مقصودها إثبات القيامة وإنذار من كفر بها وتصوير عظمتها بعظمة ملكها وطول يومها وتسلية المنذر بها بما لمن كذبه بما له من الصغار والذل والتبار٢ ودل على وجوب وقوعها سابقا بما ٣ختمه بتسميتها٤ في السورة الماضية بالحاقة تنبيها على أنه لا بد منها ولا محيد عنها، ودل على ذلك بالقدرة في أولها والعلم في أثنائها و٥التّنزه عما في إهمالها من النقص في آخرها/ ولا خفاء بما أخبر من أنه أرسل جميع رسله بالتحذير منها فأرسل نوحا عليه السلام في الزمان الأقدم كما ذكر في سورته عند ما اختلف الناس بعد ما كانوا عليه في زمان أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام من الإتفاق٦ على الدين الحق فافترقوا إلى مصدق ومكذب، فعلم منه أن من بعده أولى بذلك لقربهم منها، وأتبع ذلك الإعلام أنه دعا إلى ذلك الجن الذين كان سبيلهم فيها سبيل الآدميين، وأتبع ذلك- ]٧ بعد إرسال أول الرسل بها زمانا- آخرهم زمانا وأولهم نبوة حين كان نبيا وآدم بين الروح والجسد، فبدأ في سورة المزمل بنبوته٨ ومزيد تزكيته وتقديسه ورفعته والإخبار عن رسالته والتحذير من مخالفته، وأتبع ذلك الإنذار٩ بها بالصدع بالرسالة بمحو كل ضلالة، فلما تقررت نبوته وثبتت رسالته على أجمل الوجوه وأجلاها وأبينها وأعلاها وأشرفها وأولاها، جعل سبحانه سورة القيامة كلها لها إعلاما بأن الأمر [ عظيم- ]١٠ جدا يجب الاعتناء به والتأهب له والاجتهاد بغاية القوة وإفراغ الجهد، ثم أتبع ذلك الإنسان دلالة على أنه المقصود بالذات من الأكوان، فلا يسوغ في الحكمة أن يجعله سبحانه سدى، وبين كثيرا من أحوالها ثم أقسم في المرسلات أن أمرها حق لا بد منه ولا مندوحة عنه، ثم عجب في " عم " [ منهم-١١ ] في تساؤلهم عنها وتعجيبهم منها ثم أقسم على وقوعها في النازعات وصور من أمرها وهزاهزها ما أراد، ثم أولى ذلك الدلالة في سورة عبس على أن من الناس من طبع على قلبه فلا حيلة في تصديقه بها مع ما يتبين بالسورة الماضية وغيرها من أمرها، ثم صورها في " كورت " تصويرا صارت من رأى عين لو كشف الغطاء ما ازداد الموقنون بها يقينا، ثم بين في الانفطار أن الأمور فيها ليست على منهاج الأمور هنا، بل الأسباب كلها منقطعة والأنساب مرتفعة، والكل خاضعون مخبتون خاشعون، أعظمهم في الدنيا تجبرا أشدهم١٢ هنالك صغارا وتحسرا، ثم أتبع ذلك من يستحق هنالك النكال والسلاسل والأغلال، ثم أولاه رفعة أهل الإيمان الذين طبعهم على الإقرار بها والعرفان، واستمر [ على١٣- ] هذا إلى آخر القرآن قل أن تأتي سورة إلا وهي معرفة بها غاية المعرفة إلى أن ختم بالدين إشارة بذلك إلى أن معرفتها هي [ الدين-١٤ ].
وأشار في " تبت " إليها وأتبعها الإخلاص إشارة إلى أنه لا يسلم فيهال إلا الموحدون المعاذون من الفتن الظاهرة والباطنة، المتصفون بالمحامد المتعاظمة المتكاثرة، فآذن ذلك أن أكثر غاية القرآن في أمرها العظيم الشأن لأنه/١٥لا كتاب بعد هذا الكتاب١٦ ينتظر ولا أمة أشرف من هذه ١٧تخص بيان١٨ أعظم من بيانها وهو١٩ أحد الأوجه التي فاق بها القرآن على الكتب الماضية والصحف الكائنة في القرون الخالية، وآذن ذلك بأن الأمر قد قرب والهول قد دهم والخوف قد قدح، ليشمر أهل الاختصاص في النجاة من عذابها والخلاص، حين لا مفر ولا ملجأ ولات حين مناص، نسأل الله العافية في يومها والعيشة الراضية، وعلى هذا المقصد دل اسمها " سأل " وكذا المعارج وهما أنسب ما فيها للدلالة على ذلك، وقانا الله سبحانه وتعالى من آفاتها والمهالك آمين ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي تنقطع٢٠ الأعناق والآمال٢١ دون عليائه ( الرحمان ) الذي أوضح نعمة البيان وعم بها وشهرها حتى صارت في الوضوح إلى حد لا مطمع [ لأحد٢٢ ] في [ ادعاء-٢٣ ] خفائه ( الرحيم ) الذي [ اصطفى- ]٢٤ من عباده٢٥ من وفقه [ للفهم-٢٦ ] عنه والطاعة له، فكان من أوليائه.
