تفسير سورة النحل

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة النحل من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

المخلصين عن ربقة التلوين والتقليد باستيلاء سلطان الإطلاق المفنى للاغيار مطلقا ان الأمور الإلهية الجارية على حسب الأوصاف الذاتية مرهونة بأوقات مقدرة وآجال معينة مخصوصة من عنده سبحانه بحيث لا تتقدم عليها ولا تتأخر عنها بل إذا وصل وقتها فقد وقعت فيه حتما حكما مبرما جزما لا تتخلف عنها أصلا الا إذا علق تقديمها او تأخيرها ووقتها في حضرة علمه القديم على امر من الأمور لذلك امر عباده بالدعاء والمناجاة معه ربما اتفق عليه ووافق له فالاستخبار والاستعجال انما هو من شيم اهل الزيغ والضلال المقيدين بسلاسل الأسباب وأغلال الوسائل واما ارباب الإطلاق المتحيرون في بيداء الألوهية الوالهون في فضاء الربوبية لا يستقدمون ولا يستأخرون في عموم الأمور الحادثة بل جريان الأمور كلها عندهم على سبيل التجدد الابداعى وعلقة الأسباب والوسائل العادية والروابط الرسمية ما هي عندهم الا توهمات باطلة وتخيلات عاطلة تنشأ من الإضافات العدمية والاعتبارات الوهمية الحاصلة من توهم الزمان والمكان المتفرعين عن الجهات العدمية بالنسبة الى المحبوسين في مضيق الأزل والأبد والاول والآخر والمبدأ والمنتهى لذلك اخبر سبحانه عباده بجريان امره على مقتضى مراده حسب تجلياته وتطوراته وقت تعلق ارادته ومشيته بإظهاره وإيجاده فقال متيمنا باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي قد تجلى بأسمائه الحسنى وأوصافه العليا على عموم ما تجلى من مظاهره ومصنوعاته بلا سبق زمان ومكان الرَّحْمنِ الذي قد دبر امور عباده على مقتضى مراده بأحسن التدبير في مبدأهم ومعادهم بلا مشاركة ظهير ومشير الرَّحِيمِ الذي قد هداهم الى سبيل توحيده بالإنذار والتبشير وأرسل إليهم الأنبياء ليبينوا لهم طريق الرشد ويجنبوهم عن سبيل الغي والضلال وانزل عليهم الكتب المبينة الفارقة بين الحق والباطل والحرام والحلال وأخبرهم فيها عن يوم الحشر والعرض الموعود للجزاء والسؤال عما جرى عليهم في النشأة الاولى من الأحوال فلهم ان يصدقوه ويؤمنوا له ولا يسئلوا عن وقت قيامه بل يهيئوا الزاد لأجله ويشمروا الذيل لوقوعه تعبدا وانقيادا لذلك اخبر سبحانه عن إتيانه ووقوعه بالجملة الفعلية الماضوية تنبيها على تحقق وقوعه
[الآيات]
فقال قد أَتى أَمْرُ اللَّهِ وقام يومه الموعود الذي قد انكشفت فيه السدول ولاحت الأسرار وارتفعت فيه حجب التعينات وعموم الأستار واضمحلت دونه مطلق السوى والأغيار ونودي من وراء سرادقات العز والجلال بعد انقهار الكل لمن الملك اليوم وأجيب ايضا من ورائها لله الواحد القهار وبالجملة فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ولا تطلبوا وقوعه بالفور ايها المترددون الشاكون في امره ولا تشركوا به شيأ ولا تشاركوه في حكمه سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ له من الآلهة الباطلة ويدعون شفاعتها لهم عند الله لدى الحاجة بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ المقربين عنده بِالرُّوحِ اى بالوحي النازل الناشئ مِنْ أَمْرِهِ توفيقا وتأييدا عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ خلص عِبادِهِ الا وهم الأنبياء والمرسلون المأمورون عليهم أَنْ أَنْذِرُوا وخوفوا عباد الله المنحرفين عن استقامة صراطه وجادة توحيده من بطشه وانتقامه إياهم وقولوا لهم نيابة عن الله أَنَّهُ لا إِلهَ يعبد بالحق إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ عن مخالفة امرى وحكمى وكيف تشركون ايها المشركون ما لا يقدر على خلق احقر شيء من الأشياء
وأضعفها للقادر القاهر المقتدر الحكيم العليم الذي قد خَلَقَ وأوجد السَّماواتِ مع كمال عظمتها ورفعتها وَالْأَرْضَ بكمال بسطتها وبالجملة ما خلق عموم ما خلق واظهر جميع ما اظهر الا ملتبسا بِالْحَقِّ بانبساط نور وجوده الكائن الثابت في نفسه
ازلا وابدا وبامتداد اظلال أوصافه وأسمائه عليهما ورش رشحات نور وجوده إياهما مع انه سبحانه باق على صرافة وحدته الذاتية وهما على عدميتهما الاصلية تَعالى وتقدس عَمَّا يُشْرِكُونَ له شيأ لا وجود له ولا تحقق سوى الظلية والعكسية
وكيف يشركون ويثبتون أولئك الحمقى الضالون الجاهلون شريكا للقادر الحكيم العليم الذي قد خَلَقَ وقدر الْإِنْسانَ خاصة وأوجده على احسن صورة واعدل تقويم مِنْ نُطْفَةٍ دنية مهينة لا تمييز لها أصلا ولا شعور ورباها الى ان صار ذا رشد تام وتمييز كامل وكمال ادراك ودراية وبعد ما تم تسويته وتعديله فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مجادل مبالغ في تمييز الحق من الباطل والهداية من الضلال مُبِينٌ ظاهر البيان بإقامة الدلائل والبراهين القاطعة وما هي الا من تربية مبدعه وخالقه القادر المقتدر بالإرادة والاختيار
وَالْأَنْعامَ ايضا قد خَلَقَها وأوجدها طفيلا لَكُمْ ايها المجبولون على الكرامة الفطرية فِيها اى في الانعام دِفْءٌ لكم تستدفئون به من الألبسة والاكسية والاغطية المتخذة من أصوافها واشعارها واوبارها لدفع الحر والبرد وَمَنافِعُ غير ذلك من الخباء والعباء والكساء وغيرها وَايضا مِنْها تَأْكُلُونَ لتقويم امزجتكم وتعديلها من لحومها وشحومها وألبانها
وَايضا قد يسر لَكُمْ فِيها جَمالٌ جلال وعظمة وجاه وزينة بين أظهركم وذلك حِينَ تُرِيحُونَ وتجمعونها في المراح من المرعى وقت الرواح مملوة الضروع والبطون وَحِينَ تَسْرَحُونَ وترسلونها نحو المرعى وقت الصباح
وَمن معظم فوائدها انها تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ واحمالكم التي أنتم تستثقلونها إِلى بَلَدٍ بعيد لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ ولم يحصل بلوغكم اليه وابلاغكم إياها لولاها إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ اى بالمشقة التامة والعسر المفرط فخلقها سبحانه تيسيرا لكم وتسهيلا لشأنكم تتميما لتربيتكم وتكرمتكم وبالجملة إِنَّ رَبَّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم لَرَؤُفٌ عطوف مشفق لكم يسهل عليكم كل عسير رَحِيمٌ لكم يوفقكم ويهيئ أسبابكم لتواظبوا على أداء ما افترض عليكم من الطاعات والعبادات وتلازموا على تحصيل ما قدر لكم من اقتراف المعارف والحقائق الرافعة لكم الى ارفع المنازل وأعلى المراتب.
ثم أشار سبحانه ايضا الى ما يعزكم ويدفع اذاكم ويرفع جاهكم ومكانتكم تتميما لتعظيمكم وتربيتكم فقال وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ انما خلقها وأظهرها سبحانه لِتَرْكَبُوها وَتجعلوها زِينَةً وحلية لأنفسكم بين بنى نوعكم وَبالجملة يَخْلُقُ لكم ربكم بمقتضى علمه بحوائجكم ومزيناتكم ما لا تَعْلَمُونَ ولا تأملون أنتم لأنفسكم مما يعنيكم ويعينكم في النشأة الاولى والاخرى
وَكما يدبر سبحانه امور معاش عباده على الوجه الأحسن الأليق بحالهم كذلك له سبحانه ان يدبر لهم امور معادهم بل هي اولى بالتدبير لذلك عَلَى اللَّهِ المصلح لأحوال عباده قَصْدُ السَّبِيلِ اى إرشادهم وهدايتهم الى طريق مستقيم موصل الى توحيده ليصلوا اليه ويفوزوا بما وعدوا من عنده وَكيف لا يرشدهم سبحانه الى سواء السبيل إذ مِنْها اى بعض من السبيل جائِرٌ مائل منصرف منحرف عن طريق الحق وسبيل توحيده بمقتضى غلبة أوصافه الجلالية المذلة المضلة تتميما للقدرة الكاملة الغالبة والسلطنة العامة الشاملة لكلا طرفي اللطف والقهر والجمال والجلال وَلَوْ شاءَ وأراد سبحانه هدايتكم جميعا لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ على مقتضى تجليات الأوصاف اللطفية الجمالية المثمرة للذة الدائمة والسرور المستمر الغير المنقطع لكن قد اقتضى حكمته المتقنة البالغة ان يكون جنابه رفيعا
وبابه منيعا متعاليا عن ان يطلع عليه واحد بعد واحد ويرد حول حمى قدسه وارد غب وارد لذلك قد تجلى على بعض المظاهر حسب الأوصاف القهرية الجلالية المورثة للحزن الدائم والألم المخلد وكيف لا يدبر سبحانه امور عباده
مع انه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ وأفاض مِنَ السَّماءِ ماءً محييا موات الأرض مثل احياء الروح وراضى الأجساد ليحصل لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ تشربون منه او تعصرون من القصب والفواكه الحاصلة به أنواعا من الأشربة وَايضا يحصل مِنْهُ شَجَرٌ وانواع النباتات الخارجة من الأرض لرعى مواشيكم إذ فِيهِ تُسِيمُونَ وتسرحون دوابكم للرعي الى ان يسمن فيؤكل وايضا
يُنْبِتُ لَكُمْ لتقويتكم وتقويم امزجتكم وتقويتها بِهِ الزَّرْعَ بأنواعه واصنافه لتتخذوا منه اخبازا واقراصا وَالزَّيْتُونَ للادام وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ للتفكه والتقوت ايضا وَبالجملة يخرج لكم به مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ تتميما لأمور معاشكم وتقويما لأمزجتكم كل ذلك لتتفكروا في آلائه ونعمائه وتتذكروا ذاته كي تفوزوا بمعرفته وتوحيده إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من انعام هذه النعم العظام لَآيَةً عظيمة وبينة واضحة موضحة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويستعملون عقولهم في تفكر آلاء الله ونعمائه ليواظبوا على أداء شكرها
وَمن جملة آياته سبحانه المتعلقة لتدبير أحوالكم انه قد سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ لتسكنوا فيه وتستريحوا وَالنَّهارَ لتعيشوا فيه وتكسبوا وَايضا قد سخر لكم الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لإنضاج ما تتقوتون وإصلاح ما تتفكهون وَقد سخر لكم النُّجُومُ ايضا لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر حال كون كل منها مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ تابعات لحكمه وتقديره على تقدير قراءة النصب او مع ان الكل مسخرات في قبضة قضائه يصرفها حسب ارادته ومشيته على تقدير الرفع إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير والتسهيل المذكور لَآياتٍ اى في كل منها دليل واضح وبرهان لائح قاطع لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستدلون من الآثار الى المؤثر ومن المصنوعات الى الصانع القديم الفرد
وَايضا قد سخر لكم ما ذَرَأَ وبرأ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ واشكاله وطبعه وذوقه بمقتضى اهويتكم وامزجتكم من الحوائج المتعلقة لحظوظكم وترفهكم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يتعظون ويتفطنون منها الى كرامة الإنسان من بين سائر الأكوان والى خلافته ونيابته عن الله
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لكم الْبَحْرَ من كمال لطفه وتكريمه إياكم لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وهو السمك وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً وزينة من الجواهر النفيسة تَلْبَسُونَها وتتزينون بها ترفها وتنعما وَتَرَى ايها الرائي الْفُلْكَ السفن مَواخِرَ فِيهِ جواري في خلاله مشققات للبحر مسيرات لمن فيها على الماء وَما كل ذلك الا لِتَبْتَغُوا وتطلبوا مِنْ فَضْلِهِ وجوده ما يعنيكم ويليق بكم من الحوائج والأرباح وغيرها وَانما سخر لكم سبحانه ما سخر لكم من البر والبحر لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تواظبوا وتداوموا على شكر نعمه وتصرفوها الى ما خلق لأجله طلبا لمرضاته
وَمن كمال لطفه ورحمته ايضا انه قد أَلْقى فِي الْأَرْضِ التي هي مستقركم ومنشأكم رَواسِيَ شامخات مخافة أَنْ تَمِيدَ وتتحرك بِكُمْ ولا يمكن استقراركم عليها لاضطرابها وتزلزلها إذ هي في طبعها كرة حقيقية ملقاة على الماء محفوفة به مغمورة فيه وانما القى سبحانه عناية منه رواسى ثقالا عليها حتى صارت متفاوتة الأطراف في الثقل فاستقرت حينئذ وثبتت وَايضا قد اجرى لكم سبحانه عليها أَنْهاراً ليمكنكم الاستقاء منها لدى الحاجة وَكذا قد عين وسهل لكم بين الجبال سُبُلًا نافذات
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الى ما ترومون من البلاد البعيدة
وَقد نصب لكم ايضا عَلاماتٍ دالة على مطالبكم ومقاصدكم في البوادي والبراري بالتلال والوهاد وَفي البحار بِالنَّجْمِ اى بالنجوم المتعارفة عند البحارين إذ هُمْ يَهْتَدُونَ بها حين وقوعهم في لجج البحار. وبالجملة كل ذلك من الدلائل الدالة على وحدة الفاعل المختار المتصف بعموم أوصاف الكمال المنزه عن مشاركة الاضداد والأمثال مبدع المكونات من كتم العدم بلا سبق مادة وزمان ومخترع عموم الموجودات بلا علل وأغراض على سبيل الفضل والإحسان
أَتشركون مع الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شيء في الوجود سواه ولا اله الا هو يخلق ما يشاء بمقتضى رحمته وجوده من لا يخلق شيأ بل هو في نفسه من أدون المخلوقات فَمَنْ يَخْلُقُ ايها الحمقى العمى كَمَنْ لا يَخْلُقُ في المرتبة والمكانة واستحقاق العبادة ما عرض لكم ولحق بكم ايها المجبولون على فطرة الدراية والشهود لم تتفطنوا بالفرق الظاهر بينهما مع كمال جلائه وظهوره مع انكم من زمرة العقلاء المميزين أَفَلا تَذَكَّرُونَ فطرتكم المجبولة على العلم والتمييز
وَكيف تشركون مع الله المنعم المفضل عليكم بأنواع النعم واصناف الكرم مع انكم إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ الفائضة عليكم وآلاءه الواصلة إليكم لا تُحْصُوها من غاية كثرتها ووفورها ومع ذلك قد أشركتم معه غيره وكفرتم بنعمه مع ان المناسب لكم الرجوع اليه والانابة نحوه إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده لَغَفُورٌ لمن تاب وآمن وعمل عملا صالحا رَحِيمٌ يقبل توبتهم ويتجاوز عن سيئاتهم لو أخلصوا
وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده يَعْلَمُ منكم ما تُسِرُّونَ في قلوبكم بلا موافقة ألسنتكم وَما تُعْلِنُونَ بألسنتكم بلا مطابقة قلوبكم فعليكم ايها المؤمنون المنيبون ان تنيبوا وتتوجهوا نحو الحق سرا وعلانية حتى لا تكونوا من زمرة المنافقين المخادعين مع الله
وَاعلموا ايها المشركون المكابرون ان الشركاء الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المعبود بالحق الآلهة وتعبدونها إفكا كعبادته سبحانه مع انهم في أنفسهم تماثيل عاطلة لا يستحقون الألوهية إذ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً حقيرا وَكيف بالعظيم والكبير بل هُمْ يُخْلَقُونَ مخلوقون بل هم من أدون المخلوقات
إذ هم أَمْواتٌ جمادات لا شعور لها أصلا وهم غَيْرُ أَحْياءٍ ولا ذوو حس وحركة ارادية وَلذلك ما يَشْعُرُونَ شعور الحيوانات أَيَّانَ يُبْعَثُونَ والى اين يحشرون ويساقون من المرعى وبالجملة هم في أنفسهم ادنى واخس من الحيوانات العجم فكيف يتأتى منهم الألوهية المستلزمة للاطلاع على عموم المغيبات الجارية في العوالم كلها اطلاع حضور وشهود
بل إِلهُكُمْ الذي أوجدكم من كتم العدم وأظهركم في فضاء الوجود ما هو الا إِلهٌ واحِدٌ احد فرد صمد لم يكن له كفو ولا شريك ليس كمثله شيء وليس هو مثل شيء وما يظهر وما ينكشف توحيده سبحانه الا لأولى العزائم والنهى من ارباب المحبة والولاء في النشأة الاولى والاخرى فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ المعدة لشرف اللقاء قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ بها وبلقاء الله فيها وَهُمْ من شدة شكيمتهم وكثافة حجبهم سيما مع إنزال الكتب المبينة لأحوالها وأهوالها وإرسال الرسل المنبهين لهم عليها مُسْتَكْبِرُونَ متمردون عتوا وعنادا
لذلك لا جَرَمَ وحقا قد ثبت على الله حتما ان يعذبهم جزما مع أَنَّ اللَّهَ المطلع لسرائرهم وضمائرهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ من الكفر والضلال فيجازيهم حسب علمه بحالهم ولا يحسن سبحانه إليهم بدل إساءتهم إذ هم مستكبرون إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ
الْمُسْتَكْبِرِينَ لاشتراكهم معه سبحانه في أخص أوصافه إذ الكبرياء مخصوصة به سبحانه لا يسع لاحد ان يشارك معه فيه
وَمن غاية عتوهم واستكبارهم إِذا قِيلَ لَهُمْ على طريقة الاستفسار ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على نبيكم قالُوا متهكمين مستهزئين ليس ما انزل له ربه الا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى الأكاذيب الأراجيف التي قد سطرها الأولون فيما مضى من تلقاء نفوسهم. وبالجملة انما قالوا ذلك وأذاعوه بين الأنام
لِيَحْمِلُوا ويقترفوا أَوْزارَهُمْ وآثامهم كامِلَةً بلا تخفيف شيء منها ولا نقصانه ليؤاخذوا عليها يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيحملوا ايضا مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ من ضعفاء الناس بقولهم هذا لهم والقائهم إليهم مع انهم هم خالوا الأذهان بِغَيْرِ عِلْمٍ يتعلق منهم بالقرآن واعجازه ومع ذلك لا يعذرون لعدم التفاتهم الى التأمل والتدبر حتى يظهر عندهم حقيته وبطلان قولهم أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ويعملون المضلون باضلالهم والضالون بضلالهم وعدم تأملهم وتدبرهم مع انهم مجبولون على التأمل والتدبر. وبالجملة ليس هذا التكذيب والإضلال والتهكم والاستهزاء من الأمور الحادثة بين أولئك الهالكين في تيه الشرك والطغيان بل هي من سنة الكفرة السالفة ومن ديدنتهم القديمة وعادتهم المستمرة
إذ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ واحتالوا لإضلال العوام الى حيث قد بنوا ابنية رفعية للصعود الى السماء والمقاتلة مع سكانها والهها ثم لما تم بنيانهم وقصورهم فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ اى قد اتى امره سبحانه باهلاكهم وتعذيبهم بهدم بنيانهم مِنَ الْقَواعِدِ والأعمدة والأساس التي قد بنى عليها البناء فتضعضعت وتحركت الدعائم فَخَرَّ وسقط عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وهم تحته متمكنون مترفهون فهلكوا وَبالجملة قد أَتاهُمُ الْعَذابُ بغتة مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ اماراتها قبل نزوله
ثُمَّ بعد تعذيبهم في النشأة الاولى يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ الله ويرديهم ويخذلهم بتكذيبهم كلام الله وكلام رسوله وَيَقُولُ لهم سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ ايها الضالون المضلون المنهمكون في الغي والضلال تُشَاقُّونَ وتعادون فِيهِمْ وفي حقهم وشأنهم المؤمنين وتعارضون معهم بادعاء الألوهية لأولئك التماثيل العاطلة الباطلة ادعوهم لينجوكم ويخلصوكم عن عذابي وبطشى قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من الأنبياء والرسل وخلفائهم الذين دعوهم الى الايمان فلم يؤمنوا بل يكذبونهم وينكرون عليهم وعلى دينهم ونبيهم حين أبصروا أخذ الله إياهم شامتين لهم متهكمين عليهم إِنَّ الْخِزْيَ اى الذلة والصغار الْيَوْمَ وَالسُّوءَ المفرط المجاوز عن الحد واقع نازل عَلَى الْكافِرِينَ المستكبرين الذين كذبوا الرسل وأنكروا الكتب واستهزؤا بهم مكابرة وعنادا
وهم الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الموكلون عليهم حين معارضتهم بالقرآن وتكذيبهم إياه وبمن انزل اليه مع كونهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ومعرضيها على العذاب الأبدي ثم لما عاينوا في النشأة الاخرى بحقيته وصدقه ومطابقته للواقع فَأَلْقَوُا السَّلَمَ اى الانقياد والتسلم اليه مبرئين نفوسهم عن التكذيب والإساءة مع القرآن قائلين ما كُنَّا في النشأة الاولى نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وما نريد وما نقصد الإساءة في حقه فيقول الملائكة لهم على سبيل التهكم بَلى قد كنتم أنتم لا تسيئون الأدب مع الرسول والقرآن إِنَّ اللَّهَ المطلع بجميع ما كان وما يكون عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الرد والإنكار والتكذيب والإصرار فيجازيكم على مقتضى علمه
ثم قيل لهم زجرا وقهرا فَادْخُلُوا ايها المشركون المستكبرون المعاندون المعادون المكابرون مع الله ورسوله أَبْوابَ
جَهَنَّمَ كل فرقة منكم من باب منها على تفاوت طبقاتكم في موجباتها واسبابها وادخلوا انواع عذابها ونكالها حال كونكم خالِدِينَ فِيها مخلدين مؤبدين فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ جهنم البعد والخذلان التي هي مطرح اصحاب الطرد والحرمان
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عن محارم الله وحفظوا نفوسهم عن العرض على المهالك الموجبة لسخط الله وغضبه ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على نبيكم لتربية دينكم وتصفية مشربكم عن إكدار التقليدات والتخمينات قالُوا فرحين مسرورين قد انزل ربنا على رسولنا خَيْراً محضا في النشأة الاولى والاخرى اما في الاولى ف لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اى للمؤمنين الممتثلين بأوامر القرآن والمجتنبين عن نواهيه فِي هذِهِ الدُّنْيا وعملوا الصالحات المقربة الى الله المؤكدة لإيمانهم وإحسانهم حَسَنَةٌ كاملة من العلوم اللدنية والمعارف المثمرة للمكاشفات والمشاهدات وَاما في الاخرى ف لَدارُ الْآخِرَةِ المعدة للفوز بشرف اللقيا والوصول الى سدرة المنتهى خَيْرٌ لهم من جميع الكمالات القصوى والدرجات العليا وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ المتحفظين نفوسهم عن الالتفات الى ما سوى الحق دار الآخرة
التي هي جَنَّاتُ عَدْنٍ متنزهات وحدة لاهوتية ومستقرات وجوب مصونة عن امارات الكثرة الامكانية المشعرة للاثنينية مطلقا يَدْخُلُونَها مجردين عن جلباب التعينات العدمية الناسوتية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة من العلوم اللدنية المترشحة من بحر الجود المنتشئ من التجليات المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية وبالجملة لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من مقتضيات الأوصاف اللطفية الحبية الجمالية كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ ذو الفضل والقوة المتين عموم الْمُتَّقِينَ المائلين عن غير الله المعرضين عما سواه مطلقا الباذلين مهجهم في سبيله طوعا المنخلعين عن مقتضيات أوصاف بشريتهم رغبة وارادة واختيارا الصابرين على عموم ما جرى عليهم من القضاء تسليما ورضا
وهم الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الموكلون عليهم في نشأتهم الاولى حال كونهم طَيِّبِينَ طاهرين عن خبائث الإمكان ورذائل الخذلان والخسران الناشئة من ظلمات الطبائع والأركان يَقُولُونَ اى الملائكة المأمورون لقبض أرواحهم عند قبضها سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها الصابرون في البلوى السائرون الى المولى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ التي هي خير المنقلب والمثوى وفوزوا بشرف اللقيا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في النشأة الاولى من الاعراض عن مقتضيات الهوى ومن الرضا بالقضاء ومن الصبر على العناء والشوق الى الفناء والفوز بشرف البقاء واللقاء.
ثم قال سبحانه توبيخا وتقريعا على المشركين لْ يَنْظُرُونَ
وما ينتظرون أولئك التائهون في تيه الغفلة والغرورلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
المأمورون لقبض أرواحهم الخبيثةوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
يا أكمل الرسل اى يوم القيمة المعد لتعذيبهم وانتقامهم ذلِكَ
اى مثل إهمال هؤلاء الهالكين في امر الايمان قدعَلَ الَّذِينَ
مضوانْ قَبْلِهِمْ
في زمن الأنبياء الماضين
بالجملةا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
المجازى لهم على مقتضى إساءتهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اى يظلمون أنفسهم بعرضها على المهالك الموجبة لانواع العذاب والعقاب من تكذيب الرسل وانكار الكتب وترك المأمورات وارتكاب المنهيات
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا عتوا وعنادا وَحاقَ وأحاط بِهِمْ جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ استكبارا واستنكارا
وَكيف لا قد قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا من غاية انهماكهم في الغي والضلال وشدة انكارهم وشكيمتهم متهكمين على وجه الاحتجاج لَوْ شاءَ اللَّهُ الواحد الأحد المستقل في عموم الأفعال بالإرادة والاختيار على زعمكم عدم عبادتنا
لآلهتنا وأصنامنا ما عَبَدْنا البتة مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ لا نَحْنُ وَلا آباؤُنا إذ مراده مقضي حتما وحكمه مبرم جزما وَايضا لا حَرَّمْنا نحن ولا آباؤنا من البحائر وغيرها مِنْ دُونِهِ وبلا رضاه وبدون اذنه ومشيته مِنْ شَيْءٍ إذ لا يعارض فعله وحكمه هذا صورة احتجاجهم واستدلالهم على سبيل التهكم والاستهزاء والمراء كَذلِكَ اى مثل استدلال هؤلاء الطغاة الغواة الهالكين في تيه الغفلة والعناد قد فَعَلَ الَّذِينَ خلوا مِنْ قَبْلِهِمْ هكذا متهكمين مستهزئين فأرسل الله عليهم رسلا فكذبوهم وأنكروا عليهم فاخذهم الله بذنوبهم فاهلكهم بأنواع العذاب والعقاب لان ارادة الله لم يتعلق بايمانهم وهدايتهم فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ وما عليهم وليس لهم إِلَّا الْبَلاغُ وتبليغ ما أرسلوا به الْمُبِينُ على وجه الوضوح والتبيين لئلا يبقى لهم شك وتردد في سماعه واما قبولهم واتصافهم به وهدايتهم بسببه فأمر قد استأثر الله به ليس لهم ان يخوضوا فيه إذ هو خارج عن وسعهم متعال عن طاقتهم
ثم فصل سبحانه ما أجمل بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الهالكة السالفة حين اختل امور دينهم رَسُولًا منهم قائلا لهم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ المتصف بالوحدانية والفردانية المستقل بالوجود والآثار المترتبة عليه المنزه عن الشريك والأشباه والأمثال مطلقا وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ اى الالهة المضلة التي أنتم تتخذونها من تلقاء انفسكم ظلما وزورا وتعبدونها كعبادة الله عنادا واستكبارا ثم لما بلغهم الرسول جميع ما جاء به من عندنا فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ بان أراد هدايته فهداه وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ قد استمرت وثبتت عَلَيْهِ الضَّلالَةُ وتمرنت بقلبه لتعلق مشية الله بغوايته وضلاله وان ترددتم فيه فَسِيرُوا ايها الشاكون المترددون فِي الْأَرْضِ التي هي مساكنهم ومنازلهم فَانْظُرُوا واعتبروا من آثارهم واطلالهم وتفرسوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ المستهزئين للرسل والكتب
إِنْ تَحْرِصْ يا أكمل الرسل أنت عَلى هُداهُمْ وتريد هدايتهم مبالغة مع انك لا تهدى من أحببت فَإِنَّ اللَّهَ الهادي الحكيم لعباده بمقتضى علمه باستعداداتهم لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ اى لا يريد هداية من أراد ضلاله في سابق علمه ولوح قضائه وَما لَهُمْ بعد ما أراد الله ضلالهم مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم على الهداية ويشفعون لهم حتى ينقذوهم عن الضلال فأنت ايضا يا أكمل الرسل لا تتعب نفسك عليهم حسرات
وَمن خبث طينتهم وشدة بغضهم وضغينتهم قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ واغلظوا فيها قائلين مؤكدين مغلظين لا يَبْعَثُ اللَّهُ ولا يحيي مرة اخرى مَنْ يَمُوتُ ويزول الروح الحيواني عنهم.
