تفسير سورة الحجر

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

[سورة الحجر]

فاتحة سورة الحجر
لا يخفى على ذوى التمكن والاطمئنان من ارباب التوحيد والعرفان الواصلين الى مرتبة التحقيق والإيقان ان اصحاب التقليد والتلوين المترددين في مضيق الحسبان والتخمين متى ظهر عندهم ولاح عليهم امارات تسليم ارباب التوحيد المفوضين أمورهم كلها الى الله وشاهدوا من ظواهر أحوالهم واوصافهم وأفعالهم امارات الاعتدال وعلامات الرضا والتسليم تمنوا ان يكونوا أمثالهم وعلى اوصافهم وأخلاقهم وأحبوا ان يتدينوا باديانهم ويتخلقوا بأخلاقهم لعدم رسوخهم فيما هم فيه من التقليدات الباطلة والتخمينات العاطلة الموروثة لهم من آبائهم وأسلافهم ويتفطنوا من أنفسهم التزلزل والتذبذب في ظنونهم وجهالاتهم الا انهم من شدة شكيمتهم وضغينتهم وخبث طينتهم لم يقدموا على قبول الايمان والتدين بدين الإسلام مع نزول الآيات الظاهرة الدالة المثبتة لحقيته وورود المعجزات الباهرة المبينة لصدقه ومطابقته للواقع لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التنبيه بما يدل على تأييده وتعضيده في امره وأوصاه بترك مكالمتهم ودعوتهم وبشره باهلاكهم وانتقامهم فقال متيمنا باسمه العظيم بِسْمِ اللَّهِ الموفق لعباده بمقتضى مشيته ومراده الرَّحْمنِ لهم بتبيين دلائل دينه وبراهين توحيده حسب استعداداتهم وقابلياتهم الرَّحِيمِ لهم يوفقهم على الاتصاف به وبقبوله
[الآيات]
الر ايها الإنسان الأفضل الأكمل الأليق لان يفيض سبحانه عليك لطائف رموز اسرار ربوبيته ولوائح رقائق سرائر ألوهيته اللامعة اللائحة من مقر رحمته العامة الواسعة وكرامته الكاملة الشاملة تِلْكَ الآيات المذكورة في هذه السورة آياتُ الْكِتابِ اى بعض آيات الكتاب الجامع الناسخ للكتب السالفة وَبعض آيات قُرْآنٍ فرقان فارق بين الهداية والضلالة والرشد والغي مُبِينٍ ظاهر البيان والتبيان لأولى البصائر المتأملين في حكم إيجاد الموجودات سيما الإنسان الكامل المميز الممتاز بأنواع الفضائل والكرامات ولا سيما بالعقل المفاض له المنشعب من العقل الكل الذي هو عبارة عن حضرة العلم المحيط الإلهي ليتوجه به نحو موجده ويتدبر به امر مبدأه ومعاده ومن لم يصرفه الى ما خلق لأجله وجبل لمصلحته فقد كفر وضل ضلالا بعيدا بمراحل عن المرتبة الانسانية وذلك من غاية انهماكهم في الغفلة وعمههم وسكرتهم بمزخرفات الدنيا الدنية وحين أفاقوا عن سكرتهم وعمههم أحيانا
رُبَما يَوَدُّ وقلما يحب ويستحسن على وجه التمني المسرفون المفرطون الَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا الحق ولم يصرفوا عقولهم الى كشفه لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مصرفين عقولهم الى معرفة الله مفوضين أمورهم كلها اليه متوكلين على الله في عموم أحوالهم لكن من شدة طغيانهم ونهاية غوايتهم وخسرانهم لم يقبلوا منك دعوتك ولم يؤمنوا بك وبكتابك يا أكمل الرسل عنادا واستكبارا حتى ينجوا من خذلان الدنيا وخسران الآخرة
وبالجملة ذَرْهُمْ يا أكمل الرسل وشغلهم في دنياهم يَأْكُلُوا من مأكولاتها المورثة لانواع المرض في قلوبهم وَيَتَمَتَّعُوا بمزخرفاتها الفانية ولذاتها الوهمية البهيمية وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ويشغلهم عن الاشتغال بالطاعات ويحرمهم عن اللذات الاخروية مطلقا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ قبح صنيعهم وسوء فعالهم حين انكشف الأمر وتبلى السرائر فحينئذ يتنبهون على ما فوتوا لأنفسهم من اللذات الروحانية باعراضهم عن الله وكتابه ونبيه
وَمن سنتنا القديمة انا ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ يعنى ما أردنا إهلاك قرية من القرى
الهالكة الا وقد كتبنا أولا في لوح القضاء وحضرة العلم لإهلاكها أجلا معلوما ووقتا معينا
بحيث ما تَسْبِقُ وما تتقدم مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها الذي قد عين لإهلاكها وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه بل متى وصلوا اليه هلكوا حتما بحيث لا يسع لهم التقديم والتأخير أصلا ولا يجرى فيه التقدم والتأخر مطلقا
وَكيف لا نهلكنهم ولا نعذبنهم باشد العذاب ولا ننتقم عنهم إذ هم قالُوا حين دعوتك إياهم والقائك إليهم شعائر الايمان والإسلام منادين لك مستهزئين معك متهكمين يا أَيُّهَا النبي الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ من عند ربه الذِّكْرُ والكتاب المبين له أمثال هذه الكلمات التي نسمع منك إِنَّكَ في دعوتك هذه وادعائك النبوة والكتاب لَمَجْنُونٌ مخبط مختل العقل يخبطك الجن ويعلمك أمثال هذه الكلمات والحكايات فتخيلت أنت انهم ملائكة ينزلون إليك بها وبأمثالها وان اطلعت أنت على الملائكة وصاحبت معهم مع انك بشر مثلنا
