تفسير سورة المدّثر

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة المدثر
وهي مكية كلها عند بعضهم، وقال بعضهم هي مكية إلا آية وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً... وعدد آياتها ست وخمسون آية وهي تشمل إرشادات للنبي صلّى الله عليه وسلّم يحتاج إليها في دعوته، ثم تهديد زعيم من زعماء الشرك، وتطرق الكلام إلى وصف جهنم ومن فيها، وهذه السورة والتي قبلها متشابهتان إلى حد ما، فالأولى في إعداد النبي صلّى الله عليه وسلّم كداعية، والثانية ترشده إلى ما به ينجح في دعوته.
توجيهات نافعة للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم [سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)
المفردات:
الْمُدَّثِّرُ: لابس الدثار، وهو ما فوق الشعار الذي يلبس فوق الجسد مباشرة. وَثِيابَكَ المراد: قلبك ونفسك. وَالرُّجْزَ: هو العذاب والمراد هنا أسبابه. نُقِرَ فِي النَّاقُورِ: نفخ في الصور. لا تَمْنُنْ المراد: لا تعط مستكثرا.
773
المعنى:
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في أول اتصاله بالوحي ولقائه له يتأثر بذلك كثيرا، وكان يتزمل بعده ويتدثر، حتى انقطع عنه الوحى حينا ثم جاءه على شوق منه إليه، وربما كان هذا التخلف ليهدأ روعه وتسكن نفسه، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصيبه من أذى قومه ما يجعله يعتزل مجتمعهم مفكرا ويجلس متدثرا بدثاره في بيته، فجاءه الوحى يحضه على ترك العزلة، وعلى التشمير للدعوة.
يا أيها المدثر الذي اشتمل بدثاره كمن لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن، والمستغرق في أفكاره، والمتهيب للقاء الوحى: قم نشيطا من مضجعك، ولا تجعل لليأس سبيلا إلى قلبك، فإن العناية الإلهية أعدتك لرسالة سامية خالدة، ولنشر دين عام هو خاتم الأديان، قم فأنذر الناس بذلك الدين، وخوفهم عاقبة الكفر به، هذه الرسالة التي كلف النبي بها، والتي جاءت لتهدى الناس إلى الطريق الحق، وتجعلهم يعبدون الله الواحد الأحد بعد الأصنام والأوثان والصاحبة والولد، ليست بالأمر الهين السهل، تصور أنك تحاول أن تقنع شخصا بترك ما يعتقده وورثه عن آبائه.. لذلك أرشد الله نبيه إلى طريق النجاح في تلك الدعوة الإسلامية، وإنها لأسلحة جبارة لو استخدمت استخداما صحيحا لكسب صاحبها المعركة وهي:
١- وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ نعم مهما يكن من شيء فكبر «١» ربك وحده، ولا تشرك به غيره، وخلص عقلك من أوهام الشرك وعبادة ما لا ينفع بل يضر.
٢- وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ تطهير الثياب كناية عن تطهير النفس عما تذم به من الأفعال، ولذلك قالت العرب: فلان طاهر الثوب أو طاهر الجيب، يريدون بذلك وصف نفسه بالنقاء من المعايب وسىء الأخلاق، ولا غرابة في ذلك إذ الثياب مما يلازم الإنسان في جميع أطوار حياته. وقد يطلقون الثياب ويريدون ذات النفس أو القلب، وعليه قول عنترة.
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم
(١) وهذا إشارة إلى أن الفاء واقعة في جواب شرط مقدر، وهكذا كل فاء آتية هنا.
774
٣- وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أى: اترك كل ما يؤدى بك إلى العذاب من المعاصي والآثام، وحرر جوارحك من كل ما يغضب ربك.
ألست معى في أن هذه الكلمات جمعت أمهات الفضائل؟ كتحرير العقل من ربقة الشرك وتقويم النفس بكريم الخلق. وإصلاح البدن والروح بهجر المآثم والمحارم.
وهذه الأوامر من باب فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أى: دم على ما أنت عليه من العبادة الكاملة، ومن تحلى نفسك بالخلق الشريف، ومن هجرك لكل ما يغضب الله.
٤- هذه صفة مهمة تستحق الإفراد بالذكر وهي: الجود وعدم البخل واستكثار العطاء فإن البخل وشح النفس مما ينفر الناس عن صاحب الدعوة، حقيقة الجود مما يدخل في قوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ولكنه خص بالذكر لأثره المهم في جذب قلوب الناس فحقّا صدق الله وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أى: لا تعط عطاء مهما كان كثيرا وأنت تقدر في نفسك أنه كثير، بل اعتقد أنه قليل، وأعط عطاء من لا يخاف الفقر بحال.