ثم قال سبحانه ردا لهم وتخطئة على ابلغ وجه وآكده ايضا بَلى يبعثون إذ قد وعد الله البعث والحشر وَعْداً صدقا لازما عَلَيْهِ سبحانه انجاز عموم ما وعد حَقًّا حتما جزما ووفاء لوعده وإيفاء لحكمه مع انه القادر المقتدر بالقدرة الكاملة على كل ما دخل تحت حيطة ارادته ومشيته وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حق قدره سبحانه وقدر قدرته وسطوته وبسطته
وانما ينجز سبحانه الوعد الموعود لِيُبَيِّنَ ويوضح لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ بل يستبعدونه ويستحيلونه وَايضا لِيَعْلَمَ وليميز المفسدون المسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا له وأنكروا عليه عنادا ومكابرة أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في إصرار عدم وقوعه وتكذيبه وكيف تستبعدون ايها المنكرون أمثال هذا عن كمال قدرتنا ووفور علمنا وارادتنا
مع انا إِنَّما قَوْلُنا وحكمنا حين تعلق ارادتنا لِشَيْءٍ اى لإظهار شيء من الأشياء
المثبتة في الأعيان الثابتة والمسطورة المرقومة في لوح قضائنا وحضرة علمنا اى شيء كان عظيما او حقيرا إِذا أَرَدْناهُ ان يوجد ويتحقق في عالم الشهادة أَنْ نَقُولَ لَهُ بمقتضى صفتنا القديمة التي هي الكلام الحامل لحكمنا المؤدى النافذ لأمرنا فارضين مقدرين وجوده وتحققه إذ هو عدم صرف في نفسه ولا شيء محض في حد ذاته كُنْ كالمكونات الاخر فَيَكُونُ بلا تراخ ومهلة وبلا امتداد ساعة ولحظة وآن وطرفة بل التلفظ بحرف التعقيب بين الأمر الوجوبي الإلهي وحصول المأمور المراد له سبحانه انما هو من ضيق العطن وضرورة التعبير والا فلا ترتب بينهما الا وهما إذا الترتب انما يحصل من توهم الزمان والآن وعنده سبحانه لا زمان ولا آن ولا شأن لا يسع في زمان ومكان.
ثم أشار سبحانه الى علو درجات المؤمنين وارتفاع شأنهم ورفعة قدرهم ومكانهم فقال وَالَّذِينَ هاجَرُوا عن بقعة الإمكان حال كونهم سائرين فِي اللَّهِ بعد ما حصل لهم مرتبة التمكن والاطمئنان سيما مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بتسلط الامارة عليهم زمانا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ولنمكننهم فِي الدُّنْيا اى في نشأتهم الاولى حَسَنَةً اى حصة كاملة وحظا وافرا من المعارف والحقائق بحيث انخلعوا عن لوازم البشرية بالمرة وماتوا عن الأوصاف البهيمية مطلقا ارادة واختيارا وَمع ذلك لَأَجْرُ الْآخِرَةِ المعدة لرفع الحجب وكشف الغطاء والسدل أَكْبَرُ قدرا وأعظم شأنا وأتم لذة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويفهمون ويذوقون لذته بالذوق والوجدان لمالوا اليه البتة زيادة ميل واجتهدوا نحوه زيادة اجتهاد رزقنا الله الوصول اليه والحصول دونه واذاقنا حلاوة لذته
وبالجملة هم الَّذِينَ صَبَرُوا على ما اصبهم من المصيبات والبليات راجعين مسترجعين الى الله في جميع الحالات وَعَلى رَبِّهِمْ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية يَتَوَكَّلُونَ في عموم شئونهم وتطوراتهم
وَكيف يستبعدون رسالتك يا أكمل الرسل أولئك المشركون المعاندون إذ ما أَرْسَلْنا للرسالة العامة رسلا مِنْ قَبْلِكَ مبشرين ومنذرين إِلَّا رِجالًا امثالك نُوحِي إِلَيْهِمْ شعائر الدين والايمان وننزل عليهم الكتب المبينة لأحكامها فان لم يقبلوا منك هذا ولم يعتقدوا صدقك فيه فقل لهم فَسْئَلُوا ايها المكابرون المعاندون الجاهلون بحال من مضى من الأنبياء أَهْلَ الذِّكْرِ والعلم منكم وهم الأحبار والقسيسون إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ صدقه ومطابقته للواقع وكما أيدنا الرسل والأنبياء الماضين
بِالْبَيِّناتِ الواضحة وَالزُّبُرِ اللائحة ترويجا لما جاءوا به وأرسلوا معه ليبينوا ويوضحوا بها احكام اديانهم وَمثل ذلك ايضا قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الذِّكْرَ اى الكتاب المعجز المشتمل على شعائر الإسلام وأحكامه لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ المتوغلين في الغفلة والنسيان عموم ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من عند ربهم على مقتضى أزمانهم وأطوارهم من الأوامر والنواهي والآداب والأخلاق وَلَعَلَّهُمْ بعد تبليغك إياهم وتبيينك لهم يَتَفَكَّرُونَ في آياته وأحكامه ويتأملون في حكمه ومرموزاته كي يتفطنوا الى معارفه وحقائقه وكشوفاته وشهوداته المودعة فيه
ثم قال سبحانه تهديدا على اهل الزيغ والضلال المنحرفين عن طريق الحق عتوا وعنادا أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ واحتالوا لإهلاك الأنبياء سيما معك يا أكمل الرسل ولم يخافوا أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ القادر الغالب على وجوه الانتقام بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسفها على قارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ بغتة حال كونهم بائتين في مراقدهم مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ اماراته ومقدماته أصلا
أَوْ يَأْخُذَهُمْ العذاب وهم فِي تَقَلُّبِهِمْ وتحركهم جائلين دائرين مترددين
فَما هُمْ حين اخذه وبطشه بِمُعْجِزِينَ مقاومين قادرين على دفع قهر الله وعذابه
أَوْ يَأْخُذَهُمْ العذاب عَلى تَخَوُّفٍ وتنقص من أموالهم وأولادهم على سبيل التدريج الى ان يستأصلهم بالمرة فَإِنَّ رَبَّكُمْ ايها المجترئون على الله ورسوله المسيئون الأدب معهما لَرَؤُفٌ عطوف مشفق لا يعاجلكم بالعذاب رَحِيمٌ يمهلكم ويؤخر انتقامكم رجاء ان تتذكروا وتتعظوا
أَيصرون ويستمرون أولئك المشركون المسرفون على الشرك والنفاق وَلَمْ يَرَوْا ولم ينظروا نظر عبرة واستبصار إِلى انقياد جميع ما خَلَقَ اللَّهُ وأظهره من كتم العدم إظهارا إبداعيا لحكمه وامره مِنْ شَيْءٍ من الأشياء يَتَفَيَّؤُا يميل وينقلب ظِلالُهُ بانقلاب الشمس وحركتها عَنِ الْيَمِينِ مرة وَالشَّمائِلِ اخرى على مقتضى اختلاف أوضاع الشمس حال كونهم سُجَّداً ساجدين متذللين واضعين جباحهم على تراب المذلة اطاعة وانقيادا لِلَّهِ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبية وَهُمْ في جميع حالاتهم وتقلباتهم داخِرُونَ صاغرون ذليلون خائفون من جلال الله وكبريائه مستوحشون عن سطوة قهره وبلائه وصولة استيلائه
وَكيف يستكبرون أولئك المشركون المسرفون عن انقياد الله وأطاعته إذ لِلَّهِ لا لغيره من الاظلال الهالكة والتماثيل الباطلة يَسْجُدُ ويتذلل طوعا وطبعا عموم ما فِي السَّماواتِ وَكذا عموم ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ تتحرك وتخرج من العدم نحو الوجود بامتداد اظلال الأوصاف الإلهية وبرش رشحات زلال جود وجوده عليها وَلا سيما الْمَلائِكَةُ المهيمون المستغرقون في مطالعة جمال الله وجلاله وَهُمْ مع غاية قربهم وتنزههم عن العلائق المبعدة عن الله ونهاية تجردهم عن أوصاف الإمكان مطلقا لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادة الله وعن التذلل نحوه فكيف أنتم ايها الهلكى الغرقى المنغمسون في بحر الغفلة والضلال
وانما يسجدون أولئك الساجدون المتذللون لأنهم يَخافُونَ رَبَّهُمْ القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام من ان يرسل عليهم عذابا مِنْ فَوْقِهِمْ إذ هم مقهورون تحت قبضة قدرته وَلذلك يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ويجتنبون عما ينهون
وَكيف لا تمتنعون عن اثبات الشركاء لله الواحد الأحد الفرد الصمد ايها المشركون المعاندون سيما بعد ما قالَ اللَّهُ عز شأنه وجل برهانه لا تَتَّخِذُوا ايها المكلفون بالإيمان والعرفان إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ مستحقين للعبادة والانقياد فكيف الزيادة بل إِنَّما هُوَ اى ليس في الوجود والشهود الا إِلهٌ واحِدٌ يعبد بالحق ويرجع نحوه في مطلق الوقائع والخطوب ويفوض اليه الأمور كلها وما هو الا انا المتصف بعموم أوصاف الكمال ونعوت الجلال والجمال فَإِيَّايَ لا الى غيرى من مخلوقاتي ومصنوعاتى الحاصلة من اظلال أسمائي وصفاتي فَارْهَبُونِ وخصوني بالخوف والرجاء وارجعوا نحوي عند هجوم البلاء وحلول القضاء إذ لا راد لقضائي الا فضلي وعطائي
وَكيف لا يرجع اليه سبحانه ولا يستغاث منه مع ان لَهُ ملكا وتصرفا ومنه إبداء وإنشاء عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات التي هي فواعل العلويات المفيضات المؤثرات وَكذا عموم ما في الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة من الاستعدادات التي هي قوابل السفليات المتأثرات من العلويات وَايضا لَهُ لا لغيره من الأسباب والوسائل العادية الدِّينُ اى الإطاعة والانقياد والتوجه والرجوع واصِباً دائما حتما لازما جزما أَفَغَيْرَ اللَّهِ المحيط للكل احاطة شهود وحضور تَتَّقُونَ وتحذرون ايها الجاهلون بحق قدره مع انه لا ضار سواه ولا نافع غيره
وَ
اعلموا ايها المجبولون على فطرة التكليف ان ما بِكُمْ وما وهب لكم ونسب إليكم مِنْ نِعْمَةٍ واصلة لكم نافعة لنفوسكم مسرة لقلوبكم فَمِنَ اللَّهِ المصلح لأحوالكم قد وصلت إليكم امتنانا عليكم وتفضلا إذ لا نافع الا هو ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ المشوش لنفوسكم القاسي لقلوبكم فَإِلَيْهِ ايضا لا الى غيره من الوسائل العادية تَجْئَرُونَ تتضرعون وتستغيثون ليدفع عنكم أذاكم إذ لا ضار ايضا الا هو
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ بعد استغاثتكم واستعانتكم ورجوعكم نحوه مع انه لا كاشف سواه إِذا فَرِيقٌ اى فاجاءت طائفة مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ الذي يدفع أذاهم ويكشف ضرهم يُشْرِكُونَ له غيره سيما من الأصنام والتماثيل العاطلة التي لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف لغيرهم وانما فعلوا ذلك وأشركوا
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعم ولم يقوموا بشكرها عنادا ومكابرة بل أسندوها الى ما لا شعور له أصلا ظلما وزورا وبالجملة فَتَمَتَّعُوا ايها المشركون بنا الكافرون لنعمنا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما تكسبون لأنفسكم من العذاب المخلد والعقاب المؤبد والعجب كل العجب ينكرون بنا مع انا متصفون بجميع أوصاف الكمال منعمون عليهم بالنعم الجليلة الجزيلة
وَيَجْعَلُونَ ويسندون نعمنا وانعامنا لِما لا يَعْلَمُونَ أولئك الحمقى اى لآلتهم العاطلة التي لا يعلمون ولا يفهمون منها حصول الفائدة لهم وجلب النفع إليهم أصلا إذ هي جمادات قد نحتوها بأيديهم نَصِيباً اى حظا كاملا مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقنا نحوهم جهلا وعنادا ومع ذلك خيلوا انهم لا يسألون عنه ولا يؤاخذون عليه بل يثابون به على زعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ ايها المسرفون المفسدون عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ علينا بإثبات الشركاء إيانا واسناد نعمنا إليهم افتراء ومراء
وَمن جملة مفترياتهم بالله المنزه عن الأشباه والأولاد انهم يَجْعَلُونَ ويثبتون لِلَّهِ الْبَناتِ حيث يقولون الملائكة بنات الله مع انهم يكرهونها لأنفسهم هذه سُبْحانَهُ قد تنزه ذاته وتعالى شأنه عما يقولون علوا كبيرا وَلَهُمْ اى يثبتون لأنفسهم ما يَشْتَهُونَ من البنين
وَالحال انهم إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى وبولادتها له قد ظَلَّ صار وَجْهُهُ مُسْوَدًّا اى اسود فاحما من غاية الحزن والكراهة وَهُوَ حينئذ كَظِيمٌ مملو من الغيظ والبغض على الزوجة والوليدة بل على الله ايضا
وصار من شدة الغم والهمّ بحيث يَتَوارى ويستتر مِنَ الْقَوْمِ استحياء مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ اى بالوليدة المبشر بها ويتردد في أمرها أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ اى هوان ومذلة أَمْ يَدُسُّهُ ويخفيه فِي التُّرابِ غيرة وحمية أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ لأنفسهم ما يشتهون ولله المنزه عن الولد ما يكرهون
ثم قال سبحانه لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ المعدة لعرض الأعمال على الله والجزاء منه على مقتضاها مَثَلُ السَّوْءِ في حق الله المنزه عن الأهل والولد سيما نسبتهم اليه ما يستقبحه نفوسهم من اثبات البنات له تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا بل وَلِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية المتفرد بالوجود القيومية الْمَثَلُ الْأَعْلى الذي هو الغنى عن العالم وما فيه فكيف الزواج والإيلاد اللذين هما من أقوى اسباب الإمكان المنافى للوجوب الذاتي الذي هو من لوازم الألوهية والربوبية كيف وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب المتفرد المنيع ساحة عزه عن الاحتياج الى غيره مطلقا فكيف الى الزوجة والولد الْحَكِيمُ المتصف بكمال الحكمة المتقنة البالغة كيف يختار لذاته ما لا يخلو عن وصمة النقصان.
