍ بظَهرِ الغَيبِ استُجيب له، وقال له الملك : لك مِثلُ ذَلِكَ ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : فجاهد أيها الإنسان نفسك في سبيل الله، لا تكلف إلا إصلاحها وتزكيتها، وحرض من يسمع قولك من المؤمنين على جهاد أنفسهم، عسى الله أن يكف عنهم القواطع والعلائق، فيتأهلون لإشراق قلوبهم بأنوار الحقائق، فإن الله لا يغلبه شيء، فمن ذكّر عبادَ الله، ودسهم إلى حضرة الله كان حظه كبيرًا عند الله. ومن دلهم على غير الله فقد غشهم وكان مُهانًا عند الله، وإذا وقع السلام على الفقراء ؛ فإن كانوا سالكين غير مشتغلين بالذكر وجب عليهم الرد بأحسن، وإذا كانوا ذاكرين أو متفكرين أو سكارى في شهود الحبيب سقط عنهم السلام، وكذلك إذا سلم عليهم اختبارًا وتعنيتًا لم يجب الرد. والله تعالى أعلم.
﴿ ومَن يشفع شفاعة سيئة ﴾، يريد بها فسادًا بين الناس ؛ كنميمة وزور وإحداث بدعة، ﴿ يكن له كِفلٌ ﴾ أي : نصيب ﴿ منها ﴾ أي : من وِزرها، وفي الحديث :" من سنَّ سُنةَ حَسَنةٌ، فله أجرُهَا وأجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إلى يَومِ القيامَةِ، ومن سنَّ سُنَّة سَيِّئةً فعليه وزرُهَا وَوِزرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوم القيامَةِ " ﴿ وكان الله على كل شيء مقيتًا ﴾ أي : مقتدرًا من أقات على الشيء : إذَا قدر عليه، أو شهيدًا حافظَا فيجازي على قدر الأعمال.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : فجاهد أيها الإنسان نفسك في سبيل الله، لا تكلف إلا إصلاحها وتزكيتها، وحرض من يسمع قولك من المؤمنين على جهاد أنفسهم، عسى الله أن يكف عنهم القواطع والعلائق، فيتأهلون لإشراق قلوبهم بأنوار الحقائق، فإن الله لا يغلبه شيء، فمن ذكّر عبادَ الله، ودسهم إلى حضرة الله كان حظه كبيرًا عند الله. ومن دلهم على غير الله فقد غشهم وكان مُهانًا عند الله، وإذا وقع السلام على الفقراء ؛ فإن كانوا سالكين غير مشتغلين بالذكر وجب عليهم الرد بأحسن، وإذا كانوا ذاكرين أو متفكرين أو سكارى في شهود الحبيب سقط عنهم السلام، وكذلك إذا سلم عليهم اختبارًا وتعنيتًا لم يجب الرد. والله تعالى أعلم.
ومن هذا أيضًا : السلام، فإنه سبب في ثواب الرد، لذلك ذكره الحق في سلك الدلالة على الخير فقال :﴿ وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها ﴾ بأن تقولوا : وعليكم السلام والرحمة والبركة، ﴿ أو ردوها ﴾ بأن تقولوا : وعليكم السلام.
وفي الخبر :" مَن قَالَ لأخيه المسلم : السَّلامُ علَيكُم، كتب الله له عَشرُ حَسنات، فإن قال : السَّلامُ عليكُم ورحمَةُ الله، كتب الله له عِشرين حَسنة، فإن قال : وَبَرَكَاتُه، كتب الله ثَلاثين "، وكذلك لمن ردّ، فإن اقتصر على السلام، فعشر، وهكذا. . فإن ذكرَ المسلم الرحمةَ والبركةَ، قال الرادُّ : وعليكم، فقط، إذ لم يبق ما يزاد، ورد السلام واجب على الكفاية، حيث يكون مشروعًا، فلا يرد في الخطبة، وقراءة القرآن، والذكر والتفكر، والاعتبار، ونظرة الشهود والاستبصار، لأنه يفتر ويشوش، وفي الحمام إذا كانوا عراة، وفي حال الجماع والأكل والشرب وغيرها من المسائل المستثناة.
وقد نظمه بعضهم، فقال :
رَدُّ السَّلام واجبٌ إلا على مَن في الصَّلاةِ أو بأكل شُغلا
أو شُربٍ أو قراءةٍ أو أدعِيه أو ذكرٍ أو خُطبةٍ أو تَلبِيه
والسلام من تحية أهل الإسلام، خاصٌّ بهم. لذلك استغرب الخضر عليه السلام سلام سَيدنا موسى عليه السلام فقال له :" وأنَّى بأرضِكَ السَّلامُ، وكذلك خليل الله إبراهيم عليه السلام، إنما أنكر الملائكة حيث سلموا عليه بتحية أهل الإسلام ؛ لأنه كان بين أظهر قوم كفار، أما سلام أبي ذر على النبي صلى الله عليه وسلم بتحية أهل الإسلام، قبل أن يسلم، فلعله سمعه من بعض الصحابة قبل أن يسلم، أو إلهام من الله. والله تعالى أعلم.
﴿ إن الله كان على كل شيء حسيبًا ﴾ يحاسبكم على التحية وغيرها. وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : فجاهد أيها الإنسان نفسك في سبيل الله، لا تكلف إلا إصلاحها وتزكيتها، وحرض من يسمع قولك من المؤمنين على جهاد أنفسهم، عسى الله أن يكف عنهم القواطع والعلائق، فيتأهلون لإشراق قلوبهم بأنوار الحقائق، فإن الله لا يغلبه شيء، فمن ذكّر عبادَ الله، ودسهم إلى حضرة الله كان حظه كبيرًا عند الله. ومن دلهم على غير الله فقد غشهم وكان مُهانًا عند الله، وإذا وقع السلام على الفقراء ؛ فإن كانوا سالكين غير مشتغلين بالذكر وجب عليهم الرد بأحسن، وإذا كانوا ذاكرين أو متفكرين أو سكارى في شهود الحبيب سقط عنهم السلام، وكذلك إذا سلم عليهم اختبارًا وتعنيتًا لم يجب الرد. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر أمر الحساب ذكر وقته، فقال :
﴿ اللَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ﴾
قلت :﴿ الله ﴾ : مبتدأ، و﴿ لا إله ﴾ : خبر، أو اعتراض، و﴿ ليجمعنكم ﴾ : خبر، وهو أوفق بالسياق، و﴿ لا ريب فيه ﴾ حال، أو صفة لمصدر، أي : جمعًا لا ريب فيه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الله لا إله إلا هو ﴾ أي : لا مستحق للعبادة إلا هو، والله ﴿ ليجمعنكم ﴾ أي : ليَحشرنك من قبوركم ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ للحساب الذي وعدكم به، لا شك فيه، فهو وعد صادق، ﴿ ومن أصدق من الله حديثًا ﴾، أي : لا أحدَ أصدقُ من الله حديثًا، لأن الكذب نقص، وهو على الله محال.
الإشارة : الحق تعالى واحد في ملكه، فلا يذوق وحدانيته إلا من كان واحدًا في قصده وهمه، فكل من وحَّدّ قلبه وقصده وهمته في طلبه، وانجمع بكليته إليه، جمعه الله لحضرته، ونعَّمه بشهود ذاته، وعدًا حقًا وقولاً صادقًا، لا ريب فيه ولا اشتباه، إذ لا أحدَ أصدقُ من الله.
ثم رجع إلى الكلام مع المنافقين، فقال :
﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً. . . ﴾
قلت :﴿ فئتين ﴾ : حال، والعامل فيه : الاستقرار في الجر، وأركس الشيء نكَّسه.
يقول الحقّ جلّ جلاله : معاتبًا الصحابة حين اختلفوا في إسلام بعض المنافقين، فقال :﴿ فما لكم ﴾ افترقتم ﴿ في ﴾ شأن ﴿ المنافقين ﴾ فرقتين، ولم تتفقوا على كفرهم، والحالة أن الله تعالى ﴿ أركسهم ﴾، أي : نكَّسهم وردهم إلى الكفر بعد أن أظهروا الإسلام بسبب ما كسبوا من الآثام. ﴿ أتريدون أن تهدموا من أضل الله ﴾، وسبق لهم الشقاء في علم الله ؟ ومن يضلل الله فلن تجد له طريقاً إلى الهدى. قال ابن عباس رضي الله عنهما :( نزلت في قومِ كانوا بمكة من المشركين، فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم بتجارات إلى الشام، فاختلف المسلمون، هل يقتلونهم ليغنموا تجارتهم، لأنهم لم يهاجروا، أو يتركونهم لأنهم مؤمنون ؟ ). وقيل : في قوم أسلموا ثم اجتَوَوا المدينة١، واستأذنوا رسول الله صلى عليه وسلم في الخروج إلى البدو، فلما خَرَجُوا لم يزالُوا راحلين مَرحلةٌ حتى لحقُوا بالمُشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم.
الإشارة : من دخل في طريق المخصوصين الأبرار، ثم لم تساعده رياح الأقدار، فلا ينبغي الكلام فيه، ولا الخوض في شأنه، لأن أمره بيد ربه، ( من يهده الله فلا مضل له )، ومن يضلل فلا ناصر له. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
١ اجتووا المدينة: اجتواه: كرهه، وأرض جوية: غير موافقة، وجوبت نفسه منه، والجوى: الحزن، والماء المنتن، والسل وتطاول المرض، وداء في الصدر..
ثم نهى عن مُوَالاَتهم، فقال :
﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴾
ثم حكم بكفرهم فقال ﴿ ودّوا لو تكفرون ﴾ أي : يتمنون كفركم ﴿ كما كفروا فتكونون ﴾ معهم ﴿ سواء ﴾ في الضلال والكفر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فلا تتخذوا ﴾ من هؤلاء الكفرة ﴿ أولياء ﴾ وأصدقاء حتى يتحقق إيمانهم، بأن يهاجروا من دار الكفر إلى دار الإسلام ﴿ في سبيل الله ﴾ وابتغاء مرضات الله، لا لحرف دنيوي، ﴿ فإن تولوا ﴾ عن إظهار الإيمان بالهجرة ﴿ في سبيل الله ﴾، ﴿ فخذوهم ﴾ أسارى ﴿ واقتلوهم حيث وجدتموهم ﴾ كسائر الكفرة، وجانبوهم ﴿ ولا تتخذوا منهم وليًا ولا نصيرًا ﴾ أي : لا تستعينوا بهم في جهادكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : نهى الله تعالى عن مساكنة النفوس وموالاتها، حتى تهاجر عن مواطن شهواتها إلى حضرة ربها، فإن تولت عن الهجرة وألِفَت البطالةَ والغفلة فليأخذها ليقتلها حيثما ظهرت صورتها، ولا يسكن إليها أبدًا أو يواليها، إلاَّ إن وصلت إلى حضرة الشيخ، وأمره بالرفق بها، أو كفت عن طغيانها، أو كفى الله أمرها ؛ بجذبٍ أخرجها عن عوائدها، أو واردٍ قوَّى دفع شهواتها، فإنه يأتي من حضرة قهار، لا يصادم شيئاً إلا دمغه، وهذه عناية من الرحمن، ولو شاء تعالى لسلطها على الإنسان يرخى لها العنان، فتجمح به في ضَحضَاح النيران، فإن كفت النفس عن شهواتها، وانقادت إلى حضرة ربها، فما لأحدٍ عليها من سبيل، وقد دخلت في حمى الملك الجليل. والله تعالى أعلم.
قلت :﴿ حَصِرت ﴾ : أي : ضاقت، والجملة حال من الواو، بدليل قراءة يعقوب ( حَصِرَةً ).
﴿ إلاَّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ﴾ عهد، و﴿ ميثاق ﴾ أي : مهاندة، فلهم حكم المُعَاهَدِين الذين وصلوا إليهم، ودخلوا معهم في الصلح، فلا تقتلوهم ولا تأسروهم.
وكانت خزاعة وادعت النبي صلى الله عليه وسلم وعقدت معه الصلح، فجاء بنو مدلج فدخلوا معهم في الصلح، فنهى الله عن قتالهم ما داموا معهم، فالقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق هم خزاعة، والذي وصلوا إليهم هم بنو مدلج. فالاستثناء على هذا منقطع، لأن بني مدلج حينئٍذ كانت مظهرة للكفر لا منافقة، ويحتمل أن يكون متصلاً، أي : إلا الذين يصلون منهم. . . الخ، فتأمل. وكان هذا في أول الإسلام، ثم نُسِخ بقوله :
﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التّوبَة : ٥ ] الآية.
ثم ذكر قومًا آخرين نهى عن قتالهم، فقال :﴿ أو جاءوكم ﴾ أي : إلاَّ قومًا جاؤوكم، قد ﴿ حصرت صدورهم ﴾ أي : ضاقت عن ﴿ أن يُقاتلوكم أو يُقاتلوا قومهم ﴾ يعني أنهم كرهوا قتالهم، وكرهوا قتال قومهم الكفار، فلا تقتلوهم أيضًا، لأن الله كفَّ شرهم عنكم، ﴿ ولو شاء الله لسلّطهم عليكم ﴾ بأن قوَّى قلوبهم وأزال رعبهم ﴿ فَلَقَاتَلُكم ﴾ ولم يكفّوا عنكم، ﴿ فإن اعتزلوكم ﴾ ولم يتعرّضوا لكم ﴿ وألقوا إليكم السلم ﴾ أي : الاستسلام والانقياد ﴿ فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ﴾ أي : طريقًا إلى قتالهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : نهى الله تعالى عن مساكنة النفوس وموالاتها، حتى تهاجر عن مواطن شهواتها إلى حضرة ربها، فإن تولت عن الهجرة وألِفَت البطالةَ والغفلة فليأخذها ليقتلها حيثما ظهرت صورتها، ولا يسكن إليها أبدًا أو يواليها، إلاَّ إن وصلت إلى حضرة الشيخ، وأمره بالرفق بها، أو كفت عن طغيانها، أو كفى الله أمرها ؛ بجذبٍ أخرجها عن عوائدها، أو واردٍ قوَّى دفع شهواتها، فإنه يأتي من حضرة قهار، لا يصادم شيئاً إلا دمغه، وهذه عناية من الرحمن، ولو شاء تعالى لسلطها على الإنسان يرخى لها العنان، فتجمح به في ضَحضَاح النيران، فإن كفت النفس عن شهواتها، وانقادت إلى حضرة ربها، فما لأحدٍ عليها من سبيل، وقد دخلت في حمى الملك الجليل. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر صنفا آخر من المنافقين، فقال :
﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُوا فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ستجدون ﴾ قوماً ﴿ آخرين ﴾ منافقين، وهم أسد وغطفان، قَدِمُوا المدينة، وأظهروا الإسلام نفاقًا ورياء ؛ إذا لقوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : إنا على دينك، يريدون الأمن، إذا لقوا قومهم، وقالوا لأحدهم : لماذا أسلمت ومن تعبد ؟ فيقول : لهذا القرد ولهذا العقرب والخنفساء، ﴿ يريدون ﴾ بإظهار الإسلام ﴿ أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما رُدوا إلى الفتنة أركسوا فيها ﴾، أي : كلما دُعُوا إلى الكفر رَجَعُوا إليه أقبحَ رد.
﴿ فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ﴾ أي : ولم يلقوا إليكم المسالمة والصلح، ولم ﴿ يكفّوا أيديهم ﴾ بأن تعرضوا لكم ﴿ فاقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ أي : وجدتموهم، ﴿ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا ﴾، أي : تسلطاً ﴿ مبينًا ﴾ ظاهرًا، لظهور كفرهم وثبوت عداوتهم.
الإشارة : النفوس على ثلاثة أقسام : قسم مطلقة العنان في الجرائم والعصيان، وهي النفوس الأمارة، وإليها الإشارة بالآية قبلها، والله أعلم. وقسم مذبذبة ؛ تارة تظهر الطاعة والإذعان، تريد أن يأمنها صاحبها، وتارة ترجع إلى الغي والعصيان، مهما دعيت إلى فتنة وقعت فيها، فإن لم تنته عن ذلك، وتكف عن غيها، فالواجب جهادها وقتلها ؛ حتى تنقاد بالكلية إلى ربها، وأما النفس المطمئنة فلا كلام معها لتحقق إسلامها، فالواجب الكف عنها وحبها. والله تعالى أعلم.
ولما فرغ من حفظ الأديان ؛ تكلم على بقية حفظ الأبدان، فقال :
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾
قلت :﴿ وما كان لمؤمن ﴾ النفي هذا بمعنى النهي، كقوله :
﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ﴾ [ الأحزَاب : ٥٣ ]، و ﴿ إلا خطًأ ﴾ : استثناء منقطع، و﴿ خطأ ﴾ : حال، أو مفعول من أجله، أو صفة لمصدر محذوف، أي : لا يحل له أن يقتل مؤمنًا في حال من الأحوال، لكن إن وقع خطّأ فحكمه ما يأتي، وقيل : متصل. انظر ابن جزي : أو : إلا قتلا خطّأ، و﴿ إلا أن يصدقوا ﴾ : حال، أي : إلا حال تصدقهم، و﴿ توبة ﴾ : مفعول من أجله، أي : شرع ذلك لأجل التوبة. أو مصدر، أي : تاب عليكم توبة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وما كان ﴾ ينبغي ﴿ لمؤمن أن يقتل مؤمنًا ﴾ مثله، أي : هو حرام عليه، ﴿ إلاَّ ﴾ أن يقتله ﴿ خطًأ ﴾ بأن ظنه كافرًا، أو رمى غيرَه فصادفه. والآية نزلت بسبب قتل عياش بن ربيعة للحارث بن زيد، وكان الحارث يعذبه على الإسلام، ثم أسلم الحارث، وهاجر، ولم يعلم عياشُ بإسلامه، فقتله.
ثم ذكر حُكمه فقال :﴿ ومن قتل مؤمنًا خطًأ فتحرير رقبة ﴾ أي : فعليه تحرير رقبة ﴿ مؤمنة ﴾ سالمة من العيوب، ليس فيها شوب حرية، تكون من مال القاتل، ﴿ ودِيَةٌ مُسلَّمة ﴾ أي : مدفوعة ﴿ إلى أهله ﴾ وهي على العاقلة كما بيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي عند مالك : مائة من الإبل، وألف دينار شرعية على أهل الذهب، واثنا عشر ألف درهم، على أهل الوَرِق، مقسطة على ثلاث سنين، فإن لم تكن العاقلة فعلى بيت المال، وتقسم على أهله، على حسب المواريث، إلا أن يتصدقوا بالدية على القاتل فتسقط، أي : تسمع فيها الورثة أو القتيل قبل موته.
﴿ فإن كان ﴾ المقتول ﴿ من قوم عدو لكم ﴾ أي : محاربين لكم، ﴿ وهو ﴾ أي : المقتول ﴿ مؤمن ﴾ فعلى القاتل ﴿ تحرير رقبة مؤمنة ﴾ ولا دية ؛ لأنهم محاربون فيتقووا بها على المسلمين، ورأى مالك أن الدية في هذا واجبة لبيت المال، ﴿ وإن كان ﴾ المقتول مؤمنًا وهو ﴿ من قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ أي : عقد الصلح أو الذمة، فعلى القاتل ﴿ دية مُسَلَّمة إلى أهله ﴾، وعليه أيضًا ﴿ تحرير رقبة مؤمنة ﴾ كفارة لخطئه. فإن كان غير مؤمن فلا كفارة فيه. وفيه نصف دية المسلم، ﴿ فمن لم يجد ﴾ الرقبة، أو لم يقدر عليها ؛ فعليه ﴿ صيام شهرين متتابعين ﴾ عوضًا من العتق، جعل الله ذلك ﴿ توبة من الله ﴾ على القاتل لتفريطه. ﴿ وكان الله عليمًا ﴾ بما فرض، ﴿ حكيمًا ﴾ فيما قدَّر ودبَّر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الحقّ جلّ جلاله قد رغَّب في إحياء النفوس، حسًا ومعنًى، ونهى عن قتلها حسًا ومعنًى، وما ذلك إلى لخصوص محبة له فيها، ومزيد اعتناء له بشأنها ؛ فليس في الوجود أعز من الله من مظهر هذا الآدمي إن استقام في العبودية لربه، فهو قلب الوجود، ومن أجله ظهر كل موجود، وهو المنظور إليه من هذا العالم السفلي، والمقصود بالخطاب التكليفي : جزئي وكلي، فهو المقصود من بيت القصيد، وهو المحبوب إليه، دون سائر العبيد، قال تعالى :
﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي ﴾ [ طه : ٤١ ].
ومعنى إحيائها حسًّا : إنقاذها من الهلاك الحسّي، ومعنى إحيائها معنّى : إنقاذها من الهلاك المعنوي كالجهل والغفلة، حتى تحيا بالعلم والإيمان واليقظة، ومعنى قتلها حسًا : إهلاكها، ومعنى قتلها معنًى : إيقاعها في المعاصي والكفر وحملها على ذلك، وكذلك إهانتها وذلها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :" لَعنُ المُؤمن كَقَتَلهِ " فأمر من قتله خطًأ أن يُحيي نفسًا أخرى من مقابلتها بإخراجها من موت إهانة الرق، فإن لم يقدر، فليحيي نفسه بقتل صولتها بالجوع حتى تنكسر، فتحيا بالتوبة واليقظة، ويُجبر كسر أهل المقتول بالدية المُسَلَّمة.
هذا كله في تفريطه وقلة حزمه حتى قتل خطأ، وأما إن قتله عمدا، فأشار إليه الحق جل جلاله بقوله :
﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا ﴾ مستحلاً لقتله ﴿ فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغَضِبَ الله عليه ولعنه ﴾ أي : طرده ﴿ وأعد له عذابًا عظيمًا ﴾، وقولُنا : مستحلاً لقتله، هو أحد الأجوبة عن شبهة المعتزلة القائلين بتخليد عصاة المؤمنين في النار. ومن جُملتهم : قاتل النفس.
ومذهب أهل السنة : أنه لا يخلد إلا الكافر، ويؤيد هذا الجواب سبب نزول الآية، لأنها نزلت في كافر، وهو ( مَقِيس بن ضُبَابة الكناني ) ؛ وَجَدَ أخَاه هشامًا قَتَيلاً في بني النجر وكان مُسلمًا فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسَل مَعهُ رجلاً من بني فهرِ، وقال له :" ائت بني النّجار، وقُل لهم : إن عَلمتُم قاتِل هِشَامٍ فادفَعُوهُ لمقيس يَقتَصُّ مِنه، وإن لِمَ تَعلمُوا فادفَعُوا إليه الدَّيةَ " فقالوا : سمعًا وطاعة، لم نَعلَم قاتِله، فجمعوا مائة من الإبل، فأخذها، ثم انصرفا راجعَين إلى المدينة، فوسوس إليه الشيطان، وقال : أيَّ شيء صَنَعتَ ؟ تَقبلُ ديةَ أخيكَ فتكونُ عليك سُبَّة، اقتل الرجلَ الذِي مَعكَ فتكُونَ نفسٌ مكانَ نَفسٍ وفَضلُ الدِّيَة، فَقَتَلَه وأخذ الدِّية، فنزلت فيه الآية.
أو يكون الخلود عبارة عن طول المكث، والجمهور على قبول توبته، خلافًا لابن عباس، ونُقِل عنه أيضًا قبولها، ولعله تعالى استغنى عن ذكر التوبة هنا اكتفاء بذكرها في الفرقان، حيث قال :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴾ [ الفُرقان : ٦٨ ]، ثم قال :﴿ إِلاَّ مَن تَابَ ﴾ [ مريَم : ٦٠ ]. وأما من قال : إن تلك منسوخة بهذه فليس بصحيح ؛ لأن النسخ لا يكون في الأخبار. أو فجزاؤه إن جُوزِي، ولا بِدع في خلف الوعيد لقوله :﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾
[ النَّساء : ٤٨ ] ؛ لأن الوعيد مشروط بعدم العفو، لدلائل منفصلة اقتضت ذلك كما هو مشروط بعدم التوبة أيضًا، والحاصل : أن الوعد لا يخلف لأنه من باب الامتنان، والوعيد يصح إخلافه، بالعفو والغفران، كما في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( مَن وَعَدَه الله عز وجل على عملٍ ثوابًا فهو منجزه له لا محالة، ومَن أوعَدَه على عمل عقابًا فهو بالخيار، إن شاءَ عَفَا عنه، وإن شاء عَاقَبه ) ه. ذكره في القوت.
فَتَحَصَّل أن القاتل لا يُخلَّد على المشهور إلاَّ إذا كان مستحلاً، وهذا أيضًا ما لم يقتص منه، وأما إذا اقتُص منه فالصحيح أنه يسقط عنه العقاب ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم :( مَن أصَابَ ذَنبًا فعُوقِبَ بِه في الدنيا فَهُوَ له كَفَّارَةٌ ). وبه قال الجمهور، وكذلك إذا سَامَحَهُ ورثةُ الدم : لأنه حق ورثوه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الإيمان محله القلوب، فالقلب هو المتصف بالإيمان حقيقة. فالمؤمن الحقيقي هو القلب، فمن قتله بتتبع الشهوات، وتراكم الغفلات، فجزاؤه نار القطيعة في سجن الأكوان، والبعد عن عرفان الشهود والعيان، وفي الحِكَم :" سبب العذاب وجود الحجاب، وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهة الكريم ". والله تعالى أعلم.
ثم إن اللسان ترجمان القلب، فمن أظهر الإيمان حرم التعرض له، كما أشار إلى ذلك الحق جلاله بقوله :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذالِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾
قلت :﴿ السَّلم ﴾ بالقصر : الانقياد والاستسلام، وبالمد : التحية. وجملة ﴿ تبتغون ﴾ : حال من الواو، مشعرة بما هو الحامل على العجلة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم ﴾ أي : سافرتم وسرتم تجاهدون ﴿ في سبيل الله ﴾، ﴿ فتبينوا ﴾ الأمور وتثبتوا فيها ولا تعجلوا، فإن العجلة من الشيطان، ﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم ﴾ أي : الانقياد والاستسلام، أو سلَّم عليكم تحية الإسلام،
﴿ لست مؤمنًا ﴾ ؛ إنما فعلت ذلك متعوذًا خائفًا، فتقتلونه طمعًا في ماله، ﴿ تبتغون عرض الحياة الدنيا ﴾ وحطامها الفاني، ﴿ فعند الله مغانمُ كثيرة ﴾ وَعَدَكُم بها، لم تقدروا الآن عليها، فاصبروا وازهدوا فيما تَشُكُّون فيه حتى يأتيكم ما لا شهبةَ فيه، ﴿ كذلك كنتم من قبل ﴾ هذه الحال، كنتم تخفون إسلامكم خوفًا من قومكم، ﴿ فمنَّ الله عليكم ﴾ بالعز والنصر والاشتهار.
﴿ فتبينوا ﴾ وتثبتوا ولا تعَجلَوا، وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل اللهُ بكم، حيث حفظكم وعصمكم، ولا تبادروا إلى قتلهم ظنًا بأنهم إنما دخلوا فيه اتقاء وخوفًا، فإن إبقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل مؤمن، وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر. ثم هدَّدهم بقوله ﴿ إن الله كان بما تعملون خبيرًا ﴾ مطلعًا على قصدكم، فلا تتهافتوا في القتل، واحتاطوا فيه.
رُوِي أن سريةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فَدَك فهربوا، وبقي مرداسُ ثقًة بإسلامه، لأنه كان مسلمًا وحده، فلما رأى الخيلَ ألجأ غَنَمه إلى عاقول من الجبل١، وصعد عليه، فلما تلاحقوا وكَبَّروا، كَبَّر ونزل يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامةُ، واستاق غنمه، فنزلت الآية. فلما أُخبر عليه الصلاة والسلام وَجِدَ وجدًا شديدًا، وقال لأسامة :" كيف بلا إله إلا الله، إذا جاءت يوم القيامة ؟ ! " قالها ثلاثًا، حتى قال أسامة : ليتني لم أكن أسلمتُ إلا يومئٍذ، ثم استغفرَ له بعدُ، وقال له :" اعتق رقبة " وقيل : نزلت في المقداد، مرَّ برجل في غنمه فأراد قتله، فقال : لا إله إلا الله، فقتله وظفر بأهله وماله، وقيل : القاتل : مُحلِّم بن جَثَامة، والمقتول : عامرُ بن الأضبط. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يستفاد من الآية : الترغيب في خَصلتين ممدوحتين وخصوصًا عند الصوفية :
الأولى : التأني في الأمور والرزانة والطمأنينة، وعدم العجلة والخفة والطيش. وفي الحديث :" من تَأنَّى أصابَ أو كادَ، ومَن استعجَّلَ أخطَأ أو كَادَ ". ولا يُقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، ويفهم عن الله أنه مراد الله في ذلك الوقت.
والثانية : حُسْن الظن بعباد الله كافة، واعتقاد الخير فيهم، وعدم البحث عما اشتمل عليه بواطنهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام :" أُمِرتُ أن أحكم بالظواهر والله يتولى السرائر " ٢ وقال لأسامة :" هلاّ شققت عن قلبه "، حين قَتَلَ من قال : لا إله إلا الله، أو لغيره. وفي الحديث :" خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير : حُسن الظن بالله، وحُسن الظنِّ بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما من الشر شيء : سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله " والله تعالى أعلم.
١ عاقول من الجبل: أي منعطف من الجبل..
٢ أخرجه العجلوني في كشف الخفا ١/٢٢١، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ١١٤..
ولما نهى عن العجلة نهَّضهم إلى الجهاد لئلا يتوهم أنها مذمومة حتى في الجهاد، فقال :
﴿ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾
قلت :﴿ من المؤمنين ﴾ : حال من ﴿ القاعدين ﴾، و﴿ غير ﴾ بالرفع : صفة للقاعدين، وبالنصب : حال، وبالجر : بدل من المؤمنين، يقول الحقّ جلّ جلاله : ترغيبًا في الجهاد :﴿ لا يستوي القاعدون ﴾ عن الجهاد ﴿ من المؤمنين ﴾ مع المجاهدين في سبيل الله في الدرجة والأجر العظيم. ولما نزلت أتى ابنُ أم مكتوم وعبد الله بن جحش، وهما أعميان فقالا : يا رسول الله ذكرَ الله فضيلةَ المجاهدين على القاعدين، وحالُنا على ما ترى، ونحن نشتهي الجهاد، فهل من رخصة ؟ فأنزل الله :﴿ غير أُولي الضرر ﴾، فجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين ؛ لزمانتهم وحسن نياتهم.
ثم ذكر فضل مَن خرج من قعد لعذٍر فقال :﴿ فضِّل الله المجاهدين بأموالهم ﴾، مواساة للمجاهدين، ﴿ وأنفسهم ﴾ ببذلها في سبيل رب العالمين، ﴿ على القاعدين ﴾ لعذر، ﴿ درجة ﴾ واحدة، لمزيد مشقة السفر والغزو والخطر بالنفس للموت، ﴿ وكُلاًّ ﴾ من القاعدين لعلة والمجاهدين في سبيل الله، ﴿ وعد الله الحسنى ﴾ أي : المثوبة الحسنى، وهي الجنة. ﴿ وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين ﴾ من غير عذر ﴿ أجرًا عظيمًا ﴾ وخيرًا جسيمًا. وفي البخاري :" إنَّ لله مائةً درَجةٍ أعدَّها للمجاهدين في سبيلِ الله، ما بينَ الدَرجتين كَمَا بين السَّماءِ والأرضِ " الحديث.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لا يستوي القاعد مع حظوظه وهواه، مشتغلاً بتربية جاهه وماله وتحصيل مُناه، غافلاً عن السير إلى حضرة مولاه، مع الذي سلَّ سيفَ العزم في جهاد نفسه وهواه، وبذل مهجته وجاهد نفسه في طلب رضاه، حتى وصل إلى شهود أنوار جماله وسناه، هيهات هيهات، لا يستوي الأحياء مع الأموات، فإن قعد مع نفسه لعذر يُظهره، مع محبته لطريق القوم وإقراره لأهل الخصوصية، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين لنفوسهم بدرجة الشهود ومعرفة العيان للملك الودود، وإن قعد لغير عذر مع الإنكار لأهل الخصوصية، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين أجرًا عظيمًا، درجات منه بالترقي أبدًا، ومغفرة ورحمة، وفي البيضاوي : التفضيل بدرجة في جهاد الكفار، وبدرجات في جهاد النفس ؛ لأنه الأكبر للحديث والله تعالى أعلم.
و ﴿ درجة ﴾ : نصب على إسقاط الخافض، أو على المصدر، لأنه متضمن معنى التفضيل، أو على الحال، أي : ذوي درجة. و﴿ أجرًا عظيمًا ﴾ : مصدر لفضَّل، لأنه بمعنى أجرًا، أو مفعول ثان لفضَّل، لأنه بمعنى أعطى، أي : أعطاهم زيادة على القاعدين أجرًا عظيمًا، و﴿ درجات ﴾ وما بعده، كل واحد بدل من ﴿ أجرًا ﴾، و﴿ درجات ﴾ : نصب على المصدر، كقولك : ضربته أسواطًا، و﴿ أجرًا ﴾ : حال، تقدمت عليها ؛ لأنها نكرة و﴿ مغفرة ورحمة ﴾ : على المصدر بإضمار فعلهما.
ثم بيَّنها بقوله ﴿ درجات منه ﴾ أي : من فضله وإحسانه، ﴿ ومغفرة ﴾ لذنوبة، ﴿ ورحمة ﴾ تُقرِّبه إلى ربه، ﴿ وكان الله غفورًا ﴾ لما عسى أن يفرط منه، ﴿ رحيمًا ﴾ بما وعدَ له.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لا يستوي القاعد مع حظوظه وهواه، مشتغلاً بتربية جاهه وماله وتحصيل مُناه، غافلاً عن السير إلى حضرة مولاه، مع الذي سلَّ سيفَ العزم في جهاد نفسه وهواه، وبذل مهجته وجاهد نفسه في طلب رضاه، حتى وصل إلى شهود أنوار جماله وسناه، هيهات هيهات، لا يستوي الأحياء مع الأموات، فإن قعد مع نفسه لعذر يُظهره، مع محبته لطريق القوم وإقراره لأهل الخصوصية، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين لنفوسهم بدرجة الشهود ومعرفة العيان للملك الودود، وإن قعد لغير عذر مع الإنكار لأهل الخصوصية، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين أجرًا عظيمًا، درجات منه بالترقي أبدًا، ومغفرة ورحمة، وفي البيضاوي : التفضيل بدرجة في جهاد الكفار، وبدرجات في جهاد النفس ؛ لأنه الأكبر للحديث والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم من تخلف عن الهجرة والجهاد حتى مات، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين ﴾ تتوفاهم ﴿ الملائكة ﴾ أي : مَلَك الموت وأعوانه، يعني : تَقبِضُ أرواحهم، ﴿ ظالمي أنفسهم ﴾ بترك الهجرة ومرافقة الكفرة، ﴿ قالوا ﴾ أي : الملائكة في توبيخهم :﴿ فِيمَ كنتم ﴾ أي : في أي شيء كنتم من أمر دينكم : أعلى الشك أو اليقين ؟ أو : في أي بلد كنتم : في دار الكفر أو الإسلام ؟ ﴿ قالوا كنا مستضعفين في الأرض ﴾ فعجزنا عن الهجرة وإظهار الدين خوفًا من المشركين، ﴿ قالوا ﴾ أي : الملائكة تكذيبًا لهم وتبكيتًا :﴿ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾ إلى قطر آخر، كما فعل المهاجرون إلى الحبشة والمدينة، لكن حبستكم أموالُكم، وعزَّت عليكم أنفسكم، ﴿ فأولئك مأواهم جهنم ﴾ لتركهم الهجرة الواجبة في ذلك الوقت، ومساعدتهم الكفار على غزو المسلمين، ﴿ وساءت مصيرًا ﴾ أي : قبحت مصيرًا جهنم التي يصيرون إليها.
نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يُهاجروا، فخرجوا يوم بدر مع المشركين فرأوا قلةَ المسلمين، فقالوا : غرَّ هؤلاء دينُهم، فقُتِلوا، فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، كما يأتي، فلا تجوز الإقامة تحت حكم الكفر مع الاستطاعة، بل تجب الهجرة، ولا عذر في المقام، وإن منعه مانعٌ فلا يكون راضيًا بحاله مطمئنَ النفس بذلك، وإلا عمَّهُ البلاءُ، كما وقع لأهل الأندلس، حتى صار أولادُهم كفارًا والعياذ بالله، وكذلك لا تجوز الإقامة في موضعٍ تغلبُ فيه المعاصي وترك الدين.
قال البيضاوي : في الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن فيه الرجل من إقامة دينه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :" من فرَّ بدينه من أرض، ولو كان شبرًا من الأرض، استَوجَبَ الجنة، وكان رفيقَ إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام " ١. قلت : ويدخل فيه على طريق الخصوص من فرّ من موضع تكثر فيه الشهوات والعوائد، أو تكثر فيه العلائق والشواغل، إلى موضع يقلُّ فيه ذلك، طلبًا لصفاء قلبه ومعرفة ربه، بل هو أولى، ويكون رفيقاً لهما في حضرة القدس عند مليك مقتدر. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من لم يتغلغل في علم الباطن، مات ظالمًا لنفسه، أي : باخسًا لها ؛ لما فوَّتها من لذيذ الشهود، ومعرفة الملك المعبود، ولا يخلو باطنه من الإصرار على أمراض القلوب، التي هي من أكبر الذنوب، فإذا توفته الملائكة على هذه الحالة، قالت له : فيم كنتَ حتَّى لم تهاجر إلى من يُطهرك من العيوب، ويوصلك إلى حضرة علام الغيوب ؟ فيقول : كنتُ من المستضعفين في علم اليقين، ولم أقدر على صحبة أهل عين اليقين وحق اليقين ؛ حَبَسَنَي عنهم حُبُّ الأوطان، ومرافقة النساء والولدان. فيقال لهُ : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها إلى من يخلصك من الحجاب، وينفي عنك الشك والارتياب ؟ فلا جرم أن مأواه سجن الأكوان، وحرمان الشهود والعيان، إلاَّ من أقر بوجود ضعفه، واضطر إلى مولاه في تخليصه من نفسه، فعسى ربه أن يعطف عليه، فيوصله إلى عارف من أوليائه، حتى يلتحق بأحبابه وأصفيائه، وما ذلك على الله بعزيز.

١ أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٣٩٢..
ثم استثنى مَن تَحَقَّق إسلامُه وحبسه العذر، فقال :﴿ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ﴾ أي : المماليك والصبيان، وفيه إشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة، فلا محيص عنها، وأن قومهم يجب أن يهاجروا بهم متى أمكنت الهجرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما :" كنتُ أنا أبي وأُمي ممن استثنى الله بهذه الآية ".
ثم وصفهم بقوله ﴿ لا يستطيعون حيلة ﴾ أي : قوة على ما يتوقف عليه السفر، من ركوب أو غيره، ﴿ ولا يهتدون سبيلاً ﴾ أي : لا يعرفون طريقًا، ولا يجدون دليلاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من لم يتغلغل في علم الباطن، مات ظالمًا لنفسه، أي : باخسًا لها ؛ لما فوَّتها من لذيذ الشهود، ومعرفة الملك المعبود، ولا يخلو باطنه من الإصرار على أمراض القلوب، التي هي من أكبر الذنوب، فإذا توفته الملائكة على هذه الحالة، قالت له : فيم كنتَ حتَّى لم تهاجر إلى من يُطهرك من العيوب، ويوصلك إلى حضرة علام الغيوب ؟ فيقول : كنتُ من المستضعفين في علم اليقين، ولم أقدر على صحبة أهل عين اليقين وحق اليقين ؛ حَبَسَنَي عنهم حُبُّ الأوطان، ومرافقة النساء والولدان. فيقال لهُ : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها إلى من يخلصك من الحجاب، وينفي عنك الشك والارتياب ؟ فلا جرم أن مأواه سجن الأكوان، وحرمان الشهود والعيان، إلاَّ من أقر بوجود ضعفه، واضطر إلى مولاه في تخليصه من نفسه، فعسى ربه أن يعطف عليه، فيوصله إلى عارف من أوليائه، حتى يلتحق بأحبابه وأصفيائه، وما ذلك على الله بعزيز.
﴿ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ﴾. وعبَّر بحرف الرجاء إيذانًا بأنّ تركَ الهجرة أمرٌ خطير، حتى إن المضطر من حقه أن لا يأمن، ويترصد الفرصة، ويُعلِّقُ بها قلبه، ﴿ وكان الله غفورًا رحيمًا ﴾ فيعفو ويغفر لمن غلبه العذر.
وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من لم يتغلغل في علم الباطن، مات ظالمًا لنفسه، أي : باخسًا لها ؛ لما فوَّتها من لذيذ الشهود، ومعرفة الملك المعبود، ولا يخلو باطنه من الإصرار على أمراض القلوب، التي هي من أكبر الذنوب، فإذا توفته الملائكة على هذه الحالة، قالت له : فيم كنتَ حتَّى لم تهاجر إلى من يُطهرك من العيوب، ويوصلك إلى حضرة علام الغيوب ؟ فيقول : كنتُ من المستضعفين في علم اليقين، ولم أقدر على صحبة أهل عين اليقين وحق اليقين ؛ حَبَسَنَي عنهم حُبُّ الأوطان، ومرافقة النساء والولدان. فيقال لهُ : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها إلى من يخلصك من الحجاب، وينفي عنك الشك والارتياب ؟ فلا جرم أن مأواه سجن الأكوان، وحرمان الشهود والعيان، إلاَّ من أقر بوجود ضعفه، واضطر إلى مولاه في تخليصه من نفسه، فعسى ربه أن يعطف عليه، فيوصله إلى عارف من أوليائه، حتى يلتحق بأحبابه وأصفيائه، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم رغب في الهجرة، فقال :
﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾
قلت : المراغَم : المهرب والمذهب. قاله في القاموس. وقال البيضاوي : يجد متحولاً، من الرغام وهو التراب. وقيل : طريقًا يراغم قومه بسلوكه فيها، أي : يفارقهم على رغم أنوفهم، وهو أيضًا من الرغام.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن يهاجر في سبيل الله ﴾ لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه، ﴿ يجد في الأرض ﴾ فضاءً كثيرًا، ومتحولاً كبيرًا يتحول إليه، وسعة بدلاً من ضيق ما كان فيه، من قهر العدو ومنعه من إظهار دينه، أو سعةٌ في الرزق، وبسطًا في المعيشة، فلا عذر له في المقام في مكان مُضَيَّقٍ عليه فيه في أمر دينه، ﴿ ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ﴾ وجهادٍ في سبيله، ﴿ ثم يُدركه الموت ﴾ قبل وصوله فقد ثبت أجرُه، ووجب على الله وجوب امتنان أن يبلغه قصده بعد موته، ﴿ وكان الله غفورًا ﴾ لما سلف له من عدم المبادرة، ﴿ رحيمًا ﴾ به، حيث بلَّغه مأمولَه.
نزلت في جُندع بن ضَمرة، وكان شيخًا كبيرًا مريضًا، فلما سمع ما نزل في شأن الهجرة قال : والله ما أنا ممن استثنى الله، ولي مال يُبِلغني المدينة، والله لا أبيتُ الليلة بمكة، اخرجُوا بي، فخرجوا به على سريره حتى أتوا به التنعيم، فأدركه الموت بها، فَصفَّق بيمينه على شماله، وقال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك، أُبايعك على مَا بَايَعَك عليه رسولك، فمات حَمِيدًا. فقال الصحابة : لو وافَى المدينةَ، كان أتم أجرًا، وضحك المشركون، وقالوا : ما أدرك ما طلب. فنزلت :﴿ ومن يخرج من بيته. . . ﴾ الخ.
وقيل : نزلت في خالد بن حزام، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة، فنهشته حيَّةٌ في الطريق، فمات قبل أن يصل. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ومن يهاجر من وطن حظوظه وهواه، طلبًا للوصول إلى حضرة مولاه، يجد في أرض نفسه متسعًا للعلوم، ومفتاحًا لمخازن الفهوم، وسعة الفضاء والشهود، حتى ينطوي في عين بصيرته كلُّ موجود، ويتحقق بشهود واجب الوجود. ومن يخرج من بيت نفسه وسجن هيكله إلى طلب الوصول إلى الله ورسوله، ثم يُدركه الموت قبل التمكين، فقد وقع أجره على الله، وبلَّغه الله ما كان قَصَدَه وتمنُّاه، فيُحشر مع الصديقين أهلِ الرسوخ والتمكين، التي تلي درجتُهم درجةَ النبيين، وكذلك من مات في طلب العلم الظاهر ولم يدركه في حياته، حشِر مع العلماء، قال عليه الصلاة والسلام :" من جاءَه أجله وهو يطلبُ العلمَ لم يكن بينه وبين النبيين إلا درجةٌ واحدة " قلت : وهذه الدرجة التي بينه وبين النبوة هي درجة الصديقين المتقدمة قبله.
وكل من مات في طلب شيء من الخير، أدركه بعد موته بحسن نيته، كما في الأحاديث النبوية، قال القشيري : المهاجر في الحقيقة، من هاجر نفسه وهواه، ولا يصح ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته وقصوده، فمن قصَده أي قصد الحق تعالى ثم أدركه الأجلُ قبل وصوله، فلا ينزل إلا بساحات وصله، ولا يكون محط رفقته إلا مكان قربه. ه. وفي بعض الآثار : الهجرة هجرتان : هجرة صُغرى، وهجرة كبرى، فالصغرى : انتقال الأجسام مِن وطنٍ غير مرضي إلى وطن مرضي، والكبرى : انتقال النفوس من مألوفاتها وحظوظها إلى معرفة ربها وحقوقها. ه.
ثم ذكر ما يتعلق بالسفر ؛ من قصر وغيره، فقال :
﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإذا ضربتم في الأرض ﴾، أي : سافرتم للجهاد أو غيره من السفر المباح، أو المطلوب، ﴿ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ﴾ الرباعية إلى ركعتين، ونفيُ الجُناح يقتضي أنها رُخصة، وبه قال الشافعي، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتمّ في السفر وأن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله قَصَرْتَ وأتممْتُ، وصُمْتُ وأفطرتِ ؟ فقال " أحسنت يا عائشة " وأوجبه أبو حنيفة ؛ لقول عمر رضي الله عنه :( السفر ركعتان ؛ تمام غير قصر، على لسان نبيكم ). ولقول عائشة :( أول ما فرضت الصلاة ركعتان، فأقرت صلاة السفر، وزيدت في الحضر ).
وقال مالك رضي الله عنه : القصرُ سنة ؛ لكونه عليه الصلاة والسلام دام عليه في كل سفر، ولم يتُم إلا مرةً لبيان الجواز.
وقوله تعالى :﴿ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ﴾ ظاهرِه أن الخوف شرط في القصر، وبه قالت عائشة وعثمان رضي الله عنهما، والجمهور على عدم شرطه، وإنما ذكره الحق تعالى لكونه غالبًا في ذلك الوقت، فلا يعتبر مفهومه، أو يؤخذ القصر في الأمن من السُّنة. ويؤيد هذا حديثُ يَعلى بن أمِية، قلت لعمر بن الخطاب : إن الله يقول :﴿ إن خفتم ﴾، وقد أمن الناس ؟. فقال : عجبتُ مما تعجبتَ منه. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" صَدقةٌ تصدَّق به الله علَيكم، فاقبلوا صدَقته ". وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وهو آمن.
وليس في الآية ما يدل على تحديد المسافة التي تُقصَرُ فيها الصلاةُ، بل ذَكَرَ مطلقَ السفر، ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفر، طال أو قصر. ومذهب مالك والشافعي : أن المسافة أربعة بُردُ، واحتجوا بآثار عن ابن عمر وابن عباس. وقال أبو حنيفة : ستة بُرُد، وكذلك لم يقيد الحقُّ السفرَ بمباح ولا غيره، ولذلك أجاز أبو حنيفةٍ القصرَ في كل سفر. ومنعه مالك في سفر المعصية. ومنعه ابن حنبل في المعصية والمباح. والمراد بالفتنة في قوله :﴿ إن خفتم أن يفتنكم ﴾ : الجهاد والتعرض لما يُكره، وعداوة الكفار معلومة.
الإشارة : وإذا ضربتم في ميادين النفوس، وتحقق سيرُكم إلى حضرة القدوس، فلا جناح عليكم أن تقتصروا على المهم من الصلاة الحسية، وتدوموا على الصلاة القلبية، التي هي العكوف في الحضرة القدسية، إن خفتم أن تشغلكم عن الشهود حلاوةُ المعاملة الحسية. قال بعض العارفين : اتقوا حلاوة المعاملة، فإنها سموم قاتلة. وكذلك قال القطب بن مشيش في المقامات كالرضا، والتسليم : أخاف أن تشغلني حلاوتها عن الله. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر صلاة الخوف، فقال :
﴿ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَاتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإذا كنت فيهم ﴾ أيه الرسول ﴿ فأقمت لهم الصلاة ﴾، أي : صلاة الخوف، وكذلك الأمراء النائبون عنه، ﴿ فلتقم طائفة منهم معك ﴾، وطائفة تقف وجَاهَ العدو للحراسة، ﴿ وليأخذوا أسلحتهم ﴾ أي : المصلون معك، ﴿ فإذا سجدوا فليكونوا ﴾ أي : الطائفة الحارسة ﴿ من ورائكم ﴾ فإذا صلَّت نصفَ الصلاة مع الإمام، قضت في صلبه ما بقي لها وذهبت تحرس.
﴿ ولتأت طائفة أخرى لم يُصلوا فليُصلوا معك ﴾ النصف الباقي، فإذا سلمتَ، قضوا ما بقي لهم، فإذا كانت ثنائية : صلَّى بالأولى ركعةَ، وَثَبَتَ قائمًا ساكتًا أو قارئًا، ثم تصلي من صلت معه ركعة وتسلم، وتأتي الثانية فتكبر، فيُصلِي بها ركعةً ويسلم وتقضي ركعة. وإذا كانت رباعية، أو ثلاثية صلى بالأولى ركعتين، ثم تقوم الأولى فتصلي ما بقي لها وتسلم وتأتي الثانية فتكبر وتصلي معه ما بقي له، ثم تقضي ما بقي لها، هكذا قاله مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة : يصلي بالأولى ركعّة، ثم تتأخر وهي في الصلاة، وتأتي الثانية فيصلي بها ركعة، فإذا سلَّم ذهبت مكان الأولى قبل سَلاَمها، فتأتي الأولى فتصلي ركعة ثم تُسلَّم، وتأتي الثانية فتصلي ركعة ثم تُسلَّم. وفي صلاة الخوف عشرة أقوال على حسب الأحاديث النبوية، لأنها تعدَّدت منه صلى الله عليه وسلم، فكل واحد أخذ بحديث، وما قاله مالك والشافعي هو الذي فعله عليه الصلاة والسلام في غزوة ذات الرقاع.
ثم أمر الطائفة الحارسة بأخذ السلاح، والحذر من العدو فقال :﴿ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ﴾، ثم ذكر عِلَّةَ الحذر فقال :﴿ ودّ الذين كفروا لو تَغْفُلُون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ﴾ أي : تمنوا أن ينالوا منكم غرة، فيشدون عليكم شدة واحدة فيستأصلونكم.
رُوِي أن المشركين لما رأوا المسلمين صلوا صلاة الظهر ندموا أن لو كانوا أغاروا عليهم في الصلاة، ثم قالوا : دعوهم فإن لهم صلاة هي إليهم أحب من آبائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر، فلما قام النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة العصر نزل جبريلُ بصلاة الخوف.
ثم رخَّص لهم في وضع السلاح، لعذرٍ فقال :﴿ ولا جناح عليكم ﴾ أي : لا إثم ﴿ إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ﴾ منهم بالحراسة. رُوِي أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف، مَرِضَ فوضع سلاحه، فعنَّفه أصحابُه، فنزلت الآية.
ثم هوَّن شأن الكفار بعد أن أمر بالحذر منهم فقال :﴿ إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا ﴾ في الدنيا والآخرة.
قال البيضاوي : وعد المؤمنين بالنصرة على الكفار، بعد الأمر بالحذر، ليقوي قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لضعفهم وغلبة عدوهم، بل إن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبير.
الإشارة : إذا كنت في جند الأنوار، وأحدَقَت بك حضرة الأسرار، ثم نزلتَ إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ فلتقم طائفة من تلك الأنوار معك، لتحرسك من جيش الأغيار وجند الأكدار، حتى يكون رجوعُك إلى الآثار مصحوبًا بكسوة الأنوار وحليلة الاستبصار، فيكون رجوعك إليها بالله لا بنفسك، فإذا سجد القلبُ في الحضرة كانت تلك الأنوار من ورائه والأسرار من أمامه، ﴿ وَاللهُ مِن وَرَآئِهِم مُحِيطُ ﴾ [ البُرُوج : ٢٠ ]، ولتأت طائفة أخرى لم تصل هذه الصلاة ؛ لأنها لم تبلغ هذا المقام، فلتصل معك اقتباسًا لأنوارك، لكن تأخذ حذرها وتستعد من خواطر الأشغال، كي لا تميل عليهم فتفتنهم عن الحضور مع الكبير المتعال، فإن كان مريض القلب بالهوى وسائر العلل، فلا يكلف من الحضور إلا ما يطيقه، لأن القط لا يكلف بحمل الجمل. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ما يعين على الحضور، ويتحصن به من العدو الكفور ؛ وهو ذكر الله، فقال :
﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتا ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : فإذا فرغتم من الصلاة ﴿ فاذكروا الله ﴾ في جميع أحوالكم ﴿ قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم ﴾ إن أردتم حراسة قلوبكم، والنصر على عدوكم، أو إذا أردتم قضاءَ الصلوات وأداء فرضها، وأنتم في المعركة، فصلوا كما أمكنكم ﴿ قيامًا ﴾ راجلين أو على خيولكم إيماءً، وحلَّ للضرورة حينئٍذ مشى وركض وطعن وعدم توجه وإمساك ملطخ، وتنبيهٌ وتحذيرٌ، هذا للصحيح، ﴿ وقعودًا وعلى جنوبكم ﴾، للمريض أو الجريح، هكذا قال جمهور الفقهاء في صلاة المسايفة١ وقال أبو حنيفة : لا يصلي المحارب حتى يطمئن.
﴿ فإذا اطمأننتم ﴾ وذهب الخوفُ عنكم ﴿ فأقيموا الصلاة ﴾ على هيأتها المعلومة، واحفظوا أركانها وشروطها، وأُتوا بها تامة، ﴿ إن الصلاة كانت المؤمنين كتابًا موقوتًا ﴾ أي : فرضًا محدود الأوقات، لا يجوز إخراجها عن وقتها في شيء من الأحوال. قال البيضاوي : وهذا دليل على أن المراد بالذكر الصلاة، وأنها واجبة الأداء، حال المسايفة، والاضطراب في المعركة، وتعليلٌ للأمر بالإتيان بها، كيف أمكن.
الإشارة : إذا فرغتم من الصلاة الحسية، فاستغرقوا أحواكم في الصلاة القلبية، حتى تطمئن قلوبكم في الحضرة القدسية، فإذا اطمأننتم في الحضرة، فأقيموا صلاة الشهود والنظرة، وهي الصلاة الدائمة، قال تعالى :
﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ ﴾ [ المعَارج : ٢٣ ]. وقال الورتجبي : إذا كنتم في حالةِ التمكين وامتلأتم من أنوار ذكره، فينبغي أن تخرجوا من أبواب الرخص، والاستراحة في سعة الروح، وترجعوا إلى مقام الصلاة، فإن آخر سيركم في ربوبيتي : أول بدايتكم في عبوديتي. ه.
١ صلاة المسايفة: أي صلاة الخوف، والمسايفة: المبارزة بالسيف..
ثم حذرهم من الوهن في أمر الجهاد، فقال :
﴿ وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ كَمَا تَألَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾
قلت : الوهن : الفشل والضعف.
يقول الحقّ جلّ جلاله : لا تضعفوا في طلب ﴿ القوم ﴾، أي : الكفار، فتجاهدوهم في سبيل الله، فإن الحرب دائرة بينهم وبينكم، قد أصابهم مثل ما أصابكم، فإن ﴿ تكونوا تألمون ﴾، أي : تتوجعون من الجراح، ﴿ فإنهم يألمون كما تألمون ﴾، وأنتم ترجون من الله النصر والعز في الدنيا، والدرجات العلا في الآخرة، وهم لا يرجون ذلك، فحقكم أن تكونوا أصبر وأرغب في الجهاد منهم، ﴿ وكان الله عليمًا ﴾ بأعمالكم وضمائركم، ﴿ حكيمًا ﴾ فيما يأمركم به وينهاكم.
الإشارة : لا تهنوا عن طلب الظفر بنفوسكم، ولا تفشلوا عن السير إلى حضرة ربكم، فإن كنتم تألمون حال محاربتها ومخالفة شهواتها، فإنها تألم مثلكم، ما دامت لم ترتض في حضرة ربكم، فإذا ارتاضَت وتحلت صار المُر عندها حلوًا، وذلك إنما يكون بعد موتها وحياتها، فدوموا على سياستها ورياضتها، فإنكم ترجون من الله الوصول، وبلوغ المأمول، وهي ترجو الرجوع إلى المألوفات وركوب العادات، فاعكسوا مُراداتها، حتى تطمئن في حضرة ربها، فتأمن غوائلها، فليس بعد الوصول رجوع، ولا إلى العوائد نزوع، والله غالب على أمره.
ثم ذكر ما يتعلق بحفظ اللسان، وهو الأمر الخامس من مضمون السورة، فقال :
﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾
قلت : أرى، هنا عرفانية، لا علمية. فلذلك لم تتعد إلى ثلاثة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيّه عليه الصلاة والسلام حين همَّ أن يخاصم عن طُعمَة بن أبَيرِق، وذلك أنه سرق درعًا من جاره قتادة بن النعمان، في جراب دقيق، فجعل الدقيق يسقط من خرق فيه، وخبَّأها عند يهودي، فالتمس الدرع عند طعمة، فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال اليهودي : دَفَعَهَا إليَّ طُعمَة، وشهد له ناس، من اليهود، فقال رهط طعمة من بني ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله أن يجادل عن صاحبنا، وقالوا : إن لم يفعل هلك وأفتضح، وبرئ اليهودي، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتماداً على ظاهر الأمر، ولم يكن له علم بالواقعة، فنزلت الآية :
﴿ إنا أنزلنا إليكم الكتاب بالحق ﴾ أي : ملتبسًا بالحق ﴿ لتحكم ﴾ بما فيه من الحق ﴿ بين الناس ﴾ بسبب ما ﴿ أراك ﴾ أي : عَرَّفك ﴿ الله ﴾ بالوحي، أو بالاجتهاد، ففيه دليل على إثبات القياس، وبه قال الجمهور. وفي اجتهاد الأنبياء خلاف. ﴿ ولا تكن للخائنين خصيمًا ﴾ أي : عنهم للبرآء، أو لأجلِهم والذَّبَّ عنهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة، حمية أو رشوة، فإن القضاء جُلّة فِراسة، وفيها عتاب لشيوخ التربية، إذا ظهر لهم عيب في المريد ستروه عليه حيَاء أو شفقة، ولذلك قالوا : شيخ التربية لا تليق به الشفقة، غير أنه لا يُعيَّن، بل يذكر في الجملة، وصاحب العيب يفهم نفسه، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس، وأظهروا لهم ما يُحبون، وأخفوا عنهم ما لا يرضون، لقوله ـ سبحانه ـ :﴿ يستخفون من الناس... ﴾ الآية، بل ينبغي أن يكونوا بالعكس من هذا، قال بعضهم : إن الذين تكرهون مني، هو الذي يشتهيه قلبي. والله تعالى أعلم.
﴿ واستغفر الله ﴾ مما هممت به، ﴿ إن الله كان غفورًا رحيمًا ﴾، وفيه دليل على منع الوكالة عن الذمي، وبه قال ابن شعبان. وقال ابن عات : لعله أراد الندب. وقال مالك بن دينار : كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة. والوكالة من الأمانة، والمصطفى عليه الصلاة والسلام لم يقصد شيئًا من ذلك، ولا علم له بالواقعة، لولا أطلعَه تعالى، فلا نقص في اهتمامه، ولا درك١ يلحقه. وبالجملة، فالآية خرجت مخرج التعريف بحقيقة الأمر في النازلة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة، حمية أو رشوة، فإن القضاء جُلّة فِراسة، وفيها عتاب لشيوخ التربية، إذا ظهر لهم عيب في المريد ستروه عليه حيَاء أو شفقة، ولذلك قالوا : شيخ التربية لا تليق به الشفقة، غير أنه لا يُعيَّن، بل يذكر في الجملة، وصاحب العيب يفهم نفسه، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس، وأظهروا لهم ما يُحبون، وأخفوا عنهم ما لا يرضون، لقوله ـ سبحانه ـ :﴿ يستخفون من الناس... ﴾ الآية، بل ينبغي أن يكونوا بالعكس من هذا، قال بعضهم : إن الذين تكرهون مني، هو الذي يشتهيه قلبي. والله تعالى أعلم.