٢ -من ظ وم، وفي الأصل: التبادر..
٣ - من ظ وم، وفي الأصل: ختم به من تسميتها..
٤ - من ظ وم، وفي الأصل: ختم به من تسميتها..
٥ - زيد في الأصل: التنزل و، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها..
٦ - من ظ وم، وفي الأصل: الاتقان..
٧ - زيد من ظ وم..
٨ - من ظ وم، وفي الأصل: في نبوته..
٩ - من ظ وم، وفي الأصل: بالإنذار..
١٠ - زيد من ظ وم..
١١ - زيد من م..
١٢ - من ظ وم، وفي الأصل: اشتد..
١٣ - زيد من م..
١٤ -زيد من ظ وم..
١٥ -تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط..
١٦ -تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط..
١٧ - من ظ وم، وفي الأصل: الأمة تحقق بلسان..
١٨ - من ظ وم، وفي الأصل: الأمة تحقق بلسان..
١٩ - من م، وفي الأصل وظ: هي..
٢٠ - من ظ وم، وفي الأصل: الأمال والأعنان..
٢١ - من ظ وم، وفي الأصل: الأمال والأعنان..
٢٢ - زيد من ظ وم..
٢٣ - زيد من ظ وم..
٢٤ - زيد من ظ وم..
٢٥ - من ظ وم، وفي الأصل: علاه..
٢٦ -زيد من ظ وم..
ﰡ
ولما كان سؤالهم من وقت مجيء الساعة والعذاب وطلبهم تعجيل ذلك إنما هو استهزاء، ضمن «سأل» استهزاء ثم حذفه ودل عليه بحال انتزعها منه وحذفها ودل عليها بما تعدى به فقال، أو أنه حذف مفعول السؤال المتعدي «بعن» ليعم كل مسؤول عنه إشارة إلى أن من تأمل الفطرة الأولى وما تدعو إليه من الكمال فأطاعها فكان مسلماً فاضت عليه العلوم، وبرقت له متجليه أشعة الفهوم، فبين المراد من دلالة النص بقوله: ﴿بعذاب﴾ أي عن يوم القيامة بسبب
ولما أخبر بتحتم وقوعه علله بقوله: ﴿ليس له﴾ أي بوجه من الوجوه ولا حيلة من الحيل ﴿دافع *﴾ مبتدىء ﴿من الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له فلا أمر لأحد معه، وإذا لم يكن له دافع منه لم يكن دافع من غيره وقد تقدم الوعد به، ودلت الحكمة عليه فتحتم وقوعه وامتنع رجوعه.
ولما كان القادر يوصف بالعلو، والعاجز يوصف بالسفول والدنو، وكان ما يصعد فيه إلى العالي يسمى درجاً، وما يهبط فيه إلى السافل يسمى دركاً، وكانت الأماكن كلها بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء، اختير التعبير بما يدل على العلو الذي يكنى به عن القدرة والعظمة، فقال واصفاً بما يصلح كونه مشيراً إلى التعليل: ﴿ذي المعارج *﴾
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المعنى أنه لو ولي الحساب غير الله لم يفرغ منه إلا في هذا المقدار، ويفرغ منه هو سبحانه في نصف يوم من أيام الدنيا، وقال مجاهد والحكم وعكرمة: هو عمر الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم مضى وكم بقي إلا الله، وقد مضى في سورة ﴿ألم السجدة﴾ ما ينفع ههنا.
ولما كان هذا كله تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن استعجالهم إياه بالعذاب استهزاء وتكذيباً سواء أريد تصوير العظمة أو العذاب، سبب عنه قوله: ﴿فاصبر﴾ أي على أذاهم ولا ينفك ذلك عن تبليغهم فإنك شارفت وقت الانتقام منهم أيها الفاتح الخاتم الذي لم أبين لأحد ما بينت على لسانه، والصبر: حبس النفس على المكروه من الإقدام أو الإحجام، وجماله بسكون الظاهر بالتثبت والباطن بالعرفان ﴿صبراً جميلاً *﴾ أي لا يشوبه شيء من اضطراب ولا استثقال، ولا شكوى ولا استعجال، فإن عذابهم ونصرك عليهم لعظمة من أرسلك، فلا بد من وقوعه لأن القدح فيه والتكذيب به قدح فيها، وهذا قبل الأمر بالقتال.