ثم قال سبحانه وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله النَّاسَ الناسين عهود العبودية بمقتضى
عدله وانتقامه بِظُلْمِهِمْ ومعاصيهم الصادرة عنهم دائما ما تَرَكَ عَلَيْها اى على وجه الأرض مِنْ دَابَّةٍ ذي حركة تتحرك عليها إذ ما من متحرك الا وينحرف عن جادة العدالة كثيرا وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ ويمهلهم على مقتضى فضله ولطفه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قد سماه الله اى قدره وعينه في حضرة علمه لموتهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المسمى المبرم المقضى به لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ اى لا يسع لهم الاستقدام والاستئخار بل لا بدّ وان يموتوا فيه حتما مقضيا
وَايضا من خبث بواطنهم وقسوة قلوبهم يَجْعَلُونَ وينسبون لِلَّهِ المنزه عن الأنداد والأولاد ما يَكْرَهُونَ ويستقبحون لنفوسهم وهو اثبات البنات له سبحانه وَمع ذلك تَصِفُ وتقول أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ تصريحا وتنصيصا أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى اى بان لهم المثوبة العظمى والدرجة العليا عند الله بل لا جَرَمَ اى حقا عليهم جزما حتما من أَنَّ لَهُمُ النَّارَ اى جزاءهم مقصور على النار وهم مخلدون فيها ابدا وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ في العذاب مقدمون على عموم العصاة الطغاة الداخلين في النار المجزيين بها لاستكبارهم على الله ورسله
تَاللَّهِ يا أكمل الرسل لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا إِلى أُمَمٍ قد مضوا مِنْ قَبْلِكَ حين نشأ الجدال والمراء بينهم فانحرفوا عن جادة الاعتدال وقد أيدنا الرسل بالكتب المبينة لطريق العدالة والاستقامة فبينوا لهم على ابلغ وجه فَزَيَّنَ وحسن لَهُمُ الشَّيْطانُ المضل المغوى أَعْمالَهُمْ التي قد كانوا عليها فاصروا على أعمالهم فلم يقبلوا قول الأنبياء فكذبوهم وأنكروا عليهم لذلك نزل عليهم من العذاب ما نزل في الدنيا وسينزل في الآخرة بأضعافه وآلافه فَهُوَ اى الشيطان وَلِيُّهُمُ ومتولى أمورهم اى لهؤلاء المستخلفين عنه الْيَوْمَ لذلك لم يقبلوا قولك ولم يسمعوا بيانك بل قد أصروا واستمروا على ما عليه أسلافهم من الغواية والضلال وَلَهُمْ ايضا مثل أسلافهم بل أشد منهم عَذابٌ في النشأة الاولى والاخرى أَلِيمٌ مؤلم أشد إيلام إذ أنت أفضل من الأنبياء الماضين وبيانك وتبليغك أكمل من بيان سائر الأنبياء وتبليغهم
وَما أَنْزَلْنا من مقام فضلنا وجودنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الجامع لما في الكتب السالفة مع زيادات قد خلت عنها تلك الكتب إِلَّا لِتُبَيِّنَ وتوضح لَهُمُ اى للناس الأمر الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ألا وهو التوحيد الذاتي واحوال النشأة الاخرى والمكاشفات والمشاهدات الواقعة فيها وَقد أنزلناه ايضا هُدىً هاديا يهديهم الى التوحيد ببيان براهينه وحججه الموصلة اليه بالنسبة الى ارباب المعاملات والمجاهدات من الأبرار السائرين الى الله بارتكاب الرياضات القالعة لدرك الإمكان ورين التعلقات وَرَحْمَةً اى كشفا وشهودا بالنسبة الى المجذوبين المنجذبين نحو الحق المنخلعين عن جلباب ناسوتهم بغتة بلا صنع صدر عنهم وامر ظهر منهم بل قد جذبهم الحق عن بشريتهم وبدلهم تبديلا كل ذلك لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ويوقنون بتوحيد الله وبصفاته الذاتية ويتأملون في آثاره ومصنوعاته تأملا صادقا ويعتبرون منها اعتبارا حقا الى ان ينكشفوا ويفوزوا بما يفوزوا وينالوا بما ينالوا وليس وراء الله مرمى ومنتهى
وَاللَّهُ الهادي لعباده الى زلال وحدته قد أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ اى من عالم الأوصاف والأسماء ماءً اى معارف وحقائق وعلوما لدنية فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ اى الطبيعة الهيولانية بَعْدَ مَوْتِها اى بعد كونها عدما صرفا ولا شيأ محضا فاتصفت هي أولا بالعلوم والإدراكات الجزئية وترقت منها متدرجة الى ان وصلت الى مرتبة التوحيد المسقط للاضافات مطلقا إِنَّ فِي ذلِكَ التبيين والتذكير لَآيَةً دلائل وشواهد
قاطعة دالة على توحيد الحق لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سمع قبول وتأمل وتدبر
وَإِنَّ لَكُمْ ايضا ايها المتأملون المتدبرون فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً واعتبارا لو تعتبرون بها وتتفكرون فيها حق التفكر والتدبر لانكشفتم بعجائب صنعتنا وكمال قدرتنا ومتانة حكمتنا وحيطة علمنا وارادتنا إذ نُسْقِيكُمْ ونشربكم مِمَّا فِي بُطُونِهِ اى في بطون بعض الانعام مستخرجا مستحدثا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ اى اخلاط وفضلات متكونة في كرشها وَدَمٍ نجس سار سائل في الشرايين والعروق لَبَناً طاهرا خالِصاً صافيا عن كدورات كلا الطرفين بحيث لا يشوبه شيء منهما لا من لون الدم ولا من ريح الفرث سائِغاً سهل المرور والانحدار هنيئا مريئا لِلشَّارِبِينَ بلا تعسر لهم في شربه وبلا كلفة في سوغه وانحداره
وَنسقيكم ايضا ايها المعتبرون مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ بحيث تَتَّخِذُونَ مِنْهُ اى من عصير كل منهما سَكَراً خمرا يترتب على شربه السكر وهو وان كان حراما شرعا الا انه تدل على عجائب صنع الله وغرائب مبدعاته ومخترعاته وَايضا تتخذون من كل منهما رِزْقاً حَسَناً كالتمر والزبيب والدبس والخل وانواع الأدم إِنَّ فِي ذلِكَ الاتخاذ لَآيَةً دالة على كمال قدرة الله وحكمته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالنظر والتفكر في عجائب آلاء الله وغرائب نعمائه كي يتفطنوا الى وحدة ذاته
وَمن جملة المبدعات والمخترعات التي تجب العبرة والاعتبار عنها انه قد أَوْحى والهم رَبُّكَ يا أكمل الرسل إِلَى النَّحْلِ الضعيف المنحول المستحقر إظهارا لكمال قدرته وحكمته أَنِ اتَّخِذِي اى بان اتخذى. أنثها باعتبار المعنى وان كان لفظ النحل مذكرا مِنَ شقوق الْجِبالِ بُيُوتاً تأوين إليها وَكذا مِنَ شقوق الشَّجَرِ في الآجام وَكذا مِمَّا يَعْرِشُونَ ويبنون لك من الابنية والأماكن واصنعي فيها بالهام الله إياك بيوتات من الشمعة المتخذة من انواع الأزاهير والنباتات التي لا علم لاحد بتعديدها وإحصائها ونضدها ونظمها وتأليفها واجزائها الا لعلام الغيوب كلها مسدسات متساويات الأضلاع والزوايا بحيث لا تفاوت بين أضلاعها وزواياها أصلا فأخذها ورتبها ترتيبا انيقا بحيث قد عجز عن تصويرها حذاق المهندسين فكيف عن لميتها وكنهها
ثُمَّ بعد ما تم بناؤك كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ التي قد الهمناك بأكلها فَاسْلُكِي في اتخاذ العسل منها سُبُلَ رَبِّكِ اى السبل التي قد ألهمك وعلمك ربك بسلوكها على وجهها بلا انحراف واعوجاج ذُلُلًا حال كونك مسخرة في حكمه بلا تصرف صدر عنك ثم لما عملت بمقتضى ما اوحيت وألهمت يَخْرُجُ لكم ايها المكلفون بالإيمان والعرفان مِنْ بُطُونِها اى من بطون تلك البيوتات المسدسة شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ابيض واسود واخضر واصفر فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ عن الأمراض البلغمية بالأصالة وعن غيرها بالتبعية إِنَّ فِي ذلِكَ الإلهام والوحى والخطاب على النحل المنحول الضعيف بأوامر قد عجزت عنها فحول العقلاء الكاملين في القوة النظرية والعملية وامتثالها وصنعها على الوجه المأمور بلا فوت شيء منها لَآيَةً اى دليلا واضحا وبرهانا قاطعا لائحا على قدرة القادر العليم والصانع الحكيم الذي قد ألهمها ما ألهمها وأوحاها ما أوحاها لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتدبرون في الأمور ويتعمقون فيها متدبرين في إنيتها كي تصلوا الى لميتها.