٥- وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أى: إذا كان الأمر كذلك وقد قمت بالواجب عليك واتبعت نصائح ربك ثم وجدت من قومك إعراضا وتكذيبا وإيذاء فاصبر لأجل ربك ولتبليغ رسالاته، وتلقين وحيه، فإن الصبر هو عدة المسلم وطريق الوصول إلى ما يريد.
قم يا محمد فأنذر، وبلغ رسالة ربك كلها، وإن لم تفعل هذا فما بلغت رسالته، والله عاصمك من الناس، فإذا أبوا إلا التكذيب، فاعلم أن وراءهم يوما ثقيلا، يوما عبوسا قمطريرا، فإذا نقر في الناقور ونفخ في الصور فذلك- يوم إذ يحصل هذا- يوم عسير جدّا شديد على الكافرين غير يسير.
ما يلاقيه زعماء الشرك [سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١١ الى ٣١]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)
ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١)
775
المفردات:
ذَرْنِي: دعني واتركني. مَمْدُوداً: مبسوطا موسعا. شُهُوداً:
حضورا لا يفارقونه. مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً بسطت له الدنيا بسطا. كَلَّا:
كلمة ردع وزجر. عَنِيداً: معاندا له ومكابرا. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً: سأكلفه وأحمله عذابا شاقا صعبا كصعوبة من يحاول صعود جبل صعب. قَدَّرَ: هيأ الأمر في نفسه ودبره. عَبَسَ وَبَسَرَ العبوس: تقلص عضلات الوجه أو الحاجبين عند ألم أو حزن، والبسور أشد من العبوس. سَقَرَ: اسم من أسماء جهنم، وهو من:
سقرته الشمس: إذا لوحته وآلمته. فِتْنَةً: ابتلاء واختبارا. وَلا يَرْتابَ:
ولا يشك. مَرَضٌ: شك ونفاق. مَثَلًا المثل: هو القول السائر على ألسنة
776
الخلق، ويكون في أمر عجيب وشأن خطير، والمراد أن عدد الخزنة أمر عجيب كالمثل.
جُنُودَ رَبِّكَ: أنصاره وأعوانه، والمراد هنا: صنف من الخلق. ذِكْرى لِلْبَشَرِ: موعظة وعبرة.
المعنى:
لقد رسم الله- سبحانه وتعالى- الخطوط لنجاح الدعوة المحمدية باستكمال العقل وتحرره من الشرك، وباستكمال النفس بالخلق الكامل والمثل العليا، وبتطهير الجوارح والروح بالبعد عن المعاصي والمحارم، ولقد ذكر صفتين لهما وضع خاص، هما الجود والصبر، وبعد ذلك بين ما يلاقيه الكفار يوم القيامة، ثم أراد أن يشجع الرسول على التبليغ فذكر أحد زعماء الشرك وتوعده بسقر التي هي لواحة للبشر، هذه هي دعائم نجاح الرسول في دعوته، وتلك سنة الله في الدعوات كلها لا يستقيم لها أمر إلا بهذا.
ذرني ومن خلقته وحدي بلا شريك معى، اتركه لي وثق أنى قادر عليه لقد خلقته وحيدا لا مال له ولا ولد ولا حول له ولا قوة، حتى إذا أنعمت عليه بالمال والولد قام يكفر بي ويكذب رسلي، لقد مهدت له الدنيا ووسعتها عليه توسيعا، ثم بعد ذلك يطمع أن أزيده من نعمى، أو ثم يطمع أن أزيده فأرسله رسولا!! كلا إنه كان لآياتنا القرآنية معاندا ومكابرا، وماذا يكون جزاؤه؟ سأرهقه صعودا، أى: سأحمله من العذاب نوعا شاقاّ عليه تضعف عنه قوته كما تضعف قوة من يصعد في الجبل في طريق وعر، وكأن سائلا سأل: كيف كانت حالته في معاندة الآيات حتى استحق هذا العذاب؟ فأجيب: إنه فكر فيها وقدر، وهيأ في نفسه أمرا وأجال فيها رأيا يقوله ليرضى الباطل وأهله.