لَوْ ما وهلا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ المنزلين إليك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك هذه حتى نريهم ونسمع منهم قولهم مثل رؤيتك إياهم وسماعك منهم
قل يا أكمل الرسل نيابة عنا ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ لكل احد من البشر بل لمن نؤتى الحكمة له في اصل فطرته واستعداده وهم الأنبياء والرسل المأمورون بالإرشاد والتكميل وما ننزلهم إِلَّا تنزيلا ملتبسا بِالْحَقِّ اى بالدين الثابت الجازم المطابق للواقع ليتدين بدينهم من يتبعهم ويؤمن لهم اطاعة وانقيادا ولو اطلع الكل على نزولهم ورأوا صورهم لبطل حكمة الإرسال والإطاعة والتكميل إذ الكل في الرشد والهداية على السواء حينئذ وَايضا ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ منتظرين الى يوم الجزاء إذ الكل ح ناجون مهديون في النشأة الاولى
وبالجملة إِنَّا نَحْنُ حسب حكمتنا المتقنة قد نَزَّلْنَا الذِّكْرَ اى الكتب والصحف على الأنبياء والرسل على وجه يعجز البشر عن إتيان مثله لكون ألفاظه ومعانيه ومعلوماته ونظمه واتساقه خارجة عن مقتضيات مداركهم وعقولهم لذلك ينسبون اكثر الأنبياء والرسل الى الجنون والخبط والاختلال وَمع ذلك إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عن تحريف اهل الزيغ والضلال المنحرفين عن جادة التوحيد والاعتدال
وَبالجملة لا تحزن يا أكمل الرسل من استهزائهم بك وتكذيبهم فانه من الديدنة القبيحة القديمة بين اصحاب الضلال فانا لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رسلا وقت شيوع الفسوق والعصيان فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ فرقهم وفئتهم
وَهم من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ بأنواع الاستهزاء من نسبة الكذب والجنون واصناف العيوب
وبالجملة كَذلِكَ نَسْلُكُهُ وندخله نحن بمقتضى حكمتنا فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ الذين قد تعلقت ارادتنا وجرت مشيتنا باهلاكهم وتعذيبهم بمقتضى اوصافنا القهرية الجلالية
لذلك لا يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بالرسول المرسل والكتاب المنزل إليهم وكيف يؤمن بك يا أكمل الرسل هؤلاء الكفرة وَقَدْ خَلَتْ ومضت سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ اى سنة الله في الكفرة الماضين او سنة كل فرقة من أسلافهم وهم ايضا على أثرهم وطبقهم تقليدا لهم
وَمن خبث طينتهم ونهاية قسوتهم وغفلتهم لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ اى على هؤلاء المستهزئين المنهمكين في الغي والعناد باباً مِنَ السَّماءِ على خلاف العادة المستمرة ليؤمنوا بك وبدينك وكتابك فَظَلُّوا فِيهِ وصاروا يَعْرُجُونَ ويصعدون منه نحو السماء بحيث يستوضحون ما فيها
لَقالُوا البتة من شدة غيهم وضلالهم ونهاية جهلهم وانكارهم المركوز في فطرتهم إِنَّما سُكِّرَتْ وتحيرت أَبْصارُنا بسحر محمد وتلبيسه انما فعل بنا هذا لنؤمن له ونصدق قوله وكتابه
ونقبل دينه بَلْ الأمر كذلك وشأنه هكذا بلا شك وتردد وبالجملة ما نَحْنُ بمشاهدة هذا الفتح والعروج الغير المعهود الا قَوْمٌ مَسْحُورُونَ مخبوطون مخبطون البتة قد لبس علينا الأمر هذا الشخص بالسحر والشعبذة.
ثم قال سبحانه امتنانا لعباده بتهيئة اسباب معاشهم وَلَقَدْ جَعَلْنا وقدرنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً اثنى عشر تدور وتبدل فيها الشمس في كل سنة شتاء وصيفا ربيعا وخريفا والقمر في كل شهر تتميما لأسباب معاشكم وتنضيجا لأقواتكم واثماركم وَمع ذلك زَيَّنَّاها وحسنا نظمها وترتيبها وهيئاتها وأشكالها لِلنَّاظِرِينَ المتأملين في كيفية حركتها ودوراتها وانقلاباتها ليستدلوا بها على قدرة مبدعها ومتانة حكمة صانعها وحكم مخترعها الى ان ينكشفوا بوحدة المظهر الموجد ورجوع الكل اليه
وَمع ذلك قد حَفِظْناها مِنْ اطلاع كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ على ما فيها من السرائر والحكم المودعة
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ واختلس من الشياطين السَّمْعَ والاستطلاع من سكان السموات وتكلف في الصعود والرقى نحوها فَأَتْبَعَهُ من قهر الله إياه شِهابٌ جذوتنا على مثال كوكب مُبِينٌ بين ظاهر عند اولى الأبصار زجرا له ومنعا عن الاستطلاع بالسرائر
وَالْأَرْضَ ايضا قد مَدَدْناها مهدناها وبسطناها وَقد أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ شامخات لتقريرها وتثبيتها ولتكون مقرا للمياه والعيون ومعدنا للجواهر والفلزات وَبالجملة قد أَنْبَتْنا فِيها اى في الأرض مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ مطبوع ملائم تستحسنه الطباع وتستلذ به