ثم قال سبحانه وَاللَّهُ القادر المقتدر للإحياء والاماتة خَلَقَكُمْ وأظهركم من كتم العدم حسب لطفه وجماله إظهارا إبداعيا وإيجادا اختراعيا مقدرا مدة معينة لبقائكم في النشأة الاولى ثُمَّ بعد
انقضاء المدة المقدرة يَتَوَفَّاكُمْ يميتكم ويفنيكم حسب قهره وجلاله وَمِنْكُمْ مَنْ يقدر لبقائه في هذه النشأة مدة متطاولة بحيث يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وأسوئه واخسه ويصل الى مرتبة الخرف لِكَيْ لا يَعْلَمَ ويفهم سيما بَعْدَ تعلق عِلْمٍ منه بمعلوم مخصوص معين شَيْئاً من احوال ذلك المعلوم المعين يعنى يرجع الى رتبة الطفولية بعد كمال العقل وانما رده سبحانه الى تلك الحالة إظهارا للقدرة الكاملة وتذكيرا وعظة وعبرة للناس وتخويفا لهم لئلا يطلبوا من الله طول الاعمار وبعد الآجال ومع ذلك يطلبون ويقترحون وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده عَلِيمٌ بمصالحهم ومفاسدهم قَدِيرٌ مقتدر مقدر للاصلح لهم تفضلا عليهم وامتنانا
وَاللَّهُ المقدر لمصالحكم ايها المكلفون قد فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ بان قدر للبعض غنى وللبعض فقرا وللبعض كفاية حسب تفاوت مراتبهم واستعداداتهم في علم الله ولوح قضائه ومن موائد كرمه ايضا قدر البعض مالكا للبعض والبعض مملوكا له فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بسعة الرزق والبسطة من الموالي والملاك بِرَادِّي رِزْقِهِمْ اى بعض ما رزقهم الله عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من المماليك بحيث لا يقدر للمماليك في قسمة الله رزقهم بل فَهُمْ اى المماليك والموالي فِيهِ اى في تقدير الرزق وقسمته سَواءٌ اى كما قدر سبحانه للملاك قدر للمماليك ايضا غاية ما في الباب ان الرزق المقدر للمماليك انما يصل إليهم من يد الموالي والملاك وبإقامتهم واخلافهم أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ينكرون ويكفرون باسناد أرزاق المماليك الى الموالي لا الى الله الرازق لجميع العباد
وَاللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده قد جَعَلَ لَكُمْ تفضلا عليكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى من جنسكم وبنى نوعكم أَزْواجاً نساء تستأنسون بهن وتستنسلون منهن وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ ليخلفوا منكم ويحيوا اساميكم وَايضا جعل لكم من أبناءكم وبناتكم حَفَدَةً يسرعون الى خدمتكم وطاعتكم وَبالجملة قد رَزَقَكُمْ الله تفضلا عليكم وامتنانا مِنَ الطَّيِّباتِ المقوية المقومة لأمزجتكم وأبنيتكم لتواظبوا على طاعة الله وتداوموا الميل الى جنابه وتلازموا حول بابه شاكرين على نعمه أَتتركون متابعة الحق الحقيق بالتبعية الا وهو القرآن المعجز والرسول المبين له فَبِالْباطِلِ الذي هو الأصنام والأوثان يُؤْمِنُونَ يصدقون ويعبدون وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ المنعم المكرم بأنواع النعم والكرم هُمْ يَكْفُرُونَ حيث صرفوها الى خلاف ما أمروا بصرفها إذ إعطاء النعم إياهم انما هو لتقوية طاعة الله وكسب معارفه وحقائقه لا لعبادة الأصنام والأوثان الباطلة
وَهم من خباثة بواطنهم وكفرانهم نعم الله يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المالك لازمة الأمور الجارية في خلال الأزمان والدهور ما اى أصناما وأوثانا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً لا معنويا روحانيا فائضا مِنَ السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات بمقتضى الجود الإلهي وَلا رزقا صوريا جسمانيا مقويا مقوما لاكتساب المعارف الروحانية مستخرجا من الْأَرْضِ اى عالم الهيولى والطبيعة شَيْئاً وَكيف هم لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يملكون لأنفسهم شيئا فكيف لغيرهم
فَلا تَضْرِبُوا ايها الجاهلون بقدر الله وعلو شأنه لِلَّهِ المنزه عن الأنداد والأشباه مطلقا الْأَمْثالَ إذ لا مثل له يماثله ولا شبه له يشابهه ولا كفو له يكافي معه فكيف يشاركون له دونه إِنَّ اللَّهَ المطلع لعموم الكوائن والفواسد يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع أحوالكم واحوال معبوداتكم وعموم ما جرى عليكم وعليهم وَأَنْتُمْ
ايها الغافلون الجاهلون بحق قدره لا تَعْلَمُونَ منه شيأ فكيف تضربون له مثلا
بل قد ضَرَبَ اللَّهُ العالم بعموم السرائر والخفايا مَثَلًا لنفسه ولمن اثبت المشركون له سبحانه شريكا من الأصنام والأوثان حيث مثل سبحانه شركاءهم عَبْداً مَمْلُوكاً رقيقا لا مكاتبا بحيث لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التصرف في مكاسبه بغير اذن مولاه وَمثل نفسه سبحانه مَنْ رَزَقْناهُ اى بمن قد رزقناه مِنَّا يعنى بالاحرار المحسنين لأرقائهم من أموالهم التي وهبها الله لهم تفضلا وإحسانا رِزْقاً حَسَناً حلالا وافرا فَهُوَ يُنْفِقُ ويتصرف مِنْهُ اى من رزقه وكسبه سِرًّا بحيث لا يطلع لإنفاقه احد حتى الفقراء المعطون المستحقون وَجَهْراً على رؤس الملأ هَلْ يَسْتَوُونَ هؤلاء الأحرار المتصرفون في أموالهم بالاستقلال والاختيار وأولئك العبيد المعزولون عن التصرف رأسا الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أعطانا عقلا نجزم به عدم المساواة بين الفريقين ونميز به الحق عن الباطل والهداية عن الضلال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لانهماكهم في الغي والضلال لا يَعْلَمُونَ الفرق بين كلا الفريقين لعدم صرفهم نعمة العقل المفاض لهم الى ما خلق لأجله الا وهو العلم بالامتياز المذكور
وَضَرَبَ اللَّهُ ايضا مَثَلًا لنفسه ولتلك المعبودات الباطلة فقال مثلنا ومثلهم مثل رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ اخرس وأصم في اصل الخلقة بحيث لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التفهم والتفهيم لا لنفسه ولا لغيره وَكيف يقدر على النفع للغير إذ هُوَ في نفسه كَلٌّ ثقل وعيال عَلى مَوْلاهُ حافظه ومتولى أموره ساقط عن خدمته معطل عن المعاونة والمظاهرة مطلقا بحيث أَيْنَما يُوَجِّهْهُ يصرفه ويرسله لطلب المهام لا يَأْتِ بِخَيْرٍ نجح ونيل وهذا مثل الأصنام العاطلة الكليلة التي لا خير فيها أصلا وبالجملة هَلْ يَسْتَوِي ايها العقلاء المميزون هُوَ اى هذا الموصوف بالأوصاف المذكورة وَمَنْ هو منطيق فصيح معرب يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وينال بالخير والحسنى أينما توجه بنفسه او يوجهه الآخر وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مائل عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المذمومين وهذا مثل لله الواحد الأحد الفرد الصمد المتصرف المطلق المستقل في ملكه بالإرادة والاختيار. ثم أشار سبحانه الى علو شأنه وسمو برهانه وتخصصه باطلاع المغيبات التي لا اطلاع لاحد من عباده عليها الا باطلاعه
فقال وَلِلَّهِ خاصة واستقلالا غَيْبُ السَّماواتِ وما فيها من جنود الحق ومصنوعاته وَكذا غيب الْأَرْضِ وما عليها ايضا من جنود لا اطلاع لاحد منا عليها وَاعلموا ايها المكلفون المترددون في قيام الساعة ما أَمْرُ السَّاعَةِ الموعودة وما قصة وقوعها وقيامها بالنسبة الى قبضة قدرته الغالبة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اى مثل رجع الطرف من أعلى الحدقة الى أسفلها في الدنوّ والقرب أَوْ هُوَ أَقْرَبُ بل هو ادنى واقرب من رجع الطرف إذ فيه الآن متحقق وفي سرعة نفوذ القضاء الإلهي بعد تعلق ارادته الآن موهوم مخيل إذ لا تراخى بين الأمر الإلهي ووقوع المأمور المراد له الا وهما كما مر في تفسير قوله كن فيكون وبالجملة لا تستبعدوا عن الله أمثال هذا إِنَّ اللَّهَ المتصف بجميع أوصاف الكمال عَلى كُلِّ شَيْءٍ داخل في حيطة حضرة علمه وقدرته قَدِيرٌ لا ينتهى قدرته دون مقدور أصلا
وَكيف ينتهى قدرته سبحانه عن مقدوره إذ اللَّهُ المبدئ المبدع قد أَخْرَجَكُمْ وأظهركم أولا مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ وأنتم حينئذ خالون عن مطلق الإدراك بحيث لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً من المعلومات أصلا وَجَعَلَ وهيأ لشعوركم ودرككم أسبابا وأدوات تعلمون بها أنواعا من العلوم حيث هيأ لَكُمُ السَّمْعَ
لإدراك المسموعات الجزئية وَالْأَبْصارَ لإدراك المبصرات الجزئية وَالْأَفْئِدَةَ لإدراك الكليات والجزئيات والمناسبات والمباينات الواقعة بين العلوم والإدراكات كل ذلك قد صدر عنه سبحانه بمقتضى القدرة والارادة الإلهية لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تشكروا وتعدوا نعم منعمكم عليكم في شئونكم وتطوراتكم وتواظبوا على شكرها كي تعرفوا ذاته سبحانه وتتوجهوا نحوه
أَلَمْ يَرَوْا وينظروا إِلَى جنس الطَّيْرِ كيف صارت مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران والسيران بريشات واجنحة منتشرة فِي جَوِّ السَّماءِ في الهواء المتباعد عن الأرض ما يُمْسِكُهُنَّ بلا علاقة ودعامة إِلَّا اللَّهُ المتفرد بالقدرة التامة الكاملة الباعثة عن صدور أمثال هذه المقدورات وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإمساك العجيب والشأن الغريب لَآياتٍ ودلائل قاطعات على كمال علم الله ومتانة قدرته وارادته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بوحدة الحق ويعتقدون اتصافه بعموم أوصاف الكمال
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ اى من جملة مقدوراته المتعلقة بأمور معاشكم انه قد جعل لكم مِنْ بُيُوتِكُمْ التي أنتم قد بنيتم بأيديكم باقدار الله وتمكينه وتعليمه إياكم سَكَناً ومسكنا تسكنون أنتم فيه كالبيوت المتخذة من الحجر والمدر والآجر والخشب وَجَعَلَ لَكُمْ ايضا مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها تحملونها وتنقلونها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ سفركم وترحالكم من مكان الى مكان وَكذا يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وحضركم وَقد جعل لكم ايضا مِنْ أَصْوافِها هي للضأن والغنم وَأَوْبارِها هي للإبل وَأَشْعارِها هي للمعز أَثاثاً اى ما يلبس ويفرش وَصار ذلك مَتاعاً وتمتيعا لكم تتمتعون به إِلى حِينٍ ومدة متطاولة من الزمان
وَاللَّهُ قد جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الابنية والأشجار ظِلالًا تتفيئون وتستظلون بها من حر الشمس وَجَعَلَ لَكُمْ ايضا مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً كهوفا وثقوبا تسكنون أنتم فيها لدفع البرد والحر وَقد جَعَلَ لَكُمْ ايضا سَرابِيلَ أثوابا واكسية متخذة من الصوف والقطن والكتان والحرير وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ اى تحفظكم من شدة الحرارة وَسَرابِيلَ اى الدروع والجواشن والسربالات تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ عند الحرب والقتال كَذلِكَ اى مثل ما ذكر من انواع النعم يُتِمُّ نِعْمَتَهُ الفائضة عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ تنقادون وتطيعون وتسلمون أموركم كلها اليه سبحانه وتتخذونه وكيلا كفيلا
فَإِنْ تَوَلَّوْا انصرفوا واعرضوا عن حكم الله بعد ما قد تلوت عليهم يا أكمل الرسل ما تلوت من أوامر الله وحكمه وأحكامه ولم تقبلوا منك كلمة الحق لا تبال بهم وباعراضهم فَإِنَّما عَلَيْكَ وما أمرك وليس في وسعك وطاقتك الا الْبَلاغُ الْمُبِينُ والتبليغ الواضح فقد بلغت وأوضحت وعلينا الحساب والجزاء بالعذاب والعقاب
وكيف لا يحاسبون ولا يعاقبون أولئك المشركون المكابرون إذ هم يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ التي قد عددها وهيأها لهم ثُمَّ يُنْكِرُونَها من خبث بواطنهم بحيث أسندوها الى شركائهم وشفعائهم وَبالجملة أَكْثَرُهُمُ اى عرفاؤهم وعقلاؤهم الذين يعرفون النعمة والمنعم ثم ينكرون انعامه ويسندونها الى شركائهم وكذا اتباعهم وضعفاؤهم في العقل والتمييز كلهم أصلا وفرعا تابعا ومتبوعا هم الْكافِرُونَ الجاحدون المنكرون الله وانعامه المقصورون على الكفر والشقاق يجازون على مقتضى جحودهم وانكارهم
وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً الا وهو نبيهم القائم بأمرهم المشرف الناظر بحالهم من قبل الحق ليشهد لهم او عليهم بالإيمان او الكفر يوم العرض والجزاء
ثُمَّ اى بعد شهادة شهدائهم لهم او عليهم لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعنى لا يمهلون يومئذ لاعتذار ولا يقبل منهم الاعذار ان اعتذروا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ من العتبى وهي الرضا بالعتاب ليبثوا به ويبسطوه يعنى لا يسمع منهم الاعتذار مطلقا ولا يرضى منهم بالاعتاب «١» أصلا بل يعذبون حتما
وَاذكر يا أكمل الرسل إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالعرض على المهالك بالخروج عن حدود الله الموضوعة فيهم الْعَذابَ الموعود لهم بالسنة الرسل والكتب فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ يعنى تيقنوا وتحققوا حينئذ ان لا مخلص لهم منه ولا يخفف عنهم ايضا بشفاعة احد وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ويمهلون ليتداركوا ما فوتوا من الايمان والإطاعة مع انقضاء زمان التدارك والتلافي
وَاذكر يا أكمل الرسل ايضا وقت إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ حين أيسوا وقنطوا من شفاعتهم ومعاونتهم وقد عاينوا انهم هلكى أمثالهم قالُوا حينئذ متضرعين الى الله نادمين رَبَّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم فكفرنا بك وبنعمك وأنكرنا بأوامرك ونواهيك الجارية على السنة كتبك ورسلك هؤُلاءِ الهلكى الغاوون شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ عنادا ومكابرة وبواسطة هؤلاء الضلال الحمقى قد رددنا قول أنبيائك ورسلك وكتبك ثم لما سمع شركاؤهم منهم قولهم هذا فَأَلْقَوْا وأجابوا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ما تدعون وما تعبدون ايها الضالون الظالمون المغرورون الا اهويتكم وأمانيكم إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ مقصورون على الكذب والزور في دعوى اطاعتنا وعبادتنا
وَحين اضطر أولئك المشركون الضالون أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ اى أظهروا الاستسلام والانقياد وما ينفعهم حينئذ انقيادهم وتسليمهم سيما بعد تعنتهم واستكبارهم في النشأة الاولى والحال انه قد انقضى وقت التدارك والتلافي وَضَلَّ عَنْهُمْ وخفى عليهم واضمحل عن قلوبهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ لشركائهم من الشفاعة لدى الحاجة حين تبرؤا منهم وكذبوهم.