١ الدرك: تبعة..
ثم نهاه عن الذبّ عنهم، فقال :﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾ وهم رهط بن أبيرق السارق، قال السهيلي : هم بِشر وبشير ومُبشر وأُسَير، ﴿ إن الله لا يحب مَن كان خوّانًا ﴾ أي : كثير الخيانة، ﴿ أثيمًا ﴾ أي : مصرًا عليها، رُوِي أن طعمة هرب إلى مكة، وارتدَّ، ونَقَبَ حائطًا بها ليسرق أهله، فسقط الحائط عليه فقتله، ويستفاد من الآية امتناع الجدال عمن عُلِمَت خيانتُه بالأحرى، أو كان مظنة الخيانة، كالكافر ونحوه. وكذا قال ابن العربي في أحكام القرآن في هذه الآية : إن النيابة عن المبطل المتهم في الخصومة لا تجوز، بدليل الآية. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة، حمية أو رشوة، فإن القضاء جُلّة فِراسة، وفيها عتاب لشيوخ التربية، إذا ظهر لهم عيب في المريد ستروه عليه حيَاء أو شفقة، ولذلك قالوا : شيخ التربية لا تليق به الشفقة، غير أنه لا يُعيَّن، بل يذكر في الجملة، وصاحب العيب يفهم نفسه، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس، وأظهروا لهم ما يُحبون، وأخفوا عنهم ما لا يرضون، لقوله ـ سبحانه ـ :﴿ يستخفون من الناس... ﴾ الآية، بل ينبغي أن يكونوا بالعكس من هذا، قال بعضهم : إن الذين تكرهون مني، هو الذي يشتهيه قلبي. والله تعالى أعلم.
ثم فَضحَ سرهم، فقال :﴿ يستخفون من الناس ﴾ أي : يستترون منهم، ﴿ ولا يستخفون من الله ﴾ وهو أحق أن يستحيا منه ويُخاف ﴿ وهو معهم ﴾ لا يخفى عليه شيء، فلا طرق للنجاة إلا تَركُ ما يستُقبح، ويؤاخذ عليه سرًا وجهرًا. ﴿ إذ يُبيتون ﴾ أي : يدبرون ويُزَوِّرُون ﴿ ما لا يرضى من القول ﴾ من رمي البريء، والحلف الكاذب، وشهادة الزور، ﴿ وكان الله بما يعملون محيطًا ﴾ لا يفوته شيء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة، حمية أو رشوة، فإن القضاء جُلّة فِراسة، وفيها عتاب لشيوخ التربية، إذا ظهر لهم عيب في المريد ستروه عليه حيَاء أو شفقة، ولذلك قالوا : شيخ التربية لا تليق به الشفقة، غير أنه لا يُعيَّن، بل يذكر في الجملة، وصاحب العيب يفهم نفسه، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس، وأظهروا لهم ما يُحبون، وأخفوا عنهم ما لا يرضون، لقوله ـ سبحانه ـ :﴿ يستخفون من الناس... ﴾ الآية، بل ينبغي أن يكونوا بالعكس من هذا، قال بعضهم : إن الذين تكرهون مني، هو الذي يشتهيه قلبي. والله تعالى أعلم.
﴿ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ﴾ ودفعتم عنهم المعرة، ﴿ فَمن يجادل الله عنهم ﴾ أي : مَن يُدافُع عنهم عذابه ﴿ يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً ﴾ يحميهم من عقاب الله، حين تُفضَح السرائر، ولا تنفع الأصحاب ولا العشائر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة، حمية أو رشوة، فإن القضاء جُلّة فِراسة، وفيها عتاب لشيوخ التربية، إذا ظهر لهم عيب في المريد ستروه عليه حيَاء أو شفقة، ولذلك قالوا : شيخ التربية لا تليق به الشفقة، غير أنه لا يُعيَّن، بل يذكر في الجملة، وصاحب العيب يفهم نفسه، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس، وأظهروا لهم ما يُحبون، وأخفوا عنهم ما لا يرضون، لقوله ـ سبحانه ـ :﴿ يستخفون من الناس... ﴾ الآية، بل ينبغي أن يكونوا بالعكس من هذا، قال بعضهم : إن الذين تكرهون مني، هو الذي يشتهيه قلبي. والله تعالى أعلم.
ثم حضهم على التوبة، فقال :
﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن يعمل سوءًا ﴾ أي : ذنبًا قبيحًا يسوءُ به غيره، ﴿ أو يظلم نفسه ﴾ بذنب يختص به، أو من يعمل سوءًا بذنبٍ غيرِ الشرك، أو يظلم نفسه بالشرك، أو من يعمل سوءًا بالكبيرة، أو يظلم نفسه بالصغيرة، ﴿ ثم يستغفر الله ﴾ بالتوبة ﴿ يجد الله غفورًا ﴾ لذنوبه ﴿ رحيمًا ﴾ بقبول توبته، وفيه حث لطُعمَة وقومِه على التوبة والاستغفار.
الإشارة : ومن يعمل سوءًا بالميل إلى الهوى، أو يظلم نفسه بالالتفات إلى السوى، أو من يعمل سوءًا بالهفوات والخطرات، أو يظلم نفسه بالغفلات والفترات، أو من يعمل سوءًا بالوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات، أو يظلم نفسه بالقناعة من الترقي في الدرجات والمقامات، ثم يستغفر الله من حينه يجد الله غفورًا رحيمًا، حيث لم يُخرِجهُ من حضرته، ولم يتركه مع غفلته.
ثم عاتب رهط السارق على رميهم الغير بالسرقة، فقال :
﴿ وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن يكسب إثمًا ﴾ كسرقة أو يمين فاجرة، أو رمى غيره بجريمة، ﴿ فإنما يكسبه على نفسه ﴾ لا يتعدى ضررها إلى غيره، ﴿ وكان الله عليمًا ﴾ بسرائر عباده ﴿ حكيمًا ﴾ في إمهالهم وسترهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الإثم : ما حاك في الصدر وتلجلج فيه، ولم ينشرح إليه الصدر، وضده البر ؛ وهو ما ينشرح إليه الصدر ويطمئن إليه القلب، فكل من فعل شيئًا قد تلجلج قلبه منه ولم يقبله ؛ نقص من نوره، وأظلم قلبه منه، وإليه الإشارة بقوله :﴿ ومن يكسب إثمًا... ﴾ الآية، أي : فإنما يُسَوِّدُ به نور نفسه وروحه، ومن تلبَّس بذنب أو عيب، ثم برح به غيرَه من باب سُوءِ الظن ﴿ فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا ﴾ لأن الواجب على المريد السائر أن يشهد الصفاء من غيره، ويُقصر النقصَ على نفسه، والواصل يرى الكمال في كل شيء لمعرفته في كل شيء. والله تعالى أعلم.
﴿ ومن يكسب خطيئة ﴾ أي : جريمة تتعدى إلى ضرر غيره، ﴿ أو إثمًا ﴾ يختص بنفسه، ﴿ ثم يَرمِ به بريئًا ﴾ منه، كما رمى طُعمَةُ زيدًا اليهوديِّ، ﴿ فقد احتمل بهتانًا ﴾ وهو أن يبهت الرجل بما لم يفعل، ﴿ وإثمًا مبينًا ﴾ أي : ذنبًا ظاهرًا، لا يخفى قبحه وبشاعته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الإثم : ما حاك في الصدر وتلجلج فيه، ولم ينشرح إليه الصدر، وضده البر ؛ وهو ما ينشرح إليه الصدر ويطمئن إليه القلب، فكل من فعل شيئًا قد تلجلج قلبه منه ولم يقبله ؛ نقص من نوره، وأظلم قلبه منه، وإليه الإشارة بقوله :﴿ ومن يكسب إثمًا... ﴾ الآية، أي : فإنما يُسَوِّدُ به نور نفسه وروحه، ومن تلبَّس بذنب أو عيب، ثم برح به غيرَه من باب سُوءِ الظن ﴿ فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا ﴾ لأن الواجب على المريد السائر أن يشهد الصفاء من غيره، ويُقصر النقصَ على نفسه، والواصل يرى الكمال في كل شيء لمعرفته في كل شيء. والله تعالى أعلم.
ثم شهد لرسوله بالهداية والعناية، فقال :
﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
قلت : الجارّ في قوله :﴿ من شيء ﴾، في موضع نصب على المصدر، أي : لا يضرونك شيئًا من الضرر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولولا فضل الله عليك ﴾ بالعصمة ورحمته بالعناية، ﴿ لهمت طائفة منهم ﴾ وهم رهط السارق ﴿ أن يضلوك ﴾ عن القضاء بالحق، مع علمهم بالقصة، لكن سبقت العناية، وحفت الرعاية، فلم تخرج من عين الهداية. وليس المراد نفي همهم لأنه وقع، إنما المراد نفي تأثيره فيه، ﴿ وما يضلون إلا أنفسهم ﴾ لعوده عليهم، ﴿ وما يضرونك من شيء ﴾ ؛ لأن الله عصمك، وما خطر ببالك من المجادلة عنهم، كان اعتمادًا منك على ظاهر الأمر وإنما أُمرتَ أن تحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر.
﴿ وأنزل الله عليك الكتاب ﴾ أي : القرآن، ﴿ والحكمة ﴾ ما نطقتَ به من الحِكَم، ﴿ وعَلَّمَكَ ما لم تكن تعلم ﴾ من خفيات الأمور، التي لم تطلع عليها، أو من أمور الدين والأحكام، ﴿ وكان فضل الله عليك عظيمًا ﴾ ولا فضل أعظم من النبوة، لا سيما وقد فضَّله على كافة الخلق وأرسله إلى كافة الناس، وهدى الله على يديه ما لم يَهدِ على يدِ أحد من الأنبياء قبله، إلى غير ذلك من الفضائل التي تفوت الحصر.
الإشارة : لولا أن الله تفضَّل على أوليائه بسابق العناية، وحفَّت بهم منه الكلاءة والرعاية، لأضلتهم العموم عن عين التحقيق، ولأتلفتهم القواطع عن سلوك الطريق، لكن من سبقت له العناية لا يصيبه سهمُ الجناية، فثَّبتَ أقدامهم على سير الطريق، حتى أظهر لهم معالم التحقيق، فكشف عن قلوبهم رين الحجاب، حتى فهموا أسرار الكتاب، ونبع من قلوبهم ينابيع الحَكَم والأسرار، واطلعوا على علوم لم يُحِط بها كتاب ولا دفتر، فحازوا في الدارين خيرًا جسيمًا، وكان فضل الله عليهم عظيمًا.
ولما ظهرت السرقة على طعمة، كثر في شأنه التناجي والخوض فيما لا يعني، فنهاهم الحق عن ذلك فقال :
﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾
قلت : إن كان المراد بالنجوى الكلام الخفي ؛ فالاستثناء منقطع، وقد يكون متصلاً على حذف مضاف ؛ أي : إلا نجوى مَن أمر. . . الخ، وإن كان المراد بالنجوى الجماعة المتناجين، بالاستثناء متصل. قاله ابن جزي.
يقول الحقّ جلّ جلاله : محرّضًا على الصمت :﴿ لا خير في كثير ﴾ مما يتناجون به في شأن السارق أو غيره، بل لا خير في الكلام بأسره ﴿ إلا من أمر بصدقة ﴾ واجبة أو تطوعية، فله مثل أجره، ﴿ أو معروف ﴾ وهو : ما يستحسنه الشرع، ويوافقه العقل، كالقرض، وإغاثة الملهوف، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وغير ذلك من أنواع المعروف. أو أمر بإصلاح ﴿ بين الناس ﴾، أي : إصلاحات ذات البين، كإصلاح بين طعمة واليهودي وغيرهما. قال مجاهد :( هي عامة للناس )، يريد أنه لا خير فيما يتناجى في الناس، ويخوضون فيه من الحديث، إلا ما كان من أعمال الخير.
﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ أي : الصدقة، والمعروف والإصلاح، ﴿ ابتغاء مرضات الله ﴾ أي : مُخلصًا لله ﴿ فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا ﴾ وخيرًا جسيمًا. قال البيضاوي : بَنَى الكلامَ على الأمر، ورتَّب الجزاء على الفعل، ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخَيّرين كان الفاعل أدخل فيهم، وأن العمدة والغرض هو الفعل، واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه. وقيد الفعل بأن يكون لطلب مرضاة الله ؛ لأن الأعمال بالنيات، وإن من فعل خيرًا رياء وسمعة، لم يستحق بها من الله أجرًا، ووصف الأجر بالعظم تنبيهًا على حقارة ما فات في جنبه من أغراض الدنيا. ه.
الإشارة : في الآية حثٌّ على الصمت، وهو ركن قوي في طريق التصوف، وهو أحد الأركان الأربعة ؛ التي هي : العزلة والجوع والسهر، فهذه طريق أهل البداية، ومن لا بداية له لا نهاية له، وقالوا : بقدر ما يصمت اللسان ؛ يعمر الجنان، وبقدر ما كان يتكلم اللسان يخرب الجنان. وقالوا أيضًا : إذا كثر العلمُ قلَّ الكلام، وإذا قل العلم كثر الكلام، وقالوا أيضًا : من عرف الله كَلَّ لسانهُ. وقيل لبعض العلماء : هل العلم فيما سلف أكثر، أو اليوم أكثر ؟ قال : العلم فيما سلف أكثر، والكلامُ اليومَ أكثر.
وفي قوله :﴿ ومن يفعل ذلك. . . ﴾ إشارة إلى أن العمل أشرف من العلم بلا عمل. والله تعالى أعلم.
ثم نزل في شأن طعمة، لما هرب وارتد مشركا :
﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾
قلت : المشاقة : المخالفة والمباعدة، كأن كل واحد من المتخالفين في شَقِّ غيرِ شقَّ الآخر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن ﴾ يخالف ﴿ الرسول ﴾ ويتباعد عنه ﴿ من بعد ما تبين له الهدى ﴾ أي : بعد ما تحقق أنه على الهدى ؛ بالوقوف على المعجزات، فيترك طريق الحق ﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين ﴾ أي : يسلك غير ما هم عليه، من اعتقاد أو عمل. ﴿ نوله ما تولى ﴾ أي : نتركه مع ما تولى، ونجعله وليًّا له، ونُخَلِّي بينه وبين ما اختاره من الضلالة، ﴿ ونُصله جهنم ﴾ أي : ندخله فيها، ونشويه بها، ﴿ وساءت مصيرًا ﴾ أي : قَبُحت مصيرًا جهنم التي يصير إليها. والآية تَدُل على حرمة مخالفة الإجماع، لأن الله رتَّب الوعيد الشدد على مشاقة الرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين، وكل منهما محرم وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرمًا، كان اتباع سبيلهم واجبًا، انظر البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من خالف شيخه، وسلك طريقًا غير طريقة ؛ ولاه الله ما تولى، واستدرجه من حيث لا يشعر، وقد تؤخر العقوبة عنه فيقول : لو كان هذا فيه سوء أدب مع الله، لقطع الإمداد وأوجب البعاد، وقد يقطع عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا وتخليته وما يريد. وبالجملة : فالخروج عن مشايخ التربية والانتقال عنهم، ولو إلى من هو أكمل في زعمه، بعد ما ظهر له الفتح والهداية على يديه ؛ طردٌ وبعدٌ، وإفساد لبذرة الإرادة، فلا نتيجة له أصلاً. والله تعالى أعلم. وبالله التوفيق.
ثم نزل في طُعمة لما ارتد مشركًا :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ وقيل : كرر للتأكيد تقبيحًا لشأن الشرك، وقيل : أتى شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئًا منذ عرفتُه وآمنتُ به، ولم أتخذ من دونه وليًا، ولم أوقع المعاصي جرأة، وما توهمت طرفة عين أني أُعجز الله هربًا، وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله ؟ فنزلت. ﴿ ومن يشرك بالله فقد ضل ﴾ عن الحق ﴿ ضلالاً بعيدًا ﴾ ؛ لأن الشّرك أقبح أنواع الضلالة، وأبعدها عن الثواب والاستقامة، وإنما ذكر في الآية الأولى. ﴿ فقد افترى ﴾ ؛ لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم نوع افتراء، وهو دعوى الشيء على الله. قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من خالف شيخه، وسلك طريقًا غير طريقة ؛ ولاه الله ما تولى، واستدرجه من حيث لا يشعر، وقد تؤخر العقوبة عنه فيقول : لو كان هذا فيه سوء أدب مع الله، لقطع الإمداد وأوجب البعاد، وقد يقطع عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا وتخليته وما يريد. وبالجملة : فالخروج عن مشايخ التربية والانتقال عنهم، ولو إلى من هو أكمل في زعمه، بعد ما ظهر له الفتح والهداية على يديه ؛ طردٌ وبعدٌ، وإفساد لبذرة الإرادة، فلا نتيجة له أصلاً. والله تعالى أعلم. وبالله التوفيق.
ثم قبح شأن الشرك، وشنع قبحه، فقال :
﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً أُوْلَائِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ﴾
قلت : المَرِيد والمارد ؛ هو الذي لا يعلق بخير، وأصل التركيب للملابسة، ومنه : صرح ممرَّد، وغلام أمرد، وشجرة مردى، أي : سقط ورقها. قاله البيضاوي. ه. وقيل : المريد : الشديد العاتي، الخارج عن الطاعة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إنْ يدعون ﴾ : ما يعبدون ﴿ من دونه ﴾ تعالى ﴿ إلا إناثًا ﴾ كاللات والعزى ومناة، فإن ألفاظها مؤنثة عندهم، أو لأنها جوامد لا تعقل، فهي منفعلة لا فاعلة، ومن حق المعبود أن يكون فاعلاً غير منفعل، أو يريد الملائكة ؛ لأنهم كانوا يعبدونها، ويزعمون أنها بنات الله، وما يعبدون في الحقيقة ﴿ إلا شيطانًا مريدًا ﴾ عاصيًا، لأنه هو الذي أمرهم بها، وأغراهم عليها، وكان يكلمهم من أجوافها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما أحببت شيئًا إلا كنت له عبدًا، فاحذر أن تكون ممن يَعبُد من دون الله إناثًا، إن كنت تحب نفسك، وتؤثر هواها على حق مولاها، أو تكون عبد المرأة أو الخميصة١ أو البهيمة، أو غير ذلك من الشهوات التي أنت تحبها، واحذر أيضًا أن تكون من نصيب الشيطان بإيحاشك إلى الكريم المنان، وفي الحِكَم :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". فاشتغل بمحبة الحبيب، يكفيك عداوة العدو، فاتخذ الله وليًا وصاحبًا، ودع الشيطان جانبًا، غِب عن الشيطان باستغراقك في حضرة العِيان. وبالله التوفيق.
ثم وصفه بأوصاف تُوجب التنفير عنه فقال :﴿ لعنه الله ﴾ أي : أبعده من رحمته ﴿ وقال لأتخذنّ من عبادك نصيبًا مفروضًا ﴾ أي : مقطوعًا فرضته لنفسي، من قولهم : فرض له في العطاء، أي : قطع.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما أحببت شيئًا إلا كنت له عبدًا، فاحذر أن تكون ممن يَعبُد من دون الله إناثًا، إن كنت تحب نفسك، وتؤثر هواها على حق مولاها، أو تكون عبد المرأة أو الخميصة١ أو البهيمة، أو غير ذلك من الشهوات التي أنت تحبها، واحذر أيضًا أن تكون من نصيب الشيطان بإيحاشك إلى الكريم المنان، وفي الحِكَم :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". فاشتغل بمحبة الحبيب، يكفيك عداوة العدو، فاتخذ الله وليًا وصاحبًا، ودع الشيطان جانبًا، غِب عن الشيطان باستغراقك في حضرة العِيان. وبالله التوفيق.
﴿ ولأضلنّهم ﴾ عن الحق ﴿ لأمنينّهم ﴾ الأماني الباطلة، كطول الحياة، وألاَّ بعث ولا عقاب، ﴿ ولآمرنهم فليبتكنّ آذان الأنعام ﴾ أي : يشقونها لتحريم ما أحل الله، وهي عبارة عما كانت العرب تفعل بالبحائر والسوائب، وإشارة إلى تحريم كل ما أحل الله، ونقص كل ما خلق الله كاملاً بالفعل أو بالقوة، ﴿ ولآمرنهم فليُغَيّرُنّ خلق الله ﴾ ؛ صورة أو صفة، فيندرج فيه خصاء العبيد والوشم، والتنمص وهو نتف الحاجب.
زاد البيضاوي : واللواط، والمساحقة، وعبادة الشمس القمر، وتغيير فطرة الله التي هي الإسلام، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالاً ولا يوجب لها من الله زلفى. وعموم اللفظ يقتضي منع الخِصاء مطلقًا، لكن الفقهاء رخصوا في خصاء البهائم للحاجة، والجُمل الأربع حكاية عما ذكره الشيطان نطقًا، أو أتاه فعلاً. ه.
ثم حذّر منه فقال :﴿ ومن يتخذ الشيطان وليًّا من دون الله ﴾ باتباعه فيما أمره به دون ما أمر الله به، ﴿ فقد خسر خسرانًا مبينًا ﴾ واضحًا ؛ حيث ضيع رأس ماله، وأبدل بمكانة من الجنة مكانه من النار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما أحببت شيئًا إلا كنت له عبدًا، فاحذر أن تكون ممن يَعبُد من دون الله إناثًا، إن كنت تحب نفسك، وتؤثر هواها على حق مولاها، أو تكون عبد المرأة أو الخميصة١ أو البهيمة، أو غير ذلك من الشهوات التي أنت تحبها، واحذر أيضًا أن تكون من نصيب الشيطان بإيحاشك إلى الكريم المنان، وفي الحِكَم :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". فاشتغل بمحبة الحبيب، يكفيك عداوة العدو، فاتخذ الله وليًا وصاحبًا، ودع الشيطان جانبًا، غِب عن الشيطان باستغراقك في حضرة العِيان. وبالله التوفيق.
﴿ يعدهم ﴾ أي : الشيطان، أمورًا لا تُنجز لهم، ﴿ ويمنّيهم ﴾ أماني لا تعطى لهم، ﴿ وما يعدهم ﴾ أي :﴿ الشيطان إلا غرورًا ﴾، وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر، فكان يوسوس لهم أنهم على الحق وأنهم أولى بالجنة، إلى غير ذلك من أنواع الغرور.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما أحببت شيئًا إلا كنت له عبدًا، فاحذر أن تكون ممن يَعبُد من دون الله إناثًا، إن كنت تحب نفسك، وتؤثر هواها على حق مولاها، أو تكون عبد المرأة أو الخميصة١ أو البهيمة، أو غير ذلك من الشهوات التي أنت تحبها، واحذر أيضًا أن تكون من نصيب الشيطان بإيحاشك إلى الكريم المنان، وفي الحِكَم :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". فاشتغل بمحبة الحبيب، يكفيك عداوة العدو، فاتخذ الله وليًا وصاحبًا، ودع الشيطان جانبًا، غِب عن الشيطان باستغراقك في حضرة العِيان. وبالله التوفيق.
﴿ أولئك ﴾ المغرورون ﴿ مأواهم جهنم ﴾ أي : هي منزلهم ومقامهم، ﴿ ولا يجدون عنها محيصًا ﴾ أي : مهربًا ولا معدلاً. من حاص يحيص : إذا عدل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما أحببت شيئًا إلا كنت له عبدًا، فاحذر أن تكون ممن يَعبُد من دون الله إناثًا، إن كنت تحب نفسك، وتؤثر هواها على حق مولاها، أو تكون عبد المرأة أو الخميصة١ أو البهيمة، أو غير ذلك من الشهوات التي أنت تحبها، واحذر أيضًا أن تكون من نصيب الشيطان بإيحاشك إلى الكريم المنان، وفي الحِكَم :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". فاشتغل بمحبة الحبيب، يكفيك عداوة العدو، فاتخذ الله وليًا وصاحبًا، ودع الشيطان جانبًا، غِب عن الشيطان باستغراقك في حضرة العِيان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر ضد أهل الشرك، فقال :
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾
قلت :﴿ وعدّ اللهِ ﴾ مصدر، مؤكد لنفسه، أي : وعدهم وعدًا، و﴿ حقًا ﴾ مؤكد لغيره، أي : لمضمون الجملة قبله. انظر البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والذين آمنوا ﴾ بالله ووحدوه، ﴿ وعملوا ﴾ الأعمال ﴿ الصالحات ﴾ التي كلفوا بها ﴿ سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ﴾ وعدهم بذلك وعدًا حقًا، ﴿ ومن أصدق من الله قيلاً ﴾ أي : لا أحدَ أصدقُ من الله في قوله. والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه، بوعد الله الصادق لأوليائه، ترغيبًا في تحصيل أسبابه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : والذين جمعوا بين توحيد عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية سندخلهم جنةَ المعارف، تجري من تحتها أنها العلوم، خالدين فيها أبدًا، وعدًا حقًا وقولاً صدقًا. ومن أصدق من الله قيلاً ؟
وهذا الوعد لا ينال بالأماني مع البطالة والتواني ؛ وإنما ينال بالأعمال الصالحة والمقصاد الخالصة، كما قال تعالى :
﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾
قلت : اسم ليس ضمير الأمر، أي : ليس الأمر بأمانيكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ليس ﴾ هذا الوعد الذي ذكرت لأهل الإيمان يُنَال ﴿ بأمانيكم ﴾ أي : تمنيكم أيها المسلمون، ولا بأماني ﴿ أهل الكتاب ﴾، أي : لا يكون ما تتمنون ولا ما يتمنى أهل الكتاب، بل يحكم الله بين عباده ويجازيهم بأعمالهم. رُوِي أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون : نحن أولى منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة، فنزلت. وقيل : الخطاب مع المشركين، وهو قولهم : لا جنة ولا نار، أو قولهم : إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لتكونن خيرًا منهم وأحسن حالاً.
وأماني أهل الكتاب : قولهم
﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلآ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ﴾ [ آل عِمرَان : ٢٤ ]، و[ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارى } [ البَقَرَة : ١١١ ]، ثم قرر ذلك فقال :﴿ من يعمل سوءًا يجز به ﴾ عاجلاً أو آجلاً ؛ لما رُوِي أنه لما نزلت قال أبو بكر : من ينجو مع هذا يا رسول الله، إن كنا مجزيين بكل سوء عملناه ؟ فقال له عليه الصلاة والسلام " أما تحزن ؟ أما تمرض ؟ أما يصيبك اللأواء ؟١ " قال بلى يا رسول الله، قال :" هو ذلك " فكل من عمل سوءًا جوزي به، ﴿ ولا يجد له من دون الله وليًا ﴾ يليه ويدفع عنه، ﴿ ولا نصيرًا ﴾ ينصره ويمعنه من عذاب الله.
الإشارة : لا تُنال المراتب بالأماني الكاذبة والدعاوي الفارغة، وإنما تنال بالهمم العالية، والمجاهدات القوية، إنما تنال المقامات العالية بالأعمال الصالحة، والأحوال الصافية، وأنشدوا :
بِقَدرٍ الكذِّ تُكتَسَبُ المَعَالِي من أراد العز سهر الليالي
تُرِيدُ العزَّ ثُم تَنَامُ لّيلاً يَغُوضُ البحر مَن طَلَبَ اللآلي
١ اللأواء: الشدة وضيق العيش..
ولما نزل قوله تعالى :﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب. . . ﴾ الآية. قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء، فأنزل الله تعالى :
﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً ﴾
الإشارة :﴿ من ذكر أو أنثى ﴾ : حال من الضمير في ﴿ يعمل ﴾، وكذا قوله :﴿ وهو مؤمن ﴾ و﴿ حنيفًا ﴾، حال من ﴿ إبراهيم ﴾ ؛ لأنه جزء ما أضيف إليه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن يعمل ﴾ شيئاً ﴿ من ﴾ الأعمال ﴿ الصالحات ﴾ وهو المهم من المكلف به، إذ لا طاقة للبشر على الإتيان بكلها. حال كون العامل ﴿ من ذكر أو أنثى ﴾ ؛ إذ النساء شقائق الرجال في طلب الأعمال، والحالة أن العامل ﴿ مؤمن ﴾ لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال، فلا ثواب على عمل ليس معه إيمان. ثم ذكر الجواب فقال ﴿ فأولئك يدخلون الجنة ﴾ أي : يتصفون بالدخول، أو يدخلهم الله الجنة، ﴿ ولا يُظلمون ﴾ أي : لا ينقصون من ثواب أعماله ﴿ نقيرًا ﴾ أي : مقداره، وهو النقرة في ظهر النواة. قال البيضاوي : وإذا لم ينقص ثواب المطيع فبالأخرى ألا يزيد في عقاب العاصي، لأن المجازي أرحَمُ الراحمين. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : على قدر المجاهدة والمكابدة تكون المعاينة والمشاهدة، على قدر البدايات تكون النهايات، من أشرقت بدايته أشرقت نهايته، والجزاء على العمل يكون على قدر الهمم، فمن عمل لجنة الزخارف مُتع بها، ومن عمل لجنة المعارف تنعم بها، ﴿ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، فمن انقاد إلى الله بكليته إلى مولاه فلا أحد أحسن منه عند الله، ومن تمسك بالملة الحنيفية، وهي الانقطاع إلى الله بالكلية ـ فقد استمسك بالعروة الوثقى، وكان في أعلى ذروة أهل التقى، من تخلق بخلق الحبيب كان أقرب إلى الله من كل قريب. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ ومَن أحسن دينًا ممّن أسلم وجهه لله ﴾ أي : لا أحد أحسن دينًا ممن انقاد بكليته إلى مولاه ﴿ وهو محسن ﴾ أي : مُوَحَّدٌ أحسَنَ فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين عباد الله، ﴿ واتبع ملة إبراهيم حنيفًا ﴾ بأن دخل في الدين المحمدي الذي هو موافق لملة إبراهيم بل هو عينه، فمن ادعى أنه على ملة إبراهيم ولم يدخل فيه فقد كذب.
ثم ذكر ما يحث على اتباع ملته، فقال :﴿ واتخذ الله إبراهيم خليلاً ﴾ أي : اصطفاه وخصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، وإنما أعاد ذكره ولم يضمر ؛ تفخيمًا له وتنصيصًا على أنه الممدوح، وسمي خليلاً لأنه قد تخللت محبة الله في جميع أجزائه.
رُوِي أن إبراهيم عليه السلام كان يضيف الناس، حتى كان يسمى أبا الضيفان، وكان منزله على ظهر الطريق، فأصاب الناسَ سَنَةٌ، جهدوا فيها، فحشد الناسُ إلى باب إبراهيم، يطلبون الطعامَ، وكانت الميرة كل سنة تصله من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي له بمصر يسأله الميرة، فقال لغلمانه : لو كان إبراهيم يريد لنفسه احتملت له ذلك، ولكنه يريد للأضياف، وقد أصابنا ما أصاب الناس، فرجع الرسل إليه، ومرّوا ببطحاء لينة، فملؤوا منها الغرائر حياء من الناس، وأتوا إبراهيم فأخبروه، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه، فنام، وكانت سارة نائمة فاستيقظت، وقالت : سبحان الله ! أما جاء الغلمان ؟ فقالوا : بلى، فقامت إلى الغرائر فإذا فيها الحُوَّارَى أي : الخالص من الدقيق فخبزوا وأطعموا ؟ فاستيقظ إبراهيم، وشم رائحة الخبز، فقال : يا سارة. من أين هذا ؟ فقالت : من عند خليلك المصري، فقال : هذا من عند خليلي الله عز وجل، فحينئذ سماه الله خليلاً.
قال الزجاج : ومعنى الخليل : الذي ليس في محبته خَلَ، أو لأنه ردَّ خلَته، أي : فقره إلى الله مخلصًا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : على قدر المجاهدة والمكابدة تكون المعاينة والمشاهدة، على قدر البدايات تكون النهايات، من أشرقت بدايته أشرقت نهايته، والجزاء على العمل يكون على قدر الهمم، فمن عمل لجنة الزخارف مُتع بها، ومن عمل لجنة المعارف تنعم بها، ﴿ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، فمن انقاد إلى الله بكليته إلى مولاه فلا أحد أحسن منه عند الله، ومن تمسك بالملة الحنيفية، وهي الانقطاع إلى الله بالكلية ـ فقد استمسك بالعروة الوثقى، وكان في أعلى ذروة أهل التقى، من تخلق بخلق الحبيب كان أقرب إلى الله من كل قريب. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ ملكًا وخلقًا وعبيدًا، فالملك له، والعبيد عبيده، يختار ما يشاء كما يشاء من خلة ومحبة وخدمة، ﴿ وكان الله بكل شيء محيطًا ﴾ علمًا وقدرة، فيجازِي كُلاًّ على قدر سعيه وقصده. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : على قدر المجاهدة والمكابدة تكون المعاينة والمشاهدة، على قدر البدايات تكون النهايات، من أشرقت بدايته أشرقت نهايته، والجزاء على العمل يكون على قدر الهمم، فمن عمل لجنة الزخارف مُتع بها، ومن عمل لجنة المعارف تنعم بها، ﴿ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، فمن انقاد إلى الله بكليته إلى مولاه فلا أحد أحسن منه عند الله، ومن تمسك بالملة الحنيفية، وهي الانقطاع إلى الله بالكلية ـ فقد استمسك بالعروة الوثقى، وكان في أعلى ذروة أهل التقى، من تخلق بخلق الحبيب كان أقرب إلى الله من كل قريب. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ومما يتعلق بحفظ اللسان الفتوى بما يطابق الحق، ولذلك ذكره بعد الأمر بالحكم بالعدل، وما بينهما اعتراض انجر الكلام إليه، فقال :
﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ﴾
قلت : و﴿ ما يتلى ﴾ : عطف على ﴿ الله ﴾، أي : يفتيكم الله، والمتلو عليكم في الكتاب، أي في القرآن. ﴿ وترغبون أن تنكحوهن ﴾ حذف الجار، وهو في أو عن، ليصدق النهي بالراغب فيها إذا كانت جميلة، والراغب عنها إذا كانت دميمة، و﴿ المستضعفين ﴾ عطف على ﴿ يتامى النساء ﴾ أي : والذي يتلى في المستضعفين من الولدان، وهو قوله تعالى :﴿ يوصيكم الله. . . ﴾ الخ، أو على الضمير في ﴿ فيهن ﴾ أي : يفتيكم فيهن وفي المستضعفين، و﴿ أن تقوموا ﴾ عطف على ﴿ المستضعفين ﴾، أو منصوب بمحذوف، أي : ويأمركم أن تقوموا. . . الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ويستفتونك ﴾ يا محمد ﴿ في ﴾ شأن ﴿ النساء ﴾ من الميراث وغيره، ﴿ قل الله يفتيكم فيهن ﴾، فيأمركم أن تعطوهن حقهن من الميراث، ﴿ و ﴾ يفتيكم أيضًا فيهن ﴿ ما يتلى عليكم في الكتاب ﴾ في أول السورة إذ قال :﴿ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ﴾ ثم بيَّنه في تقسيم الميراث في ﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾، وقال في اليتامى :﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ﴾ ﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى. . . ﴾ الآية، فقد أفتاكم في اليتامى ﴿ اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ﴾ من الصداق ﴿ وترغبون أن تنكحوهن ﴾ بدون صداق مثلهن، فأمركم أن تنكحوا غيرهن، ولا تنكحوهن إلا أن تقسطوا لهن في الصداق، إذا كانت جميلة، أو لها مال، أو ترغبون عن نكاحهن إذا كانت دميمة، فتعضلوهن لترثوهن، فلا تفعلوا ذلك، بل تزوجوها أو زوجوها، وكانوا في الجاهلية، إذا كانت اليتيمة ذات مال وجمال، رغبوا فيها وتزوجوها، بدون صداقها، وإن كانت دميمة ولا مال لها رغبوا عنها وعضلوها، أو زوجوها غيرهم، فنهى الله تعالى الفريقين معًا.
﴿ و ﴾ يفتيكم أيضًا في ﴿ المستضعفين من الوِلدَانِ ﴾ وهم الصغار، أن تعطوهم حقهم من الميراث مع الكبار، وكانوا لا يورثونهم، رُوِي أن عُيينة بن حصين أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أُخبرنا أنك تورث النساء والصبيان، وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة ؟ فقال له صلى الله عليه سلم " كذا أُمِرتُ " فنزلت الآية.
﴿ و ﴾ يفتيكم أيضًا ويأمركم ﴿ أن تقوموا لليتامى بالقسط ﴾ أي : العدل. وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم بالمصلحة ويستوثقوا حقوقهم، ويحتاطوا لهم في أمورهم كلها، ثم وعدهم بالثواب على ذلك فقال :﴿ وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليمًا ﴾، فيجازيكم إلى قدر إحسانكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يستفتونك عن نساء العلوم الرسمية، وعن يتامى العلوم القلبية، وهن نتائج الأفكار، وهي العلوم اللدنية، والأسرار الربانية ؛ التي هي من علوم الحقيقة، ولا تليق إلا بالمستضعفين عند الخليفة، وفي الخبز :" ألا أُخبِركُم بأهل الجَنَّة ؟ هو كل ضَعيفٍ مَتَضعّفَ، لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّهُ في قَسمه ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قل الله يفتيكم فيهن فيأمركم أن تأخذوا من العلوم الرسمية ما تتقنون به عبادة ربكم، وترغبوا في علم الطريقة، التي هي علم القلوب، ما تحققون به عبوديتكم، ومن نتائج الأفكار ما تُشاهدون به عظمة ربكم، ويأمركم أن تقوموا بالعدل في جميع شؤونكم، فتعطوا الشريعة حقها والطريقة حقها، وتحفظوا أسرار الحقيقة عن غير مستحقها، والله لا يضيع أجر المحسنين.
ثم أمر بالصلح بين الزوجين عند خوف النشوز، فقال :
﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾
قلت :﴿ امرأة ﴾ : فاعل بفعل يفسره ما بعده، وأصل ( يَصَّالِحَا ) : يتصالحا، فأدغمت، و﴿ صُلحًا ﴾ مصدر. وقرأ الكوفيون :﴿ يُصلحا ﴾ ؛ من الرباعي، فتنصب ﴿ صُلحًا ﴾ على المفعول به، أو المصدر، و﴿ بينهما ﴾ ظرف، أو حال منه، وجملة ﴿ الصلح خير ﴾ : معترضة، وكذا :﴿ وأحضرت الأنفس الشح ﴾، ولذلك اغتفر عدم تجانسهما.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإن امرأة خافت ﴾ وتوقعت من زوجها ﴿ نُشُوزًا ﴾ أي : ترفعًا عن صحبتها، وتجافيًا عنها، كراهية لها، ومنعًا لحقوقها، ﴿ أو إعراضًا ﴾ عنها، بأن يترك مجالستها، ومحادثتها، ﴿ فلا جناح عليهما ﴾ أن يتصالحا ﴿ بينهما صلحًا ﴾ بأن تحط له مهرها، أو من قسمها مع ضرتها، أو تهب له شيئًا تستميله به.
نزلت في سعد بن الربيع، تزوج على امرأته شابةً، وآثرها عليها. وقيل : في رجل كبرت امرأته، وله معها أولاد. فأراد طلاقها ليتزوج، فقالت له : دعني على أولادي، وأقسم لي في كل شهرين أو أكثر، أو لا تقسم. فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له :" قد سمع الله ما تقول، فإن شاء أجابك "، فنزلت. وقيل : نزلت في سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، لما كبرت، أراد عليه الصلاة والسلام أن يُفارقها، فقالت : أمسكني في نسائك ولا تقسم لي، فقد وهبتُ نوبتي لعائشة، فإني أريد أن أُبعث في نسائك.
ثم رغَّب في الصلح فقال :﴿ والصلح خير ﴾ من المفارقة، أو من سوء العشرة والخصومة، أو خير في نفسه، ولا يكون إلا مع ترك بعض حق النفس من أحد الخصمين، فلذلك ثقل على النفس فشحت به، وإليه أشار بقوله :﴿ وأحضرت الأنفس الشح ﴾ أي : جعلته حاضرًا لديها لا يفارقها، لأنها مطبوعة عليه، فالمرأة لا تكاد تسمح للزوج من حقها، ولا تسخو بشيء تعطيه لزوجها، والزوج لا يكاد يصبر على إمساكها وإحسان عشرتها إذا كَرِهها، ﴿ وإن تحسنوا ﴾ العشرة ﴿ وتتقوا ﴾ النشوز والإعراض ونقص حق المرأة مع كراهة الطبع لها، ﴿ فإن الله كان بما تعملون خبيرًا ﴾ لا يخفى عليه إحسانكم ولا نشوزكم، فيجازي كُلاًّ بعمله، وفي بعض الأثر : من صبر على أذى زوجته أعطاه الله ثواب أيوب عليه السلام، وكذلك المرأة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن النفس كالمرأة حين يتزوجها الرجل، فإنها أذا رأت من زوجها الجد في أموره والانقباض عنها، هابته وانقادت لأمره، وإذا رأت منه الليونة والسيولة استخفت بأمره وركبته، وسقطت هيبته من قبلها، فإذا أمرها ونهاها لم تحتفل بأمره، وكذلك النفس إذا رأت من المريد الجد في بدايته والصولة عليها، هابته وانقادت لأمره وكانت له سميعة مطيعة، وإذا رأت منه الرخو والسهولة معها، ركبته وصعب عليه انقيادها وجهادها، فإذا صال عليها وقهرها فأرادت الصلح معه على أن يسامحها في بعض الأمور، وتساعفه فيما يُريد منها، فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحًا، والصلح خير، فإن دوام التشديد قد يفضي إلى الملل، وإن تحسنوا معها بعد معرفتها، وتتقوا الله في سياستها ورياضتها حتى ترد بكم إلى حضرة ربها، فإن الله كان بما تعملون خبيرًا.
ثم أمر بالعدل بين النساء، فقال :
﴿ وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولن تستطيعوا ﴾، يا معشر الأزواج، ﴿ أن تعدلوا بين النساء ﴾ العدل الكامل التام في الأقوال والأفعال والنفقة والكسوة والمحبة، ﴿ ولو حرصتم ﴾ على ذلك لضعف حالكم، وقد خففت عنكم، وأسقطت الحرج عنكم، فلا يجب العدل في البيت فقط، وكان صلى الله عليه وسلم يَقسِمُ بين نِسَائِه فيعِدلُ ويقُولُ :" اللهمَّ هذه قسمتي فِيمَا أملِك، فلا تُؤاخِذني فيمَا لا أملِكُ "، يعني : ميل القلب، وكان عمر رضي الله عنه يقول :( اللهم قلبي فلا أملكُه، وأما سوى ذلك فإني أرجو أن أعدل )، وأما الوطء فلا يجب العدل فيه، إلا أن تتحرك شهوته، فيكف لتتوفر لذته للأخرى.
﴿ فلا تميلوا ﴾ إلى المرغوب فيها لجمالها أو شبابها، ﴿ كُلَّ الميل ﴾ بالنفقة والكسوة والإقبال عليها، وتَدَعُوا الأخرى ﴿ كالمعلقة ﴾ التي ليست ذات بعل ولا مطلقة، كأنها محبوسة مسجونة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :" من كانت له أمَرأتانِ يَميلُ معَ إحدَاهما، جَاء يومَ القِيَامَةِ، وأحَدُ شِقّيه مَائِلٌ "، ﴿ وإن تصلحوا ﴾ ما كنتم تفسدون في أمورهن بالعدل بينهن، ﴿ وتتقوا ﴾ الجور فيما يستقبل، ﴿ فإن الله كان غفورًا رحيمًا ﴾، يغفر لكم ما مضى من ميلكم.
الإشارة : من شأن العبودية : الضعف والعجز، فلا يستطيع العبد أن يقوم بالأمور التي كلف بها على العدل والتمام، ولو حرص كل الحرص، وجدَّ كل الجد، فلا يليق به إلا التحقق بوصفه والرجوع إلى ربه، فيأتي بما يستطيع ولا يحرص على ما لا يستطيع، فلا يميل إلى الدعة والكسل كل الميل، ولا يحرص على ما لا طاقة له به كل الحرص، فإن التعقيد ليس من شأن أهل التوحيد، بل من شأنهم مساعفة الأقدار، والسكون تحت أحكام الواحد القهار، فلا تميلوا إلى التعمق والتشديد كل الميل، فتتركوا أنفسكم كالمُعلَّقة، أي : المسجونة، وهذا من شأن أهل الحجاب، يُحبسون في المقامات والأحوال تشغلهم حلاوة ذلك عن الله تعالى. فإذا فقدوا ذلك الحال أو المقام سلبوا وأفلسوا. وأهل الغنى بالله لا يقفون مع حال ولا مقام، هم مع مولاهم، وكل ما يبرز من عنصر القدرة قبلوه، وتلونوا بلونه، وهذا مقام التلوين بعد التمكين.
وفي إشارة أخرى : اعلم أن القدرة والحكمة كالزوجين للقلب، يقيم عند هذه مدة، وعند هذه أخرى، فإذا أقام عند الحكمة كان في مقام العبودية من جهل وغفلة وضعف وذلة، وإذا أقام عند القدرة كان في مقام شهود الربوبية فيكون في علم ويقظة وقوة وعزة. ولا قدرة له على العدل بينهما، فلا يميل إلى إحداهما كل الميل بل يسير بينهما، ويعطي كل ذي حق حقه، بأن يعرف فضلهما، ويسير بكل واحد منهما. وإن تصلحوا قلوبكم وتتقوا ما يشغلكم عن ربكم، فإن الله كان غفورًا رحيمًا ؛ يغفر لكم ميلكم إلى إحدى الجهتين والله تعالى أعلم.
فإذا تعذر الإصلاح بين الزوجين، وأراد الفراق ففي الله الغني عن كل شيء، كما أشار إلى ذلك بقوله :
﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ. . . ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإن يتفرقا ﴾ أي : يفارق كل واحد منهما صاحبه، ﴿ يُغن الله ﴾ كل واحد منهما عن صاحبه، ببدل أو سُلُو يقوم بأمره من رزق أو غيره، من سعة غناه وكمال قدرته، ﴿ وكان الله واسعًا ﴾ بقدرته ﴿ حكيمًا ﴾ أي : متقنًا في أحكامه وأفعاله.
الإشارة : اعلم أن الروح ما دامت مسجونة تحت قهر البشرية، محجوبةً عن شهود معاني الربوبية، كانت فقيرة جائعة متعطشة، تتعشق إلى الأكوان وتفتقر إليها، وتقف معها، فإذا فارقت البشرية وانطلقت من سجن هيكلها، وخرجت فكرتها من سجن الأكون، أغناها الله بشهود ذاته، وأفضت إلى سعة فضاء الشهود والعيان، وملكت جميع الأكوان، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك "، وكذلك البشرية يغنيها الله عن تعب الخدمة وتستريح في ظل المعرفة، فلما تفرقا أغنى الله كلاًّ من سعة فضله وجوده، لأنه واسع العطاء والجود، حكيم في تدبير إمداد كل موجود.
وفي قوله :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ إشارة إلى أن من كان بالله، ووصل إلى شهود ذاته، ملَّكه الله ما في السماوات وما في الأرض، فيكون خليفة الله في ملكه ﴿ وَمَا ذّلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢٠ ].
ولمّا جرى الكلام على شأن النساء، وهن حبائل الشيطان، تشغل فتنتهن عن ذكر الرحمن، حذَّر الحق تعالى من فتنتهن، كما هو عادته تعالى في كتابه عند ذكرهن، وأمر بالتقوى التي هي حصن من كل فتنة، فقال :
﴿ وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِن يَشَأ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً ﴾
قلت :﴿ من قبلكم ﴾ : يتعلق بأوتوا أو بوصينا، و﴿ إياكم ﴾ : عطف على الذين، و﴿ أن اتقوا ﴾ : على حذف الجار، أي : بأن اتقوا، أو مفسرة ؛ لأن التوصية في معنى القول، و﴿ إن تكفروا ﴾ على حذف القول، أي : وقلنا لهم ولكم :﴿ وإن تكفروا. . . ﴾ الخ.
ثم بيَّن معنى سعته فقال :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي : كل ما استقر فيهما فهو تحت حكمه ومشيئته، قائمًا بحفظه وتدبيره، يعطي كل واحد ما يقوم بأمره ويغنيه عن غيره. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد وصينا ﴾ الأمم المتقدمة الذين أنزلنا عليهم ﴿ الكتاب من قبلكم ﴾ كأهل التوراة والإنجيل والزبور، وغيرهم من الأمم، ووصيناكم أنتم ﴿ أن اتقوا الله ﴾ بأن تمتثلوا أوامره، وتجتنبوا نواهيَه، ظاهرًا وباطنًا، وقلنا لهم ولكم :﴿ وإن تكفروا ﴾ فإن الله غني عن كفركم وشكركم ؛ فقد استقر له ﴿ ما في السماوات وما في الأرض ﴾ ملكًا وعبيدًا، فله فيهما من الملائكة من هو أطوع منكم، فلا يتضرر بكفركم، كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم، وإنما أوصاكم رحمًة بكم، لا لحاجة إليكم، ثم قرر ذلك بقوله :﴿ وكان الله غنيًا حميدًا ﴾ أي : غنيًا عن الخلق وعبادتهم، محمودًا في ذاته، حُمِد أو لم يُحمد.
سورة النساء
مدنية، وهي ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا. وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة. ومائة وستون آية. قاله الثعلبي. وقال البيضاوي : مائة وخمس وسبعون آية.
ومضمنها : الأمر بحفظ ستة أمور : حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وحفظ الأبدان، وحفظ الأديان، وحفظ اللسان، وحفظ الإيمان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التقوى أساس الطريق ومنهاج أهل التحقيق، عليها سلك السائرون، وبها وصل الواصلون، وقد وصَّى بها الحق تعالى المتقدمين والمتأخرين، وبها قرّب المقربين وشرّف المكرمين. ولها خَمسُ درجاتٍ : أن يتقي العبد الكفر ؛ وذلك بمقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والمحرمات ؛ وهو : مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات ؛ وهو مقام الورع، وأن يتق المباحات، وهو مقام الزهد، وأن يتقي شهود السَّوى والحس ؛ وهو مقام المشاهدة.
ولها فضائل مستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة : الهداية ؛ لقوله تعالى :
﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ]، والنصرة ؛ لقوله :﴿ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا ﴾ [ النّحل : ١٢٨ ]، والولاية ؛ لقوله :﴿ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ الجَاثيَة : ١٩ ] والمحبة ؛ لقوله ﴿ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين ﴾ [ التّوبَة : ٤ ]، وتنوير القلب ؛ لقوله :[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا [ الأنفال : ٢٩ ]، والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب، لقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢، ٣ ]، وتيسير الأمور ؛ لقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [ الطلاق : ٤ ] وغفران الذنوب وإعظام الأجر ؛ لقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [ الطّلاَق : ٥ ]، وتقبل الأعمال ؛ لقوله :﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ المَائدة : ٢٧ ] والفلاح ؛ لقوله :﴿ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٨٩ ] والبشرى ؛ لقوله :
﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ ﴾ [ يُونس : ٦٤ ]، ودخول الجنة ؛ لقوله :﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتِ الْنَّعِيِم ﴾ [ القَلَم : ٣٤ ] والنجاة من النار ؛ لقوله :
﴿ ثُمَّ نُنَجّي الَّذِينَ اتَّقَوا ﴾ [ مريم : ٧٢ ]. هـ. من ابن جزي.
ومما ينسب للقطب ابن مشيش رضي الله عنه :
عليكَ بتقوى الله في السرِّ والجهرِ ذا شئتَ توفيقَا إلى سُبُلِ الخيرِ
لأن التُّقى أصلٌ إلى البِرَّ كلَّه فخُذه تَفُز بكلِّ نوعٍ من البرّ
وخيرُ جميعِ الزاد ما قال ربُّنا فَكُن يا أخي للهِ مُمتَثِل الأمر

﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ كرره ثالثًا ؛ للدلالة على كونه غنيًا حميدًا، فإن جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه، وبما أفاض عليها من الوجود، وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميدًا. قاله البيضاوي. ﴿ وكفى بالله وكيلاً ﴾ أي : حافظًا ومجيرًا لمن تعلق به من أهل السماوات والأرض.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التقوى أساس الطريق ومنهاج أهل التحقيق، عليها سلك السائرون، وبها وصل الواصلون، وقد وصَّى بها الحق تعالى المتقدمين والمتأخرين، وبها قرّب المقربين وشرّف المكرمين. ولها خَمسُ درجاتٍ : أن يتقي العبد الكفر ؛ وذلك بمقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والمحرمات ؛ وهو : مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات ؛ وهو مقام الورع، وأن يتق المباحات، وهو مقام الزهد، وأن يتقي شهود السَّوى والحس ؛ وهو مقام المشاهدة.
ولها فضائل مستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة : الهداية ؛ لقوله تعالى :
﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ]، والنصرة ؛ لقوله :﴿ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا ﴾ [ النّحل : ١٢٨ ]، والولاية ؛ لقوله :﴿ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ الجَاثيَة : ١٩ ] والمحبة ؛ لقوله ﴿ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين ﴾ [ التّوبَة : ٤ ]، وتنوير القلب ؛ لقوله :[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا [ الأنفال : ٢٩ ]، والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب، لقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢، ٣ ]، وتيسير الأمور ؛ لقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [ الطلاق : ٤ ] وغفران الذنوب وإعظام الأجر ؛ لقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [ الطّلاَق : ٥ ]، وتقبل الأعمال ؛ لقوله :﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ المَائدة : ٢٧ ] والفلاح ؛ لقوله :﴿ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٨٩ ] والبشرى ؛ لقوله :
﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ ﴾ [ يُونس : ٦٤ ]، ودخول الجنة ؛ لقوله :﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتِ الْنَّعِيِم ﴾ [ القَلَم : ٣٤ ] والنجاة من النار ؛ لقوله :
﴿ ثُمَّ نُنَجّي الَّذِينَ اتَّقَوا ﴾ [ مريم : ٧٢ ]. هـ. من ابن جزي.
ومما ينسب للقطب ابن مشيش رضي الله عنه :
عليكَ بتقوى الله في السرِّ والجهرِ ذا شئتَ توفيقَا إلى سُبُلِ الخيرِ
لأن التُّقى أصلٌ إلى البِرَّ كلَّه فخُذه تَفُز بكلِّ نوعٍ من البرّ
وخيرُ جميعِ الزاد ما قال ربُّنا فَكُن يا أخي للهِ مُمتَثِل الأمر