وَانما جَعَلْنا وخلقنا كل ذلك اى العلويات والسفليات ليحصل لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها وتقومون امزجتكم منها لتتمكنوا على سلوك طريق التوحيد والعرفان الذي هو سبب ايجادكم والباعث على اظهاركم إذ ما خلقتم وما جبلتم الا لأجله وَايضا قد جعلنا فيها معايش مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ لذرياتكم من اخلافكم وأولادكم وان كنتم تظنون انكم رازقون لهم ظنا كاذبا بل رزقكم ورزقهم وكذا رزق عموم من في حيطة الوجود علينا
وَكيف لا يكون رزق الكل علينا إِنْ مِنْ شَيْءٍ وما من رطب ويابس ولا نقير ولا قطمير مما يطلق عليه اسم الشيء إِلَّا عِنْدَنا وفي حيطة قدرتنا وحوزة مشيتنا خَزائِنُهُ اى مخزونات كل شيء ومخازنه عندنا وفي قبضة قدرتنا وتحت ضبطنا وارادتنا بحيث لا ينتهى قدرتنا دون مقدور ولا تفتر عنه بل لنا القدرة الغالبة بإيجاد الخزائن من كل شيء وَلكن قد اقتضت حكمتنا المتقنة انا ما نُنَزِّلُهُ وما نظهره إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ عندنا مخزون في حيطة حصرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المحفوظ وأجل مقدر معين لدينا لا اطلاع لاحد عليه
وَمن بدائع حكمتنا وعجائب صنعتنا انا قد أَرْسَلْنَا من مقام فضلنا وجودنا الرِّياحَ الهابة في فصل الربيع وجعلناها لَواقِحَ ملقحات يعنى يجعل الأشجار حوامل بالأثمار فَأَنْزَلْنا بعد صيرورتها حوامل مِنَ السَّماءِ ماءً مدرارا مغزارا تتميما لتربيتها وتنميتها فَأَسْقَيْناكُمُوهُ والحوامل به الى وقت الصلاح والحصاد وَبالجملة ما أَنْتُمْ لَهُ اى للماء بِخازِنِينَ حافظين حارسين وليس في وسعكم وطاقتكم حرزه وحفظه في الغدائر والحياض وكذا القاح الأشجار وإنباتها وإصلاحها وجميع ما يحتاج اليه إذ ليس عندكم خزائن كل شيء
وَايضا عن غرائب مبدعاتنا إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي ونظهر بمقتضى اوصافنا اللطفية البسيطة وَنُمِيتُ ونعدم حسب اوصافنا القهرية القبضية وَبالجملة نَحْنُ الْوارِثُونَ الدائمون الباقون بعد انقهار عموم المظاهر وفنائها
بالطامة الكبرى
وَمن كمال علمنا وخبرتنا انا لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ المتقدمين في الوجود مِنْكُمْ ومن اسلافكم بل من شئونكم ونشأتكم التي في أصلاب آبائكم وأرحام أمهاتكم بل قد علمنا استعداداتكم اللاتي في ذرائر العناصر بل حصصكم من الروح الأعظم والغوث المعظم وَبالجملة لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ المتأخرين ايضا منكم في الوجود على الوجه المذكور ازلا وابدا
وَبالجملة إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل هُوَ المطلع بسرائر الماضي والحال والمستقبل بل الازمنة كلها ساقطة مطوية منطوية عند حضوره وشهوده يَحْشُرُهُمْ في المحشر وموعد القيمة للحساب والجزاء حسب حكمته المتقنة وكيف لا إِنَّهُ في ذاته وأوصافه وأفعاله حَكِيمٌ متقن الفعل متين الصنع والعمل عَلِيمٌ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء.
ثم قال سبحانه امتنانا لكم وتنبيها على دناءة منشأكم ثم على شرف مكانتكم وعلو شأنكم ايها المكلفون من الثقلين القابلون لفيضان الايمان والمعارف
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وأظهرنا جنسه وقدرنا جسمه مِنْ صَلْصالٍ طين يابس مصوت من غاية يبسه وبقائه على حر الشمس متخذ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ من طين اسود منتن كريه الرائحة يستكره ريحه عموم الحيوانات
وَالْجَانَّ اى جنسه ايضا قد خَلَقْناهُ وأظهرناه مِنْ قَبْلُ اى قبل إيجاد الإنسان وإظهاره من مادة دنية ايضا إذ هو متخذ مِنْ نارِ السَّمُومِ اى شديدة الحرارة المتناهية فيها انظروا أولا ايها المكلفون المعتبرون الى منشأكم ومادتكم
وَاذكروا تشريف ربكم إياكم كيف عدلكم وسويكم واسدكم وقويكم وكرمكم واجتباكم وكيف هديكم واصطفاكم الى حيث اخلفكم عن نفسه وانابكم مناب قدس ذاته اذكر وقت إِذْ قالَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل. خصه سبحانه صلّى الله عليه وسلّم بالخطاب للياقته وكمال استحقاقه من ان يكون مخاطبا لله كأنه لجميعه مرتبته عموم مراتب بنى نوعه عبارة عن جميعهم لِلْمَلائِكَةِ على سبيل الاخبار والتعليم إِنِّي لمطالعة جمالي وجلالي وعموم أوصاف كمالي على التفصيل خالِقٌ مقدر موجد بَشَراً تمثالا وهيكلا متخذا مِنْ صَلْصالٍ متخذ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ بعيد بمراحل عن مقاربتى ومقارنتي إذ هو اخس الأشياء وأدونها
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وعدلته وكملت شكله وأتممت هيكله وَقد نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ورششت عليه من رشحات نور وجودى ومن رشاشات حياتي حسب لطفي وجودي ليكون حيا بحياتي فيصير مرآة لي اطالع فيها عموم أسمائي وصفاتي فَقَعُوا لَهُ وخروا عنده يا ملائكتي حينئذ ساجِدِينَ واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان تعظيما لأمرنا وتكريما له. ثم لما خلق سبحانه ما خلق على الوجه الذي خلق وامر ما امر على سبيل الوجوب والقطع