فقتل كيف قدر؟ ثم قتل كيف قدر؟ وهذا كما يقولون: قاتله الله ما أشجعه! في معرض التعجب والاستعظام مدحا للشخص الذي يقولون فيه هذا الكلام، وكأنه بلغ حدا يجعل حساده يقولون له هذا، ثم شاع هذا الاستعمال حتى صار يقوله كل معجب بشخص أو كل محب له، أما العبارة في الآية فليس المقصود منها المدح، وإنما هي للتعجب المشوب بالذم، أو المدح الذي فيها للتهكم والاستهزاء، ثم بعد أن فكر وقدر نظر في جمهور النادي نظر المفكر الساهم، ثم قطب وجهه وقلص عضلات حاجبيه واشتد ذلك التقطيب متهيئا للكلام والحكم القطعي في شأن الرسول والقرآن.
777
ولما كان قوله محض افتراء، ونهاية الإعراض عن الحق والإيمان، وكان ناشئا عن كبر وغمط للحقوق عبر عنه القرآن بقوله: ثم أدبر واستكبر، فماذا قال؟ قال: إن الكلام الذي سمعته ما هو إلا سحر يؤثر عن السحرة من البابليين والآشوريين والمصريين، ثم أكد رأيه بأنه سحر معروف وليس من كلام الله بقوله: ما هذا إلا مثل قول البشر الذين عاشوا في القرون الماضية.
ما جزاء هذا؟ سأرهقه صعودا، سأصليه سقر «١» وما أدراك؟ ما سقر «٢» ؟ أى شيء أعلمك ما سقر؟ وهذا استفهام يراد به التعجب من هول سقر، وأنه مهما فكر فيها المفكر لا يمكنه أن يعرف من أمرها إلا ما عرفه الوحى من أنها لا تبقى على شيء يلقى فيها إلا أهلكته، ولا تذر أحدا من الفجار يفلت منها، وهي لواحة للبشر تجعل أجسامهم قطعا سوداء متغيرة، عليها تسعة عشر، وهم خزنتها الموكلون بخدمتها وهل هم تسعة عشر ملكا أو صنفا أو صفا أو نقيبا؟ الله أعلم بذلك، وليس لنا أن نبحث في ذلك بعد قوله تعالى: وما أدراك ما سقر؟ على أن المخاطب بذلك سيد البشر.
وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، أى: ليسوا بشرا، وهذا رد على من قال:
سأكفيكم هذه الآية: ثكلتكم أمهاتكم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من هؤلاء!! فيرد الله عليهم: ليس هؤلاء بشرا بل هم ملائكة، فاسألوا عنهم عادا وثمود وأهل قرى قوم لوط، فإنهم يعرفون الملائكة وقوتهم.
وما جعلنا عدتهم- تسعة عشر- إلا ابتلاء واختبارا للناس، وكانت فتنة وضلالا وإعراضا عن الحق، حيث كفر المشركون بهذا وضلوا، فكانت عاقبة أمرهم ضلالا وإعراضا. أما المؤمنون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين وأهل الكتاب فازدادوا يقينا على يقينهم، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون بل هم متيقنون، وكان ذلك ليقول الذين في قلوبهم شك ونفاق كالمنافقين، وليقول الكافرون بالوحي: ماذا أراد الله بهذا؟
أى: ماذا أراد الله بهذا القول- عدتهم تسعة عشر- الذي يشبه المثل في الغرابة والبداعة؟ فيخوفنا بواسطته من سقر وخزنتها التسعة عشر.
(١) تعرب هذه بدلا من الأولى بدل اشتمال.
(٢) ما أدراك (ما) مبتدأ و (أدراك) خبر، وجملة (ما سقر) ساد مسد المفعول الثاني لأدرى، وإعرابها خبر مقدم وسقر مبتدأ مؤخر.
778
مثل ذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء، ويهدى من أراد لهم ذلك لأنهم على استعداد للخير أو الشر، وقد ساروا بمحض اختيارهم في أحد السبيلين.
وما يعلم جنود ربك إلا هو، نعم لا يعلم خلقه إلا هو، وجنود ربك التي هي وسائط في تنفيذ إرادته وأحكامه من الأمور الغيبية التي نؤمن بها فقط.
وما سقر ووصفها بهذا إلا ذكرى وموعظة للبشر، فيخافون ربهم ويبتعدون عن عقابه وعذابه، أما حقيقتها فشيء لا يعلمه إلا الله.
يكاد المفسرون يجمعون على أن قصة التهديد السابقة نزلت في الوليد بن المغيرة فإنه كان كثير المال والولد عظيم الجاه قوى النفوذ، وكان له عشرة أولاد يحضرون مجلسه لكبر سنهم ورجاحة عقولهم، ويقيمون معه لا يغادرون مكة لغناهم وثرائهم.