ولما كان كونه تعالى، بما تقدم في العظمة، أمراً معلوماً بما له من الآثار من هذا الكون وما فيه، وكان استبعادهم لما أخبر به أمراً واهياً ضعيفاً سفسافاً لا يكاد يصدق أن أحداً يحاول أن يرد به هذه الأمور التي هي في وضوحها كالشمس لا خفاء بها أصلاً ولا لبس قال مؤكداً: ﴿إنهم﴾ أي الكفار المكذبين المستعجلين ﴿يرونه﴾ أي ذلك اليوم الطويل أو عذابه ﴿بعيداً *﴾ أي زمن وقوعه، لأنهم يرونه غير ممكن أو يفعلون أفعال من يستبعده ﴿ونراه﴾ لما لنا من العظمة التي قضت بوجوده وهو علينا هين ﴿قريباً *﴾ سواء أريد بذلك قرب الزمان أو قرب المكان، فهو هين على قدرتنا وهو آت
ولما ذكر عن هذا اليوم ما يبعث على السؤال عنه، استأنف بيانه مبيناً عظمته فقال: ﴿يوم﴾ أي يقع حين ﴿تكون السماء﴾ أي التي هي أوثق ما تراه وأصلبه من عظم ما يقع فيه من الأهوال ﴿كالمهل *﴾ أي الشيء المذاب من المعادن في مهل أو دردي الزيت ﴿وتكون الجبال﴾ التي هي أشد الأرض وأثقل ما فيها ﴿كالعهن *﴾ أي الصوف المصبوغ ألواناً المنقوش، تطيره الريح كالهباء، وذلك لأن الجبال في أصلها متلونة كما قال تعالى ﴿ومن الجبال جدد وبيض وحمر﴾ [فاطر: ٢٧] الآية، قال البغوي: ولا يقال عهن إلا للمصبوغ، قال: وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء منثوراً - انتهى. ﴿ولا يسأل﴾ من شدة الأهوال ﴿حميم حميماً﴾ أي قريب في غاية القرب والصداقة قريباً مثله عن شيء من الأشياء لفرط الشواغل ولأنه قد كشف لهم أنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً، وأنه قد تقطعت الأسباب وتلاشت الأنساب لما كشف الابتلاء عن أنه لا عز إلا بالتقوى - هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وعلى قراءة ابن كثير بالبناء للمفعول المعنى أنه لا يطالب أحد بأحد كما بعض الحكام في الدنيا
ولما كان عدم السؤال قد يكون لعدم رؤية بعضهم بعضاً لكثرة الجمع وشدة الزحام وتفرق الناس فيه على حسب مراتب أعمالهم، استأنف الجواب لمن كأنه يقول: لعل ذلك يترك لعدم رؤيتهم لهم؟ فقال دالاً بالمجهول والتفعيل على عظمة ذلك التبصير وخروجه عن العادة جامعاً لأن المقصود من الحميم الجنس والجمع أدل على عموم التبصير، قال البغوي: وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس - انتهى، وكان حكمة ذلك أنه أدل على تقطع الأسباب فلا يسأل أحد منهم الآخر عن شيء من أمره لاشتغال كل بنفسه، فعدم السؤال لا للخفاء بل للاشتغال وهم كل إنسان بما عنده: ﴿يبصرونهم﴾ أي يبصرهم مبصر فلا يخفى أحد على أحد وإن بعد مكانه ويفر كل من الآخر لشغله بنفسه، ولما تناهى الإخبار بعظمة ذلك اليوم إلى حد لا تحتمله القلوب، ذكر نتيجة ذلك فقال مستأنفاً: ﴿يود﴾ أي يتمنى ويشتهي ﴿المجرم﴾ أي هذا النوع سواء كان كافراً أو مسلماً عاصياً علم أنه يعذب بعصيانه، وقيد به لأن المسلم الطائع
ولما كان السياق للافتداء، بدأ بأعزهم في ذلك بخلاف ما يأتي في عبس فقال: ﴿ببنيه *﴾ لشدة ما يرى.
ولما ذكر ألصق الناس بالفؤاد وأعز من يلزمه لنصره والذب عنه، أتبعه ما يليه في الرتبة والمودة وما الافتداء به لا سيما عند العرب من أقبح العار فقال: ﴿وصاحبته﴾ أي زوجته التي يلزمه الذب عنها والكون دائماً معها لكونها عديلة روحه في الدنيا.
ولما ذكر الصاحبة لما لها من تمام الوصلة، أتبعها الشقيق الذي لا يلزم من الذب عنه ما يلزم من الذب عن الحريم وربما كان مبايناً، فقال: ﴿وأخيه *﴾.