ثم قال سبحانه الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن الحق بأنفسهم وَمع ذلك قد صَدُّوا ومنعوا ضعفاء الأنام عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموصل الى توحيده ألا وهو الشرع الضريف المصطفى لذلك زِدْناهُمْ في النشأة الاخرى بسبب ضلالهم واضلالهم عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ في أنفسهم ويأمرون غيرهم ايضا بالفساد
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وبنى نوعهم وهو نبيهم ورسولهم الذي أرسل إليهم من لدنا وَجِئْنا بِكَ يا أكمل الرسل حينئذ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ الغواة البغاة الطغاة المنهمكين في بحر الاعراض والإضلال وَالحال انا قد نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ المشتمل لفوائد جميع الملل والأديان والكتب والصحف وجعلناه تِبْياناً موضحا مفصلا لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج اليه في امور الدين من الشعائر والأركان والاحكام والآداب والأخلاق والمندوبات والمحظورات والمواعظ والتذكيرات والقصص التي يعتبر منها المعتبرون المسترشدون هذا بالنسبة الى عوام المؤمنين وَقد جعلناه ايضا هُدىً هاديا الى معارف وحقائق يهديهم الى طريق التوحيد المنجى عن غياهب التقليدات والتخمينات بالنسبة الى خواصهم وَقد جعلناه ايضا رَحْمَةً اى كشفا وشهودا مترتبا على الجذبة والخطفة والخطرة بالنسبة الى خواص الخواص وَبالجملة ما هو في نفسه الا بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لله بسرائرهم وظواهرهم مفوضين أمورهم كلها اليه بلا تلعثم وتذبذب وكيف لا يسلمون ولا يفوضون
إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده يَأْمُرُ عباده أولا بِالْعَدْلِ اى بالقسط والاعتدال في عموم الأفعال والأقوال
(١) الاستعتاب طلب العتبى وهو اسم بمعنى الاعتاب الذي هو ازالة العتب ولا هم يستعتبون معناه لا يطلب منهم الاعتاب «شيخزاده»
والشئون والأطوار وَالْإِحْسانِ ثانيا لأنهم ما لم يعتدلوا ولم يستقيموا لم يتأت لهم التخلق بأخلاق الله التي هي كمال الإحسان والعرفان وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ثالثا اى إيصال ما حصل لهم من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات الى مستحقيهم من ذوى القربى من جهة الدين المتوجهين نحو الحق عن ظهر القلب الراغبين اليه بمحض المحبة والوداد المتعطشين الى زلال توحيده لأنهم ما لم يتمكنوا ولم يتقرروا في مرتبة الإحسان لم يتأت منهم الاستكمال والاسترشاد وكما يرغب سبحانه عباده بموجبات الايمان والتوحيد ومعظمات أصوله وأركانه ينفرهم ايضا عن غوائله ومهلكاته ومغوياته فقال وَيَنْهى أولا عَنِ الْفَحْشاءِ اى افراط القوة الشهوية الموجبة لرذالة النفس وسقوطها عن جادة المروءة والعدالة المقتضية للتخلق بالأخلاق المرضية الإلهية وخروجها عن الحدود الشرعية الموضوعة لحفظ حكمة الزواج والتناسل بمتابعة القوى البهيمية الناشئة من طغيان الطبيعة الهيولانية الناسوتية المنافية لصفاء القوى الروحانية اللاهوتية وَعن الْمُنْكَرِ ثانيا إذ كل من ركب على جموح القوة الغضبية وأخذ سيف الهذيانات المثيرة لانواع الفتن والبليات بيده وعمل بمقتضاها ونبذ الحلم والترحم وراء ظهره فهو بمراحل عن رتبة الإحسان بل لا يرجى منه سوى الخذلان والخسران وَعن الْبَغْيِ ثالثا إذ كل من تمكن وتمادى بمقتضى كلتا القوتين الشهوية والغضبية فقد سقط عنه المروة والعدالة اللتين هما من أقوى اسباب الكمال المستلزم للإرشاد والتكميل وبعد ما سقطتا عنه فقد استكبر على خلق الله وتجبر وبغى وظلم فقد استحق اللعن والطرد الا لعنة الله على الظالمين وبالجملة انما يَعِظُكُمْ الله المصلح لأحوالكم بما يعظكم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ رجاء ان تتعظوا وتمتثلوا بما أمرتم وتجتنبوا عما نهيتم كي تصلوا الى صفاء مشرب التوحيد المسقط لعموم المنافرات المترتبة على مطلق الإضافات
وَمن علامة اتعاظكم وتذكركم الوفاء بالعهود والمواثيق أَوْفُوا ايها المجبولون على فطرة العدالة بِعَهْدِ اللَّهِ وميثاقه الذي قد عهدتم مع الله بالسنة استعداداتكم في مبدأ فطرتكم وايضا بمطلق العهود والمواثيق إِذا عاهَدْتُمْ مع إخوانكم وبنى نوعكم وَكذا لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ الجارية على السنتكم في الوقائع والخطوب سيما بَعْدَ تَوْكِيدِها وتغليظها وَكيف تنقضونها إذ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ المراقب عَلَيْكُمْ كَفِيلًا وكيلا ضمينا لتلك البيعة والعهد بذكر اسمه فيها إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائركم ومخايلكم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما تَفْعَلُونَ من نقض الايمان والمواثيق واماراتها الدالة على نقضها
وَبعد ما قد علم الله منكم جميع ما فعلتم ونقضتم من الايمان والعهود عليكم ان لا تَكُونُوا في النقض وعدم الوثوق كَالَّتِي اى كالمراة التي قد نَقَضَتْ وفتت غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ اى بعد ما غزلتها وفتلتها قوية محكمة ثم نقضتها أَنْكاثاً وفتتها تفتيتا بلا غرض يترتب على نقضها سوى الجنون والخرق فأنتم كذلك في نقضكم الايمان الوثيقة بذكر الله بلا غرض يتعلق بنقضها سوى انكم تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ ونقضها دَخَلًا خديعة ومكيدة واقعة بَيْنَكُمْ محفوظة عندكم الى أَنْ تَكُونَ وتقع أُمَّةٌ قوية هِيَ أَرْبى أقوى وأزيد عدد او عددا مِنْ أُمَّةٍ اخرى ضعيفة أنتم تحلفون معهم فتنقضون حلف الامة الضعيفة وتتبعون القوية بعد نقض العهد واليمين وما هذا الا مكر وخديعة مع الله ومع عباده وبالجملة إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ ويختبركم بِهِ اى بازدياد الامة القوية كي يظهر أتمسكون ايمانكم أم تنفضونها وَلَيُبَيِّنَنَّ ويوضحن لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيثيبكم الله يومئذ بالوفاء والإيفاء او يفضحكم ويعاقبكم بالنقض
وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ الحكيم العليم القدير على عموم المقدورات
والمرادات هدايتكم جميعا لَجَعَلَكُمْ وخلقكم أُمَّةً واحِدَةً مقتصدة متفقة على الهداية والرشد وَلكِنْ حكمته تعالى تقتضي خلاف ذلك ولهذا يُضِلُّ عن جادة هدايته مَنْ يَشاءُ من عباده بمقتضى قهره وجلاله وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ منهم حسب لطفه وجماله وَبالجملة لَتُسْئَلُنَّ أنتم ولتحاسبن كل منكم يوم العرض والجزاء عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى عن عموم أعمالكم خيرا كان او شرا
وَبعد ما أشار سبحانه الى قبح المكر والخديعة سيما بعد التوكيد باليمين والحلف ترويجا لما في أنفسهم من الظلم والعدوان صرح بالنهى تأكيدا ومبالغة ليحترز المؤمنون عن أمثاله فقال لا تَتَّخِذُوا ايها المؤمنون أَيْمانَكُمْ ومواثيقكم دَخَلًا مفسدة مبطنة مخفية بَيْنَكُمْ ترويجا لكذبكم فَتَزِلَّ قَدَمٌ اى ان فعلتم كذلك واتصفتم بهذه الخصلة المذمومة قد تزل وتزلق قدم كل منكم عن شعائر الدين وجادة الايمان والتوحيد سيما بَعْدَ ثُبُوتِها واستقرارها فيها وَتَذُوقُوا السُّوءَ والعذاب في النشأة الاولى بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اى بسبب ميلكم وانحرافكم عن طريق الحق الذي هو الوفاء بالعهود والمواثيق وَلَكُمْ بسبب ارتكاب هذا المنهي عَذابٌ عَظِيمٌ في النشأة الاخرى بأضعاف ما في الاولى وآلافه
وَايضا لا تَشْتَرُوا ولا تستبدلوا ولا تأخذوا ايها المؤمنون بِعَهْدِ اللَّهِ اى بنقض عهده والارتداد عن دينه ثَمَناً قَلِيلًا من حطام الدنيا على سبيل الرشى إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ لوفائكم بعهده وثباتكم على دينه من اجر عظيم اخروى هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وانفع لبقائه وعدم زواله ودوام لذته إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ خيريته لاخترتموه البتة
وكيف لا يكون ما عند الله خيرا لكم إذ ما عِنْدَكُمْ من حطام الدنيا ومزخرفاتها يَنْفَدُ يزول ويضمحل وَما عِنْدَ اللَّهِ من اللذات الاخروية والمعارف اليقينية باقٍ لا يزال بقاء ابديا سرمديا الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله. ثم قال سبحانه وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا على ما فوتوا من الامتعة الفانية والاعراض الدنية الدنياوية بسبب ثباتهم وتقررهم على الأمور الأخروية ولم ينقضوا العهود والمواثيق المتعلقة بالدين القويم وبالجملة لم يستبدلوا الأعلى الباقي بالأدنى الفاني والآجل الدائم بالعاجل الزائل الزائغ وقد لحقهم بسبب ذلك ما لحقهم من المحن والشدائد العاجلة وضاع عنهم ما ضاع من لذاتها وشهواتها فصبروا على جميعها ولأعطيناهم أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى لنجزينهم ونثيبنهم بجزاء احسن وأوفر من مقتضى عملهم لوفائهم على عهودنا ومواثيقنا وجريهم بمقتضى أمرنا ونهينا
وبالجملة مَنْ عَمِلَ منكم عملا صالِحاً لقبولنا ناشئا مِنْ ذَكَرٍ منكم أَوْ أُنْثى وَالحال انه هُوَ في حين العمل مُؤْمِنٌ موحد بالله مصدق للرسل والكتب المنزلة إليهم ممتثل بجميع ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم طالب للترقي من العلم الى العين ثم الى الحق فَلَنُحْيِيَنَّهُ بعد فنائه عن لوازم بشريته بموته الإرادي وبانخلاعه طوعا عن مقتضيات أوصاف بهيميته بإرادته واختياره حَياةً طَيِّبَةً معنوية خالصة عن وصمة الموت والفوت مطلقا خالية عن شوب الزوال والانقضاء صافية عن مطلق الكدورات المتعلقة للحياة الصورية وَبالجملة لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ اى اجر عملهم وصبرهم عن مقتضيات القوى البشرية والحيوة الصورية بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى احسن وأوفر من جزاء عملهم الذي قد جاءوا به حين كانوا سائرين إلينا طالبين الوصول الى صفاء توحيدنا ومن جملة الأعمال الصالحة المثمرة للحياة الطيبة المعنوية بل من أجلتها قراءة القرآن المشتمل على جميع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات المترتبة على سلوك طريق التوحيد والعرفان
فَإِذا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ قصدت قراءته ايها القارئ الطالب لاستكشاف غوامض مرموزاته ومعضلات إشاراته فَاسْتَعِذْ والتجئ أولا بِاللَّهِ المتجلى بصفة الكلام المعجز لقاطبة الأنام الحفيظ لخلص عباده من عموم ما لا يعنيهم من المعاصي والآثام مِنَ وساوس الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ المطرود المبعد عن ساحة عز الحضور برجوم آثار الأوصاف القهرية الإلهية ومن غوائله وتسويلاته التي هي عبارة عن جنود الهوى والغفلات والتخيلات الباطلة والتوهمات المثيرة لانواع الأماني والشهوات
إِنَّهُ اى الأمر والشأن لَيْسَ لَهُ اى للشيطان وجنوده سُلْطانٌ اى استيلاء وغلبة عَلَى الموقنين الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله وأيقنوا لحقية كتبه ورسله وباليوم الموعود وعموم ما فيه من العرض والجزاء وَمع ذلك هم عَلى رَبِّهِمْ ومربيهم لا على غيره من الأسباب والوسائل العادية يَتَوَكَّلُونَ يسلمون ويسندون عموم أمورهم اليه اصالة وكيف يكون للشيطان استيلاء على المؤمنين الموقنين إذ هم يعادونه عداوة شديدة ويخاصمون معه خصومة مستمرة ازلية ابدية
إِنَّما سُلْطانُهُ واستيلاؤه عَلَى المبطلين المدبرين الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ويحبونه ويقبلون منه قوله ويستمعون إغواءه ويطيعون امره واغراءه وَكذا على الَّذِينَ هُمْ بِهِ اى بسبب اغوائه واغرائه ووسوسته مُشْرِكُونَ بالله الواحد الأحد المنزه عن الشريك والولد مطلقا.