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ بلا طلب مرجح ودليل راجح كُلُّهُمْ بلا خروج واحد منهم أَجْمَعُونَ مجتمعون معا بلا تقدم وتأخر وتردد وتسويف
إِلَّا إِبْلِيسَ الذي هو منهم تبعا لا اصالة قد أَبى عن السجود وامتنع عن أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ثم لما تخلف اللعين وركن عن امر الله
قالَ له سبحانه يا إِبْلِيسُ ناداه توبيخا وتقريعا ما لَكَ واى شيء عرض عليك ولحق بك ايها المزور أَلَّا تَكُونَ أنت مَعَ السَّاجِدِينَ الخاضعين الواضعين جباههم على تراب المذلة عند مرآتنا المجلوة المجبولة لمصلحة الخلة والخلافة امتثالا للأمر الوجوبي الصادر منا
قالَ إبليس محتجا على الله طالبا للرجحان والمزية على سبيل الإنكار والتعريض لَمْ أَكُنْ ولم يصح منى ولم يحسن عنى ولم يلق على رتبتي ومكانتى لِأَسْجُدَ
لِبَشَرٍ جسمانى ظلماني دنى كثيف قد خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ اكثف واظلم منه وقد أخذت الصلصال مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ لا شيء اظلم منه وابعد عن ساحة عز قبولك يا ربي وبالجملة التمثال المشتمل على هذه الظلمات المتراكمة لا يليق ان يخضع ويسجد له الروحاني النورانى
قالَ سبحانه بعد ما سمع منه الترفع والحجة المذكورة طردا له وتبعيدا حسب قهره وجلاله فَاخْرُجْ ايها اللعين المردود المطرود مِنْها اى من حيطة الملائكة وحوزتهم ولا تعد نفسك بعد اليوم من زمرتهم ومن عدادهم فَإِنَّكَ بتخلفك عن مقتضى أمرنا الوجوبي رَجِيمٌ مرجوم مبعد مطرود مردود عن كنف رحمتنا وكرامتنا
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ الطرد والتخذيل نازلة مستمرة ابدا إِلى يَوْمِ الدِّينِ واعلم ان مقرك ومنقلبك النار التي قد افتخرت بها وتكبرت بسببها المعدة لك ولمن تبعك من عصاة العباد وغواتهم أجمعين
ثم لما ايس إبليس عن القبول وقنط عن رحمة الله قالَ مشتكيا الى الله متحسرا متأسفا رَبِّ يا من رباني بأنواع النعم والكرم فكفرت نعمك بمخالفة أمرك وحكمك فَأَنْظِرْنِي وأمهلني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ويحشرون لأضل بنى آدم وانتقم عنهم
قال سبحانه بمقتضى حكمته المتقنة فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ فيما بينهم لتكون أنت عبرة للعالمين وعظة لهم
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ اى الى وقت لا يمكن فيه تلافى التقصير وتداركه ولا كسب الزاد للمعاد ولا تهيئة الأسباب ليوم الميعاد قيل هو وقت النفخة الاولى لحشر الأموات
قالَ إبليس مقسما مبالغا رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي وبحق قدرتك التي قد أغويتني وأضللتني بها وحططتنى عن رفعة منزلتي ومكانتى بمقتضاها وأخرجتني بها من بين أحبتي وإخوتي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ أعمالهم الفاسدة واحسنن عليهم أفعالهم القبيحة فِي الْأَرْضِ واغرينهم الى ارتكاب انواع المفاسد والمقابح والى اتصاف اصناف الجرائم والآثام المائلة إليها طباعهم ونفوسهم طبعا وَبالجملة لَأُغْوِيَنَّهُمْ ولأضلنهم أَجْمَعِينَ بحيث لا يشذ عنهم احد من ذوى النفوس الامارة
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ المخلصين رقابهم عن ربقة رق الامارة وعن عروة العبودية لها المطمئنين المتمكنين في مقام الرضاء والتسليم
ثم قالَ سبحانه بمقتضى اشفاقه ورحمته على عباده هذا اى اخلاص المخلصين المطمئنين الراضين بما جرى عليهم من قضائي صِراطٌ عَلَيَّ وطريق مُسْتَقِيمٌ موصل الى والى وحدة ذاتى واستقلالى في عموم آثار أسمائي وصفاتي بحيث لا عوج ولا انحراف فيه أصلا. من توجه الى عن هذا الطريق قد فاز ونجا بحيث لا يعرض الضلال والانحراف أصلا وكيف يعرضه إذ هو حينئذ من خلص عبادي
إِنَّ عِبادِي الذين هم تحت قبابى لَيْسَ لَكَ ايها المضل المغوى عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ استيلاء وغلبة إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ منهم ايها المضل المغوى فيكون حينئذ مِنَ الْغاوِينَ الضالين باغوائك عن منهج الحق ومحجة اليقين وهم وان كانوا من جنسهم صورة ليسوا منهم حقيقة
ومعنى وَإِنَّ جَهَنَّمَ البعد والخذلان لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ تابعا ومتبوعا
لَها اى لجهنم سَبْعَةُ أَبْوابٍ على عدد مداخلها من الشهوات السبعة المقتضية إياها المذكورة في كريمة زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين الآية لِكُلِّ بابٍ من الأبواب السبعة الجهنمية مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ اى طائفة مفروزة وفرقة ممتازة منهم بالدخول من كل باب وان كان الكل شريكا في الكل بعد ما دخلوا.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية في كتابه إِنَّ الْمُتَّقِينَ المخلصين المخلصين نفوسهم عن وسوسة الشياطين متمكنون فِي جَنَّاتٍ منتزهات العلم والحق وَعُيُونٍ جاريات من زلال الحقائق والمعارف المترشحة من بحر الوجود