ولما كان من بقي من الأقارب بعد ذلك متقاربين في الرتبة ذكر أقربهم فقال: ﴿وفصيلته﴾ أي عشيرته الذين هم أقرب من فصل عنه ﴿التي تؤويه *﴾ أي تضمه إليها عند الشدائد وتحميه، لأنه أقرب
ولما خص هنا عم فقال: ﴿ومن في الأرض﴾ أي من الثقلين وغيرهم سواء كان فيهم صديق لا صبر عنه ولا بد في كل حال منه أو لا. ولما كان ربما خص ذلك بغيره، قال محققاً لإرادة الحقيقة في معنى «من» :﴿جميعاً﴾.
ولما كان الإنسان تكشف له الأمور هناك أي كشف، وتظهر له أتم ظهور، قال تعالى ﴿فبصرك اليوم حديد﴾ فيعلم أنه لا ينجيه من الخطايا المحيطة المحبطة شيء، دل على الاستبعاد بأداة البعد فقال عاطفاً على «يفتدي» :﴿ثم ينجيه *﴾ أي ثم يود لو يكون له بذلك نجاة تتجدد له في وقت من الأوقات.
ولما كان هذا مما قد يطمع في النجاة، فإن بعض الناس يطبع على قلبه فيستغويه الأطماع حتى يعد المحال ممكناً، قال معبراً بمجمع الروادع والزواجر الصوادع: ﴿كلا﴾ أي ليكن للمجرم ردع
ولما كان الإضمار قبل الذكر لتعظيم ذلك المضمر في المهيع الذي هو فيه، لأن ذلك إشارة إلى أنه مستحضر في الذهن لا يغيب أصلاً لما للمقام عليه من عظيم الدلالة، قال بعد هذا الردع العظيم عن النجاة بل عن ودادة تمنيها: ﴿إنها﴾ أي النار التي هي سوط الملك المعد لمن عصاه، المهدد في هذا السياق بعذابها، المستولية عليه لتكونه سجنه: ﴿لظى *﴾ أي ذات اللهب الخالص المتناهي في الحر يتلظى أي يتوقد فيأكل بسببه بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله وتأكل ما وجدته كائناً ما كان ﴿نزاعة للشوى *﴾ أي هي شديدة النزع لجلود الرؤوس بليغته فما الظن بغيره من الجلد، وقال في القاموس: الشوى: اليدان والرجلان والأطراف وقحف الرأس وما كان غير مقتل - انتهى، وقيل: والجلد كله واللحم تنزع ذلك ثم يعود كما كان في الحال ليروا التعب الذي
ولما كان الخلاص غير ممكن من الداعي القادر على الإحضار كنى عن إحضارها إياهم وجذبها لهم بقوله: ﴿تدعوا﴾ ويجوز أن يكون ذلك حقيقة فتقول في الدعاء في نفسها: إليّ يا مشرك إليّ يا منافق، ونحو ذلك ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب ﴿من﴾ أي كل شخص ﴿أدبر﴾ أي من الجن والإنس أي من وقع منه إدبارهما من حقه الإقبال عليه سواء كان ذلك الإدبار عنها أو عن الأعمال التي من شأنها التنجية منها، ولما كان الإدبار قد يكون عن طبع غالب فيكون صاحبه في عداد من يعذر، بين أن الأمر ليس كذلك فقال: ﴿وتولى *﴾ أي كلف فطرته الأول المستقيمة الإعراض عن أسباب النجاة.
ولما كانت الدنيا والآخرة ضرتين، فكان الإقبال على إحداهما دالاً على الإعراض عن الأخرى، قال دالاً على إدباره بقلبه: ﴿وجمع﴾ أي كل ما كان منسوباً إلى الدنيا.
ولما كانت العادة جارية بأن من كانت الدنيا أكبر همه كان همه بجمعه الاكتناز لا الإنفاق، سبب عن جمعه قوله: ﴿فأوعى *﴾ أي جعل ما جمعه في وعاء وكنزه حرصاً وطول أمل ولم يعط حق الله فيه، فكان همه الإيعاء لا إعطاء ما وجب من الحق إقبالاً على الدنيا
ولما كان من أعجب العجب أن يقبل على الدنيا أحد يسمع هذا التهديد بالعرض بين يدي الله والعقاب لمن لم يقبل على عبادته سبحانه، بين أن ذلك لما جبله عليه سبحانه وأن الإنسان مقهور مع جبلته إلا من حفظه الله، وذلك دال من كلا الطرفين على عظيم قدرته سبحانه، قال مؤكداً لاقتضاء المقام للتأكيد لأن الإنسان لو خوف بالعرض على بعض الأمراء ما لابس ما يغضبه فكيف بالعزيز الحكيم القدير العليم: ﴿إن الإنسان﴾ أي هذا الجنس، عبر به لما له من الأنس بنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولذنبه.