ثم قال سبحانه وَمن كمال قدرتنا ووفور حكمتنا نسخ بعض آياتنا وتبديله بالآيات الاخر بالنسبة الى بعض الأعصار والأزمان فانا إِذا بَدَّلْنا آيَةً ناسخة مَكانَ آيَةٍ منسوخة لحكمة ظهرت علينا ومصلحة لاحت لدينا حسب ما جرى في حضرة علمنا وثبت في لوح قضائنا فلا بد ان لا نسأل عن نسخنا وتبديلنا بل عن عموم أفعالنا مطلقا ولا يسند فعلنا الى غيرنا وَكيف يسند فعله سبحانه لغيره إذ اللَّهُ المطلع لعموم ما كان ويكون اطلاع حضور وشهود أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ حسب الأوقات والأزمان فله نسخ ما ثبت واثبات ما نسخ بالإرادة والاختيار ولهذا قالُوا اى المشركون المعاندون حين ظهر في القرآن نسخ بعض الآيات المثبتة فيه واثبات بعض المنسوخات القديمة متهكمين طاعنين إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ اى ما أنت ايها المدعى للرسالة والوحى الا مفتر كذاب قد قلت بقول من تلقاء نفسك ثم ظهر لك ما فيه من السماجة بدلته بأخرى بمقتضى اهويتك وأمانيك ونسبته الى ربك افتراء ومراء مع انك قد أخبرت ان ربك يقول ما يبدل القول لدى وبالجملة كل ذلك اى النسخ والتبديل والإنزال والإرسال من عندنا لحكمة ظهرت علينا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حكمة النسخ والتبديل في الاحكام لذلك ينكرونه
قُلْ لهم يا أكمل الرسل ما انا مفتر في هذا النسخ والتبديل بل قد نَزَّلَهُ اى القرآن رُوحُ الْقُدُسِ يعنى جبرائيل عليه السّلام على هكذا وهو منزه عن جميع النقائص فكيف عن الافتراء وأوصاني انه منزل مِنْ رَبِّكَ الذي رباك بأنواع التربية إليك وقد ايدك بهذا الكلام المعجز ملتبسا بِالْحَقِّ وبالصدق المطابق للواقع بلا شائبة شك وتردد فيه وانما أنزله سبحانه لِيُثَبِّتَ ويقرر بامتثال ما فيه من الحكم والاحكام قلوب الَّذِينَ آمَنُوا تثبيتا شديدا وتقريرا بليغا في مرتبة اليقين العلمي وَليكون ايضا هُدىً اى هداية ورشدا للعارفين المتحققين المتمكنين في مرتبة اليقين العيني وَليكون ايضا بُشْرى اى بشارة وتمكينا وتشريفا وتوطينا لأرباب الكشف والشهود في مرتبة اليقين الحقي كل ذلك لِلْمُسْلِمِينَ المسلمين أمورهم كلها الى الله طوعا ورغبة
ثم اخبر سبحانه عن مطاعن المشركين في حق القرآن والرسول فقال وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ
لا يسلمون نزول القرآن منا وحيا وإلهاما بل يكذبونك يا أكمل الرسل في نسبتك انزاله إلينا تكذيبا شديدا بل يَقُولُونَ لك ما هو الا مفتر بل إِنَّما يُعَلِّمُهُ هذا بَشَرٌ اى عبد رومي او رجل آخر من العجم او رجال أخر على ما قالوا وكيف يقولون وينسبون أولئك المعاندون المكابرون هذا إليك والى كتابك مع ان الشأن والأمر لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ اى يميلون وينسبون إِلَيْهِ هكذا عنادا ومكابرة أَعْجَمِيٌّ مغلق غير بين وأنت عرب لا تفهم لغتهم قط وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ فصيح مُبِينٌ ظاهر واضح بليغ في أعلى مراتب البلاغة بحيث قد عجزت عن معارضته مصاقع الخطباء مع وفور معارضتهم وتحديهم ومع ظهور اعجازه واعتراف الكل بانه معجز لم يقبلوا حقيته ولم يصدقوا انه كلام الله
وبالجملة إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على وحدة ذاته وكمالات أوصافه وأسمائه قد طبع الله على قلوبهم وختمها بحيث لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ المضل المذل الى حقية كتابه ورسوله الذي انزل اليه بل وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في النشأة الاولى والاخرى
ثم قلب سبحانه ما افتروا برسول الله وإعادة عليهم فقال إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ على الله بنسبة كلامه الى غيره الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بِآياتِ اللَّهِ الدالة على كمال توحيده وَأُولئِكَ المفترون المسرفون هُمُ الْكاذِبُونَ المقصورون على الكذب والافتراء وكمال المراء من شدة قساوتهم وخباثة بواطنهم
وبالجملة مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ المستحق للايمان والعبودية سيما قد ارتد مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ اى من بعد ما قد آمن له العياذ بالله فقد استحق المقت والغضب الإلهي إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على الكفر وهدد بالقتل وانواع العقوبات حين العجز فأجرى كلمة الكفر على لسانه وَلكن قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ متمكن فيه راسخ في الاتصال غير متزلزل بلا مطابقة ولا موافقة بلسانه فهو باق على إيمانه فلا غضب عليه ولا عذاب بل له الأجر الجزيل والجزاء الجميل إذ العبرة في الايمان والكفر انما هي بالقلب إذ هما فعلان له اصالة وَلكِنْ من المغضوبين الملعونين مَنْ شَرَحَ وملأ بِالْكُفْرِ صَدْراً اعتقادا ورضا مستحسنا له مستطيبا إياه فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وقهر نازل مِنَ اللَّهِ المنتقم الغيور وَلَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جرمهم الذي هو ارتدادهم العياذ بالله
وما ذلِكَ اى تحسينهم الكفر واستطابتهم به الا بِأَنَّهُمُ قد اسْتَحَبُّوا واستطابوا الْحَياةَ الدُّنْيا اى الحيوة الصورية المستعارة الزائلة عَلَى حيوة الْآخِرَةِ التي هي الحيوة المعنوية الحقيقية السرمدية التي لا زوال لها أصلا وَايضا بسبب أَنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده لا يَهْدِي الى الايمان والتوحيد ولا يوفق على جادة المعرفة واليقين الْقَوْمَ الْكافِرِينَ المجبولين على الكفر والعناد بحسب اصل فطرتهم واستعدادهم
وبالجملة أُولئِكَ المجبولون على الكفر والعناد هم الَّذِينَ قد طَبَعَ اللَّهُ المنتقم الغيور وختم عَلى قُلُوبِهِمْ بحيث لا يفهمون ولا يتفطنون بسرائر الايمان والتوحيد أصلا ولا يتلذذون بلذاتها مطلقا لغلظ حجبهم وكثافتها وَقد طبع ايضا على سَمْعِهِمْ الى حيث لا يسمعون ولا يقبلون دلائل التوحيد واماراتها من ارباب الكشف واليقين وَعلى أَبْصارِهِمْ ايضا الى حيث لا ينظرون نظر عبرة وبصارة نحو المظاهر والآثار المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية وَبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز الحضور هُمُ الْغافِلُونَ المقصورون على الغفلة المؤبدة والنسيان التائهون في تيه الضلال والطغيان
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ بسبب طردهم
وخذلانهم فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والحرمان السرمدي
ثُمَّ بعد ما سمعت احوال أولئك المقهورين المطرودين إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل بأنواع الكرامات وأوصلك الى أعلى المقامات يجزى خير الجزاء تفضلا وإحسانا لِلَّذِينَ هاجَرُوا عن بقعة الإمكان سيما بعد ما كوشفوا بما فيها من الخذلان والخسران وانواع الرذائل والحرمان وذلك مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا بأنواع الفتن والمحن باستيلاء جنود الامارة عليهم ثُمَّ جاهَدُوا معها بترك مألوفاتها وقطع تعلقاتها وبصرفها عن مشتهياتها ومستلذاتها وَصَبَرُوا على متاعب الرياضات ومشاق المجاهدات الى ان صارت امارتهم مطمئنة راضية مرضية وبعد قطع مسالك السلوك ومنازل التزلزل والتلوين إِنَّ رَبَّكَ المفضل المحسن إليك يا أكمل الرسل والى من تبعك من خيار المؤمنين مِنْ بَعْدِها اى بعد ارتكاب المجاهدات والرياضات لَغَفُورٌ لهم يستر انانيتهم ويفنيهم عن هوياتهم مطلقا رَحِيمٌ لهم يمكنهم في مقام الرضا والتسليم مطمئنين مرضيين هب لنا من لدنك رحمة تنجينا عن التلوين وتوصلنا الى مكان التمكين بحولك وقوتك يا ذا القوة المتين.
واذكر يا أكمل الرسل المبعوث الى كافة الأنام يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ عاصية ومطيعة تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وذاتها وتهتم بشأنها بلا التفات منها الى شفاعة غيرها إذ هي يومئذ رهينة بما كسبت من خير وشر وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ طاعة او معصية وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ في جزائهم وأجورهم لا زيادة ولا نقصانا بمقتضى العدل الإلهي
وَبعد ما أراد سبحانه ان ينبه على اهل النعمة وارباب الرخاء والرفاهية ان لا يبطروا ولا يباهوا بما في أيديهم من النعم بل يقيموا ويديموا على شكرها وأداء حقها خوفا من زوالها وفنائها وانقلابها شدة ونقمة ضَرَبَ اللَّهُ المدبر لأمورهم مَثَلًا يعتبرون منه ويتعظون به قَرْيَةً هي مكة اوايلة قد كانَتْ نفوس أهلها آمِنَةً عن الخوف من العدو والجوع من نقصان الغلات والأثمار مُطْمَئِنَّةً بما عندهم من الحوائج بلا تردد ومشقة إذ يَأْتِيها رِزْقُها على الترادف والتوالي رَغَداً واسعا وافرا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من البلاد التي في حواليها ونواحيها وهم صاروا مترفهين متنعمين فيها الى ان بطروا وباهوا فَكَفَرَتْ أهلها بِأَنْعُمِ اللَّهِ الواصلة إليهم وأسندوها الى غير الله عنادا ومكابرة وخرجوا على رسول الله وطعنوا بكتاب الله المنزل عليه ونسبوه الى ما لا يليق بشأنه مكابرة فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بعد نزع خلعة الأمن والاطمئنان يعنى قد سار اثر الجوع والخوف في سائر أعضائهم وجوارحهم سريان اثر المذوقات في جميع أجزاء الجسد استعير لها اللبس لإحاطتها وشمولها والذوق لسريانها ونفوذها بحيث لا يخلو عن اثرهما جزء من أجزاء البدن كل ذلك بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بشؤم ما صنعوا من الكفر والكفران والتكذيب والطعن والعناد والاستكبار على العباد
وَكيف لا يأخذهم ولا يذيقهم لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ أفضل وأكمل من جميع الرسل الماضين مصحوبا مع كتاب كامل شامل أكمل واشمل من سائر الكتب السالفة فَكَذَّبُوهُ أشد تكذيب وأنكروا له افحش انكار فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ العاجل وهو الجدب الواقع بينهم او وقعة بدر وَالحال انه في تلك الحالة هُمْ ظالِمُونَ خارجون عن مقتضيات الحدود الإلهية منكرون مكذبون على الله وعلى رسوله وعلى العذاب الآجل مطلقا وسيأخذهم ويلحقهم في النشأة الاخرى بأضعاف ما في النشأة الاولى وآلافه وإذا سمعتم ايها المؤمنون المعتبرون نبذا من أوصاف أولئك الأشقياء المغمورين
في بحر الغفلة والغرور البطرين بما معهم من اللذة والشرور وسمعتم ايضا أحوالهم واهوالهم عاجلا وآجلا بسبب كفرانهم وطغيانهم
فَكُلُوا أنتم مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ المصلح لأحوالكم حَلالًا مباحا بحسب الشرع طَيِّباً مما كسبتم بيمينكم على مقتضى سنة الله وحكمته وجرى عادته من خلق الأيدي والأرجل للمكاسب او مما اتجرتم وربحتم وهو ايضا معدود من الكسب وَبالجملة اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الذي قد أقدركم ومكنكم على الكسب إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ اى تطيعون وتقصدون عبادته برفع الوسائل والأسباب العادية عن البين
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ اى اعلموا ان ربكم ما حرم عليكم في دينكم هذا الا الميتة المائتة حتف انفه بلا تذكية وتسمية وَايضا قد حرم الدَّمَ المسفوح السائل من الحيوانات وَقد حرم ايضا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَكذا ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وسمى عليه حين الذبح من اسماء الأصنام والأوثان وسائر المعبودات الباطلة فَمَنِ اضْطُرَّ منكم ايها المؤمنون الى أكل هذه المحرمات حال كونه غَيْرَ باغٍ خارج على السلطان العادل المقيم المقوم لأصول الشرائع ومعالم الدين وَلا عادٍ مجاوز عن الحدود الشرعية لغرض فاسد من انواع المعاصي وقطع الطريق والإباق وغيرها فَإِنَّ اللَّهَ المطلع على سرائر عباده وضمائرهم غَفُورٌ يستر عليهم زلتهم الاضطرارية رَحِيمٌ يقبل توبتهم عنها
ثم نهاهم سبحانه عن التقاول بالأقوال الفاسدة من تلقاء أنفسهم ومقتضى اهوائهم كما يقوله المشركون المسرفون فقال وَلا تَقُولُوا ايها المتدينون بدين الإسلام المنزل على خير الأنام لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ اى لشيء تصف السنتكم إياه الوصف الكذب يعنى قد ظهر انه كاذب بلا ورود وحى واذن شرع بل من تلقاء انفسكم افتراء ومراء بان تقولوا هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ وتنسبوه الى الله لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ تزيينا لقولكم الباطل وترويجا له كما قالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا الآية إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ وينسبون عَلَى اللَّهِ المنزه عن مطلق الأباطيل الْكَذِبَ ظلما وزورا لا يُفْلِحُونَ ولا يفوزون بخير الدارين إذ نفعهم فيما يفترون ويكذبون
مَتاعٌ قَلِيلٌ ومنفعة حقيرة لا اعتداد بها وَلَهُمْ بسبب ذلك في النشأة الاخرى عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مؤبد لا نجاة لهم منه أصلا
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا قد حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل مِنْ قَبْلُ في سورة الانعام حيث قلنا وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية وَبالجملة ما ظَلَمْناهُمْ في تحريم ما حرمنا عليهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى هم ما يظلمون الا أنفسهم بارتكاب المعاصي والمناهي وترك المأمورات ورفض المندوبات لذلك عوقبوا وأخذوا بما أخذوا
ثُمَّ بشر سبحانه على عموم اصحاب المعاصي والآثام بالعفو والمغفرة والشفقة عليهم بعد ما تابوا وأنابوا الى الله وندموا عماهم عليه مخلصين فقال مخاطبا لحبيبه إِنَّ رَبَّكَ الذي بعثك يا أكمل الرسل الى كافة البرايا بشيرا ونذيرا يحسن ويرحم لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ والفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة المذمومة في الشرع مع كونهم في حين ارتكابها ملتبسين متصفين بِجَهالَةٍ ناشئة من عدم التدبر والتأمل بوخامة عواقبها شرعا مع تدينهم وقبولهم احكام الشريعة او كانوا ممن لا يؤمن ولا يقبل ما ورد به الشرع ثُمَّ تابُوا وندموا مِنْ بَعْدِ ما ارتكبوا ذلِكَ السوء وَأَصْلَحُوا حينئذ بالتوبة والاستغفار ما أفسدوا على نفوسهم بالفسق والإصرار إِنَّ رَبَّكَ المحسن المفضل على التائب المخلص مِنْ بَعْدِها اى بعد التوبة
والندم لَغَفُورٌ يستر عنهم زلتهم رَحِيمٌ يقبل منهم توبتهم
ثم أشار سبحانه الى فضائل خليله صلوات الرّحمن عليه وسلامه وكمال كرامته ونجابة فطرته وطهارة أصله وطينته وعلو شانه ورتبته وارتفاع قدره ومنزلته فقال إِنَّ جدك يا أكمل الرسل إِبْراهِيمَ الخليل الجليل الذي اختاره سبحانه لخلته واصطفاه لرسالته قد كانَ أُمَّةً قدوة واماما مقتدى به حقيقا لائقا للاقتداء به في الأمور الدينية إذ كان قانِتاً مطيعا لِلَّهِ راغبا الى امتثال مأموراته طوعا مجتنبا عن منهياته رغبة حَنِيفاً مائلا عن الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مطلقا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في حال من الأحوال بل هو رأس الموحدين ورئيس ارباب التحقيق واليقين
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ سبحانه صارفا لها الى ما قد جبلها الحق لأجله على الوجه الأعدل الا قوم المأمور من عنده سبحانه بلا تبذير ولا تقتير طالبا في صرفه وإنفاقه رضا الله بلا شوب شائبة من الرياء والسمعة لذلك قد اجْتَباهُ واختاره ربه لخلته واصطفاه لرسالته وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى زلال وحدته بلا عوج وانحراف
وَمن كمال خلتنا ومحبتنا إياه قد آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا من لدنا تفضلا عليه وإحسانا حَسَنَةً صورية بحيث لا ينقطع ولا ينفد آثار كرمه وجوده الى يوم القيمة وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لقبولنا الواصلين الى صفاء وحدتنا
ثُمَّ بعد ما ذكرنا لك يا أكمل الرسل نبذا من كمال استحقاقه ولياقته للمتابعة والاقتداء به قد أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تعظيما لشأنك ولشأنه عليه السّلام أَنِ اتَّبِعْ في إيصال الدعوة وتبليغ الرسالة واظهار الدين والاحكام وكذا في الرفق والتليين مع الأنام والحلم والتواضع معهم على ابلغ وجه ونظام مِلَّةَ إِبْراهِيمَ اى خصلة جدك الخليل الجليل عليك وعليه الصلاة والسّلام إذ قد كان هو في نفسه وملته ايضا بحسب حَنِيفاً مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط في عموم الأطوار والأخلاق والأفعال والأقوال وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المستكبرين لا في خلق من الأخلاق ولا في وصف من الأوصاف بل قد كان دائما مستويا على جادة التوحيد وعدالة اليقين والتحقيق لذلك صار اماما للأنام وقدوة لهم الى يوم القيام.