ولما اشتد الأمر رأى زعماء الشرك أن دعوة النبي محمد آخذة في الانتشار، وأن محمدا سيجتمع بوفود العرب وسيكلمهم في الإسلام. اجتمعوا للتشاور فيما يقولون ليردوا به العرب عن الإسلام، فقال قائل: نقول: إنه شاعر، وقال آخر: لا، إنه كاهن، وقال ثالث: لا، إنه مجنون، وقال رابع: لا، إنه كذاب! كل هذا والوليد يسمع ولا يتكلم فقالوا له: ما لك لا تتكلم؟؟ فقال: لقد سمعت محمدا يقرأ كلاما ما هو بكلام الإنس ولا الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. فكان لهذا الكلام وقع شديد على المجتمعين، وقالوا: لقد صبأ الوليد- أى: ترك دين آبائه وأجداده- ولتصبأن معه قريش، وتفرق الجمع وكلهم حزين أسيف.
ولكن أبا جهل ذهب لدار الوليد يحتال عليه وأخذ يكلمه بكلام يثير فيه الحمية الجاهلية، والنخوة الكاذبة فقال له: لقد تركنا قريشا تجمع مالا حتى تكفيك تعرضك لمحمد وماله، فقال الوليد: لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا، فهل أنا محتاج لكسر محمد اليتيم؟ قم بنا إلى دار الندوة، ولأقول كلاما أصحح به وضعي.
اجتمع الناس فقال الوليد: إن محمدا ليس بشاعر، ولا كاهن، ولا كاذب- لقد وصف القرآن الوليد في تلك اللحظة الرهيبة وصفا دقيقا جدّا- فقال:
779
إن الوليد فكر وقلب وجوه الرأى فيما يقوله، وقدر الرأى وقلبه على وجوهه ثم قاطعه الوحى بقوله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ معجبا من أمره ناعيا عليه سوء فعله، ثم نظر الوليد في القوم بعد تفكيره، ثم عبس وبسر، أى: قطب حاجبيه تقطيبا شديدا، وقال لهم: إنه ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، ففرحت قريش بذلك فرحا شديدا. واغتم النبي صلّى الله عليه وسلّم وحزن ورجع إلى بيته، وتدثر بدثاره وجلس، فكانت هذه السورة، وأمره الله أن يدع الوليد ومن على شاكلته فالله يكفيكه في الدنيا، وليعذبنه عذابا شديدا في الآخرة بنار هي سقر تسود الوجوه وتشوى اللحم... إلخ ما في الآيات.
سقر ومن فيه [سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٣٢ الى ٥٦]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١)
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)
780
المفردات:
إِذْ أَدْبَرَ دبر وأدبر بمعنى: ولى وانصرم. إِذا أَسْفَرَ: أضاء وظهر.
الْكُبَرِ: جمع كبرى، أنثى الأكبر. رَهِينَةٌ يقال: رهن الشيء رهنا ورهينة، وهو الشيء المرهون وثيقة لشيء آخر. ما سَلَكَكُمْ: ما أدخلكم. الْمُصَلِّينَ الصلاة في اللغة: الدعاء والدين، وشرعا: تطلق على الصلاة المعروفة، والمراد المعنى اللغوي لا الشرعي. نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ: نكذب مع المكذبين، وأصل الخوض الذهاب في الماء، ثم نقل إلى الذهاب في الكلام، ثم غلب على الإكثار من باطل الكلام. الْيَقِينُ: الموت. التَّذْكِرَةِ: المراد القرآن. مُسْتَنْفِرَةٌ: نافرة من نفسها. قَسْوَرَةٍ: اسد. صُحُفاً مُنَشَّرَةً الصحف: القراطيس التي تكتب وتتداولها أيدى الناس، والمنشرة: المبسوطة المفتوحة.
المعنى:
لقد تكلم المشركون في خزنة جهنم وعددهم، واتخذوا ذلك مادة لاستهزائهم وسخريتهم فضلوا ضلالا بعيدا، والقرآن هنا يزجرهم عن ذلك ويردعهم بكلمة زاجرة هي «كلا» ثم أقسم بالقمر، والليل إذ أدبر، والصبح إذا أسفر على أن سقر هي إحدى الكبر، أما قسمه بهذه الأشياء فكما قلنا سابقا: إنه للفت أنظار المشركين إلى تلك الآثار الباهرة التي تدل على قدرة الله القادرة، على أن هذا التقلب، والتغيير من حال إلى حال ومن نور إلى ظلام ثم منه إلى ضياء على جواز البعث والانتقال من حال الفناء إلى حال الحياة.