ولما دعا الحال إلى بيان الجبلة الداعية إلى ما يقتضيه باختيار صاحبها على وجه كأنه إلجاء بياناً لسهولة الأمور عليه سبحانه بنى للمفعول قوله: ﴿خلق هلوعاً *﴾ أي جبل جبلة هو فيها بليغ الهلع وهو أفحش الجزع مع شدة الحرص وقلة الصبر والشح على المال والرغبة فيما لا ينبغي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه الحريص على ما لا يحل له، وروي عنه أن تفسيره ما بعده.
ولما كان الهلع شدة الحرص وقلة الصبر، نشر معناه فقال مقدماً
ولما ذكر زكاة الروح، أتعبه زكاة عديلها المال، فقال مبيناً للرسوخ في الوصف بالعطف بالواو: ﴿والذين في أموالهم﴾ أي التي منَّ سبحانه بها عليهم ﴿حق﴾ ولما كان السياق هنا لأعم من المحسنين الذين تقدموا في الذاريات اقتصر على الفرض فقال: ﴿معلوم *﴾ أي من الزكوات وجميع النفقات الواجبة.
ولما كان في السؤال من بذل الوجه وكسر النفس ما يوجب الرقة مع وقاية النفس مع المذمة، قدم قوله: ﴿للسائل﴾ أي المتكلف لسؤال الإنفاق المتكفف. ولما كان في الناس من شرفت همته وعلت رتبته على مهاوي الابتذال بذل السؤال من الإقلال بذب المقبل على الله للتفطن والتوسم لأولئك فقال: ﴿والمحروم *﴾ أي المتعفف
ولما كان المال قد يصرف لإصلاح الدنيا، بين أن النافع
ولما كان الدين معناه الجزاء من الثواب والعقاب، وكان ربما صرفه صارف إلى الثواب فقط للعلم بعموم رحمته سبحانه، وأن رحمته غلبت غضبه، صرح بالعقاب فقال: ﴿والذين هم﴾ أي بجميع ضمائرهم ﴿من عذاب ربهم﴾ أي المحسن إليهم، لا من عذاب غيره، فإن المحسن أولى بأن يخشى ولو من قطع إحسانه، وإذا خيف مع تجليه في مقام الإحسان كان الخوف أولى عند اعتلائه في نعوت الجلال من الكبر والقهر والانتقام ﴿مشفقون *﴾ أي خائفون في هذه الدار خوفاً عظيماً هو في غاية الثبات من أن يعذبهم في الآخرة أو الدنيا أو فيهما، فهم لذلك لا يغفلون ولا يفعلون إلا ما يرضيه سبحانه.
ولما ذكر التحلي بتطهير النفس بالصلاة وتزكية المال بالصدقة، ندب إلى التخلي عن أمر جامع بين تدنيس المال والنفس وهو الزنا الحامل عليه شهوة الفرج التي هي أعظم الشهوات حملاً للنفس على المهلكات، فقال بعد ذكر التخويف بالعذاب إعلاماً بأنه أسرع إلى صاحب هذه القادورة وقوعاً من الذباب في أحلى الشراب فقال: ﴿والذين هم﴾ أي ببواطنهم الغالبة على ظواهرهم ﴿لفروجهم﴾ أي سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً ﴿حافظون *﴾ أي حفظاً ثابتاً دائماً عن كل ما نهى الله عنه.
ولما قدمهن لشرفهن وشرف الولد بهن أتبعه قوله: ﴿أو ما﴾ عبر بما هو الإغلب لغير العقلاء ندباً إلى إيساع البطان في احتمالهن ﴿ملكت أيمانهم﴾ أي من السراري اللاتي هن محل الحرث والنسل اللاتي هن أقل عقلاً من الرجال.
ولما كان الناكح عبادة نادراً جداً، وكان الأصل في العبادة الخروج عن العادة، وإن لم يتجرد للعبادة كن ملوماً، اكتفى في مدحه بنفي اللوم عنه، وأكده لأن الأصل كان استحقاقه للملام لإقباله على تحصيل ما له من المرام فقال مسبباً عن المستثنى: ﴿فإنهم﴾ أي بسبب إقبالهم بالفروج عليهن وإزالة الحجاب من أجل ذلك ﴿غير ملومين *﴾ أي في الاستمتاع بهن من لائم ما - كما نبه عليه بالبناء للمفعول - فهم يصحبونهن قصداً للتعفف وصون النفس وابتغاء الولد للتعاون على طاعة الله.
ولما أفهم ذلك تحريم غير المستثنى ووجب الحفظ للفروج عنه، صرح به على وجه يشمل المقدمات فقال مسبباً عنه: ﴿فمن ابتغى﴾ أي طلب، وعبر بصيغة الافتعال لأن ذلك لا يقع إلا عن إقبال عظيم من
ولما ذكر العادي أتبعه الواقف عند الحدود فقال: ﴿والذين هم﴾ أي ببذل الجهد من توجيه الضمائر ﴿لأماناتهم﴾ أي كل ما ائتمنهم الله عليه من حقه وحق غيره.