ثم قال سبحانه تعييرا على المشركين وتقريعا إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ اى ما قدر وفرض لحوق وبال يوم السبت وانواع العقوبات والمسخ عن لوازم الانسانية الا عَلَى المشركين الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وجادلوا مع نبيهم في تعيينه واختياره إذ قد أمرهم موسى عليه السّلام بتعظيم يوم الجمعة واتخاذها عيدا فأبوا معللين ان الله قد فرغ من خلق السموات والأرض في يوم السبت فنحن نوافقه ونتخذه عيدا فألزمهم الله تعظيم السبت وتحريم الصيد فيه فاحتالوا للاصطياد فيه فاصطادوا بالمكر فمسخهم الله ولحقهم من الوبال ما لحقهم في النشأة الاولى وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ويجادلون مع الرسل فيجازيهم ويعاقبهم على مقتضى ما صدر عنهم من الجرائم والآثام ثم أشار سبحانه الى تتميم تكريم حبيبه وتعظيم رتبته وتهذيب أخلاقه وتكميل حكمته في رسالته وتعميم رأفته ورحمته الى عموم البرية وكافة الخليقة إذ هو مبعوث على الكل بالرحمة العامة وهو خاتم الرسالة والنبوة ومكمل امر التشريع والتكميل إذ العلة الغائية والمصلحة العلية في عموم الشرائع والأديان وفي مطلق الإنزال والإرسال ما هي الا ظهور مرتبته ومكانته التي هي الدعوة الى التوحيد الذاتي ومتى ظهرت فقد كملت وتمت لذلك نزل في شأنه عليه السّلام كريمة اليوم أكملت لكم دينكم الآية وهي آخر آية نزلت من القرآن وقال ايضا صلّى الله عليه وسلّم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فقال
سبحانه مخاطبا له عليه السّلام خطاب تمكين وتكريم إرشادا له وتعليما
ادْعُ يا أكمل الرسل إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ اى الى طريق توحيد مربيك الذي قد أرشدك الى معارج عنايته وهداك الى كمال كرامته كافة البرايا وعامة العباد بِالْحِكْمَةِ المتقنة البالغة الملينة لقلوبهم عن صلابة التقليدات الراسخة الموروثة لهم عن آبائهم وأسلافهم المصفية لنفوسهم عن الحمية الجاهلية المتمكنة فيها الخالية عن توهم السطوة والصولة والاستيلاء المثيرة لانواع الاعراض النفسانية المترتبة على القوى البشرية المزيلة لانواع الشبه والتخيلات الناشئة من الوسائل والأسباب العادية المقنعة لنفوسهم الى ان أخذوها دلائل مشيرة الى شواهد وتنبيهات متناسبة ملائمة للفطرة الاصلية التي فطر الناس عليها رجاء ان يتفطنوا ويتنبهوا بمقتضى جبلتهم وحسب فطرتهم الاصلية وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ المورثة لهم يقظة وانتباها من سنة الغفلة ورقود النسيان المحصلة لهم شوقا وسرورا الى مبدئهم ومنشئهم المرغبة لهم الى اللذات الروحانية الدائمة الباقية المستمرة ازلا وابدا بلا ورود زوال وانقضاء المنفرة عماهم عليه من العوائق والعلائق الناسوتية العائقة من اللذات الوهمية المقتضية المنقطعة المورثة لانواع المحن والأحزان وَان افتقرت يا أكمل الرسل في دعوتهم الى المجادلة معهم ومكالمتهم أحيانا جادِلْهُمْ بِالَّتِي اى بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ الطرق وأسلمها واعدلها من المقدمات المعتدلة الدالة على المساواة من كلا الجانبين برفق تام وتليين كامل ومسكنة وإرخاء عنان خال عن السطوة والتهور والغضب والتكبر والتجبر وعن الضحك والتمسخر والاستهزاء والتجهيل والتسفيه والتشنيع الشنيع كما يفعله عوام العلماء في مباحثاتهم ومحاوراتهم إذ هي بعيدة عن الحكمة بمراحل مثيرة لانواع الفتن والخصومات واصناف الأغراض النفسانية والأمراض الهيولانية ولك ايضا ان لا تبالغ في هدايتهم وايمانهم ولا تتشوش من ضلالهم وطغيانهم إذ ما عليك الا تبليغ ما أرسلت به واما حصول الهداية او الضلالة فيهم فأمر خارج عن وسعك وطاقتك إِنَّ رَبَّكَ المطلع على استعدادات عباده وقابلياتهم هُوَ أَعْلَمُ منك بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الموصل الى وحدة ذاته وَهُوَ أَعْلَمُ ايضا بِالْمُهْتَدِينَ منهم إذ قد قدر في سابق قضائه وحضرة علمه هدايتهم وضلالهم وكذا جميع ما جرى وسيجرى عليهم من شئونهم وتطوراتهم على التفصيل بحيث لا يشذ عن حيطة حضرة علمه شيء منها وبعد ما امر سبحانه حبيبه بما امر من آداب الدعوة واخلاق الرسالة والنبوة ومراعاة حقوق الأنام والمداراة معهم أشار الى المجاراة والمجازاة والقصاص والعقوبات الواقعة في امر الرسالة ووضع التشريع والتبليغ إذ هي مبنى على الأمر بترك المألوفات ورفض العادات والاعتقادات وترك التقليدات والتخمينات لذلك لا يخلو عن المنازعات والمخاصمات المؤدية الى انواع الجنايات فقال سبحانه مخاطبا له ولمن تبعه من المؤمنين
وَإِنْ عاقَبْتُمْ ايها المؤمنون منتقمين عنهم فَعاقِبُوا اى فعليكم ان تعاقبوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ لا أزيد منه إذ الزيادة منافية لاعتدال الايمان والتوحيد وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ ايها المؤمنون على ما أصابكم من العقوبات وأعرضتم عن الانتقام صفحا وكظمتم الغيظ كظما لَهُوَ اى العفو والكظم خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ الذين صبروا على ما أصابهم من المكاره المسترجعين الى الله مسندين انزاله اليه سبحانه بلا رؤية الوسائل في البين بل هم يعدون العناء عطاء والترح فرحا والنقمة نعمة والمحنة منحة لصدور الكل من الله سبحانه بلا رؤية الأسباب العادية في البين وبعد ما قد خاطب واوصى سبحانه للمؤمنين بالصبر والعفو على وجه العموم وترك الانتقام خص رسوله صلّى الله عليه وسلّم من بينهم بهذا الخطاب
المستطاب لكونه أحق واولى بامتثال أمثاله إذ هو جامع جميع مراتب الكمال بالاستحقاق والاستقلال
فقال وَاصْبِرْ ايها المتحقق المتمكن في مقر التوحيد المسقط لجميع الإضافات على عموم ما جرى عليك من الأذيات المترتبة على بشريتك وناسوتك وَاعلم يقينا انه ما صَبْرُكَ وكظمك بعد فنائك عن لوازم بشريتك إِلَّا بِاللَّهِ المتجلى عليك بكمال الإطلاق الى ان قد اخلع عنك لوازم ناسوتك بالمرة وما بقيت فيك الا لوازم لاهوتك وظاهر انه لا يجرى فيها المنكر والمكروه والجناية والقصاص والخطاب والعتاب وَايضا لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ اى مما جرى على المؤمنين من الأمور المشوشة لهم والمنافرة وَبالجملة لا تَكُ بعد انشراح صدرك بالتوحيد الذاتي فِي ضَيْقٍ اى ضيق صدر وكآبة وحزن مِمَّا يَمْكُرُونَ أولئك المحجوبون الماكرون المعاندون المكابرون معك ومع من تبعك من المؤمنين
إِنَّ اللَّهَ المختبر لرسله وأنبيائه وأوليائه وخواص عباده بأنواع الأذى والمحن الجسمانية مَعَ الصابرين الَّذِينَ اتَّقَوْا وحفظوا أنفسهم عن المبادرة الى المعاداة وحذروها عن مطلق الانتقام سيما وقت القدرة طلبا لمرضاة الله وجريا على مقتضى توحيده وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ سيما على من أساء إليهم رفقا لهم وتلطفا معهم ابتغاء لمرضاة الله وتثبيتا في طريق توحيده. أذقنا حلاوة توحيدك وصبرنا على عموم ما جرى علينا من المحن والعناء طلبا لمرضاتك انك على ما تشاء قدير
خاتمة سورة النحل
عليك ايها المسترشد البصير والمستبصر الخبير أرشدك الله الى امتثال ما سمعت في هذه السورة من الأخلاق والمواعظ سيما في الكريمة المذكورة آنفا ورزقك الاتصاف بما فيها من الحكم والآداب والأخلاق المرضية والسجايا الفاضلة ان تتأمل وتتعمق فيها حق التأمل والتعمق حال كونك خاليا عن مطلق الكدورات العارضة لك من طغيان القوى البهيمية والحمية الجاهلية تاركا عموم ما غرض عليك من الاعراض النفسانية المترتبة على الأمور العادية المستلزمة لانواع الضلال والفساد من التفوق على الأقران والترفع على الاخوان والتكبر على ضعفاء الأنام والتلذذ بالسمعة والريا المثيرة لأصناف الأهواء الفاسدة والآراء الباطلة التي لا يمكن قلعها وقمعها أصلا سيما قد تمرنت ورسخت فلك ان تراجع وجدانك لتتنبه وتتذكر باى شيء أردت الترفع وقصدت التفوق والتفضل اما ترى ايها الأحمق ان منشأك ماذا اما استحييت التفوه من ذا وهذا واما قصة كرامتك وخلافتك التي هي من المواهب الإلهية والعطايا الغيبية فإنما هي مبنية على محض التذلل والتواضع والخضوع والانكسار مع كل ذرة من ذرائر الكائنات إذ مبناه على الحكمة المتقنة المنشعبة من اسرار الرسالة والنبوة وهي عبارة عن اعتدال جميع الأوصاف والأطوار وتزكية النفس عن عموم الرذائل والأخلاق الرديئة بل هي مبنية على افناء مقتضيات الأوصاف البشرية رأسا والانخلاع عن البسة الناسوت مطلقا ارادة واختيارا وبالجملة من أنصف على نفسه أدرك ان جميع ما في نفسه سوى التذلل والانكسار والمسكنة والافتقار حال كونه خاليا عن شوب الريا والسمعة والعجب والجربزة ما هي إلا رعونات صدرت عن طغيان القوى البهيمية المؤيدة بالعقل المستعار المموه بتمويهات الأوهام الباطلة وتزيينات الخيالات الكاذبة العاطلة هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن ظلمة انانيتنا ولذة تلجئنا الى سلوك طريق الفناء الموصل الى شرف البقاء واللقاء انك أنت الوهاب
Icon