صافيات عن كدر الرياء ودرن التقليدات وشين السمعة وشوب التخمينات ويقول لهم الملائكة حين وجدوهم متصفين بحلية التقوى
ادْخُلُوها بِسَلامٍ سالمين عن شدائد الحساب آمِنِينَ عن شوائب العذاب والعقاب
وَكيف لا يكونون سالمين آمنين إذ قد نَزَعْنا وأخرجنا بنور الايمان والتوحيد عموم ما فِي صُدُورِهِمْ وضمائرهم مِنْ غِلٍّ حقد وحسد متمكن في نفوسهم متعلق ببني نوعهم حتى صاروا جميعا إِخْواناً أصدقاء أخلاء متكئين عَلى سُرُرٍ متساوية من الصداقة مُتَقابِلِينَ متناظرين مطالعين كل منهم محامد أخلاقه ومحاسن شيمه وأطواره في مرآة أخيه وصديقه وكلهم فيها أصحاء سالمون معتدلون
بحيث لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ محنة وعناء حتى يشوشوا بها وَبالجملة ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أصلا حتى يخافوا من ان يعودوا بل هم فيها خالدون مخلدون دائمون مستمرون ما شاء الله
ثم قال سبحانه تسلية لعموم عباده وتبشيرا لهم بسعة فضله ورحمته نَبِّئْ اخبر وأعلم يا أكمل الرسل المبعوث على كافة الأمم عموم عِبادِي مؤمنهم وكافرهم مطيعهم وعاصيهم أَنِّي من كمال اشفاقى ومن رحمتي إياهم أَنَا الْغَفُورُ المبالغ في الستر والعفو لكل من استرجع الى واستغفر منى واستعفى عن ظهر القلب وأناب عن محض الندم والإخلاص الرَّحِيمُ لهم ارحمهم واقبل منهم توبتهم وأعفو عنهم زلتهم
وَايضا نبئهم أَنَّ عَذابِي وبطشى وانتقامي على من أصر على عناده واستمر على ترك طاعتي وانقيادي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ المؤلم المستمر المقصور عليه الذي لا نجاة لاحد منه
وَان أنكروا على انعامى وانتقامي نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ تبيينا وتوضيحا لهم
واذكرهم وقت إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ وهم جرد مرد صباح ملاح فَقالُوا ترحيبا له وتكريما سَلاماً اى نسلم عليك سلاما ثم لما تفرس ابراهيم عليه السّلام منهم بنور النبوة انهم ملائكة قد جاءوا بأمر خطير قالَ على سبيل الرعب والمخافة إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ خائفون إذ هم قد جاءوا بغتة ودخلوا عليه هفوة بلا اذن واستيذان على عادة المسافرين ومع ذلك لا يظهر عليهم اثر السفر أصلا
قالُوا تأمينا له وتسكينا لخوفه واضطرابه لا تَوْجَلْ منا ولا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ من عند ربك بِغُلامٍ عَلِيمٍ قابل للنبوة والرسالة والحكمة الكاملة
قالَ ابراهيم عليه السّلام بعد ما سمع منهم ما سمع متأوها آيسا مستفهما على سبيل الاستبعاد أَبَشَّرْتُمُونِي بالولد ايها المبشرون في زمان قد انقطع الرجاء فيه عادة بناء عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ المانع من الإيلاد والأمناء العادي إذ هو في سن قد انقطعت الشهوة عنه وعن زوجته ايضا إذ كلاهما في سن الهرم والكهولة وبعد ما كان حالي وحال زوجتي هكذا
فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قالُوا قد بَشَّرْناكَ ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع باذن الحق وبمقتضى قدرته الكاملة بإيجاد شيء وابداعه بلا سبق سبب عادى له وبالجملة فَلا تَكُنْ أنت ايها النبي المتمكن في مقام الخلافة والخلة مع الله المستمسك بحبل الرضا والتسليم المسند المفوض عموم الحوادث الكائنة في عالم الكون والفساد الى الفاعل المختار بلا اعتبار الوسائل والأسباب العادية مِنَ الْقانِطِينَ الجازمين بفقدان الشيء عند فقدان أسبابه العادية مع ان القنوط لا يليق برتبتك
قالَ الخليل الجليل بعد ما سمع منهم ما سمع مستبعدا مستوحشا مستنزها نفسه عن أمثاله وَمَنْ يَقْنَطُ وييأس مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ التي قد وسعت كل شيء بمقتضى جوده تفضلا وإحسانا بلا سبق استحقاق واعداد اسباب إِلَّا القوم الضَّالُّونَ المقيدون بسلاسل الأسباب الطبيعية وأغلال الوسائل الهيولانية ونحن معاشر الأنبياء لا نقول بأمثال هذه الأباطيل الزائغة
ثم لما جرى بينهم ما جرى
قالَ ابراهيم عليه السّلام حسب تفرسه منهم فَما خَطْبُكُمْ وأمركم العظيم الذي قد جئتم لأجله أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ المهيبون المنكرون
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى إهلاك قَوْمٍ مُجْرِمِينَ خارجين عن مقتضى العقل والشرع والطبع والمروءة إذ فعلتهم الشنيعة الفاحشة مما يستقبحه ويستكرهه العقل والطبع مطلقا فكيف الشرع والمروءة فنهلكهم اليوم بالمرة بمقتضى امر الله وقهره
إِلَّا آلَ لُوطٍ واهل بيته ومن آمن له إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ لكونهم معصومين مطيعين مؤمنين