أقسم بالقمر ونوره كيف ينشأ صغيرا ثم يكبر ثم يعود صغيرا صغيرا حتى المحاق، وهذا الليل بجحافله، وسكونه وهدوئه، وموت الطبيعة فيه، ثم يأتى الصبح بأضوائه
781
اللامعة ووجهه المشرق وحياته الحافلة، أقسم بهذا كله على أن جهنم المعدة للمكذبين الذين يتخذون القرآن عضين هي إحدى الكبر من جهة أنها نذير «١» للبشر لمن «٢» شاء منكم أيها البشر أن يتقدم للخير ولمن شاء أن يتأخر بفعل الشر، نعم هي نذير لهؤلاء الذين يخافون يوما عبوسا قمطريرا.
هذا إنذار للعاملين والعصاة المذنبين، مع العلم أن كل نفس بما كسبت مرهونة، أى: أن النفس مرهونة بعملها فإن كان خيرا فك رهنها وحبسها، وإن كان شرّا فستظل حتى تستوفى عقابها، وعلى ذلك فالعصاة نفوسهم مرهونة بعملهم الشر، والمؤمنون أصحاب اليمين ليست نفوسهم مرهونة لأنهم أدوا ما عليهم. كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنهم في جنات مكرمون، على سرر متقابلون يتجاذبون أطراف الحديث ويتساءلون، أى: يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين المكذبين ما حالهم؟ ولعلهم يعرفون الجواب، ولكن هذا يساق زيادة في تبكيت المجرمين وإيلامهم، وإمعانا في سرور المؤمنين، أصحاب اليمين يتساءلون عن المجرمين فيطلعون عليهم، وهم في جهنم فيقولون لهم: ما سلككم في سقر؟ ما الذي أدخلكم في جهنم؟ قالوا لهم: الذي سلكنا أننا لم نك من المصلين، ولم نك ندعو الله رب العالمين بل كنا ندعو غيره ونشرك به سواه، وأنا لم نك نطعم المسكين المحتاج بل كنا ننفق للدنيا وللرياء، وكنا نكذب مع المكذبين ونخوض مع الخائضين في هراء الكلام وفاسده، وكنا نكذب بيوم القيامة ولا نصدق به، وظللنا على هذا الحال حتى أتانا اليقين الذي لا شك فيه كالموت، وهذا العذاب الذي نقاسيه اليوم.
إذا كان الأمر كذلك فما تنفع هؤلاء شفاعة الشافعين، ومن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ وهذا رد عليهم في دعواهم أن الآلهة تشفع عند الله لهم.
عجبا لهؤلاء بعد هذا البيان الساطع فما لهم عن القرآن معرضين؟ أى شيء حصل لهؤلاء حتى يعرضوا عن كلام رب العاملين مالك يوم الدين.
(١) على هذا فهي مصدر وقع تمييزا، ويصح أن تكون صفة مشبهة وتعرب حالا.
(٢) وعلى هذا فقوله: لمن شاء بدل من بشر، ورأى آخر أنه خبر مقدم، والمبتدأ المصدر المأخوذ من (أن يتقدم أو يتأخر) أى: التقدم والتأخر لمن شاء.
782
ما لهم يعرضون ويفرون؟ كأنهم حمر- المراد حمر الوحش- نافرة من نفسها وطبعها، وقد فرت من أسد، إن أمر هؤلاء لعجيب.
بل- وهذا إضراب عن إعراضهم ونفورهم مما فيه سعادتهم وخيرهم كالحيوان واستمع لما هو أعجب وأغرب: بل يريد كل امرئ منهم أن تنزل عليه صحف من السماء مبسوطة تأمره باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم.
كلا وألف كلا!! بل هم لا يخافون الآخرة، ولا يرجونها أصلا، فهذا هو السبب، وطلبهم الصحف المنشرة ضرب من العبث واللهو، فأعرض عن هذا ولا تسمع لهم في شيء..
كلا إن القرآن تذكرة وعظة لمن يريد الآخرة ويؤمن بالغيب، وفيه استعداد للخير، فمن شاء ذكره واتعظ به وآمن، وما يذكرون إلا إن شاء الله ذاك بالقهر والإلجاء، لكن الله ترك الإيمان والكفر لاختيار العبد الذي هو مناط الثواب والعقاب.
وقيل المعنى: وما يذكرون في حال من الأحوال إلا حال أن شاء الله لهم ذلك إذ الأمر كله له، هو الله أهل لأن يتقى ويحذر عقابه فلماذا لا تتقون؟ وهو أهل للمغفرة فلماذا لا تصلحون أعمالكم. وتتوبون لربكم وتثوبون لرشدكم؟
783
Icon