ولما كان ذلك قد يكون من غير عهد، قال مخصصاً: ﴿وعهدهم﴾ أي ما كان من الأمانات بربط بالكلام وتوثيق ﴿راعون *﴾ أي حافظون لها معترفون بها على وجه نافع غير ضار.
ولما كانت أضداد هذه المذكورات نقائص مهلكات، وكانت الأنفس - لما لها من النقص - نزاعة إلى النقائص ميالة إلى الدسائس، ذكر سبحانه بالدواء المبرىء من كل داء، فقال مشيراً إلى حفظ أحوال الصلاة وأوصافها بعد ذكر الحفظ لذواتها وأعيانها تنبيهاً على شدة الاهتمام بها: ﴿والذين هم﴾ ولما وسط الضمير إشارة إلى الإقبال بجميع القلب قدم الصلة كما فعل بما قيل تأكيداً وإبلاغاً في المراد إلى أقصى ما يمكن كما لا يخفى على ذي ذوق فقال: ﴿على صلاتهم﴾ من الفرض والنقل ﴿يحافظون *﴾ أي يبالغون في حفظها ويجددونه حتى كأنهم يبادرونها الحفظ ويسابقونها فيه فيحفظونها لتحفظهم أو يسابقون غيرهم في حفظها لأوقاتها وشروطها وأركانها ومتمماتها في ظواهرها وبواطنها من الخضوع والمراقبة، وغير ذلك من خلال الإحسان التي إذا فعلوها كانت ولا بد ناهية لفاعلها «أن الصلاة» الكاملة «تنهى عن الفحشاء والمنكر» فتحمل على جميع هذه الأوامر وتبعد عن أضدادها، ولكون السياق هذا للتخلي عن الأوصاف الجارة إلى الكفر وحد الصلاة إشارة
ولما ذكر حلاهم أتبعه ما أعطاهم فقال مستأنفاً ومستنتجاً من غير فاء إشارة إلى أن رحمته هي التي أوصلتهم إلى ذلك من غير سبب منهم في الحقيقة: ﴿أولئك﴾ أي الذين هم في غاية العلو لما لهم من هذه الأوصاف العالية، وعبر بما يدل على أنه عجل جزاءهم سبحانه فقال: ﴿في جنات﴾ أي في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا فلأنهم لما جاهدوا فيه بإتعاب أنفسهم في هذه الأوصاف حتى تخلقوا بها أعطاهم بمباشرتها لذاذات من أنس القرب وحلاوة المناجاة لا يساويها شيء أصلاً، والجنة محل اجتمع فيه جميع الراحات والمستلذات والسرور، وانتفى عنه جميع المكروهات والشرور، وضدها النار، وزادهم على ذلك بقوله: ﴿مكرمون *﴾ معبراً باسم المفعول إشارة إلى عموم الإكرام من الخالق والخلق الناطق وغيره لأنه سبحانه قضى بأن يعلو مقدارهم حتى يكونوا أعظم مشخص؟ لهم في الغيب مبالغاً في إكرامهم عند المواجهة ليكون لهم نصيب من خلق نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «
ولما تحرر بهذا الكلام الإلهي الذي يشك عاقل في أن مخلوقاً لا يقدر عليه، وأنه لا يقدر عليه إلا الله الواحد الذي لا شريك له، العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، أنه لا يتفصى عن نقائص الإنسان حتى يتخلص من ظلمات النقصان إلى نور الإحسان إلا من لازم هذه الأوصاف وزكى نفسه بها ليصير كاملاً مع العلم القطعي عند المسلم والكافر أن الكمال سبب السعادة، وأن الإنسان مطبوع على ما صدر به سبحانه من النقائص، علم أن المتصفين بهذه الأوصاف هم المختصون بالسعادة الأخروية، وكان الكفار يأتون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويجلسون حوله بالقرب منه ليسمعوا كلامه ويكذبوه ويهزؤوا به، وكان العاقل لا ينبغي له أن يأتي شيئاً لا سيما إن كان إتيانه إليه على
ولما كان الذي يتطير فيراعي الأيامن والأشائم على ما تقدم في الصافات، لا يترك ذلك إلا في أمر أدهش عقله وأطار لبه، فلم يدعه يتأمل، قال مشيراً إلى شدة اعتنائهم بهذا الإهطاع مع عدم التحفظ من شيء: ﴿عن﴾ أي متجاوزين إليك كل مكان كان عن جهة ﴿اليمين﴾ أي منك حيث يتمنون به ﴿وعن الشمال﴾ أي منك وإن كانوا يتشاءمون به ﴿عزين *﴾ أي حال كونهم جماعات جماعات وخلقاً خلقاً متفرقين فرقاً شتى أفواجاً يتمهلون ليأتوا جميعاً جمع عزة، وأصلها عزوة لأن كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي
ولما كان هذا الإسراع على هذا الوجه لا ينبغي أن يكون إلا فيما يتحقق أنه مسعد، ومع تحقق أنه مسعد لا ينبغي أن يكون إلا فيما تحصل به السعادة الأبدية؛ قال منبهاً على ذلك منكراً أن يكون لهم ما كان ينبغي ألا يكون فعلهم ذلك إلا له مع أنه كان من جملة استهزائهم إذا تحلقوا لسماع ما يقرأ أن يقولوا: إن كان ما يقول حقاً من أمر البعث والجنة لنكونن أسعد بها منهم كما أنا أسعد منهم في هذه الدار كما قال تعالى حاكياً عنهم في قوله: ﴿ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى﴾ [فصلت: ٥٠] وذلك أنه كثيراً ما يأتي الغلط من أن الإنسان يكون في خير في الدنيا فيظن أن ذلك مانع له من النار لأنه خير في نفس الأمر، أو يظن أن إمهاله وهو على الباطل رضي به، ولا يدري أنه لا يضجر ويقلق ويعجل إلا من يخاف الفوت، أو يكون شيء بغير إرادته: ﴿أيطمع﴾ أي بهذا الإتيان، وعبر بالطمع إشارة إلى
ولما كان إتيانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة قال: ﴿كل امرىء منهم﴾ أي على انفراده، ولما كان المحبوب دخول الجنة لا كونه من مدخل معين، قال بانياً للمفعول: ﴿أن يدخل﴾ أي بالإهطاع وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم فيستوي المسيء والمحسن ﴿جنة نعيم *﴾ أي لا شيء فيها غير النعيم في كل ما فيها على تقدير ضبطه.
ولما كان الإنسان إذا أكثر من شيء وجعله ديدنه فساغ عندهم أن يقال: فلان خلق من كذا، علل ذلك بقوله مؤكداً، عدّاً لهم منكرين لأنهم مع علمهم بنقصانهم يدعون الكمال: ﴿إنا﴾ على ما لنا من العظمة ﴿خلقناهم﴾ بالعظمة التي لا يقدر أحد أن يقاويها فيصرف شيئاً من إرادته عن تلك الوجهة التي وجهته إليها إلى غيرها
ولما كان في ذكر هذا الخلق مع ما تقدم إشارة عظيمة إلى ما كانوا يقولون: إنه إن كان الأمر كما يقولون من الحشر والجنة لنكونن آثر عند الله منكم ولندخلنها كما نحن الآن آثر منكم عنده بما لنا من الأموال، والبسطة في الدنيا والوجاهة والإقبال، وتنبيه على أن الكل متساوون في أنهم من نطفة فما فضلهم في هذه
ولما كان المعنى: لا أقسم بذلك وإن كان عظيماً لأن الأمر في وضوحه لا يحتاج إلى قسم، كما لو قال خصم لخصمه: احلف، فيقول له: الأمر غني عن حلفي إذ يحتاج إلى اليمين من لا بينة له، ثم يأتي من البينات بما لا يكون معه شبهة، وكانوا في تفضيل أنفسهم - مع الاعتراف لله بالقدرة - كالمنكرين للقدرة على قلب الأمر، أكد قوله عائداً إلى مظهر العظمة بعد دفع اللبس بما هو في وضوحه أجلى من الشمس: ﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿لقادرون *﴾ بأنواع التأكيد بالأداة والأسمية والالتفات إلى مظهر العظمة في كل من الاسم والخبر، فكان في إخباره بعد الإقسام مع التأكيد إشارة إلى أعلى مراتب التأكيد ﴿على أن نبدل﴾ أي تبديلاً عظيماً بما لنا من الجلالة عوضاً عنهم ﴿خيراً منهم﴾ أي بالخلق أو تحويل الوصف فيكونوا أشد بسطة في الدنيا وأكثر أموالاً وأولاداً وأعلى قدراً وأكثر حشماً ووجاهة وحزماً وخدماً، فيكونوا عندك خلقاً على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك والسعي في كل
ولما كان الإنسان قد يفعل شيئاً ثم ينقض عليه، أخبر أنه سبحانه على غير ذلك فقال: ﴿وما﴾ وأكد الأمر بالأسمية الكائنة في مظهر العظمة فقال: ﴿نحن﴾ وأعرق في النفي فقال: ﴿بمسبوقين *﴾ أي من سابق ما يغلب على شيء لم نرده بوجه من الوجوه، ولذلك أتى باسم المفعول.