﴿ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ﴾ إن لم تتقوه، ويأت بقوم آخرين، هم أطوع منكم وأتقى، ﴿ وكان الله على ذلك قديرًا ﴾ أي : بليغ القدرة لا يعجزه مُراد.
قال البيضاوي : وهذا أي قوله :﴿ إن يشأ يذهبكم. . . ﴾ أيضًا تقرير لغناه وقدرته، وتهديد لمن كفر وخالف أمره، وقيل : هو خطاب لمن خالف الرسول صلى الله عليه وسلم من العرب، وهو معنى قوله :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾ [ محمد : ٣٨ ] لما رُوِي : أنَّهَا لمَا نزلَت ضَربَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه على ظهر سَلمَان وقال إنّهم قَومُ هذا ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التقوى أساس الطريق ومنهاج أهل التحقيق، عليها سلك السائرون، وبها وصل الواصلون، وقد وصَّى بها الحق تعالى المتقدمين والمتأخرين، وبها قرّب المقربين وشرّف المكرمين. ولها خَمسُ درجاتٍ : أن يتقي العبد الكفر ؛ وذلك بمقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والمحرمات ؛ وهو : مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات ؛ وهو مقام الورع، وأن يتق المباحات، وهو مقام الزهد، وأن يتقي شهود السَّوى والحس ؛ وهو مقام المشاهدة.
ولها فضائل مستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة : الهداية ؛ لقوله تعالى :
﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ]، والنصرة ؛ لقوله :﴿ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا ﴾ [ النّحل : ١٢٨ ]، والولاية ؛ لقوله :﴿ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ الجَاثيَة : ١٩ ] والمحبة ؛ لقوله ﴿ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين ﴾ [ التّوبَة : ٤ ]، وتنوير القلب ؛ لقوله :[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا [ الأنفال : ٢٩ ]، والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب، لقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢، ٣ ]، وتيسير الأمور ؛ لقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [ الطلاق : ٤ ] وغفران الذنوب وإعظام الأجر ؛ لقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [ الطّلاَق : ٥ ]، وتقبل الأعمال ؛ لقوله :﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ المَائدة : ٢٧ ] والفلاح ؛ لقوله :﴿ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٨٩ ] والبشرى ؛ لقوله :
﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ ﴾ [ يُونس : ٦٤ ]، ودخول الجنة ؛ لقوله :﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتِ الْنَّعِيِم ﴾ [ القَلَم : ٣٤ ] والنجاة من النار ؛ لقوله :
﴿ ثُمَّ نُنَجّي الَّذِينَ اتَّقَوا ﴾ [ مريم : ٧٢ ]. هـ. من ابن جزي.
ومما ينسب للقطب ابن مشيش رضي الله عنه :
عليكَ بتقوى الله في السرِّ والجهرِ ذا شئتَ توفيقَا إلى سُبُلِ الخيرِ
لأن التُّقى أصلٌ إلى البِرَّ كلَّه فخُذه تَفُز بكلِّ نوعٍ من البرّ
وخيرُ جميعِ الزاد ما قال ربُّنا فَكُن يا أخي للهِ مُمتَثِل الأمر

ولما قرر أن الملك كله بيده، رغب الناس في رفع حوائجهم إليه، فقال :
﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾
قلت :﴿ من ﴾ : شرطية، وجوابها محذوف ؛ دل عليه الكلام، أي : من كان يريد ثواب الدنيا فيلطلبه منه، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، أو من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه خاصة، عند الله ثواب الدنيا والآخرة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ من كان يريد ثواب الدنيا ﴾ والتوسع فيها، فليطلبه منا ؛ فعند الله ثواب الدارين، أو من كان يريد ثواب الدنيا، فليطلب مع ذلك ثوابَ الآخرة أيضًا، وليقل :
﴿ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةَ وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ [ البَقَرَة : ٢٠١ ] ؛ ﴿ فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ﴾، فيعطيهما معًا لمن طلبهما، والثاني أنهض من الأول، وأكملُ منهما من أعرض عنهما وطلب مولاه، ﴿ وكان الله سميعًا بصيرًا ﴾، لا يخفى عليه مقاصد خلقه، فيعطي كُلاًّ على حسب قصده.
الإشارة : المهم ثلاثة : همة دنية تعلقت بالدنيا الدنية، وهمة متوسطة تعلقت بنعيم الآخرة، وهمة عاليه تعلقت بالكبير المتعال. والله تعالى يرزق العبد على قدر همته، وبالهمم ترفع المقادير أو تسقط، فمن كانت همته دنية كان دَنيًا خسيسًا، ومن كانت همته متوسطة ؛ كان قدره متوسطًا، رحل من كون إلى كون، كحمار الرحا، يسير، والذي ارتحل منه هو الذي عاد إليه، ومن كانت همته عالية كان عالي المقدار، كبير الشأن حاز الكونين بما فيهما، وزاد مشاهدة خالقهما، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ولما أمر بالعدل بين النساء ؛ أمر بالعدل في الأحكام كلها، فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾
قلت :﴿ شهداء ﴾ : خبر ثاني لكان، أو حال، ﴿ فالله أولى ﴾ : علة للجواب ؛ أي : إن يكن المشهود عليه غنيًا عليه فلا تمتنعوا من الشهادة عليه تعظيمًا له، وإن يكن فقيرًا فلا تمتنعوا من الشهادة عليه إشفاقًا عليه، فإن الله أولى بالغني والفقير منكم، والضمير في ﴿ بهما ﴾ راجع إلى ما دل عليه المذكور، وهو جنسًا الغني والفقير، لا إليه وإلا لوحّد ؛ لأن " أو " لأحد الشيئين. و﴿ أن تعدلوا ﴾ : مفعول من أجله، ومن قرأ : تلوا بضم اللام فقد نقل ضم الواو إلى اللام وحذف الواوين، وقيل : من الولاية.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ﴾ أي : مجتهدين في إقامة العدل مواظبين على الحكم به، وكونوا ﴿ شهداء لله بالحق ﴾ تقيمون شهادتكم لوجه الله، وابتغاء مرضاته، بلا طمع أجر ولا عرض، وهذا إن تعينت عليه، ولم يكن في تحملها مشقة، وإلا أُبيح له أجر تعبه، فأدوا شهاداتكم ﴿ ولو ﴾ كانت ﴿ على أنفسكم ﴾ بأن تقروا بالحق الذي عليها، لأن الشهادة بيان الحق، سواء كان عليها أو على غيرها، ﴿ أو ﴾ كانت الشهادة على ﴿ الوالدين والأقربين ﴾، فلا تمنعكم الشفقة والتعظيم من إقامة الشهادة عليهما، وأحرى غيرهما من الأجانب، ﴿ إن يكن ﴾ المشهود عليه ﴿ غنيًا أو فقيرًا ﴾ فلا تميلوا عن الشهادة بالحق عليهما، تعظيمًا للغني أو شفقة للفقير، فأن ﴿ الله أولى بهما ﴾ وبالنظر لهما، فلو لم تكن الشهادة عليهما صلاحًا لهما ما شرعها، ﴿ فلا تتبعوا الهوى ﴾ فتميلوا مع الغني أو الفقير، فقد نهيتكم إرادة ﴿ أن تعدلوا ﴾ في أحكامكم، فتكونوا عدولاً، أو كراهية أو تعدلوا عن الحق أي : تميلوا، ﴿ وإن تلووا ﴾ ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل ﴿ أو تعرضوا ﴾ عن أدائها فتكتموها ﴿ فإن الله كان بما تعملون خبيرًا ﴾، فيجازي الكاتم والمؤدي.
قال صلى الله عليه وسلم عند نزولها :" مَن كانَ يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليُقِم شهادتَه على من كانت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يَجحَد حَقًا هو عليه، وليؤُده عَفوّا، ولا يلجئه إلى السُلطان وخصوُمتِه، ليقتطع بها حقه، وأيما رجل خَاصَمَ إليَّ فقضَيتُ له على أخِيِه بحقٍ ليس له عليه، فلا يأخُذُه، فإنَما أقَطَعُ له قطعةً مِنَ النَارِ ".
الإشارة : قد أمر الحق تعالى عباده بإقامة العدل في الأمور كلها، ونهى عن مراقبة الخلق في الأشياء كلها، فيتأكد على المريد ألاَّ يراقب أحدًا من الخلق ؛ وإنما يراقب الملك الحق، فيكون قويًا في الحق، يقيمه على نفسه وغيره، فلا تجتمع مراقبة الحق مع مراقبة الخلق، من راقب الحق غاب عن الناس، ومن راقب الناس غاب عن الحق، وعاش مغمومًا من الخلق، ولله در القائل حيث قال١ :
مّن رَاقّبَ الناسَ ماتَ غمًّا وفازَ باللذات الجَسُور
وكان شيخ شيخنا رضي الله عنه يقول ( مراقبةُ الخلقِ عند أهل الظاهر شيءٌ كبير، وعدم المراقبة عند الباطن أمر كبير ). فإقامة العدل على النفس ؛ ألاَّ يتركها تميل إلى الرخص والتأويلات، وإقامته على الوالدين تذكيرهما بالله ودلالتهما على الله بلطف ولين، وإقامته على الأقربين بنصحهم وإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم، كانوا أغنياء أو فقراء، وإقامته على الأجانب كذلك. وبالله التوفيق.
١ البيت لسلم الخاسر في صبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي ٢/٣٢٥..
ولما فرغ مما يتعلق بحفظ اللسان، تكلم على حفظ الإيمان، وهو الأمر السادس مما تضمنته السورة، فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : مخاطبًا من أسلم من اليهود وهو عبد الله بن سَلاَم وأسَد وأسيد ابنا كَعبٍ، وثَعلبة بن قَيسٍ، وسلاَّم ابن أخت عبد الله بن سلام، وسلمة ابن أخيه ويامين قالوا يا رسول الله، نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعُزَّير، ونكفُرُ بما سِوَاهُ من الكُتب ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " آمِنُوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبكتابه القرآن، وبكل كتاب قبله " فَنزلت الآية.
فقال لهم جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ بمحمد، بعد أن آمنوا بموسى ؛ ﴿ آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزَّل على رسوله ﴾ القرآن ﴿ والكتاب الذي أنزل من قبل ﴾ أي : جنس الكتاب، فتدخل الكتب المتقدمة كلها، ﴿ ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ﴾ أي : ومن يكفر بشيء من ذلك ﴿ فقد ضل ضلالاً بعيدًا ﴾ أي : أخطا خطًأ بعيدًا لا يكاد يعود إلى الطريق، فلما نزلت قالوا : يا رسول الله ؛ إن نؤمن بالجميع، ولا نفرق بين أحد منهم، كما فرقت اليهود والنصارى.
وقيل : الخطاب للمنافقين، أي : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم آمِنُوا بقلوبكم، كما آمنتم بألسنتكم، وقيل : للمؤمنين، أي : دوموا على إيمانكم، وأثبتوا عليه.
الإشارة : أمر الحقّ جلّ جلاله، أهل الإيمان أن يجددوا إيمانهم، فيثبتوا على ما هو حاصل، ويسترشدوا إلى ما ليس بحاصل، فإن أنوار الإيمان تتزايد وتترادف على القلوب بحسب التصفية والنظر، وبقدر الطاعة والتقرب، فلا يزال العبد يتقرب إلى الله، وأنوار التوجه تتوارد عليه، حتى تشرق عليه أنوار المواجهة ؛ وهي أنوار الشهود، فشروق الأنوار على قدر صفاء الأسرار، وورود الإمداد على حسب الاستعداد، فبقدر التفرغ من الأغيار ترد على القلوب المواهب والأسرار، وهذا كله لمن صحب العارفين وأخذ عنهم، وملّك زمام نفسه لهم، وإلا فحَسبُه الإيمان بالغيب، ولو عمل ما عمل، وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد من ارتد عن الإيمان، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين آمنوا ثم كفروا ﴾ ثم تكرر منهم الإيمان والكفر، ثم أصروا على الكفر وهم المنافقون، ﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ﴾ ؛ لما سبق لهم من الشقاء، أو ﴿ إن الذين آمنوا ﴾ بموسى ﴿ ثم كفروا ﴾ بعبادة العجل ﴿ ثم آمنوا ﴾ حين تابوا ﴿ ثم كفروا ﴾ بعيسى ﴿ ثم ازدادوا كفرًا ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ﴾، وهم اليهود، والأول أظهر، لأن الكلام بعده في المنافقين، فقال تعالى في شأنهم :﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً ﴾ أي : طريقاً توصلهم إلى الحق، إذ يُستبعد منهم أن يتوبوا، فإن قلوبهم أشربت الكفر، وبصائرهم عميت، لا ينفع علاجها، لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم ينفعهم، وقد يكون إضلالهم عقابًا لسوء أفعالهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من كان ضعيفَ الاعتقاد في أهل الخصوصية، ضعيفَ التصديق، تراه تارة يدخل وتارة يخرج، وتارة يصدق وتارة ينكر، لا يُرجى فلاحُه في طريق الخصوص، فإن ضم إلى ذلك صحبة أهل الإنكار وولايتهم، فبشره بالخيبة والخسران، فإن تعزز بعزهم أعقبه الذل والهوان، والعياذ بالله من الخذلان، فالعز إنما يكون بعز التوحيد والإيمان، وعزة المعرفة والإحسان، وبصحبة أهل العرفان، الذين تعززوا بعز الرحمن، فمن تعزز بعز يفنى مات عزه، ومن تعزز بعز يبقى دام عزه، والشبكة التي يصطاد بها العزّ هو الذل لله، يظهره بين عباد الله. قال بعضهم : والله ما رأيت العز إلا في الذل. وقال الشاعر :
تَذَلَّل لمن تَهوَى لتكسِب عزَّةً فَكَم عِزَّةٍ قَد نَالَهَا المَرءُ بالدُّلِّ
وبالله التوفيق.

ثم ذكر وعيدهم فقال :﴿ بشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليمًا ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من كان ضعيفَ الاعتقاد في أهل الخصوصية، ضعيفَ التصديق، تراه تارة يدخل وتارة يخرج، وتارة يصدق وتارة ينكر، لا يُرجى فلاحُه في طريق الخصوص، فإن ضم إلى ذلك صحبة أهل الإنكار وولايتهم، فبشره بالخيبة والخسران، فإن تعزز بعزهم أعقبه الذل والهوان، والعياذ بالله من الخذلان، فالعز إنما يكون بعز التوحيد والإيمان، وعزة المعرفة والإحسان، وبصحبة أهل العرفان، الذين تعززوا بعز الرحمن، فمن تعزز بعز يفنى مات عزه، ومن تعزز بعز يبقى دام عزه، والشبكة التي يصطاد بها العزّ هو الذل لله، يظهره بين عباد الله. قال بعضهم : والله ما رأيت العز إلا في الذل. وقال الشاعر :
تَذَلَّل لمن تَهوَى لتكسِب عزَّةً فَكَم عِزَّةٍ قَد نَالَهَا المَرءُ بالدُّلِّ
وبالله التوفيق.

وهم ﴿ الذين يتخذون الكافرين أولياء ﴾ أي : أحبابًا وأصدقاء ﴿ من دون المؤمنين ﴾، وقد كان الكفار قبل ظهور الإسلام لهم الصولة والجاه، فطلب المنافقون أن ينالوا بولايتهم ومصادقتهم العزّ منهم، فردّ الله عليهم بقوله :﴿ أيبتغون عندهم العزة ﴾ بولايتهم ؟ ﴿ فإن العزة لله جميعًا ﴾ ولرسوله ولأوليائه، ولا عزة لغيره ؛ إذ لا يعبأ بعزة لا تدوم ويعقبها الذل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من كان ضعيفَ الاعتقاد في أهل الخصوصية، ضعيفَ التصديق، تراه تارة يدخل وتارة يخرج، وتارة يصدق وتارة ينكر، لا يُرجى فلاحُه في طريق الخصوص، فإن ضم إلى ذلك صحبة أهل الإنكار وولايتهم، فبشره بالخيبة والخسران، فإن تعزز بعزهم أعقبه الذل والهوان، والعياذ بالله من الخذلان، فالعز إنما يكون بعز التوحيد والإيمان، وعزة المعرفة والإحسان، وبصحبة أهل العرفان، الذين تعززوا بعز الرحمن، فمن تعزز بعز يفنى مات عزه، ومن تعزز بعز يبقى دام عزه، والشبكة التي يصطاد بها العزّ هو الذل لله، يظهره بين عباد الله. قال بعضهم : والله ما رأيت العز إلا في الذل. وقال الشاعر :
تَذَلَّل لمن تَهوَى لتكسِب عزَّةً فَكَم عِزَّةٍ قَد نَالَهَا المَرءُ بالدُّلِّ
وبالله التوفيق.

ثم نهى عن صحبة أهل الخوض، فقال :
﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾
قلت :﴿ أن ﴾ مخفف : نافية، فاعل نزّل، و ﴿ يكفر ﴾ و ﴿ يُستهزأ ﴾، حالان من الآيات، وضمير ﴿ معهم ﴾ : يعود على الكفار المفهوم من ﴿ يكفر ﴾، وضمير ﴿ غيره ﴾ ؛ يعود على الكفر والاستهزاء، وهما شيء واحد.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في التحذير من مجالسة أهل الكفر والمعاصي :﴿ وقد نزل عليكم ﴾ يا معشر المسلمين في القرآن في سورة الأنعام، أنه ﴿ إذا سمعتم آيات الله ﴾ حال كونها ﴿ يُكفَر بها ويُستَهزأ بها فلا تقعدوا معهم ﴾ بل قوموا عنهم، إن لم تقدروا أن تنكروا عليهم، والآية التي في سورة الإنعام قوله تعالى :" وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيا آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ " [ الأنعام : ٦٨ ] الآية. فما داموا في الخوض فاعرضوا عنهم حتى يخوضوا في حديث غير الخوض، فإن جلستم معهم في حال الخوض فإنكم ﴿ إذًا مثلهم ﴾ في الإثم، إن لم ترضوا، أو في الكفر، إن رضيتم بخوضهم.
نزلت في قوم من المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن، ويكذبون به ويحرفونه، فنهى المسلمين عن مجالستهم، قال ابن عباس : ودخل في هذه الآية كُلُّ مُحدِث في الدين ومُبتدعٍ إلى يوم القيامةً. ه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الله ﴾ سيجمع ﴿ المنافقين والكافرين ﴾، أي : الخائضين والقاعدين معهم، ﴿ في جهنم جميعًا ﴾ خالدين فيها.
الإشارة : أولياء الله آيات من آيات الله : فمن استهزأ بهم فقد استوجب المقت من الله، وكل موطن يقع فيه الإنكار عليهم أو الغض من مرتبتهم، يجب الفرار منه، لأنه موطن الغضب ومحل الهلاك والعَطب، فإن لحوم الأولياء سموم قاتلة، واللعنة على من يقع فيهم حاصلة، فمن جلس مع أهل الخوض من غير عذر، كان من الخائضين، ومن فرّ منهم كان من الناجين، ومن أنكر على من يقع فيهم كان من المجاهدين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وعيد الخائضين ومن رضي بخوضهم، فقال :
﴿ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾
قلت :﴿ الذين ﴾ : صفة المنافقين، أو نصب على الذم، و﴿ نستحوذ ﴾ : تغلب، استحوذ : غلب، جاء على أصله، ولم يُعلّ كاستعاذ والقياس : استحاذ، يستحيذ، كاستعاذ يستعيذ، لكنه صحح تنبيهًا على الأصل.
﴿ الذين يتربصون بكم ﴾ أي : ينتظرون بكم الدوائر، أي : ما يدور به الزمان والدهر عليكم، وهم المنافقون، ﴿ فإن كان لكم فتح من الله ﴾ كالنصر والغنيمة ﴿ قالوا ﴾ للمؤمنين :﴿ ألم نكن معكم ﴾ على دينكم، فأعطونا مما غنمتم، ﴿ وإن كان للكافرين نصيب ﴾ ؛ دولة أو ظهور على المسلمين، ﴿ قالوا ﴾ لهم :﴿ ألم نستحوذ عليكم ﴾ أي : نغلبكم ونتمكن من قتلكم، وأبقينا عليكم فمنعناكم من قتل المسلمين لكم، بأن خذلناهم بتخييل ما ضعُفت به عزيمتهم عليكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فأشركُونا مما أصبتم.
وإنما سمي ظفر المسلمين فتحًا، وظفر الكافرين نصيبًا ؛ لخسة حظه، فإنه حظ دنياوي، استدراجًا ومكرًا، بخلاف ظفر المسلمين، فإنه إظهار الدين، وإعانة بالغنيمة للمسلمين.
﴿ فالله يحكم بينهم يوم القيامة ﴾ ؛ فيدخل أهل الحق الجنة، ويدخل أهل الخوض النار، ﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ﴾ أي : حجة، أو غلبة في الدنيا والآخرة، وفيه دليل على عدم صحة ملك الكافر للمسلم، فيباع عليه إن اشتراه، ويفسخ نكاحه إن تزوج مسلمة. والله تعالى أعلم.
الإشارة :( المرء مع من أحب ) ؛ من أحبَّ قومًا حُشر معهم، فمن أحب أهل الخوض حُشر مع الخائضين، ومن أحب أهل الصفا حشر مع المخلصين، وإن كان مذبذبًا يميل مع كل ريح ؛ حشر مع المخلصين، وهو من خف عقله وضعف يقينه، إن رأى بأهل النسبة من الفقراء عزًا ونصرًا وفتحًا انحاز إليهم، وقال : ألم نكن معكم، وإن رأى لأهل الإنكار من العوام صولة وغلبة رجع إليهم، وقال : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من دعاء الصالحين عليكم، فما لهذه عند الله من خلاق. وفي الحديث :" ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا ". فالله يحكم بينهم يوم القيامة، فيرفع أهل الصفا مع المقربين، ويسقط أهل الخوض مع الخائضين، وليس لأهل الخوض من أهل الإنكار سبيل ولا حجة على أهل الصفا من الأبرار. ﴿ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ [ النّحل : ١٢٨ ].
ذكر أحوالهم الشنيعة، فقال :
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴾
قلت : جملة :﴿ ولا يذكرون الله ﴾ ؛ حال من واو ﴿ يُراءون ﴾، يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن المنافقين يُخادعون الله ﴾ بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ﴿ وهو خادعهم ﴾، أي : مجازيهم على خداعهم ؛ بأن يظهر لهم يوم القيامة، نورًا يمشون به على الصراط، كما يعطي المؤمنين، فإذا مضوا به طُفِئ نورهم وبقي نور المؤمنين، فينادونهم :
﴿ انظُرُونَا نَقْتَبِس مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ﴾
[ الحديد : ١٣ ]، فيتهافتون في النار، فسمي هذه العقوبة خداعًا تسمية للعقوبة باسم الذنب.
وكانوا ﴿ إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ﴾ أي : متثاقلين، لا يريدون بها وجه الله، فإن رآهم أحد، صلوا، وإلاَّ انصرفوا، فلم يصلوا، ﴿ يُراءون ﴾ بأعمالهم ﴿ الناس ﴾ أي : المؤمنين، ﴿ ولا يذكرون الله إلا قليلاً ﴾ ؛ لأن المرئي لا يذكر إلا بحرة الناس، وهو أقل أحواله، أو لا يذكرونه في صلاتهم إلا قليلاً، لأنهم لا يذكرون إلا التكبير والتسليم، وقال ابن عباس : إنما ذلك لأنهم يفعلونها رياءً وسمعةً، ولو أرادوا بذلك وجه الله تعالى لكان كثيرًا. وقال قتادة : إنما قل ذكرهم، لأنه لم يُقبل، فكل ما رُدَّ من العمل فهو قليل، وكل ما قُّبل فهو كثير.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من أحب أن يَرى الناسُ محاسنَ أعماله وأحواله، ففيه شعبة من النفاق وشعبة من الرياء، وعلامة المرائي : تزيين ظاهرة وتخريب باطنه، يتزين للناس بحسن أعماله وأحواله، يراقب الناس ولا يراقب الله، وكان بعضُ الحكماء يقول : يقول الله ـ تعالى ـ :" يا مُرائي : أمرُ من ترائى بيد من تعصيه ". فمثل هذا أعماله كلها قليلة، ولو كثرت في الحس كالجبال الرواسي، وأعمال المخلصين كلها كثيرة ولو قلَّت في الحس، وأعمال المرائين كلها قليلة ولو كثرت في الحس. قال في القوت : وَصَفَ اللهُ تعالى ذكر المنافقين بالقلة، لكونه غير خاص، كما قيل في تفسير قوله تعالى :
﴿ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ [ الأحزَاب : ٤١ ] أي : خالصًا، فسمي الخالص كثيرًا. هـ.
قوله تعالى :﴿ مذبذبين بين ذلك ﴾ : هذه صفة أهل الدعوى، المستشرفين على الحقيقة بالعلم، ليسوا من الخصوص ولا من العموم، مترددين بين الفريقين، ومن يضلل الله عن طريق التحقيق، فلن تجد له سبيلاً.