إِلَّا امْرَأَتَهُ المجرمة العاصية قد قَدَّرْنا بإعلام الله إيانا واذنه علينا إِنَّها ايضا لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين مع الكفرة الهالكين لكونها باقية على اعتقادهم الفاسد وعنادهم المستمر بلا اقرار ولا ايمان
فَلَمَّا جاءَ ودخل على عادة المسافرين السياحين آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ المرد الصباح الملاح
قالَ لهم لوط إِنَّكُمْ ايها المسافرون قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قد أخاف عليكم من قومي ومن سوء فعالهم وقبح ديدنتهم وخصالهم مع انى أخاف ايضا من جيئتكم على هذا الوجه حيث لا ارى عليكم امارات البشر وعلامات الإنسان
قالُوا بعد ما تفرسوا منه الرعب لا تخف لا علينا ولا منا إذ نحن ما جئناك لنخوفك ونوحشك بَلْ قد جِئْناكَ لنسرك ونؤيدك وننصرك على أعدائك بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ اى بإثبات ما يشكون فيه ويترددون بل يكذبونك فيه مراء الا وهو العذاب الذي قد ادعيت أنت نزوله عليهم بشؤم فعالهم وقبح خصالهم وهم يشكون فيه بل ينكرونه
وَنحن رسل الله قد أَتَيْناكَ تأييدا لك ونصرا عليك ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما قلنا لك والآن قد حان وقت انجاز ما وعد الله لك من إنزال العذاب عليهم
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ واذهب أنت معهم بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وطائفة من آناته وساعاته فقدمهم امامك وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وأثرهم والعذاب ينزل على قومك عقيب خروجك من بينهم بلا تراخ ومهلة وان كانوا خلفك قد اصابتهم منه وَبعد ما خرجتم من بينهم لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ خلفه ولا ينظر الى ما وراءه حتى لا يصيبه ما أصابهم ولا يهوله ولا يفزعه وَبالجملة امْضُوا واذهبوا ايها المأمورون حَيْثُ تُؤْمَرُونَ
بالجملة قد وَقَضَيْنا إِلَيْهِ وحكمنا على لوط بالوحي والإلهام ذلِكَ الْأَمْرَ الفظيع الهائل وهو أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ يعنى ان عواقب هؤلاء المسرفين المفرطين مقطوعة مستأصلة بالمرة حال كونهم مُصْبِحِينَ اى حين دخولهم في الصبح وظهوره عليهم
وَبعد ما قد بلغ الرسل الى لوط عليه السّلام سبب ما جاءوا به من قبل الحق قد جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وهي سدوم يَسْتَبْشِرُونَ باضياف لوط ويستحسنونهم طامعين وقاعهم مهرعين مسرعين حول بيته
قالَ لهم لوط بمقتضى شفقة النبوة وان كان الأمر عنده مقضيا حتما بلا تردد إِنَّ هؤُلاءِ المسافرين ضَيْفِي قد نزلوا في بيتي فَلا تَفْضَحُونِ باساءتهم لان إساءتهم وتفضيحهم عين إساءتي وتفضيحى
وَاتَّقُوا اللَّهَ عن ارتكاب محظوراته والركون الى محرماته وَلا تُخْزُونِ ولا تخجلوني منهم إذ فعلتكم هذه معهم مسقطة للمروءة بالمرة
قالُوا في جوابه أَتنهانا اليوم أنت كما نهيتنا عن أمثالهم فيما مضى وَلَمْ نَنْهَكَ من قبل ان تمنعنا أنت يا لوط عَنِ الْعالَمِينَ وكن أنت في نفسك زكيا صفيا مهذبا طاهرا مالك معنا وخبثنا اتركنا مع خبثنا وانصرف عنا والزم على طهارتك
ثم لما بالغوا في الإصرار والعناد قالَ لهم لوط هؤُلاءِ النسوان بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ فهن اولى بكم واطهر لقضاء وطركم
لَعَمْرُكَ يا أكمل الرسل
إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ المنبعثة عن شهوتهم المفرطة المحيرة المدهشة لعقولهم يَعْمَهُونَ ويهيمون الى حيث لا يسمعون نصحه فكيف يقبلونه ويفهمون
وبالجملة لما لم يتركوا الفضيحة ولم يقبلوا النصيحة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الهائلة المهلكة وقت الصبيحة بعد ما خرج لوط من بينهم مع اتباعه حال كونهم مُشْرِقِينَ داخلين وقت شروق الشمس
فَجَعَلْنا بالزلزلة الشديدة عالِيَها اى عالى المدينة سافِلَها وسافلها عاليها يعنى قد قلبنا دورهم عليهم وَمع ذلك قد أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً منعقدة منضمة مركبة مِنْ سِجِّيلٍ وهو معرب سنك وكل
وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك والتقليب والأمطار لَآياتٍ علامات وعبر لِلْمُتَوَسِّمِينَ المتأملين المتفرسين المتعمقين في انية الأشياء الكائنة حتى ينكشف عليهم أمرها ولميتها وسمتها
وَبالجملة لا تترددوا ولا تشكوا ايها السامعون المعتبرون في انقلاب تلك المدينة وتخريبها إِنَّها اى المدينة المذكورة لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ وجادة ثابتة يطرقها الناس ويرون منها آثارها واطلالها
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من قصة إهلاك أولئك الطغاة الهالكين في تيه الغفلة والشهوات لَآيَةً اى عبرة وعظة لِلْمُؤْمِنِينَ الخاشعين الخائفين من قهر الله وغضبه الراجين من عفوه ورحمته
وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين المعتبرين ايضا قصة قوم شعيب عليه السّلام إِنْ كانَ اى انه قد كان أَصْحابُ الْأَيْكَةِ والغيضة وهم يسكنون فيها لَظالِمِينَ خارجين عن حدود الله الموضوعة للعدالة بين عباده ببخس المكيال والميزان ونقصهما وبعد ما بالغوا فيه بعثنا إليهم شعيبا عليه السّلام فكذبوه واستهزؤا به وقصدوا مقته
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ مثل ما انتقمنا من قوم لوط وَإِنَّهُما اى اصحاب السدوم والايكة لَبِإِمامٍ مُبِينٍ اى ملتبسين ملتصقين بسبيل واضح وطريق مستقيم مستبين ظاهر لائح قد جاء نبي لكل منهما فكذبوه عتوا وعنادا فأخذوا بما أخذوا
وَلَقَدْ كَذَّبَ ايضا مثل تكذيبهما أَصْحابُ الْحِجْرِ وهو واد بين المدينة والشأم يسكن فيه ثمود الْمُرْسَلِينَ يعنى صالحا القائم مقام جميع الأنبياء باعتبار اتحاد المرسل والمرسل به الا وهو الدعوة الى توحيد الحق
وَذلك حين بعثنا إليهم بعد ما خرجوا عن حدود الله وانحرفوا عن جادة توحيده وأيدنا امره بان قد آتَيْناهُمْ معه آياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا فَكانُوا من نهاية عتوهم وعنادهم عَنْها مُعْرِضِينَ بحيث لا يقبلونها أصلا
وَمن عادتهم المستمرة بينهم انهم قد كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً يسكنون فيها آمِنِينَ من اللص وانواع المؤذيات والحشرات ولما لم يبالوا بالآيات والرسول وتمادوا على غيهم وضلالهم الذي قد كانوا عليه انتقمنا منهم
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الشديدة الهائلة وهم كانوا حينئذ مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح كقوم لوط فاهلكوا بالمرة
فَما أَغْنى وادفع عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأموال والامتعة والعدد الكثيرة والحصون المنيعة والابنية الوثيقة المشيدة شيأ من عذاب الله ونكاله. ثم قال سبحانه قولا دالا على كمال قدرته ومشيته ولطفه وقهره وانعامه وانتقامه تنبيها على ذوى البصائر واولى الاعتبار المتفكرين في خلق الله وإيجاده واعدامه واستقلاله في تصرفاته في ملكه وملكوته
وَبالجملة ما خَلَقْنَا وما قدرنا السَّماواتِ وما فيها من الآثار والمؤثرات العلوية وَالْأَرْضَ وما عليها من المتأثرات السفلية وَما بَيْنَهُما من الكائنات والفاسدات الحادثة في الجو باطلا عبثا بلا طائل لا عبرة لها ولا اعتبار لإظهارها وظهورها أصلا بل ما خلقنا عموم
ما خلقنا إِلَّا ملتبسا بِالْحَقِّ المثبت لأصحاب الدلائل والبراهين توحيد الحق الثابت المحقق ازلا وابدا عند ارباب الكشف واليقين وَاعلموا ايها العقلاء المكلفون المعتبرون إِنَّ السَّاعَةَ الموعودة لانقهار التعينات مطلقا واضمحلال التشكلات رأسا لَآتِيَةٌ جزما بلا تردد وشبهة فيجازى فيها كل على مقتضى ما كسب في عالم التعينات والتطورات وإذا كان الكل مجازون مجزيين بأعمالهم مسئولين عنها فَاصْفَحِ أنت يا أكمل الرسل واعرض عن انتقام من يؤذيك ويرديك الصَّفْحَ الْجَمِيلَ والاعراض المستحسن عند الطباع السليمة واحلم معهم والطف عليهم
إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع اللطف والكرم واصطفاك من بينهم بأصناف الفضائل والكمالات هُوَ الْخَلَّاقُ لهم ولاعمالهم الْعَلِيمُ المميز المبالغ في التمييز بين صالحها وفاسدها يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته
وَبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبما عندهم من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية ولا تحزن على أذاهم فانا من مقام فضلنا وجودنا لَقَدْ آتَيْناكَ وأعطيناك تتميما لتكريمك وتعظيمك سَبْعاً اى سبع آيات مِنَ الْمَثانِي اى الفاتحة التي قد ثنى نزولها تارة بمكة وتارة بالمدينة على عدد الصفات السبع الإلهية ليكون لك حظ كامل من جميعها والسبع الطباق الفلكية والكواكب السبعة التي فيها والأقاليم السبعة الارضية والمشتهيات السبعة الدنياوية المذكورة في كريمة زين للناس حب الشهوات الآية لتكون عوضا عنها والأودية السبعة الجهنمية لتكون منجية لك منها فيكون الفاتحة حينئذ أعظم واولى من الدنيا وما فيها وَمع ذلك لا نقتصر انعامنا عليك بل قد آتيناك الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الجامع لفوائد جميع ما في الكتب السالفة الناسخ لها المعجز لعموم من اتى بمعارضته ومقابلته
فعليك بعد ما اصطفيناك يا أكمل الرسل من بين سائر الأنبياء بأمثال هذه الكرامات ان لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ نحوهم لا تنظرن إليهم نظر متحسر راغب بل نظر معتبر كاره إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من الزخارف أَزْواجاً مِنْهُمْ وأصنافا من الامتعة معطاة للكفرة ابتلاء لهم بحيث قد صاروا بها مفتخرين بطرين بين الناس وَلا تَحْزَنْ ايضا عَلَيْهِمْ بعدم اتباعهم لك وايمانهم بك إذ هذه المزخرفات الدنية الدنياوية تحجبهم عن الايمان وتعوقهم عن العرفان وهم دائما مفتنون بها وَبالجملة اخْفِضْ جَناحَكَ وابسطها كل البسط لِلْمُؤْمِنِينَ الذين يتبعونك عن خلاء القلب وصفاء القريحة بلا شوب الرياء والسمعة وشين الاهوية الفاسدة