ولما ثبت أن له سبحانه العظمة البالغة الباهرة من شمول العلم وتمام القدرة، فأنتج اعتماد أهل حزبه عليه وإعراضهم عن كل ما سواه، سبب عن ذلك قوله تهديداً للمخالفين وتسلية للمؤالفين: ﴿فذرهم﴾ أي اتركهم ولو على أسوأ أحوالهم ﴿يخوضوا﴾ أي يفعلوا في مقالهم وفعالهم الذي لا شيء منه على إتقان بل هو كفعل الخائض في الماء الذي لا يضع رجله في موضع يعلم أنه يرضيه، فهو بصدد أن
ولما كان ما توعد الله من أحوال الآخرة لا بد من وقوعه كان كأنه قادم على الإنسان والإنسان ساع بجهده إليه، فلذلك عبر بالمفاعلة فقال: ﴿حتى يلاقوا﴾ ولما كان ما يقع للكفار منه أعظم، كان ذلك اليوم كأنه خاص بهم فقال: ﴿يومهم الذي﴾ ولما كان الوعيد - وهو ما كان من الخبر تخويفاً للمتوعد - صادعاً للقلوب إذا كان من القادر من غير حاجة إلى ذكر المتوعد، بني المفعول قوله: ﴿يوعدون *﴾ وهو يوم كشف الغطاء الذي أول تجليته عند الغرغرة ونهايته النفخة الثانية إلى دخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره، والآية منسوخة بآية السيف.
ولما كان ما بعد النفخة الثانية أعظمه وأهوله، أبدل منه قوله: ﴿يوم يخرجون﴾ أي هؤلاء الذين يسألون عنه سؤال استهزاء ويستبعدونه، وقراءة أبي بكر عن عاصم بالبناء للمفعول على طريقة كلام القادرين تدل على أنه مما هو في غاية السهولة ﴿من الأجداث﴾ أي القبور التي صاروا بتغيبهم فيها تحت وقع
ولما كانت عادة الإنسان الإسراع إلى ما يقصده من الأعلام المنصوبة، وعادتهم - هم بالخصوص - المبادرة إلى الأنصاب التي يبعدونها ما هي عليه من الخساسة خفة منهم في العلوم وطيشاً في الحلوم قال: ﴿كأنهم إلى نصب﴾ أي علم منصوب مصدر بمعنى المفعول كما تقول: هذا نصب عيني وضرب الأمير - هذا على قراءة الجماعة بالفتح، وعلى قراءة ابن عامر وحفص بالضم: إلى علم أو شيء يعبدونه من دون الله على ما فيه من الداء القاتل والبلاء، أو حجر يذبحون عليه، قال في الجمع بين العباب والمحكم: النَصْب والنُصْب والنُصُب: الداء والبلاء: والنُصُب كل ما نصب فجعل علماً، والنَصْب والنَصَب: العلم المنصوب، والنُصْب والنُصُب: كل ما عبد من دون الله، والجمع أنصاب، والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح عليها لغير الله، وانصاب الحرم: حدوده، وقال أبو حيان: والنصب ما نصب
ولما كان إيفاضهم إلى الأنصاب على حال السرور، أخبر أن هذا على خلاف ذلك، وأن ذكر النصب وتصوير حالة الإتيان إليه ما كان إلا تهكماً بهم فقال: ﴿خاشعة﴾ أي منكسرة متواضعة لما حل بها من الذل والصغار، وألحقها علامة التأنيث زيادة في هذا المعنى ومبالغة فيه بقوله: ﴿أبصارهم﴾.
ولما كان خشوعها دائماً فعبر بالاسم، وكان ذلهم يتزايد في كل لحظة، عبر بالفعل المضارع المفيد للتجدد والاستمرار فقال: ﴿ترهقهم﴾ أي تغشاهم فتعمهم، وتحمل عليم فتكلفهم كل عسر وضيق على وجه الإسراع إليهم ﴿ذلة﴾ ضد ما كانوا عليه في الدنيا لأن من تعزز في الدنيا على الحق ذل في الآخرة، ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة.
ولما كان الوعيد لا يتحقق إلا إذا كان من القادر، وإذا كان كذلك كان مخيفاً موجعاً من غير ذكر من صدر عنه، بني للمفعول قوله: ﴿يوعدون *﴾ أي يجدد لهم الإيعاد به في الدنيا في كل وقت لعلهم يتعظون فترق قلوبهم فيرجعون عماهم فيه من الجبروت، وهذا هو زمان العذاب الذي سألوا عنه أول السورة، فقد رجع كما ترى آخرها على أولها أي رجوع، وانضم مفصلها إلى موصلها انضمام المفرد إلى المجموع - والله الهادي إلى الصواب.
سورة نوح
مقصودها الدلالة على تمام القدرة على ما أنذر به آخر " سأل "