وكذلك ﴿ مذبذبين ﴾ أي : يراءون حال كونهم غير ذاكرين مذبذبين، أو منصوب على الذم، والمذبذب المضطرب المتردد.
وكانوا أيضًا ﴿ مذبذبين ﴾ أي : مترددين ومتحيرين بين الكفر والإيمان، ﴿ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴾ أي : لا صائرين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين. قال قتادة : ماهم بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مُصَرِّحين بالشرك، هكذا سبق في علم الله، ﴿ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً ﴾ أي : طريقًا إلى الهدى، ومثله قوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾ [ النور : ٤٠ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من أحب أن يَرى الناسُ محاسنَ أعماله وأحواله، ففيه شعبة من النفاق وشعبة من الرياء، وعلامة المرائي : تزيين ظاهرة وتخريب باطنه، يتزين للناس بحسن أعماله وأحواله، يراقب الناس ولا يراقب الله، وكان بعضُ الحكماء يقول : يقول الله ـ تعالى ـ :" يا مُرائي : أمرُ من ترائى بيد من تعصيه ". فمثل هذا أعماله كلها قليلة، ولو كثرت في الحس كالجبال الرواسي، وأعمال المخلصين كلها كثيرة ولو قلَّت في الحس، وأعمال المرائين كلها قليلة ولو كثرت في الحس. قال في القوت : وَصَفَ اللهُ تعالى ذكر المنافقين بالقلة، لكونه غير خاص، كما قيل في تفسير قوله تعالى :
﴿ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ [ الأحزَاب : ٤١ ] أي : خالصًا، فسمي الخالص كثيرًا. هـ.
قوله تعالى :﴿ مذبذبين بين ذلك ﴾ : هذه صفة أهل الدعوى، المستشرفين على الحقيقة بالعلم، ليسوا من الخصوص ولا من العموم، مترددين بين الفريقين، ومن يضلل الله عن طريق التحقيق، فلن تجد له سبيلاً.

ثم نهى المؤمنين عن موالاة الكفار لئلا يتشبهوا بالمنافقين، فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾
قلت : اتخذ، يتعدّى إلى مفعولين، و﴿ من دون ﴾ : حال.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ لا تتشبهوا بالمنافقين فتتخذوا ﴿ الكافرين أولياء ﴾ وأصدقاء ﴿ من دون المؤمنين ﴾ ؛ لأن الله أعزكم بالإيمان والنصر، فلا تطلبوا العز من أحد سواه، ﴿ أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا ﴾ أي : حجة واضحة على تعذيبكم وسببًا في عقابكم.
الإشارة : قد تقدم في كثير من الإشارات النهي عن موالاة أهل الإنكار على الأولياء، وعن مخالطة أهل الدنيا وصحبتهم، فإن ذلك حجة واضحة على الرجوع إليهم ومصانعتهم، وهو عين النفاق عند المخلصين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وعيد المنافقين، فقال :
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾
قلت : الدَّرَك والدَّرْك لغتان، كالظَّعَن والظَّعْن، والنَّهَر والنَّهْر، والنَّشَر والنَّشْر، وهي الطبقة السفلى، وسميت طبقاتهم دركات ؛ لأنها مُتداركة متتابعة، وهي ضد الدرجات، فالدرجات للعلو، والدركات للسفل.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ أي : في الطبقة السفلى في قَعر جهنم ؛ لأنهم أخبث الكفرة، حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وخداع المسلمين. قال ابن مسعود رضي الله عنه :( هم في توابيت من النار مقفلة عليهم في النار، مطبقة عليهم ). وعن ابن عمر رضي الله عنه :( إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون، وممن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون لقوله :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ وقال في أصحاب المائدة :﴿ فَإِنْي أُعَذِبُهُ عَذَابًا لآ أُعَذِبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالمِينَ ﴾ [ المَائدة : ١١٥ ]. وقال :﴿ ادْخِلُوَا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَ الْعَذَابِ ﴾
[ غافر : ٤٦ ]، ﴿ ولن تجد لهم نصيرًا ﴾ يمنعهم من ذلك العذاب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لا شيء أصعب على النفس من الإخلاص ؛ كلما اجتهد العبد في قطع الرياء ؛ نبت على لون آخر، فلا يتطهر العبد منها إلا بتحقيق الفناء والغيبة عن السوى بالكلية. كما قال الششتري رضي الله عنه :
طهَّرَ العَينَ بالمَدامِعِ سَكبًا مِن شُهُودِ السَّوى تَزُل كلُّ عِلَّه
قال بعضهم :[ لا ينبت الإخلاص في القلب ؛ حتى يَسقط من عين الناس، ويُسقط الناسَ من عينه ]. والإخلاص من أعمال القلوب، فلا يطَّلع عليه إلا علآَّم الغيوب، فلا يجوز أن يحكم على أحد بالرياء بمجرد ما يرى عليه من الإظهار، وقد تدخل الرياء مع الإسرار، وتتخلص من القلب مع الإظهار، وفي الحكم :" ربما دخل الرياءُ عليك حيث لا ينظر الخلق إليك ". فإذا تخلص العبد من دقائق الرياء، وأصلح ما بينه وبين الله واعتصم به دون شيء سواه، كان مع المخلصين المقربين ؛ فيكون عمله موفورًا، وسعيه مشكورًا. وبالله التوفيق.
وقد تكلم في الإحياء على هذه الآية فقال : إنما كان المنافقون في الدرك الأسفل ؛ لأنهم جحدوا بعد العلم، وإنما تضاعف عذاب العالم في معصيته ؛ لأنه عَصَى عن علم. قلت : وافهم منه قوله صلى الله عليه وسلم في أبي طالب " وَلَولاَ أنَا لَكَانَ فِي الدَّركِ الأسفلَ مِنَ النَّارِ " وذلك لإعراضه مع العلم. وقال في الإحياء أيضًا : شدَّد أمر المنافقين ؛ لأن الكافر كفرَ وأظهَرَ، والمنافق كفر وستر، فكان ستره لكفره كفرًا آخر، لأنه استخف بنظر الله إلى قلبه، وعظَّم أمر المخلوقين. هـ. والحاصل : أن التشديد في الرياء والنفاق ؛ لِمَا في ذلك من تعظيم نظر الخلق على نظر الخالق، فكان أعظمَ من الكفر الصريح. هـ. من الحاشية.

﴿ إلا الذين تابوا ﴾ عن النفاق ﴿ وأصلحوا ﴾ ما أفسدوا في سرائرهم وأعمالهم في حال النفاق، ﴿ واعتصموا بالله ﴾ أي : وثقوا به وتمسكوا به، دون أحد سواه، ﴿ وأخلصوا دينهم لله ﴾ لا يريدون بطاعته إلا وجه الله، ولا رياءً ولا سمعةً ﴿ فأولئك مع المؤمنين ﴾ في الدين. قال الفرَّاء : من المؤمنين، وقال العتبي : حاد عن كلامهم غيظًا عليهم، ولم يقل هم المؤمنون. ه. قلت : إنما قال :﴿ مع المؤمنين ﴾ ولم يقل : منهم، لأن التخلص من النفاق صعب، ولا يكون من المؤمنين، حتى يتخلص من جميع شعبه، وهو عزيز، وقد قال عليه الصلاة والسلام :" ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه فهُوَ مُنَافقٌ، وإن صَامَ وصلَّى وزَعم أنه مُسلمٌ، من إذا حدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخلفَ، وإذا ائُتمِنَ خَانَ ".
﴿ وسوف يُؤت الله المؤمنين ﴾ المخلصين ﴿ أجرًا عظيمًا ﴾ فيساهُمونَهم فيه إن تابوا وأصلحوا، فإن الله غني عن عذابهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لا شيء أصعب على النفس من الإخلاص ؛ كلما اجتهد العبد في قطع الرياء ؛ نبت على لون آخر، فلا يتطهر العبد منها إلا بتحقيق الفناء والغيبة عن السوى بالكلية. كما قال الششتري رضي الله عنه :
طهَّرَ العَينَ بالمَدامِعِ سَكبًا مِن شُهُودِ السَّوى تَزُل كلُّ عِلَّه
قال بعضهم :[ لا ينبت الإخلاص في القلب ؛ حتى يَسقط من عين الناس، ويُسقط الناسَ من عينه ]. والإخلاص من أعمال القلوب، فلا يطَّلع عليه إلا علآَّم الغيوب، فلا يجوز أن يحكم على أحد بالرياء بمجرد ما يرى عليه من الإظهار، وقد تدخل الرياء مع الإسرار، وتتخلص من القلب مع الإظهار، وفي الحكم :" ربما دخل الرياءُ عليك حيث لا ينظر الخلق إليك ". فإذا تخلص العبد من دقائق الرياء، وأصلح ما بينه وبين الله واعتصم به دون شيء سواه، كان مع المخلصين المقربين ؛ فيكون عمله موفورًا، وسعيه مشكورًا. وبالله التوفيق.
وقد تكلم في الإحياء على هذه الآية فقال : إنما كان المنافقون في الدرك الأسفل ؛ لأنهم جحدوا بعد العلم، وإنما تضاعف عذاب العالم في معصيته ؛ لأنه عَصَى عن علم. قلت : وافهم منه قوله صلى الله عليه وسلم في أبي طالب " وَلَولاَ أنَا لَكَانَ فِي الدَّركِ الأسفلَ مِنَ النَّارِ " وذلك لإعراضه مع العلم. وقال في الإحياء أيضًا : شدَّد أمر المنافقين ؛ لأن الكافر كفرَ وأظهَرَ، والمنافق كفر وستر، فكان ستره لكفره كفرًا آخر، لأنه استخف بنظر الله إلى قلبه، وعظَّم أمر المخلوقين. هـ. والحاصل : أن التشديد في الرياء والنفاق ؛ لِمَا في ذلك من تعظيم نظر الخلق على نظر الخالق، فكان أعظمَ من الكفر الصريح. هـ. من الحاشية.

ولذلك قال :﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ﴾ أي : لا حاجة له في عذابكم، فلا يُشفى به غيظًا ولا يدفع به ضررًا، أو يستجلب به نفعًا ؛ لأنه غنيَّ عن المنافع، وإنما يعاقب المصر بكفره، لأن إصراره عليه كسوء المزاج يؤدي إلى مرض فإن زال بالإيمان والشكر، ونقَّى منه قلبه، تخلص من تبعته. وإنما قدم الشكر ؛ لأن الناظر يدرك النعم أولاً فيشكر شكرًا مبهمًا، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به. قاله البيضاوي. وقال الثعلبي : فيه تقديم تأخير، أي إن آمنتم وشكرتم، لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان. ﴿ وكان الله شاكرًا ﴾ لأعمال عباده، يقبل اليسير ويعطي الكثير، ﴿ عليمًا ﴾ بحقيقة شكرهم وإيمانهم، ومقدار أعمالهم، فيضاعفها على قدر تخليصها. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لا شيء أصعب على النفس من الإخلاص ؛ كلما اجتهد العبد في قطع الرياء ؛ نبت على لون آخر، فلا يتطهر العبد منها إلا بتحقيق الفناء والغيبة عن السوى بالكلية. كما قال الششتري رضي الله عنه :
طهَّرَ العَينَ بالمَدامِعِ سَكبًا مِن شُهُودِ السَّوى تَزُل كلُّ عِلَّه
قال بعضهم :[ لا ينبت الإخلاص في القلب ؛ حتى يَسقط من عين الناس، ويُسقط الناسَ من عينه ]. والإخلاص من أعمال القلوب، فلا يطَّلع عليه إلا علآَّم الغيوب، فلا يجوز أن يحكم على أحد بالرياء بمجرد ما يرى عليه من الإظهار، وقد تدخل الرياء مع الإسرار، وتتخلص من القلب مع الإظهار، وفي الحكم :" ربما دخل الرياءُ عليك حيث لا ينظر الخلق إليك ". فإذا تخلص العبد من دقائق الرياء، وأصلح ما بينه وبين الله واعتصم به دون شيء سواه، كان مع المخلصين المقربين ؛ فيكون عمله موفورًا، وسعيه مشكورًا. وبالله التوفيق.
وقد تكلم في الإحياء على هذه الآية فقال : إنما كان المنافقون في الدرك الأسفل ؛ لأنهم جحدوا بعد العلم، وإنما تضاعف عذاب العالم في معصيته ؛ لأنه عَصَى عن علم. قلت : وافهم منه قوله صلى الله عليه وسلم في أبي طالب " وَلَولاَ أنَا لَكَانَ فِي الدَّركِ الأسفلَ مِنَ النَّارِ " وذلك لإعراضه مع العلم. وقال في الإحياء أيضًا : شدَّد أمر المنافقين ؛ لأن الكافر كفرَ وأظهَرَ، والمنافق كفر وستر، فكان ستره لكفره كفرًا آخر، لأنه استخف بنظر الله إلى قلبه، وعظَّم أمر المخلوقين. هـ. والحاصل : أن التشديد في الرياء والنفاق ؛ لِمَا في ذلك من تعظيم نظر الخلق على نظر الخالق، فكان أعظمَ من الكفر الصريح. هـ. من الحاشية.

ومن علامة تصفيته الباطن من الرياء والنفاق ؛ تلبس الظاهر بأحسن الأخلاق، ولذلك ذكره بإثره، فقال :
﴿ لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً إِن تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُواءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ﴾
قلت :﴿ إلا من ظلم ﴾ : استثناء منقطع، أي : لكن من ظلم فلا بأس أن يشكو بظالمه ويدعو عليه، وليس المراد أن الله يحب ذلك منه، إذ العفو أحسن كما يقوله بعد، وقٌرئ :﴿ إلا من ظَلَم ﴾ بالبناء للفاعل، أي : ولكن الظالم يفعل ما لا يحبه الله.
يقول الحقّ جلَ جلاله :﴿ لا يحب الله الجهر ﴾ أي : الإجهار ﴿ بالسوء من القول ﴾ ؛ لأنه مِن فِعل أهل الجفاء والجهل ﴿ ألا من ظُلم ﴾ فلا بأس أن يجهر بالدعاء على ظالمه، أو بالشكوى به. نظيرها :
﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِن سَبِيلٍ ﴾ [ الشّورى : ٤١ ]. قال مجاهد : هذا في الضيف النازل إذا لم يُضَف ومُنِع حقه، أو أُسِيءَ قِراه، فقد رخص له أن يذكر ما صُنعَ به. وزَعَم أن ضيفًا تَضَيَّفِ قومًا فأساؤوا قراه، فاشتكاهم، فنزلت الآية رخصة في شكواه. ﴿ وكان الله سميعًا ﴾ لدعاء المظلوم، ورده على الظالم، فلا يحتاج إلى جهره، ﴿ عليمًا ﴾ بالظالم فيعاقبه على قدر جرمه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الباطن إذا كمل تطهيره وتحقق تنويره ؛ ظهر أثر ذلك على الظاهر من مكارم الأخلاق، ولين الجانب، وحسن الخطاب، وترك العتاب، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر ؛ وما كمن فيك ظهر على فيك، وهذه أخلاق الصوفية ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ وبذلك وصفهم القائل فيهم، فقال :١
هيْنُون ليْنُون أيسَارٌ بنو يَسَرٍ سُوَّاسُ مَكرُمَةِ أبناءُ أيسَارِ
لا يَنطقُون بغيرِ الحقِّ إن نطقُوا ولا يُمَاروُنَ إن مارَوُا بإكثَارِ
مَن تَلق مِنهُم تَقُل هذاك سَيِّدهُم مِثلُ النُّجُومِ التي يُهدَى بها السَّارِ
ومن شأن الحضرة التهذيب والتأديب، فلا يبقى معها لغو ولا تأثيم، لأنها جنة معجلة، قال تعالى :﴿ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأثِيمًا، إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا ﴾ [ الواقعة : ٢٥، ٢٦ ].
وأيضَا أهل الحضرة حصل لهم القرب من الحبيب، فهم في حضرة القريب على بساط القرب على الدوام، ولا يتصور منهم الجهر بالكلام، وهم في حضرة الملك العلاَّم. قال تعالى :﴿ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا ﴾ [ طه : ١٠٨ ]، فرفعُ الصوت عند الصوفية مذموم شنيع، يدل على بُعد صاحبه كيف ما كان، وتأمل قضية الصِّدِّيق حيث قال له ـ عليه الصلاة والسلام ـ :" ما لَك تقرأ سرًا ؟ " فقال :( إن الذي نناجيه ليس ببعيد ). أو كما قال، وإنما قال له صلى الله عليه وسلم " ارفع قليلاً " ؛ إخراجًا له عن مُراده، تربية له. والله تعالى أعلم.

ثم رغَّب في العفو فقال :﴿ إن تُبدوا خيرًا ﴾ : طاعة وبرًا كحسن الخلق ولين الجانب، ﴿ أو تُخفوه ﴾ أي : تفعلوه سرًا، ﴿ أو تعفوا عن سوء ﴾ بأن لا تؤاخذوا به من أساء إليكم، وهذا هو المقصود بالذكر، وإنما ذُكِرَ إبداءُ الخير وإخفاؤُه سببًا ووسيلة لذكره، ولذلك رتب عليه ﴿ فإن الله كان عفوًا قديرًا ﴾ أي : كثير العفو عن العُصاة، مع كمال قدرته على الانتقام، فأنتم أولى بذلك، وهو حث للمظلوم على العفو، بعدما رخَّص له في الانتصار، حملاً على مكارم الأخلاق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الباطن إذا كمل تطهيره وتحقق تنويره ؛ ظهر أثر ذلك على الظاهر من مكارم الأخلاق، ولين الجانب، وحسن الخطاب، وترك العتاب، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر ؛ وما كمن فيك ظهر على فيك، وهذه أخلاق الصوفية ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ وبذلك وصفهم القائل فيهم، فقال :١
هيْنُون ليْنُون أيسَارٌ بنو يَسَرٍ سُوَّاسُ مَكرُمَةِ أبناءُ أيسَارِ
لا يَنطقُون بغيرِ الحقِّ إن نطقُوا ولا يُمَاروُنَ إن مارَوُا بإكثَارِ
مَن تَلق مِنهُم تَقُل هذاك سَيِّدهُم مِثلُ النُّجُومِ التي يُهدَى بها السَّارِ
ومن شأن الحضرة التهذيب والتأديب، فلا يبقى معها لغو ولا تأثيم، لأنها جنة معجلة، قال تعالى :﴿ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأثِيمًا، إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا ﴾ [ الواقعة : ٢٥، ٢٦ ].
وأيضَا أهل الحضرة حصل لهم القرب من الحبيب، فهم في حضرة القريب على بساط القرب على الدوام، ولا يتصور منهم الجهر بالكلام، وهم في حضرة الملك العلاَّم. قال تعالى :﴿ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا ﴾ [ طه : ١٠٨ ]، فرفعُ الصوت عند الصوفية مذموم شنيع، يدل على بُعد صاحبه كيف ما كان، وتأمل قضية الصِّدِّيق حيث قال له ـ عليه الصلاة والسلام ـ :" ما لَك تقرأ سرًا ؟ " فقال :( إن الذي نناجيه ليس ببعيد ). أو كما قال، وإنما قال له صلى الله عليه وسلم " ارفع قليلاً " ؛ إخراجًا له عن مُراده، تربية له. والله تعالى أعلم.

ولما قدم أقبح الكفر، وهو كفر المنافقين، ذكر ما يليه، وهو كفر اليهود، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويريدون أن يُفرقوا بين الله ورسله ﴾ بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله، ﴿ ويقولون نؤمن ببعض ﴾ الأنبياء ﴿ ونكفر ببعض ﴾، كاليهود، آمنوا بموسى وعُزير والتوراة، وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً ﴾، أي : طريقًا وسطًا بين الإيمان والكفر، ولا واسطة، إذ الحق لا يختلف، فإن الإيمان بالله إنما يتم برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه، تفصيلاً وإجمالاً، فالكافر بالبعض كالكافر بالكل في الضلال.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأولياء على قدم الأنبياء، فمن فرَّق بينهم حُرم بركةَ جميعهم ومن صدَّق بجميعهم وعَظَّمَهم اقتبس من أنوارهم كلهم، والله ـ تعالى ـ غيور على أوليائه، كما كان غيورًا على أنبيائه، فطرد من فرَّق بينهم، فكذلك يطرد من يقع في بعض أوليائه ويعظم البعض، لأن البعض هو الكل. والله تعالى أعلم.
قلت :﴿ حقًا ﴾ : مصدر مؤكد للجملة، أو صفة لمصدر الكافرين، أي : كفروا كفرًا محققًا يقينًا. وأصل ﴿ أعتدنا ﴾ : أعددنا، أبدلت الدال تاء ؛ لقرب المخرج.
ولذلك حكم عليهم بصريح الكفر فقال :﴿ أولئك هم الكافرون حقًا ﴾ أي : هم الكاملون في الكفر حقيقة، وإنما أكد كفرهم لأنهم تحكموا على الله، واتخذوا إلههم هواهم، حيث جعلوا الاختيار لهم دون الله، وفي ذلك منازعة للقدر، وتعطيل له، وهو كفر وشرك، ثم ذَكَرَ وعيدَهم فقال :﴿ وأعتدنا ﴾ أي : هيأنا ﴿ للكافرين ﴾ منهم ﴿ عذابًا مهينًا ﴾ أي : يخزيهم ويهينهم، حين يُكرِّم أولياءَه ويرفع أقدارهم. جعلنا الله منهم. آمين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأولياء على قدم الأنبياء، فمن فرَّق بينهم حُرم بركةَ جميعهم ومن صدَّق بجميعهم وعَظَّمَهم اقتبس من أنوارهم كلهم، والله ـ تعالى ـ غيور على أوليائه، كما كان غيورًا على أنبيائه، فطرد من فرَّق بينهم، فكذلك يطرد من يقع في بعض أوليائه ويعظم البعض، لأن البعض هو الكل. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر من لم يفرق، فقال :
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَائِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾
قلت :﴿ بين ﴾ : من الأمور النسبية، فلا بد أن تدخل على متعدد، تقول ؛ جلست بين فلان وفلان، وإنما دخلت هنا على ﴿ أحد ﴾ ؛ لأنه يقتضي متعددًا لعمومه، لأنه رفع في سياق النفي. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والذين آمنوا بالله ﴾ وما يجب له من الكمالات، ﴿ ورسله ﴾ وما يجب لهم كذلك، ﴿ ولم يُفرقوا بين أحد منهم ﴾ بأن آمنوا بجميعهم، وصدقوا بكل ما جاؤوا به من عند ربهم، ﴿ أولئك سوف نؤتيهم أجورهم ﴾ الموعودة لهم، بأن نُجِلَّ مقدارهم، ونرفع مقامهم، ونُبوئهم في جنات النعيم. وتصديره بسوف ؛ لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر وقته، ولمًا كان العبد لا يخلوا من نقص، رفع الخوف عنهم بقوله :﴿ وكان الله غفورًا ﴾ لما فرط منهم ﴿ رحيمًا ﴾ بهم بتضعيف حسناتهم.
الإشارة : والذين صدقوا بأولياء الله، وعظموا جميعهم، واقتبسوا من أنوارهم كلهم، أولئك سوف نؤتيهم أجورهم، بأن أُنعمهم في جنات المعارف في دار الدنيا، فإن ماتوا أسكنَّاهم في الفراذيس العُلَى ﴿ في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ﴾ [ القمر : ٥٥ ]. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر مساوئ اليهود فقال :
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذالِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يسألك أهل الكتاب ﴾، وهم أحبار اليهود، ﴿ أن تنزل عليهم كتابًا من السماء ﴾ جملة واحدة، كما نزل التوراة، أو كتابًا بخطَّ سماوي على ألواح كما كانت التوراة، والسائل هو كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وغيرهم، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :( إن كنت نبيًا فأتنا بكتاب من السماء جملةً، كما أتى به موسى )، قال تعالى في الرد عليهم :﴿ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ﴾ ؛ وهو رؤية ذات الحقّ تعالى جهرًا حسًا. والمعنى : إن استعظمت ما سألوا منك فقد وقع منهم ما هو أعظم من ذلك.
وهذا السؤال، وإن كان من آبائهم، أُسند إليهم ؛ لأنهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم، فما اقترحوا عليكم ليس بأول جهالاتهم وتشغيبهم ؛ بل عُرفُهُم راسخٌ في ذلك، فلا تستغرب ما وقع منهم.
ثم فسر سؤالهم بقوله :﴿ فقالوا أرنا الله جهرة ﴾ أي : عيانًا في الحس، ﴿ فأخذتهم الصاعقة ﴾، بأن جاءت نار من السماء فأهلكتهم، فماتوا ثم بُعثوا بدعوة موسى عليه السلام وذلك بسبب ظلمهم. وهو تعنتهم وسؤالهم لما أستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها. وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقًا. وسيأتي في الإشارة تحرير ذلك.
﴿ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ﴾ على وحدانيته تعالى. وهذه جناية أخرى اقترفها أيضًا أوائلهم، ﴿ فعفونا عن ذلك ﴾ حيث تابوا، ولم نعاجلهم بالعقوبة، ﴿ وأتينا موسى سلطانًا مبينًا ﴾ أي : تسلطًا ظاهرًا عليهم، حين أمرهم أن يقتلوا أنفسهم، توبة من اتخاذهم العجل إلهًا، وحجة واضحة على نبوته كالآيات التسع.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اقتراح الآيات وطلب الكرامات من الأولياء، سنة ماضية، لأنهم على قدم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ما يقال لهم إلا ما قيل للأنبياء قبلهم، فلا تكاد تجد أحدًا يصدق بولي حتى تظهر عليه الكرامة، وهو جهل كبير ؛ لأن الكرامة قد تظهر على من لم تكمل له استقامة، وقد تكون استدراجًا ومكرًا. وأيُّ كرامة أعظم من العلوم اللدنية والأخلاق النبوية ؟ كما قال شيخنا رضي الله عنه. وقد ظهرت الكرامات على المتقدمين ولم ينقطع الإنكار عليهم.
واعلم أن طلب الرؤية في الدنيا ليس بممتنع، وإنما عاقب الله بني إسرائيل على طلبها ؛ لأنهم طلبوها قبل إبانها، طلبوها من غير اتصاف بشروط حصولها، وهو كمال التهذيب والتطهير من دنس الحس، فمن كمل تهذيبه وتحقق تطهيره حصل له شهود الحق، حتى لو كلف أن يشهد غيره لم يستطع، وذلك حين تستولي البصيرة على البصر، فيشهد البصر ما كانت تشهده البصيرة، وذلك بعد كمال فتحها. ولذلك قال في الحِكَم :" شعاعُ البصيرة يُشهدك قربَ الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق "... الخ كلامه. وهذه المشاهدة لا تحصل إلا لمن اتصل بشيخ التربية، وإلا فلا مطمع فيها. والله تعالى أعلم.