وَقُلْ للمعاندين المنكرين إِنِّي باذن ربي ووحيه على أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ والمنذر المبين أنذركم ببيان واضح وبرهان لائح نازل على من ربي ان العذاب والعقاب سينزل على من لم يؤمن بالله وبوحدة ذاته وصفات كماله
كَما أَنْزَلْنا اى مثل العذاب الذي قد أنزلناه من قبل عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وهم الرهط الذين قد تقاسموا ان يبيتوا صالحا عليه السّلام
والمقتسمون اليوم هم الَّذِينَ قد جَعَلُوا الْقُرْآنَ المعجز لفظا ومعنى نصا ودلالة اقتضاء حدا ومطلعا عِضِينَ اى ذي أجزاء مختلفة بعضها حق لأنه مطابق للكتب السالفة وبعضها باطل إذ هو مخالف لها وبعضها شعر وبعضها كهانة مع ان الكل هداية لإضلال فيها أصلا تعالى شأنه وكتابه عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فَوَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وبعزته وجلاله لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وعن جميعهم على التفصيل
عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ يقدحون ويطعنون في القرآن وينسبون اليه من المفترات التي هو بريء منها بعيد عنها بمراحل وإذا كان نزول القرآن للهداية العامة والإرشاد الشامل الكامل
فَاصْدَعْ أنت واظهر بِما تُؤْمَرُ واجهر به
يا أكمل الرسل وافرق بين الحق والباطل على الوجه المأمور فيه وبين الهداية والضلال وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ واتركهم وأنفسهم ولا تلتفت إليهم ولا تتعرض لدفعهم ومنعهم ان استهزؤا بك
إِنَّا كَفَيْناكَ أذى الْمُسْتَهْزِئِينَ عنك وانتقمنا لأجلك منهم بأضعاف ما قصدوا بك من الاستهانة والاستهزاء وكيف لا ننتقم عنهم إذ هم المشركون المسرفون المفرطون
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد المتوحد في ذاته وأوصافه وأفعاله إِلهاً آخَرَ مستحقا للعبادة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عند انكشاف الحجب والأستار قبح ما يفترون وينسبون الى الله مراء وافتراء
وَبالجملة لَقَدْ نَعْلَمُ منك يا أكمل الرسل أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ من كظم غيظك ويقل صبرك على تحمل إذا هم سيما بِما يَقُولُونَ مما لا يليق بجنابنا من القدح والطعن في كلامنا ومن اثبات الشركاء لنا مع وحدة ذاتنا وبجنابك من استهزائهم بك وبمن تبعك من المؤمنين فعليك ان لا تلتفت إليهم ولا تسمع هذياناتهم هذه مطلقا وانما عليك الصبر والعظة منهم وتنزيهنا وتقديسنا عن مقالاتهم وهذياناتهم المفرطة
فَسَبِّحْ أنت بِحَمْدِ رَبِّكَ إذ تسبيحك وتحميدك إيانا خير لك من استماع ما قد تفوهوا به مراء وافتراء وَبالجملة كُنْ أنت في نفسك في عموم أوقاتك وحالاتك مِنَ السَّاجِدِينَ الواضعين جباهم على تراب المذلة والهوان تعظيما لنا وتكريما إيانا
وَاعْبُدْ رَبَّكَ واجتهد في سلوك طريق المعرفة حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ويحصل لك مرتبة الكشف والشهود ويرتفع عن بصرك وبصيرتك حجب الأنانية والوجود جعلنا الله من الموقنين المنكشفين بمنه وجوده
خاتمة سورة الحجر
عليك ايها السالك القاصد لسلوك طريق التوحيد انحج الله آمالك ان تبتدئ أولا بعد ما هذبت ظاهرك بالشرائع النبوية وباطنك بالخلاء عن الموانع بذكر الله الواحد الأحد الفرد الصمد المتصف بجميع أوصاف الكمال الى ان يؤدى ذكرك الى الفكر المورث للمجاهدة والانزعاج والشوق والابتهاج أحيانا وواظب عليه الى ان يستوعب عموم أوقاتك وحالاتك وحينئذ قد ظهرت ولاحت على قلبك مقدمات المحبة والمودة والعشق المزعج المفنى وصرت عليها زمانا الى ان اشتاق وتعطش قلبك الى فنائك وانقهارك واضمحلالك في محبوبك وفي تلك الحالة قد عرضت عليك الحيرة والحسرة والوحشة والقلق والاضطراب والخوف والرجاء واللذة والألم وصرت حينئذ بين بين واين اين وكيف كيف وبالجملة قد كنت حينئذ في تلوين وتكوين واطلاق وتقييد وما هي الا سكراتك عند موتك الإرادي واضطراباتك دونه وحينئذ لا يسع لك الا الرضاء والتسليم والتوكل والتفويض الى ان جذبك الحق منك نفسك وافناك عنك ووفقك بالتمكين والتسكين وأطلقك عن التقييد والتعيين وبالجملة افناك عنك وابقاك بذاته وفزت بما فزت وتكون حينئذ من الساجدين فحينئذ قد أتيك اليقين والتمكين وأخلصك عن التردد والتلوين هب لنا من لدنك رحمة توصلنا الى مرتبة حق اليقين
[سورة النحل]
فاتحة سورة النحل
لا يخفى على ذوى التمكين والتوطين من ارباب المحبة والولاء الواصلين الى مقر التوحيد الناجين
Icon