قلت : من قرأ :﴿ لا تعدوا ﴾ بالسكون، فماضيه : عدا، ومن قرأ بتشدد الدال، فماضيه اعتَدى، وأصله : لا تعتدوا، فنُقلت حركة التاء إلى العين وأُدغمت التاء في الدال، ومن قرأ بالاختلاس أشار إلى الأصل.
﴿ ورفعنا فوقهم الطور ﴾ حيث امتنعوا من قبول أحكام التوراة، بسبب ميثاقهم الذي أخذناه عليهم، وهو التزام أحكام التوراة، وقلنا لهم على لسان موسى :﴿ ادخلوا الباب سجّدًا ﴾ أي : باب بيت المقدس، فدخلوا يزحفون على استاههم عنادًا واستهزاءً، وقلنا لهم :﴿ لا تعدوا في السبت ﴾ على لسان داود عليه السلام، فاعتدوا فيه بالاصطياد، فمسخناهم قردةً وخنازير، ﴿ وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا ﴾ على ذلك كله، فنقضوا جميع ذلك، أو ميثاقًا غليظًا في التوراة ؛ لئن أدركوك ليؤمنن بك، وليبينن صفتك للناس، فنقضوا وكتموا. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اقتراح الآيات وطلب الكرامات من الأولياء، سنة ماضية، لأنهم على قدم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ما يقال لهم إلا ما قيل للأنبياء قبلهم، فلا تكاد تجد أحدًا يصدق بولي حتى تظهر عليه الكرامة، وهو جهل كبير ؛ لأن الكرامة قد تظهر على من لم تكمل له استقامة، وقد تكون استدراجًا ومكرًا. وأيُّ كرامة أعظم من العلوم اللدنية والأخلاق النبوية ؟ كما قال شيخنا رضي الله عنه. وقد ظهرت الكرامات على المتقدمين ولم ينقطع الإنكار عليهم.
واعلم أن طلب الرؤية في الدنيا ليس بممتنع، وإنما عاقب الله بني إسرائيل على طلبها ؛ لأنهم طلبوها قبل إبانها، طلبوها من غير اتصاف بشروط حصولها، وهو كمال التهذيب والتطهير من دنس الحس، فمن كمل تهذيبه وتحقق تطهيره حصل له شهود الحق، حتى لو كلف أن يشهد غيره لم يستطع، وذلك حين تستولي البصيرة على البصر، فيشهد البصر ما كانت تشهده البصيرة، وذلك بعد كمال فتحها. ولذلك قال في الحِكَم :" شعاعُ البصيرة يُشهدك قربَ الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق "... الخ كلامه. وهذه المشاهدة لا تحصل إلا لمن اتصل بشيخ التربية، وإلا فلا مطمع فيها. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر عقوبة اليهود حيث نقضوا العهود، فقال :
﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾
قلت :﴿ فبما ﴾ : صلة زيدت للتأكيد، و﴿ نقضهم ﴾ : مصدر مجرور بالباء، وهي متعلقة بالفعل المحذوف، أي : بسبب نقضهم فَعَلنا بهم ما فعلنا، أو بقوله :﴿ حرَمنا عليهم ﴾، ويكون ﴿ فبظلم ﴾ على هذا بدلاً من قوله :﴿ فبما نقضهم ﴾، فيكون التحريم بسبب النقض، وما عطف عليه.
يقول الحقّ جلّ جلاله : فلما أخذنا على بني إسرائيل العهد والميثاق خالفوا ونقضوا، ففعلنا بهم ما فعلنا، بسبب نقضهم ميثاقهم، أو بسبب نقضهم وكفرهم ﴿ حرمنا عليهم طيبات أُحِلّت لهم ﴾، وبسبب كفرهم أيضًا ﴿ بآيات الله ﴾ ؛ القرآن، أو بما في كتبهم، ﴿ وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم غلف ﴾ أي : مغلفة لا تفقه ما تقول.
قال تعالى في الرد عليهم :﴿ بل طبع الله عليها بكفرهم ﴾، فجعلها محجوبة عن العلم، بأن خذلها ومنعها التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ، ﴿ فلا يؤمنون إلا قليلاً ﴾ منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، أو إيمانًا قليلاً لا عبرة به لنقصانه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : نقضُ عهود الشيوخ من أسباب المقت والبعد عن الله، وكذلك الإنكار عليهم والطعن فيهم، وكذلك البعد عن وعظهم وتذكيرهم، وضد هذا من موجبات القرب والحب من الله، كحفظ حرمتهم، والوقوف مع أوامرهم، والذب عنهم حين تهتك حرمتهم، والدنو منهم، والسعي في خدمتهم. وبالله التوفيق.
﴿ وبكفرهم ﴾ أيضًا بعيسى عاقبناهم وطبعنا على قلوبهم، ﴿ وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا ﴾ أي : نسبتها للزنى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : نقضُ عهود الشيوخ من أسباب المقت والبعد عن الله، وكذلك الإنكار عليهم والطعن فيهم، وكذلك البعد عن وعظهم وتذكيرهم، وضد هذا من موجبات القرب والحب من الله، كحفظ حرمتهم، والوقوف مع أوامرهم، والذب عنهم حين تهتك حرمتهم، والدنو منهم، والسعي في خدمتهم. وبالله التوفيق.
والاستثناء في قوله :﴿ إلا اتباع الظن ﴾ منقطع ؛ إذ العلم يناقض الظن.
وبقولهم :﴿ إن قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ﴾ أي بزعمه، ويحتمل أنهم قالوه استهزاء، ونظيره :
﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [ الشُّعَرَاء : ٢٧ ]، أو يكون استئنافًا من الله بمدحه، أو وضعًا للذكر الحسن موضع قولهم القبيح. قاله البيضاوي.
ثم رد الله تعالى عليهم فقال :﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم ﴾ رُوِي أن رهطًا من اليهود سبوه هو وأمه، فدعا عليهم، فمُسخوا قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فقال لهم : يا معشر اليهود، إن الله يبغضكم، فغضبوا وثاروا ليقتلوه، فبعث الله تعالى جبريل فأدخله خُوجة فيها كُوة في سقفها، ورفعه الله إلى السماء من تلك الكوة، فأمر اليهود رجلاً منهم يقال له : طيطانوس، أن يدخل الخوخة ويقتله، فما دخل الخوخة، لم ير عيسى، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه، فلما أبطأ عليهم دخلوا عليه، فطنوه عيسى، فقتلوه وصلبوه.
وقال قتادة : ذكر لنا أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه : أيكم يقذف عليه شبهي فيقتل ؟ فقال رجل : أنا يا رسول الله، فقتل ذلك الرجل، ورفع عيسى عليه السلام، وكساه الريش وألبسه النور، وقطع عنه ذلة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة، فهو معهم في السماء إنسيًا ملكيًا، أرضيًا سماويًا.
﴿ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه ﴾ فقال بعض اليهود : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى ؟ ويقال : إن الله تعالى ألقى شبه وجه عيسى على صاحبهم، ولم يلق عليه شبه جسده، فلما قتلوه ونظروا إليه، فقالوا : الوجه وجه عيسى والجسد جسد صاحبنا. ﴿ ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ﴾ أي : لا علم لهم بقتله، لكن يتبعون الظن فقط. ﴿ وما قتلوه ﴾ قتلاً ﴿ يقينًا ﴾ كما زعموا بقولهم : إن قتلنا المسيح.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : نقضُ عهود الشيوخ من أسباب المقت والبعد عن الله، وكذلك الإنكار عليهم والطعن فيهم، وكذلك البعد عن وعظهم وتذكيرهم، وضد هذا من موجبات القرب والحب من الله، كحفظ حرمتهم، والوقوف مع أوامرهم، والذب عنهم حين تهتك حرمتهم، والدنو منهم، والسعي في خدمتهم. وبالله التوفيق.
﴿ بل رفعه الله إليه ﴾ فهو في السماء الثانية مع يحيى عليه السلام، ﴿ وكان الله عزيزًا حكيمًا ﴾ أي : قويًا بالنقمة على اليهود، حكيمًا فيما حكم عليهم من اللعنة والغضب. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : نقضُ عهود الشيوخ من أسباب المقت والبعد عن الله، وكذلك الإنكار عليهم والطعن فيهم، وكذلك البعد عن وعظهم وتذكيرهم، وضد هذا من موجبات القرب والحب من الله، كحفظ حرمتهم، والوقوف مع أوامرهم، والذب عنهم حين تهتك حرمتهم، والدنو منهم، والسعي في خدمتهم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر نزول عيسى في آخر الزمان، فقال :
﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإن من أهل الكتاب ﴾ أي : ما من يهودي ولا نصراني، أي : الموجودين حيث نزوله ﴿ إلا ليؤمِنَنّ ﴾ بعيسى ﴿ قبل موته ﴾ أي : عيسى، وذلك حين نزوله من السماء، رُوِيَ أنه ينزل من السماء حين يخرج الدجال فيهلكه، ولا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن به، حتى تكون الملة واحدة، وهي ملة الإسلام، وتقع الأمنة حتى يرتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفّى ويصلى عليه المسلمون ويدفنونه.
وقيل الضمير فيه ﴿ به ﴾ إلى عيسى، وفي ﴿ موته ﴾ إلى الكتابي، أي : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى بأنه عبد الله ورسوله، ﴿ قبل موته ﴾ أي : قبل خروج نفس ذلك الكتابي إذا عاين الملك، فلا ينفعه حينئٍذ إيمانه، لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل، ويؤيد هذا قراءة من قرأ :( ليُؤمنُنَّ به قبل موتهم ) بضم النون، لأن ( أحدًا ) في معنى الجمع، وهذا كالوعيد لهم والتحريض على معالجة الإيمان به من قبل أن يُضطر إليه ولم ينفعه إيمانه، ﴿ ويوم القيامة يكون عليه شهيدًا ﴾ يشهد على اليهود بالتكذيب، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة : عند الموت تتحقق الحقائق، ويتميز الحق من الباطل، ويحصل الندم ولا ينفع حين تزل القدم، فالمطلوب المبادرة بتحقيق الإيمان، وتحصيل مقام العرفان، قبل أن يسقط إلى جنبه، فينفرد رهينًا في قبره بذنبه، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال ظلمهم وعدوانهم، فقال :
﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : فبسبب ظلم ﴿ من الذين هادوا ﴾ ؛ وهو نقضهم الميثاق، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء، ﴿ حرَمنا عليهم طيبات ﴾ كانت ﴿ أُحِلّت لهم ﴾ كالشحوم، وكل ذي ظفر، وغير ذلك من لذيذ الطيبات، وكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرّم عليهم شيئًا من الطيّبات، وحرّمنا ذلك أيضًا عليهم ﴿ بصدّهم ﴾ عن طريق ﴿ الله ﴾ صدًّا ﴿ كثيرًا ﴾، أي : بإعراضهم عنه إعراضًا كثيرًا، أو بصدهم عنه ناسًا كثيرًا كانوا يُخَذِّلونَهُم عن الدخول في دين الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن كل غفلة ومعصية وسوء أدب يحرم مرتكبه بسببه من لذيذ الطاعات وحلاوة المشاهدات على قدره، شعر أو لم يشعر، وقد يبعده من الحضرة، وهو لا يشعر، مكرًا واستدراجًا، فإذا أصر عليه سلب من مقام الولاية بالكلية، ولا يزال ينص إيمانه شيئًا فشيئًا، حتى يتفلت منه، والعياذ بالله، وإذا بادر بالتوبة رجى قبوله، وكل يقظة وطاعة وحسن أدب يوجب لصاحبه الزلفى والقرب من الحضرة، ويزيده في حلاوة المعاملة والمشاهدة على قدره، فلا يزال يتقرب إليه بنوافل الخيرات، حتى يحبه فيتولاه، فيكون سمعه وبصره، كما في الحديث. وبالله التوفيق.
وبأخذهم الربا ﴿ وقد نُهوا عنه ﴾، فهو محرم عليهم وعلى الأمة المحمدية، وبأكلهم ﴿ أموال الناس بالباطل ﴾ كالرشوة وما كانوا يأخذونه من عوامهم، ﴿ وأعتدنا للكافرين منهم ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ عذابًا أليمًا ﴾، دون من تاب وآمن به.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن كل غفلة ومعصية وسوء أدب يحرم مرتكبه بسببه من لذيذ الطاعات وحلاوة المشاهدات على قدره، شعر أو لم يشعر، وقد يبعده من الحضرة، وهو لا يشعر، مكرًا واستدراجًا، فإذا أصر عليه سلب من مقام الولاية بالكلية، ولا يزال ينص إيمانه شيئًا فشيئًا، حتى يتفلت منه، والعياذ بالله، وإذا بادر بالتوبة رجى قبوله، وكل يقظة وطاعة وحسن أدب يوجب لصاحبه الزلفى والقرب من الحضرة، ويزيده في حلاوة المعاملة والمشاهدة على قدره، فلا يزال يتقرب إليه بنوافل الخيرات، حتى يحبه فيتولاه، فيكون سمعه وبصره، كما في الحديث. وبالله التوفيق.
ثم استثنى من تاب من اليهود، فقال :
﴿ لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ﴾
قلت :﴿ والمؤمنون ﴾ عطف على الراسخين، و﴿ يؤمنون ﴾ : حال منهم. و﴿ المقيمين ﴾ : نصب على المدح، لأن العرب إذا تطاولت في مدح شيء أو ذمه خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه، نظيره :﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٧٧ ]. وقالت عائشة رضي الله عنهما : هو لحن من الكُتَّاب، وفي مصحف ابن مسعود :﴿ والمقيمون ﴾ بالرفع على الأصل.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ليس أهل الكتاب كلهم كما ذكرنا، ﴿ لكن الراسخون في العلم منهم ﴾ كعبد الله بن سلام، ومخيريق، وغيرهما ممن له علم بالكتب المتقدمة، ﴿ والمؤمنون ﴾ منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، من وعوامهم حال كونهم ﴿ يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ أي : يؤمنون إيمانًا كاملاً بلا تفريق، وأخص ﴿ المقيمين الصلاة ﴾، المتقنين لها، ﴿ المؤتون الزكاة ﴾ المفروضة، ﴿ والمؤمنون ﴾ منهم ﴿ بالله واليوم الآخر ﴾، على صفة ما جاء به القرآن من البعث بالأجسام والحساب وغير ذلك ؛ مما هو مقرر في السنة، ﴿ أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا ﴾، فتكون الآية كلها في أهل الكتاب.
أو يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لكن الراسخون في العلم ﴾ من أهل الكتاب، ﴿ والمؤمنون ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم، من العرب، ﴿ والمقيمين الصلاة ﴾ منهم، ﴿ والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا ﴾.
الإشارة : كل من تحقّقت توبته بعد عصيانه، وظهرت يقظته بعد غفلاته، ورسخ في العلم بالله وبصفاته وأسمائه ؛ التحق بالسابقين، وحشر مع المقربين، وكان ممن أوتي أجرًا عظيمًا وخيرًا جسيمًا، والحمد الله رب العالمين.
ثم أجاب أهل الكتاب عن سؤالهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، فقال :
﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾
قلت : من قرأ ﴿ زبورًا ﴾ بالفتح، فالمراد به كتاب الزبور، ومن قرأ بالضم، فجمع " زِبر " ؛ بكسر الزاي وسكون الباء بمعنى مزبورًا، أي : مكتوبًا، أي آتينا داود كتبًا متعددة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إنا أوحينا إليك ﴾ يا محمد ﴿ كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾ ولم يكن ينزل عليهم الكتاب جملة واحدة، كما سألك أهل الكتاب تعنيتًا، بل كان ينزل عليهم الوحي شيئًا فشيئًا، فأمرك كأمرهم. وقدَّم نوحًا عليه السلام لأنه أبو البشر بعد آدم، وأول نبي من أنبياء الشريعة، وأول نذير على الشرك وأول رسول عُذبت أمته بدعوته، وأطول الأنبياء عُمرًا، وجُعلت معجزته في نفسه، فإنه عمَّر ألف سنة، ولم تنقص له سن، ولم تنقص له قوة، ولم تشب له شعرة، ولم يبالغ أحد في تأخير الدعوة ما بالغ هو عليه السلام، ولم يصبر أحدٌ على أذى قومه ما صبر هو، كان يُشتم ويُضرب حتى يغمى عليه.
ثم قال تعالى :﴿ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾ أي : الأحفاد، وهم أنبياء بني إسرائيل، ﴿ وعيسى وأيوب وهارون وسليمان ﴾، وإنما خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيمًا لهم، فإن إبراهيم أولُ أُولي العزم منهم، وآخرهم عيسى عليه السلام، والباقون أشراف الأنبياء ومشاهيرهم، ﴿ وآتينا داود زبورًا ﴾ أي : كتاب الزبور، أو زُبورًا أي : صحفًا متعددة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : علماءُ هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، العارفون منهم كالرسل منهم، قال ابن الفارض رضي الله عنه :
فَعَالِمُنَا منهم نبي، ومَن دَعَا *** إلى الحقِّ منّا قَامَ بالرسُلِيّه
وعارِفنا في وقتِنا الأحمَديُّ من *** أولي العزمِ منهم آخِذٌ بالعَزِيمَه
فإنهم يشاركونهم في وحي الإلهام، ويحصل لهم المكالمة مع المشاهدة، فيسمعون من الحق كما ينطقون به. كما قال الششتري :
أنَا باللهِ أنطقُ *** ومِنَ الله أسمَع
فتارة يسمعون كلامه بالوسائط، وتارة من غير الوسائط، يعرف هذا أهل الفن من أهل الذوق، وشأن من لم يَبلُغ مقامهم : التسليم.
إن لم تَرَ الهِلاَلَ فَسَلَّم *** لأُناسٍ رَأوه بالأبصَارِ
وفي الورتجبي : وإن الله تعالى إذا أراد أن يُسمع كلامه أحدًا من الأنبياء والأولياء يعطيه سمعًا من أسماعه، فيسمع به كلامه، كما حكى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عنه ـ تعالى ـ، قال :" فإذا أحببته كنت معه... "، الحديث. أسمعه كلامه، وليس هناك الحروف والأصوات، بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية، الذي هو منزه عن همهمة الأنفاس وخطرات الوسواس، وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء، حتى هناك السامع والمسمع واحد من حيث المحبة، لا من حيث الجمع والتفرقة. انتهى كلامه.
واعلم أن أهل الجمع لا يشهدون إلا متكلمًا واحدًا، قد انتفى من نظرهم التعدد والاثنينية، غير أنهم يفرقون بين كلام القدرة وكلام الحكمة، كلام القدرة يبرز من غير اختبار، بل يكون المتكلم به مأخوذًا عنه، غائبًا عن اختياره، وكلام الحكمة معه ضرب من الاختبار، وقد يسمعون كلام القدرة من الهواتف الغيبية، ومن الجمادات على وجه الكرامة، وكله بحرف وصوت. نعم ما يقع من الهواتف القلبية والتجليات الباطنية، قد يكون بلا حرف ولا صوت، وقد تحصل لهم المكالمة بالإشارة بلا صوت ولا حرف، فقوله :( بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية... ) الخ. إن أراد به التجليات الباطنية فمسلَّم، لكن ظاهره أن كلام الحق الذي يُسمعه لأنبيائه وأوليائه محصور في ذلك، وأنه لا يكون إلا بلا حرف ولا صوت. وليس كذلك.
وقوله :( وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء ) الخ، معناه : لم يبق في ولاية أهل مشاهدة الأزل من رسوم الحوادث شيء. قلت : لكنهم يثبتونها حكمةً، ويمحونها قدرةً ومشاهدة، ولا يلزم من محوها عدم صدور الكلام منها بالحرف والصوت ؛ فإن البشرية لا تطيق سماع كلام الحق بلا واسطة الحكمة، كما هو معلوم. والله تعالى أعلم.

و﴿ رسلاً ﴾ : منصوب بمحذوف دل عليه، ﴿ أوحينا ﴾، أي : أرسلنا رسلاً، أو يفسره ما بعده، أي : قصصنا عليك رسلاً.
وأرسلنا ﴿ رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ﴾ أي : من قبل هذه السورة، أو قبل هذا اليوم، ﴿ ورسلاً لم نقصصهم عليك ﴾، وفي الحديث :" عددُهم ثلاثمائة وأربعة عشر "، ﴿ وكلم الله موسى تكليمًا ﴾ حقيقيًا، خُصَّ به من بين الأنبياء، وزاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية مع الكلام.
قال الورتجبي : بادر موسى عليه السلام من بين الأنبياء لسؤال الرؤية، فأوقفه الحق في مقام سماع كلامه، ومنعه من مشاهدة رؤيته صرفًا، وتحمل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أثقال السر بمطايا أسراره، ولم يسأل مشاهدة الحق جهرًا بالانبساط، فأوصله الله إلى مقام مشاهدته، ثم أسمعه كلامه بلا واسطة ولا حجاب. قال تعالى :﴿ فَأَوْحَى إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىَ ﴾ [ النجم : ١٠، ١١ ]. ه. وقال ابن عطية : كلامه تعالى لموسى دون تكييف ولا تحديد، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات معلوم لا كالمعلومات، فكذلك كلامه لا كالكلام. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : علماءُ هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، العارفون منهم كالرسل منهم، قال ابن الفارض رضي الله عنه :
فَعَالِمُنَا منهم نبي، ومَن دَعَا *** إلى الحقِّ منّا قَامَ بالرسُلِيّه
وعارِفنا في وقتِنا الأحمَديُّ من *** أولي العزمِ منهم آخِذٌ بالعَزِيمَه
فإنهم يشاركونهم في وحي الإلهام، ويحصل لهم المكالمة مع المشاهدة، فيسمعون من الحق كما ينطقون به. كما قال الششتري :
أنَا باللهِ أنطقُ *** ومِنَ الله أسمَع
فتارة يسمعون كلامه بالوسائط، وتارة من غير الوسائط، يعرف هذا أهل الفن من أهل الذوق، وشأن من لم يَبلُغ مقامهم : التسليم.
إن لم تَرَ الهِلاَلَ فَسَلَّم *** لأُناسٍ رَأوه بالأبصَارِ
وفي الورتجبي : وإن الله تعالى إذا أراد أن يُسمع كلامه أحدًا من الأنبياء والأولياء يعطيه سمعًا من أسماعه، فيسمع به كلامه، كما حكى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عنه ـ تعالى ـ، قال :" فإذا أحببته كنت معه... "، الحديث. أسمعه كلامه، وليس هناك الحروف والأصوات، بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية، الذي هو منزه عن همهمة الأنفاس وخطرات الوسواس، وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء، حتى هناك السامع والمسمع واحد من حيث المحبة، لا من حيث الجمع والتفرقة. انتهى كلامه.
واعلم أن أهل الجمع لا يشهدون إلا متكلمًا واحدًا، قد انتفى من نظرهم التعدد والاثنينية، غير أنهم يفرقون بين كلام القدرة وكلام الحكمة، كلام القدرة يبرز من غير اختبار، بل يكون المتكلم به مأخوذًا عنه، غائبًا عن اختياره، وكلام الحكمة معه ضرب من الاختبار، وقد يسمعون كلام القدرة من الهواتف الغيبية، ومن الجمادات على وجه الكرامة، وكله بحرف وصوت. نعم ما يقع من الهواتف القلبية والتجليات الباطنية، قد يكون بلا حرف ولا صوت، وقد تحصل لهم المكالمة بالإشارة بلا صوت ولا حرف، فقوله :( بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية... ) الخ. إن أراد به التجليات الباطنية فمسلَّم، لكن ظاهره أن كلام الحق الذي يُسمعه لأنبيائه وأوليائه محصور في ذلك، وأنه لا يكون إلا بلا حرف ولا صوت. وليس كذلك.
وقوله :( وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء ) الخ، معناه : لم يبق في ولاية أهل مشاهدة الأزل من رسوم الحوادث شيء. قلت : لكنهم يثبتونها حكمةً، ويمحونها قدرةً ومشاهدة، ولا يلزم من محوها عدم صدور الكلام منها بالحرف والصوت ؛ فإن البشرية لا تطيق سماع كلام الحق بلا واسطة الحكمة، كما هو معلوم. والله تعالى أعلم.

و﴿ رسلاً مبشرين ﴾ : منصوب على البدل، أو على المدح، أو بإضمار أرسلنا، أو على الحال الموطئة لما بعده، كقولك : مررت بزيد رجلاً صالحًا.
ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال : أرسلنا ﴿ رسُلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد ﴾ بعث ﴿ الرسل ﴾ فيقولون : لولا أرسلت إلينا رسولاً ينبهنا ويعلمنا ما جهلنا من أمر توحيدك والقيام بعبوديتك، فقطع عذر العباد ببعث الرسل، وقامت الحجة عليهم، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام :" مَا أحدٌ أغيرَ مِنَ الله، ولذلكَ حرَّم الفواحِشَ ما ظَهَرَ مِنهَا وما بَطَنَ، وما أحدٌ أحبَّ إليهِ المدحُ من الله، ولذلكَ مدَحَ نفسَهُ، وما أحَدٌ أحبَّ إليهِ العذرُ مِنَ الله تعالى، ولذلِكَ أرسَلَ الرَّسلِ وأنزَلَ الكُتبَ ".
﴿ وكان الله عزيزًا ﴾ لا يغلب، فلا يجب عليه شيء، ﴿ حكيمًا ﴾ فيما دبر من النبوة، وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز على ما يليق به في زمانه. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : علماءُ هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، العارفون منهم كالرسل منهم، قال ابن الفارض رضي الله عنه :
فَعَالِمُنَا منهم نبي، ومَن دَعَا *** إلى الحقِّ منّا قَامَ بالرسُلِيّه
وعارِفنا في وقتِنا الأحمَديُّ من *** أولي العزمِ منهم آخِذٌ بالعَزِيمَه
فإنهم يشاركونهم في وحي الإلهام، ويحصل لهم المكالمة مع المشاهدة، فيسمعون من الحق كما ينطقون به. كما قال الششتري :
أنَا باللهِ أنطقُ *** ومِنَ الله أسمَع
فتارة يسمعون كلامه بالوسائط، وتارة من غير الوسائط، يعرف هذا أهل الفن من أهل الذوق، وشأن من لم يَبلُغ مقامهم : التسليم.
إن لم تَرَ الهِلاَلَ فَسَلَّم *** لأُناسٍ رَأوه بالأبصَارِ
وفي الورتجبي : وإن الله تعالى إذا أراد أن يُسمع كلامه أحدًا من الأنبياء والأولياء يعطيه سمعًا من أسماعه، فيسمع به كلامه، كما حكى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عنه ـ تعالى ـ، قال :" فإذا أحببته كنت معه... "، الحديث. أسمعه كلامه، وليس هناك الحروف والأصوات، بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية، الذي هو منزه عن همهمة الأنفاس وخطرات الوسواس، وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء، حتى هناك السامع والمسمع واحد من حيث المحبة، لا من حيث الجمع والتفرقة. انتهى كلامه.
واعلم أن أهل الجمع لا يشهدون إلا متكلمًا واحدًا، قد انتفى من نظرهم التعدد والاثنينية، غير أنهم يفرقون بين كلام القدرة وكلام الحكمة، كلام القدرة يبرز من غير اختبار، بل يكون المتكلم به مأخوذًا عنه، غائبًا عن اختياره، وكلام الحكمة معه ضرب من الاختبار، وقد يسمعون كلام القدرة من الهواتف الغيبية، ومن الجمادات على وجه الكرامة، وكله بحرف وصوت. نعم ما يقع من الهواتف القلبية والتجليات الباطنية، قد يكون بلا حرف ولا صوت، وقد تحصل لهم المكالمة بالإشارة بلا صوت ولا حرف، فقوله :( بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية... ) الخ. إن أراد به التجليات الباطنية فمسلَّم، لكن ظاهره أن كلام الحق الذي يُسمعه لأنبيائه وأوليائه محصور في ذلك، وأنه لا يكون إلا بلا حرف ولا صوت. وليس كذلك.
وقوله :( وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء ) الخ، معناه : لم يبق في ولاية أهل مشاهدة الأزل من رسوم الحوادث شيء. قلت : لكنهم يثبتونها حكمةً، ويمحونها قدرةً ومشاهدة، ولا يلزم من محوها عدم صدور الكلام منها بالحرف والصوت ؛ فإن البشرية لا تطيق سماع كلام الحق بلا واسطة الحكمة، كما هو معلوم. والله تعالى أعلم.

ثم شهد لرسوله بالوحي والرسالة، فقال :
﴿ لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾
قلت :﴿ لكن ﴾ : حرف استدراك، وهو عن مفهوم ما تقدم، وكأنه قال : إنهم لا يشهدون بوحينا إليك. لكن الله يشهد بذلك.
يقول الحقّ جلَ جلاله : في الرد على اليهود لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لا نشهد لك بما أوحي إليكم. فقال تعالى :﴿ لكن الله يشهد بما أنزل إليك ﴾ إن لم يشهدوا به، ﴿ أنزله بعلمه ﴾ أي : متلبسًا بعلمه الخاص به، وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ. أو متلبسًا بعلمه الذي يحتاج الناس إليه في معاشهم ومعادهم. أو بعلمه المتعلق بمن يستأهل نزول الكتب إليه، ﴿ والملائكة ﴾ أيضًا يشهدون بذلك. وفيه تنبيه على أن الملائكة يودُّون أن يعلم الناس صحة دعوى النبوة، على وجه يستغني عن النظر والتأمل، وهذا النوع من خواص الملك، ولا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك، سوى التفكر والنظر، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك، وشهدوا بها كما عرفت الملائكة وشهدوا. قاله البيضاوي، وقد يخلق الله العلم في قلب الإنسان من غير تفكر ولا نظر، بل هداية من المالك القدير. ﴿ وكفى بالله شهيدًا ﴾ لرسوله عن شهادة غيره.
الإشارة : كما شهد الحق تعالى لرسوله بالنبوة والرسالة، شهد لمن كان على قدمه من ورثته الخاصة بالولاية والخصوصية، وهم الأولياء العارفون بالله، وشهادته لهم بما أظهر عليهم من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، وبما أتحفهم به من الأخلاق النبوية والمحاسن البهية، وبما أظهر على أيديهم من الكرامات الظاهرة مع الاستقامة الشرعية، لكن لا يدرك هذه الشهادة إلا من سبقت له العناية، وكان له حظ من الولاية. " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ! ولم يوصل إليه إلا من أراد أن يوصله إليه " وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد من أعرض عن هذه الشهادة، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالاً بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين كفروا ﴾ بما أنزلت على رسولنا من اليهود أو غيرهم، ﴿ وصدوا ﴾ الناس عن طريق الله الموصلة إليه، ﴿ قد ضلوا ضلالاً بعيدًا ﴾ ؛ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال، ولأن المضل يكون أغرق في الضلال وأبعد عن الانقلاع.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الذين كفروا بالخصوصية وأنكروا على أهلها، وصدوا الناس عن القصد إليها والدخول في حزبها ؛ قد ضلوا عن طريق الوصول ضلالاً بعيدًا، إذ لا وصول إلى الله إلا على يد أولياء الله ؛ لأنهم باب الحضرة، فلا بد من الأدب معهم والخضوع لهم. إن الذين كفروا بأولياء الله، وظلموا أنفسهم ؛ حيث حرموها الوصول، وتركوها في أودية الخواطر تجول، لم يكن الله ليستر مساوئهم ويقدس سرائرهم، ولا ليهديهم طريق المشاهدة ولا كيفية المجاهدة وإنما يمكنهم من طريق التعب والنصب حتى يلقوا الله بقلب سقيم، والعياذ بالله.
﴿ إنَّ الذين كفروا وظلموا ﴾ الناس بصدهم عما فيه صلاحهم وخلاصهم، أو ظلموا رسول الله بإنكار نبوته وكتمان صفته، أو ظلموا أنفسهم بالانهماك في الكفر، ﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقًا ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الذين كفروا بالخصوصية وأنكروا على أهلها، وصدوا الناس عن القصد إليها والدخول في حزبها ؛ قد ضلوا عن طريق الوصول ضلالاً بعيدًا، إذ لا وصول إلى الله إلا على يد أولياء الله ؛ لأنهم باب الحضرة، فلا بد من الأدب معهم والخضوع لهم. إن الذين كفروا بأولياء الله، وظلموا أنفسهم ؛ حيث حرموها الوصول، وتركوها في أودية الخواطر تجول، لم يكن الله ليستر مساوئهم ويقدس سرائرهم، ولا ليهديهم طريق المشاهدة ولا كيفية المجاهدة وإنما يمكنهم من طريق التعب والنصب حتى يلقوا الله بقلب سقيم، والعياذ بالله.
قلت :﴿ خالدين ﴾ : حال مقدرة.
﴿ إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدًا ﴾، فجرى حكمه السابق ووعده الصادق على أن من مات على الكفر مخلد في النار، ﴿ وكان ذلك على الله يسيرًا ﴾ لا يصعب عليه ولا يتعاظمه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الذين كفروا بالخصوصية وأنكروا على أهلها، وصدوا الناس عن القصد إليها والدخول في حزبها ؛ قد ضلوا عن طريق الوصول ضلالاً بعيدًا، إذ لا وصول إلى الله إلا على يد أولياء الله ؛ لأنهم باب الحضرة، فلا بد من الأدب معهم والخضوع لهم. إن الذين كفروا بأولياء الله، وظلموا أنفسهم ؛ حيث حرموها الوصول، وتركوها في أودية الخواطر تجول، لم يكن الله ليستر مساوئهم ويقدس سرائرهم، ولا ليهديهم طريق المشاهدة ولا كيفية المجاهدة وإنما يمكنهم من طريق التعب والنصب حتى يلقوا الله بقلب سقيم، والعياذ بالله.
ولما قرر أمر النبوة، وبين الطريق الموصل إلى العلم بها، وأوعد من أنكرها، خاطب الناس بالدعوة إليها فقال :
﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾
قلت :﴿ فآمنوا خيرًا لكم ﴾، و﴿ انتهوا خيرًا لكم ﴾ : قال سيبويه : هو منصوب بفعل مضمر، تقديره : وائتوا خيرًا لكم، وقال الخليل : منصوب بآمنوا وبانتهوا على المعنى. أي : اقصدوا. وقال الفراء صفة لمصدر، أي : آمنوا إيمانًا خيرًا لكم. وقال بعض الكوفيين : هو خبر كان المحذوفة، وتقديره : ليكن الإيمان خيرًا لكم.
قلت : وهو أظهر من جهة المعنى، وإن منعه البصريون، قالوا : لأنَّ ﴿ كان ﴾ لا تحذف مع اسمها إلا في مواضع مخصوصة، قال ابن مالك :
ويَحذِفُونَها ويُبقُون الخبَر وبَعدَ إن، ولو، كثِيرًا ذا اشتَهر
ولعل هذا الموضع أتى على غير المشهور تنبيهًا على الجواز.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم ﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ فأمنوا به ﴾ يكن ﴿ خيرًا لكم ﴾ مما أنتم فيه من الضلال، ﴿ وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض ﴾ وما تركبتا منه، ملكًا وخلقًا وعبيدًا، فهو غني عنكم، لا يتضرر بكفركم، كما لا ينتفع بإيمانكم، ﴿ وكان الله عليمًا ﴾ بأحوالكم، ﴿ حكيمًا ﴾ فيما دبر لكم.
الإشارة : الذي جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام هو إتقان مقام الإسلام، وتصحيح مقام الإيمان، الذي من أركانه : الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وتحقيق مقام الإحسان الذي هو مقام الشهود والعيان، ولا يكمل هذا إلا بصحبة أهل العرفان، الذين صححوا مقام الفناء، وخرجوا إلى البقاء خاضوا بحار التوحيد، وانفردوا بأسرار التفريد، ورسخ فيه مقام الرضى والتسليم، فتلقوا المقادير كلها بقلب سليم، فمن لم يصحبهم ويتأدب بآدابهم بقي إيمانه ناقصًا، وحقه العذاب، فكأن الحق تعالى يقول على لسان الإشارة : قد جاءكم وليي، وهو خليفة رسولي، فآمنوا بخصوصيته، وأذعنوا لأمره وتربيته، يكن خيرًا لكم مما أنتم فيه من المساوئ والأمراض، لئلا تلقوني بقلب سقيم، وبالله التوفيق.
ثم خص أهل الكتاب بالخطاب والعتاب، فقال :
﴿ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾
قلت : أصل الغلو : مجاوزة الحد في كل شيء، يقال : غلا بالجارية لحمها وعظمها، إذا أسرعت إلى الشباب فجاوزت لداتها ؛ أي : أقرانها، تغلو غلوًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في عتاب النصارى بدليل ما بعده :﴿ يا أهل الكتاب ﴾ الإنجيل ﴿ لا تغلوا في دينكم ﴾ فتجاوزوا الحد فيه باعتقادكم في عيسى أنه الله، أو ابن الله، قصدوا تعظيمه فغلوا وأفرطوا، ﴿ ولا تقولوا على الله إلا الحق ﴾، وهو تنزيه عن الصاحبه والولد.
ثم بيَّن الحق فيه فقال :﴿ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ﴾، لا كما قالت اليهود : ليس برسول، ولا كما قالت النصارى : إنه الله، أو ابن الله، وإنما هو عبد الله ورسوله، ﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم ﴾ أي : أوصلها إليها وحصلها فيها، وهي كلمة : كن. فَتَكَوّنَ بها في رحم أمه فسمى بها، ﴿ وروح منه ﴾ وهو نفخ جبريل في جيبها فحملت بذلك النفخ، وسمي النفخ روحًا ؛ لأنه ريح يخرج عن الروح، فكانت روحه صادرة من روح القدس، كما قال في آدم :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ [ الحِجر : ٢٩ ]، وقد قال :
﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ﴾، [ آل عِمرَان : ٥٩ ]، فنفخ جبريل في الحقيقة لما كان بأمر الله صار هو نفخ الحق ؛ لأن الواسطة محذوفة عند المحققين، فلذلك أضاف روحه إليه كروح آدم عليه السلام.
﴿ فأمنوا بالله ورسوله ﴾ أي : وحدوا الله في ألوهيته، ﴿ ولا تقولوا ثلاثة ﴾ أي : الآلهة ثلاثة : الله، والمسيح، ومريم، ﴿ انتهوا ﴾ عن التثليث يكن ﴿ خيرًا لكم إنما الله إله واحد ﴾ في ذاته وصفاته وأفعاله، ﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزيهًا له أن يكون له ولد، لأنه لا يجانس ولا يتطرقه الفناء، ﴿ له ما في السماوات وما في الأرض ﴾، ملكًا وخلقًا وعبيدًا، والعبودية تنافي البُنوة، ﴿ وكفى بالله وكيلاً ﴾ فلا يحتاج إلى ولد ؛ لأن الولد يكون وكيلاً عن أبيه وخليفته، والله تعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ لها، مستغن عمن يعينه أو يخلفه لوجوب بقائه وغناه.
واعلم أن النصارى انقسموا على أربع فرق : نسطورية، ويعقوبية، وملكانية، ومرقوسية، ومنهم نصارى نجران، فالنسطورية، قالوا في عيسى هو ابن الله، واليعقوبية والملكانية، قالوا هو الله، والمرقوسية قالوا : هو ثالث ثلاثة، وكلهم ضالون.
الإشارة : الغلو كله مذموم، وخير الأمور أوساطها، وقد قال عليه الصلاة والسلام :" لا تُطرُونِي كما أطرَت النَّصَارَى عيسى ابنَ مَريم، ولكن قولوا : عَبدُ اللهِ وَرَسُوله "، ويرخص للفقير أن يتغالى في مدح شيخه، ما لم يخرجه عن طوره، أو ينتقص غيره بمدحه، وفي الإشارة حيث على حفظ مقام التوحيد، وتنزيهه تعالى عن الأضداد والأنداد. وفي ذلك يقول الشاعر :
أرَبٌّ وعَبدٌ ونَفى ضِدٍ *** قلتُ لَهُ : لَيسَ ذَاكَ عِندِي
فَقَالَ ما عِندَكُم ؟ فقُلنَا :*** وُجُودُ فَقدٍ وفَقدُ وُجد
فإثبات العبودية مستقلة تضاد الربوبية، ولذلك أنكرها الشاعر، أي : أثبت ربًا وعبدًا، وأنت تقول بنفي الضد عنه وفي الحِكَم :" الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته ".
ولما قالت نصارى نجران للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك تعيب صاحبنا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام " ومن صاحبكم ؟ " قالوا : عيسى. قال " وأي شيء أقول ؟ " قالوا : تقول إنه عبد الله. قال لهم عليه الصلاة والسلام :" ليس بعارٍ أن يكون عيسى عبدًا "، أنزل الله تعالى :
﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾
قلت : أصل الاستنكاف : التنحية، من قولهم : نكفت الدمع ؛ إذا نحيته بإصبعك كي لا يُرى أثره عليك، ثم أُطلق على الأنفة، والاستكبار دون الاستنكاف، ولذا عطف عليه ؛ لأن الاستنكاف، لا يستعمل إلا حيث لا استحقاق، بخلاف الاستكبار فإنه يكون باستحقاق. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على النصارى :﴿ لن يستنكف ﴾ أي : لن يأنف ﴿ المسيح أن يكون عبدًا لله ﴾ ؛ فإن عبوديته لله شرف يتباهى بها، وإنما المذلة والاستنكاف في عبوديته لغيره، ﴿ ولا الملائكة المقربون ﴾ لا يستنكفون أيضًا أن يكونوا عبيدًا لله، بل ما كانوا مكرمين إلا بعبوديتهم لله، واحتج بالآية مَن فَضَّل الملائكة على الأنبياء، لأن المعطوف يقتضي أن يكون أرفع درجة من المعطوف عليه، حتى يكون عدم استنكاف الملائكة كالدليل على عدم استنكاف المسيح.
والجواب : أن عطف الملائكة إنما أريد به التكثير والمبالغة، كقولهم : أصبح الأمير اليوم لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس، والرئيس أفضل من المرؤوس، والتحقيق في المسألة ؛ أن الأنبياء والرسل أفضل من خواص الملائكة كالمقربين، وخواص الملائكة ؛ وهم المقربون أفضل من خواص البشر كالأولياء، وخواص البشر أفضل من عوام الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر، ولذلك قيل : من غلب عقله على هواه، كان كالملائكة أو أفضل، ومن غلب هواه على عقله، كان كالبهائم أو أضل. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : العبودية أشرف الحالات وأرفع المقامات، بها شرف من شرف، وارتفع من ارتفع، عند الله، وما خاطب الله أحباءه إلا بالعبودية، فقال تعالى :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾ [ الإسرًاء : ١ ]، وقال :﴿ وَاذْكُرْ عبادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ [ ص : ٤٥ ]، ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ﴾ [ ص : ١٧ ]، ﴿ وَاذْكُرْ عبادَنَا أَيْوُّب ﴾ [ ص : ٤١ ]، ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾
[ ص : ٣٠ ]... إلى غير ذلك.
وأوصاف العبودية أربعة : الذل، والفقر، والضعف، والجهل. ومقابلها من أوصاف الربوبية أربعة : العز، والغنى والقوة والعلم، فبقدر ما يُظهر العبد من أوصاف العبودية يمده الحق من أوصاف الربوبية، فبقدر ما يظهر العبد من الذل يمده من العز، وبقدر ما يظهر من الفقر يمده بالغنى، وبقدر ما يظهر من الضعف يمده من القوة، وبقدر ما يظهر من الجهل يمده من العلم، تحقق بوصفك يمدك بوصفه، ولا يتحقق ظهور هذه الأوصاف إلا بين عباده لتمتحق بذلك أوصاف النفس.

ثم ذكر وعيد من استنكف عن عبوديته تعالى فقال :﴿ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعًا ﴾ فيجازيهم ؛ ﴿ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ ولم يستنكفوا عن عبادته ﴿ فيوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ﴾ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ﴿ وأما الذين استنكفوا ﴾ عن عبوديته ﴿ واستكبروا ﴾ عن عبادته ﴿ فيعذبهم عذابًا أليمًا ﴾ أي : مُوجعًا، وهو النار وقال القشيري : العذاب الأليم : هو ألا يصلوا إليه أبدًا بعد ما عرفوا جلاله، إذ صارت معرفتهم ضرورية أي قهرية فحسراتهم حينئٍذ على ما فاتهم أشدُّ عقوبة لهم. ه. ﴿ ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا ﴾.
فإن قلت : هذا التفصيل أعم من المفصل، لأن الحشر إنما ذكر للمتكبرين والتفصيل أعم، فالجواب : أن عموم المفصل يفهم من قوة الكلام، فكأنه قال : فسيحشرهم للمجازاة يوم يجازي عباده جميعًا، ﴿ فأما الذين آمنوا. . . ﴾ الخ، نظيره : قولك : جمع الأمير كافة مملكته، فأما العلماء فأكرمهم، وأما الطغاة فقطعهم. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : العبودية أشرف الحالات وأرفع المقامات، بها شرف من شرف، وارتفع من ارتفع، عند الله، وما خاطب الله أحباءه إلا بالعبودية، فقال تعالى :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾ [ الإسرًاء : ١ ]، وقال :﴿ وَاذْكُرْ عبادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ [ ص : ٤٥ ]، ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ﴾ [ ص : ١٧ ]، ﴿ وَاذْكُرْ عبادَنَا أَيْوُّب ﴾ [ ص : ٤١ ]، ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾
[ ص : ٣٠ ]... إلى غير ذلك.
وأوصاف العبودية أربعة : الذل، والفقر، والضعف، والجهل. ومقابلها من أوصاف الربوبية أربعة : العز، والغنى والقوة والعلم، فبقدر ما يُظهر العبد من أوصاف العبودية يمده الحق من أوصاف الربوبية، فبقدر ما يظهر العبد من الذل يمده من العز، وبقدر ما يظهر من الفقر يمده بالغنى، وبقدر ما يظهر من الضعف يمده من القوة، وبقدر ما يظهر من الجهل يمده من العلم، تحقق بوصفك يمدك بوصفه، ولا يتحقق ظهور هذه الأوصاف إلا بين عباده لتمتحق بذلك أوصاف النفس.

ثم دعا الكل إلى كتابه والإيمان برسوله، فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ﴾ وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وما اقترن به من المعجزات الواضحات، ﴿ وأنزلنا إليكم ﴾ على لسانه ﴿ نورًا مبينًا ﴾ وهو القرآن : أو جاءكم برهان من ربكم : المعجزات الطاهرة، ﴿ وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا ﴾ : القرآن العظيم، أي : جاءكم دليل العقل وشواهد النقل، فلم يبق لكم عذر ولا علة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد جاءكم من يعرفكم بالله، ويدلكم على الله، وهم أولياء الله، ببرهان واضح لا يخفى إلا على من كان خفاشيًا، وأنزلنا إليكم من سر قُدسنا، وبحر جبروتنا نورًا مبينًا، تُشاهدون فيه أسرار الذات وأنوار الصفات، وهو ما ظهر من التجليات من القبضة الأولية المحمدية، ﴿ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به ﴾ في حال سيرهم إليه ﴿ فسيدخلهم في رحمة منه ﴾ وهي حضرة القدس، ﴿ وفضل ﴾ وهو الترقي في أسرار المعارف إلى ما لا نهاية له، ويهديهم إلى الوصول إليه، وهو شهوده في ذلك النور، طريقًا توصل إليه في أقرب زمان. ولعل الآية فيها تقديم وتأخير، أي : فسيهديهم إليه طريقًا مستقيمًا يسيرون فيه، حتى يصلوا إليه، ثم يدخلهم في رحمة حضرته، وفضل زيادة معرفته. والله تعالى أعلم.
﴿ فأما الذين آمنوا بالله ﴾ أي : وحدوه في ربوبيته، ﴿ واعتصموا ﴾ أي : تمسكوا بدينه أو بكتابه، ﴿ فسيدخلهم في رحمة منه ﴾ وهي الجنة، ﴿ وفضلٍ ﴾ : النظر لوجهه الكريم، قال البيضاوي :﴿ في رحمة ﴾ أي : ثواب قدّره بإزاءِ وإيمانه وعمله، رحمة منه، لا قضاء لحق واجب، وفضل إحسان زائد عليهما. ه. وقال القشيري : سيحفظ عليهم إيمانهم في المآل عند التوفي، كما أكرمهم به وبالعرفان في الحال. ه. ﴿ ويهديهم إليه ﴾ أي : إلى الوصول إليه، ﴿ صراطًا مستقيمًا ﴾ أي : يُبيّن لهما الوصول إليه، وهو طريق السير الذي لا عوج فيه ؛ العلم والعمل والحال، وقال البيضاوي : هو الإسلام والطاعة في الدنيا، وطريق الجنة في الآخرة. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد جاءكم من يعرفكم بالله، ويدلكم على الله، وهم أولياء الله، ببرهان واضح لا يخفى إلا على من كان خفاشيًا، وأنزلنا إليكم من سر قُدسنا، وبحر جبروتنا نورًا مبينًا، تُشاهدون فيه أسرار الذات وأنوار الصفات، وهو ما ظهر من التجليات من القبضة الأولية المحمدية، ﴿ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به ﴾ في حال سيرهم إليه ﴿ فسيدخلهم في رحمة منه ﴾ وهي حضرة القدس، ﴿ وفضل ﴾ وهو الترقي في أسرار المعارف إلى ما لا نهاية له، ويهديهم إلى الوصول إليه، وهو شهوده في ذلك النور، طريقًا توصل إليه في أقرب زمان. ولعل الآية فيها تقديم وتأخير، أي : فسيهديهم إليه طريقًا مستقيمًا يسيرون فيه، حتى يصلوا إليه، ثم يدخلهم في رحمة حضرته، وفضل زيادة معرفته. والله تعالى أعلم.
ثم ختم السورة بميراث الكلالة، لأن آخر أحوال الإنسان الموت فيورث ماله، وكان المناسب ذكر يوصيكم هنا، لكنه أدرجه في حفظ الأموال لكونه أنسب، فقال :
﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
قلت :﴿ في الكلالة ﴾، يتعلق بيفتيكم، ويستفتونك، فيكون من باب التنازع، وأعمل الثاني على اختيار البصريين، وعمل الأول في الضمير المجرور حذف، أي : يستفتونك فيها، أو عمل الأول وحذف ضمير الثاني، أو يكون يستفتونك مقطوعًا فيوقف عليه، أو حُذف متعلقة لدلالة الجواب عليه، أي : يستفتونك في الكلالة، وهو أظهر، وتقدم تفسير الكلالة١، ﴿ إن امرؤ هلك ﴾ : ارتفع بفعل مضمر عند البصريين، من باب الاشتغال في المرفوع.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يستفتونك ﴾ في الكلالة، والمستفتِي هو جابر بن عبد الله، كان مريضًا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني كلالة، فكيف أصنع في مالي ؟ فنزلت، وهي آخر ما نزل من الأحكام. ﴿ قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾، ثم بيَّن الفتوى فيها فقال :﴿ إن امرؤ هلك ليس له ولد ﴾ ولا والد، بل انقطع نسبه من الجهتين، ﴿ وله أخت ﴾ شقيقة أو لأب ﴿ فلها نصف ما ترك ﴾ والباقي للعصبة، ولا ميراث لها مع الأب أو الابن، ﴿ وهو يرثها ﴾ إن ماتت ولم يكن لها ولد ولا والد.
فإن استقل فله المال، وإن كان معه ذو سهم أخذ الباقي، ﴿ فإن كانتا اثنتين ﴾ فأكثر شقائق ﴿ فلهما الثلثان مما ترك ﴾، وإن كانت شقيقة مع الأب أخذت الشقيقة النصف، والتي لأب السدس تكملة الثلثين، وإن كانت لأب مع الشقيقتين فلا شيء لها، ﴿ وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً ﴾ شقائق، مات أخوهم، ﴿ فللذكر مثل حظ الأنثيين ﴾، ولا شيء للأخوة لأب من الشقائق. ﴿ يُبين الله لكم ﴾ الحق، كراهية ﴿ أن تضلوا والله بكل شيء عليم ﴾ ؛ فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات. اللهم أحينا حياة طيبة وأمتنا موتة حسنة، في عافية وستر جميل، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين.
الإشارة : الكلالة من الأولياء، هو الذي مات ولم يخلف ولدًا يرث حاله، فإن لم تكن له تلاميذ، فإن كان له أخ يقارب حاله، ورثه وقد يرث سره أخته في النسبة، لكن لا تستوجب ذلك كله ؛ لحكمة الله تعالى. يشير إليه قوله تعالى :﴿ فلها نصف ما ترك ﴾، وإن ترك إخوة في الشيخ اقتسموا سره كله، كلٌ على قدر صِدقه، والنساء الصادقات شقائق الرجال في نيل أسرار الولاية. وقد تقدم أول السورة أن مدد الشيخ كنهر أو كبحر يصب في القواديس، فإذا انسدت قادوس انتقل ماؤها إلى الأُخرى. والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير الآية ١٢ من هذه السورة..
Icon